المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌كتاب الأدلة الشرعية 1532 - فِي طَرَفَيْنِ الْبَحْثُ - شرح «نيل المنى» في نظم «الموافقات للشاطبي» - جـ ٣

[مولود السريري]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كتاب الأدلة الشرعية

1532 -

فِي طَرَفَيْنِ الْبَحْثُ فِي الدَّلِيلِ

بِحَسَبِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ

‌الطَّرَفُ الأَوَّلُ في الأَدِلَّةِ عَلَى الْجُمْلَة

1533 -

يُنْظَرُ فِي الأَدِلَّةِ الْجُمْلِيَّهْ

لِمُقْتَضَى أَحْوَالِهَا الْكُلِّيَّهْ

1534 -

أَوْ مُقْتَضَى الْعَوَارِضِ الْمُعْتَبَرَهْ

وَسَوْفَ تَأْتِي بَعْدَ ذَا مُفَسَّرَهْ

(النَّظَرُ الأَوَّلُ في كُلِّيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِالأَدِلَّة)

وفيه مسائل:

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1535 -

لَمَّا انْبَنَى الشَّرْعُ عَلَى الْقَوَاعِدِ

أَعْنِي بِهَا ثَلَاثَةَ الْمَقَاصِدِ

1536 -

فَهُنَّ كلِّيَّاتُ كُلِّيَّاتِهِ

وَمُسْتَمَدُّ حُكْمِ جُزْئِيَّاتِهِ

1537 -

فَوَاجِبٌ رِعَايَةُ الْكُلِّيِّ

بِحَيْثُ الاِسْتِدْلَالِ لِلْجُزْئِيِّ

1538 -

وَوَاجِبُ الْجُزْئِيِّ أَنْ يُعْتَبَرَا

بِحَيْثُ مَا كُلِّيُّهُ تُصُوِّرَا

1539 -

وَمُظْهِرُ الْعِلْمِ هُوَ الْجُزْئِيُّ

إِذْ لَا يُرَى فِي الْخَارجِ الْكُلِّيُّ

1540 -

وَمَعَ ذَا فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ

إِلَّا بِجُزْئِيَّاتِهِ إِذْ يَحْصُلُ

1541 -

وَآخِذٌ بِجِهَةٍ وَبُعْرِضُ

عَنْ جِهَةٍ يُخْطِئُ فِيمَا يَعْرِضُ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1542 -

إِذَا نَظَرْنَا لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِي

فَمِنْهُ ظَنِّيٌ وَمِنْهُ قَطْعِي

1543 -

فَمَا لَهُ بِقَطْعِهِ اسْتِقْلَالُ

فَلَيْسَ فِي اعْتِبَارِهِ إِشْكَالُ

1544 -

مِثْلُ دَلِيلِ الطُّهْرِ وَالصَّلَاةِ

وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ

ص: 3

1545 -

كَذَلِكَ الظَّنِّيُّ أَيْضًا مَرْعِي

إِنْ كانَ رَاجِعًا لِأَصْلٍ قَطْعِي

1546 -

كَخَبَرِ الآحَادِ فِي أَبْوَابِ

أَتَى بِهَا مُبَيِّنُ الْكِتَابِ

1547 -

فَإِنْ يَكُنْ مُعَارِضًا لِلْقَطْعِي

وَغَيْرَ مَعْضُودٍ بِأَصْلٍ شَرْعِي

1548 -

فَذَاكَ مَرْدُودٌ بِلَا إِشْكَالِ

وَالْقَطْعُ مَتْبُوعٌ بِكُلِّ حَالِ

1549 -

وَمَثَّلُوا ذَاكَ بِذِي يَسَارِ

يُؤْمَرُ أَنْ يَصُومَ فِي الظِّهَارِ

1550 -

وَهَذِهِ مَسْأَلُةٌ قَوْلُ السَّلَفْ

أَصْلٌ لَهَا مُعْتَمَدٌ عِندَ الْخَلَفْ

1551 -

وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ يُنَافِي قَاعِدَهْ

وَلَا أَتَتْ أُخْرَى عَلَيْهِ شَاهِدَهْ

1552 -

فَبَابُهُ الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ

وَهْوَ مَجَالٌ لِلنُّهَى رَحِيبُ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1553 -

أَدِلَّةُ الشَّرْعِ بِلَا خِلَافِ

حُكْمَ قَضَايَا الْعَقْلِ لَا تُنَافِي

1554 -

أَوْ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ فِي الذِي شُرعْ

بِغَيْرِ مَا يُطَاقُ وَهْوَ مُمْتَنِعْ

1555 -

وَلَمْ تَكُنْ أَدِلَّةً لَوْ نَافَتْ

لَكِنَّهَا بِعَكْسِ هَذَا وَافَتْ

1556 -

وَالْعَقْلُ لِلتَّكْلِيفِ أَيْضًا مَوْرِدُ

وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ حَيْثُ يُفْقَدُ

1557 -

وَلَا اعْتِرَاضَ بِفَوَاتِحِ السُّوَرْ

مِنْ حَيْثُ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا لِلْبَشَرْ

1558 -

وَلَوْ أَتَى مُبَيَّنًا مَعْنَاهَا

لَمْ تُنْكِرِ الْعُقُولُ مُقْتَضَاهَا

1559 -

وَلَا بِذِي تَشَابُهٍ حَيْثُ بَدا

وَقَالَ فِيهِ بِالْهَوَى مَنْ أَلْحَدَا

1560 -

كمِثْلِ مَا لِأَهْلِ نَجْرَانَ وَقَعَ

فِي نَحْوِ نَحْنُ وَكَتَبْنَا وَنَضَعْ

1561 -

فَلَا يُعَارِضُ الْعُقُولَ ذَلِكَا

إِلَّا لِمَنْ زَاغَ هَوَى هُنَالِكَا

1562 -

حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَهْ

وَمُقْتَضَاهَا لَمْ يَاع مِنْ غَايَهْ

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1563 -

وَضْعُ الدَّلِيلِ الْقَصْدُ مِنْهُ أَنْ يُرَا

فِعْلُ مُكَلَّفٍ عَلَيْهِ قَدْ جَرَا

ص: 4

1564 -

لَكِنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلِّفِينَا

مِنْ جِهَتَيْنِ اعْتُبِرَتْ يَقِينَا

1565 -

مِنْ جِهَةِ التَّصَوُّرِ الذِّهْنِيِّ

مُجَرَّدًا مِنْ لَاحِقٍ وَضْعِيِّ

1566 -

وَجِهَةِ الْوَاقِعِ فِي الْوُجُودِي

بِمَا لَهُ مِنْ لَاحِقٍ تَقْيِيدِي

1567 -

هُمَا مَجَالَانِ لِبَحْثٍ وَنَظَرْ

مَنْشَأُ خُلْفٍ فِي فُرُوعٍ تُعْتَبَرْ

"‌

‌ فصل

"

1568 -

ثُمَّ مِنَ الأَفْعَالِ مَا يَصِيرُ

وَصْفًا لَهُ فِي غَيْرِهِ تَأْثِيرُ

1569 -

بِنِسْبَةِ الْخَارجِ بِالتَّزَاحُمِ

فَفِيهِ يَجْرِيَانِ لِلتَّلَازُمِ

1570 -

وَلَيْسَتِ التُّرُوكُ كَالأَفْعَالِ

إِذْ لَا تَلَازُمَ لَهَا بِحَالِ

1571 -

إِذِ التُّرُوكُ كُلُّهَا سَلْبِيَّهْ

لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةُ الْوَصْفِيَّهْ

1572 -

فَلَوْ تَرَكْنَا مَا عَسَى أَنْ نَتْرُكَا

لَمْ يَتَزَاحَمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُرِكَا

1573 -

كَذَا اجْتِمَاعُهَا مَعَ الأَفْعَالِ مَا

لَمْ يَكُ لِلشَّرْعِ التَّلَازُمُ انْتَمَا

1574 -

فَإِنَّهُ يُعَدُّ فِي الأَوْصَافِ

كَالتَّرْكِ لِلصَّوْمِ فِي الاِعْتِكَافِ

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1575 -

ثُمَّ دَلِيلُ الشَّرْعِ مِنْهُ نَقْلُ

مَحْضٌ وَرَأْيٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ

1576 -

لَكِنْ بِنِسْبَةِ الأُصُولِ ذَا اعْتُبِرْ

إِذْ كُلُّ ضَرْبٍ لِسِوَاهُ مُفْتَقِرْ

1577 -

فَمَا إِلَى النَّقْلِ لَهُ انْتِسَابُ

فَذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْكِتَابُ

1578 -

وَمَا مِنَ الْعَقْلِ لَهُ اقْتِبَاسُ

فَذَاكَ الاِسْتِدْلَالُ وَالْقِيَاسُ

1579 -

وَشَرْعُ مَنْ مَضَى وَالإِجْمَاعُ وَمَا

رَأْيُ صَحَابِيِّ لِلأَوَّلِ انْتَمَا

1580 -

وَأُلْحِقَتْ كَنَوْعِ الاسْتِحْسَانِ

مَصْلَحَةٌ مُرْسَلَةٌ بِالثَّانِي

1581 -

أَوْ أَوَّلٍ إِنْ رُدَّ مَعْنَاهَا إِلَى

حُكْمِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ مَثَلَا

ص: 5

"‌

‌‌

‌ فصل

"

1582 -

ثُمَّ نَقُولُ جُمْلَةُ الأَدِلَّهْ

فِي ضَرْبِهَا الأوَّلِ مُسْتَقِلَّهْ

1583 -

إِذْ ضَرْبُهَا الثَّانِي اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ

وَمَا اسْتَبَدَّ فِيهِ لَوْلَا النَّقْلُ

" فصل"

1584 -

ثُمَّ نَقُولُ فِي الْكِتَابِ إِنَّهْ

رَاجِعَةٌ لِمُقْتَضَاهُ السُّنَّهْ

1585 -

فَهْوَ دَلِيلُ صِدْقِهَا إِذْ بَيَّنهْ

وَهِيَ لِكُلِّيَاتِهِ مُبَيِّنَهْ

1586 -

فَحَاصِلٌ أَنَّ كتَابَ اللهِ

أَصْلُ الأُصُولِ غَايَةُ التَّنَاهِي

"‌

‌ المسألة السادسة

"

1587 -

كُلُّ دَلِيلٍ فَلَهُ مُقَدِّمَهْ

تَأْتِي بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ مُعْلِمَهْ

1588 -

ثُمَّ لَهُ أُخْرَى لِنَفْسِ الْحُكْمِ

مَرْجِعُهَا فِي كُلِّ حُكْمٍ حُكْمِ

1589 -

فَتُنْسَبُ الأُولَى بِهِ إِلَى النَّظَرْ

وَنِسْبَةُ الأُخْرَى إِلَى النَّقْلِ اسْتَقَرْ

"‌

‌ المسألة السابعة

"

1590 -

وَمَا مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّهْ

يَثْبُتُ كُلِّيًا لَدَى الْمَكِّيَّهْ

1591 -

مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلْ لَّهُ قَانُونُ

أَوْ ضَابِظ لَهُ بِهِ تَعْيينُ

1592 -

فَذَاكَ رَاجِعٌ لِمَعْنىً قَدْ عُقِلْ

وَللْمُكَلَّفِينَ أَمْرُهُ وُكِلْ

1593 -

وَقِسْمُ ذَا أَكْثَرُهُ فِي الْعَادِي

كالْعَدْلِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْعِبَادِ

1594 -

وَمَا أَتَى فِيهَا بِقَيْدٍ وَضُبِطْ

حُكْمًا بِقَانُونٍ إِلَيْهِ يَرْتَبِطْ

1595 -

فَرَاجِعٌ مَعْنَاهُ لِلتَّعَبُّدِ

مِمَّا مُكَلَّفٌ لَهُ لَا يَهْتَدِي

1596 -

لَوْ كانَ مَوْكُولًا إِلَيْهِ أَمْرُهُ

وَفِي الْعِبَادِيَاتِ بَانَ كُثْرُهُ

1597 -

كَكُثْرِهِ فِيمَا مِنَ الأُصُولِ

يُعْزَى إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ

1598 -

إِذْ هِيَ فِي الْغَالِبِ تَقْيِيدَاتُ

مُقْتَضَيَاتٍ هُنَّ مُطْلَقَاتُ

ص: 6

1599 -

أَوْ هِيَ إِنْشَاءٌ لِأَحْكَامٍ يَرَى

أَسْبَابَهَا جُزْئِيَّةً مَنْ نَظَرَا

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

1600 -

أَدِلَّةُ الْمَدِينَةِ الْكُلِّيَّهْ

تُلْفَى إِذَا تُوُمِّلَتْ جُزْئِيَّهْ

1601 -

بِنِسْبَةِ الأَعَمِّ مِنْهَا أَوْ تُرَا

مُكَمِّلَاتِ حُكْمٍ كُلّيٍّ جَرَا

1602 -

بَيَانُهُ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ

أَحْكَامُهَا تُوجَدُ مَكّيَاتِ

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

1603 -

وَجُمْلَةُ الأَدَّلَةِ الشَّرْعِيَّهْ

يُمْكِنُ فِيهَا أَخْذُهَا مَكِّيَهْ

1604 -

وَهَبْهُ جُزْئِيًّا وَمَا الدَّلِيلُ

قَدْ خَصَّهُ بِمَا لَهُ شُمُولُ

1605 -

وَذَاكَ بَيِّنٌ مِنَ التَّشْرِيعِ

إِذْ حُكْمُهُ التَّعْمِيمُ فِي الْمَشْرُوعِ

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

1606 -

وَهْيَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ ضَرْبَانِ

ضَرْبٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْبُرْهَانِ

1607 -

وَيُسْتَدَلُّ مُطْلَقًا بِهِ عَلَى

حُكْمٍ لَهُ ذَاكَ دَلِيلًا جُعِلَا

1608 -

وَأَصْلُ وَضْعِهِ لِلايسْتِدْلَالِ

عَلَى مُخَالِفٍ فِي الاِنْتِحَالِ

1609 -

وَجُمْلَةُ الْبَرَاهِنِ الْعَقْلِيَّهْ

وَشِبْهِهَا بِنَوْعِهِ حَفِيَّهْ

1610 -

وَقَدْ أَتَى مِنْ ذَاكَ فِي الْقُرْآنِ

أَدِلَّةُ قَاطِعَةُ الْبُرْهَانِ

1611 -

وَضَرْبُهَا الآخَرُ مَبْنِيٌّ عَلَى

تَوَافُقِ النِّحْلَةُ حَيْثُ أَقْبَلَا

1612 -

مِثْلُ دَلِيلِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ

وَسَائِر التَّكْلِيفِ بِالأَحْكَامِ

1613 -

وَهْيَ وَإِنْ دَلَّتْ فِي الاِسْتِعْمَالِ

لَمْ تَأْتِ فِي مَحلِّ الاسْتِدْلَالِ

1614 -

فَهِيَ قَضَايَا وَرَدَتْ مُسَلَّمَهْ

بِمَا مِنَ الْحُكْمِ اقْتَضتْهُ مُعْلِمَهْ

1615 -

جَاءَتْ لِأَنْ تُوخَذَ بِالْقَبُولِ

بُرْهَانُهَا مُعْجِزَةُ الرَّسُولِ

1616 -

فَمَنْ يَكُنْ بِالأَوَّلِ اسْتِدْلَالُهُ

كَانَ كَأَنْ بِوَضْعِهِ اسْتِقْلَالُهُ

ص: 7

1617 -

وَمَنْ بِثَانٍ يَسْتَدِلُّ إِنَّمَا

أَخَذَهُ مَعْنىً أَتَى مُسَلَّمَا

1618 -

لِفَهْمِ مُقْتَضَاهُ بِالإِلْزَامِ

لِشَأْنِهِ شَرْعًا وَالاِلْتِزَامِ

1619 -

لِذَاكَ إِطْلَاقُ الدَّلِيلِ فِيهِمَا

نَوْعًا مِنْ اشْتِرَاكِ لَفْظٍ يُمِّمَا

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

1620 -

وَإِن يَّكُ الدَّلِيلُ وَارِدًا لِمَا

هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ إِذْ فُهِمَا

1621 -

لَمْ يُسْتَدَلَّ مَعَ ذَا بِهِ عَلَا

مَعْنىً مَجَازِي عَلَيْهِ اشْتَمَلَا

1622 -

إِلَّا لَدَى مَنْ قَالَ بِالتَّعْمِيمِ فِي

لَفْظٍ بِهِ مَعْنَى اشْتِرَاكٍ اقْتفِي

1623 -

إِنْ كَانَ لِلْعَرَبِ ذَاكَ الْمَعْنَا

مِمَّا بِمِثْلِ اللَّفْظِ قَصْدًا يُعْنَا

1624 -

كَيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيْتِ وَمَا

أَشْبَهَهُ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَا

1625 -

فَإِنْ يَكُ الْمُجَازُ حَيْثُ مَا ظَهَرْ

لَا عَهْدَ لِلْعُرْبِ بِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

1626 -

ثُمَّ دَلِيلُ الشَّرْعِ لِلْمُكَلَّفِ

إِنْ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ

1627 -

إِمَّا عَلَى الدَّوَامِ أَوْ فِي الأَكثَرِ

فَهْوَ بِالاِسْتِدْلَالِ وَالْفِعْلِ حَرِ

1628 -

أَوْ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ قَلِيلًا

فِي حَالَةٍ مَا يَقْتَضِي تَأْوِيلًا

1629 -

وَكَانَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ

مُدَاوَمًا أَوْ اكْثَرِيًا يَحْصُلُ

1630 -

فَالسُّنَّةُ اتِّبَاعُ حُكْمِ الأَكْثَرِ

وَمَا يَقِلُّ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ

1631 -

وَإِنْ فَرَضْنَا فِيهِ أَنْ قَدْ صَدَرَا

مُخَيَّرًا فِيهِ وَمِمَّا كَثُرَا

1632 -

مَا عَمَّ أَوْلَى وَهْوَ ذُو اتِّضَاحِ

كَالشَّأْنِ فِي الْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ

1633 -

ثُمَّ قَضَايَا الْعَيْنِ فِي الْحُصُولِ

لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَدَى الأُصُولِ

1634 -

لَكِنْ لِهَذَا الْقِسْمِ فِي الْبَيَانِ

أَمْثِلَةٌ لَكِنَّهَا ضَرْبَانِ

1635 -

ضَرْبٌ يَدُلُّ أَنَّ قِلَّةَ الْعَمَلْ

بِهِ اقْتَضَاهُ سَبَبٌ بِهِ اتَّصَلْ

ص: 8

1636 -

حَتَّى إِذَا يُعْدَمُ ذَاكَ السَّبَبُ

يُعْدَمُ بِانْعِدَامِهِ الْمُسَبَّبُ

1637 -

أَوْ كَوْنُهُ جَاءَ لِتَبْيِينٍ وَجَبْ

وَحُكْمُ ذَا الضَّرْبِ اقْتِفَاءُ مَا غَلَبْ

1638 -

وَتَرْكُ مَا قَدْ قَلَّ أَوْ تَقْلِيلُهُ

حَسَبَمَا كَانَ لَهُمْ تَحْصِيلُهُ

1639 -

وَضَرْبُهُ الثَّانِي عَلَى خِلَافِ

مَا مَرَّ فِي الأَوَّلِ مِنْ أَوْصَافِ

1640 -

لَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى وُجُوهِ

يُذْكَرُ مِنْهَا الْبَعْضُ لِلتَّنْبِيهِ

1641 -

كَأَنْ يُرَى فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلَا

أَوْ أَصْلُهُ مِمَّا بِهِ الْخُلْفُ انْجَلَا

1642 -

مِثْلُ سُجُودِ الشُّكْرِ وَالْقِيَامِ

لِدَاخِلٍ بِنِيَّةِ الإكْرَامِ

1643 -

فَمِثْلُ هَذَا تَرْكُهُ أَهَمُّ

وَيُقْتَفَى الأَغْلَبُ وَالأَعَمُّ

1644 -

وَمِنْ هُنَا يَبْدُوا لِمَنْ تَأَمَّلَا

مَا مَالِكٌ رَءَاهُ أَصْلًا مُعْمَلَا

1645 -

حَيْثُ يُرَى مُقَدِّمًا عَلَى الْخَبَرْ

عَمَلَ أَهْلِ طَيْبَةٍ إِذَا اسْتَمَرّ

1646 -

وَانْظُرْ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْعُتْبِيَّهْ

عَنْهُ تجِدْهُ فَاصِلَ الْقَضِيَّهْ

1647 -

أَوْ أَنْ يُرَى اخْتَصَّ بِشَخْصٍ أَوْ زَمَنْ

أَوْ فَلْتَةٍ خَارِجَةٍ عَنِ السَّنَنْ

1648 -

أَوْ كَانَ رَأْيًا لِصَاحِبِيِّ صَدَرْ

عَنْهُ وَلَمْ يَتْلُهُ فِيهِ مَنْ غَبَرْ

1649 -

أَوْ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ ثُمَّ ارْتَفَعْ

وَصَارَ مَا شَاعَ السَّبِيلَ الْمُتَّبَعْ

1650 -

وَثَمَّ أَقْسَامٌ بِذَا الضَّرْبِ أُخَرْ

بِحُكْمِ مَا قُرِّرَ مِنْهُ تُعْتَبَرْ

1651 -

وَبَنْبَغِي فِيهِ تَحَرِّي الْعَمَلِ

بِوَفْقِ مَا اسْتَمَرَّ عِنْدَ الأوَّلِ

1652 -

وَمَا يَقِلُّ فَاقْصُرَا انْتِهَاجِهِ

عَلَى ضَرُورَة وَمَسِّ حَاجَهْ

1653 -

إِنْ اقْتَضَى التَّخْيِيرَ فِيهِ وَاسْتَقَلْ

وَكَانَ مَأْمُونًا بِهِ نَسْخُ الْعَمَلْ

1654 -

وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ احْتِمَالٌ يَمْنَعُ

مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً تُتَّبَعُ

1655 -

وَإِنْ يَكُ الدَّلِيلُ لَيْسَ لِلأُوَلْ

أَخْذٌ بِهِ، وَلَا لَهُمْ بِهِ عَمَلْ

1656 -

فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِمَّا قَدْ مَضَى

وَالشَّرْعُ بِاطِّرَاحِهِ لَنَا قَضَى

1657 -

لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْتَمِدْهُ السَّلَفُ

دَلِيلَ حُكْمٍ يَقْتَفِيهِ الْخَلَفُ

ص: 9

1658 -

لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَاكَ لَعُمِلْ

بِهِ وَلَا اسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَنُقِلْ

1659 -

فَإِنَّهُمْ مَظَاهِرُ الأدِلَّهْ

الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الْمِلَّهْ

"‌

‌ المسألة الثالثة عشرة

"

1660 -

أَخْذُ الأدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ يَقَعْ

بِمَلْحَظَيْنِ مُتَّقىً وَمُتّبَعْ

1661 -

فَأَخْذُهُ مَأْخَذَ الاِفْتِقَارِ

إِلَيْهِ شَأْنُ السَّلَفِ الأبْرَارِ

1662 -

تَحَرِّيًا مِنْهُمْ لِقَصْدِ الشَّارعْ

فِي كُلِّ فِعْلٍ فِي الْوُجُودِ وَاقِعْ

1663 -

فَي مَا يُرَى مُوَافِقًا إِذَا وَقَعْ

فِي حُكْمِهِ حُكْمَ الدَّلِيلِ الْمُتَّبَعْ

1664 -

أَوْ يَتَلَافَى أَمْرُهُ إِذَا أَتَى

مُخَالِفًا حُكْمَ دَلِيلٍ ثَبَتَا

1665 -

فَهُمْ مُحَكِّمُونَ لِلدَّلِيلِ

عَلَى الْهَوَى هَادُونَ لِلسَّبِيلِ

1666 -

وَأَخْذُهُ مَأْخَذَ الاسْتِظْهَارِ

عَلَى هَوَى النُّفُوسِ فِي الأنْظَارِ

1667 -

دُونَ تَحَرٍّ عِنْدَهُ وَلَا نَظَرْ

لِمَقْصِدِ الشَّارعِ وَهْوَ الْمُعْتَبَرْ

1668 -

كَمَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَا

تَثْلِيثِهِمْ بِمِثْلِ نَحْنُ مَثَلَا

1669 -

فَحَكَّمُوا الْهَوَى عَلَى الأدِلَّهْ

وَاتَّبَعُوا سَبِيلَهُ الْمُضِلَّهْ

"‌

‌ المسألة الرابعة عشرة

"

1670 -

ثُمَّ اقْتِضَا الدَّلِيلِ حُكْمًا قُصِدا

بِحَسَبِ الْمَحَلِّ نَوْعَيْنِ بَدَا

1671 -

فَمِنْهُمَا الأصْلِيُّ وَهْوَّ الْوَاقِعُ

عَلَى الْمَحَلِّ قَبْلَ مَا يُتَابِعُ

1672 -

وَذَاكَ مِثْلُ الْحُكْمِ بِالإباحَهْ

لِلصَّيْدِ وَالْبَيْعِ بِمَا أَبَاحَهْ

1673 -

وَالتَّبَعِيُّ الآتِي فِي الْمَوَاقِعِ

مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ بِالتَّوَابِعِ

1674 -

وَبِالإضَافَاتِ كَحُكْمِ الصَّيْدِ فِي

كرَاهَةٍ إِنْ كانَ لِلَّهْوِ اصطُفِي

1675 -

وَكُلُّ مَا الأصْلِيُّ حُكْمُهُ اخْتَلَفْ

لِأنْ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ اتَّصَفْ

1676 -

فَهَلْ يَصِحُّ بَعْدَ أَنْ يُقْتَصَرَا

عَلَى الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي حُكْمًا يُرَا

ص: 10

1677 -

مِنْ جُمْلَةِ الأصْلِيِّ أَوْ لَا يُقْتَصَرْ

أَعْنِي فِي الاسْتِلَالِ فِي هَذَا نَظَرْ

1678 -

وَأَخْذُهُ يَصِحُّ فِي حُكْمٍ بَدَا

عَنِ اِعْتِبَارِ وَاقِعٍ مُجَرَّدَا

1679 -

وَحَيْثُمَا الْوُقُوعُ قَيْدُ الْحُكْمِ لَا

يَصِحُّ الاِسْتِدْلَالُ بِالذِي خَلَا

1680 -

فَمُقْتَضَى قَيْدِ الْوُقُوعِ بُيِّنَا

تَنْزِيلُهُ عَلَى مَنَاطٍ عُيِّنَا

1681 -

وَلَازِمُ الْمُعَيَّنِ الْمَوَاقِعِ

أَخْدُ الدَّلِيلِ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ

"‌

‌ فصل

"

1682 -

وَلتَعَيُّنِ الْمَنَاطِ جُمْلَهْ

مَوَاضِعْ فِي الشَّأْنِ مُسْتَقِلَّهْ

1683 -

فَمِنْهَا الأسْبَابُ التِي تَرَتَّبَتْ

عَلَيْهَا الأحْكَامُ بِحَيْثُ مَا أَتَتْ

1684 -

وَحَيْثُمَا ظُنَّ مَنَاطٌ دَاخِلَا

فِي حُكْمِ مَا عَمَّ وَجَاءَ شَامِلَا

1685 -

أَوْ خَارِجًا عَنْهُ وَلَيْسَ الأمْرُ

كَذَاكَ فِي الْحَالَيْنِ يَسْتَقِرُّ

1686 -

كَذَا إِذَا الْخِطَابُ مُجْمَلًا يَرِدْ

بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَا قُصِدْ

1687 -

فِي الاِبْتِدَاءِ فَيَرَى مَنْ كُلِّفَا

مُفْتَقِرًا إِلَى بَيَانٍ يُقْتَفَا

1688 -

وَيَقَعُ الإِجْمَالُ وَالْعُمُومُ

سَبِيلُهُ كَأَنْفِقُوا أَقِيمُوا

1689 -

وَتَارَةً عَلَى الْخُصُوصِ يَجْرِي

كَقِصَّةِ ابْنِ حَاتِمٍ فِي الْفَجْرِ

"‌

‌ النظر الثاني في عوارض الأدلة

"

1690 -

عَوَارِضُ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّهْ

لَهَا فُصُولْ خَمْسَة مَرْعِيَّهْ

"‌

‌ الفصل الأول" فِي الإِحْكَامِ وَالتَّشَابُهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1691 -

وَيُطْلَقُ الْمُحْكَمُ تَارَةً عَلَا

خِلَافِ مَا النَّسْخُ لَهُ قَدِ انْجَلَا

1692 -

فَالْمُتَشَابِهُ الذِي قَدْ نُسِخَا

وَالْغَيْرُ مُحْكَمٌ سَوَاءً نَسَخَا

ص: 11

1693 -

أَوْ كَانَ غَيْرَ نَاسِخٍ وَأُطْلِقَا

أَعَمَّ لِلْبَيِّنِ مَعْنىً مُطْلَقَا

1694 -

فَالْمُتَشِابِهُ الذِي مَعْنَاهُ

لَمْ يَتَّضِحْ مِنْ لَفْظِهِ مَنْحَاهُ

1695 -

كَانَ مِنَ الْمُدْرَكِ مَعْنىً بِالنَّظَرْ

وَالْبَحْثِ أَمْ لَيْسَ كَذَا لِمَنْ نَظَرْ

1696 -

وَذَا الذِي بِهِ الْمُفَسِّرُونَا

فِي مُقْتَضَى الآيَةِ آخِذُونَا

1697 -

وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا افْتَقَرْ

مَعْنَاهُ لِلْبَيَانِ حَيْثُ مَا صَدَرْ

1698 -

فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْمُشْتَبِهِ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْرَى مُبَيَّنٌ بِهِ

1699 -

ثُمَّ يَصِيرُ مِنْ قَبِيلِ الْمُحْكَمِ

بِالْعِلْمِ لِلْمُبَيِّنَاتِ فَاعْلَمِ

1700 -

وَبَيِّنُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ

يَرْجِعُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الأَحْكَامِ

1701 -

وَمَا عَدَاهُ فَالْحِديثُ الآتِي

قَدْ عَدَّهُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1702 -

كَوْنُ التَّشَابُهِ اسْتَفَاضَ وَاسْتَقَرْ

فِي الشَّرْعِ مَعْلُومٌ وَمَا فِيهِ نَظَرْ

1703 -

وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي مِقِدَارِ

مَا هُوَ مِنْهُ فِي الْوُقُوعِ جَارِ

1704 -

وَهْوَ إِلَى الْقِلَّةِ ذُو انْتمَاءِ

بِالنَّصّ وَالْبَحْثِ وَالاِسْتِقْرَاءِ

1705 -

وَمُوهِمُ الْكَثْرَةِ تَجْلُوا مُجْمَلَهْ

قَاعِدَةٌ نُورِدُهَا مُفَصَّلَهْ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1706 -

وَللإِضَافِي وَللْحَقِيقِي

تَشَابُهٌ قُسِمَ فِي التَّحْقِيقِ

1707 -

وَثَالِثٌ إِلَى الْمَنَاطِ مَرْجِعُهْ

لَا لِلدَّلِيلِ فَاسَتَبَانَ مَوْقِعُهْ

1708 -

أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَإِنَّهُ الذِي

عَلَيْهِ لِلآيَةِ أَوْلَى مَأْخَذِ

1709 -

لِأَنَّهُ الْمُرَادُ فِي مَعْنَاهَا

وَالْمُقْتَضِي التَّعْيِينَ مِنْ مَنْحَاهَا

1710 -

وَهْوَ الذِي لَا يَقْتَضِي فِي شَانِ

حُكْمًا سِوَى مُجَرَّدِ الإِيمَانِ

1711 -

مِنْ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ لَنَا سَبِيلُ

لِفَهْمِهِ وَلَا لَهُ دَلِيلُ

ص: 12

1712 -

وَذَا بِلَا شَكٍّ مِنَ الْيَسِيرِ

عِنْدَ اعْتِبَارِ الْغَالِبِ الْكَثِيرِ

1713 -

ثُمَّ الإِضَافِيُّ وَمُقْتَضَاهُ

مَا كَانَ مَعْنَاهُ لَهُ اشْتِبَاهُ

1714 -

مِنْ جِهَةِ الْمَدَارِكِ الْعَقْلِيَّهْ

لَا الْوَضْعِ فِي الأَدِلَّةِ الشّرعِيَّهْ

1715 -

لِكَوْنِهَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ قَدْ حَصَلْ

بَيَانُهَا بِمَا اسْتَقَرَّ وَاسْتَقَلْ

1716 -

وَقَصَّرَ النَّاظِرُ فِي اجْتِهَادِ

أَوْ زَاغَ عَنْ نَهْجِ الْبَيَانِ الْهَادِي

1717 -

فَالاشْتِبَاهُ رَاجعٌ لِلنَّاظِرِ

لَا وَاقِعٌ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّادِرِ

"‌

‌ فصل

"

1718 -

إِذَنْ فَلَا يُعْزَى لَهُ مُخْتَلَفُ

فِيهِ سِوَى الْمُمْسِكِ عَنْهُ السَّلَفُ

1719 -

كَالإِسْتِوَا وَهْوَ مِنَ الْقَلِيلِ

فَاتَّضَحَتْ قَاعِدَة التَّقْلِيلِ

1720 -

وَدَلَّتِ الآيَة فِي الْمَعْنَى عَلَى

قِسْمِ الإِضَافِيِّ الذِي قَدْ انْجَلَا

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1721 -

وَلَيْسَ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّهْ

تَشَابُهٌ بَلْ ذَاكَ فِي الْجُزْئِيَّهْ

1722 -

وَذَا بِالاِسْتِقْرَاءِ صَحَّ وَالنَّظَرْ

إِذِ الأُصُولُ مَا اسْتَقَلَّ وَاسْتَقَرْ

1723 -

وَإِنْ بَدَا تَشَابُهٌ فِي أَصْلِ

فَإِنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلِ كُلِّي

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1724 -

وَبَعْدُ هَلْ يُسَلَّطُ التَّأْوِيلُ

عَلَى تَشَابُهٍ لَهُ تَفْصِيلُ

1725 -

فَفِي الإِضَافِي الذِي قَبْل رُسِمْ

كَمُطْلَقٍ وَذِي عُمُومٍ مُنْحَتِمْ

1726 -

وَفِي حَقِيقِيٍّ مَضَى تَمْثِيلُهُ

لَيْسَ بِلَازِمٍ لَنَا تَأْوِيلُهُ

1727 -

لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِهِ تكلِيفُ

وَلَا أَتَى فِي شَأْنِهِ تَعْرِيفُ

1728 -

وَأَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ السَّلَفْ

وَشَأْنِ مَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْخَلَفْ

1729 -

وَمَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَا

لِعَكْسِهِ فَئَاثَرَ التَّبْيِينَا

ص: 13

1730 -

مُسْتَنِدًا لِمُقْتَضَى الْوَقْفِ عَلَا

فِي الْعِلْمِ عَطْفًا وَهْوَ وَجْهٌ نُقِلَا

1731 -

وَالْبَاعِثُ اسْتِبْعَادُهُ أَنْ صَدَرَا

تَخَاطُبٌ يَعْزُبُ عَنْ فَهْمِ الْوَرَا

"‌

‌ المسألة السادسة

"

1732 -

إِنْ أُعْمِلَ التَّأْوِيلُ فِي الْمُشْتَبِهِ

رُوعِيَ حَتْمًا فِي مُؤَوَّلٍ بِهِ

1733 -

رُجُوعُهُ بَعْدُ لِمَعْنىً جَارِ

وَمُقْتَضىً صَحِيحِ الاِعْتِبَارِ

1734 -

مَعْ كَوْنِهِ مُتَّفَقًا فِي الْجُمْلَهْ

عَلَيْهِ بَيْنَ المُقْتَفِينَ سْبلَهْ

1735 -

وَأَنْ يُرَى يَقْبَلُهُ اللَّفْظُ الذِي

أُوِّلَ لَا يَأبَاهُ عِنْدَ الْمَأْخَذِ

"‌

‌ الفصل الثاني" فِي الإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1736 -

وَغَالِبٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّهْ

تَقْرِيرُهَا الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّهْ

1737 -

كَالأَمْرِ بِالإِيمَانِ وَالإِنْفَاقِ

وَالنَّهْيِ عَنْ مُذَمَّمِ الأَخْلَاقِ

1738 -

ثُمَّ أَتَتْ لِذَاكَ بِالْمَدِينَهْ

مُكَمِّلَاتٌ تَقْتَضِي تَبْيِينَهُ

1739 -

عِنْدَ اتِّسَاعِ خُطَّةِ الإِسْلَامِ

وَأُنْسِ مَنْ كُلِّفَ بِالأَحْكَامِ

1740 -

كَالصَّوْمِ وَالتَّحْدِيدِ لِلْحُدُودِ

وَالْحَجِّ وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ

1741 -

لِأَجْلِ ذَا مَا حُكْمُهُ قَدِ ارْتَفَعْ

مُعْظَمُهُ فِي الْمَدَنِيِّ قَدْ وَقَعْ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1742 -

قَدْ مَرَّ فِي الْقَوَاعِدِ الأَصْليَّهْ

كَثْرَتُهَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيهْ

1743 -

وَتلْكَ فِيهَا النَّسْخُ لْم يَكُنْ يَقَعْ

وَإِنْ يَكُنْ يُمْكِنُ عَقْلًا وَيَسَعْ

1744 -

دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الاِسْتِقْرَاءُ

وَالنَّظَرُ الذِي لَهُ اسْتِجْلَاءُ

1745 -

بَلْ كُلُّ مَا بِطَيْبَةٍ بَعْدُ أَتَى

كَانَ لَهَا مُقَوِّيًا مُثَبِّتَا

ص: 14

1746 -

وَذَاكَ مُقْتَضٍ لِأَنَّ النَّسْخَ فِي

مَا كَانَ مَكِّيًّا قَلِيلٌ فَاعْرِفِ

"‌

‌ فصل

"

1747 -

وَحَيْثُمَا النَّسْخُ أَتَى فَيَنْتَمِي

إِلَى الْقَلِيلِ بِاعْتِبَارِ الْمُحْكَمِ

1748 -

هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ

عَلَى اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1749 -

النَّسْخُ عِنْدَ الْمُتَّقَدِّمِينَا

يَعُمُّ كُلَّ مَا اقْتَضَى تَبْيِينَا

1750 -

مِنَ الْعُمُومَاتِ وَالإِطْلَاقَاتِ

وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُبَيَّنَاتِ

1751 -

لِلاشْتِرَاكِ أَنَّ مَعْنَى الأَوَّلِ

مَعْ مَا اقْتَضَاهُ الثَّانِ غَيْرُ مُعْمَلِ

1752 -

وَكَمْ بِذَا الْبَابِ لَهُمْ مِنْ مَسْأَلَهْ

لَيْسَتْ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ بِمُشْكِلَهْ

1753 -

مِنْ مُقْتَضٍ لِلنَّسْخِ بِالأخْبَارِ

وَالنَّسْخُ فِيهَا وَهْوَ غَيْرُ جَارِ

1754 -

فَرَاعِهِ حَيْثُ وَجَدْتَ ذَلِكَا

تَصِلْ لِمَا تَطْلُبُهُ هُنَالِكَا

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1755 -

وَجُمْلَةُ الْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَهْ

مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّهْ

1756 -

لَمْ يَرِدِ النَّسْخُ بِهَا وَلَا وَقَعْ

وَمِثْلُ ذَاكَ مَا لِتَحْسِينٍ يَقَعْ

1757 -

وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي فُرُوعِ

جُزْئِيَّةِ الأَحْكَامِ فِي الْمَشْرُوعِ

1758 -

وَالرَّفْعُ لِلْجُزْئِيِّ لَا يَسْتَلْزِمُهْ

إِزَالَةُ الْجنْسِ الذِي يَنْتَظِمُهْ

1759 -

وَقَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ فِي الْخَمْسِ الأُوَلْ

شُمُولُهَا بِالْحِفْظِ فِي كُلِّ الْمِلَلْ

1760 -

وَهَكَذَا الأَمْرُ لَدَى التَّبْيِينِ

فِي أَصْلَيِ الْحَاجِي وَالتَّحْسِينِي

1761 -

وَكَمْ يُرَى لِذَاكَ مِنْ دَلِيلِ

مُسْتَوْضَحٍ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ

1762 -

كَقَوْلهِ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ

إِلَى نُصُوصٍ غَيْرِهِ لَا تَشْتَبِهْ

1763 -

فَإِذْ وكَانَتِ الأُصُولُ الأُوَلُ

ثَابِتَةً لَمْ تَنْتَسِخْهَا الْمِلَلُ

ص: 15

1764 -

مَعَ وُقُوعِ النَّسْخِ ذَاكَ أَوْلَى

فِي مِلَّةٍ تَأْصِيلُهَا اسْتَقَلَّا

"‌

‌ الفصل الثالث" فِي الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1765 -

أَلأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ وَالنَّهْيُ مَعَا

إِرَادَةً وَطَلَبًا مُتَّبَعَا

1766 -

وَذَاكَ فِي الأمْرِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ مَعْ

إِرَادَةِ الإِيقَاعِ حَيْثُمَا وَقَعْ

1767 -

وَالنَّهْيُ لاقْتِضَاءِ تَرْكٍ دَاعِ

مَعَ إِرَادَةِ انْتِفَا الإِيقَاعِ

1768 -

وَمَعَ ذَا فَفِعْلُ مَأْمُورٍ بِهِ

مُسْتَلْزَم كَتَرْكِ مَا عَنْهُ نُهِي

1769 -

إِرَادَةٌ بِهَا وُقُوعُ مَا ذُكِرْ

أَوْ عَدَمُ الْوُقُوعِ عَنْهَا يَسْتَقِرْ

1770 -

وَمِنْ بَيَانِ مُقْتَضَى الإِرَادَهْ

تَكْمُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الإِفَادَهْ

1771 -

فَهْيَ بِمَعْنَيَيْنِ شَرْعًا تَثْبُتُ

الأوَّلُ الإِرَادَةُ الْخَلْقِيَّةُ

1772 -

إِرَادَةُ التَّكْوِينِ مَعْنَاهُ يُفِيدْ

فِي مِثْلِ مَا كَقَوْلهِ فَمَنْ يُرِدْ

1773 -

وَهْيَ التِي الْمَعْنَى بِهَا تَعَلَّقَا

بِكُلِّ مَا هُوَ مُرَادٌ مُطْلَقَا

1774 -

فَمَا أَرَادَ اللهُ كَوْنَهُ بَدَا

وَلَا يُرَى مَا لَمْ يُرِدْهُ أَبَدا

1775 -

وَهَذِهِ النَّهْيُ كَالأمْرِ لَا يُرَى

مُسْتَلْزِمًا لَهَا بِحَيْثُ مَا جَرَى

1776 -

فَنَهْيُهُ عَمَّا يُرِيدُ قَدْ يَقَعْ

وَأَمْرُهُ فِي الْعَكْسِ مِنْهُ مَا امْتَنَعْ

1777 -

ئَانِيهِمَا الإِرَادَةُ الأَمْرِيَّةْ

إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ وَالشَّرْعِيَّهْ

1778 -

وَحَيْثُمَا جَرَى بِذَا الْكِتَابِ

ذِكلرُ لِقَصْدِ الشَّرْعِ فِي الأَبْوَابِ

1779 -

فَإِنَّهُ لِمُقْتَضَاهَا يُطْلَقُ

وَهْيَ الإِرَادَةُ التِي تُعَلَّقُ

1780 -

بِطَلَبِ الإِيقَاعِ لِلْمَأْمُورِ

وَعَدَمِ الإِيقَاعِ لِلْمَحْظُورِ

1781 -

وَهْيَ بِمَعْنَى الْحُبِّ أَوْ مَعْنَى الرِّضَا

وَالاِقْتِضَا اسْتَلْزَمَهَا كَمَا مَضَى

1782 -

وَمَا يُرَادُ فَهْوَ مَأْمُورٌ بِهِ

وَغَيْرُ مَا يُرَادُ عَنْهُ قَدْ نُهِى

ص: 16

1783 -

فَاللهُ إِذْ أَمَرَ بِالْعِبَادَهْ

تَعَلَّقَتْ بِأَمْرِهِ الإِرَادَهْ

1784 -

إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ حَيْثُ الاِقْتِضَا

إِلْزَامُ مَنْ كلِّفَ حُكْمَ مَا اقْتَضَا

1785 -

فَهْوَ لَهَا مُسْتَلْزِمٌ وَإِلَّا

لَمْ يَكُ إِلْزَامًا لِذَاكَ أَصْلَا

1786 -

لَكِنْ أَعَانَ اللهُ أَهْلَ الطَّاعَهْ

فَفَعَلُوا بِجَعْلِ الاِسْتِطَاعَهْ

1787 -

وَلَمْ يُعِنْ مُرْتَكِبِي الْعِصْيَانِ

فَتَرَكلوا الطَّاعَةَ بِالْخِذْلَانِ

1788 -

وَيعْلُ هَؤُلَا وَتَرْكُ هَؤُلَا

مَعًا مُرَادُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا

1789 -

بِمُقْتَضَى إِرَادَةِ التَّكْوِينِ

وَكَمْ لِرَعْيِ الْفَرْقِ مِنْ تَبْيِينِ

1790 -

وَالتَّرْكُ لاعْتِبَارِ شَأْنِهِ اقْتَضَى

أَنْ أَوْقَعَ اللُّبْسَ لِبَعْضِ مَنْ مَضَى

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1791 -

الأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ فِي الْمَوَاقِعِ

مُسْتَلْزِمٌ حَتْمًا لِقَصْدِ الشَّارعِ

1792 -

فِيهِ إِلَى إِيقَاعِهِ وَالنَّهْيُ فِي

قَصْدِ انْتِفَا الإِيقَاعِ الأَمْرَ يَقْتَفِي

1793 -

أَوْ لَازِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ الأَمْرُ

أَمْرًا وَذَا فِي النَّهْيِ يَسْتَمِرُّ

1794 -

وَطَلَبُ الْحُصُولِ وَالتَّحْصِيلِ

بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَدَى التَّفْصِيلِ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1795 -

الأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ لَنْ يَسْتَلْزِمَا

الأَمْرَ بِالْمُقَيِّدَاتِ فَاعْلَمَا

1796 -

إِذْ ذَاكَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَمْرَا

بِمُطْلَقٍ لَكِنَّهُ اسْتَقَرَّا

1797 -

وَلَازِمٌ عَلَيْهِ أَنْ يُكَلَّفَا

بِغَيْرِ مَا يُطَاقُ وَالْمَنْعُ اكتَفَا

1798 -

وَالأَمْرُ مِنْ بَابِ الثُّبُوتِ وَهْوَ لَا

يَسْتَلْزِمُ الأَخَصَّ فِي مَا نُقِلَا

1799 -

وَلْيسَ مَقْصُودًا بِهِ الْكُلِّيُّ

مُعْتَرِضًا بِأَنَّهُ ذِهْنِيُّ

1800 -

وَلَيْسَ فِي الْخَارجِ بِالْمَوْجُودِ

فَلَا حُصُولَ بَعْدُ لِلْمَقْصُودِ

1801 -

وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا قَدْ يُطْلَقُ

لِأَيِّ فَرْدٍ كَانَ ثُمَّ يَصْدُقُ

ص: 17

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1802 -

وَمَا كَذَاكَ الأمْرُ بِالْمُخَيَّرِ

لَكِنَّهُ بِالْعكْسِ مِنْ هَذَا حَرِي

1803 -

إِذْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارعِ

أَفْرَادَهُ أَوْ ضِدَّ مَا فِي الْوَاقِعِ

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1804 -

مَا الشَّرْعُ طَالِبٌ لَهُ ضَرْبَانِ

ضَرْبٌ تُرَى جِبِلَّةُ الإِنْسَانِ

1805 -

خَادِمَةً لَهُ مِنَ الدَّوَاعِي

لِشَأْنِهِ كَالأَكْلِ وَالْوِقَاعِ

1806 -

وَكَاجْتِنَابِ كُلِّ مَا يُسْتَقْذَرُ

وَكُلِّ مَا يُلْحَقُ مِنْهُ ضَرُر

1807 -

أَوْ مُقْتَضَى مَكَارِمِ الأخْلَاقِ

لَهُ وَحُكْمُ الْعْقلِ ذُو وِفَاقِ

1808 -

كَالسَّتْرِ لِلْعَوْرَةِ أَوْ حِفْظِ الْحُرَمْ

لَا مَعْ مُنَازِعٍ مِنَ الطَّبْعِ حَكَمْ

1809 -

فَبَابُهُ الشَّرْعُ بِهِ قَدْ يَكْتَفِي

فِي طَلَبٍ بِمَا بِهِ الطَّبْعُ يَفِي

1810 -

لِذَاكَ لَمْ يَضَعْ عَلَى الْمُخَالَفَهْ

حَدًّا بِهِ يَرْدَعُ مَنْ قَدْ خَالَفَهْ

1811 -

ثَانِيهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَالِكَا

بَلْ قَدْ يُعِينُ الطَّبْعُ فِيهِ التَّارِكَا

1812 -

مِثْلُ الْعِبَادَاتِ مِنَ الصِّيَامِ

وَغَيْرِهِ وَأَكْثَرِ الأَحْكَامِ

1813 -

فَذَا الذِي الشَّارعُ مُقْتَضَاهُ

قَرَّرَهُ عَلَى الذِي اقْتَضَاهُ

1814 -

مُوَكِّدًا حُكْمَ الْمُوَكَّدَاتِ

مُخَفِّفًا حُكْمَ الْمُخَفَّفَاتِ

1815 -

وَالطَّلَبُ النَّهْيِيُّ مِثْلَ الأَمْرِي

فَمُقْتَضَى الضَّرْبَيْنِ فِيهِ يَجْرِي

"‌

‌ تنبيه

"

1816 -

ذَا الأَصْلُ مَوْجُودٌ بِالاِسْتِقْرَاءِ

مِنْهُ كَثِيرٌ عِنْدَ الاِسْتِجْلَاءِ

1817 -

فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ كَيْ يَلْتَفِتَا

مُجْتَهِدٌ إِلَيْهِ حَيْثُ مَا أَتَى

1818 -

لَا أَنَّهُ قَاعِدَةٌ لَا تَنْخَرِمْ

وَأَنَّ مُقْتَضَاهُ حُكْمٌ مُنْحَتِمْ

ص: 18

"‌

‌ المسألة السادسة

"

1819 -

وَكُلَّ خَصْلَةٍ بِهَا الشَّرْعُ أَمَرْ

مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا حَدٍّ ظَهَرْ

1820 -

فَالأَمْرُ فِي أَفْرَادِهَا لَيْسَ عَلَى

حَدٍّ سَوَاءٍ وَكذَا النَّهْيُ انْجَلَا

1821 -

كَالصَّبْرِ وَالإِخْلَاصِ وَالْوَفَاءِ

وَالظُّلْمِ وَالإِسْرَافِ وَالرِّيَاءِ

1822 -

وَمَعَ ذَا فَإِنَّهُ ضَرْبَانِ

بِنِسْبَةِ الْوُرُودِ فِي الْقُرْآنِ

1823 -

آتٍ عَلَى الإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ

قَاضٍ عَلَى الْحَالَاتِ بِالتَّعْمِيمِ

1824 -

لَكِنْ بِمَا كُلُّ مَقَامِ يَقْتَضِي

بِشَاهِدِ الْحَالِ الذِي فِيهَا رُضِي

1825 -

وَذَاكَ مَوْكُولٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ

كَي يَتَوَخَّى أَلْيَقَ التَّصَرُّفِ

1826 -

بِأَبْيَنِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّهْ

وَأَكْمَلِ الْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّهْ

1827 -

مِثْلُ اعْتِبَارِ الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ

فِي كُلِّ صَادِرٍ عَنِ الإِنْسَانِ

1828 -

وَضَرْبُهُ الآخِرُ ذُو وُجُودِ

فِي غَايَتَيْ مَذْمُومٍ أَوْ مَحْمُودِ

1829 -

مُنَبِّهًا عَلَى مَجَالِ لِلنَّظَرْ

فِي رُتَبٍ قُرْبًا وَبُعْدًا تُعْتَبَرْ

1830 -

لِلْغَايَتَيْنِ كَيْ يُرَى مَنْ نَظَرَا

مُوَازِنًا أَوْصَافَهُ مُسْتَبْصِرًا

1831 -

يَسْتَحْضِرُ الْخَوْفَ مِنَ الْمَعْبُودِ

بِحَسَبِ الْبُعْدِ مِنَ الْمَحْمُودِ

1832 -

وَيُعْظِمُ الرَّجَاءَ فِي الْكَرِيمِ

بِحَسَبِ الْبُعْدِ مِنَ الْمَذْمُومِ

1833 -

لِذَا يُرَى حَيْثُ لَهُ تَعَيُّنُ

بِهِ الْوَعِيدُ غَالِبًا يَقْتَرِنُ

1834 -

وَأَنَّهُ مِمَّا لَهُ تَعْيِينُ

مِنْ سَبَبِ التَّنْزِيلِ يَسْتَبِينُ

1835 -

وَأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى الإِطْلَاقِ

وَإِنْ أَتَى فِي ذَلِكَ الْمَسَاقِ

1836 -

قَدْ وُكِلَ الأَمْرُ الذِي بِهِ قُصِدْ

نَظْرِ مُكَلَّفٍ بِهِ كَيْ يَجْتَهِدْ

1837 -

وَحُكْمُهُ كَمَا يُرَى جُمْلِيَا

فَإِنَّهُ يَكُونُ تَفْصِيلِيَا

ص: 19

"‌

‌ المسألة السابعة

"

1838 -

الأمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا ضَرْبَانِ

ضَرْبٌ صَرِيحٌ وَسِوَاهُ الثَّانِي

1839 -

أَمَّا الصَّرِيحُ فَلَهُ اعْتِبَارُ

بِمَلْحَظَيْنِ لَهُمَا اسْتِقْرَارُ

1840 -

وَالأوَّلُ الأَخْذُ لَهُ مُجَرَّدَا

مِنْ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ حَيْثُ وَرَدا

1841 -

وَمُقْتَضَاهُ الْمَيْلُ مَعْ مُجَرَّدِ

صِيَغَ الأَلْفَاظِ إِلَى التَّعَبُّدِ

1842 -

وَفِي الْحَدِيثِ بَعْضُ شَاهِدٌ لَهُ

يَعْضُدُ فِي ظَاهِرِهِ مُجْمَلَهُ

1843 -

وَمَرَّ قَبْلُ أَنَّ كُلَّ مَقْصَدِ

لَا بُدَّ مِنْ مَعْنىً بِهِ تَعَبُّدِي

1844 -

وَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحٌ مُعْتَبَرْ

فَهْوَ مِنْ الْمَرْجُوحِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرْ

1845 -

مَعْ أَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِالْمَصَالِحِ

فَذَاكَ فِي التَّفْصِيلِ غَيْرُ لَائِحِ

1846 -

وَعِنْدَ ذَا تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ

لِمَا لَهُ التَّرْجِيحُ وَالظُّهُورُ

1847 -

مَعْ أَنَّهُ قَدْ قِيلِ فِيهِ أَنَّهْ

أُحْدِثَ بَعْدَ مُدَّةٍ فِي السُّنَّهْ

1848 -

وَالْزَمُوهُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّظَرْ

جُلُّ الْبُيُوعِ بَاطِلًا مِنَ الْغَرَرْ

1849 -

إِلَى أُمُورٍ غيرِ هَذَا تَلْزَمُ

فِي جَنْبِ مَا يَحِلُّ أَوْ يُحَرَّمُ

1850 -

ثَانِيهِمَا الأَخْذُ لَهُ مِنْ حَيْثُ مَا

يُفْهَمُ قَصْدٌ فِيهِ لِلشَّرْعِ انْتَمَا

1851 -

مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّهْ

وَمُقْتَضَى الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّهْ

1852 -

وَذَاكَ فِي الْمَأْمُورِ مَعْنَى الْمَصْلَحَهْ

وَعَكْسِهَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَوْضَحَهْ

1853 -

وَذَا هُوَ التَّرَاجُحُ وَالْمُعْتَبَرُ

يَعْضُدُ الاِسْتِقْرَاءَ فِيهِ النَّظَرُ

"‌

‌ فصل

"

1854 -

إِذَا بَدَا الْمَعْنَى بِأَنَّ الأمَرَا

كَالنَّهْيِ فِيهِ عِلَّةٌ تُسْتَقْرَا

1855 -

فَعَامِلٌ بِذَلِكَ الْمَفْهُومِ

مُتَّبِعٌ لِلسَّنَنِ الْقَوِيمِ

1856 -

مُوَافِقٌ لِمَقْصَدٍ الشَّارَعِ فِي

ذَاكَ وَمُقْتَفٍ سَبِيلَ السَّلَفِ

ص: 20

"‌

‌‌

‌ فصل

"

1857 -

ثُمَّ سِوَى الصَّرِيحِ مِنْهُ مَا أَتَى

إِتْيَانَ الأَخْبَارِ بِحُكْمِ ثَبَتَا

1858 -

كَقَوْلهِ وَالْوَالِدَاتُ وَكُتِبْ

وَهْوَ كَثِيرٌ وَاتِّبَاعُهُ يَجِبْ

1859 -

لِجَرْيِهِ مَجْرَى الصَّرِيحِ الصَّادِرِ

مِنَ النَّوَاهِي وَمِنَ الأَوَامِرِ

1860 -

أَوْ جَاءَ بِالتَّرْتِيبِ لِلثَّوَابِ

عَلَيْهِ وَالتَّرْتِيبِ لِلْعِقَابِ

1861 -

أَوْ مُبْدِيًا مَدْحًا وَحُبَّ اللهِ

فِي الأَمْرِ أَوْ لِلْعَكْسِ فِي النَّوَاهِي

1862 -

وَكُلُّهُ مُعْتَبَرٌ وَمُتَّضِحْ

فِي تَرْكِ مَا ذُمَّ وَفِعْلِ مَا مُدِحْ

1863 -

وَمِنْهُ ضِمْنِيٌّ كَنَهْيِ لَامْرِ

عَنْ ضِدِّهِ وَالْخُلْفُ فِيهِ يَجْرِي

1864 -

لَا كِنْ عَلَى اعْتِبَارِهِ الأَمْرُ جَلِي

فِي كَوْنِ ذَاكَ لَا بِقَصْدٍ أَوَّلِ

1865 -

وَأَنَّهُ فِي الإِعْتِبَارِ أَضْعَفُ

مِنْ تَبَعِيٍّ فِي الصَّرِيحِ يُعْرَفُ

" فصل"

1866 -

وَمِنْ هُنَا فُرِّقَ بَيْنَ الْغَاصِبِ

وَالْمُتَعَدِّي فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ

1867 -

مَنْ قَدْ رَأَى التَّفْرِيقَ مِثْلَ مَالِكْ

وَمَنْ يُسَوِّي فَعَلَى مَسَالِكْ

1868 -

مِنْهَا الدَّوَامُ مَعَ الإِبْتِدَاءِ

هَلْ يُحْمَلَانِ مَحْمَلَ السَّوَاءِ

1869 -

كَذَاكَ مِنْ قَاعِدَةِ الأَعْيَانِ

مَا هُوَ مِنْهَا الْمِلْكُ لِلإِنْسَانِ

1870 -

وَثَالِثٌ هَلْ شُبْهَةُ الْمِلْكِ تُرَا

فِي الْغَصبِ أَمْ لَيْسَ كَذَاكَ نَظَرَا

1871 -

أَوِ الذِي يَرُدُّ مَا يَغْتَصِبُ

بِحَالِهِ كَالْمُتَعَدِّي يُحْسَبُ

1872 -

فَهَذِهِ الْخُلْفُ عَلَيْهَا يُجْرَا

إِذًا فَالأَصْلُ صَحَّ وَاسْتَقَرَا

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

1873 -

تَوَارُدُ الأَمْرِ مَعَ النَّهْيِ عَلَا

شَيْئَيْنِ مَعْ تَلَازُمٍ قَدْ حَصَلَا

1874 -

بِحَيْثُ يَأْتِي وَاحِدٌ لَوْ يَنْفَرِدْ

فِي الأَمْرِ وَالآخَرُ فِي النَّهْيِ يَرِدْ

ص: 21

1875 -

يُنْظَرُ فِيهِ فَالْمُوَافِي بِالتَّبَعْ

وُجُودًا أَوْ فِي الْعُرْفِ غَيْرُ مُتَّبَعْ

1876 -

وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ مِنْهُ مَا انْصَرَفَ

لِجِهَةِ الْمَتْبُوعِ قَصْدًا مَنْ سَلَفْ

1877 -

وَذَا بِالاِسْتِقْرَاءِ فِي الْمَشْرُوعِ

لِلْحُكْمِ فِي الْتَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ

1878 -

وَمُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَا

يَرَى أَنَّ النَّهْيَ مِمَّا قُصِدَا

1879 -

وَحَالُ مَتْبُوعٍ وَحَالُ تَابِعِ

بَادٍ مِنَ الأُصُولِ وَالْمَنَافِعِ

1880 -

كِلَاهُمَا يَجُوزُ فِيهِ الْعَقْدُ

وَيُتْبَعُ الآخَرُ فِيهِ بَعْدُ

1881 -

لَاكِنَّمَا الْمَنَافِعُ الْمَذْكُورَهْ

أَقْسَامُهَا ثَلَاثَةٌ مَحْصُورَهْ

1882 -

أَحَدُهَا مَا لَيْسَ بِالْمَقْصُودِ

لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْدُ فِي الْوُجُودِ

1883 -

فَلَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّ الأصْلَا

مُتَّبَعٌ لِكَوْنِهِ اسْتَقَلَّا

1884 -

وَعَكْسُهُ مَا كَانَ ذَا اسْتِقْلَالِ

فِي الْحُكْمِ وَالْوُجُودِ لَا الْمَئَالِ

1885 -

فَذَاكَ لَا خِلَافَ فِي انْقِطَاعِهِ

عَن أَصْلِهِ وَالتَّرْكِ لاتِّبَاعِهِ

1886 -

وَثَالِثٌ مُبَايِنٌ لِلأَصْل

لَاكِنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلِّ

1887 -

وَمِنْهُ مَحْسُوسٌ وَمَا فِي حُكْمِهِ

وَالْحُكْمُ شَامِلٌ لِضَرْبَيْ قِسْمِهِ

1888 -

فَهْوَ مَجَالٌ لاجْتِهَادٍ وَنَظَرْ

بِمَا مِنَ أَمْرِ الطَّرَفَيْنِ يُعْتَبَرْ

1889 -

إِذْ لَهُمَا تَجَاذُبٌ فِي الأمْرِ

لَيْسَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ يَجْرِي

1890 -

وَكَمْ لِهَذَا الأصْلِ مِنْ فَوَائِدَ

عَمِيمَةِ النَّفْعِ لَدَى مَوَارِدَ

1891 -

مِنْهَا اتِّبَاعُ تَافِهِ لأشْيَاءِ

لِمَا لَهُ الْكَثْرَةُ فِي الأنْحَاءِ

1892 -

مِثْلُ اكْتِرَاءِ الدَّارِ فِيهَا شَجَرَهْ

وَكُلُّ مَا قِلَّتُهُ مُقْتَفِرَهْ

1893 -

كَذَاكَ فِي التَّضْمِينِ لِلصُنَّاعِ

فِيمَا يَكُونُ تَابِعَ الْمَتَاعِ

1894 -

وَمُقْتَضَى الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ

مِنْهَا كَذَا الْمَزِيدُ فِي الأثْمَانِ

1895 -

وَكُلُّ مَا لَا نَفْعَ فِي الْمَعْقُودِ

عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ فِي الْعُقُودِ

1896 -

وَمَا بِهِ النَّفْعُ عَلَى أَقْسَامِ

أَحَدُهَا الْخَالِصُ لِلْحَرَامِ

ص: 22

1897 -

وَمَا يُرَى فِي خَارجٍ بِحَالِ

كَعَكْسِهِ الْخَالِصُ لِلْحَلَالِ

1898 -

فَيَرْجِعَانِ عِنْدَ ذَا لِلثَّالِثِ

الْمُقْتَضِى لِلْحُكْمِ وَالْمَبَاحِثِ

1899 -

وَهْوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنْهُ مَا يَقَعْ

ذَا جَانِبَيْنِ تَابِعٌ وَمُتَّبَعْ

1900 -

بِحُكْمِ أَصْلِ الْعُرْفِ فِي الْمَوَاقِعِ

فَالْحُكْمُ لِلْمَتْبُوعِ لَا لِلتَّابِعِ

1901 -

إِلَّا إِذَا مَا خُصَّ بِالْقَصْدِ عَلَى

خِلَافِ مَا الْعُوْفُ بِهِ قَدْ حَصَلَا

1902 -

وَلانْصِرَافِ الْقَصْدِ لِلأَصْلِيِّ

بِمُقْتَضَى التَّخَاطُبِ الْعُرْفِيِّ

1903 -

يُحْذَفُ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مَا

تَعَلَّقَا بِهِ لأَنْ قَدْ عُلِمَا

1904 -

وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَاكَ إِنْ صَدَرْ

فَهْوَ مَحَلُّ لاجْتِهَادِ مَنْ نَظَرْ

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

1905 -

وَلْنُطْلِقِ الأمْرَ اصْطِلَاحًا هَا هُنَا

عَلَى الذِي الشَّارعُ فِيهِ أَذِنَا

1906 -

فَفِي وُرُودِ الأمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى

شَيْئَيْنِ كُل مِنْهُمَا تَأَصَّلَا

1907 -

وَلَيْسَ فِيهِمَا مِنَ الْمَوْجُودِ

تَلَازُمٌ عُرْفِيٌّ أَوْ وُجُودِي

1908 -

بَلْ ذَاكَ نَاشِئٌ مِنَ الْمُكَلَّفِ

بِقَصْدِهِ لِلْجَمْع فِي التَّصَرُّفِ

1909 -

كَصَفْقَةٍ بِجَائِزٍ مَعْ مَا حُظِرْ

الإِجْتِمَاعُ فِيهِ لَا الْعَكْسُ اعْتُبِرْ

1910 -

فَإِنَّ لِلْجَمْعِ مِنَ التَّأْثِيرِ

مَا لَيْسَ لِلتَّفْرِيقِ فِي كَثِيرِ

1911 -

وَمَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ الْمَجْمُوعِ

مَا لَيْسَ فِي الإِفْرَادِ بِالْمَمْنُوعِ

1912 -

فَصَارَ كَالتَّلَازمِ الْوُجُودِي

بِالْقَصْدِ وَالْخُلْفِ مِنَ الْمَعْهُودِ

1913 -

مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَعْنَى الاِنْفِرَادَ

بَاقٍ فَصَارَ مَوْضِعَ اجْتِهَادِ

1914 -

إِذْ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ بِأَوْلَى

مِنْ غَيْرِهِ فِي أَنْ يَكُونَ أَصْلَا

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

1915 -

وُرُودُ أَمْرَيْنِ لِأصْلِيَيْنِ فِي

فِعْلٍ يُرَى بِالْقَصْدِ لِلْمُكَلَّفِ

ص: 23

1916 -

كَالأمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الاِئْتِلَافِ

حَيْثُ يُرَى بَيْنَهُمَا تَنَافِي

1917 -

وَالنَّهْيُ عَنْ جَمْعٍ لِبَيْعٍ وَسَلَفْ

أَصْلٌ لِمَنْعِ مَا بِعَكْسِهِ اتَّصَفْ

1918 -

وَغَيْرُ مَا فِيهِ التَّنَافِي قَدْ ظَهَرْ

فَقَصْدُ الاِجْتِمَاعِ فِيهِ مُعْتَبَرْ

1919 -

فَإِنْ يَكُنْ يُحْدِثُ حُكْمًا يَقْتَضِي

نَهْيًا فَإِنَّ النَّهْيَ فِيهِ الْمُقْتَضِى

1920 -

كَمِثْلِ مَا الأُخْتَيْنِ حُكْمًا أَشْبَهَا

وَحَيْثُ لَا فَالأمْرُ قَدْ تَوَجَّهَا

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

1921 -

تَوَارُدُ الأَمْرَيْنِ فِيمَا اتَّحَدَا

بِمَلْحَظَيْنِ جَائِزٌ أَنْ يَرِدَا

1922 -

مَعَ رُجُوعٍ وَاحِدٍ لِلْجُمْلَهْ

لِكَوْنِهَا فِي الشَّأْنِ مُسْتَقِلَّهْ

1923 -

وَمَرْجِعُ الثَّانِي لِجُزْئِيَاتِ

مِنَ التَّفَاصِيلِ أَوِ الصِّفَاتِ

1924 -

حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الأُصُولِ

إِذًا فَثَانٍ جَاءَ لِلتَّكْمِيلِ

1925 -

لِذَاكَ كَانَ تَابِعًا لِلأوَّلِ

شَأْنُ مُكَمَّلٍ مَعَ الْمُكَمِّلِ

1926 -

وَذَاكَ كَالصَّلَاةِ فِي التَّمْثِيلِ

مَعْ كُلِّ مَطْلُوبٍ لَهَا تَكْمِيلِي

1927 -

وَالْحُكْمُ جَارٍ فِي الضَّرُورِيَاتِ مَعْ

حَاجِيٍّ أَوْ مُحَسِّنٍ حَيْثُ يَقَعْ

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

1928 -

تَوَارُدُ النَّهْيِ مَعَ الأمْرِ عَلَا

مِثْلِ الذِي مَرَّ جَوَازُهُ انْجَلَا

1929 -

لَاكِنْ لَهُ مِنْ بَعْدُ صُورَتَانِ

إِحْدَاهُمَا كَثِيرَةُ الإِتْيَانِ

1930 -

وَذَاكَ مَا الأَمْرُ بِهِ لِلْجُمْلَهْ

وَالنَّهْيُ لِلْوَصْفِ الذِي قَدْ حَلَّهْ

1931 -

كَالصَّوْمِ يَوْمَ الْعِيدِ وَالصَّلَاةِ

فِي حَالِ مَكْرُوهٍ مِنَ الأوْقَاتِ

1932 -

ثَانِيَةٌ لِعَكْسِ ذَا التَّصَوُّرِ

كَالأَمْرِ لِلْعَاصِينَ بِالتَّسَتُّرِ

1933 -

فَالأوَّلُ اسْتَقَرَّ فِي الأُصُولِ

وَحُكْمُ ثَانٍ مِنْهُ ذُو حُصُول

1934 -

فَدُونَكَ التَّفْرِيعَ لَاكِنَّ هُنَا

مَعْنىً لَهُ انْجَرَّ الْكَلَامُ وَانْثَنَا

ص: 24

"‌

‌ المسألة الثالثة عشرة

"

1935 -

الطَّلَب الرَّاجِعُ لِلْمَتْبُوعِ مَعْ

ذِي تَابِعٍ أَوْلَى بِحَيْثُ مَا وَقْع

1936 -

مِنْ حَيْث مَا الْقَصْدُ إِلَيْهِ أَوَّلِي

وَقَصْدُ تَابِعٍ بِعَكْسٍ اجْتلِي

1937 -

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ لِلطَّلَبْ

تَفَاوُتًا فِي الشَّرْعِ رَعْيُهُ وَجَبْ

1938 -

مِنْ جِهَةِ التَّخْفِيفِ وَالتَّأْكِيدِ

وَنِسْبَةِ الإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ

1939 -

أَلَا تَرَاهُ فِي الضَّرُورِيَاتِ

ءَاكَدَ مِنْهُ فِي الْمُكَمِّلَاتِ

"‌

‌ المسألة الرابعة عشرة

"

1940 -

الأَمْرُ بِالشَّيْءِ بِقَصْدٍ أَوَّلِي

يَكُونُ عَنْهُ تَابِعٌ بِمَعْزِلِ

1941 -

لَاكِنَّه إِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ أُمْر

بِهِ لِأَمْرٍ غَيْرِ ذَاكَ مُفْتَقِرْ

1942 -

دَلِيلُهُ مَا قَدْ مَضَى فِي الأَمْرِ

بِالْمُطْلَقَاتِ فَهْوَ فِيهِ يَجْرِي

1943 -

وَقَصْدُ تَابِعٍ بِحُكْمٍ اقْتَضَا

دُونَ دَلِيلٍ خَصَّه لَا يُرْتَضَا

"‌

‌ المسألة الخامسة عشرة

"

1944 -

مَا الْفِعْل مَطْلُوبٌ بِهِ بِالْكُلِّ

ذَلِكَ مَطْلُوبٌ بِقَصْدٍ أَصْلِي

1945 -

وَقَدْ يَصِيرُ تَرْكٌ هَذَا يُطْلَبُ

بِالْقَصْدِ ثَابِتًا إِذَا مَا يَغْلِبُ

1946 -

كَذَاكَ مَا التَّرْكُ بِهِ مَطْلُوبُ

بِالْكلِّ مَوْجُودٌ بِهِ التَّرْتِيبُ

1947 -

مَعْ أَنَّ كلَّ وَاحِدٍ يَبْقَى عَلَا

مَا كَانَ فِي النَّوْعَيْنِ قَصْدًا أَوَّلَا

1948 -

فَأَوَّلٌ يَكْفِيهِ فِي الْبَيَانِ

أَنْ جَاءَ فِي مَعْرِضِ الاِمْتِنَانِ

1949 -

وَحَالُهُ ثَابِتَةٌ وَدَائِمَهْ

فَهْيَ لِقَصْدٍ أَوَّلٍ مُلَائِمَهْ

1950 -

وَمُقْتَضَى النُّصُوصِ فِي مَعْنَاهُ

فَإِنَّهُ مُشَيِّدٌ مَبْنَاهُ

1951 -

وَجِهَةُ الأَخْذِ لَهُ فِي الْوَاقِعِ

مُعْتَبَرًا فِي ذَاكَ قَصْدُ الشَّارعِ

1952 -

فَعِنْدَ ذَا يُرَى الْمُبَاحُ الْفِعْلِ

بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا لَنَا بِالْكُلِّ

ص: 25

1953 -

لَاكِنَّهُ إِنْ بَلَغَ الإِسْرَافَا

ذُمَّ لِلإِلْحَاقِ بِمَا قَدْ نَافَا

1954 -

وَالثَّانِ مِنْ بَيَانِهِ إِنْ لَمْ يَرِدْ

بِهِ امْتِنَان فَيُرَى مِمَّا اعْتُمِدْ

1955 -

وَكَوْنُهُ لِلَّهْوِ يُعْزَى وَاللَّعِبْ

وَأَنَّهُ يَخْدُمُ ضِدَّ مَا طُلِبْ

1956 -

وَذَا عَلَيْهِ تَنْبَنِي أُصُولُ

يُرَى بِهَا لِفِقْهِهَا تَفْصِيلُ

1957 -

كَالْفَرْقِ بَيْنَ مُسْتَجَازِ الْفِعْلِ مَعْ

عَوَارِضِ التَّرْكِ وَمَا لَيْسَ يَسَعْ

1958 -

وَمَيْزِ مَا يُقْلَبُ بِالنِّيَّاتِ

مِنَ الْمُبَاحِ لِلتَّعَبُّدَاتِ

"‌

‌ المسألة السادسة عشرة

"

1959 -

قَدْ مَرَّ أَنَّ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ مَعَا

لَيْسَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَقَعَا

1960 -

وَمِنْ هُنَا فَلْيُتَصَوَّرْ مُقْتَضَا

مَا جَاءَ فِي تَنْوِيعِ جِنْسِ الاِقْتِضَا

1961 -

إِلَى كَرَاهَة وَلِلتَّحْرِيمِ

وَالنَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بِالتَّقْسِيمِ

1962 -

وَالاِقْتِضَاءُ بِاعْتِبَارٍ ثَانِ

وَمَلْحَظٍ مُخَصِّصٍ قِسْمَانِ

1963 -

إِذْ هُوَ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ أَصْلِهِ

إِمَّا لِتَرْكِ الشَّيْءِ أَوْ لِفِعْلِهِ

1964 -

وَهَذَا الاعْتِبَارُ مَرْقىً عَالِ

لَمْ يَرْقَهُ إِلَّا أُولُو الأَحْوَالِ

1965 -

وَهُمْ وَإِنْ تَجَمَّعُوا صِنْفَانِ

إِذْ لَهُمُ فِي ذَاكَ مَأْخَذَانِ

1966 -

فَنَاظِرٌ فِي أَخْذِهِ لِلآمِرِ

وَنَاظِرٌ لِلنَّهْيِ وَالأَوَامِرِ

1967 -

إِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّقَرُّبِ

أَوْ مَا عَلَيْهَا حَاصِلُ التَّرَتُّبِ

1968 -

أَوْ جِهَةِ الْعَدْلِ وَمَا قَد تَبِعُوا

إِلَى اصْطِلَاحٍ لَا الْمَعَانِي يَرْجِعُ

"‌

‌ المسألة السابعة عشرة

"

1969 -

إِنَّ الأَوَامِرَ مَعَ النَّوَاهِي

مِنْ حَيْثُ مَا فِيهِنَّ حَقُّ اللهِ

1970 -

يُمْكِنُ أَخْذُهَا لِلامْتِثَالِ

مُجَرَّدًا عَنْ مُقْتَضَى الأحْوَالِ

1971 -

وَأَخْذُهَا مِنْ حَيْثُ مَا تَعَلَّقَا

بِشَأْنِهَا لِلْعَبْدِ حَقٌّ مُطْلَقَا

ص: 26

1972 -

فَالْمَأْخَذُ الثَّانِي عَلَى اعْتِبَارِ

حَقِّ الْعِبَادِ فِي الأُمُورِ جَارِ

1973 -

وَالْمَأْخَذُ الأوَّلُ جَارِي الْقَصْدِ

عَلَى اطِّرَاحِهِ لِحَقِّ الْعَبْدِ

1974 -

وَهْوَ صَحِيحٌ بِالدَّلِيلِ الآتِي

مِنْ مُقْتَضَى الأَخْبَارِ وَالأَيَاتِ

1973 -

وَمَرَّ فِي الأَسْبَابِ وَالْحُقُوقِ

مِنْ ذَاكَ مَا يَكْفِي أُوْلي التَّحْقِيقِ

"‌

‌ المسألة الثامنة عشرة

"

1976 -

أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَرَدَا فِي فِعْلِ

ذَا لِتَعَاوُنٍ وَذَا لِلأَصْلِ

1977 -

هَلْ جَانِبُ التَّعَاوُنِ الْمُعْتَبَرُ

أَمْ جِهَةُ الأَصْلِ هُنَا يُسْتَفْسَرُ

1978 -

فَإِنْ يَكُ الأَمْرُ لِلأَصْلِ الْوَاقِعِ

عَادَ لِبَابِ السَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

1979 -

وَالْخُلْفُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الأَصْلِ

لِأَنَّهُ بِالاِنْضِبَاطِ أَصْلِي

1980 -

أَوْ جِهَةُ التَّعَاوُنِ الْمُكَمِّلِ

إِذْ فِي سِوَاهُ فَتْحُ بَابُ الْحِيَلِ

1981 -

وَالْمَيْلُ لِلتَّفْصِيلِ فَالذِي يُرَا

تَعَاوُنٌ لَدَيْهِ غَالِبًا جَرَا

1982 -

فَذَا اعْتِبَارُ الأَصْلِ فِيهِ وَاجِبُ

أَوْ لَا فَالاِجْتِهَادُ أَمْرٌ لَازِبُ

1983 -

وَحَيْثُ الأمْرُ لِلتَّعَاوُنِ اسْتَقَرْ

ظَاهِرُهُ يَقْبُحُ فِي بَعْضِ الصُّوَرْ

1984 -

لَاكِنْ إِذَا أُحِلَّ فِي مَحَلِّهِ

كَانَ صَحِيحًا ثَابِتًا فِي أَصْلِهِ

1985 -

وَبَابُهُ الْحُكْمَ عَلَى مَا خُصَّا

لِأَجْلِ مَا عَمَّ وَذَاكَ نَصَّا

1986 -

كَمَنْعِ بَيْعٍ حَاضِرٍ لِبَادِ

وَفِي تَلَقِي الرَّكْبِ ذَاكَ بَادِ

"‌

‌ الفصل الرابع" في العموم والخصوص وفيه مقدمة ومسائل

1987 -

الْقَصْدُ بِالْعُمُومِ حَيْثُ أُطْلِقَا

هُنَا الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ مُطْلَقَا

1988 -

وَذَا عَلَى الأَدِلَّةِ الْمُسْتَعْمَلَهْ

مَبْنَاهُ وَهْيَ مَا مَضَتْ مُفَصَّلَهْ

ص: 27

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1989 -

وَحَيْثُ مَا يَثْبُتُ أَصْلٌ عَمَّا

أَوْ مُطْلَقٌ وَعَارَضَتْهُ حُكْمَا

1990 -

قَضَايَا الأعْيَانِ فَلَا يُؤَثِّرُ

فِيهِ وَيَبْقَى حُكْمُهُ الْمُقَرَّرُ

1991 -

وَمِثْلُهَا حِكَايَةُ الأَحْوَالِ

وَذَا لِوَجْهَيْنِ فِي الاِسْتِدْلَالِ

1992 -

مِنْ جِهَةِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ

وَجِهَةِ الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ

1993 -

وَشَأْنُهَا عَدَمُ الاِعْتِبَارِ

حَيْثُ يُرَى التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَارِ

1994 -

وَإِنَّ ذَا الأَصْلَ عَمِيمُ الْفَائِدَهْ

بِحَيْثُ مَا الْجُزْئِيُّ نَافِي قَاعِدَهْ

1995 -

فَالْمُتَمَسَّكُ الذِي يُعْتَمَدُ

مَا كَانَ كُلِّيًا بِحَيْثُ يَرِدُ

1996 -

إِذْ يُقْبَلُ الْمُعَارِضُ الْجُزْئِيُّ

لِلرَّدِّ وَالتَّأْوِيلُ لَا الْكُلِّيُّ

1997 -

وَذَا الذِي أَوْقَعَ فِي الإِشْكَالِ

وَاللَّبْسِ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ

1998 -

إِذْ تَرَكُوا الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّهْ

تَتَبُّعًا لِلصُّوَرِ الْجُزْئِيَّهْ

1999 -

وَرَعْيُهُ دَاعٍ إِلَى تَقْرِيبِ

مَئَاخِذِ الْخِصَامِ وَالتَّشْغِيبِ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

2000 -

قَوَاعِدُ الشَّرْعِ لَدَيْهَا بَادِ

تَنْزِيلُهَا عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِي

2001 -

مُعْتَبَرًا فِي كُلِّ أَصْلٍ أَصْلِ

لَا أَنَّهَا عَلَى الْعُمُومِ الْكُلِّي

2002 -

أَلَا تَرَى الْعَقْلَ بِهِ التَّكْلِيفُ

وَبِالْبُلُوغِ يَحْصُلُ التَّعْرِيفُ

2003 -

إِذْ غَالِبًا بِهِ يَكُونُ الْعَقْلُ

بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ فَهْيَ أَصْلُ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

2004 -

وَللْعُمُومِ صِيَغٌ وَضْعِيَّهْ

تَقْرِيرُهَا مَعْرِفَةٌ نَحْوِيَهْ

2005 -

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ

أَنْ لِلْعُمُومِ بَعْدُ مَلْحَظَانِ

2006 -

مَلْحَظُ الاِعْتِبَارِ بِالإِطْلَاقِ

لِمُقْتَضَى صِيغَةِ الاِسْتِغْرَاقِ

ص: 28

2007 -

وَذَا إِلَيْهِ الْقَصْدُ فِي الأُصُولِ

حَيْثُ يُرَى التَّخْصِيصُ بِالْمَفْصُولِ

2008 -

وَمَلْحَظُ اعْتِبَارِ الاِسْتِعْمَالِ

بِمُقْتَضَى الْعَادَاتِ وَالأحْوَالِ

2009 -

فَشَأْنُهَا فِيمَا اقْتَضَتْهُ مَرْعِي

وَإِنْ يُخَالِفْ ذَاكَ أَصْلُ الْوَضْعِ

2010 -

فَالاعْتِبَارُ هَكَذَا اسْتِعْمَالِي

وَرَعْيُهُ مُنْجٍ مِنَ الأِجْمَالِ

2011 -

وَالاِعْتِبَارُ قَبْلَهُ قِيَاسِي

وَللسَّمَاعِ الْحُكْمُ فِي الْقِيَاسِ

2012 -

فَمِنْ أُصُولِ النَّحْوِ أَنَّ الْمُتَّبَعْ

هُوَ السَّمَاعُ إِنْ تَعَارُضٌ وَقَعْ

2013 -

إِذًا فَالاعْتِبَارُ لِلْعُمُومِ

مِنْ جِهَةِ الْمَسَاقِ وَالْمَفْهُومِ

2014 -

أَعْنِي بِهِ مُقْتَضَيَاتِ الْحَالِ

لِضَبْطِهَما أَوْجُهُ الاِسْتِعْمَالِ

2015 -

وَمِنْهُ عُرْفيٌّ تَسَاوَى الْعَرَبي

فِيهِ وَمَنْ يَفْهَمُ قَصْدَ الْعَرَبِ

2016 -

وَمِنْهُ شَرْعِي بِهِ فِي الْوَاقِعِ

تَبَايُنُ الْفَهْمِ لِقَصْدِ الشَّارعِ

2017 -

فَمَا أَتَى فِيهِ بِعَكْسِ مَا مَضَى

فَمِنْ تَفَاوُتِ النُّهَى فِيمَا اقْتَضَا

2018 -

وَمِنْهُ الاِعْتِبَارُ بِالإِطْلَاقِ

لِمَا أَتَى أَخَصَّ فِي الْمَسَاقِ

2019 -

مِنْ مُقْتَضَى مَا جَاءَ لِلْعُمُومِ

فِي مُنْتَهَى مَحْمُودٍ أَوْ مَذْمُومِ

2020 -

فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا تَذَرْ

جَارٍ عَلَى الْعُمُومِ حَيْثُ مَا صَدَرْ

2021 -

وَلَيْسَ مَا امْتَازَ بِأَمْرٍ خَارِجِي

فِي أَصْلِهِ عَنْ حُكْمِ ذَا بِخَارجِ

2022 -

وَالشَّاهِدُ الْعَدْلُ لِسَانُ الْعَرَبِ

فَهْمًا وَإِفْهَامًا لِهَذَا الْمَذْهَبِ

2023 -

إِذْ جُبِلُوا طَبْعًا عَلَى إِهْمَالِ

مَا لَا يَمُرُّ قَصْدُهُ بِبَالِ

2024 -

لِذَاكَ لَا صِحَّةَ لاسْتِثْنَاءِ مَا

لَمْ يَكُ بِالدَّاخِلِ فِيمَا فُهِمَا

2025 -

كَأْنْ يُقَالَ مَنْ غَزَا الْكُفَّارَا

إِلَّا أَنَا فَأَعْطِهِ دِينَارَا

2026 -

وَبَعْضُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالأُصُولِ

نَبَّهَ لِلْمَعْنَى مِنَ الْمَنْقُولِ

2027 -

وَهَذَا الأَصْلُ فَهْمُهُ مُهِمّ

إِذْ يَنْبَنِي عَلَيْهِ عِلْمٌ جَمُّ

ص: 29

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

2028 -

عَزَائِمُ الشَّرْعِ جَمِيعًا لَا يُخَصْ

مِنْهَا الْعُمُومُ حَيْثُ كَانَتْ بِالرُّخَصْ

2029 -

وَمُطْلِقٌ لِذَاكَ فِي التَّحْقِيقِ

عَلَى مَجَازِ الْقَوْلِ لَا الْحَقِيقِي

2030 -

إِذْ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ رَفْعُ الْحَرَجِ

وَلَيْسَ فِي التَّخْيِيرِ بِالْمُنْدَرجِ

2031 -

وَقَدْ مُضَى ذَلِكَ بِالْبَيَانِ

فَالشَّأْنُ فِيهَا الشَّأْنُ فِي النِّسْيَانِ

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

2032 -

وَكُلُّ عُذْرٍ مُسْقِطٍ لِلإثْمِ

لَيْسَ مُخَصِّصًا عُمُومَ الْحُكْمِ

2033 -

وَذَاكَ كَالإكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ

وَالْخَطَإِ اللَّاحِقِ لِلإِنْسَانِ

2034 -

وَالْحُكْمُ فِيهَا وَاحِدٌ فَلْنَكْتَفِ

بِخَطَإِ الْحَاكِمِ وَالْمُكَلَّفِ

2035 -

كَمَانِعِ الْحَقِّ لِذِي اسْتِيجَابِ

وَشَارِبِ الْمُسْكِرِ عَنْ جُلَّابِ

2036 -

أَفَيُقَالُ إِنَّ ذَا وَمِثْلَهُ

مِمَّا أَبَاحَ الشَّرْعُ إِذْنًا فِعْلَهُ

2037 -

كَلَّا وَلَكِنْ رَفَعَ التَّأْثِيمَا

وَالأَصْلُ بَاقٍ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَا

2038 -

وَحَيْثُ يُمْكِنُ التَّلَافِي شُرِعَا

جَبْرًا لِمَا بِهِ الْفَسَادُ وَقَعَا

"‌

‌ المسألة السّادسة

"

2039 -

ثُبُوتُ مَا عَمَّ لَهُ نَهْجَانِ

مِنْ جِهَةِ الصِّيغَةِ وَالْمَعَانِ

2040 -

فَالأَوَّلُ الْمَشْهُورُ فِي الأُصُولِ

وَمَرَّ ذِكْرُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ

2041 -

ثَانِيهِمَا اسْتِقْرَاءُ حَالِ الْمَعْنَا

لَدَى الْمَوَاقِعِ بِحَيثُ عَنَّا

2042 -

حَتّى يَكُونَ مِنْهُ أَمْر كُلِّي

فِي الذِّهْنِ يَجْرِي كَالْعُمُومِ الأَصْلِي

2043 -

وَهْوَ الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ الْمُصْطَلَحْ

عَلَيْهِ قَبْلُ وَهْوَ أَمْرٌ اتَّضَحْ

2044 -

إِذِ اعْتِبَارُ شَأْنِهِ بِشَانِ

تَوَاتُرِ الْمَعْنَى لَدَى الْبَيَانِ

2045 -

كَأَنْ نَّقُولَ مَثَلًا رَفْعُ الضَّرَرْ

قَاعِدَةٌ يَعُمُّ حَالُهَا الْبَشَرْ

ص: 30

2046 -

ثَابِتَةٌ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدِ

بَلْ بِمَجِيءِ الْمَنْعِ فِي مَوَارِدِ

2047 -

وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُفِيدَهْ

فِي مُقْتَضَى نَوَازِلٍ عَدِيدَهْ

2048 -

وَآخِذٌ بِالسَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

بَانٍ عَلَيْهَا الْحُكْمَ فِي الْمَوَاقِعِ

"‌

‌ المسألة السابعة

"

2049 -

مَعْنَى الْعُمُومَاتِ إِذَا مَا اتَّحَدَا

مُكَرَّرًا مُنْتَشِرًا مُؤَكَّدَا

2050 -

بِحَسَبِ الْحَاجَةِ فِي الْمَوَاضِعِ

مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِأَمْرٍ وَاقِعِ

2051 -

فَإِنّهُ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ

فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ

2052 -

وَذَاكَ ثَابِتٌ بِالإِسْتِقْرَاءِ

لِمَوْرِدِ الْمَشْرُوعِ فِي أَنْحَاءِ

2053 -

كمِثْلِ مَا قُرِّرَ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجْ

فِي الدِّينِ فَالْعُمُومُ فِيهِ يُنْتَهَجْ

2054 -

بِسَبَبِ التَّكْرَارِ وَالتَّأْكِيدِ

وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ

2055 -

وَذُو عُمُومٍ لَيْسَ بِالْمُنْتَشِرِ

وَلَا مُؤَكَّدٍ وَلَا مُكَرَّرِ

2056 -

لَا بُدَّ فِي الأَخْذِ بِهِ مِنَ النَّظَرْ

وَالْبَحْثِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُعْتَبَرْ

2057 -

وَعِنْدَ ذَا يَبْدُوا انْفِرَادُ قِسْمِهِ

بِالْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصٍ لِحُكْمِهِ

"‌

‌ الفصل الخامس في البيان والإجمال وفيه مسائل

"

"‌

‌ المسألة الأولى

"

2058 -

أُمِرْ رَّسُولُ اللهِ بِالْبَيَانِ

لِمُقْتَضى جَوَامِعِ الْقُرْآنِ

2059 -

فَهْو الْمُبَلِّغُ لَهُ الْمُبَيِّنُ

وَذَا دَلِيلُه جَلِيٌّ بَيِّنُ

2060 -

بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَبِالإِقْرَارِ

حَسَبَمَا قَدْ جَاءَ فِي الأَخْبَارِ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

2061 -

الْعَالِمُونَ وَارِثُوا النَّبِيِّ

فِي هَدْيِهِ لِلْمِنْهَجِ السَّوِيِّ

2062 -

فَهُمْ مُطَالَبُونَ أَنْ يُبَيِّنُوا

لِلنَّاسِ بِالإِطْلَاقِ مَا تَبَيَّنُوا

ص: 31

2063 -

مِنْ جِهَةِ الإِرْثِ الذِي قَدْ صُحِّحَا

لَهُمْ وَبِالنَّصِّ الذِي قَدْ وَضَحَا

2064 -

وَإِذْ بَدَا تَعَيُّنُ الْبَيانِ

فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَمْرٌ ثَانِ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

2065 -

إِذَا تَأَتّى مَعَ ذَا أَنْ يَصْدُرَا

بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَحَتْمٌ أَنْ يُرَا

2066 -

بِنِسْبِة الْعَالِمِ ذَا حُصُولِ

كَمِثْلِ مَا كَانَ مِنَ الرَّسُولِ

2066 -

وَهَكَذَا قَدْ كانَ شَأْنُ السَّلَفِ

الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَشَأْنُ الْخَلَفِ

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

2068 -

الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ الْمُطَابِقَانِ

إِنْ وَقَعَا الْغَايَةُ فِي الْبَيَانِ

2069 -

لأَجْلِ ذَاكَ قَالَ صَلُّوا وَخُذُوا

لِيَحْصُلَ الْبَيَانُ فِيمَا يُوخَذُ

2070 -

وَكُلُّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِ

وَإِنْ يَكُنْ فِيهِ الْبَيَانُ الْهَادِي

2071 -

فَقَاصِرٌ مِنْ جَانِبٍ عَنْ غَايَهْ

وَبَالغ مِنَ آخَرَ النِّهَايَهْ

2072 -

فَالْفِعْلُ مُبْدٍ غَايَةَ الْبَيَانِ

فِي كُلِّ مَا رَجَعَ لِلْعَيَانِ

2073 -

مِمَّا لَهُ كَيْفِيَّةٌ مُعَيَّنَهْ

وَالْقَوْلُ دُونَهُ إِذَا مَا بَيَّنَهْ

2074 -

وَهْوَ عَنِ الْقَوْلِ لَهُ قُصُورُ

لأَنَّهُ مُخَصَّصٌ مَقْصورُ

2075 -

وَالْقَوْلُ بِالْصِّيغَةِ ذُو تَفْهِيمِ

لِمُقْتَضَى الْخُصوصِ وَالْعُمُومِ

2076 -

فِي الْحَالِ وَالأَزْمَانِ وَالأَعْيَانِ

فَهْوَ لِذَا أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ

"‌

‌ فصل

"

2077 -

وَعِنْدَ ذَا لَا يَدْخُلُ التّرْجِيحُ

بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ وَذَا صَحِيحُ

2078 -

وَقَدْ يُرَى يَدْخُلُ فِيمَا وَرَدَا

عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ إنْ وُجِدَا

ص: 32

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

2079 -

وَمَا مِنَ الْقَوْلِ بَيَانًا يُطْلَقُ

فَالْفِعْلُ شَاهِدٌ لَهُ مُصَدِّقُ

2080 -

وَعَاضِدٌ يَرْفَعُ كُلَّ عَارِضْ

فَهْمًا إِذَا لَمْ يَكُ بِالْمُنَاقِضْ

2081 -

وَهْوَ مُكَذِّبٌ مَعَ التَّخَلُّفِ

وَمُوقِعُ الرِّيبَةِ وَالتَّوَقُّفِ

2082 -

وَذَاكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ مِنَ النَّظَرْ

وَمُقْتَضىً مِنَ الدَّلِيلِ الْمُعْتَبَرْ

2083 -

وَمِنْ هُنَا دُخُولُ الاِسْتِعْظَامِ

لِزَلِّة الْعَالِمِ فِي الأَنَامِ

2084 -

مِنْ حَيْثُ مَا مَنْصِبُهُ لِلاقْتِدَا

بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَالاِهْتِدَا

2085 -

وَالْحَاصِلُ الأفْعَالُ فِي التّأَسّي

أَقْوَى وَأَدْعَى لِبَيَانِ الْحِسِّي

2086 -

لِذَا اعْتِبَارُ شَأْنِهَا تَأَكَّدَا

لِمَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ الاِقْتِدَا

2087 -

وَكُلُّ مَا يَقُولُ أَوْ مَا يَفْعَلُ

لَهُ اعْتِبَارَانِ إِذَا يُفَصَّلُ

2088 -

فَبِاعْتِبَارِ جِهَةِ التَّكْلِيفِ

جَرَتْ عَلَى الأَحْكَامِ فِي التَّصْرِيفِ

2089 -

وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُبَيِّنَا

لِمَا مِنَ الْمَشْرُوعِ قَدْ تَعَيَّنَا

2090 -

فَقَوْلُهُ كَفِعْلِهِ مُقَسَّمُ

فِي حَقِّهِ وَاجِبٌ أَوْ مُحَرَّمُ

2091 -

وَهْو مُبَيَّنٌ بِهِ الْمَشْرُوعُ

فَغَيْرُ مَا بَيَّنَهُ مَمْنُوعُ

2092 -

وَذَا لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَا تَقْرِيبُ

يَظْهَرُ مِنْهُ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ

"‌

‌ المسألة السّادسة

"

2093 -

وَإِنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْمَنْدُوبِ

أَنْ لَّا يُسَوَّى مَعَ ذِي الْوُجُوبِ

2094 -

فِي قْولٍ أَوْ فِعْلٍ لِذَاكَ قَادَا

كَعَدَمِ التَّسْوَيةِ اعْتِقَادَا

2095 -

إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مِنَ التَّنْبِيهِ

غَيْرِ مُخِلٍّ بِاعْتِقَادٍ فِيهِ

2096 -

وَذَاكَ مِثْلُ تَرْكِ الاِلْتِزَامِ

لِفِعْلِهِ وَلَا عَلَى الدَّوَامِ

2097 -

وَهْوَ لَدَى الشَّرْعِ كثِيرٌ مُعْتَبَرْ

وَكَمْ حَدِيثٍ يَقْتَضِيهِ وَأَثَرْ

ص: 33

2098 -

قَدْ تَرَكَ الرَّسُولُ مَحْبُوبَ الْعَمَلْ

خَشْيَةَ أَنْ يَعُودَ فَرْضًا اسْتَقَلْ

2099 -

فَقِيلَ خَوْفَ فَرْضِهِ بِالأَمْرِ

وَحْيًا وَهَذَا الْخَوْفُ لَيْسَ يَسْرِي

2100 -

وَقِيلَ خَوْفَ الْفَرْضِ أَنْ يُظَنَّا

فَيَدْخُلُ الْعَالِمُ فِي ذَا الْمَعْنَا

2101 -

وَيَتْرُكُ الْعِبَادَةَ النَّدْبِيَّهْ

خَوْفَ اعْتِقَادِ أَنَّهَا فَرْضِيَّهْ

2102 -

وَبَتْرُكُ الْمُبَاحَ فِي مَظِنَّهْ

الاِصْتِقَادِ أَنَّ ذَاكَ سُّنَّهْ

2103 -

وَمَالِكٌ لَهُ بِهَذَا الْبَابِ

عِنَايَةٌ تُوجَدْ فِي أَبْوَابِ

2104 -

إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

عِبَادَةً وَعَادَةً بِمَانِعِ

"‌

‌‌

‌ فصل

"

2105 -

ثُمَّ بَيَانُ الْقَوْلِ مَهْمَا يُكْتَفَا

بِهِ لَدَى التَّفْرِيقِ مِمَّا يُقْتَفَا

2106 -

أَوْ لَا فَبِالْفِعْلِ وَلَوْ فِي سَابِقِ

لَهُ وَفِي قَرِينَةٍ وَلَا حِقِ

" فصل"

2107 -

وَلَا مَعَ الْمُبَاحِ تَرْكًا خَوْفَ أَنْ

يظَنَّ أَنَّ تَرْكَة هُوَ السَّنَنْ

2108 -

مَعْ أَنَّ فِيهِ طَلَبًا بِالْكُلِّ

وَالتَّرْكُ إِخْلَالٌ بِأَمْرٍ كلِّي

2109 -

فَالْمُقْتَدَى بِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ

يَفْعَلُ مَنْدُوبًا وَلَا يَلْتَزِمُهْ

2110 -

وَقْدْ يُرَى الأَصْلُ لِذَا فِعْلُ عُمَرْ

فِي غَسْلِ ثَوْبِهِ عَلَى مَا فِي الأَثَرْ

"‌

‌ المسألة السابعة

"

2111 -

مِنْ حَقِّ مَنْسُوبٍ إِلَى الإِبَاحَةِ

أَنْ لَّا يُسَوَّى مَعَ ذِي الْكَرَاهَةِ

2112 -

فِي التَّرْكِ دَائِمًا وَلَا الْمَنْدُوبِ

بِقَصْدِ فِعْلِهِ عَلَى الدُّؤُوبِ

2113 -

خَشْيَةَ أَنْ يُعَدَّ فِي الْمَكْرُوهِ

أَوْ قُرْبَةً إِلَّا مَعَ التَّنْبِيهِ

ص: 34

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

2114 -

حَقِيقَةُ الْمَكْرُوهِ حَيْثُ يَأتِي

أَنْ لَّا يُسَوَّى بِالْمُحَرَّمَاتِ

2115 -

وَذَاكَ مَطْلُوبٌ بِهِ الْبَيَانُ

بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ وَهْوَ الشَّانُ

2116 -

خَوْفًا مِنْ أَنْ يَطُولَ فِيهِ الْعَهْدُ

فَيُوجِبُ التَّرْكَ لَهُ مَنْ بَعْدُ

2117 -

وَلَا يُسَوَّى بِمُبَاحٍ فِعْلُهُ

خَشْيَةَ ظَنِّ أَنَّ ذَاكَ أَصْلُهُ

2118 -

وَذَا الْبَيَانُ فِيهِ أَمْرٌ جَارِ

بِالزَّجْرِ وَالتَّغْيِيرِ وَالإِنْكَارِ

2119 -

لَا سِيّمَا مَا كَانَ عُرْضَةً لأَنْ

يُظَنَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنَ السَّنَنْ

"‌

‌ فصل

"

2120 -

وَمَا مَضَى مِنْ هَذه الْمَسَائِلِ

فِي ضِمْنِهِ مَنْشَأُ فِقْهٍ طَائِلِ

2121 -

مِنْ ذَاكَ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ الاِقْتِدَا

لَا يَنْبَغِي لَهُ الْتِزَامٌ سَرْمَدَا

2122 -

لِمَا مِنَ الْعِبَادَةِ النَّدْبِيَّهْ

وَلَا اقْتِصَارُهُ عَلَى كيْفِيَّهْ

2123 -

مِمَّا أَتَى شَرْعًا بِكَيْفِيَّاتِ

وَلْيَتْرُكِ الدّؤُوبَ فِي أَوْقَاتِ

2124 -

إِلَّا بِحَيْثُ الأَمْنِ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدْ

جَاهِلٌ الْوُجُوبَ فِيمَا يَعْتَمِدْ

2125 -

وَعِنْدَمَا كَانَ أَوْلُوا التَّصَوُّفِ

قَدْ جَاهَدُوا النُّفُوسَ فِي التَّصَرُّفِ

2126 -

وَخَرَجُوا فِي سَائِرِ الأُمُورِ

فِعْلًا وَتَعْلِيمًا عَنِ الْجُمْهُورِ

2127 -

كَانَ دُؤُوبُهُمْ عَلَى الْعِبَادَهْ

مُنَاسِبًا حَالَهُمُ الْمُعْتَادَهْ

2128 -

وَهُمْ أَهْمُّ حَالِهِمْ فِي الشَّأنِ

تَوْصِيَّةُ الأَتْبَاعِ بِالْكِتْمَانِ

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

2129 -

حَقِيقَةُ الْوَاجِبِ فِي اسْتِقْرَارِهِ

عَلَى لُزُومِ الْفِعْلِ وَاسْتِمْرَارِهِ

2130 -

فَلَا يُسَوَّى مَعَ الإِنْحِتَامِ

بِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الأحْكَامِ

2131 -

وَمِثْلُ ذَاكَ الْقَوْلُ فِي الْحَرَامِ

فِي حَتْمِ تَرْكِهِ عَلَى الدَّوَامِ

ص: 35

2132 -

وَذَاكَ ظَاهِرٌ وَلَكِنْ يُنْتَقَلْ

مِنْهُ لِمَعْنىً حُكْمُهُ بِهِ اتَّصَلْ

2133 -

وَذَاكَ أَنَّ الْوَاجِبَاتِ تَنْقَسِمْ

قِسْمَيْنِ مَا الْعِقَابُ فِيهِ يَنْحَتِمْ

2134 -

دُنْيَا عَلَى التَّرْكِ لَهُ وَثَانِ

مُخَالِفٌ لَهُ بِهَذَا الشَّانِ

2135 -

حَقِيقَةُ امْتِيَازِ قِسْمَيْهَا مَعَا

أَنْ لَّا يُسَوَّيَا بِحَيْثُ وَقَعَا

2136 -

وَالْحُكْمُ أَيْضًا فِي الْمُحَرَّمَاتِ

مِنْ جِهِة الْفِعْلِ عَلَيْهِ آتِ

2137 -

وَكُلُّ مَا يُحْذَرُ فِيمَا قَدْ مَضَا

مِنْ عَدَمِ الْبَيَانِ فِي ذَا مُقْتَضَا

2138 -

وَجُمْلَةُ الْمَاضِي مِنَ الأَدِلَّهْ

تُلْفَى هُنَا فِي الْحُكْمِ مُسْتَقِلَّهْ

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

2139 -

وَيَلْزَمُ الْبَيَانُ فِيمَا يَرْجِعُ

إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ حَيْثُ يَقَعُ

2140 -

بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كلمَا تَقَرَّرَا

فِيمَا يَلِي التَّكْلِيفَ حُكْمُهُ جَرَا

2141 -

فَحَيْثُ مَا قُرِّرَتِ الأسْبَابُ مَعْ

مُوَافِقِ الْفِعْلِ الْبَيَانُ قَدْ وَقَعْ

2142 -

وَإِنْ يَكُ الْفِعْلُ عَلَى خِلَافِ

تَقْرِيرِهَا ءَاذَنَ بِالتَّنَافِي

2143 -

وَمِثْلُهُ حَالُ الْبَيَانِ الْوَاقِعِ

لِمُقْتَضَى الشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ

2144 -

وَذَاكَ مَا دَلِيلُهُ بِخَافِ

فِي الشَّرْعِ فَالتَّنْبِيهُ فِيهِ كَافِ

2145 -

وَقَدْ أَتَى عَنِ الرَّسُولِ فِي الْخَبَرْ

إِعْمَالُهُ الرُّخْصَةَ فِي حَالِ السَّفَرْ

2146 -

حَتَّى لَقَدْ أَقَصَّ فِي الأَسْبَابِ

مِنْ نَفْسِهِ الْعَلِيَّةِ الْجَنَابِ

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

2147 -

مَا بَيَّنَ الرَّسُولُ لا إِشْكَالَ فِي

صِحَّتِهِ وَالْخُلْفُ فِيهِ مُنْتَفِ

2148 -

لأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ لِلْبَيَانِ

بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْقُرْآنِي

2149 -

وَمِثْلُهُ مَا أَجْمَعَ الصَّحَابَهْ

عَلَى بَيَانِهِ بِلَا اسْتِرَابَهْ

2150 -

وَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً مَا قَدْ صَدَرْ

مِنْ غَيْرِ إِجْمَاعٍ لَهُمْ فِيهِ نَظَرْ

ص: 36

2151 -

لَكِنَّ الاِعْتِمَادَ فِي الْبَيَانِ

عَلَيْهِمُ يَعْضُدُهُ أَمْرَانِ

2152 -

عِلْمُهُمْ بِمُقْتَضَى اللِّسَانِ

مِنْ جِهَةِ الأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِ

2153 -

وَكَوْنُهُمْ مُبَاشِرِي الْوَقَائِعِ

مُشَاهِدِي الْوَحْيِ بِكُلِّ وَاقِعِ

2154 -

فَهُمْ لِذَيْنِ أَقْعَدُ الْبَرِيَّهْ

بِالْفَهْمِ لِلْقَرَائِنِ الْحَالِيَّهْ

2155 -

فَحَيْثُ جَاءَ عَنْهُمْ تَبْيِينُ

حُكْمٍ فَالاِتِّبَاعُ مُسْتَبِينُ

2156 -

وَانْظُرْ لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ اعْتَبَرْ

فِي مُقْتَضَى السُّنَّةِ تَبْيِينَ الأَثَرْ

2157 -

هَذَا إِذَا لَمْ يُلْفَ مِنْ خِلَافِ

وَالإِجْتِهَادُ عِنْدَهُ يُوَافِي

2158 -

كَذَاكَ مَا يَكُونُ لَا يَفْتَقِرُ

لِذَيْنِكَ الأَمْرينِ فِيهِ يُنْظَرُ

2159 -

وَهَوَ مَحَلُّ الْخُلْفِ فِي التَّقْلِيدِ

لَهُمْ وَلَكِنْ مَعَ ذَا التَّقْيِيدِ

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

2160 -

وَإِنَّ الإِجْمَالَ لَغَيْرُ وَاقِع

فِي الشَّرْع بِالنُّصُوصِ فِي مَوْاضِعِ

2161 -

أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا لَا يَنْبَنِي

عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ لِأَمْرٍ بَيِّنِ

2162 -

وَذَاكَ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا

لَيْسَ يُطَاقُ وَامْتِنَاعُهُ سَمَا

2163 -

إِذْ لَيْسَ بِالْجَائِزِ فِي الْبَيَانِ

تَأْخِيرُهُ عَنْ حَاجَةِ الإِنْسَانِ

‌الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل

2164 -

أَدِلَّةُ الشَّرْعِ عَلَى التَّفْصِيلِ

أَرْبَعَةٌ بِنِسْبَةِ التَّأْصِيلِ

2163 -

أَوَّلُهَا الْكِتَابُ ثُمَّ السُّنَّهْ

فَالرَّأْيُ وَالإِجْمَاعُ بَعْدَهُنَّهْ

2166 -

وَقَدْ مَضَى فِي الرَّأْيِ وَالإِجْمَاعِ

رَدُّهُمَا لِقِسْمِ ذِي السَّمَاعِ

2167 -

فَلْنَقْتَصِرْ لِأَجْلِ ذَا مِنْهُنَّهْ

عَلَى الْكِتَابِ مُرْدَفًا بِالسُّنَّهْ

‌الدليل الأول: الكتاب

وفيه مسائل:

"‌

‌المسألة الأولى

"

2168 -

إِنَّ كِتَابَ اللهِ أُسُّ الْحِكْمَهْ

وَمَطْلَعُ الْهَدْي وَمَجْلَى الرَّحْمَهْ

ص: 37

2169 -

وَعُمْدَةُ الشَّرْعِ وَأَصْلُ الْمِلَّهْ

وَمَنْشَأُ الأحْكَامِ وَالأدِلَّهْ

2170 -

وَءَايَةُ التَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَهْ

وَالْمَلْجَأُ الْمُنْجِي مِنَ الضَّلَالَهْ

2171 -

فَوَاجِبُ الْمَعْنِيِّ بِالشَّرِيعَهْ

لُزُومُهُ فِي قَصْدِهِ ذَرِيعَهْ

2172 -

مُتَّخِذًا ءَايَاتِهِ سَمِيرَا

وَجَاعِلًا تَرْدَادَهُ هِجِّيرَا

2173 -

بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَا تَدَرُّبِ

فِيمَا يُهِمُّ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ

2174 -

وَلْيَعْضُدِ الْعِلْمَ بِهِ بِالْعَمَلِ

بِمُقْتَضَاهُ فَهْوَ قَصْدٌ أَوَّلي

2175 -

وَلْيَسْتَعِنْ بِالسُّنَّةِ الْمُبَيَّنَهْ

فِي فَهْمِهِ فَهْيَ لَهُ مُبَيِّنَهْ

2176 -

أَوْ لَا فَقَوْلُ سَابِقِي الأَئِمَّهْ

يَكْفِيهِ فِيمَا رَامَهُ وَأَمَّهْ

2177 -

وَهْوَ وإِنْ أَعْجَزَ كُلَّ الْعَرَبِ

جَارٍ عَلَى نَهْجِ اللِّسَانِ الْعَرَبِي

2178 -

لِذَاكَ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي الأحْكَامِ

إِعْجَازُهُ عَنْ مَدْرَكِ الأفْهَامِ

2179 -

وَذَا مِنَ الإِعْجَازِ وَجْهٌ مُعْتَلِ

وَالنَّصُّ فِي الأمْرَيْنِ ثَابِتٌ جَلِي

"‌

‌ المسألة الثانية

"

2180 -

مَعْرِفَةُ الأسْبَابِ لِلتَّنْزِيلِ

مُفِيدَةٌ أَكِيدَةُ التَّحْصِيلِ

2181 -

فَالْعِلْمُ بِالْبَيَانِ وَالْمَعَانِي

وَهْوَ يُرِى الإِعْجَازَ فِي الْقُرْءَانِ

2182 -

حَاصِلُهُ مَعْرِفَةُ الْخِطَابِ

بِمُقْتَضَى الأحْوَالِ وَالأسْبَابِ

2183 -

مِنْ حَيْثُ مَا يَرْجِعُ لِلْمُخَاطِبِ

أَوْ لِلْخِطَابِ أَوْ إِلَى الْمُخَاطَبِ

2184 -

أَوْ لِلْجَمِيعِ فَلِكُلِّ مَا قُصِدْ

فِيهِ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ اعْتُمِدْ

2185 -

إِذِ الْكَلَامُ حُكْمُهُ يَخْتَلِفُ

بِمَا إِلَى حَالَاتِهِ يَتَّصِفُ

2186 -

كمِثْلِ الاِسْتِفْهَامِ لَفْظٌ وَاحِدُ

تَدْخُلُهُ مِنْ أَجْلِهَا مَقَاصْد

2187 -

كَالزَّجْرِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّنْبِيهِ

وَمَا بِسَاطُ الْحَالِ يَقْتَضِيهِ

2188 -

فَالْفَهْمُ لِلْخِطَابِ بِاسْتِقْلَالِ

عُمْدَتُهُ مُقْتَضَيَاتُ الْحَالِ

2189 -

وَجَهْلُهَا يُوقِعُ فِي الإِشْكَالِ

وَاللَّبْسِ وَالإِبْهَامِ وَالإِجَمَالِ

ص: 38

2190 -

وَحَيْثُ لَا سَبَبَ لِلتَّنْزِيلِ

يَخْتَصُّ بِالْمَعْنَى عَلَى التَّفْصِيلِ

2191 -

يَرْجِعُ لاتِّبَاعِ عَادَاتِ الْعَرَبْ

وَمَالَهَا قَوْلًا وَقَصْدًا انْتَسَبْ

2192 -

وَذَاكَ مِمَّا يُوضِحُ الْمَعَانِي

وَيَرْفَعُ الإِشْكَالَ بِالْبَيَانِ

2193 -

فِي كُلِّ مَا جَاءَ مِنَ الآيَاتِ

وَمُقْتَضَاهُ مُفْهِمُ الْجِهَاتِ

2194 -

وَغَيْرُهُ يَجْرِي كَهَذَا الْمَجْرَا

مِثْلُ أَتِمُّوا الْحَجَّ رَبَّ الشِّعْرَا

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

2195 -

وَكُلُّ مَحْكِيٍّ لَدَى الْقُرْآنِ

رُدَّ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْبُطْلَانِ

2196 -

وَهْوَ كَثِيرٌ جَاءَ فِي ءَايَاتِ

وَالأَمْرُ فِيهِ وَاضِحُ الآيَاتِ

2197 -

وَكُلُّ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ رَدٌّ

فَهْوَ صَحِيحٌ وَبِهِ مُعْتَدٌّ

2198 -

دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ إِقْرَارُهُ

فَصَحَّ فِيمَا يَقْتَضِي اعْتِبَارُهُ

2199 -

إِذِ الْقُرْانُ شَأْنُهُ الْبَيَانُ

لِكُلِّ شَيْءٍ وَهْوَ الْفُرْفَانُ

2200 -

وَذَاكَ يَأْبى ذِكْرَ شَيْءٍ فِيهِ

غَيْرُ صَحِيحٍ دُونَ مَا تَنْبِيهِ

2201 -

وَأَنَّ ذَا الْقِسْمَ كَثِيرُ الأَمْثِلَهْ

مُجْمَلَةً جَاءَتْ وَغَيْرَ مُجْمَلَهْ

2202 -

كَقِصَصَ الرُّسْلِ وَالأَنْبِيَاءِ

عَلَى اخْتِلَافِهَا وَالأوْليَاءِ

2203 -

كَقِصَّةِ الْكَهْفِ وَمَا مَعْهَا ذُكِرْ

مِنْ أَمْرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَوْ أَمْرِ الْخَضِرْ

2204 -

وَلاطِّرَادِ هَذَا الأصْلِ اعْتَمَدَهْ

بَعْضٌ لِلاسْتِدْلَالِ فِيمَا قَصَدَهْ

2205 -

كَمِثْلِ مَا اسْتَدَلَ فِي وُقُوعِ

خِطَابِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِالْفُرُوعِ

2206 -

بِقَوْلهِ لَمْ نَكُ فِي الْمُدَّثِرِ

لِكَوْنِهِ مُقَرَّرًا لَمْ يُنْكَرِ

2207 -

كَذَاكَ لِلسُّنَّةِ فِيهِ مَدْخَلُ

إِذِ الرَّسُولُ بَاطِلًا لَا يَقْبَلُ

2208 -

فَكُلُّ مَا يَرَاهُ أَوْ مَا يَسْمَعُهْ

مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَهُ نَتَّبِعُهْ

2209 -

لَا كِنَّ مَا الْبُطْلَانُ فِيهِ بَيِّنُ

سُكُوتُهُ عُلَيْهِ مِمَّا يُمْكِنُ

2210 -

إِحَالَةً مِنْهُ عَلَى مَا بُيِّنَا

وَفِي الأُصُولِ حُكْمُ ذَا تَبَيَّنَا

ص: 39

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

2211 -

إِذَا أَتَى فِي السُّورِ التَّرْغِيبُ

قَارَنَهُ فِي الْغَالِبِ التَّرْهِيبُ

2212 -

إِمَّا مَعَ التَّأْخِيرِ إِمَّا تَبْدِئَهْ

كَذَا مَعَ التَّخْوِيفِ حَالَ التَّرْجِئَهْ

2213 -

وَمَا أَتَى مِنْ ذِكرِ أَهْلِ النَّارِ

مَعْ ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الأَبْرَارِ

2214 -

وَذَاكَ رَاجِعٌ فِي الاعْتِبَارِ

لِمُقْتَضَى التَّبْشِيرِ وَالإِنْذَارِ

2215 -

وَانْظُرْ فَفِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ

ذَاكَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخِطَابِ

2216 -

وَكَاد لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَا الشَّانِ

إِلَّا الْقَضَايَا اللَّاتِي لِلأَعْيَانِ

2217 -

كَقَوْلهِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَهْ

وَسُورَةُ الضُّحَى لِذَاكَ مُحْرِزَهْ

2218 -

وَهَذَا الإِقْتِرَانُ رُبَّمَا أَتَا

مَعَ فَاصِلٍ لِمَقْصِدٍ قَدْ ثَبَتَا

2219 -

وَقَدْ يَكُونُ مُقْتَضَى الأحْوَالِ

فِي جَانِبٍ مُتَّسِعَ الْمَجَالِ

2220 -

وَيَقَعُ الإِطْنَابُ فِي التَّخْوِيفِ

قَصْدًا إِلَى التَّأْنِيبِ وَالتَّعْنِيفِ

2221 -

عِنْدَ ظُهُورِ حَالِ الإِغْتِرَارِ

وَالصَّدِّ أَوْ مَظَنَّةِ الإِصْرَارِ

2222 -

وَيَقَعُ الإِطْنِابُ فِي التَّرْغِيبِ

بِقَصْدِ رَفْعِ الذَّمِّ وَالتَّثْرِيبِ

2223 -

عِنْدَ ظُهُورِ حَالَةِ الْقُنُوطِ

وَالْيَأْسِ أَوْ مَظِنَّةِ التَّقْنِيطِ

2224 -

كمِثْلِ مَا جَاءَ بِهُودٍ وَالزُّمَرْ

وَالْعَكْسُ فِي الأَنْعَامِ حُكْمُهُ ظَهَرْ

2225 -

وَمِنْ هُنَا يُوصَفُ بِاهْتِدَاءِ

مَنْ يَجْمَعُ الْخَوْفَ إِلَى الرَّجَاءِ

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

2226 -

إِنَّ كِتَابَ اللهِ فِي التَّعْرِيفِ

بِمُقْتَضَى الأَحْكَامِ فِي التَّكْلِيفِ

2227 -

أَكْثَرُهُ مَأْخَذُهُ كُلِّيُّ

فِي جُمْلَةِ الأُمُورِ لَا جُزْئِيُّ

2228 -

وَحَيْثُمَا قَدْ جَاءَ لِلْجُزْئِيِّ

مَأْخَذُهُ كَمَأْخَذِ الْكُلِّيِّ

2229 -

بِالإِعْتِبَارِ أَوْ بِمَعْنَى الأَصْلِ

إِلَّا الذِي خَصَّ دَلِيلُ النَّقْلِ

ص: 40

2230 -

لِذَا أَتَى بَيَانُهُ بِالسُّنَنِ

حَسَبَمَا يَأْتِي بِشَرْحٍ بَيِّنِ

2231 -

مَعْ كَوْنِهِ أَصْلًا لِمَا عَدَاهُ

حَسَبَمَا قُرِّرَ مُقْتَضَاهُ

2232 -

وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّنْزِيلِ

أَثْبَتَ هَذَا الْحُكْمَ بِالدَّلِيلِ

2233 -

فَجَعَلَ السُّنَّةَ فَرْعًا يُفْهَمُ

مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ وَمَا ءَاتَاكُمْ

2234 -

وَالإِذْنُ أَنْ يَّحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

بِمَا أَرَاهُ اللهُ لِلْقِيَاسِ

2235 -

كَذَلِكَ الإِجْمَاعُ مِنْ وَيَتَّبِعْ

غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَزعْ

2236 -

وَبَعْدَ ذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرْ

عَلَيْهِ فِي اسْتِنْبَاطِ حُكْمٍ بِالنَّظَرْ

2237 -

إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَا قَدْ بَيَّنَهْ

وَهْوَ اقْتِفَاءُ السُّنَّةِ الْمُبَيَّنَهْ

2238 -

فَلَا مَحِيصَ عَنْهُ فِي بَيَانِ

أُصُولِهِ الْجُمْلِيَّةِ الإِتْيَانِ

2239 -

وَمَا أَتَى فِي شَأْنِهِ عَنِ السَّلَفْ

إِنْ تُعْوَزِ السُّنَّةُ فِيهِ كَالْخَلَفِ

2240 -

ثُمَّ مَتَى أُعْوِزَ ذَا أَوِ انْتَفَا

فَهْمُ اللِّسَانِ الْعَرَبِي يُقْتَفَا

"‌

‌ المسألة السادسة

"

2241 -

ثُمَّ عَلَى ذَاكَ فَفِي الْقُرْآنِ

لِكُلِّ شَيْءٍ غَايَةُ الْبَيَانِ

2242 -

فَعَالِمٌ بِهِ عَلَى الإِطْلَاقِ

بِالشَّرْعِ عَالِمٌ بِالاِسْتِحْقَاقِ

2243 -

لِمَا أَتَى فِيهِ وَفِي الآثَارِ

وَمُقْتَضَى التَّجْرِيبِ ذُو اعْتِبَارِ

2244 -

وَإِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الاِسْتِدْلَالِ

مَا جَاءَ فِي الْحَمْلِ وَفِي الْفِصَالِ

2245 -

وَبِاعْتِبَارِ ذَاكَ كُلُّ مَسْأَلَهْ

يُقْصَدُ لاقْتِنَاصِهَا مُفَصَّلَهْ

2246 -

لَا بُدَّ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْقُرْآنِ

لِأَصْلِهَا وَمَا اقْتَضَى مِنْ شَانِ

2247 -

فَإِنْ بَدَا نَصٌّ عَلَى الْعَيْنِ اقْتُفِي

أَوْ لَا فَبِالنَّوْعِ أَوِ الْجِنْسِ اكْتُفِي

"‌

‌ المسألة السابعة

"

2248 -

وَللْقُرْآنِ تَنْتَمِي عُلُومُ

لَاكِنَّهَا يُلْفَى لَهَا تَقْسِيمُ

ص: 41

2249 -

قِسْمٌ مُعِينٌ فِيهِ كَالأَدَاة

لِفَهْمِهِ كالنَّحْوِ وَاللُّغَاتِ

2250 -

وَكَالْقِرَاءَاتِ وَكَالأُصُولِ

وَالنَّسْخِ وَالأَسْبَابِ لِلتَّنْزِيلِ

2251 -

وَذَاكَ لَا نَظَرَ فِيهِ هَا هُنَا

وَإِنَّمَا سِيقَ لِأَنْ يُبِيَّنَا

2252 -

أَنَّ مِنَ الْعُلُومِ مَا يُعَدُّ

وَسِيلَةً وَمَا لِذَاكَ قَصْدُ

2253 -

كَالطِّبِّ وَالْمَنْطِقِ وَالْحِسَابِ

وَكالنُّجُومِ وَكَالإِصْطِرْلَابِ

2254 -

وَشَاهِدُ الْخَصْمَيْنِ شَأنُ السَّلَفِ

وَإِنَّهُ لَغَايَةٌ لِلْمُنْصِفِ

2255 -

وَقِسْمُهَا الثَّانِي هُوَ الْعِلْمُ بِمَا

يُؤخَذُ مِنْ جُمْلَتِهِ مُتَمِّمَّا

2256 -

مِنْ حَيْثُ مَا هُوَ كَلَامٌ لَا سِوَا

لَا مِنْ تَفَاصِيلَ عَلَيْهِنَّ احْتِوَا

2257 -

وَذَاكَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَهْ

عَلَى ثُبُوتِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَهْ

2258 -

بِكَوْنِهِ مُعْجِزَةَ الرَّسُولِ

بِمُقْتَضَى الْجُمْلَةِ لَا التَّفْصِيلِ

2259 -

إِذْ وَقَعَ التَّنْبِيهُ فِي الاِعْجَازِ

بِسُورَةٍ لَا عَلَى الاِمْتِيَازِ

2260 -

وَوَجْهُ أَنْ أَعْجَزَ كُلَّ اللُّسَنَا

لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ لِتَقْرِيرٍ هُنَا

2261 -

وَلَيْسَ فِي ذَا الْقِسْمِ هَا هُنَا نَظَرْ

وَكُتُبُ الْكَلَامِ فِيهِ تُعْتَبَرْ

2262 -

وَثَالِثٌ يُدْرَى مِنَ التَّنْبِيهِ

لِعَادَةٍ اللهِ تَعَالَى فِيهِ

2263 -

بِحَسَبِ الإِنْزَالِ وَالْخِطَابِ

بِمُقْتَضَاهُ لِأُولِي الأَلَبَابِ

2264 -

مِنْ جِهَةِ التَّقْرِيبِ لِلتَّفْهِيمِ

وَالْقَصْدِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ

2265 -

وَذَا لَهُ قَوَاعِدٌ أَصْلِيَّهْ

فِي طَيِّهَا فَوَائِدٌ فَرْعِيَّهْ

2266 -

وَهَا أَنَا أُورِدُ مِنْهَا أَمْثِلَهْ

تُوضِحُ مِمَّا نُصَّ فِيهِ مُجْمَلَهْ

2267 -

مِنْ ذَلِكَ الإِنْذَارُ لِلْعَبِيدِ

مِنْ قَبْلِ أَخْذِ وَقْعِهِ الشَّدِيدِ

2268 -

وَمِنْهُ الإِبْلَاغُ وَالإِسْتِقْصَاءُ

فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ لِلْمُكَلَّفِ

2269 -

وَالتَّرْكُ لِلَاخْذِ بِذَنْبٍ أَوَّلِ

وَعَدَمُ التَّعْجِيلِ لِلْمُسْتَعْجِلِ

2270 -

كَذَا التَّأَنِّي فِيهِ وَالتَّثَبُّتُ

وَحَالُ الاِنْزَالِ لِذَاكَ مُثْبِتُ

ص: 42

2271 -

وَالْقَصْدُ لِلتَّحْسِينِ لِلْعِبَارَهْ

كمِثْلِ مَا فِي مُوجِبِ الطَّهَارَهْ

2272 -

وَغَيْرهُ وَمَا اقْتَضَى وُضُوحَا

فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ أَتَى تَصْرِيحَا

2273 -

وَمِنْهُ كَيْفِيَّةُ الأَخْذِ فِي الدُّعَا

للهِ جَلَّ وَعَلَا تَضَرُّعَا

2274 -

وَالْقَصْدُ لِلتَّقْدِيمِ لِلْوَسِيلَهْ

فِيمَا يُرِيدُ بَعْدَهَا حُصُولَهْ

2275 -

وَمُقْتَضَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ

وَغَيْرِهَا دَلِيل هَذَا الْبَابِ

2276 -

وَالْقَصْدُ لِلنِّدَاءِ دونَ حَرْفِ

بِلَفْظِ رَبِّ الْمُقْتَضِي لِلْعَطْفِ

2277 -

لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ اسْتِشْعَارِ

قُرْبِ الْمُنَادَى عَالِمِ الأَسْرَارِ

2278 -

وَقَدْ مَضَى مِنْ قَبْل فِي شَأْنِ النِّدَا

وَالاِلْتِفَاتِ مَا يُوَفِّي الْمَقْصِدَا

2279 -

وَقِسْمُهَا الَاوَّلُ قِسْمُ الْعَمَلِ

وَقَصْدُهُ بِالذِّكْرِ قَصْدٌ أَوَّلِي

2280 -

وَهْوَ الذِي بَيَّنَ أَهْل الْعِلْمِ

وَعَرَّفوا بِمَا لَهُ مِنْ حُكْمِ

2281 -

أَخْذًا مِنَ النُّصُوصِ فِي الْكِتَابِ

بِالنُّطْقِ وَالْمَفْهُومُ فِي الْخِطَابِ

2282 -

بِمَا يُؤَدِّيهِ وَيَقْتَضِيهِ

فَهْمُ اللِّسَانِ الْعَرَبيِّ فِيهِ

2283 -

وَذَاكَ مُحْتَوٍ عَلَى عُلُومِ

ثَلَاثَةٍ بَيِّنَةِ التَّقْسِيمِ

2284 -

أَحَدُهَا مَعْرِفَةُ الْمَعْبُودِ

وَمَنْ لَهُ تَوَجُّهُ الْعَبِيدِ

2285 -

ثَانٍ لَهُ مَعْرِفَةُ الْكَيْفِيَّهْ

فِيمَا بِهِ تَوَجُّهُ الْبَرِيَّهْ

2286 -

ثَالِثُهَا مَعْرِفَة الْمَئَالِ

لِمَا بِهِ نَتِيجَةُ الأَعْمَالِ

2287 -

وَكُلُّهَا تَدْخُل تَحْتَ جِنْسِ

الْجِنُّ مَخْلُوقٌ لَهُ كَالإِنْسِ

2288 -

أَعْنِي بِهِ التَّعَبُّدَ الْمَطْلُوبَا

وَهْوَ لَهَا مُسْتَلْزِمٌ وُجُوبَا

2289 -

مِنْ حَيْث لَا يَعْبُدُ مَنْ لَا يَعْرِفُ

وَعِنْدَمَا يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُ

2290 -

وَأَنَّهُ النَّاهِي لَهُ وَالآمِرُ

وَحَقُّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ظَاهِرٌ

2291 -

مَرْجِعُهُ لِجهَةِ التَّعَبُّدِ

احْتَاجَ لِلْعِلْمِ بِهَذَا الْمَقْصِدِ

2292 -

ثمُّ النُّفُوسُ ذَاتُ طَبْعِ حَالِ

طَالِبَةٌ نَتَائِجَ الأَعْمَالِ

ص: 43

2293 -

فَكَانَ ذَا مُسْتَدْعِى الْخِطَابِ

لِأَنْ يَنُصَّ حَالَةَ الْمَئَابِ

2294 -

فَأَوَّلٌ يَشْمَلُ عِلْمَ الذَّاتِ

وَالْعِلْمَ بِالَافْعَالِ وَالصِّفَاتِ

2295 -

وَمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَيْنِ مِنْ

أَمْرُ النُّبُوَّاتِ التِي لَهَا رُكِنْ

2296 -

فَهْيَ وَسَائِطٌ لَدَى الْوُجُودِ

بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ وَالْمَعْبُودِ

2297 -

وَكُلُّ أَصْلٍ ثَابِتٍ لِلدِّينِ

عِلْمِيًّا أَوْ لِلْفِعْلِ بِالتَّعْيِينِ

2298 -

وَذَا بِهِ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ

لِمُبْطِلٍ مُكَمِّلٍ لِلشَّانِ

2299 -

وَالثَّانِ مَا يَشْمَلُ فِي التَّعْرِيفِ

لِكُلِّ مَا يَرْجِعُ للِتَّكْلِيفِ

2300 -

مِنَ الْعِبَادِيَاتِ وَالْعَادَاتِ

وَشَامِلٌ جِنْسَ الْمُعَامَلَاتِ

2301 -

وَكُلُّ مَا يُتْبَعُ لِلتَّكْمِيلِ

مِنَ الْكِفَايَاتِ عَلَى التَّفْصِيلِ

2302 -

وَأَصْلُهُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ

وَعَكْسِهِ وَمُحْكَمِ التَّصْرِيفِ

2303 -

وَالثَّالِثُ الشَّامِلُ فِيهِ النَّظَرُ

مَوَاطِنًا ثَلَاثَةً تُعْتَبَرُ

2304 -

أَحَدُهَا الْمَوْتُ وَمَا يَلِيهِ

ثَانٍ لَهُ الْعَرْضُ وَمَا يَحْوِيهِ

2305 -

وَثَالِثٌ مَنْزِلُ الإِسْتِقْرَارِ

فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ أَوْ فِي النَّارِ

2306 -

وَإِنَّ هَذَا الْجنْسَ فِي التَّرْغِيبِ

تَكْمِيلُهُ وَمُقْتَضَى التَّرْهِيبِ

2307 -

وَمِنْهُ الإِخْبَارُ عَنِ النَّاجِينَا

وَمُنْتَهَاهُمْ وَالْمُكَذِّبِينَا

2308 -

فَذَاكَ مَا مِنَ الْقُرْآنِ قَدْ ظَهَرْ

فَانْحَصَرَتْ عُلُومُهُ فِي اثْنَيْ عَشَرْ

2309 -

لَاكِنَّهَا قَدْ رَدَّهَا الْغَزَالِي

لِسِتَّةٍ تَأْتِي عَلَى الإِجْمَالِ

2310 -

ثَلَاثَةٌ سَوَابِقٌ مُهِمَّهْ

وَمِثْلُهَا تَوَابِعٌ مُتِمَّهْ

2311 -

مَعْرِفَةُ الْمَعْبُودِ وَالتَّوَجُّهِ

إِلَيْهِ وَالْمَئَالُ حَيْثُ يَنْتَهِى

2312 -

وَقِصَصُ الْمُجِيبِ وَالْمُعَانِدِ

وَرَدُّ كُلِّ بَاطِلٍ وَفَاسِدِ

2313 -

وَعِلْمُ كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الزَّادِ

لِلسَّفَرِ الْمُفْضِي إِلَى الْمَعَادِ

ص: 44

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

2314 -

وَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَنْهُ صَادِرُ

أَنْ لِلْقُرْانِ بَاطِنٌ وَظَاهِرُ

2315 -

مُسْتَنِدًا فِيهِ لِمُرْسَلِ الْخَبْر

وَمَا مِنَ التَّفْسِيرِ فِيهِ قَدْ صَدَرْ

2316 -

فَمِنْهُ أَنَّ بَاطِنِ الْكِتَابِ

فَهْمُ مُرَادِ اللهِ بِالْخِطَابِ

2317 -

وَالظَّاهِرُ التِّلَاوَةُ الْمُجَرَّدَهْ

دُونَ تَعَقُّلٍ لِمَا قَدْ قَصَدَهْ

2318 -

وَمَا أَتَى مِنْ طَلَبِ التَّدَبُّرِ

ءَايَاتِهِ بِصِحَّةِ الْفَرْقِ حَرِ

2319 -

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَا مَعْنَاهُ

الظَّاهِرُ الْمُفْهِمُ مَا اقْتَضَاهُ

2320 -

وَالْبَاطِنُ الْمَعْنِيُّ سرُّ الْحَقِّ

يُوتِيهِ مَنْ يَخْتَصُّهُ فِي الْخَلْقِ

2321 -

فَإِنْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِ مُدَّعِيهِ

مَا مَرَّ فَهْوَ لَا نِزاعَ فِيهِ

2322 -

وَإِنْ يَكُنْ مَقْصِدُهُ سِوَاهُ

طُولِبَ بِالدَّلِيلِ فِي دَعْوَاهُ

2323 -

وَلَيْسَ يَكْفِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلُ

بَلْ مَا عَلَى الْقَطْعِ لَهُ تَنَزُّلُ

2324 -

وَكْم مِثَالٍ ثَابِت التَّقْرِيرِ

مُصَحِّحٍ لِسَابِقِ التَّفْسِيرِ

2325 -

مِنْ ذَاكَ مَا فِي سُورَةِ النَّصْرِ وَفِي

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ مِن النَّعْي الْخَفِي

2326 -

لِذَا بَكَى لِآيَةِ الإِكْمَالِ

عُمَرُ لاسْتِشْعَارِهِ بِالْحَالِ

2327 -

وَالذَّمُّ لِلْكُفَّارِ فِي مَوَاطِنِ

بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الأَمْرِ الْبَاطِنِ

"‌

‌ فصل

"

2328 -

وَدَاخِلٌ فِي الظَّاهِرِ الْمُفَسَّرِ

بِمُقْتَضَى إِطْلَاقِهِ الْمُقَرَّرِ

2329 -

جَمِيعُ مَا يَرْجِعُ لِلِّسَانِ

مِنْ مَقْصِدٍ مَلْحَظُهُ بَيَانِي

2330 -

كَفَهْمِ مَعْنَى ضَيِّقِ وَضَائِقْ

فِي مَوْضِعِيهِمَا لأَمْرٍ فَارِقٍ

2331 -

وَمُقْتُضَى النِّدَاءِ لِلتَّفْهِيمِ

عَلَى الْخُصُوصُ أَوْ عَلَى التَّعْمِيمِ

2332 -

وَالنَّصْبُ فِي قَالُوا سَلَامًا وَحْدَهْ

وَالرَّفْعُ فِي قَالَ سَلَامٌ بَعْدَهْ

ص: 45

2333 -

وَمَا بِسَوْقِ الاِسْمِ وَالْفِعْلِ لَدَا

تَذَكَّرُوا وَمُبْصِرُونَ قَصَدَا

2334 -

وَمَيْزُ مَا يُفِيدُ قَصْدَ الْوَصْلِ

بِحَيْثُ مَا جَاءَ وَقَصْدَ الْ‌

‌فَصْلِ

2335 -

وَالْفَرْقُ مَا بَيْنَ إِذَا وَإِنْ وَمَا

بَعْد مِنَ الْجَوَابِ يَأْتِي بِهِمَا

2336 -

وَغَيْر هِذِه مِنَ الْمَعَانِي

الْمُسْتَفَادَاتِ مِنَ الْبَيَانِ

2337 -

وَمِنْ هُنَا يَقُولُ بَعْضُ الْعُلَمَا

إِعْجَازُهُ إِلَى الْفَصَاحَةِ انْتَمَا

2338 -

وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ

وَمَا عَلَى الْعِبَادِ لِلْمَعْبُودِ

2339 -

فَإِنَّهُ بَاطِنُهُ الْمُرَادُ

وَبِالذِي قْد مَرَّ الاِسْتِشْهَادُ

2340 -

وَمِثْلُ مَفْهُومِ أَبِي الدَّحْدَاحِ فِي

مَنْ ذَا الذِي يُقْرِضُ فِي الْمَعْنَى حَفِي

2341 -

لَا مِثْلَ مَفْهُومِ الْيَهُودِ

فِيِه تَبًّا لَهُمْ فِي الْقَصْدِ لِلتَّشْبِيهِ

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

2342 -

وَكَوْنُ مَفْهُومِ اللِّسَانِ الْعَرَبي

ظَاهْرهُ غَيْرُ خَفِي السَّبَبِ

2343 -

فَمَا بِهِ اسْتُنْبِطَ غَيْرُ جَارِ

عَلَى لِسَانِ الْعُرْبِ بِاعْتِبَارِ

2344 -

فَلَيْسَ مِنْ عُلُومِهِ وَالْمُدَّعِي

لِذَاكَ مُبْطِلٌ وَغَيْرُ مُتْبَعِ

2345 -

سَواءً اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَوْ بِهِ

كَمَنْ نِكَاحُ التِّسْعِ مِنْ مَذْهَبِهِ

" فصل"

2346 -

وَكَوْنُ مَا يُرَادُ فِي الْخِطَابِ

بَاطِنُهُ بَادٍ إِلَى الأَلْبَابِ

2347 -

بِمَا مَضَى لَكِنْ لَهُ شَرْطَانِ

صِحَّتُهُ بِمُقْتَضَى اللِّسَانِ

2348 -

وَشَاهِدٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ مِنْ ظَاهِرِ

دُونَ مُعَارِضٍ لَهُ فِي الظَّاهِرِ

"‌

‌ تكميل

"

2349 -

بَعْضُ التَّفَاسِيرِ بِإِشْكَالٍ صَدَرْ

مِنْ ذَاكَ تَفْسِيرُ فَوَاتِحِ السُّوَرْ

2350 -

قِيلَ أُشِيرَ لِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ

إِنْ كَانَتِ الأَصْلُ لِوَضْعِ الْكَلِمِ

ص: 46

2351 -

وَقِيلَ بَلْ إِشَارَةٌ إِلَى عَدْد

جَاءَ لِتَنْبِيهٍ بِهِ عَلَى مُدَدْ

2352 -

وَذَا وَإِنْ مَعْنَاهُ جَاءَ فِي السِّيَرِ

مُحْتَمِلٌ لِلْبَحْثِ فِيهِ وَالنَّظَرِ

2353 -

وَقِيلَ فِيهَا إِنَّهَا حُرُوفُ

آتٍ لِأَسْمَاءٍ بِهَا تَعْرِيفُ

2354 -

وَإِنَّهُ لأَغْمَضُ الأَقْوَالِ

لِبُعْدِهِ عَنْ حَالِ الاِسْتِعْمَالِ

2355 -

وَقِيلَ فِيهَا إِنَّهَا أَسْرَارُ

للهِ عِلْمُهَا وَذَا الْمُخْتَارُ

2356 -

لِعَدِّهَا فِي الْمُتَشَابِهَاتِ

إِذْ لَا دَلِيلَ بِالْبَيَانِ آتٍ

2357 -

وَمَعَ الإشْكَالِ فَقْد تَعَدَّا

قَوْمٌ بِهَا فِيمَا رَأَوْهُ الْحَدَّا

2358 -

فَكُلُّ مَا يُنْسَبُ لِلْحُرُوفِ

مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ وَالتَّصْرِيفِ

2359 -

جَمِيعُهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلِ

خَارِجَةُ الْقَصْدِ عَنِ السَّبِيلِ

"‌

‌ فصل

"

2360 -

وَغَيْرُهَا مِنَ التَّفَاسِيرِ التِي

تُرْوَى وَمِنْ نَافٍ لَهَا وَمُثْبِتِ

2361 -

لَا بُدَّ مِنْ أَصْلٍ هُنَا يُوَالِي

يَرْفَعُ عَنْهَا وَاقِع الإِشْكَالِ

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

2362 -

وَمَا اعْتِبَارَاتُ الْقُرْآنِ الْوَارِدَهْ

عَلَى الْقُلُوبِ ذَاتُ حَالٍ وَاحِدَهْ

2363 -

لَكِنْ إِذَا صَحَّتْ عَلَى وِزَانِ

شُرُوطِهَا كَانَ لَهَا حَالَانِ

2364 -

حَالٌ يُرَى وَأَصْلُ الاِنْفِجَارِ

مِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ فِيِه جَارِ

2365 -

وَيَتْبَعُ الْوُجُودُ فَهْوَ مُعْتَبَرْ

فِي فَهْمِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ لَا نَظَرْ

2366 -

ثَانِيهِمَا مَا الأَصْلُ فِي انْفِجَارِهِ

مِنْ جِهَةِ الْمَوْجُودِ فِي اعْتِبَارِهِ

2367 -

وَيَتْبَعُ الْقُرْآنُ لِلْمَوْجُودِ

فِي الاِعْتِبَارِ الْوَارِدِ الْوُجُودِي

2368 -

فَذَا بِهِ الْوَقْفُ السَّبِيلُ الْمَهْيَعُ

وَالأَخْذُ مُطْلَقًا بِهِ مُمْتَنِعُ

2369 -

فَإِنْ أَتَى التَّفْسِيرُ عَنْ مُعْتَبِرِ

عَلَى خِلَافِ شَرْطِهِ الْمُقَرَّرِ

ص: 47

2370 -

وَلَمْ يَكُنْ يَجْرِي عَلَى الْمَعْهُودِ

فَهْوَ مُنَزَّلٌ عَلَى الْوُجُودِي

"‌

‌‌

‌ فصل

"

2371 -

وَفِيهِ لِلسُّنَّةِ أَيْضًا مَدْخَلُ

لِكَوْنِهَا لِلْحَالَتَيْنِ تَقْبَلُ

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

2372 -

وَيَنْبَغِي تَنْزِيلُ كُلِّ الْمَدَنِي

فَهْمًا عَلَى الْمَكِّي كَالْمُبَيِّنِ

2373 -

وَرَعْيُ ذَا وَذَا عَلَى التَّفْصِيلِ

بِحَسَبِ التَّرْتِيبِ فِي التَّنْزِيلِ

2374 -

إِذْ غَالِبٌ فِيمَا لَهُ التَّأْخِيرُ

تَكْمِيلٌ أَوْ تَفْصِيلٌ أَوْ تَفْسِيرُ

2375 -

أَلَا تَرَى أَكْثَرَ ءَايِ الْبَقَرهْ

لِسُورَةِ الأَنْعَامِ كَالْمُفَسِّرَهْ

" فصل"

2376 -

كَذَلِكَ السُّنَّةُ فِي ذَا الْبَابِ

مِنْ مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ كَالْكِتَابِ

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

2377 -

وَأَعْدَلُ التَّفْسِيرِ ذُو التَّوَسُّطِ

وَمُفْرِظ قَدْ ذُمَّ كَالْمُفَرِّطِ

2378 -

وَذَاكَ كَانَ فِيهِ شَأْنَ السَّلَفِ

الْمُقْتَدَى بِحَالِهِمْ فِي الْخَلَفِ

2379 -

وَالْمُفْرِطُ الذِي لَهُ تَعَمُّقُ

فِي جِهَةِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يَسْبِقُ

2380 -

لِلْفَهْمِ أَنَّ شَأْنَهُ لَمْ يُقْصَدِ

لَمَّا تَرَامَى لِمَدىً مُسْتَبْعَدِ

2381 -

ثُمَّ الْمُفَرِّطُ الذِي قَدْ قَصَرَا

عَنِ اللِّسَانِ الْعَرَبيِّ نَظَرَا

"‌

‌ المسألة الثالثة عشرة

"

2382 -

وَحَالَةُ التَّوَسُّطِ الْمَحْمُودِ

حَاصِلُهَا فِي الْفَهْمِ لِلْمَقْصُودِ

2383 -

مِنْ حَيْثُ الاِعْتِبَارُ لِلْمَسَاقِ

بِمُقْتَضَى الْحَالِ عَلَى الإِطْلَاقِ

2384 -

مَعَ الْتِفَاتِ ءَاخِرِ الْكَلَامِ

بِأَوَّلٍ وَالْبَدْءِ بِالتَّمَامِ

ص: 48

2385 -

لَكِنْ عَلَى بَعْضٍ لَهُ قَدْ يُقْتَصَرْ

حَيْثُ يُرَى الظَّاهِرُ مَقْصُودَ النَّظَرْ

2386 -

ثُمَّ إِذَا مَا صَحَّ فِي اللِّسَانِ

صِيرَ إِلَى تَفَهُّمِ الْمَعَانِي

2387 -

وَسَبَبُ التَّنْزِيلِ فِي ذَا الْمَقْصِدِ

مِمَّا بِهِ النَّاظِرُ فِيهِ يَهْتَدِي

2388 -

ثُمَّ الْكَلَامُ الْمُقْتَضِي لِلنَّظَرِ

فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ لِلْمُعْتَبِرِ

2389 -

مُتَّحِدٌ بِكُلِّ وَجْهٍ وَهْوَ مَا

أُنْزِلَ فِي قَضِيَّةٍ مُتَمِّمَا

2390 -

كَأَكْثَرِ السُّوَرِ فِي الْمُ‌

‌فَصَّلِ

وَالأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ جَلِي

2391 -

أَوْ مُتَعَدِّدٌ وَذَاكَ مَا أَتَتْ

فِيهِ قَضَايَا جُمْلَةٌ تَعَدَّدَتْ

2392 -

وَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ شَأْنُهُ اعْتُبِرْ

مِنْ جِهَةِ التَّعَدُّدِ الذِي ذُكرْ

2393 -

فَكُلُّ قِصَّةٍ تُخَصُّ بِنَظْر

وَالْفِقْهُ إِذْ ذَاكَ الْتِمَاسُهُ ظَهَرْ

2394 -

عَلَى سَبِيلٍ وَاضِحِ الْبَيَانِ

وَمِثْلُهُ الأَوَّلُ فِي ذَا الشَانِ

2395 -

أَوْ جِهَةُ النَّظْمِ الْمُقَرِّ فِي السُّوَرْ

وَحْيًا وَلَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْبَشَرْ

2396 -

وَقِسْمُهُ الأوَّلُ فِيهِ مِثْلُهُ

إِذْ كَانَ بِالْوَحْيِ كَذَاكَ أَصْلُهُ

2397 -

وَلَا الْتِمَاسَ فِيهِمَا لِلْفِقْهِ بَلْ

عَلَى مَدَى الإِعْجَازِ ذَلِكَ اشْتَمَلْ

2398 -

إِذًا فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى السُّوَرِ

إِلَّا مَعَ اسْتِيفَائِهَا بِالنَّظَرِ

2399 -

كَذَاكَ لَا يَحْصُلُ مَعْنَى آيَهْ

فِي قِصَّةٍ إِلَّا مَعَ النِّهَايَهْ

2400 -

فَصَحَّ أَنْ لَا بُدَّ فِي الْكَلَامِ

مِنِ اعْتِبَارِ الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ

" فصل"

2401 -

وَكُلُّ مَا مَرَّ مِنَ التَّعَدُّدِ

بِنِسْبَةِ الْخِطَابِ لِلتَّعَبُّدِ

"‌

‌ المسألة الرابعة عشرة

"

2402 -

الرَّأْيُ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ ذَمُّهُ

وَالْمُقْتَضِي لَهُ جَلِيٌّ حُكْمُهُ

2403 -

وَالْقَوْلُ أَنَّ الرَّأْيَ فِي الْقُرْآنِ

عِنْدَ اعْتِبَارِ شَأْنِهِ ضَرْبَانِ

ص: 49

2404 -

ضَرْبٌ لأهْلِ الْعِلْمِ حُكْمُهُ اجْتُبِي

وَهْوَ الْمُوَافِقِ اللِّسَانِ الْعَرَبي

2405 -

وَمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ

فَقَصْدُ ذَا مُفْضٍ إِلَى الصَّوَابِ

2406 -

وَالأَمْرُ فِيهِ وَاضِحُ السَّبِيلِ

وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى دَلِيلِ

2407 -

وَغَيْرُ ذَا يُعَدُّ فِي الْمَذْمُومِ

وَهْوَ مُرَادُ مُقْتَضَى الْعُمُومِ

"‌

‌ فصل

"

2406 -

وَيُسْتَفَادُ مِنْ هُنَا أُمُورُ

أَكِيدَةٌ يَاتِي لَهَا تَقْرِيرُ

2407 -

مِنْهَا التَّحَفُّظُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَا

غَيْرِ بَيَانِ وَاتِّبَاعِ مَا انْجَلَا

2408 -

وَأَنَّ مَنْ يَتْرُكُ فِيهِ نَظَرَهْ

بِرَأْيِهِ مُعْتَمِدًا مَنْ فَسَّرهْ

2409 -

فِي سَعَةٍ مِنْ ذَاكَ إِلَّا إِنْ دَعَتْ

ضَرُورَةٌ لَهُ فَحُكْمُهُ ثَبَتْ

2410 -

وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ لِلْمُفَسِّرِ

بُعْدٌ عَنِ التَّقْصِيدِ فِي الْمُفَسَّرِ

2411 -

وَلْيَخْشَ فِيهِ الله مِنْ أَنْ يَسْئَلَهْ

فَلَا يُصِيبُ حُجَّةً فِي الْمَسْأَلَهْ

2412 -

ثُمَّ لَهُ فِي الاِحْتِمَالَاتِ سَعَهْ

وَهْوَ سَبِيلُ مَنْ مَضَى الْمُتَّبَعَهْ

"‌

‌ الدليل الثاني: السنّة" وفيه مسائل:

"‌

‌ المسألة الأولى

"

2415 -

وَتُطْلَقُ السُّنَّةُ إِطْلَاقَاتِ

أَوَّلُهَا عَلَى الْحَدِيثِ الآتِي

2416 -

عَنِ الرَّسُولِ كَانَ مِنْ مُبَيَّنِ

بِهِ الْكِتَابُ أَوْ سِوَى مُبَيَّنِ

2417 -

وَتَارَةً يَكُونُ لَفْظُ السُّنَّةِ

إِطْلَاقُهُ مُقَابِلًا لِلْبِدْعَةِ

2418 -

وَتَارَةً يُطْلَقُ وَالْمُرَادُ

مَا فِيهِ لِلصَّحَابَةِ اجْتِهَادُ

2419 -

وَوَقَعَ الإِجْمَاعُ فِيهِ فَاقْتُفِي

كَالْحَدِّ فِي الْخَمْرِ وَجَمْعِ المُصْحَفِ

2420 -

وَأَصْلُ الاِسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ

لِذَاكَ رَاجِعٌ بِأَمْرٍ وَاضِحِ

2421 -

وَالْخُلَفَاءُ مِنْ هُدَاةِ الأُمَّةِ

لِقَوْلهِ عَلَيْكُمُ بِسُنَّتِي

ص: 50

2422 -

فَصَحَّ أَنَّ السُّنَّةَ الْمُتَّبَعَهْ

بِأَمْرِهِ مَحْصُورَةٌ فِي أَرْبَعَهْ

2423 -

فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَمَا أَقَرّ

وَمَا عَنْ اِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ اسْتَقَرّ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

2424 -

وَأَنَّ لِلسُّنَّةِ عِنْدَ النَّظَرِ

وَالاِعْتِبَارِ رُتْبَةَ التَّأَخُّرِ

2425 -

عَنِ الْكِتَابِ بِالدَّلِيلِ الْمُعْتَبَرْ

مِنْ مُقْتَضَى الأَخْبَارِ فِيهِ وَالأَثَرْ

2426 -

وَمَعَ ذَا فَهْيَ لَهُ مُبَيِّنَهْ

وَمَا أُبِينَ سَابِقٌ مَا بَيَّنَهْ

2427 -

وَذَا الْمُرَادُ بِقَضَاءِ السُّنَّةِ

عَلَيْهِ فِي الْمَنْقُولِ لِلأَئِمَّةِ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

2428 -

وَبَعْدُ فَالسُّنَّةُ فِي مَعْنَاهَا

إِلَى الْكِتَابِ بَيِّن رُجْعَاهَا

2429 -

لِمَا لَهَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ

وَالْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ لِلْمَعَانِي

2430 -

وَذَا بِالاِسْتِقْرَاءِ مَعْ أَدِلَّهْ

لَا يَنْتَمِي وَاضِحُهَا لِقِلَّهْ

2431 -

فَهْيَ بَيَانُهُ عَلَى التّفْصِيلِ

وَهْوَ لِمَا يُبْدِيهِ ذُو شُمُولِ

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

2432 -

لِلنَّاسِ فِي السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ

مَئَاخِذُ عَتِيدَةُ الصَّوَابِ

2433 -

مِنْهَا اعْتِبَارُ الشَّاهِدِ الْقُرْآنِي

فِي صِحَّةِ السُّنَّةِ فِي الْمَعَانِي

2434 -

مِثْلُ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ

فَهْوَ عَلَى مَا تَقْتَضِي دَلِيلُ

2435 -

لِأنَّهُ الأَصْلُ لِمَا قَدْ مَرَّا

وَذَا لِبَعْضِ السَّلَفِ اسْتَقَرَّا

2436 -

وَهْوَ قَرِيبٌ مِنَ الاِسْتِدْلَالِ

أَوْ هُوَ نَفْسُهُ عَلَى الإِعْمَالِ

2437 -

ثَانٍ لَهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَا

الأَخْذُ لِلسُّنَّةِ تَبْيِينًا لِمَا

2438 -

جَاءَ عَلَى الإِجْمَالِ فِي الْكِتَابِ

مِنْ مُقْتَضَى الشُّرُوطِ وَالأَسْبَابِ

2439 -

وَغَيْرِهَا أَوِ الْمُقَدَّرَاتِ

وَمَا لَهُ حَدٌّ بِكَيْفِيَاتِ

ص: 51

2440 -

مِنْ نَوْعَيِ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ

وَأَنَّهُ لِلْمُقْتَضَى بِالآيَةِ

2441 -

الثَّالِثُ اعْتِبَارُ مَا الْكِتَابُ

عَلَيْهِ قَدْ دَلَّ بِمَا يُصَابُ

2442 -

فِي مُقْتَضَى السُّنَّةِ مَعْ بَيَانِ

مَا كَانَ مُجْمَلًا مِنَ الْمَعَانِي

2443 -

فَكُلُّ مَا لَدَى الْكِتَابِ أُصِّلَا

فَهْوَ لَدَى السُّنَّةِ قَدْ تَفَصَّلَا

2444 -

وَلْتَعْتَبِرْ ذَلِكَ فِي الْمَقَاصِدِ

تَجِدْهُ فِيهَا وَاضِحَ الشَّوَاهِدِ

2445 -

فَإِنَّ حِفْظَ الدِّينِ فِي الإِيمَانِ

يُلْفَى وَفِي الإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ

2446 -

وَفِي مُكَمِّلَاتِهِ وَهْيَ الدُّعَا

إِلَيْهِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا مَعَا

2447 -

ثُمَّ جِهَادُ كُلِّ ذِي عُدْوَانِ

ثُمَّ تَلَافِي طَارِئ النُّقْصَانِ

2448 -

وَأَصْلُ ذَاكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِالْبَيَانِ

2449 -

وَالنَّفْسُ وَالْمَالُ كَذَا وَالْعَقْلُ

وَالْعِرْضُ عِنْدَ مُلْحِقٍ وَالنَّسْلَ

2450 -

وَكَالضَّرُورِيَّاتِ فِي التَّبْيِينِ

بِالسُّنَّةِ الْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِي

2451 -

الْمَأْخَذُ الرَّابِعُ وَهْوَ يُعْتَبَرْ

حَيْثُ مَجَالُ الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرْ

2452 -

مَا بَيْنَ جَانِبَيْنِ وَاضِحَيْنِ

فِي مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَارِدَيْنِ

2453 -

أَوْ سُنَّةٍ تَجَاذَبَا بَيْنَهُمَا

وَاسِطَةً فِيهَا اجْتِهَادُ الْعُلَمَا

2454 -

مَا لَمْ يَكُ الْمَأخذُ فِيهَا يَبْعُدُ

أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهَا التَّعَبُّدُ

2455 -

فَتَصْدُرُ السُّنَّةَ بِالْبَيَانِ

إِذْ ذَاكَ فِيهَا وَلَهُ وَجْهَانِ

2456 -

إِلَحَاقُهَا بِجَانِبٍ أَوْ جَعْلُهَا

مُحْتَمِلًا لِذَا وَهَذَا أَصْلُهَا

2457 -

كَبَيِّنِ الْحَرَا وَالْحَلَالَ

مَعْ ذِي اشْتِبَاهٍ عِنْدَ الاِسْتِعْمَالِ

2458 -

وَأَصْلِيُّ الطَّيِّبِ وَالْخَبَائِثِ

مَعْ لَاحِقٍ يُوجَدُ فِي مَبَاحِثِ

2459 -

كَذَاكَ مَا الْمَجَالُ لِلْقِيَاسِ

فِيهِ لَفَرْعٍ مَعَ أَصْلٍ رَاسِ

2460 -

كَمِثْلِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْقُرْآنِ

أَصْل لَهُ تَحَقُّقٌ فِي شَانِ

2461 -

وَتُلْحِقُ السُّنَّةُ مَا دَانَاهَ

بِهِ وَمَا يَشْمَلُهُ مَعْنَاهُ

ص: 52

2462 -

كَانَ بِوَحْيٍ أَوْ بِالاِجْتِهَادِ

وَإِنَّ ذَاكَ فِي الرِّبَا لَبَادِ

2463 -

وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ

وَحُكْمِ مَاءِ الْبَحْرِ فِي الطَّهَارَةِ

2464 -

الْمَأْخَذُ الْخَامِسُ مَا فِيهِ النَّظَرْ

مُسْتَنِدٌ فِيمَا مِنَ الْحُكْمِ اعْتَبَرْ

2465 -

إِلَى أَدِلَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ

جَاءَتْ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي

2466 -

يَرْجِعُ مَعْنَاهَا لِشَيْءٍ وَاحِدِ

مَعَ اخْتِلَافِ أَضْرُبِ الْمَوَارِدِ

2467 -

فَتَصْدُرُ السُّنَّةُ فِي ذَا الْمَعْنَى

كَأَنَّهَا مَجْمُوعُ مَا قْد عَنَّا

2468 -

وَمِثْلُ ذَا مِنَ الْحَدِيثِ لَا ضَرَرْ

مَعْ مَا بِمَعْنَاهُ اسْتَقَرَّ فِي سُوَرْ

2469 -

الْمَأْخَذُ السَّادِسُ مَا فِيهِ النَّظَرْ

إِلَى تَفَاصِيلِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرْ

2470 -

وَقَصْدُهُ تَطَلُّبُ الْمَعَانِي

فِي سُنَّةٍ مِنْ مُقْتَضَى الْقُرْآنِ

2471 -

إِمَّا عَلَى التَّنْصِيصِ أَوْ إِشَارَهْ

مِنْ حَيْثُ مَا تُفْهِمُهُ الْعِبَارَهْ

2472 -

وَهْوَ وَإِنْ أُلْفِيَ فِي مَسَائِلِ

مِثْلِ بَيَانِ الْفَجْرِ غَيْرُ شَامِلِ

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

2473 -

وَحَيْثُ قِيلَ فِي الْكِتَابِ إِنَّهْ

دَلِيلُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّهْ

2474 -

وَإِنَّمَا جَاءَتْ لَهُ مُبَيِّنَهْ

وَلِعُمُومِ مَا اقْتَضَى مُعَيِّنَهْ

2475 -

فَذَاكَ بِالنِّسْبَةِ لِلأوَامِرِ

وَللنَّوَاهِي وَللإِذْنِ الصَّادِرِ

2476 -

وَخَارجٌ عَنْ ذَاك كَالإِخْبَارِ

بِمَا يَكُونُ أَوْ بِأَمْرِ جَارِ

2477 -

ضَرْبَانِ ضَرْبٌ جَاءَ فِي التَّقْرِيرِ

فِي مَوَرِدِ السُّنَّةِ كَالتّفْسِيرِ

2478 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ أَنَّهُ

تُبَيِّنُ الْكِتَابَ فِيهِ السُّنَّهْ

2479 -

كمِثْلِ مَا عَنْهُ أَتَى فِي حَالِ

أُمَّتِهِ وَقِصَّةِ الدَّجَّالِ

2480 -

ثَانِيهِمَا مَا وَقَعَ ابْتِدَاءًا

لِغَيْرِ تَفْسيرٍ بِحَيْثُ جَاءَا

2481 -

فَذَاكَ لَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يُرَا

وَفِي الْكِتَابِ أَصْلُهُ مُقَرَّرَا

2482 -

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْهُ حَظٌّ صَالِحْ

وَفِي الْمُكَمِّلَاتِ ذَاكَ وَاضِحْ

ص: 53

"‌

‌ المسألة السادسة

"

2483 -

وَتُطْلَقُ السُّنَّةِ فِي الإِخْبَارِ

لِلْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَلِلإِقْرَارِ

2484 -

فَالْقَوْلُ بَيِّنٌ وَلَا تَفْصِيلَ فِي

مَضْمُونِهِ وَذَاكَ لَيْسَ بِالْخَفِي

2485 -

وَالْفِعْلُ فِيهِ الْكَفُّ مِمَّا يُدْخَلُ

عِنْدَ كَثِيرٍ وَكَثِيرٌ يَ‌

‌فْصِلُ

2486 -

هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّبْيِينِ

لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى التَّعْيِينِ

2487 -

فَمَا بِهِ فِعْلُ الرَّسُولِ حَقَّقَا

فَإِنَّهُ دَلِيلُ الإِذْنِ مُطْلَقَا

2488 -

مَا لَمْ يَرِدْ مَا يَقْتَضِي تَبْيِينَهْ

فَيُقْتَفَى مِنْ قَوْلٍ أَوْ قَرِينَهْ

2489 -

وَذَا مُقَرَّرٌ لَدَى الأُصُولِ

وَحَظُّ ذَا الْمَوْضِعِ بِالتَّفْصِيلِ

2490 -

تَقْرِيرُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي التَّأَسِّي

يَقْوَى كَمَا مَرَّ بِغَيْرِ لَبْسِ

2491 -

وَالتَّرْكُ فِي الأَصْلِ لِغَيْرِ مَا أُذِنْ

فِيهِ لِأَنْ كَانَ بِنَهْيٍ يَقْتَرِنْ

2492 -

إِمَّا عَلَى الإِطْلَاقِ أَوْ فِي حَالِ

وَذاكَ ظَاهِرٌ فِي الاِسْتِدْلَالِ

2493 -

وَقَدْ يَكُونُ التَّرْكُ فِي الْمُبَاحِ

لأَوْجُهٍ وَالْحُكْمُ ذُو اتِّضَاحِ

2494 -

كَالتَّرْكِ لِلضَّبِّ بِحُكْمِ الطَّبْعِ

وَالتَّرْكِ لِلثُّومِ لِحَقٍّ مَرْعِي

2495 -

وَالتَّرْكُ خَوْفَ الافْتِرَاضِ لِلْعَمَلْ

أَوْ خَوْفَ فَاسِدٍ بِفِعْلِهِ اتَّصَلْ

2496 -

أَوْ تَرْكُ مَفْضُولٍ بِفِعْلِ الأَفْضَلِ

وَكُلُّهَا كَالأَصْلِ غَيْرُ الأَوَّلِ

" فصل"

2497 -

وَأَمَّا الإِقْرَارُ لِمَا قَدْ سُمِعَا

أَوْ مَا وَرَاءهُ فَهْوَ جِنْسٌ وَقَعَا

2498 -

عَلَى الْمُبَاحِ وَعَلَى الْمَطْلُوبِ

إِمَّا عَلَى النّدْبِ أَوْ الْوُجُوبِ

2499 -

إِذْ كُلُّهَا فِي مُقْتَضَى الإِذْنِ انْدَرَجْ

وَالْحَظْرُ وَالْمَكْرُوهُ عَنْهُ قَدْ خَرَجْ

"‌

‌ المسألة السابعة

"

2300 -

قَوْلُ الرَّسُولِ بِاقْتِرَانِ الْفِعْلِ فِي

شَأْنِ التّأَسّي غَايَةَ الْمُكَلَّفِ

ص: 54

2501 -

وَحَيْثُ مَا الْقَوْلُ بِإِذْنٍ قَدْ وَرَدْ

وَكَانَ فِي الْفِعْلِ سِوَى ذَاكَ اعْتُمِدْ

2502 -

فَالاِقْتِدَاءُ بِالرَّسُولِ أَحْسَنُ

فِي التَّرْكِ وَالأَخْذِ بِإِذْنٍ بَيِّنُ

2503 -

كَإِذْنِهِ فِي الْهَجْو لِلْكُفَّارِ

وَمَا عَلَى سَبِيلِ ذَاكَ جَارِ

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

2504 -

وَإِنْ يُوَافِقْ فِعْلُهُ مَا قَدْ أُقِرْ

فَهْوَ صَحِيحٌ فِي التَّأسِّي مُعْتَبَرْ

2505 -

إِذْ نَفْسُ الإِقْرَارِ بِحَيْثُ مَا صَدَرْ

لَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ نَظَرْ

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

2506 -

وَسُنَّةُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ

مَقْبُولَةً فِي جُمْلَةِ الأحْكَامِ

2507 -

لِمَا أَتَى فِي شَأْنِهِمْ خُصُوصًا

أَوْ فِي عُمُومٍ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَا

2508 -

وَشِدَّةُ اقْتِدَائِهِمْ أَوْجَبَ أَنْ

كَانَ الذِي يَرَوْنَهُ أَهْدَى سَنَنْ

2509 -

وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ كَوْنُ مَالِكِ

مُتَّبَعًا مُسْتَحْسَنَ الْمَدَارِكِ

2510 -

إِذْ جَدَّ فِي اقْتِفَاءِ آثَارِ السَّلَفْ

فَصَارَ مُقْتَدَى بِهِ عِنْدَ الْخَلَفْ

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

2511 -

مَا كَانَ مُخْبِرًا بِهِ الرَّسُولُ

مِنْ خَبَرٍ فَهْوَ كَمَا يَقُولُ

2512 -

مُعْتَمَدٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْبَرَا

بِهِ وَعَنْهُ مُطْلَقًا حَيْثُ جَرَا

2513 -

كَمِثْلِ مَا إِذَا بِحُكْمٍ نَطَقَا

أَمْرًا وَنَهْيًا فَهْوَ حَقٌّ مُطْلَقَا

2514 -

مُتَّبَعَ الْحُكْمِ بِكُلِّ حَالِ

فِي الاِعْتِقَادَاتِ وَفِي الأَعْمَالِ

2515 -

لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَالإِلْهَامِ

فِيهِ وَالاطِّلَاعِ وَالْمَنَامِ

2516 -

لِأَنَّهُ مُؤَيِّدٌ مَعْصُومُ

وَفِي الْكَلَامِ حُكْمُ ذَا مَعْلُومُ

2517 -

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَا

بِذَاكَ لِلأُمَّةِ لَنْ يَعُمَّا

ص: 55

‌كتاب الأدلة الشرعية

1532 -

فِي طَرَفَيْنِ الْبَحْثُ فِي الدَّلِيلِ

بِحَسَبِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ

‌الطَّرَفُ الأَوَّلُ فِي الأَدِلَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ

1533 -

يُنْظَرُ فِي الأَدِلَّةِ الْجُمْلِيَّهْ

لِمُقْتَضَى أَحْوَالِهَا الْكُلِّيَّهْ

1534 -

أَوْ مُقْتَضَى الْعَوَارِضِ الْمُعْتَبَرَهْ

وَسَوْفَ تَأْتِي بَعْدَ ذَا مُفَسَّرَهْ

"كتاب الأدلة"

جمع دليلٌ - وهو ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والإضافة في قوله هذا:"كتاب الأدلة" من إضافة العام إلى الخاص. وحكمها الرداءة، إلا أنه قد تخرج على أنها بيانية "الشرعية" أي التي وضعها الشارع لتؤخذ أحكامه منها، أو لتعلم بها، ومن تأمل أحوال الدليل الشرعي أدرك بمقتضى النظر الفقهي الصحيح أنه يلزم أن يكون "في طرفين" أي جهتين "البحث" والنظر الفقهي "في"هذا "الدليل" - اللام فيه للجنس - وبذلك يعم إذ يتعلق هذا النظر بهما معا، وذلك "بحسب" النظر فيما يتعلق به من أحكام وعوارض على "الجملة" بحيث تكون جميع الأدلة مشتركة فيها. "و" بحسب النظر فيما يتعلق به على "التفصيل" من أحكام وعوارض؛ أي بحسب النظر فيما يتعلق بكل واحد منها على سبيل التفصيل وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

"الطرف الأول" المنظور والمبحوث "فيـ"ـه هو ما يتعلق بهذه "الأدلة" من الأحكام والعوارض "على الجملة" وبيان ذلك أنه "ينظر في الأدلة" الشرعية من جهتها "الجملية" - بضم الجيم - العامة نظرين أحوالها أحدهما: النظر "لمقتضى أحوالها الكلية" القائمة بها "أو" - بمعنى الواو -.

وثانيهما: النظر إلى "مقتضى" وحكم "العوارض" الله حقة لها "المعتبرة" عند أهل السنة والجماعة "وسوف تأتي" هذه الأحوال والعوارض "بعد ذا" الكلام "مفسرة" مبينة

ص: 57

(النَّظَرُ الأَوَّلُ فِي كُلِّيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِالأَدِلَّة)

وفيه مسائل:

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1535 -

لَمَّا انْبَنَى الشَّرْعُ عَلَى الْقَوَاعِدِ

أَعْنِي بِهَا ثَلَاثَةَ الْمَقَاصِدِ

1536 -

فَهُنَّ كُلِّيَّاتُ كُلِّيَّاتِهِ

وَمُسْتَمَدُّ حُكْمِ جُزْئِيَّاتِهِ

1537 -

فَوَاجِبٌ رِعَايَةُ الْكُلِّيِّ

بِحَيْثُ الاِسْتِدْلَالِ لِلْجُزْئِيِّ

1538 -

وَوَاجِبُ الْجُزْئِيِّ أَنْ يُعْتَبَرًا

بِحَيْثُ مَا كُلِّيُّهُ تُصُوِّرَا

في أربعة عشرة مسألة وخمسة فصول.

"النظر الأول": من هذين النظرين وهو - كما تقدم - النظر "في" أصول "كليات تتعلق بالأدلة" التفصيلية والقواعد المأخوذة منها الشرعية هذه "وفيه" أي هذا النظر - يعني في سبيل بيانه - تورد "مسائل" وهي أربع عشرة مسألة.

"المسألة الأولى"

منها في بيان وجوب المزج بين رعاية الأصول الكلية للشريعة والجزئيات في النظر وفي بناء الأحكام الفقهية. وذلك أنه "لما انبنى" وتأسس "الشرع على القواعد" الكلية المعروفة "أعني بها ثلاثة المقاصد" - فيه إضافة الصفة للموصوف - أي المقاصد الثلاثة.

الأول: المقصد الشرعي لحفظ الضروريات.

والثاني: مقصده لحفظ الحاجيات.

والثالث: مقصده لحفظ التحسينيات.

"و" بذلك فإن هذه الكليات هي "مستمد" ومأخذ "حكم جزئياته" أي الشرع باعتبار أنها المستند الأصلي لها "فواجب" بناء على هذا "رعاية" مقتضى الأصل والدليل "الكلي" الجاري حكمه "بحيث"؛ أي في الموضع الذي يجري "الاستدلال" فيه "لـ"ـلأمر "الجزئي" بحيث يستحضر ذلك الكلي لتعلم به مرتبة ذلك الجزئي من جملة مراتب المقاصد.

الشرعية الثلاث وكونه قد حصل به المقصد الشرعي منه "وواجب" كذلك أن يستحضر الدليل "الجزئي" و "أن يعتبرا" - الألف للإطلاق - مقتضاه "بحيث ما" أي في كل موضع "كليه" أي كلي ذلك الجزئي قد "تصورا" - الألف للإطلاق - وأدرك جريان

ص: 58

1539 -

وَمُظْهِرُ الْعِلْمِ هُوَ الْجُزْئِيُّ

إِذْ لَا يُرَى فِي الْخَارجِ الْكُلِّيُّ

1540 -

وَمَعَ ذَا فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ

إِلَّا بِجُزْئِيَّاتِهِ إِذْ يَحْصُلُ

1541 -

وَآخِذٌ بِجِهَةٍ وَبُعْرِضُ

عَنْ جِهَةٍ يُخْطِئُ فِيمَا يَعْرِضُ

حكمه فيه "و" ذلك لأن "مظهر العلم" بالكلي ومفيده إنما "هو الجزئي" بطريقة الاستقراء "إذ لا يرى" أي لا يوجد "في الخارج" يعني خارج الأذهان "الكلي" كما هو معلوم "و" يزاد "مع ذا" أن الكلي إنما هو مضمن في الجزئيات "فإنه لا يعقل" أي يتصور ذلك الكلي "إلا بجزئياته" - الباء بمعنى في - أي في جزئي مشخص - كالذات، والحدث "إذ" هو الذي فيه "يحصل" ويقع. "و" كل من هو "آخذ بجهة" من هاتين الجهتين جهة الكلي وحدها أو جهة الجزئي وحدها.

"و" هو "يعرض" ويصد "عن جهة" أخرى منهما فإنه "يخطئ فيما" من الجهتين "يعرض" من الأمور، ويذكر.

خلاصة كلامه:

أنه يجب المزج بين اعتبار الأصل الكلي الذي يجري مقتضاه وحكمه على المحل الذي يبحث عن العلم بحكمه، واعتبار الدليل الجزئي الذي يدل على ذلك الحكم بالخصوص.

وبيان ذلك أن الاسترسال في العمل بالكليات في مجاريها، في بناء أحكام في الجزئيات المنطوية تحتها على طريقة تقديم الراجح المقدم من تلك الكليات على ما سواه بحيث يقدم حفظ الضروري على ما سواه من الحاجي والتكميلي، وحفظ الحاجي على التكميلي والتحسيني بحيث تكون أي جزئية انطوت تحت كلية من هذه الكليات فإنها يجرى حكمها عليها من غير التفات إلى الأدلة الجزئية كالنصوص الشرعية في محالها - أي تلك الأحكام - التي تدل على أحكام قد تسقط اعتبار مقتضى تلك الكليات أمر غير سديد ومسلك ساقط الاعتبار، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر، فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة، فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل وقد لا يدركها. وإذا أدركها بالنسبة لحال دون حال، أو زمان دون زمان، أو عادة دون عادة، فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها كما قالوا في القتل بالمثقل إنه لو لم يكن فيه قصاص لم ينسد باب القتل بالقصاص إذا اقتصر به على حالة واحدة وهو القتل بالمحدد وكذلك

ص: 59

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحكم في اشتراك الجماعة في قتل الواحد ومثله القيام في الصلاة مثلا مع المرض وسائر الرخص الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم والقرض وأشباه ذلك فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات أو بالضروريات أيضًا فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظة على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضا ويخصص بعضها بعضا فإذا كان كذلك فلا بد من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها.

وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم بل كان مع ذلك الهرج واقعا والمصلحة تفوت مصلحة أخرى وتهدم قاعدة أخرى أو قواعد فجاء الشرع باعتبار المصلحة.

والنّصفة المطلقة في كل حين، وبيّن من المصالح ما يطرد وما يعارضه وجه آخر من المصلحة كما في استثناء العرايا ونحوه فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد، ولفاتت مصالح، وهو مناقض لمقصود الشارع. ولأنه من جملة المحافظة على الكليات؛ لأنها يخدم بعضها بعضا، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها. وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح. والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن هذا على الكمال

(1)

.

ثم إن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها، فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات. ولأنه ليس بموجود في الخارج، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات.

فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي، والجزئي هو مظهر العلم به. وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا

(1)

الموفقات 3/ 7 - 8 - 9.

ص: 60

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي.

إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة وذلك تناقض. ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له، وإذا خالف الكلي الجزئي - مع أنا إنما نأخذه من الجزئي - دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به. لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه. وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي. وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع؛ لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك والجزئي كذلك أيضًا، فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة

(1)

.

وكذلك شأن الاستدلال بالأدلة الخاصة على أحكام الجزئيات من غير اعتبار واستحضار للكليات التي تنطوي تحتها تلك الجزئيات فإنه عمل موسوم بالخطإ، والنقض لأن جريان الحكم على الجزئية في سداد إنما يعلم بالعرض على كليها، فإن استقام أمرها تحته فحكمها على الأصل وهو تحقيق المقصد الشرعي منه ماض وإن لم يستقم لاعتبار شرعي فإنه لا بد من تحقيق ذلك بوجه ما أو ينتقل حكم تلك الجزئية ليسحب عليه حكم كلي آخر.

إذ ما من جزئي إلا وهو مستمد من كليه والكلي الأعلى في الشريعة هو المقاصد الثلاثة ثم إن النصوص الشرعية والقواعد، وهي تؤخذ منها أحكام الجزئيات وإن كانت مأخوذة من هذه النصوص والقواعد فإنها يجب أن تعتبر بتلك الكليات العليا، إذ هي التي تستمد منها ما في تلك النصوص والقواعد من أحكام، فجريان حكمها ومقتضاها فيه أمر لازم وذلك شأن الجزئيات التي يحكم عليها، إذ ما يستمد النوع من الجنس الذي فوقه يجب أن تكون في إفراده، وأن يكون مستمدا من تلك الكلية الأصلية.

وقد تقدم أن ذكر ذلك في قوله:

وجملة الفروع باستغراق

مسنده لها على الإطلاق

(1)

الموافقات 3/ 5 - 6.

ص: 61

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن قيل ما فائدة هذا المزج، فإن النص الشرعي يعمل به وكذلك القاعدة الفقهية في بناء الأحكام على استقلال؟

وبيان ذلك أنه إذا أخذ - مثلا - بمقتضى نص شرعي يدل على تحريم شيء ما، فإنه يجب أن يستحضر الكلي الذي يحفظ بذلك الحكم الجاري في ذلك الجزئي، فإذا استدل مثلا على حرمة الخمر، فإنه يجب أن يستحضر الكلي الموجب لذلك وهو حفظ العقل، فهذا تمام النظر الفقهي وعلى هذا السبيل يمضى في شأن الأخذ بمقتضى دليل شرعي دال على وجوب شيء، كالصلاة، فإنه يجب استحضار الكلي الموجب لذلك وهو حفظ الدين، فبذلك تتم صورة الحكم الشرعية، ويحصل به رد كل جزئي إلى كليه مميزا عن غيره.

وعلى هذه السنن يمضي في شأن الاستدلالات بالأدلة والقواعد على الأحكام الجزئيات مستندها الحقيقي هو تلك الكليات.

فالجواب هو أن الدليل الجزئي به يستضاء في معرفة الكلي الذي ينطوي المحكوم عليه تحته، إذ قد يخصصه من عموم كلي آخر ظاهره أنه من جزئياته كما في العرايا، والمصراة، والكتابة وما أشبه ذلك.

وأما الكلي فإنه يتبصر به في معرفة تحصيل المقصد الشرعي في موضوع الحكم، فإن لم يحصل به، فإنه قد يصار إلى ما يقتضيه النظر الفقهي في شأنه، ألا ترى أن أمورا في الشريعة قد أسندت إلى أناس مخصوصين هم أحق بها وأهلها وذلك كالولاية على المرأة والصبي والحضانة، ومرافقة المحرم، والقوامة وما جرى مجرى ذلك مما هو مخصوص شرعا بأناس معينين، وكان ذلك لقصد المصلحة والمنفعة، إذ ما خصوا بذلك إلا لأنهم أولى من يطلب منه تحصيل ذلك، لكن إن علم أن هؤلاء تصرفاتهم خلاف ما قصد من ذلك الإسناد شرعا، فإنه لا ريب أن ذلك يزال عنهم، ويسقط عنهم ما خصوا به من ذلك. فذو المحرم إن كان فاسقا لا يزعه دين ولا يردعه خلق عن إتيان الفاحشة فيمن هي من محارمه فإنه يجب منعه من مصاحبتها، بل قد يكون الأجنبي المتقي أفضل منه في استحقاق مصاحبتها. وما ذاك إلا مثال تلحق به نظائره ليتضح المعنى المراد في هذا الشأن.

ص: 62

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1542 -

إِذَا نَظَرْنَا لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِي

فَمِنْهُ ظَنِّيٌ وَمِنْهُ قَطْعِي

1543 -

فَمَا لَهُ بِقَطْعِهِ اسْتِقْلَالُ

فَلَيْسَ فِي اعْتِبَارِهِ إِشْكَالُ

1544 -

مِثْلُ دَلِيلِ الطُّهْرِ وَالصَّلَاةِ

وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ

1545 -

كَذَلِكَ الظَّنِّيُّ أَيْضًا مَرْعِي

إِنْ كَانَ رَاجِعًا لِأَصْلٍ قَطْعِي

1546 -

كخَبَرِ الآحَادِ فِي أَبْوَابِ

أَتَى بِهَا مُبَيِّنُ الْكِتَابِ

" المسألة الثانية"

في بيان أنه "إذا نظرنا لـ" حال دلالة أو ثبوت "الدليل الشرعي" فهنا نجده متفاوتا في ذلك "فمنه" ما هو "ظني" في دلالته وذلك كالدليل الظاهر الدلالة أو في ثبوته - كخبر الواحد - أو فيهما معا كخبر الواحد الظاهر الدلالة.

"ومنه" ما هو "قطعي" في ثبوته كالقرآن أو في دلالته - كالنص - أو فيهما معا كالآيات التي ألفاظها نصوص وهذا التفصيل أمر معلوم مجمع عليه.

"فما" كان من هذا الدليل قطعيا "له بقطعه" الدلالي والثبوتي الذي يتصف به "استقلال" بحيث يدل على ذلك دلالة ذاتية "فـ" - هذا "ليس في اعتباره" والعمل بمقتضاه "إشكال" أو لبس، وذلك "مثل دليلٌ" وجوب - يعني أدلة وجوب "الطهر" أي الطهارة "و" كذلك "الصلاة" مطلقا.

"و" كذلك أدلة وجوب "الحج و "أدلة وجوب "الصيام و "أدلة وجوب "الزكاة" وأدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ذلك في ثبوت وجوبه بالأدلة القطعية كالعدل واجتماع الكلمة أو حرمته كالظلم والربا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وما أشبه ذلك.

"كذلك" الدليل "الظني" الثبوت فإنه معتبر "أيضًا" و"مرعي" مقتضاه وحكمه "إن كان راجعا لأصل قطعي" ثبوته في الشريعة وهو ما عليه عامة أخبار الآحاد فإنها مبينة للقرآن، وذلك "كخبر الآحاد" الوارد "في أبواب" فقهية وقد "أتى" أي جاء "بها" أي فيها "مبين" ومفسر "الكتاب" العزيز. وذلك مثل الأحاديث الواردة في بيان صفة الطهارة

ص: 63

1547 -

فَإِنْ يَكُنْ مُعَارِضًا لِلْقَطْعِي

وَغَيْرَ مَعْضُودٍ بِأَصْلٍ شَرْعِي

1548 -

فَذَاكَ مَرْدُود بِلَا إِشْكَالِ

وَالْقَطْعُ مَتْبُوعٌ بِكُلِّ حَالِ

الصغرى والكبرى، والصلاة والحج وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب.

وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] الآية. إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية ومنه أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات، وقواعد كليات، كقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] الآية. ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغضب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار.

ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شكَّ. وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك

(1)

.

هذا إذا كان يرجع إلى أصل قطعي فإن لم يكن كذلك ولا هو قطعي فإنه يجب التثبت فيه، ولم يصح إطلاق القول بقبوله، ولكنه قسمان: قسم يضاد أصلا وقسم لا يضاد أي أصل، ولا يوافقه، فالجميع أربعة أقسام في الجملة

(2)

.

"فإن يكن" ذلك الخبر "معارضا" - بكسر الراء - "للقطعي" من الأصول "و" كان "غير معضود" أي مسند "بأصل شرعي" يشهد بصحته "فذاك مردود" لا مبالاة به "بلا إشكال" لأنَّهُ ظني معارض بقطعي "و" ذو "القطع" مقدم و "متبوع" مقتضاه "بكل" أي في كل "حال" لأنَّهُ الذي قامت الأدلة على صحته ورجحانه، وأنه من صميم الشريعة؛ أما ذلك فإنه ساقط لأمرين: أحدهما أنه مخالف لأصول الشريعة، ومخالف أصولها لا يصح، لأنَّهُ ليس منها، وما ليس من الشريعة كيف يعد منها؟

(1)

الموافقات 3/ 11 - 12.

(2)

الموافقات 3/ 11.

ص: 64

1549 -

وَمَثَّلُوا ذَاكَ بِذِي يَسَارِ

يُؤْمَرُ أَنْ يَصُومَ فِي الظِّهَارِ

1550 -

وَهَذِهِ مَسْأَلُةٌ قَوْلُ السَّلَفْ

أَصْل لَهَا مُعْتَمَدٌ عِندَ الْخَلَفْ

وثانيهما: أنه ليس له ما يشهد بصحته، وما هو كذلك ساقط الاعتبار.

"ومثلوا" أي العلماء "ذاك بذي" أي صاحب "يسار" أي غنى وقدرة على إعتاق رقبة "يؤمر" يعني يفتى له بـ"ـأن يصوم في "كفارة "الظّهار" - بكسر الظاء المعجمة المشالة - وهو عند المالكية: تشبيه مسلم من تحل له أو جزءها بظهر محرم أو جزئه والذي نقل عنه أنه أفتى بالصوم ابتداء هو يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، فقد ذكر نقلة الأخبار أن أمير الأندلس عبد الرحمن بن معاوية الأموي المعروف بعبد الرحمن الداخل واقع جارية له في رمضان عمدا، ثم ندم ندما شديدا، فسأل الفقهاء عن توبته وكفارته فأفتاه الفقيه المذكور - يحيى بن يحيى - بصوم شهرين متتابعين. فلما أفتاه بذلك سكت بقية الفقهاء الحاضرين في ذلك المجلس إجلالا له. وإنما أفتاه بهذا نظرا إلى حاله المناسب، ولذلك لما قال له من حضر من الفقهاء بعد خروجهم من ذلك المجلس لم تفته بمذهب مالك قال لهم: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر عتق رقبة في قضاء شهوة، فكانت المصلحة عندي في إيجاب الصوم لينزجر. وقد ذهب العلماء إلى بطلان هذه الفتوى لأن الشارع أثبت في هذا المحل التخيير بين الصوم والإطعام والإعتاق. ورفع ما قضى به الشارع بدعوى اتباع مصلحة ملغاة شرعا أمر باطل، وساقط اعتباره، وقد وجه بعضهم قول يحيى هذا بأنه مبني على أصل سد الذريعة. وهذا أيضًا باطل، لأن ذلك ملغى اعتباره في هذا المحل.

"وهذه" المسألة - وهي إسقاط هذا الظني - وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولم يعضد بأصل - وعدم اعتباره "مسألة" المعتمد عليه في الأخذ بمقتضاها والجريان عليه هو "قول السلف" وعمله، فقد ردت عائشة رضي الله عنها حديث "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" بهذا الأصل نفسه لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] وردّت حديث رؤية النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وإن كان عند غيرها غير مردود لاستناده إلى أصل آخر لا يناقض الآية وهو ثبوت

ص: 65

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية وسنية تبلغ القطع ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة وردّت هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء استنادا إلى أصل مقطوع به وهو رفع الحرج وما لا طاقة به عن الدين فلذلك قالا فكيف يصنع بالمهراس وردّت أيضًا خبر ابن عمر في الشؤم وقالت إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن أقوال الجاهلية لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله وأن شيئًا من الأشياء لا يفعل شيئًا ولا طيرة ولا عدوى ولقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع بها فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح فإنهم اتفقوا على رجوعه فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي قال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضًا وهو أن الأسباب من قدر الله ثم مثل ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة وأن الجميع بقدر الله ثم أخبر بحديث الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين. وفي الشريعة من هذا كثير جدا وفي اعتبار السلف له نقل كثير

(1)

.

وهذا الذي عليه السلف في هذه المسألة هو الذي تقرر أنه "أصل لها" وهو أصل "معتمد" ومعتد به "عند الخلف" من العلماء في شأنها فقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار. ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا: "جاء الحديث ولا أدري ما حقيقة؟ " وكان يضعفه ويقول: "يُؤكل صيده فكيف يكره لعابه"

(2)

؟

وإلى هذا المعنى يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال بعد ذكره: وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه

(3)

إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا، فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطا بالشرع؟ فقد رجع إلى أصل إجماعي. وأيضا فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية، وهي

(1)

الموافقات 3/ 14 - 15.

(2)

المدونة الكبرى 1/ 6.

(3)

الاستذكار 20/ 220.

ص: 66

1551 -

وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ يُنَافِي قَاعِدَهْ

وَلَا أَتَتْ أُخْرَى عَلَيْهِ شَاهِدَهْ

1552 -

فَبَابُهُ الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ

وَهْوَ مَجَالٌ لِلنُّهَى رَحِيبُ

تعارض هذا الحديث الظني، فإن قيل: فقد أثبت مالك خيار المجلس في التمليك، قيل الطلاق يعلق على الغرر، ويثبت في المجهول، فلا منافاة بينهما بخلاف البيع.

ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" وقوله: "أرأيتِ لو كان على أبيكِ دينٌ" الحديث لمنافاته للأصل القرآني الكلي، نحو قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر، وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم تعويلا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة، فأجاز أكل الطعام قبل القسم لمن احتاج إليه. قاله ابن العربي. ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث فيه، تعويلا على أصل سد الذرائع. ولم يعتبر في الرضاع خمسا ولا عشرا؛ للأصل القرآني في قوله:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وفي مذهبه من هذا كثر

(1)

.

هذا إذا كان ذلك الدليل الظني يعارض أصلا قطعيا، ولم يعضد بأصل آخر.

"و" أما "إن يكن ليس ينافي" ولا يعارض "قاعدة" أي أصلا شرعيا قطعيا "ولا أتت" قاعدة "أخرى عليه" يعني على صحته وثبوته شرعا "شاهدة" ودالة "فـ"ـهو محل للنظر والاجتهاد و"بابه" باب "المناسب الغريب" هكذا قال الشاطبي وتبعه الناظم، ولكن المعروف عند الأصوليين أن النوع هذا يسمى المناسب المرسل.

قال السبكي في الابهاج "أن لا يعلم أن الشارع اعتبره، ولا ألغاه. وذلك هو المناسب المرسل"

(2)

.

وأما المناسب الغريب فهو الذي لم يشهد له غير أصله المعين باعتباره كالطعم في الربا فإن كل واحد من نوع الطُّعم يؤثِّر في نوع من الأحكام وهو حرمة الربا، إذا بيع

(1)

الموافقات 3/ 15 - 16.

(2)

ج 4/ 68 - انظر المحصول 2/ 324.

ص: 67

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذلك النوع بمثله، كالبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر، ولا يؤثر جنس هذه الأنواع وهو الطعم في جنس الربا، وهو زيادة أحد العوضين على الآخر بدليل جواز بيع الأنواع كالشعير مثلا ببعض آخر كالبر - مثلا - متفاضلا مع وجود الطعم فيهما

(1)

. نعم، هذا هو الذي يفسر به ويحد هذان المصطلحان الأصوليان، إلا أنه من الثابت أن عبارات الأصوليين في التعبير عن قسم الوصف المناسب في باب مسالك العلة عبارات مضطربة، لكن الخطب في ذلك سهل لكونه أمرا اصطلاحيا.

وعلى كل حال - سواء سميناه - أي هذا الوصف بالمناسب الغريب، أو بالمناسب المرسل - "وهو مجال" وميدان "للنّهى" جمع نهية - بضم النون وسكون الهاء العقل - أي إعمالها لمعرفة كونها دليلا فقهيا لبناء الأحكام الفقهية على مقتضاه، وسحب حكمه على الجزئيات الصالحة لجريان حكمه عليها وعدم كونه أصلا فقهيا على الإطلاق "رحيب" واسع. وجريان النظر فيه طريقته.

فقد يقال: لا يقبل؛ لأنَّهُ إثبات شرع على غير ما عهد في مثله، والاستقراء يدل على أنه غير موجود وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق؛ لأنَّهُ في محل الريبة، فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته؛ ولأنه من حيث - لم يشهد له أصل قطعي - معارض لأصول الشرع، إذ كان عدم الموافقة مخالفة وكل ما خالف أصلا قطعيا مردود، فهذا مردود. ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة وهذا فرد من أفراده، وهو وإن لم يكن موافقا لأصل فلا مخالفة فيه أيضًا، فإن عضد الرّد عدمُ الموافقة عضد القبول عدم المخالفة، فيتعارضان ويسلم أصل العمل بالظن، وقد وجد منه في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام:"القاتل لا يرث" وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس وإن كان قليلا في بابه فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته

(2)

.

وهذا الدليل هو المعبر عنه بالمصالح المرسلة وبالاستصلاح، وفي شأن الأخذ به مذاهب:

(1)

ن ص/ 4/ 70، وانظر المستصفى/ 2/ 298.

(2)

الموافقات 3/ 18.

ص: 68

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1553 -

أَدِلَّةُ الشَّرْعِ بِلَا خِلَافِ

حُكْمَ قَضَايَا الْعَقْلِ لَا تُنَافِي

1554 -

أَوْ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ فِي الذِي شُرعْ

بِغَيْرِ مَا يُطَاقُ وَهْوَ مُمْتَنِعْ

1555 -

وَلَمْ تَكُنْ أَدِلَّةً لَوْ نَافَتْ

لَكِنَّهَا بِعَكْسِ هَذَا وَافَتْ

أحدها: المنع منه مطلقا وهو الذي عليه الأكثرون.

والثاني: أنه معتبر مطلقا. وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى -.

الثالث: ما ذهب إليه جمع من الشافعية وهو الأخذ به إذا كانت المصلحة التي في العمل به ضرورية قطعية كلية والقطعية التي يجزم بحصول المصلحة فيها، والكلية التي تكون موجبة لفائدة تعم جميع المسلمين. مثال ذلك إذا تترس الكفار حال التحام الناس في الحرب بأسارى المسلمين وقطعنا بأنا لو امتنعنا عن قتل الترس لأعدمونا واستولوا على ديارنا وقتلوا جميع المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما من دون جريمة صدرت منه فيجوز والحالة هذه رميه.

"المسألة الثالثة"

في بيان أن الـ"أدلة الشرعـ"ـية والقواعد التي استخرجت منها بطرق برهانية هي أدلة لا تتناقض "بلا خلاف" بين أهل العلم "حكم قضايا العقل" ومبادئه و"لا تنافيـ"ـها على الإطلاق. والدليل على ذلك من وجوه:

أحدها: أنها إذا كانت تنافيها فإن التكليف يسقط عن الخلق "أو يلزم" ويجب "التكليف في الذي" - في بمعنى الباء - أي بالذي "شرع" بها من الأحكام تكليفا "بغير ما يطاق" أي يستطاع وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره، بل يتصور خلافه، ويصدقه. فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق ضرورة، وقد فرضنا ورود التكليف المنافي للتصديق، وهو معنى تكليف ما لا يطاق "وهو "تكليف "ممتنع" وباطل حسبما هو مذكور في الأصول.

"و" ثانيها أن تلك الأدلة الشرعية "لم تكن أدلة" للعباد على حكم شرعي، ولا غيره "لو نافت" تلك القضايا "لكنها" باتفاق العقلاء "بعكس هذا" اللازم قد "وافت" أي أتت

ص: 69

1556 -

وَالْعَقْلُ لِلتَّكْلِيفِ أَيْضًا مَوْرِدُ

وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ حَيْثُ يُفْقَدُ

1557 -

وَلَا اعْتِرَاضَ بِفَوَاتِحِ السُّوَرْ

مِنْ حَيْثُ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا لِلْبَشَرْ

1558 -

وَلَوْ أَتَى مُبَيَّنًا مَعْنَاهَا

لَمْ تُنْكِرِ الْعُقُولُ مُقْتَضَاهَا

وذلك العكس هو: أنها أدلة للعباد على الأحكام الشرعية وغيرها من كل ما تدل عليه.

فدل ذلك على أنها جارية على وفق قضايا العقول. وبيان ذلك: أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتَّى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف، ولو نافتها لم تتلقها فضلا عن أن تعمل بمقتضاها، وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة. ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية وعلى الأحكام التكليفية

(1)

.

"و" الثالث أن "العقل للتكليف أيضًا مورد" يعني شرطا، فلا يرد التكليف على الشخص البالغ إلا إذا كان متصفا به فكأنه المحل الذي يرد عليه في ذات الإنسان "و" بذلك "يسقط""التكليف" رأسا ويرتفع "حيث" أي في أي زمان أو ذات "يفقد" ويعدم وفاقده يعد كالبهيمة المهملة، وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف، فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبي والنائم؛ إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق، بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به، ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضًا، وذلك مناف لوضع الشريعة، فكان ما يؤدي إليه باطلا (1).

"ولا اعتراض" صحيح على هذا "بـ"ـأن في القرآن الكريم ما لا يعقل معناه أصلا، مثل "فواتح السور" كألم، وحمّ، والمص وألر، وإنما لا اعتراض بهذا "من حيث" إنها "لا تكليف فيها" شرعي يتوجه "للبشر" فهي ليست مما يتعلق به تكليف البتة، وإذا كانت كذلك، فهي ليست دليلا شرعيا، وبذلك تكون خارجة عما نحن فيه.

"ولو" فرض وسلم أنه "أتى مبيّنا" ومفسّرا "معناها" فإنا على قطع نعلم أنه "لم تنكر" ولن تنكر "العقول" السليمة "مقتضاها" بل ستعضده، وتنصره.

(1)

الموافقات 3/ 19.

ص: 70

1559 -

وَلَا بِذِي تَشَابُهٍ حَيْثُ بَدا

وَقَالَ فِيهِ بِالْهَوَى مَنْ أَلْحَدَا

1560 -

كَمِثْلِ مَا لِأَهْلِ نَجْرَانَ وَقَعَ

فِي نَحْوِ نَحْنُ وَكَتَبْنَا وَنَضَعْ

1561 -

فَلَا يُعَارِضُ الْعُقُولَ ذَلِكَا

إِلَّا لِمَنْ زَاغَ هَوَى هُنَالِكَا

1562 -

حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَهْ

وَمُقْتَضَاهَا لَمْ يَدَع مِنْ غَايَهْ

" و" كذلك "لا" اعتراض صحيح "بذي تشابه" يعني المتشابه من الآيات والأحاديث "حيث بدا" في الكتاب والسنة أي ظهر "وقال فيه" يعني في بيان معناه والمراد به "بـ"ـما اقتضاه "الهوى" وحكم به "من ألحدا" - الألف للإطلاق - أي حاد عن الحق وجار "كمثل ما" حصل "لأهل نجْرانَ" - بفتح النون وسكون الجيم -: موضع بين الحجاز والشام واليمن - أهله من النصارى و "وقع" لهم، "في"استدلالهم على صحة ما هم عليه من صحة عقيدة التثليث بما ورد فيه ضمير الجمع من الأفعال الإلهية "نحو نحن" وقضينا "وكتبنا" وخلقنا "ونضع" وما ماثل ذلك.

ثم من بعد هؤلاء النصارى من أهل الانتماء للإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف، ثم من بعدهم من أهل الزيغ والضلال. وإنما لا اعتراض صحيح بهذا كله لأنَّهُ قد تكون العقول مصدودة عن العلم به لأمر خارجي.

وبذلك "فـ" إنه "لا يعارض العقول" ولا ينافي قضاياها "ذلكا" - الألف للإطلاق - المتشابه في واقع الأمر وعلى الإطلاق ولا يعارض فيه ذلك "إلا لمن زاغ" أي مال عن الحق والرشد انجذابا منه إلى الباطل فإنه "هوى" وسقط "هنالكا" - الألف للإطلاق - في ذلك الموضع وهو المتشابه فأضله عن سواء السبيل، وكون المتشابه لا يناقض قضايا العقول ولا ينافيها إلا عند من زاغ وحاد عن الحق حكم راسخ ثابت "حسبما دلت عليه الآية" الكريمة وهي قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].

وبيَّنَتْهُ "ومقتضاها" وما يؤخذ منها من هذا الحكم "لم يدع" ولم يترك "من غاية" بيانية وعلمية في هذا الشأن يطلبها ذو طلب، إذ فيها بيان حقيقة حال المتشابه من جهة العلم بتأويله، وبيان ما يرد على القلوب في شأنه - باعتبار كونها ذات زيغ أو

ص: 71

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رشد - من حال، أو معرفة وذلك أن بناء الاتباع في ذلك عن الهوى دليل أنه اتباع مبني على أمر غير صحيح، فلو بني اتباع تأويله وطلبه على غير الهوى وطلب الفتنة وإنما على طلب المراد به بصدق القصد والنية لما ظهر فيه ما يناقض العقول. إنما سيظهر راجعا إلى معقول موافق لا إلى مخالف لمقتضيات العقول، وإن فرص أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله - تعالى - فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي، لا لمخالفته لها، وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف.

وكذلك الأعجمي الطبع الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به. ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض وفيما لم يجز لهم الخوض فيه فتاهوا فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي.

كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما، إذ لا يصح له نظر حتَّى يكون عالما بهما، فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة، ولذلك مثال يتبين به المقصود وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27] وقوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]{رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية وقال: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} [النازعات: 27، 28] إلى قوله {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} [النازعات: 30] فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إلى أن قال {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] الآية فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح: 14].

ص: 72

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1563 -

وَضْعُ الدَّلِيلِ الْقَصْدُ مِنْهُ أَنْ يُرَا

فِعْلُ مُكَلَّفٍ عَلَيْهِ قَدْ جَرَا

{عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]{سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى ينفخِ في الصور {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] ثم في النفخة الآخرة {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27] وأما قوله {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون تعالوا نقول {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النساء: 42] وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض أي أخرج الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك وذلك قوله أي لم أزل كذلك فإن الله لم يرد شيئًا إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله هذا تمام ما قال في الجواب.

وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته، وأتى من بابه. وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون وما أشكل على الطالبين وما وقف فيه الراسخون {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كاف والحمد لله وقد ألف الناس في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا فمن تشوف إلى البسط ومد الباع وشفاء الغليل طلبه في مظانه

(1)

.

"المسألة الرابعة"

من المسائل الأربعة عشرة المذكورة ومتضمن هذه المسألة أنه تقرر بلا نزاع أن "وضع" الشارع "الدليل" الشرعي ونصبه إياه "القصد" الشرعي "منه" هو "أن يرى" ويبصر "فعل" كل شخص "مكلف عليه" يعني على مقتضاه وعلى وفق ما يدل عليه "قد جرى" ومضى.

(1)

الموافقات 3 - 22/ 23.

ص: 73

1564 -

لَكِنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلِّفِينَا

مِنْ جِهَتَيْنِ اعْتُبِرَتْ يَقِينَا

1565 -

مِنْ جِهَةِ التَّصَوُّرِ الذِّهْنِيِّ

مُجَرَّدًا مِنْ لَاحِقٍ وَضْعِيِّ

1566 -

وَجِهَةِ الْوَاقِعِ فِي الْوُجُودِي

بِمَا لَهُ مِنْ لَاحِقٍ تَقْيِيدِي

" لكن" يعرض في هذا الشأن أمر ينبهم به القصد بهذا الفعل على وجه التعيين وذلك الأمر هو أن "أفعال المكلفينا" - الألف للإطلاق - بمقتضى ماهياتها "من جهتين اعتبرت" وهذا الاعتبار أمر قد ثبت في شأنها "يقينا" لا ظنا، فقد اعتبرت من جهة معقوليتها أي "من جهة التصور الذهني" لها "مجردا من "استحضار أي وصف "لاحق" لها "وضعي" أي خارجي قد يوضع لها بحكم اعتبار الهيئات الخارجية الممكن وقوعها عليها، أو التي قد وقعت عليها، فأنت قد تتصور فعلا ما، كالسفر - مثلا - باعتبار هيئته الذهنية وهو الانتقال والارتحال من مكان إلى آخر مجردا من أي وصف أو حال قد يكون عليه، ككونه شاقا، أو سهلا، أو واقعا على مركوب، أو بالمشي، أو غير ذلك من الأوصاف والأحوال التي قد تلحقه، فإذا تصورته هذا التصور الذهني المجرد فقد تصورته من جهة معقوليته. هذه هي الجهة الأولى.

"و" أما الثانية فهي "جهة الواقع في الوجودي" الخارجي "بما" - الباء بمعنى مع - أي مع ما قد يكون مصاحبا "له من "وصف "لاحق" له زائد عليه "تقييدي" يقيده بصورة وهيئة مخصوصة، بعد أن كان في صورته الذهنية مطلقا، ومما يعد من الضروريات في مجاري النظر العقلي ومقتضى العوائد أن الفعل لا يقع في الخارج إلا على هيئة مخصوصة، لأن ذلك من ضروريات وقوعه، ثم إن من ذلك ما هو لازم له على كل حاك، ومنه ما هو غير لازم له.

هذه هي الجهة الثانية.

قال الشاطبي في شأن هاتين الجهتين:

وبيان ذلك أن الفعل المكلف به أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها، كانت تلك الأوصاف لازمة أو غير لازمة.

وهذا هو الاعتبار العقلي.

ص: 74

1567 -

هُمَا مَجَالَانِ لِبَحْثٍ وَنَظَرْ

مَنْشَأُ خُلْفٍ فِي فُرُوعٍ تُعْتَبَرْ

ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج لازمة.

وهذا هو الاعتبار الخارجي.

فالصلاة المأمور بها - مثلا - يتصور فيها هذان الاعتباران، وكذلك الطهارة، والزكاة، والحج، وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع والإجارات وغيرها.

ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة أو الصلاة التي تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التي تنقص من كمالها.

وكذلك سائر الأفعال فإذا صح الاعتباران عقلا فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو؟

ألجهة المعقولية أم لجهة الحصول في الخارج؟

"هما مجالان" كلاهما صالح ليكون منصرف الأدلة والموضع الذي تجري عليه مقتضياتها وما تدل عليه من أحكام، وبذلك فهما قد استوجبا أن يكونا موضعين "لبحث ونظر" يفضيان في شأنهما إلى معرفة الذي يكون منهما منصرفا لما ذكر، بطريق الترجيح.

وهذا الذي عليه هذان الاعتباران من التعارض في هذا الشأن، هو "منشأ" وأساس "خلف" وقع بين الفقهاء "في" أحكام "فروع" فقهية "تعتبر" أي معتبرة ومهمة، ومنها الصلاة في المكان المغصوب، والوضوء بالماء المغصوب والحج بالمال الحرام، وما أشبه ذلك، من فعل مشروع تعلق به منهي عنه.

وفي كتب الأصول بحث وبيان أحوال هذه الفروع وأحكامها، وما لأهل العلم في ذلك من مذاهب وما سيق من الأدلة للاحتجاج على صحتها، فكل صاحب مذهب منها يسوق من الأدلة ما يراه حجة على صحة ما ذهب إليه في ذلك.

قال الشاطبي: وأدلة - المذاهب - يعني المذاهب المذكورة - منصوص عليها مبينة في علم الأصول، ولكن نذكر من ذلك طرفا يتحرى منه مقصد الشارع في أحد الاعتبارين:

ص: 75

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فمما يدل على الأول أمور:

أحدها أن المأمور به أو المنهي عنه أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء وهذا أمر ذهني في الاعتبار لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك المعقول الذهني فإن صدق عليه صح وإلا فلا، ولصاحب الثاني أن يقول إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها حتَّى تكون له أفعالا خارجية لا أمور ذهنية بل الأمور الذهنية هي مفهومات الخطاب ومقصود الخطاب ليس نفس التعقل بل الانقياد.

وذلك الأفعال الخارجية سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية وعند ذلك فلا بد أن تقع موصوفة فيكون الحكم عليها كذلك.

والثاني أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال لزمت شناعة مذهب الكعبي المقررة في كتاب الأحكام لأن كل فعل أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام ويلقى فيه جميع ما تقدم وقد مر بطلانه.

ولصاحب الثاني أن يقول لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردا عن الأوصاف الخارجية لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق وذلك باطل باتفاق فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة وهو من هذا النمط كذلك كل فعل سائغ في نفسه وفيه تعاون على البر والتقوى أو على الإثم والعدوان إلى ما أشبه ذلك.

ولم يصح النهي عن صيام يوم العيد ولا عن الصلاة عند طلوع الشمس أو عند غروبها وهذا الباب واسع جدا.

والثالث أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط لم يصح للمكلف عمل إلا في النادر إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا بعضها ببعض وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان وقته وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة لأنَّهُ ترك بها واجبا وهكذا كل من خلط عملا صالحا وآخر سيئا فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما في الخارج وهو على خلاف قول الله تعالى {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ

ص: 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سَيِّئًا} [التوبة: 102] لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما للوصف الثاني لم يكن العمل الصالح صالحا فلم يكن ثم خلط عملين بل صار عملا واحدا إما صالحا وإما سيئا ونص الآية يبطل هذا.

وكذلك جريان العوائد في المكلفين فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل في الذهن لا في الخارج.

ولصاحب الثاني أن يقول أن الأمور الذهنية مجردة من الأمور الخارجية لا تفعل وما لا يفعل لا يكلف به أما أن ما لا يفعل لا يكلف به فواضح. وأما أن الأمور الذهنية لا تفعل مجردة فهو ظاهر أيضًا أما في المحسوسات فكالإنسان مثلا، فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج. لأنها كلية حتَّى تتخصص، ولا تتخصص حتَّى تتشخص، ولا تتشخص حتَّى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر. فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف كالضحك، وانتصاب القامة، وعرض الأظفار، ونحوها، وخواص شخصية وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخَر، ولولا ذلك لم يظهر الإنسان في الخارج البتة.

فقد صارت إذا الأمور الخارجة العارضة لازمة لوجود حقيقة الإنسان في الخارج وأما في الشرعيات فكالصلاة مثلا فإن حقيقتها المركبة من القيام والركوع والسجود والقراءة وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات وأحوال وهيئات شتى. وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتَّى يحكم عليها بالكمال أو النقصان، والصحة والبطلان وهى متشخصات وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك، إذ هي في الذهن كالمعدوم. وإذا كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج، وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة، وأمور على خلاف ذلك. وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها فهو إذا مخاطب بما يصح له أن يحصله في الخارج، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها. وهو المطلوب. فإن حصلت بزيادة وصف أو نقصانه فلم تحصل إذا على حقيقتها بل على حقيقة أخرى. والتي خوطب بها لم تحصل بعد فإن قيل فيشكل معنى الآية إذا وهو قوله {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة أو نقصان وتصح مع

ص: 77

"‌

‌ فصل

"

1568 -

ثُمَّ مِنَ الأفْعَالِ مَا يَصِيرُ

وَصْفًا لَهُ فِي غَيْرِهِ تَأْثِيرُ

ذلك، وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة وهو الاعتبار الذهني.

قيل أما الآية فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمئلازمة لحصولها في زمنين وفى حالين وفى مثله نزلت الآية. وإذا تلازمت حتَّى صار أحدها كالوصف للآخر فإن كان كالوصف السلبي فلا إشكال في عدم التلازم لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية وأما إن كانت صفة وجودية أو كالصفة الوجودية فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج، ولا يدخل مثله تحت الآية وأما الزيادة غير المبطلة أو النقصان فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به، فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة، فعوملت معاملتها لا أنه اعتبر فيها الاعتبار الذهني في الجملة والبحث في هذه المسألة يتشعب وينبني عليه مسائل فقهية

(1)

.

"فصل"

"ثم" بعد تقرير ما تقدم يرد على الأذهان هنا استفسار، وهو أن المرء قد يجمع بين وصفين سلبيين كانا أو وجوديين أو مختلطين متلازمين فيحدث منهما فعل واحد موصوف فهل كل وصفين اجتمعا في الشخص يتزاحمان بحيث يكون أحدهما وصفا للآخر كما تقدم في شأن الجمع بين الصلاة والغصب، إذا وصفت فيه الصلاة بأنها فعل موصوف بوصف منهي عنه وهو الغصب، أم أن ذلك ليس على الإطلاق فيكون المصير في شأنه إلى التفصيل هو الصواب؟

نعم، الحق في ذلك هو التفصيل، والذي بيانه هو أن "من الأفعال ما" إذا اجتمع مع غيره فإنه "يصير وصفا له" وبذلك فله "في غيره" ذاك "تأثير" معتبر شرعا - كالجمع سن الصلاة وما لا يشرع فيها من فحل، وهذا التأثير لا يحصل ولا يتصور إذا لاحظنا جهة معقولية ذلك الفعل، لأنَّهُ لا ينظر فيها إلى ما يكون عليه في الخارج من حال،

(1)

الموافقات 3/ 25 - 26 - 27.

ص: 78

1569 -

بِنِسْبَةِ الْخَارجِ بِالتَّزَاحُمِ

فَفِيهِ يَجْرِيَانِ لِلتَّلَازُمِ

1570 -

وَلَيْسَتِ الترُوكُ كَالأَفْعَالِ

إِذْ لَا تَلَازُمَ لَهَا بِحَالِ

1571 -

إِذِ التُّرُوكُ كُلُّهَا سَلْبِيَّهْ

لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةُ الْوَصْفِيَّهْ

1572 -

فَلَوْ تَرَكْنَا مَا عَسَى أَنْ نَتْرُكَا

لَمْ يَتَزَاحَمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُرِكَا

1573 -

كَذَا اجْتِمَاعُهَا مَعَ الأَفْعَالِ مَا

لَمْ يَكُ لِلشَّرْعِ التَّلَازمُ انْتَمَا

1574 -

فَإِنَّهُ يُعَدُّ فِي الأوْصَافِ

كالتَّرْكِ لِلصَّوْمِ فِي الاِعْتِكَافِ

وإنما يحصل ذلك ويتصور "بـ"ـا لـ"نسبة" إلى ما يكون عليه الفعل في "الخارج" وذلك "بـ" سبب "التزاحم" بين الفعلين الذي يقع المكلف "ففيه" أي الخارج، الفعلان المؤثر أحدهما في الآخَر "يجريان" أي يقعان، "لـ" ما بينهما من "التلازم" فيه. "وليست التروك" في هذا الشأن "كالأفعال" فاجتماعها لا يقتضي أن يصير بعضها كالوصف للبعض اللآخر ولا أن يوثر بعضها في بعض من جهة الأحكام الشرعية "إذ" بينها انفصال في واقع الأمر وفي نظر الشارع فـ"لا تلازم" ثابت "لها" فيما بين بعضها والبعض الآخَر "بـ" أي "حال" من الأحوال العقلية أو الشرعية، أو العادية "إذ" هي أي "التروك كلها" أوصاف "سلبية" عدمية اعتبارية، وبذلك فهي "ليس" يثبت "لها حقيقة" الصفة "الوصفية" أي الحقيقة التي تدل على أوصاف خارجية ثابتة زائدة على ماهية الموصوف.

"فلو تركنا ما عسى" وأمكن "أن نتركا" - الألف للإطلاق - أي نتركه من الأفعال في زمان واحد كأن نترك شرب الخمر والزنا والغيبة وفعل الصلاة، والزكاة فإن ذلك كله "لم" - يعني لا - أي لا "يتزاحم منه شيء تركا" - الألف للإطلاق - مع غيره الآخَر المتروك.

"كذا" حكم "اجتماعها" أي التروك "مع الأفعال" فإنها كذلك لا تزاحم بين تلك التروك وتلك الأفعال وذلك كمثل ترك قضاء الدين مع فعل الصلاة، فيمن فر من قضائه إلى الصلاة، فإن الصلاة وإن وصفت بأنها فرار من واجب فليس ذلك بوصف لها إلا اعتباريا مقدرا، فهو ليس وصفا حقيقيا، إذ لا حقيقة له في الخارج.

هذا كله "ما لم يك" قد انتسب "للشرع" ثبوت "التلازم" بين فعل وترك ما "انتمى" له ذلك الفعل، وأما إن كان كذلك "فإنه" أي ذلك الترك "يعد" ويعتبر "في الأوصاف" الثابتة الحقيقية شرعا -، وذلك"كالترك للصوم في الاعتكاف"، فيقال فيه اعتكاف متروك

ص: 79

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1575 -

ثُمَّ دَلِيلُ الشَّرْعِ مِنْهُ نَقْلُ

مَحْضٌ وَرَأْيٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ

1576 -

لَكِنْ بِنِسْبَةِ الأُصُولِ ذَا اعْتُبِرْ

إِذْ كُلُّ ضَرْبٍ لِسِوَاهُ مُفْتَقِرْ

فيه الصوم، وهذا يؤثر في حكمه إذ يترتب عليه البطلان عند من يشترطون الصوم في الاعتكاف كالمالكية والحنفية وبعض الصحابة والتابعين.

ومثله ترك الطهارة في الصلاة وترك الاستقبال.

وذلك في واقع الأمر إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الموجود كالطهارة للصلاة.

خلاصة القول - كما قال الشاطبي -: إن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج وكذلك الأفعال مع التروك إلا أن يثبت تلازمها شرعا ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الوجودي كالطهارة للصلاة وأما الأفعال مع الأفعال فهي التي تتلازم إذا قرنت في الخارج فيحدث منها فعل واحد موصوف فينظر فيه وفي وصفه كما تقدم والله أعلم.

ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي

(1)

.

"المسألة الخامسة"

"ثم" بعد بيان أحوال المسألة المتقدمة وجني ثمرتها المعرفية ننتقل إلى هذه المسألة - المسألة الخامسة - لبيانها وفي ذلك نقول: إن "دليل الشرع" الذي تؤخذ منه الأحكام الشرعية وتبنى عليه ضربان فـ"ـمنه" ما هو "نقل" أي منقول عن الشارع "محض" أي خالص، "و" منه ما هو "رأي" محض "يقتضيه" ويوجبه "العقل" وذلك من جهة أن ما يبنى عليه من حكم مرده إلى ظن المحجتهد، فما أدَّاه إليه اجتهاده في ذلك فهو الذي يصير إليه فاكم في ذلك - إذن - هو مقتضى نظره، "لكن" إنما هو "بـ"ـا لـ"نسبة" إلى "الأصول" يعني أصول الأدلة "ذا اعتبر" ولوحظ، لا بالنسبة للاستقلال والتفرد بإفادة الأحكام، فإن ذلك أمر لا يتأتى في حق أي منها "إذ كل ضرب" من هذين الضربين "لسواه" منها "مفتقر"

(1)

الموافقات 3/ 29.

ص: 80

1577 -

فَمَا إِلَى النَّقْلِ لَهُ انْتِسَابُ

فَذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْكِتَابُ

1578 -

وَمَا مِنَ الْعَقْلِ لَهُ اقْتِبَاسُ

فَذَاكَ الاِستِدْلَالُ وَالْقِيَاسُ

1579 -

وَشَرْعُ مَنْ مَضَى وَالإِجْمَاعُ وَمَا

رَأْيُ صَحَابِيِّ لِلأَوَّلِ انْتَمَا

1580 -

وَأُلْحِقَتْ كنَوْعِ الاسْتِحْسَانِ

مَصْلَحَةٌ مُرْسَلَةٌ بِالثَّانِي

1581 -

أَوْ أَوَّلٍ إِنْ رُدَّ مَعْنَاهَا إِلَى

حُكْمِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ مَثَلَا

ومحتاج في شأن بناء الأحكام، وذلك أمر واضح، لأن الدليل النقلي تستخرج منه الأحكام بالنظر، وإعمال الذهن، والعقل لا يأخذ الأحكام الشرعية إلا مما نصبه الشارع دليلا عليها، فالرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل.

"فـ"ـأما الضرب الأول وهو "ما" من الأدلة "إلى النقل له انتساب" فيقال فيه نقلي، وقد يقال فيه منقول "فذلك" هو "السنة" النبوية "والكتاب" أي القرآن الكريم.

"و" أما الضرب الثاني وهو "ما من "الأدلة "العقل له اقتباس" وأخذ على الوجه المتقدم "فذاك" هو "الاستدلال والقياس" الآتي بيانهما ببسط.

"و" أما "شرع من مضى" قبلنا "والإجماع وما" هو "رأي صحابي" فإنه إما باتفاق وإما باختلاف "لـ" ـلضّرب "الأول" وهو الدليل النقلي "انتمى" وانتسب لأن ذلك كله وما فيه من معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد.

"وألحقت" أصول فرعية أخرى "كنوع الاستحسان" وما هو "مصلحة مرسلة بـ" النوع "الثاني" وهو الضرب الذي مستنده الرأي على الوجه المتقدم ذكره، هذا إذا قلنا: إنها راجعة إلى أمر نظري.

"أو "بالنوع الذي هو "أول" هنا وهو النقلي، وذلك "إن رُدّ معناها" أي معنى هذه الأصول "إلى" جريان "حكم العموم المعنوي" عليها "مثلا" ذلك والعموم هو الذي تفيده الأدلة النقلية من جهة علل الأحكام الواردة فيها، والمقاصد الشرعية من تلك الأحكام.

وهذا سيأتي بيانه في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد.

ص: 81

"‌

‌ فصل

"

1582 -

ثُمَّ نَقُولُ جُمْلَةُ الأَدِلَّهْ

فِي ضَرْبِهَا الأوَّلِ مُسْتَقِلَّهْ

1583 -

إِذْ ضَرْبُهَا الثَّانِي اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ

وَمَا اسْتَبَدَّ فِيهِ لَوْلَا النَّقْلُ

" فصل"

"ثم" بعد تقرير هذا قد يظن أن الأحكام الشرعية لها مدرك آخر غير الدليل النقلي - وهو ما تقدم تسميته بالرأي - وهذا غير صحيح فإنا "نقول جملة" أي كل "الأدلة" الشرعية "في ضربها الأول" وهو الدليل النقلي "مستقلة" يعني محصورة، فلا دليل شرعي حقيقي آخر سواه.

"إذ ضربها" أي الأدلة الشرعية "الثاني" المذكور "اقتضاه العقل" يعني اقتضاه وأثمره إعمال العقل في الأدلة الشرعية وتسريحه فيها "و" لكنه ما ثبت اعتباره إلا بالنقل إذ العقل "ما" كان له أن يكون معتمدا عليه في هذا الشأن ولا "استبدّ فيه" بالنظر، وقبل ما يثمره فيه من ثمر "لولا النقل" الذي قضى بكونه - أي العقل أو الرأي - حجة مقبولة في ذلك، فالدليل النقلي هو الذي حكم بأنه دليل شرعي في ذلك، فلو فرض أن الدليل النقلي لم يحكم بذلك فإنه - لا محالة - سيسقط اعتباره في هذا الشأن.

وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة، وقد صار إذ ذاك الضرب الأول مستند الأحكام التكليفية من جهتين:

إحداهما جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية.

والأخرى جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والصيد والذبائح والبيوع والحدود وأشباه ذلك والثانية كدلالته على أن الإجماع حجة وعلى أن القياس حجة وأن قول الصحابي حجة وشرع من قبلنا حجة وما كان نحو ذلك

(1)

.

(1)

الموافقات 3/ 30.

ص: 82

"‌

‌ فصل

"

1584 -

ثُمَّ نَقُولُ فِي الْكِتَابِ إِنَّهْ

رَاجِعَة لِمُقْتَضَاهُ السُّنَّهْ

1585 -

فَهْوَ دَلِيلُ صِدْقِهَا إِذْ بَيَّنهْ

وَهِيَ لِكُلِّيَاتِهِ مُبَيِّنَهْ

" فصل"

"ثم" بعد هذا نرد كل الأدلة الشرعية إلى القرآن الكريم إذ "نقول في" حق هذا "الكتاب" العزيز "إنه راجعة لمقتضاه" وما يدل عليه من معان ومقاصد وأحكام وفوائد جميع ما تفيده وتدل عليه "السنة" النبوية الشريفة من أحكام ومقاصد ومعان، وذلك من وجهين:

"فـ"ـأحدها: أنه "هو دليل" وبرهان ثبوت "صدقها إذ" هو الذي قد "بينه" وأوجبه، وذلك أن الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعجزة، وقد حصر عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن بقوله:"وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ" هذا: وإن كان له من المعجزات كثير جدا بعضه يؤمن على مثله البشر ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله وأيضا فإن الله قد قال في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 13] في مواضع كثيرة وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ومما ليس فيه مما هو من سنته وقال {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] إلى ما أشبه ذلك

(1)

.

"و" الثاني أنها "هي لكلياته" أي القرآن "مبينة" وموضحة ومفصلة، وذلك أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه. ولذلك قال - تعالى -:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وقال - سبحانه -: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] وذلك التبليغ من وجهين: تبليغ الرسالة وهو الكتاب. وبيان معانيه. وكذلك فعله صلى الله عليه وسلم. فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا

(1)

الموفقات 3/ 30.

ص: 83

1586 -

فَحَاصِلٌ أَنَّ كِتَابَ اللهِ

أَصْلُ الأُصُولِ غَايَةُ التَّنَاهِي

"‌

‌ المسألة السادسة

"

1587 -

كُلُّ دَلِيلٍ فَلَهُ مُقَدِّمَهْ

تَأْتِي بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ مُعْلِمَهْ

1588 -

ثُمَّ لَهُ أُخْرَى لِنَفْسِ الْحُكْمِ

مَرْجِعُهَا فِي كُلِّ حُكْمٍ حُكْمِ

للكتاب، وهذا هو الأمر العام فيها.

وبذلك "فحاصل" القول هو "أن كتاب الله" تعالى هو الذي إليه يستند كل ما يعتبر دليلا شرعيا، إذ هو "أصل الأصول" و"غاية" ما إليه "التناهي" في كل شأن شرعي أصلا كان أو فرعا، ومنتهى أنظار النظار ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى، لأنَّهُ كلام الله القديم وقد قال - تعالى -:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} [النجم: 42] وقد قال - تعالى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] وقال - سبحانه -: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

وفي المسألة الثانية من الدليل الثاني - السنة - سيأتي مزيد بيان لمسألة رجوع جميع ما في السنة إلى الكتاب.

"المسألة السادسة"

في بيان بنية الدليل الشرعى، وبيان ذلك هو أنه قد تقرر أن "كل دليل" شرعي لا يمكن أن يفيد الحكم ويبين الموضع الذي يصح تنزيله عليه معينا وحده، وبذلك "فله"

(1)

أي لهذا الدليل من حيث بنيته مقدمتان: أحدهما "مقدمة تأتي" وتجيء وهي "بتحقيق المناط" - بفتح الميم - وهو ما تعلق به الحكم من وصف، أو ذات "معلمه" أي مخبرة لدلالتها عليه "ثم له" مقدمة "أخرى" هي "لنفس الحكم" الشرعي "مرجعها" فمتضمنها هو ذلك الحكم، وهذا يجري "في كل حكم حكم" بلا فرق ولا تفصيل،

(1)

الظاهر أن اللام في هذا اللفظ وهو: (له) للاختصاص بمعنى التعلق والارتباط، ويمكن أن تكون للنسب المجازي وهذا هو ما يقال في (له) الذي يأتي بعد.

ص: 84

1589 -

فَتُنْسَبُ الأُولَى بِهِ إِلَى النَّظَرْ

وَنِسْبَةُ الأُخْرَى إِلَى النَّقْلِ اسْتَقَرْ

"‌

‌ المسألة السابعة

"

وبذلك "فـ" إنه "تنسب" المقدمة "الأولى به" يعني فيه - أي في الدليل "إلى النظر" فتوصف بأنها نظرية وأعني بالنظرية هنا ما سوى النقلية، سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر، والتدبر، ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية

(1)

.

"و" أما "نسبة" المقدمة "الأخرى" فإنه "إلى النقل" قد حصل و "استقر" وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي بل هذا جار في كل مطلب عقلي أو نقلي فيصح أن نقول الأولى راجعة إلى تحقيق المناط والثانية راجعة إلى الحكم ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية فإذا قلت إن كل مسكر حرام فلا يتم القضاء عليه حتَّى يكون بحيث يشار إلى المقصود منه ليستعمل أو لا يستعمل لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا قيل له أهذا خمر أم لا فلا بد من النظر في كونه خمرا أو غير خمر وهو معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر قال نعم هذا خمر فيقال له كل خمر حرام الاستعمال فيجتنبه وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء فلا بد من النظر إليه هل هو مطلق أم لا وذلك برؤية اللون وبذوق الطعم وشم الرائحة فإذا تبين أنه على أصل خلقته فقد تحقق مناطه عنده وأنه مطلق وهي المقدمة النظرية ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز وكذلك إذا نظر: هل هو مخاطب بالوضوء أم لا؟ فينظر هل هو محدث أم لا؟ فإن تحقق الحدث فقد حقق مناط الحكم، فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء، وإن تحقق فقده فكذلك، فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء وهى المقدمة النقلية. فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ومقيدة، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية ولا ينزل الحكم بها إلا على ما تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو على التقييد، وهو مقتضى المقدمة النظرية والمسألة ظاهرة في الشرعيات.

نعم، وفي اللغويات والعقليات

(2)

.

"المسألة السابعة"

وهي في بيان ما يرجع إليه الدليل المطلق، والدليل المقيد من معنى يتبين به

(1)

الموفقات 3/ 31.

(2)

الموافقات 3/ 31 - 32.

ص: 85

1590 -

وَمَا مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّهْ

يَثْبُتُ كُلِّيًا لَدَى الْمَكِّيَّهْ

1591 -

مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلْ لَّهُ قَانُونُ

أَوْ ضَابِطٌ لَهُ بِهِ تَعْيينُ

1592 -

فَذَاكَ رَاجِعٌ لِمَعْنىً قَدْ عُقِلْ

وَللْمُكَلَّفِينَ أَمْرُهُ وُكِلْ

1593 -

وَقِسْمُ ذَا أَكْثَرُهُ فِي الْعَادِي

كَالْعَدْلِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْعِبَادِ

1594 -

وَمَا أَتَى فِيهَا بِقَيْدٍ وَضُبِطْ

حُكْمًا بِقَانُونٍ إِلَيْهِ يَرْتَبِطْ

1595 -

فَرَاجِعٌ مَعْنَاهُ لِلتَّعَبُّدِ

مِمَّا مُكَلَّفٌ لَهُ لَا يَهْتَدِي

حاله وحكمه.

"و" بيان ذلك أن كل "ما من الأدلة الشرعية يثبت" يعني ثبت في النص الشرعي حالة كونه "كليا" يعني مطلقا غير مقيد - وهذا يرد "لدى" أي في الآيات "المكية" - و"من غير أن يجعل" ويوضع "له قانون" أي أصل يعرف به حده وماهيته "أو ضابط" مخصوص ينضبط به معناه، وهو "له" أي لذلك الدليل "به" أي بذلك الضابط "تعيين" أي بيان لعينه وذاته، وما قصد به معينا، "فذاك" الدليل"راجع" في فهمه وإدراك المعنى المراد به "لمعنى قد عقل" أي معقول مدرك بالعقل.

"و" بذلك لم يضبط شرعا، وإنما "لـ"ـنظر "المكلفين أمره" يعني أمر ضبطه وإدراك المعنى المراد به "وكل" وأسند واعتمد فيه.

"و" الـ"قسم ذا" يعني: وهذا القسم من الأدلة "ـكثره" يرد "في"الأمر "العادي" المعقول المعنى، الذي يدرك حسنه إن كان حسنا وقبحه إن كان قبيحا بمقتضيات الطباع، وذلك "كالعدل والعفو عن العباد" وغير ذلك مما وردت أدلته وهي مطلقة في شأنه، كالصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء والمنكر، والبغي ونقض العهد في المنهيات.

"و" أما "مما أتى فيها" - في بمعنى من - يعني منها أي من الأدلة الشرعية وهو "بقيد" يحجزه عن الإطلاق "وضبط حكما" يعني من جهة ما يفيد من حكم "بقانون" وضابط "إليه يرتبط" فهو مشدود إليه لا ينفك عن مقتضاه. "فـ"ـذاك "راجع معناه" ومبتناه الشرعي "للتعبد" وهو "مما مكلف" - التنوين للتنويع - لا يصل "له" بنظره و"لا" له "يهتدي"

ص: 86

1596 -

لَوْ كَانَ مَوْكُولًا إِلَيْهِ أَمْرُهُ

وَفِي الْعِبَادِيَاتِ بَانَ كُثْرُهُ

1597 -

كَكُثْرِهِ فِيمَا مِنَ الأُصُولِ

يُعْزَى إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ

1598 -

إِذْ هِيَ فِي الْغَالِبِ تَقْيِيدَاتُ

مُقْتَضَيَاتٍ هُنَّ مُطْلَقَاتُ

1599 -

أَوْ هِيَ إِنْشَاءٌ لِأَحْكَامٍ يَرَى

أَسْبَابَهَا جُزْئِيَّةً مَنْ نَظَرَا

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

1600 -

أَدِلَّةُ الْمَدِينَةِ الْكُلِّيَّهْ

تُلْفَى إِذَا تُؤُمِّلَتْ جُزْئِيَّهْ

1601 -

بِنِسْبَةِ الأَعَمِّ مِنْهَا أَوْتُرَا

مُكَمِّلَاتِ حُكْمٍ كُلِّيِّ جَرَا

1602 -

بَيَانُهُ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ

أَحْكَامُهَا تُوجَدُ مَكِّيَاتِ

" لو كان موكولا إليه أمره" يعنى أمر شأن النظر فيه، لأن تعقل أصله لا سبيل إليه، بله كيفيته وما ورد عليه من هيئة، وكذلك العوارض الطارئة عليه، لأنها من جنسه.

"و" هذا الضرب "في العباديات بأن" أي ظهر ووجد "كثره" - بضم الكاف وسكون الثاء - أي كثرته وأغلبه، وكثر في العبادات "ككثره فيما من الأصول" الشرعية "يعزى" من حيث نزوله "إلى مدنية الرسول" صلى الله عليه وسلم "إذ هي" أي تلك الأصول المدنية "في الغالب تقييدات مقتضيات" ومدلولات "هن" من قبل تقدم ورودها "مطلقات أو هي إنشاء" وإيجاد "لأحكام يرى" ويبصر أو يوجد "أسبابها جزئية" لا عامة "من نظرا" - الألف للإطلاق - في أحوالها، وبصُربها. وبيان ذلك بسط يأتي في المسألة الموالية.

"المسألة الثامنة"

في أن الأدلة المدنية لا تكون كلية. وبيان ذلك أن "أدلة" الأحكام النازلة بـ"المدينة" المنورة "الكلية" كأدلة الجهاد - الذي تقدم أنه جزئي بالنسبة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - فإنها في واقع الأمر ليست إلا جزئية، وبذلك فإنها "تلفى إذا تؤملت جزئية" وذلك "بنسبة" أي اعتبار "الأعم منها أو ترى" وتوجد "مكملات حكم" دليل "كلي" قد "جرى" وتقدم وروده. وتوضيح هذا و"بيانه" هو "أن الضروريات" التي يجب حفظها، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل - العرض - والمال، "أحكامها" الشرعية التي وردت فيها "توجد مكيات".

ص: 87

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ عنهما وهو أول ما نزل بمكة.

وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة كقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} [الأنعام: 151]{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8، 9]{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وأشباه ذلك.

وأما العقل فهو وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر إلا بالمدينة فقد ورد في المكيات مجملا إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ومنافعها من السمع والبصر وغيرهما وكذلك منافعها فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء ساعة أو لحظة ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه، وأيضا: فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات، لأن شرب الخمر قد بين الله مثالها في القرآن حيث قال {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان.

وأما النسل فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنا والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين. وأما المال فورد فيه تحريم الظلم وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ونقص المكيال أو الميزان والفساد في الأرض، وما دار بهذا المعنى.

وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن إذاية النفوس، ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم وحفظها من جانب الوجود حاصل، ففي الأربعة الأواخر ظاهر وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح؛ والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخَر، ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلا في المدني، فالأصل وارد في المكي، والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد ويكون ما زاد على ذلك تكميلا، وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة، وذلك يحصل به معنى الانقياد، وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشارعهم، وكذلك الصيام أيضًا، فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء وكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصومه أيضًا حين قدم المدينة صامه وأمر بصيامه حتَّى نسخه رمضان، وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء

ص: 88

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

1903 -

وَجُمْلَةُ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّهْ

يُمْكِنُ فِيهَا أَخْذُهَا مَكِّيَهْ

1904 -

وَهَبْهُ جُزْئِيًّا وَمَا الدَّلِيلُ

قَدْ خَصَّهُ بِمَا لَهُ شُمُولُ

1905 -

وَذَاكَ بَيِّن مِنَ التَّشْرِيعِ

إِذْ حُكْمُهُ التَّعْمِيمُ فِي الْمَشْرُوعِ

فأحكمهما التشريع المدني وأقرهما على ما أقر الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه حين قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائدة: 3] الآية فلهما أصل في المكي على الجملة والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مقرر بمكة؛ كقوله - تعالى -:{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمَان: 17] وما أشبه ذلك

(1)

.

"المسألة التاسعة"

في أن الأدلة الشرعية قد تؤخذ كلها على أنها كلية من جهة الاستغراق والشمول للمكلفين إلا ما خصص الدليل.

"و" بيان ذلك أن "جملة" أي كل "الأدلة الشرعية" يتأتى و"يمكن فيها" باعتبار الجهة المذكورة "أخذها مكية" - هكذا بالنسخة التي بأيدينا ويحتمل أن تكون تصفحت من كلية. كما يحتمل أن تكون كذلك، وإنما هي في الأصل مكية وبذدك يكون مراده بها أن الأدلة كلها ترجع إلى الأدلة المكية باعتبار أنها الأدلة الكلية في الشريعة، فعبر بالمكية بدل الكلية لما بينهما من التلازم. ولكن ظاهر كلام الشاطبي في الأصل لا يساعد على هذا.

خلاصة القول أن الأدلة الشرعية كلها يحق أخذها كلية، فكل دليل شرعي هو كلي باعتبار الجهة المذكورة "وهبه" دليلا "جزئيا" من جهة دلالة اللفظ الدال عليه "وما" أي وليس مما "الدليل قد خصه بما" - الباء بمعنى في - أي فيما "له" فيه استغراق و"شمول" وهو الجهة المذكورة، فإنه كلي فيه، لأنه وإن كان جزئيا فإن ذلك إنما هو بحسب النازلة، لا بحسب التشريع في الأصل "وذاك" أمر "بين" واضح "من" حال "التشريع" ووضعه "إذ حكمه" هو "التعميم" والإجراء على المكلفين "في" الحكم "المشروع" سواء

(1)

الموافقات 3/ 35 - 36.

ص: 89

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

كان في الأمور العادية أو في العبادات. وهذا مقرر وثابت بأدلة: منها: عموم التشريع في الأصل كقوله - تعالى -: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعرَاف: 158]{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سَبَأ: 28]{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النّحل: 44] وهذا معنى مقطوع به لا يخرم القطع به ما جاء من شهادة خزيمة وعناق أبي بردة وقد جاء في الحديث "بعثت للأحمر والأسود".

ومنها: أصل شرعية القياس؛ إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى، وهو معنى متفق عليه، ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق لما ساغ ذلك.

ومنها: أن الله تعالى قال {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزَاب: 37] الآية فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما أو غيره، ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي فقال {لِكَيْلَا} [الأحزَاب: 50] ولذلك قال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزَاب: 21] هذا: ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه الله بأشياء كهبة المرأة نفسها له وتحريم نكاح أزواجه من بعده والزيادة على أربع فلذلك لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستثنى فغيره أحق أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم، وإن لم يكن لها صيغ عموم وهكذا الصيغ المطلقة تجري في الحكم مجرى العامة.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله وفعله، فالقول كقوله:"حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" وقوله: في قضايا خاصة سئل فيها أهي لنا خاصة أم للناس عامة، "بل للناس عامة" كما في قضية الذي نزلت فيه {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هُود: 114] وأشباهها، وقد جعل نفسه عليه الصلاة والسلام قدوة للناس، كما ظهر في حديث الإصباح جنبًا وهو يريد أن يصوم والغسل من التقاء الختانين، وقوله:"إني لأَنْسَى أو أُنَسَى لأسُنَّ " وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي""وخذوا عنى مناسككم" وهو كثير

(1)

.

"المسألة العاشرة"

في أن الأدلة الشرعية على ضربين:

(1)

الموافقات 3/ 37 - 38.

ص: 90

1606 -

وَهْيَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ ضَرْبَانِ

ضَرْبٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْبُرْهَانِ

1607 -

وَيُسْتَدَلُّ مُطْلَقًا بِهِ عَلَى

حُكْمٍ لَهُ ذَاكَ دَلِيلًا جُعِلَا

1608 -

وَأَصْلُ وَضْعِهِ لِلاسْتِدْلَالِ

عَلَى مُخَالِفٍ فِي الانْتِحَالِ

1609 -

وَجُمْلَةُ الْبَرَاهِنِ الْعَقْلِيَّهْ

وَشبْهِهَما بِنَوْعِهِ حَفِيَّهْ

1610 -

وَقَدْ أَتَى مِنْ ذَاكَ فِي الْقُرْآنِ

أَدِلَّةُ قَاطِعَةُ الْبُرْهَانِ

أحدهما: ما كان على طريقة البرهان العقلي.

ثانيهما: ما كان مبنيا على الموافقة في النحلة، فيكون لذلك مسلما مقتضاه.

"و" بيان ذلك أن الأدلة "هي وإن تعددت" من جهة ما دلت عليه من أحكام ومعان "ضربان" أي على نوعين: "ضرب" منهما هو: ما كان مبنيا "على طريقة البرهان" وهو القياس المركب من اليقينيات، "و" هذا الضرب "يستدل مطلقا" به سواء كان من يستدل عليه "به" مؤالفا أو مخالفا "على" كل "حكم" وضع "له ذاك دليلا" و"جعلا" - الألف للإطلاق - لأنه أمر معلوم عند كل من له عقل فلا يقتصر به على الموافق في النحلة، "و" قد كان "أصل وضعه" إنما هو "للاستدلال" والاحتجاج به "على" من هو "مخالف في" الذي عليه من "الانتحال" وهو التلبيس بنحلة ما - والنحلة - بكسر النون - المذهب العقدي أو الدين.

"و" تدخل"جملة" أي كل "البراهن العقلية" الثابتة بالضرورة العقلية "وشبهها" من كل ما هو قائم على أمر يقيني مدرك بالحس والتجربة "بنوعه " - الباء بمعنى في - في نوعه ظاهره أن فيه إضافة الشيء إلى نفسه، وهو واضح، وهذا يوجب التأويل له، وذلك بتخريجه على أنه من باب إضافة العام إلى الخاص، فيكون معنى الكلام حينئذ وتدخل كل البراهين وشبهها في نوع هذا الذي هو مبني على طريقة البرهان لأنها بذلك "حفية".

"وقد أتى من ذاك" الضرب المذكور القائم على اليقينيات "في القرآن أدلة قاطعة البرهان" - فيه إضافة الصفة للموصوف - يعني أدلة برهانها قاطع للجدال، والشك، ومن ذلك قوله - تعالى -:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]

ص: 91

1611 -

وَضَرْبُهَا الآخَرُ مَبْنِيٌّ عَلَى

تَوَافُقِ النحْلَةُ حَيْثُ أَقْبَلَا

1612 -

مِثْلُ دَلِيلِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ

وَسَائِر التَّكْلِيفِ بِالأحْكَامِ

1613 -

وَهْيَ وإِنْ دَلَّتْ فِي الاسْتِعْمَالِ

لَمْ تَأْتِ فِي مَحلِّ الاسْتِدْلَالِ

1614 -

فَهِيَ قَضَايَا وَرَدَتْ مُسَلَّمَهْ

بِمَا مِنَ الْحُكْمِ اقْتَضَتْهُ مُعْلِمَهْ

وقوله - سبحانه -: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] وقوله - تعالى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فُصّلَت: 44] وقوله - سبحانه -: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، وقوله - وهو أصدق القائلين - {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البَقَرَة: 258] وقوله - سبحانه -: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} إلى قوله - تعالى -: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الرُّوم: 40]. وغير ذلك من الآيات من صنف ما ذكر. هذا هو الضرب الأول وبيانه، وهو - كما تاقدم - يستدل به على المخالف والموافق لأنه دليل عقلي.

"و" أما "ضربها" أي الأدلة الشرعية "الآخر" فإنه "مبني على" ثبوت "توافق" في "النحلة" أي الدين فلا يستدل به إلا على الموافق فيها "حيث أقبلا" - الألف للإطلاق أي جاء هذا الضرب في الكتاب والسنة.

وذلك "مثل دليل" وجوب "الحج". وهو قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عِمرَان: 97] وما في معناه من النصوص الشرعية الآخرى "و" دليل "الصيام" كقوله - تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البَقَرَة: 183]"و" كذلك "سائر" ما ورد من أدلة "التكليف بالأحكام" الشرعية، فإنها كلها من هذا الضرب "وهي وإن دلت في الاستعمال" فإنها "لم تأت في محل" ومعرض "الاستدلال" وإقامة الحجج على المخاطب "فهي قضايا" - جمع قضية - وهي قول يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب "وردت" وجاءت "مسلمة" من مدعيها ومن المستدل عليه بها، وهي "بما" دلت عليه "من الحكم" و"اقتضته مُعلمة" - بضم الميم - اسم فاعل أعلم إذا

ص: 92

1615 -

جَاءَتْ لِأنْ تُوخَذَ بِالْقَبُولِ

بُرْهَانُهَا مُعْجِزَةُ الرَّسُولِ

1616 -

فَمَنْ يَكُنْ بِالأوَّلِ اسْتِدْلَالُهُ

كَانَ كأَنْ بِوَضْعِهِ اسْتِقْلَالُهُ

1617 -

وَمَنْ بِثَانٍ يَسْتَدِلُّ إِنَّمَا

أَخَذَهُ مَعْنىً أَتَى مُسَلَّمَا

1618 -

لِفَهْمِ مُقْتَضَاهُ بِالإِلْزَامِ

لِشَأْنِهِ شَرْعًا وَالالْتِزَامِ

1619 -

لِذَاكَ إِطْلَاقُ الدَّلِيلِ فِيهِمَا

نَوْعًا مِنْ اشْتِرَاكِ لَفْظٍ يُمِّمَا

أخبر "جاءت" - أي أتت - "لأن تؤخذ" وهي متلقاة "بالقبول" - بفتح القاف - أي الرضى وبذلك يعلم بها من هي مسلمة عنده "برهانها" الذي قامت عليه حجتها وكونها دليلا معتبرا في الحقيقة إنما هو "معجزة الرسول" صلى الله عليه وسلم الدالة على صدقه في كل ما أتى به، فإذا ثبت برهان المعجزة ثبت الصدق وثبت التكليف على المكلف.

"فمن يكن" من أهل العلم والنظر "بـ"ـالضرب "الأول" من هذين الضربين "استدلاله" واحتجاجه فإنه يعد ويعتبر منشأ له و"كان كأنـ"ـه قد ثبت له انفراد" بوضعه" و "استقلاله" به باعتبار أنه من ثمرات العقل والعقل يعطي ما يثمره لصاحبه بذاته مستقبلا.

"و" أما "من""بـ"ـالضرب الذي هو "ثان" من الضربين "يستدل" ويحتج فإنه "إنما أخذه معنى" وأمرا "أتى مسلما لـ"ـأجل حصول "فهم مقتضاه" وما دل عليه من معنى "بالإلزام" الثابت على الخصم "لشأنه" وأمره "شرعا والالتزام" الذي يلحق به - أي الخصم -، وذلك كان يقول المدعي للخصم إذا سلمت تلك القضية لزمك تسليم المدعى، وسقط اعتراضك، وذلك كأن يدعي الفقيه وجوب الزكاة في حلي البالغة، ويقيم على ذلك دليلا، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "في الحلي زكاة" فيقول الخصم: هذا لا يدل لك، لأنه خبر آحاد، وخبر الآحاد لا يكون حجة. فيقول المدعي: خبر الآحاد حجة، لأنه قد ثبت في علم أصول الفقه حجيته، وكلما هو حجة، فيكفي الاستدلال به، ينتج خبر الآحاد يكفي الاستدلال به، وإذا تقرر هذا ثبت اختلاف حال هذين الضربين على الوجه الذي تقدم ذكره فإنه "لذاك إطلاق" لفظ "الدليل فيهما" يعني عليهما إنما يصح باعتبار أن بينهما "نوعا من اشتراك" الـ"ـلفظ" وهو الذي قد "يمما" - الألف للإطلاق - أي قصد في هذا الإطلاق، لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثاني، فهو بالمعني الأول جار على الاصطلاح المشهور عند العلماء وبالمعنى الثاني نتيجة أنتجتها المعجزة فصار قولا مقبولا فقط.

ص: 93

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

1620 -

وَإِن يَّكُ الدَّلِيلُ وَارِدًا لِمَا

هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ إِذْ فُهِمَا

1621 -

لَمْ يُسْتَدَلَّ مَعَ ذَا بِهِ عَلَا

مَعْنىً مَجَازِي عَلَيْهِ اشْتَمَلَا

1622 -

إِلَّا لَدَى مَنْ قَالَ بِالتَّعْمِيمِ فِي

لَفْظٍ بِهِ مَعْنَى اشْتِرَاكٍ اقْتفِي

1623 -

إِنْ كَانَ لِلْعَرَبِ ذَاكَ الْمَعْنَا

مِمَّا بِمِثْلِ اللَّفْظِ قَصْدًا يُعْنَا

1624 -

كيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيْتِ وَمَا

أَشْبَهَهُ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَا

" المسألة الحادية عشرة"

في أن الدليل لا يستدل به على معناه المجازي إذا بقي على حقيقته إلا عند من يرى جواز استعماله في حقيقته ومجازه.

"و" بيان ذلك أنه "إن يك الدليل" يعني اللفظ "واردا لما هو له" من المعنى "حقيقة" ويعرف ذلك بفقدان القرينة الصارفة له عن ذلك، و "إذ فهما" في معناه الحقيقي فإنه "لم" يعنِ لا "يستدل مع" ثبوت "ذا" الحال فيه ووجوده "به على معنى مجازي عليه اشتملا" - الألف للاطلاق - واحتوى عليه باعتبار الصلاحية والاحتمال، "إلا لدى" أي عند "من قال بـ "ـالحمل على "التعميم في" كل "لفظ به معنى اشتراك اقتفي" أي اتبع مقتضاه وقبل، وذلك إذا كان خلوا من التناقض، أما المشترك المتناقض فإنه لا يذهب فيه إلى التعميم على الإطلاق لاستحالته. وهذا القول بالتعميم هنا إنما يصح الذهاب إليه "إن كان للعرب" يعني عند العرب "ذاك المعنى" مستعملا في كلامهم، وكان ذاك المعنى "مما" يعبر "بمثل" ذلك "اللفظ" عنه "قصدا" و"يعنى" به أي يراد به، وذلك "كيخرج الحي من الميت" أراد قوله - تعالى -:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعَام: 95] الذي ذهبت جماعة إلى أن المراد بالموت والحياة فيه ما هو حقيقي، كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وبالعكس، وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه. وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في قوله - تعالى - {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعَام: 122]. "و" هذا الذي يجري في قوله - تعالى -: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعَام: 95] يجري في كل "ما أشبهه" فيحمل على المعنى الحقيقي "في قول بعض العلماء"

ص: 94

1623 -

فَإِنْ يَكُ الْمُجَازُ حَيْث مَا ظَهَرْ

لَا عَهْدَ لِلْغرْبِ بِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ

وعلى هذا المجاز في قول آخرين عند من ينكر حمل اللفظ على مجازه وحقيقته على سبيل الشمول والاستغراق.

وادعى قوم ومنهم الشافعي أن الجميع مراد في اللفظ الذي يحتمل الدلالة على الحقيقة والمجاز بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه هذا إذا كان قد قام به الشرط المذكور.

"فإن يك" هذا الشرط قد عدم فإن "المجاز حيث ما ظهر" في الكلام إذا كان "لا عهد للعرب به" في تصاريف كلامهم واستعمالاتهم فيه فإنه لا يلتفت إليه إذ هو لم يعنِ و"لم يعتبر" لما تقدم من أنه لا مبالاة بما هو خارج عن معهود اللسان العربي مثال الذي تخلف فيه ذلك الشرط قوله - تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاء: 43] فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة أو سكر النوم وهو مجاز فيه مستعمل وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما منع سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه، وإن الجنابة المراد بها التضمخ بدنس الذنوب والاغتسال هو التوبة لكان هذا التفسير غير معتبر، لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع ولا عهد لها به، لأنها لا تفهم من الجنابة والاغتسال إلا الحقيقة، ومثله قول من زعم أن النعلين في قوله تعالى:{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] إشارة إلى خلع الكونين فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها وربما نقل في قوله صلى الله عليه وسلم: "تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء" أن فيه إشارة إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب وكل ذلك غير معتبر فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا وبلسان العرب وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم وهذا الاستعمال خارج عنه ولهذا المعنى تقرير في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد به في أهل العلم فالقول فيه مبسوط بعد هذا بحول الله

(1)

.

(1)

الموافقات 3/ 39 - 40.

ص: 95

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

1626 -

ثُمَّ دَلِيلُ الشَّرْعِ لِلْمُكَلَّفِ

إِنْ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ

1627 -

إِمَّا عَلَى الدَّوَامِ أَوْ فِي الأَكثَرِ

فَهْوَ بِالاسْتِدْلَالِ وَالْفِعْلِ حَرِ

1628 -

أَوْ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ قَلِيلًا

فِي حَالَةٍ مَا يَقْتَضِي تَأْوِيلًا

1629 -

وَكَانَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ

مُدَاوَمًا أَوْ أَكْثَرِيًا يَحْصُلُ

" المسألة الثانية عشرة"

"ثم" ننتقل بعد ما نجز لنا ما تقدم ذكره إلى بيان أن "دليل الشرع" بالنسبة "لـ" عمل "المكلف" بمقتضاه واستدلاله به أحواله مختلفة بحسب ما عليه السلف في شأنه. وذلك أن كل دليل شرعي لا يخلو إما أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين، و "إن كان معمولا به في السلف" المتقدمين، فإنه "إما" أن يكون معمولا به "على الدوام" والاستمرار "أو" يكون معمولا به "في الأكثر" والغالب - وهذا هو الضرب الأول والقسم الأول - فإن كان كذلك "فهو بالاستدلال" به "والفعل" والعمل بمقتضاه وعلى وفقه "حري" أي جدير، وحقيق، وهذا لا إشكال فيه لأن ذلك هو السنة المتبعة والصراط المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا أو ندبا أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل والزكاة بشروطها والضحايا والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة وبينها عليه الصلاة والسلام بقوله أو فعله أو إقراره ووقع فعله أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائما أو أكثريا وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق

(1)

.

هذا إن كان عمل السلف أكثريا أو على سبيل الدوام، وأما إن وقع "أو كان معمولا بلى" عندهم "قليلا" ونادرا، بأن يكون معمولا به "في حالة" دون حالة، أو وقت دون وقت من "ما يقتضي" ويستوجب

"تأويلا" لعملهم به "وكان غيره" المخالف له من الأدلة هو الذي جرى "عليه العمل" في حالة كونه "مداوما" عليه "أو أكثريا يحصل" ويقع.

(1)

الموافقات 3/ 41.

ص: 96

1630 -

فَالسُّنَّةُ اتِّبَاعُ حُكْمِ الأَكثَرِ

وَمَا يَقِلُّ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ

1631 -

وَإِنْ فَرَضْنَا فِيهِ أَنْ قَدْ صَدَرَا

مُخَيَّرًا فِيهِ وَمِمَّا كَثُرَا

1632 -

مَا عَمَّ أَوْلَى وَهْوَ ذُو اتِّضَاحِ

كَالشَّأْنِ فِي الْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ

1633 -

ثُمَّ قَضَايَا الْعَيْنِ فِي الْحُصُولِ

لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَدَى الأُصُولِ

1634 -

لَكِنْ لِهَذَا الْقِسْمِ فِي الْبَيَانِ

أَمْثِلَة لَكِنَّهَا ضَرْبَانِ

" فـ" إن "السنة" هي "اتباع حكم" الدليل الذي يكون العمل به هو "الأكثر و "أما "ما" أي الذي من الأدلة "يقل" العمل به فإنه "في محل النظر" والبحث في شأنه، من أجل التثبت فيه وفي العمل على وفقه. لكن تجب المثابرة على ما هو الأعم والأكثر فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل، إما أن يكون لمعنى شرعي أو لغير معنى شرعي، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، وإن كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة، فلا بد من تحري ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه. "و" أيضا "إن فرضنا فيه" أي في هذا المنقول الذي قل العمل به "أنـ "ـه "قد صدرا" وجاء "مخيرا فيه" يعني في العمل به "و" فيما يعني العمل "مما" قد "كثرا" العمل به فإن "ما عم" العمل به يعني غلب "أولى" وأجدر بأن يعمل على وفقه "و" ثبوت هذه الأولوية هنا "هو" أمر "ذو اتضاح" وبيان وجهه، لأن عملهم - إذا حقق النظر فيه لا يقتضى مطلقا التخيير، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة. وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر - العمل القليل - لا حرج فيه، "كالشأن" والأمر "في المندوب والمباح" فإن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه، إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة، فصار المكلف كالمخير فيهما، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة، فكذلك ما نحن فيه.

"ثم" إن "قضايا" الأعيان، مفردها قضية "العين"، ومعناها: الحكم المخصوص بالشخص الذي شرع له ذلك الحكم بحيث لا يتعداه إلى ما سواه، ويعبر عن هذا بعبارات أخرى، - "في الحصول" والوقوع لما دلت عليه "ليست بحجة" بمجردها "لدى" أي عند أهل "الأصول" ما لم يعضدها دليل آخر يكون حجة في محلها.

"لكن لهذا القسم" الذي قل العمل به "في" حالة التثبت من حاله والإيضاح و"البيان" له "أمثلة" كثيرة "لكنها" محصورة إذ هي "ضربان":

ص: 97

1635 -

ضَرْبٌ يَدُلُّ أَنَّ قِلَّةَ الْعَمَلْ

بِهِ اقْتَضَاهُ سبَبٌ بِهِ اتَّصَلْ

1636 -

حَتَّى إِذَا يُعْدَمُ ذَاكَ السَّبَبُ

يُعْدَمُ بِانْعِدَامِهِ الْمُسَبَّبُ

1637 -

أَوْ كَوْنُهُ جَاءَ لِتَبْيِينٍ وَجَبْ

وَحُكْمُ ذَا الضَّرْبِ اقْتِفَاءُ مَا غَلَبْ

أحدهما "ضرب يدل" حاله وواقع أمره "أن قلة العمل به اقتضاه" وأوحبه "سبب به اتصل حتى إذا يعدم ذاك السبب" يزول و"يعدم بانعدامه" وزواله "المسبب" كما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ثم ترك ذلك مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر، حتى جاءت خلافة عمر، فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب، ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك، فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم، ولا يقومون مع الإمام واستحبه مالك لمن قدر عليه. "أو كونه" أي هذا الدليل الذي قل العمل به "جاء لتبيين" أمر قد "وجب" توضيحه، وهذا له مواضع، كوقوعه بيانا لحدود حدت، وأوقات عينت كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة فقال: صل معنا هذين اليومين فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر وقت الاختياري الذي لا يتعدى ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد في شدة الحر والجمع بين الصلاتين في السفر وأشباه ذلك. وكذلك قوله من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح الخ. بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا فلذلك لم يقع العمل عليه في حال الاختيار ومن أجل ذلك يفهم أن قوله عليه الصلاة والسلام: أسفروا بالفجر مرجوح بالنسبة إلى العمل على وفقه وإن لم يصح فالأمر أوضح، وبه أيضا يفهم وجه إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك واحتجاج عروة بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ولفظ كان فعل يقتضي الكثرة بحسب العرف فكأنه احتج عليه في مخالفة ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال بهذا أمرت وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة وهو على المنبر أية ساعة هذه وأشباهه

(1)

. وغير ذلك من الأمثلة من هذا الصنف "وحكم ذا الضرب" الذي ينبغي فيه هو "اقتفاء" واتباع "ما غلب" كائنا ما

(1)

الموافقات 3/ 42/ 43.

ص: 98

1638 -

وَتَرْكُ مَا قَدْ قَلَّ أَوْ تَقْلِيلُهُ

حَسَبَمَا كَانَ لَهُمْ تَحْصِيلُهُ

1639 -

وَضَرْبُهُ الثَّانِي عَلَى خِلَافِ

مَا مَرَّ فِي الأَوَّلِ مِنْ أَوْصَافِ

1640 -

لَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى وُجُوهِ

يُذْكَرُ مِنْهَا الْبَعْضُ لِلتَّنْبِيهِ

1641 -

كَأَنْ يُرَى فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلَا

أَوْ أَصْلُهُ مِمَّا بِهِ الْخُلْفُ انْجَلَا

1642 -

مِثْلُ سُجُودِ الشُّكْرِ وَالْقِيَامِ

لِدَاخِلٍ بِنِيَّةِ الإِكْرَامِ

كان "وترك ما قد قل" بالكلية "أو تقليله" وذلك "حسبما كان لهم" أي للسلف الصالح "تحصيله" - فيه إضافة المصدر إلى المفعول - والأصل تحصيلهم إياه أي فعلهم له، فإن كانوا يأتونه على قلة، فإنه يؤتى علة قلة، وإن كانوا قد تركوه بالكلية فإنه يصار إلى تركه كذلك وتفاصيل هذا الموضوع تراجع في الأصل - الموافقات -. هذا بيان الضرب الأول من هذا القسم وحكمه. "و" أما "ضربه الثاني" فإنه "على خلاف ما" أي الذي قد "مر في" الضرب "الأول من أوصاف" فهذا الضرب الثاني لا يتبين فيه وجه يكون سببا للقلة فيه "لكنه يأتي على وجوه" وصور "يذكر منها البعض" أي بعضها "للتنبيه" والتمثيل، وذلك "كأن يرى" ذلك العمل المؤتى به على قلة "في نفسه" وبمقتضى دلالته ومعناه "محتملا" - بكسر الميم - لمعنيين مختلفين، فيختلف فيه أهل العلم لذلك، ويذهب كل مجتهد في شأنه إلى ما ظهر له فيه أنه الصواب، "أو" كان "أصله" غير ثابت بأن كان "مما به" أي فيه - يعني ثبوته "الخلف" بين أهل العلم "انجلا" وظهر، وذلك "مثل سجود الشكر" فإن كونه أمرا ثابتا في الشريعة مختلف فيه، وقد جنح جمع من أهل الحديث والآثار إلى نصرة كونه من الشريعة، وأنه سنة ثابتة وأنكر مالك ذلك كما سيأتي ذكره، وهذا المثال راجع لقوله:"أصله مما به الخلف انجلا".

"و" كذلك "القيام لـ"ـشخص ما "داخل" وذلك "بنية الإكرام" والتعظيم، فإن العمل المتصل تركه، فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل حتى روى عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس فقال إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه وقوله "قوموا لسيدكم" إن حملناه على ظاهره

ص: 99

1643 -

فَمِثْلُ هَذَا تَرْكُهُ أَهَمُّ

وَيُقْتَفَى الأَغْلَبُ وَالأَعَمُّ

1644 -

وَمِنْ هُنَا يَبْدُوا لِمَنْ تَأَمَّلَا

مَا مَالِكٌ رَءَاهُ أَصْلًا مُعْمَلَا

1645 -

حَيْثُ يُرَى مُقَدِّمًا عَلَى الْخَبَرْ

عَمَلَ أَهْلِ طَيْبَةٍ إِذَا اسْتَمَرّ

فالأولى خلافه لما تقدم وإن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم، أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم له أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود أو للإعانة على معنى من المعاني أو لغير ذلك مما يحتمل

(1)

.

ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة فإن مالكا قال له كان ذلك خاصا بجعفر فقال سفيان ما يخصه يخصنا وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين. فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل فجعل معانقة النبي عليه الصلاة والسلام أمرا خاصا أي ليس عليه العمل فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه، وكذلك تقبيل اليد أن فرضنا أو سلمنا صحة ما روى فيه فإنه لم يقع تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين فدل على مرجوحيته

(2)

.

وهذا مثال راجع لقوله "كأن يرى في نفسه محتملا""فمثل هذا" العمل القليل "تركه" يعني ترك العمل على وفقه "أهم" وأقوى "ويقتفى" ويتبع مقابلا له العمل الذي هو "الأغلب والأعم" لأن ذلك أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط.

"ومن هنا" أي هذا المكان "يبدوا" أي يظهر "لمن تأمَّلا" - الألف للإطلاق - شأن هذا الأصل المقرر فيه وتدبره وجه "ما" أي الذي الإمام "مالك" رحمه الله تعالى - "رءاه أصلا" فقهيا "معملا" في بناء الأحكام الفقهية، وذلك "حيث يرى" - بضم الياء - مبنيا للمفعول - متخذا من أصوله أن يكون "مقدّما" في الترجيح "على الخبر عمل أهل طيبة" أي المدينة المنورة فيما سبيله النقل، "إذا استمر" ذاك العمل وكان فيه خلفهم تابعا لسلفهم، إذ ما كان مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في قوة المستمر.

(1)

الموفقات 3/ 47.

(2)

الموفقات 3/ 47/ 48.

ص: 100

1646 -

وَانْظُرْ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْعُتْبِيَّهْ

عَنْهُ تَجدْهُ فَاصِلَ الْقَضِيَّهْ

وقد قيل لمالك أن قوما يقولون أن التشهد فرض فقال أما كان أحد يعرف التشهد فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم وسأله أبو يوسف عن الآذان فقال مالك وما حاجتك إلى ذلك فعجبا من فقيه يسأل عن الآذان ثم قال له مالك وكيف الآذان عندكم فذكر مذهبهم فيه فقال من أين لكم هذا فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم فأذن لهم كما ذكر عنهم فقال له مالك ما أدري ما آذان يوم وما صلاة يوم هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده من بعده يؤذنون في حياته وعند قبره وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل وثبت مستمرا أثبت في الإتباع وأولى أن يرجع إليه

(1)

.

"وانظر إلى ما جاء في" كتاب "العُتْبِية" - للفقيه المالكي محمد بن أحمد بن عبد العزيز، العتبي الأموي القرطبي الأندلسي أبي عبد الله، وهو كتاب في الفقه المالكي - وورد فيه "عنه" أي عن الإمام مالك "تجده" قولا متضمنا أصلا يجل موقعه عند من نظر إلى مغزاه، إذ يعتبر "فاصل" ومبين هذه "القضية" - وهي قضية تعارض العمل والأثر - وذلك: أنه سئل عن الرجل يأتي إليه الأمر يحبه، فيسجد لله شكرا. فقال: لا يفعل ليس مما مضى من أمر الناس قيل له إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا أفسمعت ذلك قال ما سمعت ذلك وأرى أن كذبوا على أبي بكر وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا ثم قال قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم سجد إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحدا منهم سجد فهذا إجماع إذا جاءك الأمر لا تعرفه فدعه هذا ما قال وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان وفي أي محل وقع ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير

(2)

.

(1)

الموافقات 3/ 48.

(2)

الموافقات 3/ 48 - 49.

ص: 101

1647 -

أَوْ أَنْ يُرَى اخْتَصَّ بِشَخْصٍ أَوْ زَمَنْ

أَوْ فَلْتَةٍ خَارِجَةٍ عَنِ السَّنَنْ

هذا هو الوجه الأول.

"أو أن يرى" أي يعتقد كون ذلك الدليل الذي قل العمل به قد "اختص بشخص" معين من أصحابه، كما هو شأن قضايا الأعيان "أو" يرى ويعتقد أنه مختص بـ "زمن" في حياته، كما في نهيه صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث، بناء على أن إذنه - بعد ذلك لم يك نسخا -، وهو قوله: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادَّخروا.

أو هو مختص بحال من الأحوال، كما قالوا في مسحه عليه الصلاة والسلام على ناصية العمامة إنه كان به مرض.

فهذا كله لا تكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به.

وهذا هو الوجه الثاني.

"أو" يكون مما فعل "فلتة خارجة""عن السنن" المستقيم، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في أمر فعمل فيه ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سوارى المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام:"أما إنه لو جاءني لاستغفرت له" وتركه كذلك حتى حكم الله فيه فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول صلى الله عليه وسلم وأما دواما فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه وهذا خاص بزمانه إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي وقد انقطع بعده فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينظر الحكم فيه وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده فإذا العمل بمثله أشد غررا إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته

(1)

.

وهذا هو الوجه الثالث.

(1)

الموافقات 3/ 49/ 50.

ص: 102

1648 -

أَوْ كَانَ رَأْيًا لِصَاحِبِيٍّ صَدَرْ

عَنْهُ وَلَمْ يَتْلُهُ فِيهِ مَنْ غَبَرْ

1649 -

أَوْ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ ثُمَّ ارْتَفَعْ

وَصَارَ مَا شَاعَ السَّبِيلَ الْمُتَّبَعْ

" أو كان" ذلك العمل الذي قل "رأيا لصاحبي صدر عنه" وفعله "ولم يتله" أي يتابعه "فيه" أحد مـ "ـمن غبر" أي ذهب من الصحابة إذا كان في زمانه عليه الصلاة والسلام ولم يعلم به فيجيزه أو يمنعه لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردا وهو صائم في رمضان فقيل له أتأكل البرد وأنت صائم فقال إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا وإنه ليس بطعام ولا شراب قال الطحاوي ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي عليه الصلاة والسلام عليه فيعلمه الواجب عليه فيه

(1)

.

وهذا هو الوجه الرابع.

"أو كان" ذلك العمل الذي قل "معمولا به ثم ارتفع" ونسخ فترك العمل به جملة "وصار ما شاع" وانتشر ومشى عليه عمل الناس كثيرا هو "السبيل المتبع" والطريق المسلوك، فكان من الواجب في مثله الوقوف على الأمر العام.

ومثاله حديث الصيام عن الميت فإنه لم ينقل استمرار عمل به، ولا كثرة، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس، وهما أول من خالفاه. فروى عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، فقالت: أطعموا عنها وعن ابن عباس قال: لا يصوم أحد عن أحد. قال مالك: ولم أسمع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد، ولا أن يصلي أحد عن أحد، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ومن يليهم.

وهو الذي عول - مالك - عليه في المسألة، كما أنه عول عليه في جملة عمله

(2)

.

ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه، انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر والحمد لله.

(1)

الموافقات 3/ 50.

(2)

انظر الأصل - الموافقات/ 3/ 51.

ص: 103

1650 -

وَثَمَّ أَقْسَامٌ بِذَا الضَّرْبِ أُخَرْ

بِحُكْمِ مَا قُرِّرَ مِنْهُ تُعْتَبَرْ

1651 -

وَيَنْبَغِي فِيهِ تَحَرِّي الْعَمَلِ

بِوَفْقِ مَا اسْتَمَرَّ عِنْدَ الأوَّلِ

1652 -

وَمَا يَقِلُّ فَاقْصُرَا انتهاجه

عَلَى ضَرُورَةِ وَمَسِّ حَاجَهْ

1653 -

إِنْ اقْتَضَى التَّخْيِيرَ فِيهِ وَاسْتَقَلْ

وَكَانَ مَأْمُونًا بِهِ نَسْخُ الْعَمَل

" وثم أقسام " يعني وجوها غير ما ذكر "بذا" أي بهذا "الضرب" الثاني الذي نحن فيه "أخر" كأن يكون الصحابي جاهلا بحكم المسألة، فيعمل ما يوجب عليه الفعل كالمرأة التي نذرت أن تضرب الدف على رأس رسول الله - صلى الله صلى الله عليه وسلم إن رجع سالما من غزوة تبوك، فرحا، وابتهاجا، فأذن لها في ذلك، وهذا ما نقل أن أحدا أتاه سواها. وغير ذلك من الأقسام التي يمكن أن تكون وجوها لهذه القلة - قلة العمل، وكل ذلك يقرر فيه الحكم ويبنى "بحكم" ومقتضى "ما قرر" في الوجوه المتقدمة، فإن ذلك الذي قرر "منه" أي من ذلك الحكم هو الذي به "تعتبر" ويعرف حكمها. ويصح قوله "منه" بمعنى فيه، ويكون الضمير للضرب - أي في هذا الضرب من الحكم هو الذي يجري عليه فيما لم يذكر من تلك الأقسام.

"و" بسبب ذلك فإنه "ينبغي" للعامل "فيه" أي في هذا الضرب، كما في الذي قبله "تحري" وقصد "العمل" الذي "بوفق" ومطابقة "ما استمر" أو كان أكثريا "عند" الرعيل "الأول" من المؤمنين وهم الصحابة والتابعون.

"و" أما "ما" أي الذي "يقل" من العمل إتيانه "فاقصر" - الألف بدل نون التوكيد الخفيفة - أي احصر "انتهاجه" أي العمل على وفقه، أو اتباعه، أي اقصر العمل على وفقه أو اتباعه "على ضرورة" كما تقدم في المسح على الناصية والعمامة في الوضوء "ومس حاجة" كما تقدم في شأن ترك ادخار لحوم الأضاحي.

وذلك "إن" كان حاله "اقتضى التخيير فيه" أي في العمل به بحيث يكون قد ثبت "واستقل" دليلا يصح الاستدلال به والاحتجاج "وكان مأمونا" بأن لم يخف من جهة المكلف "به" يعني بفعله "نسخ العمل" به، فإن كان المكلف على خوف من أنه قد نسخ العمل به، فإنه يجب عليه تركه بالكلية.

ص: 104

1654 -

وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ احْتِمَالٌ يَمْنَعُ

مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً تُتَّبَعُ

1655 -

وَإِنْ يَكُ الدَّلِيلُ لَيْس لِلأُوَلْ

أَخْذٌ بِهِ، وَلَا لَهُمْ بِهِ عَمَلْ

1656 -

فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِمَّا قَدْ مَضَى

وَالشَّرْعُ بِاطِّرَاحِهِ لَنَا قَضَى

1657 -

لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْتَمِدْهُ السَّلَفُ

دَلِيلَ حُكْمٍ يَقْتَفِيهِ الْخَلَفُ

1658 -

لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَاكَ لَعُمِلْ

بِهِ وَلَا اسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَنُقِلْ

1659 -

فَإِنَّهُمْ مَظَاهِرُ الأَدِلَّهْ

الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الْمِلَّهْ

" و" كذلك يعمل به على الوجه المتقدم إن "لم يكن فيه احتمال يمنع" ويصد "من أن يكون حجه" يعمل بها و"تتبع" وذلك بأن يكون - مثلا - رأيا لصحابي لم يتبع عليه، وما أشبه ذلك مما يقتضي أنه لا ينهض دليلا فقهيا مقبولا.

هذا شأن وبيان الضرب الأول أو القسم الأول في هذه المسألة - وهو كون الدليل قد جرى عمل السلف به على وجه الدوام أو الكثرة - والضرب الثاني أو القسم الثاني فيها - وهو كون الدليل قليلا عملهم به -. وما يتعلق بهما من تفصيل في الأقسام والأحكام.

"و" أما الثالث فهو "إن يك الدليل ليس لـ" لرعيل "الأول" وهو السلف الصالح "أخذ به، ولا لهم به عمل" على حال، وهذا تركه لازم "فإنَّه أشدُّ" من جهة وجوب تركه "مما قد مضى" قبله من الضرب الثاني "والشرع بـ" وجوب "اطرحه" وإسقاط اعتباره "لنا" يعني علينا قد "قضى" وحكم، وهذا حكم ثابت فيه "لكونه لم يعتمده السلف" أي لم يتخذه "دليل حكم يقتفيه" أي يتبعه "الخلف" الآتي من بعدهم.

"لأنه" أي هذا الدليل المهجور "لو كان ذاك" هو الدليل المعتمد الذي يصح العمل به "لعمل به" في خير القرون "ولاستفاض" وانتشر "عنهم" أي عن السلف "ونقل" إلينا عنهم "فإنهم" يعنى فإن أعمالهم وتصرفاتهم "مظاهر" - جمع مظهر - أي محال ظهور "الأدلة" ومتجلياتها، ثم إنهم رضي الله عنهم "الحافظون لحدود" هذه "الملة" العظيمة. وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه البتة إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له ولو كان ترك العمل فما عمل به

ص: 105

"‌

‌ المسألة الثالثة عشرة

"

المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى.

ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ويظنون أنهم على شيء.

ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير في النقل عنهم وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 8] وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين وحاشا لله من ذلك ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله عليه الصلاة والسلام" ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم" الحديث، والحديث الآخر "ما اجتمع قوم يذكرون الله" الخ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعَام: 52] الآية وقوله {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعرَاف: 55] وبجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب وقوله عليه الصلاة والسلام لهم "دونكم يا بني أرفدة"

(1)

.

"المسألة الثالثة عشرة"

في أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين:

(1)

الموافقات 3/ 52/ 53.

ص: 106

1660 -

أَخْذُ الأَدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ يَقَعْ

بِمَلْحَظَيْنِ مُتَّقىً وَمُتّبَعْ

1661 -

فَأَخْذُ مَأْخَذَ الافْتِقَارِ

إِلَيْهِ شَأْنُ السَّلَفِ الأبْرَارِ

1662 -

تَحَرِّيًا مِنْهُمْ لِقَصْدِ الشَّارعْ

فِي كلِّ فِعْلٍ فِي الْوُجُودِ وَاقِعْ

1663 -

كَي مَا يُرَى مُوَافِقًا إِذَا وَقَعْ

فِي حُكْمِهِ حُكْمَ الدَّلِيلِ الْمُتَّبَعْ

1664 -

أَوْ يَتَلَافَى أَمْرُهُ إِذَا أَتَى

مُخَالِفًا حُكْمَ دَلِيلٍ ثَبَتَا

1665 -

فَهُمْ مُحَكِّمُونَ لِلدَّلِيلِ

عَلَى الْهَوَى هَادُونَ لِلسَّبِيلِ

1666 -

وَأَخْذُهُ مَأْخَذَ الَاسْتِظْهَارِ

عَلَى هَوَى النُّفُوسِ فِي الأَنْظَارِ

أحدهما: أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار.

ثانيهما: أن يؤخذ مأخذ الاستظهار. وبيان ذلك أن "أخذ الأدلة على الحكم يقع" من المستدل "بمَلْحظَين" أي اعتبارين أحدهما "مُتَّقًى" - بضم الميم - أي مجتنب مذموم عند أهل الفضل والخير، "و" ثانيهما:"متبع" محمود عندهم، وأما هذا المحمود المتبع "فـ" إنه "أخذه" أي الدليل "مأخذ الافتقار" والحاجة "إليه" وهذا الوجه هو "شأن" اقتباس وأخذ "السلف الأبرار" الأحكام من الأدلة "تحريا" وقصدا "منهم لـ"موافقة "قصد الشارع في كل فعل" هو "في الوجود واقع" وحادث، ذلك "كي ما" - ما زائدة - "يرى" ويقع "موافقا إذا" أي متى "وقع في حكمه" الذي يجري عليه "حكم الدليل المتبع" في شأنه، هذا إن كان لم يقع بعد. "أو يتلافى" ويتدارك "أمره" وشأنه "إذا" وقع و"أتى مخالفا حكم دليل ثبتا" من جهة صحته، ومن جهة أنه جار مقتضاه فيه، "فهم" أي السلف الصالح "محكِّمون للدليل" مقدِّمون له "على الهوى" وهم - كذلك "همادون" أي مرشدون بتصرفاتهم وأقوالهم "للسبيل" المستقيم، ومتجلى ذلك في شأن أنهم يقفون عن بث الحكم في الأمر، حتى يرشدهم الدليل الشرعي إليه، فينصرفون إلى العمل بمقتضاه وما دل عليه. هذا هو الملحظ - الوجه أو الاعتبار - الأول، وحكمه.

"و" الثاني "أخذه" أي الدليل "مأخذ الاستظهار" والاستعانة به "على" موافقة ومعاضدة "هوى النفوس في" مجاري "الأنظار" وبناء الأحكام.

ص: 107

1667 -

دُونَ تَحَرٍّ عِنْدَهُ وَلَا نَظَرْ

لِمَقْصِدِ الشَّارعِ وَهْوَ الْمُعْتَبَرْ

1668 -

كمَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَا

تَثْلِيثِهِمْ بِمِثْلِ نَحْنُ مَثَلَا

1669 -

فَحَكَّمُوا الْهَوَى عَلَى الأَدِلَّهْ

وَاتَّبَعُوا سَبِيلَهُ الْمُضِلَّهْ

" دون تحر" يحصل "عنده" أي عند أخذه "ولا نظر" ولا اعتبار "لمقصد الشارع" في ذلك "وهو" الأمر "المعتبر" الذي يجب أن يكون مدار النظر عليه في هذا الشأن.

والاستدلال بالدليل على هذا الوجه مسلك الزائغين في اقتباس الأحكام من الأدلة.

وذلك "كما استدل" يعني كاستدلال "أهل نجران" المتقدم ذكرهم "على تثليثهم" الذي بنيت عليه عقيدتهم المسيحية - كما هو معلوم - "بـ" - ما ورد فيه التعبير بصيغة الجمع من أفعاله - سبحانه - "مثل نحن" خلقناهم "مثلا" وهم في هذا أثبتوا عقيدتهم أولا، ثم بحثوا بعد ذلك عما قد يكون موافقا لها من الأدلة وإن كان ذلك على سبيل التحريف للمعنى المقصود، وبذلك "فـ" إنهم قد "حكموا الهوى على الأدلة" وجعلوه زماما عليها "واتبعوا سبيله" أي الهوى وطريقته "المضلة" المفضية إلى الضلالة. وظهر هذا المعنى من الآية الكريمة:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عِمرَان: 7] فليس مقصودهم الاقتباس منها وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم إذ هو السابق المعتبر وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عِمرَان: 7] ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عِمرَان: 7] ويقولون {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَ} [آل عِمران: 8] فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم وهو أصل الشريعة لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد وسيأتى تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى

(1)

.

(1)

الموافقات 3/ 57.

ص: 108

"‌

‌ المسألة الرابعة عشرة

"

1670 -

ثُمَّ اقْتِضَا الدَّلِيلِ حُكْمًا قُصِدا

بِحَسَبِ الْمَحَلِّ نَوْعَيْنِ بَدَا

1671 -

فَمِنْهُمَا الأصْلِيُّ وَهْوَّ الْوَاقِعُ

عَلَى الْمَحَلِّ قَبْلَ مَا يُتَابِعُ

1672 -

وَذَاكَ مِثْلُ الْحُكْمِ بِالإِبَاحَهْ

لِلصَّيْدِ وَالْبَيْعِ بِمَا أَبَاحَهْ

1673 -

وَالتَّبَعِيُّ الآتِي فِي الْمَوَاقِعِ

مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ بِالتَّوَابِعِ

1674 -

وَبِالإِضَافَاتِ كَحُكْمِ الصَّيْدِ فِي

كَرَاهَةٍ إِنْ كانَ لِلَّهْوِ اصْطُفِي

" المسألة الرابعة عشرة"

"ثم" بعد ما نجز ما تقدم ذكره ننتقل إلى ما ذكر متضمن ما عقدت له هذه المسألة وهو أن اقتضاء الأدلة الأحكام وإفادتها إياها بالنسبة لمحالها على وجهين:

أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروِّ العوارض.

ثانيهما: الاقتضاء التبعي. وبيان ذلك هو أن "اقتضا الدليل حكما قصدا" - الألف للإطلاق - وقوله "قصدا" زائد لصحة الاستغناء عنه. والمعنى حكما قصد أخذه منه أي من الدليل - من جهة الآخذ، أو قصد من جهة الشارع اقتضاء الدليل له ظهر "بحسب المحل" الذي يجري عليه ذلك الحكم "نوعين" و"بدا" كذلك، كما يدل عليه واقع الحال.

"فـ"ـأ ما الأول "منهما" فهو الاقتضاء "الأصلي وهو "الاقتضاء "الواقع على المحل" مجردا، أي "قبل" طُرُوِّ "ما يتابع" ذلك المحل من الأحوال ومعنى كونها تابعة له أنها تعرض فيه باعتبار أحوال المكلفين. "وذاك" الاقتضاء الأصلي هو "مثل الحكم بالإباحة للصيدو" الحكم بالإباحة لـ"ـلبيع" والإجارة وما أشبه ذلك "بما" من الأدلة الشرعية "أباحه" وأحله باعتبار ماهيته المجردة من أي طارئ يصرف الحكم إلى اعتباره له في ذلك المحل.

"و" أما الثاني فهو الاقتضاء "التبعي" وهو "الآتي" منزلا "في المواقع" - أي مواقع الكلام ومحالها "معتبَرا" - بفتح الباء - ومعتدا "في" بناء "الحكم" أي الذي اقتضاه "بـ" اعتبار "التوابع وبالإضافات" اللاحقة بتلك المواقع والمحال، وذلك "كحكم الصيد" الموصوف "في كراهة" - في بمعنى الباء - أي بكراهة الشارع له "إن كان لـ" أجل "اللهو "واللعب "اصطفى" إتيانه وفعله أي اختير وقصد، ومثله الحكم بإباحة النكاح

ص: 109

1675 -

وَكُلُّ مَا الأَصْلِيُّ حُكْمُهُ اخْتَلَفْ

لِأَنْ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ اتَّصَفْ

1676 -

فَهَلْ يَصِحُّ بَعْدَ أَنْ يُقْتَصَرَا

عَلَى الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي حُكْمًا يُرَا

1677 -

مِنْ جُمْلَةِ الأَصْلِيِّ أَوْ لَا يُقْتَصَرْ

أَعْنِي فِي الاستِدْلَالِ فِي هَذَا نَظَرْ

1678 -

وَأَخْذُهُ يَصِحُّ فِي حُكْمٍ بَدَا

عَنِ اِعْتِبَارِ وَاقِعٍ مُجَرَّدَا

لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وبالجملة: كل ما اختلف حكمه الأصلي بسبب اقتران محله بأمر خارجي طارئ.

"و" إذ تقرر وجود هذين الوجهين في شأن اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها، فإنه يرد عليه استفهام وهو ما الحكم الذي يصار إليه في "كل ما" هو موضع يكون الاقتضاء "الأصلي" فيه "حكمه" قد "اختلف لـ" أجل "أن" كان "بأمر خارجي" طارئ قد "اتصف" وتحلى "فهل يصح" في مجاري الاستدلال وبناء الحكم الفقهي في ذلك المحل "بعد" ما تبين هذا الاختلاف في شأنه "أن يقتصرا" - الألف للإطلاق - "على" إيراد "الدليل المقتضي" والطالب "حكما يرى" أنه "من جملة" ما يفيده ويدل عليه الاقتضاء "الأصلي" فلا يعرج على اعتبار العوارض والإضافات الطارئة على محل ذلك الحكم، فإذا سئل عن الصيد - مثلا - فإنه يؤتى في الجواب عنه بأنه مباح، بلا مزيد على ذلك "أو" لا يصح هذا وبذلك فإنه "لا يقتصر" على ذلك بل يصار إلى التفصيل والبيان الذي يتم باعتبار التوابع والإضافات "أعني في" مجرى "الاستدلال" والاحتجاج على حكم ذلك المحل أن يقال - مئلا -: الصيد مباح إلا إذا كان للهو فإنه مكروه. "في هذا" الأمر "نظر" وتفصيل استوجبه تعارض استحقاق الوجهين كلاهما للاعتبار في هذا المقام.

"و" الذي يظهر فيه أن ما عليه المدار في الترجيح هنا هو الصفة التي أخذ بها المستدل ذلك الدليل على الحكم فهو لا يخلو أن يأخذه على الحكم مفردا ومجردا عن اعتبار الواقع أم لا فإن حصل "أخذه" له - أي للدليل - مقتصرا به على الاستدلال على الحكم الأصلي فإن ذلك الاستدلال "يصح" لكن إن كان ذلك قد جرى "في" شأن "حكم بدا" وطهر أنه صار "عن اعتبار" أي أمر "واقع " على المحل "مجردا" بحيث اعتبرت وماهية الحكم من حيث هي من غير استحضار للصور التي قد تكون عليها في الخارج.

ص: 110

1679 -

وَحَيْثُمَا الْوُقُوعُ قَيْدُ الْحُكْمِ لَا

يَصِحُّ الاسْتِدْلَالُ بِالذِي خَلَا

1680 -

فَمُقْتَضَى قَيْدِ الْوُقُوعِ بُيِّنَا

تَنْزِيلُهُ عَلَى مَنَاطٍ عُيِّنَا

1681 -

وَلَازِمُ الْمُعَيَّنِ الْمَوَاقِعِ

أَخْدُ الدَّلِيلِ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ

" و" أما إن كان أخذه له "حيثما" - ما زائدة - يعني في الموضع الذي فيه "الوقوع" مستحضر في الاعتبار وهو "قيد الحكم" فيه فإنه "لا يصح الاستدلال بـ" الدليل "الذي خلا" الاستدلال به في الصورة المتقدمة، وهو الدليل المقتضي للحكم الأصلي، بل يجب اعتبار مقتضى صورة ذلك الوقوع حتى يتقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها وذلك بأن يقال مثلا النكاح مباح إلا لمن خشي العنت فإنه واجب عليه، وذلك بموجب الأدلة القاضية بذلك كأدلة تحريم الزنا، وأدلة رفع المشقة، والضرر.

"فمقتضى قيد الوقوع" الذي يجب حصول الفعل على صورة مخصوصة هو الذي "بينا" - الألف للإطلاق - أنه يجب "تنزيله" أي الدليل "على مناط" بفتح الميم - أي وصف يتعلق به الحكم "عينا" أي معين كاللهو في الصيد، ومخافة العنت في ترك النكاح، وتمليك المسلم - للكافر في البيع، وما أشبه ذلك من العوارض التي تطرأ على المحل، فتوجب تنزيل الحكم فيه على وفق مقتضاها، "و" بذلك يكون "لازم" المناط "المعيّن المواقع" يعني موقعه - أي مواضعه التي وقع فيها وجوده -، هو "أخذ الدليل بـ" أي مع "اعتبار" واستحضار مقتضى "الواقع" بالنسبة لكل نازل.

فقول الله - تعالى -: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النسَاء: 95] الآية، لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة وإمكان الامتثال وهو السابق فلم ينزل حكم أولى الضرر ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء يستوي فيه ذو الضرر وغيره، فخاف من ذلك وسأل الرخصة، فنزل {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النِّسَاء: 95] ولما قال عليه الصلاة والسلام: "من نوقش الحساب عذب" بناء على تأصيل قاعدة أخروية، سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث فبين عليه الصلاة والسلام أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه، وقال عليه الصلاة والسلام:"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" إلخ، فسألته عائشة عن هذه الكراهية هل هي الطبيعية أم لا فأخبرها أن لا وتبين مناط الكراهية المرادة وقال الله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البَقَرَة: 238] تنزيلا على

ص: 111

"‌

‌ فصل

"

1682 -

وَلتَعَيُّنِ الْمَنَاطِ جُمْلَهْ

مَوَاضِعٌ فِي الشَّأْنِ مُسْتَقِلَّهْ

1683 -

فَمِنْهَا الأَسْبَابُ التِي تَرَتَّبَتْ

عَلَيْهَا الأحْكَامُ بِحَيْثُ مَا أَتَتْ

المناط المعتاد فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد وهو المرض بينه عليه الصلاة والسلام بقوله وفعله حين جحش شقه وقال عليه الصلاة والسلام "أنا وكافل اليتيم كهاتين" ثم لما تعيّن مناط فيه نظر قال عليه الصلاة والسلام لأبي "ذر لا تولين مال يتيم" والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل فلو فرض نزول حكم عام ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه لكان الجواب على وفق هذه القاعدة نظير وصيته عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه بشيء ووصيته لبعض بأمر آخر كما قال "قل ربي الله ثم استقم" وقال لآخر "لا تغضب" وكما قبل من بعضهم جميع ماله ومن بعضهم شطره، ورد على بعضهم ما أتى به بعد تحريفه على الإنفاق في سبيل الله إلى سائر الأمثال

(1)

.

"فصل"

في ذكر مواضع بيان عين المناط الخاص المعلق به الحكم "ولتعين" أي بيان عين "المناط" المعلق به الحكم ورعايته "جملة مواضع" معينة هي "في" هذا "الشأن مستقلة" ومنفردة بهذا الوصف "فمنها" أي هذه المواضع "الأسباب التي ترتبت عليها" يعني على وجودها "الأحكام" الشرعية "بحيث ما" أي في أي موضع "أتت" سواء كان ذلك الموضع من العبادات أو من المعاملات أو من العقائد وذلك كما إذا نزلت آية أو جاء حديث على سبب فإن الدليل يأتي بحسبه، وعلى وفاق البيان التام فيه وإن كان حكم المناط العام لا يخالف فيه حكم المناط الخاص المراعي مقتضاه فيه، فقد قال - تعالى -:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البَقَرَة: 187] إذ كان ناس يختانون أنفسهم، فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل، حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم، وقوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النِّسَاء: 3] الآية، إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا

(1)

الموافقات 3/ 59 - 60.

ص: 112

1684 -

وَحَيْثُمَا ظُنَّ مَنَاطٌ دَاخِلَا

فِي حُكْمِ مَا عَمَّ وَجَاءَ شَامِلَا

1685 -

أَوْ خَارِجًا عَنْهُ وَلَيْسَ الأَمْرُ

كذَاكَ فِي الْحَالَيْنِ يَسْتَقِرُّ

1686 -

كَذَا إِذَا الْخِطَابُ مُجْمَلًا يَرِدْ

بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَا قُصِدْ

1687 -

فِي الابْتِدَاءِ فَيَرَى مَنْ كلِّفَا

مُفْتَقِرًا إِلَى بَيَانٍ يُقْتَفَا

وما أشبه ذلك وفي الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" الحديث، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب وقال:"ويل للأعقاب من النار" مع أن غير الأعقاب يساويها حكما، لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين، ومن ذلك كثير

(1)

.

"و" منها أي - تلك المواضع - "حيثما" أي الموضع الذي "ظن" وتوهم "مناط" ما - أي وصف ما معلق به الحكم في نظر الظان أو المتوهم - فيه "داخلا" ومندرجا "في" الجزئيات المنطوية تحت "حكم ما عم" باعتبار اللفظ الدال عليه "وجاء شاملا" لذلك "أو" ظن أو توهم أن ذلك المناط كان "خارجا عنه" يعني عن مقتضى ذلك الحكم ومدلوله "وليس الأمر" في الواقع يثبت "كذاك في الحالين" كليهما و"يستقر" وبذلك فإن الشارع يبين ما هو الحق في ذلك على التمام.

مثال الأول ما تقدم في قوله عليه الصلاة والسلام: "من نوقش الحساب عذب" وقوله: "من كره لقاء الله كره الله لقاءه" ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي: "ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك وقد جاء فيما نزل عليّ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفَال: 24] " الآية؛ أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية

(2)

.

و "كذا" من تلك المواضع "إذا الخطاب" الشرعي "مجملا" مبهم المعنى محتاجا في فهمه إلى البيان "يرد" يعني ورد "بحيث" - حيث هنا تقييدية - "لا يفهم منه ما قصد" به من معنى "في الابتداء" أي في ابتداء تلقي ذلك الخطاب ووقوع المخاطبة به "فيرى" أي يبصر ويعلم "من كلفا" بفهم ذلك الخطاب "مفتقرا" - بكسر القاف - أي محتاجا "إلى بيان" يرشد إلى المعني المراد منه - أي من ذلك الخطاب - فيتبع و"يقتفى" في ذلك،

(1)

الموافقات 3/ 60.

(2)

الموافقات 3/ 67.

ص: 113

1688 -

وَيَقَعُ الإِجْمَالُ وَالْعُمُومُ

سَبِيلُهُ كَأَنْفِقُوا أَقِيمُوا

1689 -

وَتَارَةً عَلَى الْخُصُوصِ يَجْرِي

كَقِصَّةِ ابْنِ حَاتِمٍ فِي الْفَجْرِ

" ويقع الإجمال" في النصوص الشرعية تارة لعامة المكلفين، وبذلك فالشمول "والعموم" في هذا الشأن هو "سبيله" الذي ورد عليه، فلم يكن واردا على سبيل الإطلاق، وذلك "كـ" قوله - تعالى -:{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البَقَرَة: 254] وقوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النّسَاء: 77] فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة، فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله مبينة لذلك.

"وتارة" يقع لبعض المكلفين دون بعض مجملا بالنسبة لذلك البعض فقط "على" وجه "الخصوص" فيكون هذا هو الحكم الذي "يجري" فيه ويمضي، وذلك "كقصة" عدي "ابن حاتم" بن عبد الله الطائي الصحابي الأمير رئيس طيئ في الجاهلية والإسلام - وما روي عنه "في" فهمه لمعنى الخيط الأبيض من الخيط الأسود من "الفجر" فقد قال: لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البَقَرَة: 187] عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض، قال فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت، فقال إن وسادك إذا لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل. وعلى هذا الذي فهمه عدي جرى رجال آخرون من قريش، حتى نزل قوله - تعالى - من الفجر فتبين لهم المعنى المراد في هذه الآية.

ومن أمثلة ذلك - أيضا - قصته - أي عدي - لما سمع قوله - تعالى -: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبَة: 31] فإنه لما سمع هذه الآية قال: إنهم لم يعبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم. وكذلك قصة ابن عمر في طلاق زوجته وهي حائض، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، كما ورد في الصحيحين وغيرهما.

وما أشبه ذلك من الأمثلة من هذا الصنف. فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط، لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة، فأما

ص: 114

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل، ما لم يتعين، فلا بد من اعتبار توابعه وعند ذلك نقول لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه، لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين، لا يقال إن المعين يتناوله المناط غير المعين لأنه فرد من أفراد عام، أو مقيد من مطلق، لأنا نقول ليس الفرض هكذا وإنما الكلام على مناط خاص "يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله، فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص، وما مثل هذا إلا مثل من سأل هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى أو المسكوك بغير المسكوك وهو في وزنه فأجابه المسؤول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد أو ازداد فقد أربى فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل إذ له أن يقول فهل ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسكته وطيبه فأجابه كذلك، لحصل المقصود لكن بالعرض، لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه، فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام لكان مصيبا، لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل، ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز، ويحتمل فرض صور كثيرة، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين، وكثرت أعداد المسائل، غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله، فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي، وإن سأل عن معين فلا بد من اعتباره في الواقع، إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه. ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل. وبالله التوفيق

(1)

.

وبهذا نجز بيان النظر الأول الذي يتعلق بالأدلة من جهة صفاتها الذاتية الكلية التي تعمها كلها، فلا تختص ببعضها دون البعض.

(1)

الموفقات 3/ 67 - 68 - 69.

ص: 115

"‌

‌ النظر الثاني في عوارض الأدلة

"

1690 -

عَوَارِضُ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّهْ

لَهَا فُصُولٌ خَمْسَةٌ مَرْعِيَّهْ

"‌

‌ الفصل الأول" فِي الإِحْكَامِ وَالتَّشَابُهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1691 -

وَيُطْلَقُ الْمُحْكَمُ تَارَةً عَلَا

خِلَافِ مَا النَّسْخُ لَهُ قَدِ انْجَلَا

" النظر الثاني في عوارض الأدلة"

التي تلحقها، وسماها عوارض باعتبار أنها تعرض في الأدلة، ثم أنها تزول لآخر، وهذا أمر بين يدرك بالتأمل والنظر في عوارض الألفاظ كالعموم والخصوص، والبيان، والإجمال، والتشابه، والإحكام، والنسخ، والتقييد، والإطلاق، وما أشبه ذلك من العوارض التي تعرض في الألفاظ - الأدلة - وتسمى عوارض - كذلك - باعتبار أنها تعتور الأدلة في عروضها، والتي تتناقض لا يلتقي بعضها ببعض.

وإذا تقرر هذا وتبين فإنه ينتقل إلى بيان هذه العوارض وتفصيل القول فيها، لأن ذلك ما يقتضي واقع حال هذا الموضوع الانتقال إليه.

وفي سبيل ذلك تعقد لـ"ـعوارض الأدلة الشرعية" هذه وتوضع "لها فصول خمسة مرعية" باعتبار تخصيص كل فصل منها بعارض من تلك العوارض.

"الفصل الأول"

وهو معقود "في"بيان "الإحكام" - بكسر الهمزة - "والتشابه" وما يتعلق بهما من أحكام، "وفيه" أي هذا الفصل لبيان ما ذكر تورد "مسائل" وهي ست.

"المسألة الأولى"

منها في بيان ما يطلق عليه لفظ المحكم، وما يطلق عليه لفظ المتشابه.

"ويطلق المحكم" بإطلاقين عام وخاص، إذ يطلق "تارة على ما النسخ له" - اللام بمعنى عن - أي عنه "قد انجلا" زال، يعني أنه يطلق على الدليل الذي ليس بمنسوخ،

ص: 116

1692 -

فَالْمُتَشَابِهُ الذِي قَدْ نُسِخَا

وَالْغَيْرُ مُحْكَمٌ سَوَاءً نَسَخَا

1693 -

أَوْ كَانَ غَيْرَ نَاسِخٍ وَأُطْلِقَا

أَعَمَّ لِلْبَيِّنِ مَعْنىً مُطْلَقَا

1694 -

فَالْمُتَشِابِهُ الذِي مَعْنَاهُ

لَمْ يَتَّضِحْ مِنْ لَفْظِهِ مَنْحَاهُ

1695 -

كَانَ مِنَ الْمُدْرَكِ مَعْنىً بِالنَّظَرْ

وَالْبَحْثِ أَمْ لَيْسَ كَذَا لِمَنْ نَظَرْ

1696 -

وَذَا الذِي بِهِ الْمُفَسِّرُونَا

فِي مُقْتَضَى الآيَةِ آخِذُونَا

1697 -

وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا افْتَقَرْ

مَعْنَاهُ لِلْبَيَان حَيْثُ مَا صَدَرْ

- وهذا هو الإطلاق الخاص فيه - وبذلك "فالمتشابه" الذي هو ضده - أي المحكم - هو "الذي قد نسخا" - بضم النون - أي هو المنسوخ، "و" أما "الغير" الذي هو غير منسوخ فإنه "محكم" مطلقا "سواء نسخا" - الألف للإطلاق - غيره من الأدلة.

"أو كان غير ناسخ " وعلماء الناسخ والمنسوخ على هذا الإطلاق، فإنهم يقولون: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة.

"وأطلقا" - الألف للإطلاق - لفظ المحكم - أيضا - إطلاقا "أعم للبين" - اللام بمعنى على - يعني على الدليل البين "معنى" الواضح مدلولا الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره "مطلقا" سواء كان ناسخا أو غير ناسخ، أو منسوخا أو غير منسوخ ولذلك "فالمتشابه" الذي يقابل المحكم بهذا المعنى هو "الذي معناه" مبهم "لم يتضح من" جهة دلالة "لفظه منحاه" يعني ما قصد به، سواء "كان من" الصنف "المدرك معنى" ومدلولا "بالنظر والبحث" في الأدلة الخارجية المنفصلة عنه "أم ليس كذا" لك "لمن نظر" وإنما هو خفي المعنى على كل حال، "وذا" المعنى الثاني الأخير للمحكم هو "الذي به المفسرونا" - الألف للإطلاق - للقرآن الكريم "في مقتضى" ومعنى "الآية" الوارد فيها لفظ محكمات وهي قوله - تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عِمرَان: 7]"آخذونا" إذ فسروا "المحكمات" في هذه الآية بواضحات الدلالة.

"ومقتضاه" أي مقتضى تفسير المحكم بهذا المعنى "أن كل ما" أي الذي هو من الأدلة قد "افتقر" أي احتاج "معناه" المراد منه "للبيان" والإيضاح "حيث ما صدر" يعني جاء في النصوص الشرعية.

ص: 117

1698 -

فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْمُشْتَبِهِ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْرَى مُبَيَّن بِهِ

1699 -

ثُمَّ يَصِيرُ مِنْ قَبِيلِ الْمُحْكَمِ

بِالْعِلْمِ لِلْمُبَيِّنَاتِ فَاعْلَمِ

1700 -

وَبَيِّنُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ

يَرْجِعُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الأَحْكَامِ

1701 -

وَمَا عَدَاهُ فَالْحِديثُ الآتِي

قَدْ عَدَّهُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1702 -

كَوْنُ التَّشَابُهِ اسْتَفَاضَ وَاسْتَقَرْ

فِي الشَّرْعِ مَعْلُومٌ وَمَا فِيهِ نَظَرْ

" فإنه يدخل في "معنى ومسمى "المشتبه" وذلك "من قبل أن يدرى" ويعلم ما هو "مبين" ومفسر "به" من الأدلة "ثم" إنه تسقط عنه حقيقة المشتبه - المتشابه - و"يصير من قبيل المحكم بـ" حصول "العلم لـ" - لأدلة "المبينات" والموضحات له "فاعلم" ذلك، وحصل معرفته. "و" يدخل تحت المحكم والمتشابه بالمعنى الثاني "بين الحلال والحرام" - فيه إضافة الصفة للموصوف - أي الحلال البين والحرام البين، ويشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"الحلال بين والحرام بيّن" فإنه "يرجع في المعنى إلى الأحكام"، فالبيّن هو المحكم "ومما عداه" أي ما سوى المحكم "فـ" ـإن "الحديث الآتي" في هذا الشأن وهو المتقدم ذكره "قد عده" وجعله "في"قسم "المتشابهات" - لقوله عليه الصلاة والسلام في تمام هذا الحديث:"وبينهما أمور متشابهات" - وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث، فالمعنى واحد؛ لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب، وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم

(1)

.

"المسألة الثانية"

في مقدار التشابه في النصوص الشرعية، وبيان ذلك أن ثبوت "كون التشابه" أمرا "استفاض" واشتهر "واستقر في" نصوص "الشرع" هو أمر "معلوم" مجزوم به "وما فيه نظر" أو بحث لأن الأدلة التي تثبته وتدل عليه قاضية به على بيان تام.

(1)

الموافقات 3/ 63.

ص: 118

1703 -

وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي مِقِدَارِ

مَا هُوَ مِنْهُ فِي الْوُقُوعِ جَارِ

1704 -

وَهْوَ إِلَى الْقِلَّةِ ذُو انْتمَاءِ

بِالنَّصِّ وَالْبَحْثِ وَالاسْتِقْرَاءِ

" وإنما ينظر في "شأن "مقدار ما" أي الذي "هو منه في" مجرى "الوقوع جار" هل هو قليل أم كثير؟

"وهو "- أي التشابه المذكور - "إلى القلة" في الوقوع والوجود لا الكثرة "ذو" أي صاحب "انتماء" أي انتساب، وهذا حكم تابت "بـ"ـأمور:

أحدها: "النص" الصريح، وذلك كقوله - تعالى -:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عِمرَان: 7] فقوله في المحكمات {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عِمرَان: 7] يدل أنها المعظم والجمهور وأم الشيء معظمه وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول فإذا كان كذلك فقوله تعالى {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عِمرَان: 7] إنما يراد بها القليل

(1)

.

"و" ثانيها مقتضى "البحث" والنظر في هذا الشأن فإن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى كقوله تعالى:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} [آل عِمرَان: 138] وقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البَقَرَة: 2]{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النّحل: 44] وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به وإقراره كما جاء وهذا واضح

(2)

.

"و" ثالثها "الاستقراء" فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هُود: 1] وقال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ

(1)

الموافقات 3/ 71.

(2)

الموافقات 3/ 71.

ص: 119

1705 -

وَمُوهِمُ الْكَثْرَةِ تَجْلُوا مُجْمَلَهْ

قَاعِدَةٌ نُورِدُهَا مُفَصَّلَهْ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1706 -

وَللإِضَافِي وَللْحَقِيقِي

تَشَابُهٌ قُسِمَ فِي التَّحْقِيقِ

1707 -

وَثَالِثٌ إِلَى الْمَنَاطِ مَرْجِعُهْ

لَا لِلدَّلِيلِ فَاسَتَبَانَ مَوْقِعُهْ

1708 -

أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَإِنَّهُ الذِي

عَلَيْهِ لِلآيَةِ أَوْلَى مَأْخَذِ

الْحَكِيمِ (2)} [لقمَان: 2] وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزُّمَر: 23] يعني يشبه بعضه بعضا ويصدق أوله آخره وآخره أوله أعني أوله وآخره في النزول

(1)

.

"و" أما ما هو "موهم" كون المتشابه هو الجاري عليه وصف "الكثرة" ككون المنسوخ والمجمل والمطلق والمقيد والمؤول، والعام بل مباحث الأدلة كلها داخلة في التشابه بهذا المعنى الثاني الأخير فإنه "تجلوا" أي تزيل "مجمله" وما أبهم فيه "قاعدة نوردها" في المسألة الموالية "مفصلة" مبينة.

"المسألة الثالثة"

وهي معقودة لذكر أقسام التشابه.

"و" بيان ذلك أنه "لـ"ـلتشابه "الإضافي ولـ"ـلتشابه "الحقيقي" هذا الـ"ـتشابه" الذي كلامنا فيه "قسم في "واقع الأمر وفي مجرى "التحقيق" لماهيته وحقيقته. "و" ثم ضرب "ثالث" هو "إلى المناط" المتعلق به الحكم "مرجع" ومآله، إذ هو الذي يعتريه التشابه والإبهام "لا للدليل" الشرعي الدال على الحكم في محله "فاستبان" وظهر "موقعه" أي موقع هذا الضرب من التشابه وموضعه.

"أما" التشابه "الحقيقي فإنه الذي" مضى "عليه" في التفسير "للآية" المذكورة، وهي قوله - تعالى -:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عِمرَان: 7] وكان هذا "أولى" أي أحسن وأرجح "مأخذ" أي أخذ لها - أي أفضل تفسير لها كما قال القرطبي - بل هو التفسير الصحيح لها.

(1)

الموافقات 3/ 71/ 72.

ص: 120

1709 -

لِأَنَّهُ الْمُرَادُ فِي مَعْنَاهَا

وَالْمُقْتَضِي التَّعْيِينَ مِنْ مَنْحَاهَا

1710 -

وَهْوَ الذِي لَا يَقْتَضِي فِي شَانِ

حُكْمًا سِوَى مُجَرَّدِ الإِيمَانِ

1711 -

مِنْ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ لَنَا سَبِيلُ

لِفَهْمِهِ وَلَا لَهُ دَلِيلُ

1712 -

وَذَا بِلَا شَكٍّ مِنَ الْيَسِيرِ

عِنْدَ اعْتِبَارِ الْغَالِبِ الْكَثِيرِ

1713 -

ثُمَ الإِضَافِيُّ وَمُقتَضَا

مَا كَانَ مَعْنَاهُ لَهُ اشْتِبَاهُ

" لأنه المراد" والمقصود "في معناهما" كما عليه جمهور المفسرين، "و" الأمر "المقتضى" بناء على هذا هو "التعيين" لهذا المعنى "من منحاها" أي من جهتها.

"و" هذا التشابه "هو الذي لا يقتضى" ولا يفيد "في شأن" عقدي معين أو عبادي أو عادي "حكما" شرعيا لأنه لا يتعلق به تكليف "سوى مجرد الإيمان" والتصديق به مع تفويض حقيقة العلم به لله رب العالمين، وإنما كان هذا هو الحكم الشرعي الثابت في حقنا "من حيث" - تعليلية - "لم يجعل لنا سبيل" يوصل "لفهمه" وإدراك معناه "ولا" معلم يرشد "له" ولا "دليل" شرعي أو عقلي أو عادي يدل عليه. فكان مما استأثر الله - تعالى - بعلمه.

فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه، ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه.

"وذا" أي هذا الصنف من التشابه "بلا شك من "التشابه "اليسير" القليل جدا "عند اعتبار" ما سواه وهو "الغالب الكثير" في حقيقة الأمر كما تقدم بيانه وتقريره في المسألة السابقة.

وهذا هو القسم الأول وما يتعلق به من حكم وبيان.

وبعده ننتقل إلى ذكر وبيان القسم الثاني وهو التشابه الإضافي فنقول:

"ثم" التشابه "الإضافي" وهو الذي ليس حقيقيا، وبذلك فهو غير داخل في صريح الآية، وإن كان من جهة المعنى داخلا فيه، بحكم الزيغ في النظر، كما سيأتي بيانه.

"و" بيانه الذي يدل عليه "مقتضاه" هو أن المتصف به هو "ما" أي الذي "كان معناه" بينا في نفس الأمر بالأدلة الشرعية، ولكن حصل "له" - اللام بمعنى في - أي فيه - "اشتباه".

ص: 121

1714 -

مِنْ جِهَةِ الْمَدَارِكِ الْعَقْلِيَّهْ

لَا الْوَضْعِ فِي الأدِلَّةِ الشّرعِيَّهْ

1713 -

لِكَوْنِهَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ قَدْ حَصَلْ

بَيَانُهَا بِمَا اسْتَقَرَّ وَايسْتَقَلْ

1716 -

وَقَصَّرَ النَّاظِرُ فِي اجْتِهَادِ

أَوْ زَاغَ عَنْ نَهْجِ الْبَيَانِ الْهَادِي

1717 -

فَالاشْتِبَاهُ رَاجعٌ لِلنَّاظِرِ

لَا وَاقِعٌ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّادِرِ

ثم زيغ "من جهة المدارك" - جمع مدرك - وهو ما يدرك به الحكم، أو يدرك فيه فيؤخذ منه - "العقلية" المتوسل بها إلى الاستنباط من النصوص والمتخذة مرتكزات في ذلك، "لا" من جهة "الوضع" الجاري أمره "في الأدلة الشرعية" التي عرض فيها ذلك التشابه "لكونها في نفس الأمر" والواقع "قد حصل" ووقع "بيانها" وإيضاح المعنى المقصود بها "بما" أي بالذي "استقر" لها من معنى "واستقل" في بيان المراد بها، وذلك قد يكون بأدلة خارجية وحدها إذا كان المقام مقام تأويل، وقد يكون من جهة ظواهرها معتضدا بأدلة خارجية إن كان أمر التأويل لا حاجة إليه، وبذلك فمعناها مبين بالأدلة الشرعية على كل حال "و" لكن "قصر الناظر في اجتهاد"ـه فلم يستتم النظر ولم يبلغ به المنزلة المطلوبة منه في ذلك. "أو زاغ" ومال "عن نَهج" أي طريق "البيان" الذي عليه بني الخطاب الشرعي، والذي هو "الهادي" المرشد إلى المعنى المقصود من النصوص الشرعية كما هو معلوم ومقرر، وبذلك "فـ" ـإن هذا الضرب - القسم - من "الاشتباه راجع" وجوده في واقع الأمر "للناظر" المقصر، أو الزائغ - كما تقدم ذكره - "لا واقع" ولا وارد "على الدليل الصادر" يعني الآتي من الشارع على الإطلاق.

وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقع الأدلة، فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه، لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما ظنك بهم مع عدمه؟ فلهذا قيل إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج وغيرهم، ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان قال:"سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يُوسُف: 80] ".

فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه الآية، قال سفيان: وكذب. قال الحميدي: فقلنا لسفيان: ما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة: تقول أن عليا في السحاب، فلا يخرج - يعني مع من خرج من ولده - حتى ينادي مناد من السماء - تريد عليا أنه ينادي - اخرجوا مع فلان

ص: 122

"‌

‌ فصل

"

1718 -

إِذَنْ فَلَا يُعْزَى لَهُ مُخْتَلَفُ

فِيهِ سِوَى الْمُمْسِكِ عَنْهُ السَّلَفُ

يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية، وكذب.

كانت في إخوة يوسف، فهذه الآية أمرها واضح، ومعناها ظاهر، يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها، كما دل الخاص على معنى العام، ودل المقيد على معنى المطلق، فلما قطع جابر الآية عما قبلها وما بعدها، كما قطع غيره الخاص عن العام، والمقيد عن المطلق، صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه؛ فكان من حقه التوقف، لكنه أتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية.

وأما الثالث: فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة، وإنما هو عائد على مناط الأدلة، فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل الذكية كذلك؛ فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله أو تحريمه؛ لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر، وهو أيضا واضح لا تشابه فيه، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع، مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل، فلا مدخل له في المسألة

(1)

.

"فصل"

في بيان قلة وندور اتصاف النصوص الشرعية بالاشتباه، وفي بيان أن الخلف في الأحكام وغيرها ليس ذلك الاشتباه هو موجبه إلا في أمور خاصة قليلة. "إذن" بناء على هذا الذي تقرر في هذا الشأن وهو ما تقدم من أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها - كالعام والخاص وما ذكر معه - قليل، بل هو ليس مما يجري فيه التشابه الحقيقي المعتبر - "فـ" ـإنه "لا يعزى" أي لا ينسب "له" أي الاشتباه أمر "مختلف فيه" باعتباره سببا له "سوى الممسك" - بكسر السين - أي الذي أمسك "عنه السلف" الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم والإيمان بكون أمره محجوبا عن العباد، وذلك محصور في الأمور الإلهية التي لا تهتدي إليها العقول، ونهي عن الخوض فيها بالنص، أو بانكفاف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة عن الخوض في أمره وذلك

(1)

الموافقات 76/ 77.

ص: 123

1719 -

كَالإِسْتِوَا وَهْوَ مِنَ الْقَلِيلِ

فَاتَّضَحَتْ قَاعِدَةُ التَّقْلِيلِ

" كالاستوا" الوارد في قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] وكاليد والرجل وما جرى مجرى ذلك وحين سلك الأولون في سلك التسليم وترك الخوض في معانيه دل ذلك على أن هذا هو الحكم عندهم فيه - "وهو" في واقع الأمر "من القليل" وأما الخلاف فيما سوى ذلك من المسائل فإنه ليس واقعا بسبب تشابه أدلتها، فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها ومناطاتها والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه.

والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة فلكل مأخذ يجري عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما في نفس الأمر فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابها بهذا الاعتبار وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي وهو الثاني أو إلى التشابه الثالث ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه وما حصل له من علم الشريعة فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل لأنه أخذ الشريعة مأخذا اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل والأمر على ضد ذلك وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع وإن وقع الخلاف في مسائلها ومعترف بأن قوله تعالى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عِمرَان: 7] على ظاهره من غير شك فيه فيستقرئ من هذا إجماع على أن المتشابه في الشريعة قليل وإن اعترفوا بكثرة الخلاف وأيضا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت وما ضلت إلا وهي غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة وإلى ذلك فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق وهذا مذكور في كتاب الاجتهاد فسقط بسببه كثير مما يعد في الخلاف وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد ووجه آخر وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شيء بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها عند العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ومن يليهم من غيرهم بل من ولد بعد ما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب كمالك والشافعي وأبي حنيفة ومن

ص: 124

1720 -

وَدَلَّتِ الآيَةُ فِي الْمَعْنَى عَلَى

قِسْمِ الإِضَافِيِّ الذِي قَدْ انْجَلَا

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1721 -

وَلَيْسَ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّهْ

تَشَابُهٌ بَلْ ذَاكَ فِي الْجُزْئِيَّهْ

1722 -

وَذَا بِالاسْتِقْرَاءِ صَحَّ وَالنَّظَرْ

إِذِ الأُصُولُ مَا اسْتَقَلَّ وَاسْتَقَرْ

قبلهم أو بعدهم وأمثالهم فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف ومن استقرى مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى وفى كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده

(1)

.

"فـ" ـإذا جمعت هذه الأطراف "اتضحت" لك كل واستبانت "قاعدة" جريان "التقليل" في عروض هذا العارض في النصوص الشرعية، وتبين لك على جزم أن المحكم هو الغالب.

"ودلت الآية" المتقدمة "في المعنى" أي معناها - كما تقدم بيانه - "على" دخول "قسم" التشابه "الإضافي الذي قد انجلا" أي انكشف، واستبان أمره، وقد سبق بيان وجه دخوله في معناها.

"المسألة الرابعة"

في أن التشابه لا يقع إلا في الجزئيات.

"و" بيان ذلك أنه "ليس" يعرض "في"الأصول و"القواعد الكلية" الدينية والفقهية "تشابه" حقيقي "بل ذاك" إنما يعرض "في" الفروع "الجزئية" الممتل لها في المسألة السابقة.

"وذا" الأصل - وهو عدم جريان التشابه في الأصول - ثابت "بـ"ـأمرين:

أحدهما: "الاستقراء" فإنه قد "صح" به ذلك.

"و" ثانيهما: مقتضى "النظر" والبحث في واقع حال الأصول وماهيتها "إذ الأصول" عقدية كانت أو فقهية إنما هي "ما استقل" بإفادته الحكم، وقام به "واستقر" على ما هو

(1)

الموافقات 3/ 78 - 79.

ص: 125

1723 -

وَإِنْ بَدَا تَشَابُهٌ فِي أَصْلِ

فَإِنَّهُ فَرْغ لِأَصْلِ كُلِّي

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1724 -

وَبَعْدُ هَلْ يُسَلَّطُ التَّأْوِبلُ

عَلَى تَشَابُهٍ لَهُ تَفْصِيلُ

1723 -

فَفِي الإِضَافِي الذِي قَبْلُ رُسِمْ

كَمُطْلَقٍ وَذِي عُمُومٍ مُنْحَتِمْ

عليه من حال، وماهية، ثم إن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه وهذا باطل وبيان ذلك أن الفرع مبني على أصله يصح بصحته ويفسد بفساده ويتضح باتضاحه ويخفى بخفائه وبالجملة فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع إذ كل فرع فيه ما في الأصل وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه لزم سريانه في جميعها فلا يكون المحكم أم الكتاب لكنه كذلك فدل على أن المتشابه لا يكون في شيء من أمهات الكتاب

(1)

.

"و" أما "إن بدا" أي ظهر "تشابه في أصل" ما كالنصوص الشرعية الموهمة للتشابه "فإنه" يعني فإن ذلك الأصل ما هو إلا "فرع لأصل كلي" وهو التنزيه بالنسبة للنصوص المتقدمة.

"المسألة الخامسة"

في شأن تسليط التأويل على المتشابه. حتى يصير محكما.

"و" ذلك أنه "بعد" بيان ما تقدم ذكره يرد على الأذهان سؤال، وهو "هل يسلط التأويل على" الدليل - اللفظ - ذي إلى "تشابه" أم لا؟

الجواب أن هذا أمر "له" - اللام بمعنى في - أي فيه "تفصيل" مداره على التفرقة بين التشابه الإضافي والحقيقي في ذلك، "ففي" اللفظ - الدليل - ذي التشابه "الإضافي الذي" عُرِّف "قبل" و "رسم" حتى توضحت صورته وذلك "كـ" دليل "مطلق" عارض إطلاقه دليل مقيد "و" كدليل "ذي عموم" عارض عمومه دليل خاص وما أشبه ذلك مما وقع فيه التعارض بين ظواهر الألفاظ، التأويل سبيل "منحتم" أي واجب سلوكه في

(1)

الموافقات 3/ و 79 - 80.

ص: 126

1726 -

وَفِي حَقِيقِيٍّ مَضَى تَمْثِيلُهُ

لَيْسَ بِلَازِمٍ لَنَا تَأْوِيلُهُ

1727 -

لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِهِ تْكلِيفُ

وَلَا أَتَى فِي شأْنِهِ تَعْرِيفُ

1728 -

وَأَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ شأْنِ السَّلَفْ

وَشَأْنِ مَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْخَلَفْ

1729 -

وَمَالَ بَعْضُ الْمُتَأخِّرِينَا

لِعَكْسِهِ فَئَاثَرَ التَّبْيِينَا

1730 -

مُسْتَنِدًا لِمُقْتَضَى الْوَقْفِ عَلَا

فِي الْعِلْمِ عَطْفًا وَهْوَ وَجْهٌ نُقِلَا

ذلك، لأن مجموع الدليلين المتعارضين على الوجه المتقدم هو المحكم، وقد مر بيانه.

"و" أما "في" الدليل ذي التشابه الـ"حقيقي" الذي قد "مضى تمثيله" بآيات الإستواء، واليد، والوجه ونحو ذلك، فإنه "ليس بـ "ـأمر"لازم لنا تأويله" وذلك "لكونه ليس" متعلقا "به" يعني بفهمه "تكليف، ولا أتى في شأنه" من الشارع "تعريف" أو بيان له، فتحصل من ذلك أننا ما كلفنا إلا بأن نمسك عن الخوض فيه وتفويض العلم به حقيقة لله - تعالى - "و" قد تقرر "أن هذا" هو الذي "كان من شأن السلف" الصالح "وشأن من تابعهم" في هذا السبيل "من الخلف" الذين جاؤوا من بعدهم "ومال بعض المتأخرينا" - الألف للإطلاق - من هذه الأمة كالأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم في هذا الشأن "لعكسه" أي عكس هذا الذي نقل عن السلف "فئاثر" أي اختار "التبيينا" لهذه الأدلة بطريقة التأويل لها، كما هو الشأن في الأدلة المتصفة بالتشابه الإضافي.

"مستندا" في هذا الذي ذهب إليه في هذا الشأن إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها، من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل وغيرها من أنواع الاتساع وكذلك "لمقتضى الوقف على في العلم" في قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عِمرَان: 7]"عطفا" على لفظ الجلالة "وهو وجه" ضعيف في تفسير هذه الآية "نقلا" - الألف للإطلاق - عن مجاهد بن جبير، وزعم أن العلماء يعرفون المتشابه. واحتج له بعض أهل اللغة، فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا، وزعم أن موضع "يقولون" نصب على الحال. وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل، فإن لم يظهر فعل فلا يكون حال.

ص: 127

1731 -

وَالْبَاعِثُ اسْتِبْعَادُهُ أَنْ صَدَرَا

تَخَاطُبٌ يَعْزُبُ عَنْ فَهْمِ الْوَرَا

"‌

‌ المسألة السادسة

"

1732 -

إِنْ أُعْمِلَ التَّأْوِيلُ فِي الْمُشْتَبِهِ

رُوعِيَ حَتْمًا فِي مُوَوَّلٍ بِهِ

1733 -

رُجُوعُهُ بَعْدُ لِمَعْنىً جَارِ

وَمُقْتَضىً صَحِيحِ الاعْتِبَارِ

1734 -

مَعْ كَوْنِهِ مُتَّفَقًا فِي الْجُمْلَهْ

عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُقْتَفِينَ سْبلَهْ

" و" أما "الباعث" على اختيار ذلك البعض مذهب التأويل في هذا الشأن فإنه قد جاء من جهة ما اقتضاه نظره فيه وهو "استبعاده" وعدم قبوله "أن صدرا" - الألف للإطلاق - يعني أن يصدر عن الشارع - أي يأتي منه - "تخاطب" يعني خطابًا للخلق وهو "يعزب" يغيب ويخفي إدراكه "عن فهم الورا" أي الخلق، فلا يعلم معناه أحد منهم.

وهذا كله مردود بما تقدم بيانه، فكان الصواب في هذا الشأن هو ما عليه السلف الصالح. كما مضى تقريره.

"المسألة السادسة"

فيما تتوقف عليه صحة التأويل.

وبيان ذلك أنه "إن أعمل التأويل في" الدليل "المشتبه" اعْتُبِرَ و "روعي حتما" أي وجوبا "في" المعنى الذي هو "مؤول به" ما به يكون ذلك التأويل صحيحا، وهو ثلاثة أمور: أحدها أن "رجوعه" أي المؤول به "بعد" حصول التأويل به "لمعنى" مقبول "جار" على السبيل الصحيح "و" لـ "مقتضى صحيح الاعتبار" في مجاري النظر، ويعرف ذلك كله بسياق الكلام ودلالة المقام وما تمهد في الشريعة من القواعد والأصول.

والأمر الثاني الذي يزاد "مع" هذا هو "كونه" أي المعنى المأول به "متفقا في الجملة عليه" وإن كان مختلفا فيه تفصيلا "بين المقتفين" أي المتبعين "سبله" - بضم السين وسكون الباء جمع سبيل - وذلك مثل حمل المطلق على المقيد فإنه يصير إليه أهل العلم وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك، والشروط المعتبرة في صحته، وبيان ذلك في كتب أصول الفقه مبسوط.

ص: 128

1735 -

وَأَنْ يُرَى يَقْبَلُهُ اللَّفْظُ الذِي

أُولَ لَا يَأْباهُ عِنْدَ الْمَأْخَذِ

" و" الأمر الثالث هو "أن يرى" ذلك المعنى المأول به وهو "يقبله اللفظ الذي أول" وأخرج عن ظاهره "لا يأباه" باعتبار حاله والقرائن المحيطة به "عند المأخذ" أي أخذه مؤولا، فإن لم يقبله فاللفظ نص لا احتمال فيه، فلا يقبل التأويل، وإن قبله فإنه لا بد مع ذلك أن يكون جاريا على ما تقتضيه الأدلة الخارجية في شأنه، فاللفظ لا يصار إلى تأويله بمجرد قبوله لذلك بل لا بد في ذلك من موجب - دليل - له.

قال إمام الحرمين: إن المؤول يعتبر بما يعضد التأويل به، فإن كان ظهور المأول زائدا على ظهور ما عضد التأويل به فالتأويل مردود، وإن كان ما عضد التأويل به أظهر، فالتأويل سائغ، معمول به

(1)

.

وقال الشاطبي: وإن قبله اللفظ فإما أن يجري على مقتضى العلم أولا، فإن جرى على ذلك فلا إشكال في اعتباره لأن اللفظ قابل له والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه، فاطراحه إهمال لما هو ممكن الاعتبار قصدا، وذلك غير صحيح ما لم يقم دليل آخر على إهماله أو مرجوحيته، وأما إن لم يجر على مقتضى العلم فلا يصح أن يحمله اللفظ على حاله، والدليل على ذلك أنه لو صح لكان الرجوع إليه مع ترك اللفظ الظاهر رجوعا إلى العمى ورميا في جهالة، فهو ترك للدليل لغير شيء وما كان كذلك فباطل هذا وجه، ووجه ثان وهو أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه، فالناظر بين أمرين إما أن يبطل المرجوح جملة، اعتمادا على الراجح، ولا يلزم نفسه الجمع وهذا نظر يرجع إلى مثله عند التعارض على الجملة وإما أن لا يبطله ويعتمد القول به على وجه فذلك الوجه إن صح واتفق عليه فذاك وإن لم يصح فهو نقض الغرض لأنه رام تصحيح دليله المرجوح لشيء لا يصح فقد أراد تصحيح الدليل بأمر باطل وذلك يقتضي بطلانه عندما رام أن يكون صحيحا هذا خلف؛ ووجه ثالث وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة فرده إلى ما لا يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه وهو جمع بين النقيضين ومثاله تأويل من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النِّسَاء: 125] بالفقير فإن ذلك يصير المعنى القرآني غير صحيح، وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله {وَعَصَى آدَمُ

(1)

البرهان 1/ 213.

ص: 129

"‌

‌ الفصل الثاني" فِي الإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1736 -

وَغَالِبٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّهْ

تَقْرِيرُهَا الْقَوَاعِدَ الْكلِّيَّهْ

1737 -

كَالأمْرِ بِالإِيمَانِ وَالإِنْفَاقِ

وَالنَّهْيِ عَنْ مُذَمَّمِ الأخْلَاقِ

{رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] أنه من غوي الفصيل، لعدم صحة غوى بمعنى غوي فهذا لا يصح فيه التأويل من جهة اللفظ والأول لا يصح فيه من جهة المعنى. ومثال ما تخلفت فيه الأوصاف تأويل بيان ابن سمعان في قوله تعالى:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عِمرَان: 138]. وهذا المعنى لا يختص بباب التأويل بل هو جار في باب التعارض والترجيح فإن الاحتمالين قد يتواردان على موضوع واحد فيفتقر إلى الترجيح فيهما فذلك ثان عن صحة قبول المحل لهما وصحتهما في أنفسهما والدليل في الموضعين واحد

(1)

.

"الفصل الثاني"

من الفصول الخمسة المذكور أنها معقودة لبيان عوارض الأدلة وما يتعلق بها من أحكام وفوائد. وهو معقود "في" بيان "الإحكام" وضده "و" هو "النسخ" وما يتعلق بذلك.

"وفيه" أي هذا الفصل لبيان ما ذكر تورد "مسائل" وهي أربع:

"المسألة الأولى"

منها في أن القواعد الشرعية الكلية هي الموضوعة أولا قبل الجزئيات.

"و" بيان أن الأمر الذي هو "غالب في السور المكية" هو "تقريرها" وتثبيتها "القواعد الكلية" العامة في العقائد وفي المقاصد الشرعية، وذلك "كالأمر بالايمان" بالله - تعالى - ورسله وكتبه واليوم الآخر، وبالقدر خيرِه وشره وكالأمر بمكارم الأخلاق كلها كالعدل، والإحسان، والوفاء بالعهد، وأخذ العفو، والإعراض عن الجاهل والدفع بالتي هي أحسن، والصبر، والشكر، والخوف من الله - تعالى - ونحو ذلك "والإنفاق" للمال في سبيل الله - تعالى - "والنهي عن" الكفر وما هو تابع له من أعمال شركية وعن كل "مذمم" بصيغة اسم المفعول - أي مذموم - "الأخلاق" - فيه إضافة الصفة للموصوف - والأصل

(1)

الموافقات 3/ 82/ 83/ 84 - انظر البرهان باب التأويلات.

ص: 130

1738 -

ثُمَّ أَتَتْ لِذَاكَ بِالْمَدِينَهْ

مُكَمِّلَاتٌ تَقْتَضِي تَبْيِينَهُ

1739 -

عِنْدَ اتِّسَاعِ خُطَّةِ الإِسْلَامِ

وَأُنْسِ مَنْ كُلِّفَ بِالأَحْكَامِ

1740 -

كَالصَّوْمِ وَالتَّحْدِيدِ لِلْحُدُودِ

وَالْحَجِّ وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ

1741 -

لِأَجْلِ ذَا مَا حُكْمُهُ قَدِ ارْتَفَعْ

مُعْظَمُهُ فِي الْمَدَنِيِّ قَدْ وَقَعْ

الأخلاق المذمومة كالكذب والإفتراء والظلم، والفحشاء، والقول بغير علم، والتطفيف في الميزان والمكيال، والفساد في الأرض، وغير ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية من سيء الأخلاق، والأعمال.

"ثم" بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم "أتت لذاك" الذي تقرر بمكة من الأصول متممات "بالمدينة" المنورة و"مكملات" له "تقتضي" وتفيد "تبيينه" وتوضيحه، وذلك "عند اتساع خطة" بالضم - أي أمر - وبالكسر - دار "الإسلام وأُنْسِ" - بضم الهمز وسكون النون - أي ارتياح وطمأنينة "من كلف بالأحكام" جريا على ما بنيت عليه الشريعة من المضي في سبيل التدرج. ومن تلك المكملات التي شرعت ما هو من العبادة، ومنها ما هو من مكارم الأخلاق وضبط الحدود والمعاملات، وذلك "كالصوم" الذي فرض في السنة الثانية من الهجرة قبل وقعة بدر "والتحديد للحدود" التي تحفظ الأمور الضرورية، وما يكملها وما يحسنها "والحج" الذي فرض - على القول المختار عند الجمهور - سنة ست بعد الهجرة، لأنه نزل فيها قوله - تعالى -:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البَقَرَة: 196]. وهذا مبني على أن الإتمام يراد به الفرض. ويؤيد هذا قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي: {وَأَقِيمُوا} [التور: 56] ورجح ابن القيم أن افتراض الحج كان سنة تسع أو عشر.

"والوفاء بالعقود" أي العهود، الوارد في قوله - تعالى -:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المَائدة: 1] في صدر سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت - على ما روي عن عائشة رضي الله - تعالى - عنها ومن ذلك الذي نزل بالمدينة - أيضا - تحريم المسكرات، كما روي في الصحيحين وغيرهما. وغير ذلك مما يعد تكميلا للأصول الكلية الشرعية.

و"لأجل ذا" الذي تقرر من الفرق بين حال ما هو مكي وحال ما هو مدني من الأحكام والنصوص الشرعية كان "ما" أي الذي من الجزئيات "حكمه" الشرعي "قد ارتفع" أي نسخ "معظمه في" النص الشرعي "المدني قد" جاء و "وقع" لما اقتضته

ص: 131

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1742 -

قَدْ مَرَّ فِي الْقَوَاعِدِ الأَصْليَّهْ

كَثْرَتُهَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيهْ

1743 -

وَتلْكَ فِيهَا النَّسْخُ لْم يَكُنْ يَقَعْ

وَإِنْ يَكُنْ يُمْكِنُ عَقْلًا وَيَسَعْ

1744 -

دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الاسْتِقْرَاءُ

وَالنَّظَرُ الذِي لَهُ اسْتِجْلَاءُ

الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولا للقريب العهد بالإسلام واستئلاف لهم مثل كون الصلاة كانت صلاتين ثم صارت خمسا وكون إنفاق المال مطلقا بحسب الخيرة في الجملة ثم صار محدودا مقدرا وأن القبلة كانت بالمدينة بيت المقدس ثم صارت الكعبة وكحل نكاح المتعة ثم تحريمه وأن الطلاق كان إلى غير نهاية على قول طائفة ثم صار ثلاثا والظهار كان طلاقا ثم صار غير طلاق إلى غير ذلك مما كان أصل الحكم فيه باقيا على حاله قبل الإسلام ثم أزيل أو كان أصل مشروعيته قريبا خفيفا ثم أحكم

(1)

.

"المسألة الثانية"

في أن النسخ لا يقع في القواعد الكلية الشرعية المكية.

وبيان ذلك أنه "قد مر في" مجاري الكلام على "القواعد" الكلية "الأصلية" في المسألة السابعة في القسم الرابع في كتاب المقاصد أن "كثرتها" أي تلك القواعد الكلية واردة "في السور المكية وتلك" القواعد لم يحصل "فيها" من "النسخ" شرعا و "لم يكن يقع" على الإطلاق "وإن يكن" يعني وإن كان "يمكن" أي يجوز حصوله "عقلا ويسع". أي يسوغ ويقبل - "دل على" ثبوت "ذلك" وحصوله "الاستقراء" للنصوص الشرعية وتتبع أحوالها، بتمام "والنظر" في مقتضيات هذه النصوص ومضامينها ذلك النظر "الذي له" - قد تكون اللام - هنا بمعنى الباء - أي به - وقد تكون للاختصاص والاستحقاق، أي ذلك النظر الخاص الذي له "استجلاء" أي استكشاف لما انطوت عليه تلك النصوص ودلت عليه، والذي قد أثمر في هذا الشأن أن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات أي الكليات الشرعية، وجميع ذلك قد تقرر شرعا في الفترة المكية، ولم ينسخ منه شيء.

(1)

الموافقات 3/ 86.

ص: 132

1743 -

بَلْ كلُّ مَا بِطَيْبَةٍ بَعْدُ أَتَى

كَانَ لَهَا مُقَوِّيًا مُثَبِّتَا

1746 -

وَذَاكَ مُقْتَضٍ لِأَنَّ النَّسْخَ فِي

مَا كَانَ مَكِّيًّا قَلِيلٌ فَاعْرِفِ

"‌

‌ فصل

"

1747 -

وَحَيْثُمَا النَّسْخُ أَتَى فَيَنْتَمِي

إِلَى الْقَلِيلِ بِاعْتِبَارِ الْمُحْكَمِ

" بل كل ما" من الأحكام الشرعية "بطيبة" - على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام - "بعد" ذلك قد "أتى" وشرع إنما "كان لها" أي تلك الكليات "مقويا" و "مثبتا" أي مرسخا لها في البنية الشرعية، ومحصنا لها "وذاك" أمر "مقتض" وموجب "لأن" حصول "النسخ في ما" من الأحكام "كان مكيا قليل" إذ لم يثبت نسخ لكلي البتة، ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ أدرك هذا الأمر حقا، إذ النسخ إنما يكون في الجزئيات، والجزئيات المكية قليلة "فاعرف" ذلك واجعله قاعدة تعتمد عليها في هذا المقام.

"فصل"

في أن ما هو منسوخ من الأحكام قليل بالنسبة للمحكم منها.

"و" بيان ذلك أنه "حيثما" أي في أي موضع جاء "النسخ" و "أتى فـ" ـإنه "ينتمي" وينتسب "إلى" القلة وبذلك فإنه "القليل باعتبار المحكم" وهو الذي لم يجر فيه نسخ.

قال الشاطبي: فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة ويقوى هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه وغير المنسوخ من المحكم لقوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عِمرَان: 7] فدخول النسخ في الفروع المكية قليل وهي قليلة فالنسخ فيها قليل فهو إذا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر. ووجه آخر وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعى نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين

ص: 133

ذ 748 - هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ

عَلَى اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ

ولا دعوى الإحكام فيهما.

وهكذا يقال في سائر الأحكام مكية كانت أو مدنية.

ويدل على ذلك الوجهان الأخيران ووجه ثالث وهو أن غالب ما ادعى فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ومحتملا وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانا لمجمل أو تخصيصا لعموم أو تقييدا لمطلق وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني وقد أسقط ابن العربي من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة، وقال الطبري أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ثم اختلفوا في نسخها قال ابن النحاس فلما ثبتت بالإجماع وبالأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه ولمسلم لم يجز أن تزال إلا بالإجماع أو حديث يزيلها ويبين نسخها ولم يأت من ذلك شيء انتهى المقصود منه.

ووجه رابع يدل على قلة النسخ وندوره أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد نسخًا لحكم الإباحة الأصلية.

ولذاك قالوا في حد النسخ: إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعى متأخر، ومثله رفع براءة الذمة بدليل. وقد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضًا، إلى أن نزل وقوموا لله قانتين وروي أنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 2] قالوا: وهذا إنما نسخ أمرا كانوا عليه وأكثر القرآن على ذلك معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة فهو مما لا يعد نسخا وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية فإذا اجتمعت هذه الأمور ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسنة لم يتخلص في يدك من منسوخها إلا ما هو نادر

(1)

.

ومع قوليا هذا" فإنه لا مناص "ولا بد من التنبيه على" ما هو "اصطلاح العلماء فيه" أي النسخ، وما الذي يطلقونه عليه.

وهذا ما تتضمنه المسألة الموالية.

(1)

الموافقات 3/ 87 - 88 - 89.

ص: 134

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1749 -

النَّسْخُ عِنْدَ الْمُتَّقَدِّمِينَا

يَعُمُّ كُلَّ مَا اقْتَضَى تَبْيِينَا

1750 -

مِنَ الْعُمُومَاتِ وَالإِطْلَاقَاتِ

وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُبَيَّنَاتِ

1751 -

لِلاشْتِرَاكِ أَنَّ مَعْنَى الأَوَّلِ

مَعْ مَا اقْتَضَاهُ الثَّانِ غَيْرُ مُعْمَلِ

" المسألة الثالثة"

وهي: المعقودة لهذا الأمر.

وبيان ذلك: أن لفظ "النسخ عند المتقدمينا" - الألف للإطلاق - من أهل العلم "يعم" معناه "كل ما اقتضى" وأفاد "تبيينا" لمدلول دليل شرعي ما كان، فإن كان "من" الأدلة التي قامت بها "العمومات" فإنهم يطلقون على تخصيصها نسخا "و" إن كان من الأدلة التي قامت بها "الإطلاقات" فإنهم يطلقون على تقييدها نسخا، "و" هكذا شأن "غيرها من" النصوص "المبيِّنات" - بفتح الياء - والموضحات بغيرها من الأدلة، فبيان المجمل - أيضا - يطلقون عليه النسخ، كما يطلقونه على ما يطلقه عليه المتأخرون، وهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر، وإنما أطلقوا على ذلك لفظ النسخ "لـ"ـوجود "الاشتراك" بين هذه الجزئيات كلها في "أن معنى" الدليل "الأول" عاما كان أو مطلقا أو مجملا أو منسوخا "مع" اعتبار "ما اقتضاه" ودل عليه الدليل "الثان" خاصا كان أو مقيدا أو مبينا، أو ناسخا "غير معمل" بل هو ملغى بالكلية كما في المنسوخ، أو ملغي ظاهره كما في العام، والمطلق والمجمل، فالمعمول به إذن إنما هو الدليل الثاني، وهذا المعنى جار في تقييد المطلق فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا إعمال له في إطلاقه بل المعمل هو المقيد فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ وكذلك العام مع الخاص إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ والمنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص وبقي السائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد

(1)

.

(1)

الموافقات 3/ 90.

ص: 135

1732 -

وَكَمْ بِذَا الْبَابِ لَهُمْ مِنْ مَسْأَلَهْ

لَيْسَتْ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ بِمُشْكِلَهْ

1733 -

مِنْ مُقْتَضٍ لِلنَّسْخِ بِالأَخْبَارِ

وَالنَّسْخُ فِيهَا وَهْوَ غَيْرُ جَارِ

" وكم" - للتكثير - "بذا" أي هذا "الباب" وهو إطلاق النسخ على ما ذكر "لهم" أي لهؤلاء المتقدمين "من مسألة" ساروا فيها على هذا وهي "ليست" من حيث فهم مقصدهم فيها بناء "على" مقتضى "اصطلاحهم" هذا "بمشكلة" بل هي واضحة مستبانة.

وكم "من" قول صادر عنهم وهو "مقتض" من جهة دلالته اللفظية، ومفيد "لـ"ـوقوع "النسخ بالأخبار" - جمع خبر وهو - هنا - ما ليس إنشاء "و" كذلك لـ"النسخ فيها وهو" أي النسخ "غير جار" فيها، لأن الأخبار لا تنسخ ولا تنسخ.

ومن ذلك قول ابن عباس في قوله - تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسرَاء: 18]: إنه ناسخ لقوله - تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشّورى: 20] وهو على هذا التحقيق تقييد لمطلق، إذ كان قوله - تعالى -:{نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشّورى: 20] مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة، وهو قوله - تعالى - في الأخرى {لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسرَاء: 18] وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.

وقال في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} [الشعراء: 224] إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} [الشُّعَرَاء: 226] هو منسوخ بقوله - تعالى -: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشُّعَرَاء: 227] الآية، قال مكي: وقد ذكر عن ابن عباس في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء أنه قال: منسوخ، قال: وهو مجاز لا حقيقة لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه، بينه حرف الاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول، والناسخ منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه، وهو بغير حرف، هذا ما قال، ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله، ولكن أطلق عليه لفظ النسخ؛ إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص.

وقال في قوله - تعالى -: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] إنه منسوخ بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النُّور: 29] الآية، وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، غير أن قوله - تعالى -:

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النُّور: 61] يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة.

وقال في قوله: إنه منسوخ بقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التّوبَة: 41] إنه منسوخ بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التّوبَة: 122] والآيتان في معنيين، ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع.

وقال في قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفَال: 1] إنه منسوخ بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفَال: 41] وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله: {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عِمرَان: 172].

وقال في قوله - تعالى -: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعَام: 69]: إنه منسوخ بقوله - تعالى -: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} [النِّسَاء: 140] الآية، وآية الأنعام خبر من الأخبار والأخبار لا تنسخ ولا تُنسخ.

وقال في قوله - تعالى -: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النِّسَاء:8] لآية، إنه منسوخ بآية المواريث.

وقال في قوله - تعالى -: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النُّور: 31]: إنه منسوخ بقوله - تعالى -: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النُّور: 60] الآية. وليس بنسخ إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم.

وعن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المَائدة: 5] إنه ناسخ بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعَام: 121] فإن كان المراد أن طعام أهل الكتاب حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم وإن كان المراد أن طعامهم حلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب التخصيص لكن آية الأنعام هي آية العموم المخصوص في الوجه الأول وفي الثاني بالعكس.

وقال عطاء في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفَال: 16] إنه منسوخ بقوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفَال: 65] إلى آخر الآيتين وإنما هو تخصيص وبيان لقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ} [الأنفَال: 16] فكأنه على معنى ومن يولهم

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكانوا مثلي عدد المؤمنين فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير وقال في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاء: 24] إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وهذا من باب تخصيص العموم.

وقال وهب بن منبه في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشّورى: 5] نسختها الآية التي في غافر: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غَافر: 7] وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى إذ هو خبر محض، والأخبار لا نسخ فيها، وقال ابن النحاس. هذا لا يقع فيه ناسخ ولا منسوخ؛ لأنه خبر من الله، ولكن يجوز أن يكون وهب بن منبه أراد أن هذه الآية على نسخة تلك الآية، لا فرق بينهما، يعني أنهما بمعنى واحد وإحداهما تبين الأخرى، قال: وكذا يجب أن يتأول للعلماء، ولا يتأولوا عليهم الخطأ العظيم، إذا كان لما قالوه وجه، قال: والدليل على ما قلناه ما حدثناه أحمد بن محمد ثم أسند عن قتادة في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] قال: للمؤمنين منهم.

وعن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب أن قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبَة: 34] الآية، منسوخ بقوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التّوبَة: 103] وإنما هو بيان لما يسمى كنزا، وأن المال إذا أديت زكاته لا يسمى كنزًا، وبقي ما لم يزك داخلًا تحت التسمية، فليس من النسخ في شيء.

وقال قتادة في قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عِمرَان: 102] إنه منسوخ بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التّغَابُن: 16] وقاله الربيع بن أنس والسدي وابن زيد وهذا من الطراز المذكور، لأن الآيتين مدنيتان، ولم تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه، وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عِمرَان: 102] فيما استطعتم وهو معنى قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التّغَابُن: 16] فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيد بسورة التغابن.

وقال قتادة أيضا في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البَقَرَة: 228] إنه نسخ من ذلك التي لم يدخل بها بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزَاب: 49] والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطّلَاق: 4] إلى قوله: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطّلَاق: 4].

ص: 138

1754 -

فَرَاعِهِ حَيْثُ وَجَدْتَ ذَلِكَا

تَصِلْ لِمَا تَطْلُبُهُ هُنَالِكَا

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1755 -

وَجُمْلَةُ الْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَهْ

مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّهْ

وقال عبد الملك بن حبيب في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 28] إن ذلك منسوخ بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 29] وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد وهو معنى لا يصح نسخه فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره بل هي مقيدة بمشيئة الله سبحانه.

وقال في قوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97] وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة: 98] إنه منسوخ بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 99] الآية وهذا من الأخبار التي لا يصح نسخها والمقصود أن عموم الأعراب مخصوص بمن كفر دون من آمن

(1)

.

والأمثلة - هنا - كثيرة، وهي توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان ما في تلقي الأحكام من مجرد ظاهره إشكال وإبهام لمعنى غير مقصود للشارع، فهذا هو ما اصطلحوا على إطلاق هذا اللفظ - النسخ - عليه "فراعه" وتنبه له "حيث" أي في أي موضع "وجدت ذلكا" - الألف للإطلاق - وهو لفظ النسخ في كلامهم "تصل لما تطلبه" من المعنى الصحيح "هنالكا" - الألف للإطلاق -. وبهذا يعلم أن النسخ عند المتقدمين أعم مما يطلقه عليه الأصوليون ومتأخرو الفقهاء.

"المسألة الرابعة"

في أن النسخ لا يقع في الكليات.

"و" بيان ذلك أن "جملة" أي كل "المقاصد" الشرعية "الكلية" العامة "من" - بيانية - "الضروريات والحاجية".

(1)

الموافقات 3/ 94 - 95 - 96.

ص: 139

1756 -

لَمْ يَرِدِ النَّسْخُ بِهَا وَلَا وَقَعْ

وَمِثْلُ ذَاكَ مَا لِتَحْسِينٍ يَقَعْ

1757 -

وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي فُرُوعِ

جُزْئِيَّةِ الأَحْكَامِ فِي الْمَشْرُوعِ

1758 -

وَالرَّفْعُ لِلْجُزْئِيِّ لَا يَسْتَلْزِمُهْ

إِزَالَةُ الْجِنْسِ الذِي يَنْتَظِمُهْ

1759 -

وَقَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ فِي الْخَمْسِ الأُوَلْ

شُمُولُهَا بِالْحِفْظِ فِي كُلِّ الْمِلَلْ

1760 -

وَهَكَذَا الأمْرُ لَدَى التَّبْيِينِ

فِي أَصْلَيِ الْحَاجِي وَالتَّحْسِينِي

1761 -

وَكَمْ يُرَى لِذَاكَ مِنْ دَلِيلِ

مُسْتَوْضَحٍ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ

" لم يرد" أي لم يجئ "النسخ بها" - الباء بمعنى في - أي فيها "ولا وقع" فيها - هذا من باب عطف المرادف، أو المبين - "ومثل ذاك" وهو عدم النسخ هو "ما" يحصل "لـ"ــما هو من المقاصد منسوب لـ"تحسين" فيطلق عليه لفظ التحسيني، وهذا ما "يقع" له، ويجري فيه، فالتحسينيات لا يدخله - أيضا - النسخ.

"و" ذلك أن النسخ "إنما وقع" وحصل "في فروع جزئية الأحكام" أي مخصوصة بأمور مفردة معينة "في المشروع" يعني في الشريعة "والرفع" والإزالة "للجزئي" من الأحكام "لا يستلزمه" أي لا يستلزم ولا يوجبه "إزالة" ورفع "الجنس" وهو الأصل الكلي "الذي ينتظمه" أي يجمعه هو وغيره من الجزئيات، وكون الجزئي لا يؤثر إسقاطه واستثناؤه في كليه، أمر بين، وقد تقدم تقريره، في "كتاب المقاصد"، ثم إن نسخ جزئية ما قد يكون بوجه آخر مدخلا لها تحت كلي آخر مما تقوم عليه بنية الشريعة، وهذا يعود بالحفظ على ما وجب حفظه بهذه الشريعة، وتحصيل ما قصد بها من المقاصد.

"وقد مضى" في صدر "كتاب المقاصد""من قبل في "مجرى الكلام على الضروريات "الخمس الأول" المقدمة في الكلام وفي منزلتها "شمولها" وإحاطتها "بالحفظ في كل الملل" والشرائع الماضية وإن اختلفت أوجه الحفظ بسبب حال كل أمة، وهذه الخمس هي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل "وهكذا الأمر" أيضا "لدى" أي عند حصول "التبيين" الذي يؤخذ من الأدلة الشرعية "في" شأن "أصلي الحاجي والتحسيني" - في هذا إضافة العام إلى الخاص - يعني في الأصلين الآخرين اللذين هما الحاجي، والتحسيني، فإنهما على ما يبدوا مراعى حفظها في الملل والشرائع الماضية "وكم" للتكثير "يرى" أي يبصر "لـ" ثبوت "ذاك" وصحته "من دليل مستوضح" يعني واضحا بينا قد ورد "في محكم التنزيل" أي القرءان الكريم، وذلك

ص: 140

1762 -

كَقَوْلِهِ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ

إِلَى نُصُوصٍ غَيْرِهِ لَا تَشْتَبِهْ

1763 -

فَإذْ وكَانَتِ الأُصُولُ الأُوَلُ

ثَابِتَةً لَمْ تَنْتَسِخْهَا الْمِلَلُ

" كقوله" سبحانه بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]"إلى نصوص غيره" أي غير هذا النص، وهي "لا تشتبه" في دلالتها على هذا الأمر ومن ذلك قوله - تعالى -:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] الآية، وكثير من الآيات أخبر فيها بأحكام كلية كانت في الشرائع المتقدمة وهي في شريعتنا، ولا فرق بينهما، وقال تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، وقال في قصة موسى عليه السلام:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14] وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183].

وقال: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] الآيات في منع الإنفاق وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات وكذلك الحاجيات فإنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق هذا وإن كانوا قد كلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات ومثل ذلك التحسينيات فقد قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] وقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتي هي أحسن وغير ذلك. وأما قوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] فإنه يصدق على الفروع الجزئية وبه تجتمع معاني الآيات والأخبار

(1)

. "فـ "ــتقرر بهذا أن هذه الكليات مراعى حفظها في كل الشرائع والملل و "إذا" تقرر هذا وثبت "وكانت الأصول الأول" المذكورة "ثابتة" على الدوام "لم تنتسخها" أي لم تزلها "الملل" يعني لم يزل اعتبار حفظها ومراعاته بتغير

(1)

الموافقات 3/ 97 - 98.

ص: 141

1764 -

مَعَ وُقُوعِ النَّسْخِ ذَاكَ أَوْلَى

فِي مِلَّةٍ تَأْصِيلُهَا اسْتَقَلَّا

"‌

‌ الفصل الثالث" فِي الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1765 -

أَلأمْرُ يَسْتَلْزِمُ وَالنَّهْيُ مَعَا

إِرَادَةً وَطَلَبًا مُتَّبَعَا

1766 -

وَذَاكَ فِي الأمْرِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ مَعْ

إِرَادَةِ الإِيقَاعِ حَيْثُمَا وَقَعْ

الملل وتعاقب الشرائع المختلفة في تفاصيل أحوالها "مع وقوع النسخ" لتلك الشرائع والملل، فإن حصول "ذاك وهو ثبوت تلك الأصول ومراعاة حفظها - "أولى" وأحق أن يكون "في ملة" واحدة - كملة الإسلام - "تأصيلها" أي وضع أصولها وقواعدها "استقلا" - الألف للإطلاق - وانفرد عن غيره.

"الفصل الثالث"

من الفصول الخمسة المعقودة في ذكر عوارض الأدلة وهو موضوع لذكر ما يعرض "في الأوامر" جمع أمر وقد جمعه باعتبار تعدد أحواله "والنواهي" جمع نهي وقد جمعه باعتبار تعدد أحواله كذلك "وفيه" أي هذا الفصل تورد "مسائل" وهي ثماني عشرة مسألة. في أن الأمر والنهي يستلزمان الإرادة والطلب.

"المسألة الأولى"

وبيان ذلك أن "الأمر" الموضوع له صيغة "إفعل""يستلزم" بمقتضى ماهيته النفسية "والنهي" الموضوع له صيغة "لا تفعل" فإنه - أيضا - يستلزم بماهيته النفسية، - يعني أنهما "معا" يستلزمان - "إرادة" تشريعية "وطلبا" من الشارع "متبعا" باعتباره أمرا شرعيا - وقد يكون قوله:"متبعا" هذا ذكره لتتميم البيت فقط لكونه مستغنى عنه في المعنى.

"و" المراد بـ "ذاك" وهو الإرادة والطلب "في الأمر" هو "اقتضاء الفعل" المأمور به أي طلب إدخاله إلى الوجود "مع إرادة الإيقاع" له "حيثما" أي في أي موضع "وقع" وحصل ورود ذاك الأمر سواء ورد في موضع عبادي أو غيره.

ص: 142

1767 -

وَالنَّهْيُ لاقْتِضَاء تَرْكٍ دَاعِ

مَعَ إِرَادَةِ انْتِفَا الإِيقَاعِ

1768 -

وَمَعَ ذَا فَفِعْلُ مَأْمُورٍ بِهِ

مُسْتَلْزَمٌ كَتَرْكِ مَا عَنْهُ نُهِي

1769 -

إِرَادَةٌ بِهَا وُقُوعُ مَا ذُكِرْ

أَوْ عَدَمُ الْوُقُوعِ عَنْهَا يَسْتَقِرْ

1770 -

وَمِنْ بَيَانِ مُقْتَضَى الإِرَادَهْ

تَكْمُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الإِفَادَهْ

" و" أما "النهي" فإنهما أي - الإرادة والطلب - فيه "لاقتضاء" أي استدعاء وطلب "ترك" يعني كف كل "داع" نفسي لذلك المنهي عنه - يعني كف النفس عن المنهي، وتركه - "مع إرادة انتفاء""الإيقاع" لذلك المنهي عنه.

نعم من المعلوم أن الأصوليين اختلفوا في المطلوب بالنهي فذهب الجمهور إلى أن المطلوب به هو فعل ضد المنهي عنه.

وذهب السبكيان - تاج الدين ووالده - إلى أن المطلوب به هو الانتهاء عن المنهي عنه وأما أبو هاشم والغزالي ومن وافقهما من المتكلمين فقد ذهبوا إلى أن المطلوب به هو الانتفاء للمنهي عنه - بمعنى إغفال الفعل

(1)

.

وقد وافق المصنف - الشاطبي - ما عليه السبكيان في هذه المسألة على ما دل عليه ظاهر كلامه.

"ومع ذا" الذي تقدم أن الأمر والنهي يستلزمانه "فـ"ــإن "فعل" ما هو "مأمور به مستلزم" أو متضمن - "كترك ما عنه نهي" - وطلب الكف عنه "إرادة" يعني إيجادها من المكلف، يعني أن الأمر والنهي كما يستلزمان الإرادة والطلب التشريعيين، فإنهما يستلزمان - أيضا - طلب إيجاد إرادة من المكلف "بها وقوع" وحصول "ما ذكر" من الفعل والترك "أو عدم الوقوع" لهما إذ "عنها" يترتب وقوع ذلك أو عدمه و "يستقر" ويحصل.

"و" إذا تقرر هذا فإنه لابد "من بيان مقتضى" ومعنى "الإرادة" في الشريعة إذ بذلك "تكمل" وتتم "في" هذه "المسألة الإفادة" المطلوبة.

(1)

انظر "الرسالة العاشرة" من كتاب رسائل علمية في فنون مختلفة، لعبيد ربه كاتب هذه الأوراق، فإن فيها بسطًا للكلام على هذه المسألة.

ص: 143

1771 -

فَهْيَ بِمَعْنَيَيْنِ شَرْعًا تَثْبُتُ

الأوَّلُ الإِرَادَةُ الْخَلْقِيَّةُ

1772 -

إِرَادَةُ التَّكْوِينِ مَعْنَاهُ يُفِيدْ

فِي مِثْلِ مَا كَقَوْلهِ فَمَنْ يُرِدْ

1773 -

وَهْيَ التِي الْمَعْنَى بِهَا تَعَلَّقَا

بِكُلِّ مَا هُوَ مُرَادٌ مُطْلَقَا

1774 -

فَمَا أَرَادَ اللهُ كَوْنَهُ بَدَا

وَلَا يُرَى مَا لَمْ يُرِدْهُ أَبَدا

1775 -

وَهَذِهِ النَّهْيُ كَالأمْرِ لَا يُرَى

مُسْتَلْزِمًا لَهَا بِحَيْثُ مَا جَرَى

1776 -

فَنَهْيُهُ عَمَّا يُرِيدُ قَدْ يَقَعْ

وَأَمْرُهُ فِي الْعَكْسِ مِنْهُ مَا امْتَنَعْ

" فهي" أي الإرادة المذكورة "بمعنيين" - الباء بمعنى اللام - أي لمعنيين "شرعا تثبت" يعني ثبتت ووردت المعنى "الأول" منها هو "الإرادة الخلقية" - بفتح الخاء وسكون اللام - القدرية. وهذا "إرادة التكوين" والإيجاد "معناه يفيد" ويقتضي في كل موضع ورد فيه لفظ الإرادة لهذا المعنى كما "في مثل ما" - زائدة - أو بمعنى الذي أي الذي هو من النصوص الشرعية "كقوله" تعالى: {"فَمَنْ يُرِدِ" اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] وقوله - تعالى - {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] وقوله - سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 253]- وغير ذلك من النصوص الشرعية التي ورد فيها لفظ الإرادة بهذا المعنى.

"و" هذه الإرادة "هي التي المعنى" المراد "بها تعلقا" - الألف للإطلاق - أي ارتبط "بكل ما هو مراد" لله - تعالى - "مطلقا" سواء كان وصفه الإعدام أو الإيجاد "فما أراد الله" سبحانه وتعالى "كونه" وحصوله "بدا" وظهر في الوجود "ولا يرى" بل لا يوجد "ما لم يرده" يعني ما لا يريده، "أبدا" ولا سبيل إلى وجوده وحصوله على الإطلاق "وهذه" الإرادة "النهي كالأمر" في كونها "لا يرى" يعني: لا يوجد أي منهما "مستلزما" أو متضمنا "لها" في كل محل ورد و"بحيث ما" أي في كل موضع "جرى" وأتى "فنهيه" سبحانه "عما يريد" وقوعه إرادة تكوين "قد يقع و" يحصل كما في نهي أبي جهل عن الكفر وكذلك "أمره" تعالى - أيضًا - قد يرد "في العكس" - في بمعنى الباء - أي بالعكس من النهي المذكور فقد يأمر - تعالى - بأمر، وهو يريد إرادة تكوين أن لا يكون إذ "منه" أي مما يأمر به "ما" قد "امتنع" وقوعه وجوده بإرادته - تعالى - كما في الأمر بإيمان من علم - سبحانه - أنه لن يؤمن.

ص: 144

1777 -

ثَانِيهِمَا الإِرَادَةُ الأَمْرِيَّةْ

إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ وَالشَّرْعِيَّهْ

1778 -

وَحَيْثُمَا جَرَى بِذَا الْكِتَابِ

ذِكْرُ لِقَصْدِ الشَّرْعِ فِي الأبْوَابِ

1779 -

فَإِنَّهُ لِمُقْتَضَاهَا يُطْلَقُ

وَهْيَ الإِرَادَةُ التِي تُعَلَّقُ

1780 -

بِطَلَبِ الإِيقَاعِ لِلْمَأْمُورِ

وَعَدَمِ الإِيقَاعِ لِلْمَحْظُورِ

1781 -

وَهْيَ بِمَعْنَى الْحُبِّ أَوْ مَعْنَى الرِّضَا

وَالاقْتِضَا اسْتَلْزَمَهَا كَمَا مَضَى

1782 -

وَمَا يُرَادُ فَهْوَ مَأْمُورٌ بِهِ

وَغَيْرُ مَا يُرَادُ عَنْهُ قَدْ نُهِى

1783 -

فَاللهُ إِذْ أَمَرَ بِالْعِبَادَهْ

تَعَلَّقَتْ بِأَمْرِهِ الإِرَادَهْ

1784 -

إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ حَيْثُ الاقْتِضَا

إِلْزَامُ مَنْ كُلِّفَ حُكْمَ مَا اقْتَضَا

" وثانيهما" أي المعنيين هو "الإرادة الأمرية" وهي "إرادة التكليف" للعباد وهي - أيضا - "الشرعية" أو التشريعية "وحيثما" أي في أي موضع "جرى" وورد "بذا" أي في هذا "الكتاب" أي الموافقات، وكذلك هذه المنظومة - "ذكر لـ" - لفظ "قصد الشرع" وما تصرف منه "في" جميع "الأبواب" الواردة فيه "فإنه" أي لفظ القصد وما تصرف منه "لمقتضاها" - اللام بمعنى على - أي على مقتضى هذه الإرادة الأمرية التشريعية ومعناها "يطلق" وإليها ينصرف معناه على الدوام، "و" هذه الإرادة "هي الإرادة التي تعلق" - أصله تتعلق فحذفت إحدى التاءين للتخفيف - من جهة مقتضاها ومعناها "بطلب" واستدعاء "الإيقاع للمأمور" به "و" طلب "عدم الإيقاع" والإيجاد "للمحظور" أي المنهي عنه "و" هذه الإرادة "هي بمعنى الحب" أي حب الشارع فعل ما أمر به، أن يفعله من أمر به "أو "هي بـ "معنى""الرضا" من الشارع لما أمر به ولفعل من أمر به، من حيث إنه مأمور به، وكذلك النهي فإن الشارع يحب ترك المنهي عنه ويرضاه "والاقتضا"ء المذكور "استلزمها كما" تقدم و "مضى" ذكره.

"و" لذلك فإن كل "ما يراد" إرادة تكليف وتشريع هذه "فهو مأمور به" شرعا "و" أما "غير ما يراد" هذه الإرادة فإنه "عنه قد نهى" شرعا "فالله" سبحانه وتعالى "إذ أمر" عباده "بالعبادة" فإنه قد "تعلقت بأمره" سبحانه هذه "الإرادة" التي هي "إرادة التكليف" للعباد وذلك من "حيث" أي جهة "الاقتضاء" يعني من حيث اقتضاء واستلزام الأمر لها، إذ حقيقته - أي الأمر - "إلزام من كلف" من الخلق "حكم ما" من المأمور به "اقتضا"ــه ذلك

ص: 145

1785 -

فَهْوَ لَهَا مُسْتَلْزِمٌ وَإِلَّا

لَمْ يَكُ إِلْزَامًا لِذَاكَ أَصْلَا

1786 -

لَكِنْ أَعَانَ اللهُ أَهْلَ الطَّاعَهْ

فَفَعَلُوا بِجَعْلِ الاسْتِطَاعَهْ

1787 -

وَلَمْ يُعِنْ مُرْتَكِبِي الْعِصْيَانِ

فَتَرَكُوا الطَّاعَةَ بِالْخِذْلَانِ

1788 -

وَفِعْلُ هَؤُلَا وَتَرْكُ هَؤُلَا

مَعًا مُرَادُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا

1789 -

بِمُقْتَضَى إِرَادَةِ التَّكْوِينِ

وَكَمْ لِرَعْيِ الْفَرْقِ مِنْ تَبْيِينِ

الأمر وأوجبه، وبذلك "فهو" أي الأمر متضمن "لها" أي للإرادة هذه و "مستلزم" لها "وإلا" فإنه - أي الأمر في الحقيقة "لم يك إلزاما لذاك" الفعل أو الترك "أصلا" ولا تصور له معنى مفهوم في واقع الأمر. وأيضا فإنه لا يمكن مع ذلك أن يريد - أي الشارع - الإلزام مع العرو عن إيقاع الملزم به على المعنى المذكور "لكن أعان الله" سبحانه وتعالى "أهل الطاعة" ووفقهم لامتثال أوامره واجتناب نواهيه "ففعلوا" ذلك كله "بجعلـ"ــه وخلقه "الاستطاعة" فيهم على ذلك، فكان مريدا لوقوع الطاعة منهم، فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول، "ولم يعن" سبحانه "مرتكبي" ومقترفي "العصيان" والذنوب "فتركوا الطاعة" لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم "بالخذلان" وترك الإعانة لهم منه - تعالى - وهذا بمقتضى إرادته بالمعنى الأول، "وفعل هؤلاء" المطيعين لما أمروا به "وترك هؤلا"ء العاصين لما أمروا به كلاهما "معا مراد الله جل وعلا" وذلك "بمقتضى إرادة التكوين" والخلق التي تقدم بيانها.

وكما وردت الإرادة في النصوص الشرعية بالمعنى الأول وردت فيها - أيضا - بالمعنى الثاني، ومن ذلك قوله - تعالى - {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله - سبحانه -: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] وقوله - تعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28] وقوله - سبحانه -: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26] وقوله - جلت قدرته -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] وغير ذلك مما هو من صنف هذه الآيات.

والفرق بين هاتين الإرادتين أمر يجب التنبه له "وكم لرعي" هذا "الفرق" واعتباره "من تبيين" وتوضيح للنصوص التي وردت فيه فأشكل معناهما فيها.

ص: 146

1790 -

وَالتَّرْكُ لاعْتِبَارِ شَأْنِهِ اقْتَضَى

أَنْ أَوْقَعَ اللُّبْسَ لِبَعْضِ مَنْ مَضَى

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1791 -

الأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ فِي الْمَوَاقِعِ

مُسْتَلْزِمٌ حَتْمًا لِقَصْدِ الشَّارعِ

1792 -

فِيهِ إِلَى إِيقَاعِهِ وَالنَّهْيُ فِي

قَصْدِ انْتِفَا الإِيقَاعِ الأَمْرَ يَقْتَفِي

" والترك لاعتبار شأنه" أي هذا الفرق وعدم استحضار مفاده "اقتضى" واستدعى "أن أوقع" وأوجب "اللبس" وخفاء المعنى المراد "لبعض من مضى" من أهل العلم. وقوله - أي الناظم - "أن أوقع" هكذا في النسخة التي بيدي، ولو قال "أن وقع" لكان أحسن وأوضح والله تعالى - أعلم. قال الشاطبي: ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا وأثبتها في الأمر مطلقا ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع ولا بد من إثباتها بإطلاق والإرادة القدرية هي إرادة التكوين فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير وهي أيضا إرادة التكليف وهو شهير في علم الأصوليين أن يقولوا إرادة التكوين ويعنون بالمعنى الثاني الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب ولا مشاحة في الاصطلاح

(1)

.

"المسألة الثانية"

في أن الأمر بالفعل المطلق يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعه، كما أن النهي عنه يستلزم قصده لترك إيقاعه. وبيان ذلك أن "الأمر" الشرعي "بـ" الفعل "المطلق" نحو بع، وصل "في المواقع" والمواضع التي ورد فيها "مستلزم" بمقتضى ماهيته الشرعية "حتما" ووجوبا "لقصد الشارع فيه" أي في ذلك الأمر - وقد تكون في - هنا - بمعنى الباء أي به "إلى إيقاعه" وإيجاده. وقوله:"المطلق" قد يكون وصفا قصد به بيان الحال باعتبار الأصل وهذا هو الظاهر فيه، لأن الأوامر الشرعية الأصل فيها هو الإطلاق نحو {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل: 20]. "و" كذلك "النهي" فإنه "في قصد" الشارع "انتفا الإيقاع" للمنهي عنه وبذلك فإنه يتبع "الأمر" في صفة الاستلزام هذه، وإياه "يقتفي" في ذلك، وإن

(1)

الموافقات 3/ 101.

ص: 147

1793 -

أَوْ لَازِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ الأمْرُ

أَمْرًا وَذَا فِي النَّهْيِ يَسْتَمِرُّ

كان كل واحد منهما يستلزم نقيض ما يستلزمه الآخر - كما ترى -.

وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك، ومعنى الاقتضاء الطلب، والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب، ولا معنى للطلب إلا هذا.

ثم إن الطلب في هذا الشأن لا يخلو من أن يصار في أمره إلى أنه يستلزم القصد لإيقاع المطلوب، "أو" لا، فإن صير إلى أنه يستلزمه فالأمر بين منتظم على الوجه المتقدم، وإن صير إلى أنه لا يستلزمه فإنه يرد على ذلك "لازم" وهو "أن لا يكون الأمر أمرا" لأنه - كما تقدم - لا معنى للأمر إلا اقتضاء الفعل، والاقتضاء معناه الطلب، والطلب يستلزم مطلوبا والقصد إلى إيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا.

"وذا" كما يقال في الأمر يقال "في النهي" أيضا وهو "يستمر" جريانه فيه، فلا ينفك عنه، كما تقدم في الأمر، فلو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا هذا خلف ولصح انقلاب الأمر نهيا وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل أو عدمه فيكون المأمور به أو المنهى عنه مباحا أو مسكوتا عن حكمه وهذا كله محال.

والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به وترك المنهى عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون ولذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه

(1)

.

فإن قيل إن هذا يلزم منه أن يكون التكليف بما لا يطاق - كإيمان أبي جهل - مقصودا إلى إيقاعه، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن وقوعه عبث، فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاف عبث، والعبث في أحكام الشرع محال، فكل ما يلزم عنه محال، وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا أن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع، فإنه لا يلزم منه محظور عقلي، فوجب القول به.

(1)

الموافقات 3/ 102.

ص: 148

1794 -

وَطَلَبُ الْحُصُولِ وَالتَّحْصِيلِ

بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَدَى التَّفْصِيلِ

ثم إن هذا يعتضد بوجهين آخرين:

أحدهما: أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك فإنه يأمر العبد وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به وكذلك النهي حرفا بحرف وهو المطلوب.

ثانيهما: أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] وفي أمر التهديد نحو {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وما أشبه ذلك إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة

(1)

.

فالجواب عن ذلك كله هو أن استدعاء "وطلب الحصول" والوقوع للشيء "و" طلب "التحصيل" له "بينهما فرق" بين "لدى" أي عند جريان "التفصيل" في شأنهما، وبذلك يقع الانفصال عن هذا الإشكال.

وبيان ذلك: أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء إلا على قول من يقول إن الأمر إرادة الفعل وهو رأي المعتزلة وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة وإلا وقعت المأمورات كلها وأيضا: لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل أو لازم القصد إلى أن يفعل فإذا علم ذلك فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول وبينهما فرق واضح. وهكذا القول في جميع الأسئلة فإن السيد إذا أمر عبده فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول

(2)

. وأما أمر التعجيز والتهديد وما جرى مجراهما كالأمر المراد به التهكم فإن ذلك كله ليس مما يعد من الأمر الحقيقي الذي كلامنا فيه وهو الأمر الموضوع للطلب.

وفي هذا غنية عن مزيد كلام في هذا الموضوع.

(1)

الموافقات 3/ 103.

(2)

الموافقات 3/ 103/ 104.

ص: 149

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1795 -

الأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ لَنْ يَسْتَلْزِمَا

الأمْرَ بِالْمُقَيِّدَاتِ فَاعْلَمَا

1796 -

إِذْ ذَاكَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَمْرَا

بِمُطْلَقٍ لَكِنَّهُ اسْتَقَرَّا

1797 -

وَلَازِمٌ عَلَيْهِ أَنْ يُكَلَّفَا

بِغَيْرِ مَا يُطَاقُ وَالْمَنْعُ اكْتَفَا

" المسألة الثالثة"

في أن الأمر المعلق بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد المعين المنطوي تحت ذلك المطلق. وبيان ذلك: أن "الأمر" بالفعل المعلق "بالمطلق" الدال على الماهية المجردة

(1)

"لن يستلزما" - الألف للإطلاق - يعني لا يستلزم بمقتضى دلالته "الأمر بـ" الجزئيات "المقيدات" المنطوية تحت ذلك المطلق باعتبار الوقوع في الخارج، إذ لا يقع فعل في الخارج إلا وهو مقيد بصورة معينة إلا أن الأمر المعلق بالمطلق لا يستلزم بدلالته وقوعه على شيء من ذلك. "فاعلما" - الألف بدل من نون التوكيد الخفيفة - ذلك، واتخذه قاعدة من قواعدك الفقهية والدليل على هذا - وهو أن الأمر المعلق بالمطلق لا يستلزم الجزئي المقيد المنطوي تحته - أمور:

أحدها: أن ذلك الاستلزام لو حصل لكان "إذ ذاك ينفي" ويمنع "أن يكون" ذلك الأمر "أمرا" معلقا "بـ" أمر "مطلق" مجرد عما يقيده "لكنه استقرا" - الألف للإطلاق - وثبث مطلقا، لأنه فرض كذلك، فإنه إذا قال الشارع:"أعتق رقبة" فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين، فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه: أعتق الرقبة المعينة الفلانية فلا يكون أمرا بمطلق البتة.

"و" ثانيها: أنه يرد - "لازم عليه" - أي على فرض حصول هذا الاستلزام - وذلك اللازم هو "أن يكلفا" - الألف للإطلاق - أي يحصل التكليف "بغير ما يطاق" وقوعا ووجه ذلك أن فيه التكليف بمبهم لا سبيل إلى العلم به، فيكون المخاطب به مكلفا بشيء مجهول بالنسبة له، فيتعذر عليه الإتيان بما كلف به لجهله به، وهذا عين التكليف بالمحال "و" الذي تقرر في هذا التكليف هو "المنع" وهو الحكم الذي "اكتفى" أهل

(1)

والأصوليون يعبرون عن هذا بالأمر بالماهية (انظر الرسالة الثانية عشرة من كتاب الرسائل العلمية في فنون مختلفة) لعبيد ربه راقم هذه الأوراق.

ص: 150

1798 -

وَالأَمْرُ مِنْ بَابِ الثُّبُوتِ وَهْوَ لَا

يَسْتَلْزِمُ الأَخَصَّ فِي مَا نُقِلَا

العلم به في شأنه.

وإذا ثبت أن الأمر المعلق بالمطلق لا يتعلق بالمقيد - كما تقدم - لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد، فلا يكون مقصودا له، لأنا قد فرضنا أن قصده إيقاع المطلق، فلو كان له قصد في إيقاع المقيد، لم يكن قصده إيقاع المطلق.

"و" ثالثها: أن "الأمر من باب الثبوت" مدلوله ومقتضاه "و" ثبوت الأعم "هو لا""يستلزم الأخص في ما" أي الذي "نقلا" - الألف للإطلاق - عن أهل العلم والنظر، فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص. وهذا على اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية المجردة من التشخص في الأمور الشرعية

(1)

.

وأما ما قد يعترض به من أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد لكان التكليف به محالا أيضا لأن المطلق لا يوجد في الخارج وإنما هو موجود في الذهن والمكلف به يقتضي أن يوجد في الخارج إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج.

وإذ ذاك يصير مقيدا فلا يكون بإيقاعه ممتثلا والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق وهو ممتنع فلا بد أن يكون الأمر به مستلزما للأمر بالمقيد وحينئذ يمكن الامتثال فوجب المصير إليه بل القول به.

والثاني أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساو فكان يكون الثواب على تساو أيضا وليس كذلك بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الرقاب فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها أفضل وأكثر ثوابا من غيره فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات موجبا للتفاوت في الدرجات لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع

(1)

انظر المستصفى للغزالي الفصل الثاني من الفن الأول.

ص: 151

1799 -

وَلْيسَ مَقْصُودًا بِهِ الْكُلِّيُّ

مُعْتَرِضًا بِأَنَّهُ ذِهْنِيُّ

1800 -

وَلَيْسَ فِي الْخَارجِ بِالْمَوْجُودِ

فَلَا حُصُولَ بَعْدُ لِلْمَقْصُودِ

1801 -

وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا قَدْ يُطْلَقُ

لِأَيِّ فَرْدٍ كَانَ ثُمَّ يَصْدُقُ

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1802 -

وَمَا كَذَاكَ الأَمْرُ بِالْمُخَيَّرِ

لَكِنَّهُ بِالْعكْسِ مِنْ هَذَا حَرِي

وإن حصل الأمر بالمطلقات

(1)

. فالجواب عن ذلك "و" ما به الانفصال في شأنه هو أنه "ليس" الأمر المعلق بالمطلق "مقصودا به" هنا "الكلي" المطلق كما ذهب إلى ذلك من ذكر من الأصوليين وذلك لكونه "معترضا بأنه" أمر "ذهني و" هو "ليس في الخارج" عن الأذهان "بالموجود" فليس من الأعيان وإنما هو صورة في الأذهان منتزعة بالنظر، وبذلك "فـ" إنه "لا حصول" يقع به "بعد" ما تقرر أنه ليس إلا أمرا ذهنيا "للمقصود" الشرعي من الأمر، وهذا بين "وإنما معناه" هو "ما قد يطلق لأي" يعني على أي "فرد" من أفراده الموجودة في الخارج أو التي يصح أن توجد فيه كيفما "كان" وصف ذلك الفرد وحاله "ثم يصدق" عليه. فإذا قال الشارع: أعتق رقبة، فالمراد طلب إيقاع العتق على فرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة، والعرب لم تضع الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد مما دلت عليه. وهذه المسألة تفاصيلها تنظر في كتب الأصول.

وتعبير المصنف والناظم بالأمر بالمطلق - هنا - ظاهره يقتضي أنه يقصد أن بذلك الأمر بالفعل المطلق المجرد عن القيود نحو "بع" و "صل" و"تصدق" وما أشبه ذلك مما يعبر عنه الأصوليون بالأمر بالماهية المجردة، ولكان ذلك ليس مقصودا كما يؤخذ من التمثيل لذلك وإنما المقصود هو الأمر المعلق بالمطلق نحو "أعتق رقبة" و"أكرم رجلا".

"المسألة الرابعة"

في أن الأمر المخير في معلقاته على عكس الأمر المتعلق بالمطلق المذكور. "و" بيان ذلك أنه "ما" أي ليس "كذاك" أي مثل ذاك الذي تقدم في شأن الأمر المتعلق بالمطلق هو الذي عليه "الأمر بالمخير" فيه كالأمر بكفارة اليمين الوارد فيها التخيير بين الإطعام والكسوة والإعتاق - "لكنه بالعكس من هذا" الذي تقدم عليه الأمر المتلق بالمطلق "حري"

(1)

الموافقات 3/ 106 - 107.

ص: 152

1803 -

إِذْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارعِ

أَفْرَادَهُ أَوْ ضِدَّ مَا فِي الْوَاقِعِ

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1804 -

مَا الشَّرْعُ طَالِبٌ لَهُ ضَرْبَانِ

ضَرْبٌ تُرَى جِبِلَّةُ الإِنْسَانِ

1805 -

خَادِمَةً لَهُ مِنَ الدَّوَاعِي

لِشَأْنِهِ كَالأَكْلِ وَالْوِقَاعِ

1806 -

وَكَاجْتِنَابِ كُلِّ مَا يُسْتَقْذَرُ

وَكُلِّ مَا يُلْحَقُ مِنْهُ ضَرُر

أي جدير "إذ هو" أي الأمر المخير في متعلقاته "يستلزم قصد الشارع أفراده" بذاتها بدليل التنصيص عليها وتحديدها، كما في كفارة اليمين، "أو ضد ما" أي الذي هو "في الواقع" قد جرى مخيرا فيه، بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.

هذا ما ظهر لي في تقرير كلامه في هذه المسألة - والله - تعالى - أعلم بالصواب.

"المسألة الخامسة"

في أن المطلوب الشرعي ضربان:

أحدهما: ما كان حال الطبع وواقعه خادما له معينا.

ثانيهما: ما لم يكن كذلك.

وبيان هذا أن "ما" من الأفعال "الشرع طالب له" من المكلفين على سبيل الوجوب أو غيره هو باعتبار موافقة الطبع الإنساني ومنافرته له "ضربان" أي نوعان "ضرب ترى" توجد "جبلة" - بكسر الجيم و الباء الموحدة وتشديد اللام

(1)

- أي طبيعة وخلقة "الإنسان خادمة له" بحكم موافقتها له من جهة ما بنيت عليه وركب فيها "من الدواعي" الطالبة بجموح "لشأنه" وإدراكه، وذلك "كالأكل" والشرب "والوقاع" - وبكسر الواو - أي الجماع "وكاجتناب" واتقاء أكل وشرب "كل ما يستقذر" أي يعد قذرا غير نظيف كالغائط - العذرة - والبول "و" اتقاء "كل ما" من الذوات والأفعال "يلحق منه ضرر" أي أذى وألم.

(1)

وفيه لغات أخرى لا تصلح هنا للوزن.

ص: 153

1807 -

أَوْ مُقْتَضَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ

لَهُ وَحُكْمُ الْعْقلِ ذُو وِفَاقِ

1808 -

كَالسَّتْرِ لِلْعَوْرَةِ أَوْ حِفْظِ الْحُرَمْ

لَا مَعْ مُنَازعٍ مِنَ الطَّبْعِ حَكَمْ

1809 -

فَبَابُهُ الشَّرْعُ بِهِ قَدْ يَكْتَفِي

فِي طَلَبٍ بِمَا بِهِ الطَّبْعُ يَفِي

1810 -

لِذَاكَ لَمْ يَضَعْ عَلَى الْمُخَالَفَهْ

حَدًّا بِهِ يَرْدَعُ مَنْ قَدْ خَالَفَهْ

وكذلك من هذا الضرب الذي تخدمه الجبلة ما هو مطلوب "أو مقتضى مكارم الأخلاق" ومحاسن الشيم ثابت "له" ومستقر فيه "وحكم العقل" السليم "ذو" أي صاحب "وفاق" - بكسر الواو - أي موافقة له، وذلك "كالستر للعورة" مغلظة كانت أو مخففة "أو"- بمعنى الواو - أي و "حفظ" وصون "الحرم" - بضم الحاء وفتح الراء جمع حرمة - وهي ما وجب القيام به، والذود عنه وحرم التفريط فيه كالأعراض، والكرامة وهذا يعد من محاسن الأخلاق ومكارم الشيم إنما يكون داخلا في هذا الضرب إذا كان بلا منازع طبيعي، و"لا" يعد من الضرب إذا كان قد حصل "مع منازع من الطبع" والجبلة "حكم" وغلب، وذلك كالزنا ونحوه مما يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب الشرعي، والعقلي.

وهذا الضرب الذي تخدمه الجلبة جامحة إليه، لم يتأكد فيه الطلب الشرعي الأصلي، ولذلك "فبابه" لأجل هذه الخصوصية القائمة به "الشرع به" أي فيه "قد يكتفي" ويستغني "في طلب" ما انطوى فيه من الجزئيات "بـ" الطلب غير الجازم اعتمادا في تحصيل ذلك على "ما به" مقتضى "الطبع" والجبلة والعادات الجارية من العقلاء "يفي" من الدفع والإلزام إلى تحصيل ذلك، فالطلب الشرعي الأصلي في هذا الباب لا يتأكد تأكيد غيره إحالة من الشارع فيه على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة، "لذلك لم يضع على المخالفة" للطلب الشرعي في هذا الباب "حدا" من جلد أو غيره يزجر "به" و "يردع من قد خالفه" وترك العمل به، زيادة على ما أخبر به من الجزاء الأخروي، ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن أو مندوب إليها أو مباحات على الجملة مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى كما جاء في قاتل نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسة ناسيا فلا إعادة عليه إلا استحسانا ومن صلى بها عامدا أعاد أبدا من حيث خالف

ص: 154

1811 -

ثَانِيهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَالِكَا

بَلْ قَدْ يُعِينُ الطَّبْعُ فِيهِ التَّارِكَا

1812 -

مِثْلُ الْعِبَادَاتِ مِنَ الصِّيَامِ

وَغَيْرِهِ وَأَكْثَرِ الأَحْكَامِ

1813 -

فَذَا الذِي الشَّارعُ مُقْتَضَاهُ

قَرَّرَهُ عَلَى الذِي اقْتَضَاهُ

1814 -

مُوَكِّدًا حُكْمَ الْمُوَكَّدَاتِ

مُخَفِّفًا حُكْمَ الْمُخَفَّفَاتِ

الأمر الحتم فأوقع على إزالة النجاسة لفظ السنة اعتمادا على الوازع الطبيعي والمحاسن العادية فإذا خالف ذلك عمدا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم فأمر بالإعادة أبدا وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس الواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة أو الندب حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أمر وأبيح له المحرم إلى أشباه ذلك

(1)

. هذا هو الضرب الأول وبيانه وما يتعلق به من حكم.

و"ثانيهما" أي الضربين هو "ما" أي الذي "لم يكن كذلكا" - الألف للإطلاق - الذي تقدم من جهة خدمة الطبع والجبلة له "بل" هو مما هو تنازعه الجبلة الحيوانية الشهوانية وتمانعه، ولذلك "قد يعين" ويساعد "الطبع" البشري المركب على حب الملذات للشخص "فيه التاركا" - الألف للإطلاق - له المسقط لفعله، وذلك "مثل" فعل "العبادات من الصيام وغيره" كالصلاة والزكاة، والحج والطهارات "وأكثر" ما وردت فيه "الأحكام" الشرعية الدالة على الوجوب أو الندب أو التحريم، أو الكراهة، كسائر المعاملات المراعى فيها العدل الشرعي، والجنايات والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة وما أشبه ذلك "فذا" أي هذا الضرب هو "الذي" ثبت "الشارع" الحكيم "مقتضاه" وحكمه و "قرره على" الوجه "الذي اقتضاه" حاله فكان - أي الشارع - "مؤكِّدا" - بكسر الكاف مشددة - "حكم الموكدات" - بفتح الكاف وتشديدها - أي ما يقتضي شانه أن يكون مؤكدا باعتبار أنه به يحصل حفظ الضروريات فيكون الحكم الجاري فيه هو الوجوب، وقد يكون في تركه الحد وكان "مخففا" - بكسر الفاء والتشديد - "حكم المخففات" - بفتح الفاء والتشديد - أي ما يقتضي حاله أن يكون مخففا حكمه باعتبار أنه ليس مما به حفظ الضروريات على وجه المباشرة، فيكون

(1)

الموافقات 3/ 109/ 110.

ص: 155

1815 -

وَالطَّلَبُ النَّهْيِيُّ مِثْلَ الأَمْرِي

فَمُقْتَضَى الضَّرْبَيْنِ فِيهِ يَجْرِي

الحكم الجاري فيه هو الندب.

"والطلب النهيي" أي الطلب الذي يقتضي النهي والانكفاف هو "مثل" الطلب "الآمري" المتقدم في هذا الشأن "فـ" إن طلب النهي يجري "مقتضى الضربين" المذكورين "فيه" كذلك "يجري" وبذلك فإن أحكام ما نهي عنه شرعا جارية على هذا السنن قال الشاطبي: فإن المنهيات على ضربين:

فالأول: كتحريم الخبائث، وكشف العورات، وتناول السموم، واقتحام المهالك وأشباهها، ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة، ولا باعث طبعي؛ كالملك الكذاب والشيخ الزاني، والعائل المستكبر، فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ومحاسن العادات، فلا تدعو إليه شهوة، ولا يميل إليه عقل سليم، فهذا الضرب لم يؤكد بحد معلوم في الغالب، ولا وضعت له عقوبة معينة، بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادما لها، إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفا لوازع الطبع ومقتضى العادة، إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع، أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي المعاند فيها، بل هو هو، فصار الأمر في حقه أعظم؛ بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظا عاجلا، ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة، ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة: الشيخ الزاني وأخويه؛ ما جاء، وكذلك فيمن قتل نفسه، بخلاف العاصي بسبب شهوة عنَّتْ، وطبع غلب، ناسيا لمقتضى الأمر، ومغلقا عنه باب العلم بمآل المعصية، ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر، ولذلك قال تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] الآية، أما الذي ليس له داع إليها، ولا باعث عليها، فهو في حكم المعاند المجاهر، فصار هاتكا لحرمة النهي والأمر، مستهزئا بالخطاب، فكان الأمر فيه أشد، ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب حدود وعقوبات مرتبة، إبلاغا في الزجر عما تقتضيه الطباع، بخلاف ما خالف الطبع أو كان الطبع وازعا عنه، فإنه لم يجعل له حد محدود

(1)

.

(1)

الموافقات 3/ 110/ 111.

ص: 156

"‌

‌ تنبيه

"

1816 -

ذَا الأصْلُ مَوْجُودٌ بِالاسْتِقْرَاءِ

مِنْهُ كَثِيرٌ عِنْدَ الاسْتِجْلَاءِ

1817 -

فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ كَيْ يَلْتَفِتَا

مُجْتَهِدٌ إِلَيْهِ حَيْثُ مَا أَتَى

1818 -

لَا أَنَّهُ قَاعِدَة لَا تَنْخَرِمْ

وَأَنَّ مُقْتَضَاهُ حُكْمٌ مُنْحَتِمْ

"‌

‌ المسألة السادسة

"

" تنبيه" - خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا - مفاده أن هذا الأصل جار حكمه على جزئيات كثيرة، فلذلك وجب التنبيه عليه واتخاذه أصلا معتبرا في فهم بناء الأحكام الشرعية، وإن تخلف جريانه على جزئيات وبيان ذلك أن "ذا" هذا "الأصل" المتقدم تقريره، والذي متضمنه أن الشارع يفرق في درجات الطلب والاقتضاء بين الافعال التي تخدمها الجبلة والطبع والأفعال التي ليست كذلك - ما يجري حكمه عليه من الجزئيات "موجود بالاستقراء منه كثير" وهذا يظهر ثبوته "عند" الاستكشاف و"الاستجلاء" لأحوال الأحكام الشرعية.

"فوقع" لأجل ذلك الانسحاب لحكمه على كثير من الجزئيات "التنبيه" عليه "كي يلتفتا" الـ "مجتهد إليه" ويعتبر مقتضاه "حيث ما أتى" وجرى حكمه "لا أنه قاعدة" مطردة "لا تنخرم" ولا تنفصم ولا يختلف حكمها "و" لا "أن مقتضاه حكم منحتم" جريانه ومضيه في كل جزئية من صنف ما يقع تحته.

قال الشاطبي: فإنه ربما وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب أو الإباحة والتنزيه فيما يفهم من مجاريها فيقع الشك في كونها من الضروريات كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس والوقاع وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمهلكات وما أشبه ذلك فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات وهو منها في الاعتبار الاستقرائي شرعا وربما وجد الأمر بالعكس من هذا فلأجل ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد على بال إلا أن ما تقدم هو الحكم المتحكم والقاعدة التي لا تنخرم

(1)

.

"المسألة السادسة"

في اختلاف مراتب دلالة الطلب الشرعي على الأحكام بحسب مواضع ذلك

(1)

الموفقات 3/ 102.

ص: 157

1819 -

وَكُلَّ خَصْلَةٍ بِهَا الشَّرْعُ أَمَرْ

مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا حَدٍّ ظَهَرْ

1820 -

فَالأَمْرُ فِي أَفْرَادِهَا لَيْسَ عَلَى

حَدٍّ سَوَاءٍ وَكَذَا النَّهْيُ انْجَلَا

1821 -

كَالصَّبْرِ وَالإِخْلَاصِ وَالْوَفَاءِ

وَالظُّلْمِ وَالإِسْرَافِ وَالرِّيَاءِ

الطلب وأحوالها.

"و" تفصيل القول في ذلك أن "كل خَصلة" - بفتح الخاء وسكون الصاد - حسنة أي فضيلة "بها الشرع أمر" العباد "من غير" تحديد لأحكامها باختلاف المواضع والمواطن التي تحصل فيها ولا "تقدير" لما يترتب عنها من جزاء باختلاف ذلك "ولا حد" شرعي قد "ظهر" لها منصوصا عليه "فالأمر" الشرعي "في" شأن "أفرادها" التي تتعدد بتعدد مواضعها وتختلف باختلافها "ليس على حد سواء" بل هو مختلف "وكذا" شأن "النهي" فإنه على هذا الوجه "انجلا" أي انكشف أمره، فإن كل رذيلة نهى الشارع عنها بالإطلاق من غير تحديد مفصل لأحكامها، ولا تقدير لما يترتب عنها من جزاء أو حد لا يجري فيها حكم النهي على درجة واحدة، وإن هو مختلف باعتبار على وزان ما تقدم في الأمر.

أما أمثلة ذاك الذي ورد فيه الأمر مطلقا فإنها كثيرة، وذلك "كالصبر" فإنه مأمور به شرعا بصيغ مختلفة مطلقا في النصوص الشرعية "والإخلاص" فإنه ورد مأمورا به على وجه الإطلاق "و" كذلك "الوفاء" بالعهد، والعدل والإحسان، والإعراض عن الجهل، والشكر، ومواساة ذي القربى، والمساكين، والخوف، والرجاء والانقطاع إلى الله - تعالى - والتوفية في المكيال، والميزان، وغير ذلك من صنف هذا الذي ذكر

(1)

.

"و" أما أمثلة ما نهي عنه من ذلك فإن منها "الظلم، والإسراف، والرياء" وأكل مال اليتيم، واتباع السبل المضلة وكفر النعمة، والفرح بالدنيا والفخر بها، وعقوق الوالدين، والتبذير، واتباع الظنون، والمشي في الأرض مرحا. وغير ذلك من الأمثلة من هذا الصنف وهي كثيرة

(2)

.

(1)

وقد عد الشاطبي منها في الأصل (الموافقات) ثلاثا وسبعين خصلة.

(2)

ذكر منها في الأصل إحدى وتسعين خصلة.

ص: 158

1822 -

وَمَعَ ذَا فَإِنَّهُ ضَرْبَانِ

بِنِسْبَةِ الْوُرُودِ فِي الْقُرْآنِ

1823 -

آتٍ عَلَى الإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ

قَاضٍ عَلَى الْحَالَاتِ بِالتَّعْمِيمِ

1824 -

لَكِنْ بِمَا كُلُّ مَقَامِ يَقْتَضِي

بِشَاهِدِ الْحَالِ الذِي فِيهَا رُضِي

1825 -

وَذَاكَ مَوْكُولٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ

كَيْ يَتَوَخَّى أَلْيَقَ التَّصَرُّفِ

1826 -

بِأَبْيَنِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّهْ

وَأَكْمَلِ الْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّهْ

1827 -

مِثْلُ اعْتِبَارِ الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ

فِي كُلِّ صَادِرٍ عَنِ الإِنْسَانِ

" ومع ذا" أي الذي تقرر في شأن ما ذكر من هذه الخصال من أنه ورد فيه الطلب الشرعي مطلقا "فإنه" ليس ضربا واحدا، وإنما هو "ضربان" وذلك "بنسبة" أي باعتبار الصيغة التي عليها "الورود" والمجئ له "في القرآن" الكريم، إذ منه - وهذا أحد الضربين - ما هو "آت" فيه "على" صيغة "الإطلاق والعموم" في كل شيء من غير تفصيل ولا تفرقة بين المواضع التي يجري فيها مقتضاه والتي تختلف أحكامها باختلافها، وبذلك فهو "قاض" وحاكم "على" كل "الحالات بالتعميم" لمقتضاه، على وجه السوية في كل شيء ومن غير تفصيل.

وهذا مسلك النظر الصحيح فيه هو أن لا يعمل بظاهره الذي هو العموم والإطلاق الدال على التسوية في حكمه الجاري على كل ما انطوى تحته من الجزئيات، و "لكن" يحكم "بما" من الأحكام تستوجبه أحوال تلك الجزئيات فيحكم في "كل مقام" بما "يقتضيـ"ــه، ويعرف ذلك "بشاهد" وواقع "الحال الذي فيها" أي في تلك الحالات "رضي" اعتباره واختير الاعتداد به "وذاك" الذي يصار إليه من حكم في كل مقام اختياره "موكول إلى" نظر "المكلف" ويتوسل إلى ذلك بإعمال ميزان نظره، "كي يتوخى" ويتحرى "أليق" وأولى "التصرف" في ذلك آخذا في سبيل ذلك "بأبين" وأوضح "الأدلة الشرعية" الواردة في ذلك "وأكمل المحاسن العادية" ومكارم الأخلاق، ويمثل لذلك بـ "ــمثل اعتبار" إقامة العدل" وإتيان "الإحسان في" "كل" فعل "صادر عن الإنسان" فإن الذي يصار إليه في شأن بناء الحكم الفقهي في ذلك - كما تقدم ذكره - هو التفصيل.

فقول الله - تعالى - مثلا - {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] ليس الإحسان فيه مأمورا به أمرا جازما في كل شيء ولا غير جازم في كل شيء بل ينقسم

ص: 159

1828 -

وَضَرْبُهُ الآخِرُ ذُو وُجُودِ

فِي غَايَتَيْ مَذْمُومٍ أَوْ مَحْمُودِ

1829 -

مُنَبِّهًا عَلَى مَجَالِ لِلنَّظَرْ

فِي رُتَبٍ قُرْبًا وَبُعْدًا تُعْتَبَرْ

1830 -

لِلْغَايَتَيْنِ كَي يُرَى مَنْ نَظَرَا

مُوَازِنًا أَوْصَافَهُ مُسْتَبْصِرًا

1831 -

يَسْتَحْضِرُ الْخَوْفَ مِنَ الْمَعْبُودِ

بِحَسَبِ الْبُعْدِ مِنَ الْمَحْمُودِ

ذلك بحسب المناطات - متعلقات الأحكام - ألا ترى أن إحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب وإحسانها بتمام آدابها من باب المندوب ومنه إحسان القتلة كما نبه عليه الحديث وإحسان الذبح إنما هو مندوب لا واجب وقد يكون في الذبح من باب الواجب إذا كان هذا الإحسان راجعا إلى تتميم الأركان والشروط وكذلك العدل في عدم المشي بنعل واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء والأموال وغيرها فلا يصح إذا إطلاق القول في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] إنه أمر إيجاب أو أمر ندب حتى يفصل الأمر فيه وذلك راجع إلى نظر المجتهد تارة وإلى نظر المكلف وإن كان مقلدا تارة أخرى بحسب ظهور المعنى وخفائه

(1)

. هذا هو الضرب الأول من الخطاب الشرعي الذي يرد فيه ما ذكر من الأوامر والنواهي.

"و" أما "ضرب الآخر" فإنه الذي يرد وهو "ذو وجود" وثبوت "في غايتي" - تثنية غاية - أي نهايتي منهي عنه "مذموم" و يدل على ذلك اقتران الوعيد به "أو "مأمور به "محمود" ممدوح، ويدل على ذلك قرن الوعد به في الغالب، وفي هذا يجري ما يرد من الأوصاف في مدح المؤمنين، والأوصاف التي ترد في ذم الكافرين فكان القرآن آتيا بتلك الغايات تنصيصا عليها من حيث كان حال المخاطبين بذلك وزمان الخطاب يقتضي ذلك و "منبها على" ما هو "مجال" وموطن "للنظر" والبحت مما لم ينص عليه، لكنه واقع "في رتب" - جمع رتبة - أي درجات مختلفة "قربا وبعدا" من الطرفين المنصوص على حكميهما بأقصى الجزاء "كي يرى" ويوجد "من نظرا " - الألف للإطلاق - بعقله "موازنا" يعني وازنا "أوصافه" القائمة به بذلك "مستبصرا" في شأنه ليكون عالما بما هو عليه من خير أو شر، وبذلك "يستحضر" في قلبه "الخوف من "نقمة وغضب "المعبود" سبحانه - وتعالى - "بحسب البعد" الذي أدرك أنه حاصل له "من" الإتصاف بالوصف "المحمود" الممدوح شرعا.

(1)

الموافقات 3/ 115.

ص: 160

1832 -

وَيُعْظِمُ الرَّجَاءَ فِي الْكَرِيمِ

بِحَسَبِ الْبُعْدِ مِنَ الْمَذْمُومِ

1833 -

لِذَا يُرَى حَيْثُ لَهُ تَعَيُّنُ

بِهِ الْوَعِيدُ غَالِبًا يَقْتَرِنُ

1834 -

وَأَنَّهُ مِمَّا لَهُ تَعْيِينُ

مِنْ سَبَبِ التَّنْزِيلِ يَسْتَبِينُ

1835 -

وَأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى الإِطْلَاقِ

وَإِنْ أَتَى فِي ذَلِكَ الْمَسَاقِ

" ويعظم" أي يقوي ويشتد "الرجاء" له "في" فضل "الكريم" سبحانه "بحسب البعد" الذي أدرك أنه قائم به "من" الاتصاف بالوصف "المذموم" المنهي عنه شرعا.

"لذا" أي الذي تقدم من المقصد التربوي في هذا الشأن "يرى" يعني يوجد ذلك النهي الوارد في أعلى مراتبه "حيث" أي في الموضع الذي "له" فيه "تعين" أي ذكر له بعينه على الوجه المذكور بمقتضى أحوال المخاطبين

يجمع "به الوعيد" و "يقترن" في الخطاب "و" هذا الذي تقرر "أنه مما له تعيين" على الوجه المذكور يعلم "من سبب التنزيل" و"يستبين" أي يظهر، فالقرآن يأتي بالغايات تنصيصا عليها من حيث كان الحال والوقت يقتضى ذلك، وينبه بها على ما هو دائر بين الطرفين حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع عليه، فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين، كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم، أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود تربية حكيم خبير كما تقدم ذكره.

هذا إن كان ما ذكر من الأوامر والنواهي واردًا على هذا الوجه - أقصى المراتب. "و" أما إن كان مطلقا فـ "إن""معناه" هو أنه يحمل "على الإطلاق" في الذي يدل "وأن" - بفتح الهمزة - يعني وأنه "أتى" وورد "في ذلك المساق" المطلق، فكما يدل المساق على أن المراد أقصى المحمود أو المذموم في ذلك الاطلاق، "كذلك قد يدل اللفظ على القليل والكثير من مقتضاه فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ويرجو ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضا ويرجو مثال ذلك أنه إذا نظر في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] فوزن نفسه في ميزان العدل عالما أن أقصى العدل الإقرار بالنعم لصاحبها وردها إليه ثم شكره عليها وهذا هو الدخول في الإيمان والعمل بشرائعه والخروج عن الكفر وإطراح توابعه فإن وجد نفسه متصفا بذلك فهو يرجو أن يكون من أهله ويخاف أن لا يكون يبلغ في هذا المدى غايته لأن العبد لا يقدر على توفية حق الربوبية في جميع أفراد

ص: 161

1836 -

قَدْ وُكِلَ الأَمْرُ الذِي بِهِ قُصِدْ

نَظْرِ مُكَلَّفٍ بِهِ كَيْ يَجْتَهِدْ

1837 -

وَحُكْمُهُ كَمَا يُرَى جُمْلِيَا

فَإِنَّهُ يَكُونُ تَفْصِيلِيَا

هذه الجملة فإن نظر بالتفصيل فكذلك أيضا فإن العدل كما يطلب في الجملة يطلب في التفصيل كالعدل بين الخلق إن كان حاكما والعدل في أهله وولده ونفسه حتى العدل في البدء بالميامن في لباس النعل ونحوه كما أن هذا جار في ضده وهو الظلم فإن أعلاه الشرك بالله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ثم في التفاصيل أمور كثيرة أدناها مثلا البدء بالمياسر وهكذا سائر الأوصاف وأضدادها فلا يزال المؤمن في نظر واجتهاد في هذه الأمور حتى يلقى الله وهو على ذلك"

(1)

.

فلا جل هذا قيل أن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزان واحد، بل منها ما يكون من الفرائض أو من النوافل في المأمورات ومنها ما يكون من المحرمات أو من المكروهات في المنهيات، و"قد وكل" وأسند إدراك "الأمر" والحكم "الذي به قصد" شرعا من هذا الذي ذكر من الأوامر والنواهي المطلقة "إلى" نظر من هو "مكلف به" يعني ببيان معناه والمراد به "كي يجتهد" ويبذل الوسع في تحصيل ذلك. "وحكمه" أي ما ذكر من الأدلة المطلقة "كما يرى" أي يوجد ويقع "جمليا" لكونه محتملا للمعاني الواردة فيه مرتبة "فإنه" كذلك "يرى" ويقع "تفصيليا" باعتبار ما تقدم من ظهور دلالته في أعلى مراتبه وفي أدناها، وإن كان حمله على الأدنى إذا تجرد من القرائن التي بها يصير محمولا على أعلى درجاته. هذا وأنه لما كان الدليل المطلق على هذه الصورة الاحتمالية.

"كان السلف الصالح يتوقفون عن الجزم بالتحريم ويتحرجون عن أن يقولوا: حلال أو حرام، هكذا صريحا، بل كانوا يقولون في الشيء إذا سئلوا عنه لا أحب هذا وأكره هذا ولم أكن لأفعل هذا وما أشبهه لأنها أمور مطلقة في مدلولاتها غير محدودة في الشرع تحديدا يوقف عنده لا يتعدى وقد قال تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] وقد جاء مما يعضد هذا الأصل زيادة على الاستقراء المقطوع به فيها قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] الآية فإنها لما نزلت قال الصحابة وأينا لم يظلم فنزلت {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وفي رواية لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله

(1)

الموافقات 3/ 107.

ص: 162

"‌

‌ المسألة السابعة

"

1838 -

الأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا ضَرْبَانِ

ضَرْبٌ صَرِيحٌ وَسِوَاهُ الثَّانِي

عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بذلك ألا تسمع إلى قول لقمان {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وفي الصحيح: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان فقال ابن عباس وابن عمر وذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهمهما من هذا الحديث فضحك عليه الصلاة والسلام فقال: ما لكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين أما قولي إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله عليّ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] الآية أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك برآء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل عليّ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الآيات الثلاث أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك برآء وأما قولي إذا ائتمن خان فذلك فيما أنزل الله عليّ {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] الآية فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية ويصوم ويصلي في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك براء ومن تأمل الشريعة وجد من هذا ما يطمئن إليه قلبه في اعتماد هذا الأصل وبالله التوفيق"

(1)

.

"المسألة السابعة"

في أن الأوامر والنواهي على ضربين:

أحدهما: صريح

ثانيهما: غير صريح. وبيان ذلك أن "الأمر والنهي" الشرعيين "معا" أي كل واحد منهما باعتبار الدال عليه من لفظ وصيغة "ضربان" أي نوعان:

أحدهما "ضرب صريح" ما دل عليه من ذلك، لأنه مدلول عليه بالصيغة الموضوعة له، وهي "افعل" في الأمر، "ولا تفعل" في النهي. "وسواه" أي الضرب وهو غير الصريح وهو الضرب "الثاني" من هذين الضربين، وإنما وصف بأنه غير صريح لأنه

(1)

الموافقات 3/ 108/ 109.

ص: 163

1839 -

أَمَّا الصَّرِيحُ فَلَهُ اعْتِبَارُ

بِمَلْحَظَيْنِ لَهُمَا اسْتِقْرَارُ

1840 -

وَالأَوَّلُ الأَخْذُ لَهُ مُجَرَّدَا

مِنْ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ حَيْثُ وَرَدا

1841 -

وَمُقْتَضَاهُ الْمَيْلُ مَعْ مُجَرَّدِ

صِيَغَ الأَلْفَاظِ إِلَى التَّعَبُّدِ

مدلول عليه بألفاظ غير موضوعة للدلالة عليه. "أما الصريح" منهما أمرا كان أو نهيا "فله" في مجرى النظر الفقهي "اعتبار" واعتداد من جهة أخذ الأحكام الشرعية منه وطريقة ذلك "بملحظين" أي نظرين مختلفين "لهما" في بنية وطريقة التفقه في هذا الدين "استقرار" وثبوت. و"الأول" من هذين الملحظين - النظرين هو "الأخذ له" أي لذلك الصريح مقتصرا فيه على المعنى الذي دل عليه بدلالته اللغوية الظاهرة "مجردا من" اعتبار "مقتضى" وموجب "التعليل" المصلحي أو غيره مما يعلل به القياسيون "حيث وردا""ومقتضاه" أي هذا النظر - الملحظ - هو "الميل" المحض، ولا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي من حيث قوة دلالتها على الأحكام، ودرجات ذلك، والوقوف "مع مجرد" ظواهر "صيغ الألفاظ" وصرف ذلك "إلى" أنه من باب "التعبد" فقوله - تعالى - {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وقوله عليه الصلاة والسلام "اكلفوا من العمل ما تطيقون" وقوله - تعالى - {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ} وقوله - سبحانه -:{وَذَرُوا الْبَيْعَ} وقوله عليه الصلاة والسلام "ولا تصوموا يوم الفطر ويوم النحر" وقوله: "لا تواصلوا" وما أشبه ذلك مما يفهم منه التفرقة بين منازل الطلب الشرعي الوارد في هذه المواطن، كل ذلك عنده سواء والجريان على مقتضى هذا النظر هو مذهب الظاهرية.

قال أبو سليمان - يعني داود بن علي الظاهري - وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله - تعالى - شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه فإذا نص الله - تعالى - أو رسوله على أن الأمر كذا لسبب كذا أو من أجل كذا، ولأن كذا أو لكذا، فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله سببا لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها.

ولا توجب تلك الأسباب شيئا من تلك الأحكام من غير تلك المواضع البتة. قال أبو محمد: "وهذا هو ديننا الذي ندين به، وندعو عباد الله تعالى إليه، ونقتنع على أنه الحق عند الله تعالى"

(1)

.

(1)

الأحكام 8/ 546.

ص: 164

1842 -

وَفِي الْحَدِيثِ بَعْضُ شَاهِدٌ لَهُ

يَعْضُدُ فِي ظَاهِرِهِ مُجْمَلَهُ

1843 -

وَمَرَّ قَبْلُ أَنَّ كُلَّ مَقْصَدِ

لَا بُدَّ مِنْ مَعْنىً بِهِ تَعَبُّدِي

" و" قد ورد "في الحديث" النبوي "بعض" مما هو "شاهد له" أي لهذا النظر الذي عليه أهل الظاهر وهو "يعضد" ويقوي "في ظاهره" يعني بظاهره "مجمله" أي مجمل هذا النظر وأساسه الكلي.

ومن ذلك "ما في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام خرج على أبي بن كعب وهو يصلي فقال عليه الصلاة والسلام:

يا أبي فالتفت إليه ولم يجبه وصلى فخفف ثم انصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبي ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك" فقال يا رسول الله كنت أصلي. فقال: "أفلم تجد فيما أوحي إلي {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال بلى يا رسول الله ولا أعود إن شاء الله" وهو في البخاري عن أبي سعيد بن المعلى وأنه صاحب القصة فهذا منه عليه الصلاة والسلام إشارة إلى النظر لمجرد الأمر وإن كان ثم معارض وفي أبي داود أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فسمعه يقول اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له تعال يا عبد الله وسمع عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالطريق يقول اجلسوا فجلس بالطريق فمر به عليه الصلاة والسلام فقال ما شأنك فقال سمعتك تقول اجلسوا فقال له زادك الله طاعة، وفي البخاري قال عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب:

"لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين، وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء لمجرد قوله تعالى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]

(1)

.

"و" أيضا يشهد لهذا ويعضده ما قد "مر" ذكره "قبل" في "كتاب المقاصد" من "أن كل مقصد" شرعي دل عليه الطلب الشرعي "لا بد""من معنى" ثابت "به" أي فيه "تعبدي" لأنه وإن علم له مقصد ما، فإن كونه على هيئة مخصوصة وقدر مخصوص

(1)

الموافقات 3/ 109/ 110.

ص: 165

1844 -

وَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحٌ مُعْتَبَرْ

فَهْوَ مِنْ الْمَرْجُوحِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرْ

1845 -

مَعْ أَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِالْمَصَالِحِ

فَذَاكَ فِي التَّفْصِيلِ غَيْرُ لَائِحِ

1846 -

وَعِنْدَ ذَا تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ

لِمَا لَهُ التَّرْجِيحُ وَالظُّهُورُ

1847 -

مَعْ أَنَّهُ قَدْ قِيلِ فِيهِ أَنَّهْ

أُحْدِثَ بَعْدَ مُدَّةٍ فِي السُّنَّهْ

واختياره دون غيره مما هو مثله في تحصيل ما قصد به لا بد أن يصار في أمره إلى أنه شأن تعبدي لخفاء السر الشرعي علينا في ذلك "وذا" أي هذا المذهب - النظر "وإن كان صحيح المعتبر" يمكن الانصراف إليه والقول به عاما "فهو من "النظر "المرجوح" الضعيف، وذلك "من حيث" مقتضى "النظر" في أحواله - كما سيأتي بيانه.

"و" يزاد "مع" ذلك دليل آخر وهو "أنه إن قيل بـ " اعتبار "المصالح" شرعا "فـ" إن "ذاك" النظر "في" حال "التفصيل" أمر "غير لائح" أي ظاهر صوابه، لأنه قد ثبت أن الأوامر والنواهي دائرة في المعنى المراد بها على تلك المقاصد وإن كان ذلك على وجه جملي.

"وعند" ثبوت "ذا" أي هذا الأمر وتقرره وجب و "تعين المصير" والذهاب "لما" أي للنظر الذي "له" في هذا المقام "الترجيح" يعني الرجحان بمقتضى الأدلة الواردة في هذا الشأن "والظهور" على - النظر - المرجوح المذكور وهو الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي.

و"مع" هذا يزاد دليل آخر وهو "أنه" - الضمير للشأن - "قد قيل فيه" يعني في حق هذا النظر - المذهب - الظاهري: "أنه" مذهب "أحدث بعد" مضى "مدة" قرنين من الهجرة النبوية، ثم ادخل "في السنة" والطريقة التي يكون بها التفقه في النصوص الشرعية.

قال الشاطبي: "وقد نقل عياض عن بعض العلماء "أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين".

وهذا وإن كان تغاليا في رد العمل بالظاهر، فالعمل بالظواهر أيضا على تتبع وتغال بعيد مقصود الشارع، كما أن إهمالها إسراف أيضا

(1)

.

(1)

الموافقات 3/ 116.

ص: 166

1848 -

وَالْزَمُوهُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّظَرْ

جُلُّ الْبُيُوعِ بَاطِلًا مِنَ الْغَرَرْ

1849 -

إِلَى أُمُورٍ غيرِ هَذَا تَلْزَمُ

فِي جَنْبِ مَا يَحِلُّ أَوْ يُحَرَّمُ

1850 -

ثَانِيهِمَا الأخْذُ لَهُ مِنْ حَيْثُ مَا

يُفْهَمُ قَصْدٌ فِيهِ لِلشَّرْعِ انْتَمَا

وقد أطال ابن حزم في الرد على من يصف المذهب الظاهري بمثل هذا وفي تزييف ذلك، وذهب إلى أن الحق محصور في هذا المذهب

(1)

وما بني عليه من الأخذ بظواهر الألفاظ. إلا أن مخالفيه في ذلك ردوا عليه في هذا الشأن.

"والزموه" أمورا تقضي بفساد رأيه ومذهبه هذا في نظرهم، منها "أن يكون في" العمل بهذا "النظر" والجريان على هذا المذهب "جل البيوع" المباحة "باطلا" وفاسدا عملا بنهيه صلى الله عليه وسلم عن البيع الغرر" وذلك "من" أجل ما فيها من جنس "الغرر" والخطر الآتي من جهة الجهالة والخفاء ومن ذلك بيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها وبيع الخشب والمغيبات في الأرض والمقاثي كلها، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب كالديار والحوانيث المغيبة الأسس والأنقاض، وما أشبه ذلك مما لا يحصى، ولم يأت فيه نص بالجواز ومثل هذا من كل ما يتسامح فيه لحقارته أو للمشقة في تمييزه لا يصح فيه القول بالمنع أصلا، لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددا بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي ولا يتبع فيه اللفظ - وهو الغرر - بمجرده. "إلى أمور غير هذا تلزم" من العمل بهذا النظر والمضي على هذا المذهب وهي ساقطة الإعتبار "في جنب" وشأن "ما يحل" من الأشياء "أو ما يحرم" منها فليس كل ما أمر به أو نهي عنه متساويا في حكمه الشرعي بل ذلك باختلاف مقاصد الشارع منه ومراده منه.

هذا هو النظر الأول في شأن أخذ الأحكام من الأوامر والنواهي الصريحة وأما "ثانيهما" فإنه "الأخذ له" أي لذلك الصريح من الأمر والنهي "من حيث" اتباع وسلوك "ما" أي الطريق الذي "يفهم" بسلوكه ويدرك بالمضي عليه ما هو "قصد" ثابت "فيه" أي في ذلك الصريح من الأمر والنهي وهو "للشرع انتما" وانتسب، وذلك الطريق يحصل سلوكه إذا أخذ في اعتبار ما تثمره وتفيده صيغة الأمر والنهي.

(1)

انظر كتاب "الأحكام" وكاتب "المحلى".

ص: 167

1851 -

مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّهْ

وَمُقْتَضَى الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّهْ

1852 -

وَذَاكَ فِي الْمَأْمُورِ مَعْنَى الْمَصْلَحَهْ

وَعَكْسِهَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَوْضَحَهْ

" من جهة الدلالة" يعني دلالتها "اللفظية" من طلب إيقاع الفعل، أو الكف عنه "ومقتضى" ما يقترن بتلك الدلالة من "القرائن الحالية" المقالية "وذاك" الذي يقترن بها من تلك القرائن الحالية "في المأمور" به هو "معنى المصلحة" التي فيه "وعكسها" أي المصلحة وهو المفسدة "المنهي عنه أوضحه" وأظهره قرينة حالية تصحبه.

"وبذلك فإن المفهوم من قوله {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] المحافظة عليها والإدامة لها ومن قوله "أكلفوا من العمل ما لكم به طاقة" الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة أو ترك الدوام على التوجه لله، وكذلك قوله {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها، لا الأمر بالسعي إليها فقط، وقوله {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] جار مجرى التوكيد لذلك، بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقا في ذلك الوقت على حد النهي عن بيع الغرر أو بيع الربا أو نحوهما وكذلك إذا قال لا تصوموا يوم النحر المفهوم منه مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصا ومن قوله: "لا تواصلوا" أو قوله: "لا تصوموا الدهر" الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يواصل ويسرد الصوم كان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم، وواصل عليه الصلاة والسلام وواصل السلف الصالح مع علمهم بالنهي، تحققا بأن مغزى النهي الرفق والرحمة، لا أن مقصود النهي عدم إيقاع الصوم ولا تقليله، وكذلك سائر الأوامر والنواهي، التي مغزاها راجع إلى هذا المعنى، كما أنه قد يفهم من مغزى الأمر والنهي الإباحة، وإن كانت الصيغة لا تقتض بوضعها الأصلي ذلك، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وقوله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] إذ علم قطعا أن مقصوده الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة وإنما مقصود أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال وهو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام"

(1)

.

(1)

الموفقات 3/ 112/ 113.

ص: 168

1853 -

وَذَا هُوَ التَّرَاجُحُ وَالْمُعْتَبَرُ

يَعْضُدُ الاسْتِقْرَاءَ فِيهِ النَّظَرُ

" وذا" أي هذا الضرب من النظر "هو الراجح" القوي "والمعتبر" المعتد به عند جمهور علماء الأمة إذ "يعضد" ويقوي "الاستقراء" للنصوص الشريعة وأحوالها الذي اعتمد عليه في الاستدلال على صحته ورجحانه "النظر" والبحث في ماهيات الأحكام الشرعية الثابتة بهذه الأوامر والنواهي.

"وأيضا فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعا وأن الأوامر والنواهي مشتملة عليها فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق لكنا قد خالفنا الشارع من حيث قصدنا موافقته فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر كنا قد أهملنا في الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه فيوشك أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر وذلك أن الوصال وسرد الصيام قد جاء النهي عنه وقد واصل عليه الصلاة والسلام بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا وفي هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي أحدهما أنه نهاهم فلم ينتهوا فلو كان المقصود من النهي ظاهره لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة وقابلوه بالعصيان صراحا وفي القول بهذا ما فيه والآخر أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه ولو كان النهي على ظاهره لكان تناقضا وحاشى لله من ذلك وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة وإبقاء عليهم فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله أراد عليه الصلاة والسلام أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله وهو دخول المشقة حتى يعلموا أن نهيه عليه الصلاة والسلام هو الرفق بهم والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء في مرضاة ربهم وأيضا فإن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أشياء وأمر بأشياء وأطلق القول فيها إطلاقا ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردا من الالتفات إلى المعاني وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر وذكر منه أشياء كبيع الثمرة قبل أن تزهى وبيع حبل الحبلة والحصاة وغيرها وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه كبيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثي كلها بل كان

ص: 169

"‌

‌ فصل

"

1854 -

إِذَا بَدَا الْمَعْنَى بِأَنَّ الأَمَرَا

كَالنَّهْيِ فِيهِ عِلَّة تُسْتَقْرَا

1855 -

فَعَامِل بِذَلِكَ الْمَفْهُومِ

مُتَّبِع لِلسَّنَنِ الْقَوِيمِ

يمتنع كل ما فيه وجه مغيب كالديار والحوانيت المغيبة الأسس والأنقاض وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص بالجواز ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلا لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددا بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده وأيضا فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب وما هو نهي تحريم أو كراهة لا تعلم من النصوص وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني والنظر إلى المصالح وفي أي مرتبة تقع وبالاستقراء المعنوي ولم نستند فيه لمجرد الصيغة وإلا لزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة والنهي كذلك أيضا بل نقول كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلا صار ضحكة وهزءة ألا ترى إلى قولهم فلان أسد أو حمار أو عظيم الرماد أو جبان الكلب وفلانة بعيدة مهوى القرط وما لا ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه"

(1)

.

"فصل"

في أن الآخذ بهذا النظر الأخير في هذا الشأن هو الذي على صواب.

"و" ذلك انه "إذ" يعني إذا تقرر و "بدا" وظهر رجحان هذا "المعنى" الذي تقرر في هذا النظر، والذي مفاده "بأن الأمر كالنهي" كليهما "فيه علة" شرعية "تستقرأ" أي تعلم بالإستقراء والتتبع لمواردهما ومواضعهما، "فـ" كل "عامل بـ" مقتضى "ذلك" المعنى "المفهوم" من العلة المذكورة هو شخص "متبع للسنن" أي الطريق "القويم" المستقيم

(1)

الموافقات 3/ 113/ 114/ 115/ 116.

ص: 170

1856 -

مُوَافِقٌ لِمَقْصَدٍ الشَّارَعِ فِي

ذَاكَ وَمُقْتَفٍ سَبِيلَ السَّلَفِ

"‌

‌ فصل

"

1857 -

ثُمَّ سِوَى الصَّرِيحِ مِنْهُ مَا أَتَى

إِتْيَانَ الأَخْبَارِ بِحُكْمِ ثَبَتَا

وهو كذلك "موافق لمقصد" ومراد "الشارع" الحكيم - سبحانه - "في" خطابه "ذاك" وفي موارد ومواضع تتزيله "و" هو - أيضا - "مقتف" ومتبع "سبيل" وطريق "السلف" الصالح في فهم معاني الخطاب الشرعي ومع هذا "فقد كان السلف آخذين أنفسهم بالإجتهاد في العبادة والتحري في الأخذ بالعزائم وقهروها تحت مشقات التعبد فإنهم فهموا أن الأوامر والنواهي واردة مقصودة في جهة الآمر والناهي {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] لكن لما كان المكلف ضعيفا في نفسه ضعيفا في عزمه ضعيفا في صبره عذره ربه الذي علمه كذلك وخلقه عليه فجعل له من جهة ضعفه رفقا يستند إليه في الدخول في الأعمال وأدخل في قلبه حب الطاعة وقواه عليها وكان معه عند صبره على بعض الزعازع المشوشة والخواطر المشغبة وكان من جملة الرفق به أن جعل له مجالا في رفع الحرج عند صدماته وتهيئة له في أول العمل بالتخفيف استقبالا بذلك ثقل المداومة حتى لا يصعب عليه البقاء فيه والاستمرار عليه فإذا داخل العبد حب الخير وانفتح له يسر المشقة صار الثقيل عليه خفيفا فتوخى مطلق الأمر بالعبادة بقوله {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] "

(1)

.

"فصل"

في ذكر الضرب الثاني من الأوامر والنواهي وهو غير الصريح.

"ثم" بعد ذكر الصريح من الطلب الشرعي - الأمر والنهي - ننتقل إلى ذكر الضرب الثاني منه وهو ما "سوى الصريح منه" من المذكور يكون مجيئه على ضروب أحدها: الطلب وهو "ما" أي الذي "أتى" أي جاء في النص الشرعي إتيانا مثل "إتيان الأخبار" من حيث الصيغة وبنية الكلام، لكنه آت "بحكم" شرعي "ثبتا" - الألف للإطلاق - أي ثابت في ضمنه وهو المقصود به.

(1)

الموافقات 3/ 116/ 117.

ص: 171

1858 -

كقَوْلهِ وَالْوَالِدَاتُ وَكُتِبْ

وَهْوَ كثِيرٌ وَاتِّبَاعُهُ يَجِبْ

1859 -

لِجَرْيِهِ مَجْرَى الصَّرِيحِ الصَّادِرِ

مِنَ النَّوَاهِي وَمِنَ الأَوَامِرِ

1860 -

أَوْ جَاءَ بِالتَّرْتِيبِ لِلثَّوَابِ

عَلَيْهِ وَالتَّرْتِيبِ لِلْعِقَابِ

1861 -

أَوْ مُبْدِيًا مَدْحًا وَحُبَّ اللهِ

فِي الأَمْرِ أَوْ لِلْعَكْسِ فِي النَّوَاهِي

وذلك "كقوله" - تعالى -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]"و" قوله - تعالى - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وقوله - تعالى - {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وقوله - تعالى - {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] وأشباه ذلك "وهذا" أي هذا الضرب "كثير" وروده في النصوص الشرعية، "واتباعه" والعمل بمقتضاه طلب فعل كان أو طلب كف أمر "يجب" ويلزم شرعا وذلك "لجريه" في الدلالة على الطلب الشرعي بالفعل أو الكف "مجرى الصريح" المذكور "الصادر" عن الشارع "من النواهي ومن الأوامر" هذا بيان لقوله "الصريح".

وثاني هذه الضروب هو ما أتى "أو جاء" من الخطاب الشرعي مصحوبا "بالترتيب للثواب" والجزاء الحسن "عليه" أي على فعل ما اقتضاه، وطلب به ومن ذلك قوله - تعالى - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [النساء: 13] "و" - بمعنى أو - أي أو بـ "الترتيب للعقاب" على فعل ما نهى عنه فيه، ومن ذلك قوله - تعالى - {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14].

"أو" جاء "مبديا" ومظهرا بدلالته ومعناه "مدحا" لفعل ما، أو مدحا لفاعله "أو" مبديا "حب الله" - تعالى - "في" امتثال "الأمر" أي أمره - سبحانه ومن ذلك قوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] وقوله - سبحانه -: {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]"أو" جاء مبديا "للعكس" أي عكس ذلك وهو الذم بحيث يأتي ذاما فعلا ما، أو فاعلا له، أو ذاكرا أنه فعل مبغض أو مكروه أو غير محبوب له - تعالى - وذلك يجري "في"الأفعال التي أوردت في شأنها "النواهي" الشرعية، ومن ذلك قوله - تعالى - {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57] وقوله - سبحانه - {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} [لقمان: 18] وقوله - تعالى - {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] وقوله - سبحانه - {وَلَا

ص: 172

1862 -

وَكُلُّهُ مُعْتَبَرٌ وَمُتَّضِحْ

فِي تَرْكِ مَا ذُمَّ وَفِعْلِ مَا مُدِحْ

1863 -

وَمِنْهُ ضِمْنِيٌّ كَنَهْيِ لَامْرِ

عَنْ ضِدِّهِ وَالْخُلْفُ فِيهِ يَجْرِي

1864 -

لَا كِنْ عَلَى اعْتِبَارِهِ الأَمْرُ جَلِي

فِي كَوْنِ ذَاكَ لَا بِقَصْدٍ أَوَّلِ

1865 -

وَأَنَّهُ فِي الإِعْتِبَارِ أَضْعَفُ

مِنْ تَبَعِيِّ فِي الصَّرِيحِ يُعْرَفُ

يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وما أشبه ذلك مما ورد فيه هذا الحكم الحب أو البغض، أو المدح، أو الذم -. "وكله" أي هذا الذي تقدم ذكره من الخطاب سواء كان متضمنا للمدح، أو الذم، أو الحب، أو البغض، أو الكره، على المعنى المتقدم، "معتبر" مقتضاه الذي هو بين "ومتضح في" أنه "ترك ما ذم" أو كان مكروها أو مبغضا له - تعالى - "وفعل" وإتيان "ما مدح" أو وصف بأنه - تعالى - يحبه وهذا بين لا إشكال فيه. هذا هو الضرب الثاني من الخطاب الشرعي غير الصريح الدال على طلب.

"و" أما الثالث "منه" فإنه "ضمني" يتضمنه الأمر أو النهي عند من يرى ذلك وذلك "كـ" الـ "نهي" المستفاد من "الأمر" بالشيء "عن ضده" يعني عن ضد الشيء المأمور به الوجودي بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده الوجودي وكالأمر المستفاد من النهي بناء على قاعدة "النهي عن الشيء أمر بضده" وكالمطلوب المستفاد من الأمر بناء على قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وغير ذلك مما يتوقف عليه فعل المطلوب وتحصيله "والخلف" بين العلماء "فيه" يعني في اقتضاء الطلب الشرعي لهذا الصنف من الأوامر والنواهي التي يتوقف تحصيل المطلوب على فعلها أمر "يجري" كما هو مذكور في كتب أصول الفقه مفصلا. "لا كن" إذا قلنا بأنه يقتضي ذلك وبنينا "على اعتباره" فإن "الأمر جلى" وظاهر "في كون ذاك" الاقتضاء "لا" يحصل "بـ"ما هو "قصد أول" من ذلك الطلب، وإنما يحصل بالقصد الثاني منه "وأنه في الاعتبار" والاعتداد بمقتضاه "أضعف من "الطلب - الأمر أو النهي - الـ "تبعي" الذي يعلم أنه "في" الضرب "الصريح" يعد و "يعرف" وذلك كقوله - تعالى - {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وإنما عد ذاك أضعف من هذا لأن رتبة الصريح ليست كرتبة الضمني أصلا.

وقد مر في "كتاب المقاصد" أن المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة، فهذا القسم - الضرب - من الأوامر والنواهي مستمد ثبوته من ذلك، والفرق بين ما هو أصلي وتبعي من ذلك فقه كثير يعم جزئيات متعددة ولا بد من ذكر مسألة نقررها في

ص: 173

" فصل"

1866 -

وَمِنْ هُنَا فُرِّقَ بَيْنَ الْغَاصِبِ

وَالْمُتَعَدِّي فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ

1867 -

مَنْ قَدْ رَأَى التَّفْرِيقَ مِثْلَ مَالِكْ

وَمَنْ يُسَوِّي فَعَلَى مَسَالِكْ

‌فصل

يبين ذلك حتى يتخذ دستورا لأمثالها في فقه الشريعة بحول الله - تعالى -.

"فصل"

في ذكر تلك المسألة الموعود بذكرها، وقد اختار أن تكون مسألة الغصب، وذلك ان الغصب عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب والتعدي مختص بالتعدي على المنافع دون الرقاب. "ومن هنا فرق بين" الشخص "الغاصب" وهو الآخذ لمال غيره تعديا بلا حرابة "و" الشخص "المتعدي" - وهو الغاصب للمنافع فقط دون قصد منه إلى ملك الرقاب - "في" نوع "الضمان الواجب" على كل واحد منهما "من قد رأى" من أهل العلم "التفريق" بينهما "مثل" الإمام "مالك" بن أنس الذي نقل عنه انه قال: (إذا حبس المغصوب أو المسروق عن أسواقه ومنافعه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه. وإن كان مستعيرا أو متكاريا ضمن قيمته

(1)

.

ووجه ذلك أنه إذا كان الغاصب قد قصد تملك الرقاب فهو منهي عن ذلك، آثم فيما فعل من جهة ما قصد، وهو لم يقصد إلا الرقبة. فكان النهي أولا عن الاستلاء على الرقبة. وأما التعدي على المنافع فالقصد فيه تملك المنافع دون الرقبة، فهو منهي عن ذلك الإنتفاع من جهة ما قصد، وهو لم يقصد إلا المنافع، لكن كل واحد منهما يلزمه الآخر

(1)

قال القرافي في "الذخيرة"/ 8/ 320/: تنبيه تفريقه بين الغاصب لا يضمن الدابة إذا ردها بحالها، ويبن المستعمر يحسبها أياما، ثم يردها بحالها يضمن، مشكل من وجهين: الأول: إن على اليد ما أخذت حتى ترده، وقد رد ما أخذ فلا يضمن، الثاني: سلمنا الضمان، لكنّ الغاصب ضامن، والظالم أولى أن يُحتمل عليه، وقد جعله أسعد ممن ليس بظالم في أصل وضع اليد، وقد قيل في الجواب: إنّ المعير والمكري أذنا في شيء مخصوص، ومفهومه ولازمه: النهي عما زاد عليه، فيكون النهي فيما زاد خاصا بهذه الزيادة، ونهي الغاصب نهي عام لا يختص بمسافة ولا بحالة، والقاعدة: أنّ النهي الخاص بالشيء أقوى مما يعمه ويعم غيره، يشهد لذلك ثوب الحرير والنجس، أن النجس أقوى في المنع لاختصاصه بالصلاة والصيد والميتة، وأن الصيد أقوى منعا لاختصاصه بالإحرام، ونحو ذلك.

ص: 174

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالحكم التبعي، وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول. "فإذا كان غاصبا فهو ضامن للرقاب لا للمنافع وإنما يضمن قيمة الرقبة يوم الغصب لا بأرفع القيم لأن الانتفاع تابع فإذا كان تابعا صار النهي عن الانتفاع تابعا للنهي عن الاستيلاء على الرقبة فلذلك لا يضمن قيمة المنافع إلا على قول بعض العلماء بناء على أن المنافع مشاركة في القصد الأول والأظهر أن لا ضمان عليه لعموم قوله عليه الصلاة والسلام الخراج بالضمان وسبب ذلك ما ذكر من أن النهي عن الإنتفاع غير مقصود لنفسه بل هو تابع للنهي عن الغصب وإنما هو شبيه بالبيع وقت النداء فإذا كان البيع مع التصريح بالنهي صحيحا عند جماعة من العلماء لكونه غير مقصود في نفسه فأولى أن يصح مع النهي الضمني وهذا البحث جار في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أم لا فإن قلنا غير واجب فلا إشكال وإن قلنا واجب فليس وجوبه مقصودا في نفسه وكذلك مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده فإن قلنا بذلك فليس بمقصود لنفسه فلا يكون للأمر والنهي حكم منحتم إلا عند فرضه مقصودا بالقصد الأول وليس كذلك وأما إذا كان متعديا فضمانه ضمان التعدي لا ضمان الغصب فإن الرقبة تابعة فإذا كان كذلك صار النهي عن إمساك الرقبة تابعا للنهى عن الاستيلاء على المنافع فلذلك يضمن بأرفع القيم مطلقا ويضمن ما قل وما كثر وأما ضمان الرقبة في التعدي فعند التلف خاصة من حيث كان تلفها عائدا على المنافع بالتلف بخلاف الغصب في هذه الأشياء"

(1)

. والجزئيات التي يختلف فيها ضمان الغصب عن ضمان التعدي كثيرة، وذو الرغبة في الاطلاع عليها يلزمه الرجوع إلى كتب الفروع وقد اعتاد المالكية في مجاري كلامهم في هذه المسألة تقديم الكلام على غصب الذوات على الكلام على غصب المنافع، وذكر أحكام الصور التي تتعلق بكل واحد منهما بالتفصيل، ومن اطلع على ذلك علم ما يفترق فيه ضمان الغصب عن ضمان التعدي، ومن ذلك غلة المغصوب، والمعروف في حكمها، عند المالكية هو التفصيل، وجريان الخلاف بينهم في ذلك هو الخراج، والاستخدام. هذا عند من يفرق بين غصب الذات، وغصب المنفعة. "و" أما "من يسوي" بينهما، ويرى أن غصب المنفعة وغصب الذات سيان في الأحكام المرتبة عليهما، "فـ" انه قد بنى مذهبه في هذا الشأن وخرجه "على مسالك" أي

(1)

الموافقات 3/ 131/ 132/ 133.

ص: 175

1868 -

مِنْهَا الدَّوَامُ مَعَ الإِبْتِدَاءِ

هَلْ يُحْمَلَانِ مَحْمَلَ السَّوَاءِ

1869 -

كَذَاكَ مِنْ قَاعِدَةِ الأَعْيَانِ

مَا هُوَ مِنْهَا الْمِلْكُ لِلإِنْسَانِ

1870 -

وَثَالِثٌ هَلْ شُبْهَةُ الْمِلْكِ تُرَا

فِي الْغَصْبِ أَمْ لَيْسَ كَذَاكَ نَظَرَا

قواعد فقهية معتبرة "منها" قاعدة أن "الدوام مع الإبتداء هل يحملان محمل السواء" والتعبير المشهور في هذا هو قولهم: "هل الدوام كالإبتداء"

(1)

، "فإن قلنا ليس الدوام كالإبتداء فذلك جار على المشهور في الغصب فالضمان يوم الغصب، والمنافع تابعة، وإن قلنا أنه كالابتداء فالغاصب في كل حين كالمبتدئ للغصب فهو ضامن في كل وقت ضمانا جديدا، فيجب أن يضمن المغصوب بأرفع القيم كما قال ابن وهب وأشهب وعبد الملك، قال ابن شعبان: لأن عليه أن يرده في كل وقت، ومتى لم يرده كان كمغتصبه حينئذ""كذاك من "تلك القواعد "قاعدة الأعيان" أي الذوات "ما هو "الذي يصح "منها" أن يكون "الملك" أي المملوك "للإنسان" هل هو ذواتها أي أنفسها، أم هو منافعها فقط؟ فإن تقرر أن الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها - تعالى - وإنما للعبد منها المنافع، فهل القصد إلى ملك الرقاب منصرف إلى ملك المنافع فقط أم لا؟

فإن قلنا هو منصرف إليها إذ أعيان الرقاب لا منفعة فيها من حيث هي أعيان بل من حيث اشتمالها على المنافع المقصودة، فهذا مقتضى قول من لم يفرق بين الغصب والتعدي في ضمان المنافع.

وإن قلنا بأنه ليس بمنصرف، فهو بمقتضى التفرقة.

"وثالث" من هذه المسالك - القواعد - هو قاعدة "هل شبهة الملك ترى" أي توجد ثابتة "في" الشيء الذي حيز بطريقة "الغصب" إذا قصد الغاصب تملك ما غصب، "أم ليس" الأمر "كذاك

(2)

نظرا" يعني من جهة النظر الفقهي فالغصب لا يفيد شبهة الملك على الإطلاق، وإن كان موجبا للضمان؟

"فإن قلنا: أنه تتقرر بالغصب شبهة الملك للرقبة المغصوبة كالذي في أيدي الكفار من أموال المسلمين كان داخلا تحت قوله عليه الصلاة والسلام الخراج بالضمان

(1)

انظر "المنهج المنتخب" عند قول صاحبه: وهل دوام كابتدا كمن حلف/ أو صح أو أحدث والذي لم يقف وذي تيمم وإحرام حدث/ غصب نكاح وطلاق وخبث.

(2)

لم أظفر بهذه القاعدة في كتب المالكية.

ص: 176

1871 -

أَوِ الذِي يَرُدُّ مَا يَغْتَصِبُ

بِحَالِهِ كَالْمُتَعَدِّي يُحْسَبُ

1872 -

فَهَذِهِ الْخُلْفُ عَلَيْهَا يُجْرَا

إِذًا فَالأَصْلُ صَحَّ وَاسْتَقَرَا

فكانت كل غلة وثمن يعلو أو يسفل أو حادث يحدث للغاصب وعليه بمقتضى الضمان كالاستحقاق والبيوع الفاسدة وإن قلنا إنه لا يتقرر له عليها شبهة ملك بل المغصوب على ملك صاحبه فكل ما يحدث من غلة ومنفعة فعلى ملكه فهي له فلا بد للغاصب من غرمها لأنه قد غصبها أيضا وأما ما يحدث من نقص فعلى الغاضب بعدائه لأن نقص الشيء المغصوب إتلاف لبعض ذاته فيضمنه كما يضمن المتعدي على المنافع لأن قيام الذات من جملة المنافع هذا أيضا مما يصح أن يبني عليه الخلاف"

(1)

.

ومنها - أيضا - أن يذكر "و" يقال بأن الشخص المغتصب "الذي يرد ما يغتصبـ"ــه وهو "بحاله" لم يتغير منه شيء إلى صاحبه هو في الحكم "كالمتعدي" فيه يعد و"يحسب" لأن الصورة فيهما معا واحدة، "ولا أثر لقصد الغصب إذا كان الغاصب قد رد ما غصب استرواحا من قاعدة مالك في اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد وإلغائه الوسائط أو لا يعد كذلك فالذي يشير إليه قول مالك هنا أن للقصد أثرا وظاهر كلام ابن القاسم أن لا أثر له ولذلك لما قال مالك في الغاصب أو السارق إذا حبس الشيء المأخوذ عن أسواقه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه وإن كان مستعيرا أو متكاريا ضمن قيمته قال ابن القاسم لولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما جعل على المتكاري"

(2)

.

"فهذه" الأوجه الفقهية والمآخذ المذكورة هي التي "الخلف" بين أهل العلم في هذا المقام يدار "عليها" من حيث اعتبار بعضها دون بعض، على الصورة المتقدم ذكرها، و"تجري" كما تقدم تقريره "إذا فالأصل" المتقدم ذكره - وهو أن ما كان من الأوامر والنواهي بالقصد الأول فحكمه منحتم بخلاف ما كان بالقصد الثاني - "صح واستقرا" - الألف للإطلاق - ثابتا.

(1)

الموافقات 3/ 122.

(2)

الموافقات 3/ 122.

ص: 177

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

1873 -

تَوَارُدُ الأَمْرِ مَعَ النَّهْيِ عَلَا

شَيْئَيْنِ مَعْ تَلَازُمٍ قَدْ حَصَلَا

1874 -

بِحَيْثُ يَأْتِي وَاحِدٌ لَوْ يَنْفَرِدْ

فِي الأَمْرِ وَالآخَرُ فِي النَّهْيِ يَرِدْ

1875 -

يُنْظَرُ فِيهِ فَالْمُوَافِي بِالتَّبَعْ

وُجُودًا أَوْ فِي الْعُرْفِ غَيْرُ مُتَّبَعْ

1876 -

وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ مِنْهُ مَا انْصَرَفَ

لِجِهَةِ الْمَتْبُوعِ قَصْدًا مَنْ سَلَفْ

1877 -

وَذَا بِالاسْتِقْرَاءِ فِي الْمَشْرُوعِ

لِلْحُكْمِ فِي الْتَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ

" المسألة الثامنة"

في أن الأمر النهي إذا توارادا على شيئين متلازمين فيكون أحدهما مأمورًا به والآخر منهيا عنه فإن المعتبر منهما المتبوع دون التابع.

وبيان ذلك وتفصيل القول فيه إن "توارد" مجيء "الأمر" الشرعي "مع النهي" الشرعي "على شيئين مع" وقوع "تلازم" وجودي بينهما أمر "قد حصلا" - الألف للإطلاق - ووقع، وذلك "بحيث يأتي واحد" منهما "لو" فرض أنه "ينفرد" داخلا "في" الذي يجري عليه حكم ذلك "الأمر" فيكون مأمورا به "والآخر" داخلا "في"الذي عليه حكم ذلك "النهي يرد" فيكون منهيا عنه عند فرض الانفراد، وأحدهما يكون في حكم التبع للآخر.

وما كان وارادا من صور الأحكام على هذا الوجه لمعرفة ما يؤخذ منه من حكم ويعتبر، وما ليس كذلك "ينظر فيه" بمعيار الأصالة والتبع "فالموافي "أي الآتي الوارد من الاقتضاءين متصفا "بالتبع" للإقتضاء الآخر "وجودا" بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود الخارجي "أو في العرف" الشرعي أو العادي فإنه اقتضاء ساقط اعتباره ملغى "غير متبع" مقتضاه شرعا "وإنما اعتبر منه" أي من ذلك الذي ورد على هذه الصورة "ما انصرف" من الحكم وثبت "لجهة" الإقتضاء "المتبوع قصدا من سلف" من أهل العلم.

"وذا" أمر ثابث "بـ" أدلة

(1)

: "الاستقراء" الحاصل "في المشروع" يعني الشريعة، ذلك الإستقراء الذي حصل "للحكم في تباع و "كذلك في حكم "المتبوع" والذي تبين به ما تقدم ذكره.

(1)

انظر الأدلة الأخرى في الأصل.

ص: 178

1878 -

وَمُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَا

يَرَى أَنَّ النَّهْيَ مِمَّا قُصِدَا

1879 -

وَحَالُ مَتْبُوعٍ وَحَالُ تَابِعِ

بَادٍ مِنَ الأُصُولِ وَالْمَنَافِعِ

1880 -

كِلَاهُمَا يَجُوزُ فِيهِ الْعَقْدُ

وَيُتْبَعُ الآخَرُ فِيهِ بَعْدُ

" و" أما من هو "مبطل للبيع في وقت النداء" لصلاة الجمعة كمالك فإنه "يرى بأن النهي" الوارد في قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]"مما قصدا" بذاته، فهو ليس عنده تابعا للأمر بالسعي إلى هذه الصلاة.

"وحال متبوع" من ذلك الذي ورد على هذه الصورة "وحال تابع" منه "باد" وظاهر وجهه "من" العقد على "الأصول والمنافع" والغلات التابعة لها، ومن المنافع والأصول التابعة لتحصيلها، "كلاهما يجوز فيه العقد ويتبعـ"ــه "الآخر" منهما "فيه" أي في ذلك العقد "بعد" أي بعد جريانه في المتبوع منهما مما يقصد في نفسه.

"فللإنسان أن يمتلك الرقاب ويتبعها منافعها وله أيضا أن يتملك أنفس المنافع خاصة وتتبعها الرقاب من جهة استيفاء المنافع ويصح القصد إلى كل واحد منهما فمثل هذه الأمثلة يتبين فيها وجه التبعية بصور لا خلاف فيها وذلك أن العقد في شراء الدار أو الفدان أو الجنة أو العبد أو الدابة أو الثوب وأشباه ذلك جائز بلا خلاف وهو عقد على الرقاب لا على المنافع التابعة لها لأن المنافع قد تكون موجودة والغالب أن تكون وقت العقد معدومة وإذا كانت معدومة امتنع العقد عليها للجهل بها من كل جهة ومن كل طريق إذ لا يدري مقدارها ولا صفتها ولا مدتها ولا غير ذلك بل لا يدري هل توجد من أصل أم لا فلا يصح العقد عليها على فرض انفرادها للنهي عن بيع الغرر والمجهول بل العقد على الأبضاع لمنافعها جائز ولو انفرد العقد على منفعة البضع لامتنع مطلقا إن كان وطئا ولامتنع فيما سوى البضع أيضا إلا بضابط يخرج المعقود عليه من الجهل إلى العلم كالخدمة والصنعة وسائر منافع الرقاب المعقود عليها على الانفراد والعكس كذلك أيضا كمنافع الأحرار يجوز العقد عليها في الإجارات على الجملة باتفاق ولا يجوز العقد على الرقاب باتفاق ومع ذلك فالعقد على المنافع فيه يستتبع العقد على الرقبة إذ الحر محجور عليه زمن استيفاء المنفعة من رقبته بسبب العقد وذلك أثر كون الرقبة معقودا عليها لكن بالقصد الثاني وهذا المعنى أوضح من أن يستدل عليه وهو على الجملة يعطى أن التوابع مع المتبوعات لا يتعلق بها من حيث هي توابع أمر ولا نهي وإنما يتعلق بها الأمر والنهي

ص: 179

1881 -

لَاكِنَّمَا الْمَنَافِعُ الْمَذْكُورَهْ

أَقْسَامُهَا ثَلَاثَةٌ مَحْصُورَهْ

1882 -

أَحَدُهَا مَا لَيْسَ بِالْمَقْصُودِ

لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْدُ فِي الْوُجُودِ

1883 -

فَلَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّ الأَصْلَا

مُتَّبَعٌ لِكَوْنِهِ اسْتَقَلَّا

1884 -

وَعَكْسُهُ مَا كَانَ ذَا اسْتِقْلَالِ

فِي الْحُكْمِ وَالْوُجُودِ لَا الْمَئَالِ

1885 -

فَذَاكَ لَا خِلَافَ فِي انْقِطَاعِهِ

عَن أَصْلِهِ وَالتَّرْكِ لاتِّبَاعِهِ

إذا قصدت ابتداء وهي إذ ذاك متبوعة لا تابعة"

(1)

. وانظر مزيد تقرير وتأصيل لهذه المسألة في الأصل. في بيان أن منافع الرقاب ليس قسما واحدا "لكنما" تلك "المنافع المذكورة أقسامها" متعددة إذ هي أقسام "ثلاثة محصورة" معدوده:

"أحدها" هو "ما" أي الذي "ليس بالمقصود" في العقد البتة، وذلك "لكونه لم يبد" أي لم يظهر "في الوجود" فهو معدوم، وذلك كثمرة الشجرة قبل الخروج، وولد الحيوان قبل الحمل، وما أشبه ذلك.

"فـ" هذا القسم "لا خلاف" ولا نزاع "فيه" أي في "أن الأصلا" - الألف للإطلاق - فيه، وهو - مثلا - الشجرة في المثال الأول، وولد الحيوان في المثال الثاني "متبع" - بفتح الباء - "لكونه" في الاعتبار كأنه "استقلا" - الألف للإطلاق - بالعقد، وانفرد به من اعتبار أي أمر آخر سواه فيه، وتلك المنافع لما لم تكن مستقلة بذاتها حقيقة لم يعرج على اعتبارها في الحكم. وهنا ترد القاعدة الفقهية المعروفة وهي أن "التابع لا يفرد بالحكم""و" ثانيها - أي هذه الأقسام - هو "عكسه" أي عكس هذا القسم المذكور - القسم الأول - وهو "ما كان" من المنافع "ذا استقلال في الحكم" العادي أو الشرعي "و" في "الوجود" الخارجي "لا" ما قد يكون صاحب استقلال وانفراد في "المئال" المتوقع المنتظر فإنه ليس من هذا القسم الذي من أمثلته الثمرة بعد الإفراك واليبس وولد الحيوان بعد استغنائه عن أمه، وما أشبه ذلك.

"فذاك" يعني فهذا القسم "لا خلاف" بين أهل العلم "في"حصول وثبوت "انقطاعه" وانفصاله "عن أصله" وهو في المثال الأول الشجرة وفي المثال الثاني الحيوان "و" ثبوت "الترك" يعني تركه "لاتباعه" له، فحكم التبعية منقطع عنه، فحكمه مع حكم

(1)

الموافقات 3/ 164/ 165.

ص: 180

1886 -

وَثَالِثٌ مُبَايِنٌ لِلأصْل

لَاكنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلِّ

1887 -

وَمِنْهُ مَحْسُوسٌ وَمَا فِي حُكْمِهِ

وَالْحُكْمُ شَامِلٌ لِضَرْبَيْ قِسْمِهِ

1888 -

فَهْوَ مَجَالٌ لاجْتِهَادٍ وَنَظَرْ

بِمَا مِنَ آمْرِ الطَّرَفَيْنِ يُعْتَبَرْ

الأصل حكم غير المتلازمين إذا اجتمعا قصدا، وعليه فلا بد من اعتبار كل واحد منهما على القصد الأول مطلقا في جميع صور العقد عليهما.

"و" أما الذي هو "ثالث" من هذه الأقسام فإنه الذي هو "مباين للأصل" منفصل عنه بوجوده الخارجي "لا كنه ليس بمستقل" عنه، كما في القسم السابق، وبذلك فإنه قد اجتمع فيه مباينته للأصل، وفقده للانفراد والانفصال، وبذلك فإنه ليس بمنتظم في سلك القسم الأول، ولا في سلك القسم الثاني.

"و" هو على ضربين إذ "منه" ما هو "محسوس"، كالثمرة الظاهرة قبل مزايلة الأصل على الوجه المتقدم ذكره، والعبد ذي المال الحاضر تحت ملكه، وولد الحيوان قبل الإستغناء عن أمه ونحو ذلك.

وهذا هو الضرب الأول في هذا القسم "و" الضرب الثاني منه "ما في حكمه" أي المحسوس وذلك كمنافع العروض والحيوان والعقار، ونحو ذلك مما حصلت فيه الهيئة للتصرفات الفعلية، كاللبس والركوب، والوطء، والخدمة، والإستصناع، والازدراع وأشباه ذلك.

وكل واحد من هذين الضربين قد اجتمع مع صاحبه من وجه - وهو مباينته للأصل من غير استقلال - وانفرد عنه من وجه - وهو كون أحدهما محسوسا والآخر ليس كذلك، والتهيؤ للتصرفات الفعلية في أحدهما دون الآخر "و" لكن "الحكم" الوارد في هذا واحد إذ "شامل لـ" ما تقدم ذكره من "ضربي قسمه" أي ما ذكر من المنافع يعني لضربي هذا القسم من المنافع، وهذا الحكم يتجاذبه ما في موضوعه - وهو هذا القسم - من شائبتي المباينة، وعدم الإستقلال.

وبذلك "فهو مجال" وموضع "لاجتهاد ونظر" فقهي مدار ما يبني به من حكم على الترجيح "بما" أي الذي يعتد به من "أمر" وشأن هذين "الطرفين" المتعارضين - هنا - وهما كما تقدم المباينة وعدم الاستقلال - و"يعتبر" فقد يظهر للمجتهد اعتبار ورجحان

ص: 181

1889 -

إِذْ لَهُمَا تَجَاذُبٌ فِي الَامْرِ

لَيْسَ عَلَى حَدِّ سَوَاءٍ يَجْرِي

عدم الاستقلال فيبنى حكمه عليه، وقد يظهر له رجحان المباينة فيصير إلى الحكم بمقضاه "إذ لهما" أي الطرفين - كما تقدم ذكره - "تجاذب" للحكم "في" واقع "الأمر" وهو تجاذب "ليس على حد سواء يجري" مقتضاه وما يبنى عليه من حكم لما ثبتت التبعية على الجملة ارتفع توارد الطلبين عنه - أي عن هذا القسم - وصار المعتبر ما يتعلق بجهة المتبوع كما مر بيانه.

ومن جهة أخرى: "لما برز التابع وصار مما يقصد تعلق الغرض في المعاوضة عليه أو في غير ذلك من وجوه المقاصد التابعة على الجملة ولا ينازع في هذا أيضا إذ لا يصح أن تكون الشجرة المثمرة في قيمتها لو لم تكن مثمرة وكذلك العبد دون مال لا تكون قيمته كقيمته مع المال ولا العبد الكاتب كالعبد غير الكاتب فصار هذا القسم من هذه الجهة محل نظر واجتهاد بسبب تجاذب الطرفين فيه وأيضا فليس تجاذب الطرفين على حد واحد بل يقوى الميل إلى أحد الطرفين في حال ولا يقوى في حال أخرى وأنت تعلم أن الثمرة حين بروزها الإبار ليست في القصد ولا في الحكم كما بعد الإبار وقبل بدو الصلاح ولا هي قبل بدو الصلاح كما بعد بدو الصلاح وقبل اليبس فإنها قبل الإبار للمشترى فإذا أبرت فهي عند أكثر العلماء للبائع إلا أن يشترطها المبتاع فتكون له عند الأكثر فإذا بدا صلاحها فقد قربت من الاستقلال وبعدت من التبعية فجاز بيعها بانفرادها ولكن من اعتبر الاستقلال قال هي مبيعة على حكم الجذ كما لو يبست على رؤوس الشجر فلا جائحة فيها ومن اعتبر عدم الاستقلال وأبقى حكم التبعية قال حكمها على التبعية لما بقي من مقاصد الأصل فيها ووضع فيها الجوائح اعتبارا بأنها لما افتقرت إلى الأصل كانت كالمضمونة إليه التابعة له فكأنها على ملك صاحب الأصل وحين تعين وجه الانتفاع بها على المعتاد صارت كالمستقلة فكانت الجائحة اليسيرة مغتفرة فيها لأن اليسير في الكثير كالتبع ومن هنا اختلفوا في السقي بعد بدو الصلاح هل هو على البائع أم على المبتاع فإذا انتهى الطيب في الثمرة ولم يبق لها ما تضطر إلى الأصل فيه وإنما بقي ما يحتاج إليه فيه على جهة التكملة من بقاء النضارة وحفظ المائية اختلف هل بقي فيها حكم الجائحة أم لا بناء على أنها استقلت بنفسها وخرجت عن تبعية الأصل مطلقا أم لا فإذا انقطعت المائية والنظارة اتفق الجميع على حكم الاستقلال فانقطعت التبعية وعلى نحو من هذا التقرير يجري الحكم في كل ما يدخل

ص: 182

1890 -

وَكَمْ لِهَذَا الأَصْلِ مِنْ فَوَائِدَ

عَمِيمَةِ النَّفْعِ لَدَى مَوَارِدَ

1891 -

مِنْهَا اتِّبَاعُ تَافِهِ لأَشْيَاءِ

لِمَا لَهُ الْكَثْرَةُ فِي الأَنْحَاءِ

1892 -

مِثْلُ اكْتِرَاءِ الدَّارِ فِيهَا شَجَرَهْ

وَكُلُّ مَا قِلَّتُهُ مُقْتَفِرَهْ

تحت هذه الترجمة"

(1)

.

"وكم" - للتكثير - أي كثير الذي يجني "لـ" رعاية "هذا الأصل" والعمل بمقتضاه "من فوائد" فقهية "عميمة" أي شاملة "النفع لدى" أي في "موارد" أي مواضع ومواطن الأحكام التي يجري حكمها عليها.

"منها" أي تلك الفوائد حصول "اتباع" ما يعد من "تافه" أي قليل "الأشياء""لما" هو متبوع "له" وهو الذي له "الكثرة" والغلبة "في الأنحاء" أي الجهات المعتبرة شرعا في الأحكام من حيث قوتها ورجحانها إذا صاحبت ما سواها مما هو له تابع لها، وذلك يجري في "مثل" مسألة "اكتراء الدار" التي "فيها شجره" فإنه تابع لها، ما لم تزد قيمته على الثلث وهذا حكم كل ما هو ثابت فيها من أبواب، ورفوف. وكذلك مسألة الإجارة على الإمامة مع الآذان أو خدمة المسجد.

ومسألة مساقاة الشجر يكون بينها البياض - الأرض غير المغروسة - اليسير، ففي المدونة - كتاب المساقاة -: قال ابن وهب: وأخبرني من أثق به من أهل العلم، قال: سمعت رجالا من أهل العلم يقولون في الأرض يكون فيها الأصل والبياض أيهما كان ردفا الغي واكتريت بكراء أكثرهما، إن كان البياض أفضلهما اكتريت بالذهب والورق، وإن كان الأصل أفضلهما اكتريت بالجزء مما يخرج منها من ثمرة. وأيهما كان ردفا الغي، وحمل كراءه على كراء صاحبه.

ومسألة الصرف والبيع إذا كان احدهما يسيرا

(2)

.

"و" هكذا حكم "كل ما قلته" وندورته "مقتفرة" - بكسر الفاء - أي متبعة لما سواها في الحكم لأنها لما انضمت إلى ما هو أكثر منها وأغلب الغي اعتبارها والأصل هو

(1)

الموافقات 3/ 134/ 135.

(2)

انظر هذه المسألة في مختصر الشيخ خليل عند قوله: "إلا أن يكون الجميع دينارا أو يجمعها فيه" / باب البيوع.

ص: 183

1893 -

كَذَاكَ فِي التَّضْمِينِ لِلصُنَّاعِ

فِيمَا يَكُونُ تَابِعَ الْمَتَاعِ

1894 -

وَمُقْتَضَى الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ

مِنْهَا كَذَا الْمَزِيدُ فِي الأَثْمَانِ

اتباع القليل للكثير، وقد استثنيت من ذلك أمور خصصت بالذكر والتنصيص عليها في كتب القواعد في الفقه المالكي مجموعة، وأوردت في كتب الفقه مفرقة بحسب الأبواب ومنها - أي تلك الفوائد المبنية على هذا الأصل - "كذاك ما" تقرر "في التضمين للصناع فيما" أي في الذي "يكون تابع المتاع" المستصنع، وذلك كجفن السيف، ومنديل الثوب، وطبق الخبز، ونسجة الكتاب المستنسخ، ووعاء القمح، ونحو ذلك فهل الصانع يضمن ذلك كله كما يضمن نفس المستصنع بناء على أنه تابع، ام لا؟ يضمنه لأنه وديعة عند الصانع

(1)

؟

"و" كذلك "مقتضى" قاعدة "الخراج بالضمان" فإن ذلك "منها" أي من هذه الفوائد، فالخراج تابع للأصل، فإذا كان الملك حاصلا فيه شرعا فمنافعه تابعة، سواء طرأ بعد ذلك استحقاق أولا، فإن طرأ الاستحقاق بعد ذلك كان كانتقال الملك على الاستئناف، وتأمل مسائل الرجوع بالغلات في الاستحقاق أو عدم الرجوع تجدها جارية على هذا الأصل.

ومنها "كذا" لك حكم "المزيد" أي الزيادة "في الأثمان" لأجل الأشياء التابعة المقصودة، فهل تكون تلك الزيادة مقصودة على الجملة لا على التفصيل؟ أو هي مقصودة على الجملة والتفصيل؟

"والحق الذي تقتضيه التبعية أن يكون القصد جمليا لا تفصيليا إذ لو كان تفصيليا لصار إلى حكم الاستقلال فكان النهي واردا عليه فامتنع وكذلك يكون إذا فرض هذا القصد فإن كان جمليا صح بحكم التبعية وإذا ثبت حكم التبعية فله جهتان جهة زيادة الثمن لأجله وجهة عدم القصد إلى التفصيل فيه فإذا فات ذلك التابع فهل يرجع بقيمته أم لا يختلف في ذلك ولأجله اختلفوا في مسائل داخلة تحت هذا الضابط كالعبد إذا رد بعيب وقد كان أتلف ماله فهل يرجع على البائع بالثمن كله أم لا وكذلك ثمرة الشجرة وصوف الغنم وأشباه ذلك"

(2)

.

ومسائل هذا الباب كثيرة.

(1)

الموافقات / 3/ 137.

(2)

الموافقات 3/ 136.

ص: 184

1895 -

وَكُلُّ مَا لَا نَفْعَ فِي الْمَعْقُودِ

عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ فِي الْعُقُودِ

1896 -

وَمَا بِهِ النَّفْعُ عَلَى أَقْسَامِ

أَحَدُهَا الْخَالِصُ لِلْحَرَامِ

1897 -

وَمَا يُرَى فِي خَارجٍ بِحَالِ

كعَكْسِهِ الخَالِصُ لِلْحَلَالِ

1898 -

فَيَرْجِعَانِ عِنْدَ ذَا لِلثَّالِثِ

الْمُقْتَضِى لِلْحُكْمِ وَالْمَبَاحِثِ

" فصل"

في أن ما لا ينفع لا تجري عليه العقود، بخلاف النافع فإنه تجري عليه "و" بيان ذلك أن "كل ما" ثبت أنه "لا نفع" ولا مصلحة "في" الشيء "المعقود عليه" فإنه "لا يصلح" شرعا جعله محلا "في العقود" عليه، إذ من شرط ما تجري فيه عقود المعاوضات أن يكون منتفعا به.

قال المالكية: شروط المعقود عليه ثمنا كان أو مثمنا ستة: وهي: الطهارة، والانتفاع به، والإباحة، والقدرة على تسليمه، وعدم نهي، وعدم جهل.

"و" أما "ما" يحصل "به النفع" ويقع فإنه "على أقسام" ثلاثة:

"أحدهما الخالص" المتمحض "للحرام" الذي ليس فيه شائبة من الحلال على الاطلاق وهذا حكمه انه مجرى ما لا منفعة فيه البتة "و" لكن هذا القسم "ما" أي ليس "يرى" أي يوجد "في الخارج" عن الأذهان "بحال" من الأحوال "كعكسه" وهو "الخالص" المتمحض "للحلال" الذي لا يشوبه شيء من موجبات الحرام - وهو القسم الثاني وهذا حكمه صحة العقد عليه وبه - وهو - أيضا - لا وجود له في الخارج، إذ ما من عين موجودة يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها إلا وفيها جهة مصلحة، وجهة مفسدة، والعبرة بما ترجح من ذلك، كما تقدم ذكره في كتاب المقاصد. فلا بد من هذا الاعتبار، وهو ظاهر بالاستقراء.

ولهذا "فـ" إن هذين الضربين "يرجعان" في واقع الأمر "عند ذا" أي هذا الذي تقرر من أنه لا مصلحة محضة ولا مفسدة محضة في أمور هذه الدنيا، ويؤول أمرهما "لـ" لقسم "الثالث" وهو أن يجمع في أي محل منافع تحل، ومنافع تحرم بحيث يكون بعض المنافع فيه حلالا، وبعضها الآخر فيه يكون حراما. وهذا القسم هو "المقتضى" والمستدعى حاله "للحكم" الشرعي "والمباحث" اللائقة به باعتبار ما يرد به من صور،

ص: 185

1899 -

وَهْوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنْهُ مَا يَقَعْ

ذَا جَانِبَيْنِ تَابِعٌ وَمُتَّبَعْ

1900 -

بِحُكْمِ أَصْلِ الْعُرْفِ فِي الْمَوَاقِعِ

فَالْحُكْمُ لِلْمَتْبُوعِ لَا لِلتَّابِعِ

1901 -

إِلَّا إِذَا مَا خُصَّ بِالْقَصْدِ عَلَى

خِلَافِ مَا الْعُرْفُ بِهِ قَدْ حَصَلَا

" وهو "- أي هذا التقسيم - يأتي "على ضربين" إذ "منه ما" أي الذي "يقع" حال كونه "ذا جانبين" وهما الجانب الذي هو "تابع و" هو الجانب الذي هو غير مقصود والجانب الذي هو "متبع" - بفتح الباء - وهو الجانب المقصود وذلك يعرف "بحكم أصل" ومقتضى "العرف" الجاري بين الناس "في المواقع" التي تضمنت تلك المنافع والمواضع التي احتوت عليها، فما كان هكذا "فالحكم" الجاري به بلا إشكال "للمتبوع" المقصود بالأصالة والعرف، "لا للتابع" المذكور، وذلك لأنا لو اعتبرنا الجانب التابع لم يصح لنا تملك عين من الأعيان، ولا عقد عليه لأجل منافعه لأن فيه منافع محرمة، وهو من الأدلة على سقوط الطلب في جهة التابع. وقد تقدم بيان هذا المعنى في المسألة السابقة، وإن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من الطلب، فكذلك ههنا "إلا إذا ما" وقع الخروج عما هو معتاد في ذلك و "خص" بالنية اتيان المحرم و"بالقصد" إليه من المكلف وقصد منه العمل "على خلاف ما العرف به قد حصلا" - الألف للإطلاق - واستقر، فإن هذا يحتمل وجهين:

الأول: اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع وأن كان مقصودا، فيرجع إلى الضرب الأول.

والثاني: اعتبار القصد الطارئي المخالف للمعتاد، واعتبار ما سواه مما هو معتاد كالتابع، فيكون الحكم له - أي لذلك القصد الطارئ - مثاله في ذي المنافع المباحة بالاصالة شراء الأمة بقصد اسلامها للبغاء كسبا به، وشراء الغلام للفجور به، وشراء العنب ليعصر خمرا، والسلاح لقطع الطريق، وما أشبه ذلك مما صرف على أصله العادي المبيح لشراءه وبيعه إلى أمر موجب لمنع ذلك فيه

(1)

.

ومثاله في ذي المنافع المحرمة بالأصالة "شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي من منع ذلك وشراء السرقين لتدمين المزارع وشراء الخمر للتخليل وشراء شحم

(1)

انظر المازري شرح التلقين / 5/ 431/ ط دار الغرب الإسلامي.

ص: 186

1902 -

وَلانْصِرَافِ الْقَصْدِ لِلأصْلِيِّ

بِمُقْتَضَى التَّخَاطُبِ الْعُرْفِيِّ

1903 -

يُحْذَفُ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مَا

تَعَلَّقَا بِهِ لأَنْ قَدْ عُلِمَا

الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح به الناس وما أشبه ذلك والمنضبط هو الأول والشواهد عليه أكثر لأن اعتبار ما يقصد بالأصالة والعادة هو الذي جاء في الشريعة القصد إليه بالتحريم والتحليل فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إن كانت من على الرقيق أو الخدمة إن كانت من الوخش وشراء الخمر للشرب والميتة والدم والخنزير للأكل هو الغالب المعتاد عند العرب"

(1)

.

"ولـ" أجل "انصراف القصد" من كلام وتوجهه "للـ" نفع "الأصلي" العادي الذي يراد "بمقتضى التخاطب العرفي "الجاري بين العرب "تحذف في "مجاري ذكر "التحريم و" كذلك في مجاري ذكر "التحليل" في النصوص الشرعية "ما" أي الذي "تعلقا به" ومن ذلك قوله - تعالى - {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وإنما حذف متعلق ما ذكر من التحريم والتحليل في ذلك "لـ""انـ"ــه "قد علما" - الألف للإطلاق - وعرف بمقتضى العرف، إذ النساء لم يعتد اكلهن ولا شربهن ولا لبسهن، وإنما اعتيدت معاشرتهن على الوجه المعروف، فكان مدركا انه مصب الحكم ومتعلقه.

وهذا يقال في تحريم الميتة فالأنعام لا تشرب ولا تلبس ولا تنكح عادة، وإنما تؤكل، فبذلك عرف ان هذا هو المتعلق به الحكم في ذلك.

وعلى هذا السبيل يقرر كل ما ورد فيه التحليل والتحريم متعلقهما فيه لم يذكر وإنما علقا فيه على الذات.

وقد يرد التنصيص على متعلق الحكم وهو لا يقتضي قصر الحكم عليه ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وقوله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وأشباه ذلك، فإن أكل ذلك ليس وحده المحرم، فغيره مثله ما كان بالباطل، وبالظلم إلا أن أول المقاصد وأعظمها في ذلك هو الأكل المنصوص عليه، وما سواه مما يقصد بالتبع، وما لا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له. وقد ورد تحريم الميتة واخواتها - الدم والخمر

(1)

الموافقات 3/ 139/ 140.

ص: 187

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والأصنام - وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه تطلى به السفن ويستصبح به الناس.

"فأورد ما دل على منع البيع ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات لأن المقصود وهو الأكل محرم وقال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر: إن الذي حرم شربها حرم بيعها وإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه لأجل أن المقصود من المحرم في العادة هو الذي توجه إليه التحريم وما سواه تبع لا حكم له ولأجل ذلك أجازوا نكاح الرجل ليبر يمينه إذا حلف أن يتزوج على امرأته ولم يكن قصده البقاء لأن هذا من توابع النكاح التي ليست بمقصودة في أصل النكاح ولا تعتبر في أنفسها وإنما تعتبر من حيث هي توابع ولو كانت التوابع مقصودة شرعا حتى يتوجه عليها مقتضاها من الطلب لم يجز كثير من العقود للجهالة بتلك المنافع المقصودة بل لم يجز النكاح لأن الرجل إذا نكح لزمه القيام على زوجته بالإنفاق وسائر ما تحتاج إليه زيادة إلى بذل الصداق وذلك كله كالعوض من الانتفاع بالبضع وهذا ثمن مجهول فالمنافع التابعة للرقبة المعقود عليها أو للمنافع التي هي سابقة في المقاصد العادية هي المعتبرة وما سواها مما هو تبع لا ينبني عليه حكم إلا أن يقصد قصدا فيكون فيه نظر والظاهر أن لا حكم له في ظاهر الشرع لعموم ما تقدم من الأدلة ولخصوص الحديث في سؤالهم عن شحم الميتة وأنه مما يقصد لطلاء السفن وللاستصباح وكلا الأمرين مما يصح الانتفاع بالشحم فيه على الجملة ولكن هذا القصد الخاص لا يعارض القصد العام فإن صار التابع غالبا في القصد وسابقا في عرف بعض الأزمنة حتى يعود ما كان بالأصالة كالمعدوم المطرح فحينئذ ينقلب الحكم وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق ولكن أن فرض اتفاقه انقلب الحكم والقاعدة مع ذلك ثابتة كما وضعت في الشرع وإن لم يتفق ولكن القصد إلى التابع كثير فالأصل اعتبار ما يقصد مثله عرفا والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتبارا بالاحتمالين وقاعدة الذرائع أيضا مبنية على سبق القصد إلى الممنوع وكثرة ذلك في ضم العقدين ومن لا يراها بني على أصل القصد في انفكاك العقدين عرفا وأن القصد الأصلي خلاف ذلك"

(1)

.

هذا هو الضرب الأول من هذا القسم - القسم الثالث -.

(1)

الموافقات / 3/ 140/ 141/ 142.

ص: 188

1904 -

وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَاكَ إِنْ صَدَرْ

فَهْوَ مَحَلٌّ لاجْتِهَادِ مَنْ نَظَرْ

" و" أما الضرب الثاني "منه" فهو "ما" أي الذي "ليس كذاك" الذي في الضرب السابق "أن صدر" أي جاء ووقع، فأحد الجانبين فيه ليس تابعا للآخر في القصد العادي، بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة كالحلي والأواني المحرمة إذا فرضنا العين والصياغة مقصودتين معا عرفا، أو يسبق كل واحد منهما على الانفراد عرفا فهذا بمقتضى القاعدة المتقدمة لا يمكن القضاء فيه باجتماع الأمر والنهي، لأن متعلقيهما متلازمان فلا بد من انفراد احدهما وأطرح الآخر حكما. أما على اعتبار التبعية - كما مر - فيسقط الطلب المتوجه إلى التابع، وأما على عدم اعتبارها فيصير التابع عفوا.

ويبقى تعيين ما هو التابع من الجانبين وما هو المتبوع منهما موكولا لنظر المجتهد ورأيه، وبذلك "فهو" أي التعيين المذكور "محل للاجتهاد ونظر" فقهي، وهو - أيضا - محل استشكال نظر لما تعارض فيه من القواعد والأحوال، ويقال مثل هذا في الشريعة، وإذا فرض وقوعه، فكل أحد وما أداه إليه اجتهاده.

وقد قال المازري في نحو هذا القسم في البيوع ينبغي أن يلحق بالممنوع.

ونص كلامه: "وأما ما اختلف حكم منافعه بأن حل بعضها وحرم بعضها، فإنك تنظر ها هنا فإن كانت المنفعة المحرمة مقصودة مرادة في نفسها، والمنفعة المباحة مقصودة مرادة في نفسها، فإن هذا القسم يصح تملكه ولا يصح بيعه. أما جواز تملكه وبقائه في اليد، فلأجل حاجة مالكه إلى تلك المباحة فيه. وأما منع بيعه فلأجل أن الثمن المبتذل فيه إنما بذل عن سائر منافعه من غير تخصيص ولا تعيين. وإذا كان الأمر هكذا، فقد صار الثمن مبذولا عن محرم ومحلل، فوجب فسخ العقد وإبطاله كله، لأن الذي يقابل المنفعة المحللة من الثمن مجهول حين العقد، والذي يقابل المنفعة ممنوع فيه البيع والمعاوضة، فبطل الجميع هذا لكونه ثمنا لمحرم، وهذا لكونه ثمنا مجهولا عوضا عن مباح، ومن اشترى ما يحل تملكه وبيعه بثمن مجهول، فإن ذلك فاسد لا يجوز"

(1)

.

"وأيضا فقاعدة الذرائع تقوى ههنا إذا قد ثبت القصد إلى الممنوع وأيضا فقاعدة معارضة درء المفاسد لجلب المصالح جارية هنا لأن درء المفاسد مقدم ولأن قاعدة

(1)

شرح التلقين / 5/ 420.

ص: 189

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

1903 -

وَلْنُطْلِقِ الأَمْرَ اصْطِلَاحًا هَا هُنَا

عَلَى الذِي الشَّارعُ فِيهِ أَذِنَا

1906 -

فَفِي وُرُودِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى

شَيْئَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَأَصَّلَا

1907 -

وَلَيْسَ فِيهِمَا مِنَ الْمَوْجُودِ

تَلَازُمٌ عُرْفِيٌّ أَوْ وُجُودِي

1908 -

بَلْ ذَاكَ نَاشِيٌّ مِنَ الْمُكَلَّفِ

بِقَصْدِهِ لِلْجَمْع فِي التَّصَرُّفِ

التعاون هنا تقضى بأن المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم والعدوان ولذلك يمنع باتفاق شراء العنب للخمر قصدا وشراء السلاح لقطع الطريق وشراء الغلام للفجور وأشباه ذلك وإن كان ذلك القصد تبعيا فهذا أولى أن يكون متفقا على الحكم بالمنع فيه لكنه من باب سد الذرائع وإنما وقع النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم وكون المعاوضة فاسدة أو غير فاسدة وقد تقدم لذلك بسط في كتاب المقاصد"

(1)

.

"المسألة التاسعة"

في ذكر شأن وحكم جمع المكلف بين شيئين ليس احدهما تابعا للأخر ولا هما متلازمان في الوجود ولا في العرف الجاري.

وهذا الموضوع مهم فلنذهب إلى بيانه "ولنطلق" أولا على سبيل الاختصار لفظ "الأمر اصطلاحما هما هنا" في هذا الموضوع "على" الإباحة وهو الحكم "الذي" موضعه ومحله "الشارع فيه أذنا" - الألف للإطلاق - أي خير بين فعله وتركه، تم نقول:"ففي ورود" وقوع "الأمر" الشرعي "والنهي" الشرعي "على شيئين" منفصلين، "كل" واحد "منهما" استقل بذاته و "تأصلا" - الألف للإطلاق - أي كان أصلا بنفسه قائم الذات، "و" ذلك لأنه "ليس" من الثابت ومحله "فيهما" ولا "من الموجود تلازم عرفي أو "تلازم "وجودي" كما في الأمثلة السابقة، "بل ذاك" الجمع الحاصل بينهما "ناشئ" وحاصل "من المكلف بـ" سبب "قصده للجمع" بينهما معا "في التصرف" والعمل الواحد، وفي غرض واحد.

(1)

الموافقات/ 3/ 142/ 143.

ص: 190

1909 -

كَصَفْقَةٍ بِجَائِزٍ مَعْ مَا حُظِرْ

الإِجْتِمَاعُ فِيهِ لَا الْعَكْسُ اعْتُبِرْ

1910 -

فَإِنَّ لِلْجَمْعِ مِنَ التَّأْثِيرِ

مَا لَيْسَ لِلتَّفْرِيقِ فِي كثِيرِ

1911 -

وَمَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ الْمَجْمُوعِ

مَا لَيْسَ فِي الإِفْرَادِ بِالْمَمْنُوعِ

1912 -

فَصَارَ كَالتَّلَازُمِ الْوُجُودِي

بِالْقَصْدِ وَالْخُلْفِ مِنَ الْمَعْهُودِ

وذلك "كصفقة" واحدة "بـ " شئ "جائز" مباح "مع ما" أي شيء قد "حظر" أي منع وحرم شرعا "الاجتماع" - مبتدأ مؤخر، وقوله "فيه" خبر مقدم - يعني الحكم الجاري في ذلك هو أن الاجتماع بين ما ذكر "لا العكس" وهو الانفراد والافتراق - هو الذي "اعتبر" واعتد به في هذا الشأن "فإن للجمع " بين المطالب الشرعية "من التأثير" في بناء الأحكام الشرعية "ما" أي الحكم الذي من المواطن و المواضع كما دل على ذلك استقراء الشرعية، "ما ليس" ثابتا "للتفريق" بين هذه المطالب "في كثير" من المسائل، والأمور الشرعية.

"و" هكذا قد "منع الشرع من "الفعل المركب "المجموع" من مأمورين أو منهيين أو مأمور ومنهي عنه "ما ليس في" حال الانفصال و "الإفراد" لما تركب منه ذلك المجموع "بالممنوع " المحظور شرعا، بل يكون في حال الانفصال والإفراد جائزا "فصار" ما بين الطلبين الشرعيين من الاجتماع "كالتلازم الوجودي " الخارجي وذلك "بـ" سبب "القصد" الحاصل من المكلف لذلك فقد نهى عليه الصلاة والسلام "عن بيع وسلف" وكل واحد منهما لو انفرد لجاز، والمقاصد معتبرة في التصرفات ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال:"إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" وهو داخل بالمعنى في مسألتنا من حيث كان للجمع حكم ليس للانفراد فكان الاجتماع موثرا وهو دليل وكان تأثيره في قطع الأرحام وهو رفع الاجتماع وهو دليل أيضا على تأثير الاجتماع.

وفي الحديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم حتى يضم إليه ما قبله أو ما بعده وكذلك نهى عن تقدم شهر رمضان بيوم أو يومين وعن صيام يوم الفطر لمثل ذلك أيضا ونهى عن جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة وذلك يقتضى أن للاجتماع تأثيرا ليس للانفراد واقتضاؤه أن للانفراد حكما ليس للاجتماع يبين أن للاجتماع حكما

ص: 191

1913 -

مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَعْنَى الانْفِرَادَ

بَاقٍ فَصَارَ مَوْضِعَ اجْتِهَادِ

ليس للانفراد ولو في سلب الانفراد ونهى عن الخليطين في الأشربة لأن لاجتماعهما تأثيرا في تعجيل صفة الإسكار

(1)

.

وكما ان للاجتماع تأثير لا يحصل في حالة الافتراق، كذلك شأن الافتراق فإن له تأثيرا معتبرا من جهة أخرى، فإنه إذا كان للاجتماع معان لا تكون في الافتراق فللافتراق - أيضا - معان لا تزيلها حالة الاجتماع: فالنهي عن البيع والسلف مجتمعين قضى بأن لافتراقهما معنى هو موجود حالة الاجتماع، وهو الانتفاع بكل واحد منهما، إذ لم يبطل ذلك المعنى بالاجتماع، ولكنهما نشأ بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي، وزيادة المعنى في الاجتماع لا يلزم أن يعدم معاني الانفراد بالكلية ومثله الجمع بين الاختين وما في معناه مما ذكر من الأدلة.

وأيضا فإذا كانت تحصل معان في حال اجتماع أشياء معينة، فإن خواض تلك الاشياء منفردة لا يلزمها ذلك الاجتماع، فإن لكل واحد من المجتمعين معاني لو بطلت لبطلت معاني الاجتماع بمنزلة الأعضاء مع الإنسان فإن مجموعها هو الإنسان ولكن لو فرض اجتماعها من وجه واحد أو على تحصيل معنى واحد لبطل الإنسان بل الرأس يفيد ما لا تفيده اليد، واليد تفيد ما لا تفيده الرجل، وهكذا الأعضاء المتشابهة كالعظام، والعصب والعروق وغيرها. فإذا ثبت هذا فافهم مثله في سائر الاجتماعات.

فالأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة غير مبطل لفوائد الافراد حالة الاجتماع، فمن حيث حصلت الفائدة بسبب الاجتماع، فهي حاصلة من جهة الافتراق - أيضا - حالة الاجتماع، وليس بسبب الاجتماع وحده.

وإذا تقرر هذا وهو ان خواص الاشياء مفردة لا تزال بالاجتماع شإنه إذا وقع الاجتماع في شيئين يصح استقلال كل واحد منهما بحكم فإنه يصح ان يعتبر من جهة الاجتماع، ومن جهة الافراد، "و" بذلك كان "الخلف" بين أهل العلم في ذلك "من" الأمر "المعهود" المعروف وذلك "من حيث ان معنى الانفراد باق" لم يزله الاجتماع، والاجتماع ثابت وهو يعارض حكم الانفراد "فصار" هذا الموضع بهذا التعارض بين مقتضى الافراد ومقتضى الاجتماع "موضع اجتهاد" ونظر، ولا يمكن اعمال قاعدة

(1)

الموافقات 3/ 144/ 145.

ص: 192

1914 -

إِذْ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ بِأَوْلَى

مِنْ غَيْرِهِ فِي أَنْ يَكُونَ أَصْلَا

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

التبعية فيه "إذ ليس كل واحد" منهما - أي من الإفراد والاجتماع "بأولى" وأحق "من غيره" الآخر "في أن يكون أصلا" والآخر يكون تابعا له.

قال الشاطبي: "ولكل وجه تتجاذبه أنظار المجتهدين. وإذا كان كذلك فحين امتزج الأمران في المقصد صارا في الحكم كالمتلازمين في الوجود اللذين حكمهما حكم الشيء الواحد فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي معا فيهما كما تقدم في المتلازمين ولا بد من حكم شرعي يتوجه عليهما بالأمر أو بالنهي أولا فإن من العلماء من يجرى عليهما حكم الانفكاك والاستقلال اعتبارا بالعرف الوجودي والاستعمال إذا كان الشأن في كل واحد منهما الانفراد عن صاحبه والخلاف موجود بين العلماء في مسألة الصفقة تجمع بين حرام وحلال ووجه كل قول منهما قد ظهر ولا يقال إن الذي يساعد عليه الدليل هو الأول فإنه إذا ثبت تأثير الاجتماع وأن له حكما لا يكون حالة الانفراد فقد صار كل واحد من الأمرين بالنسبة إلى المجموع كالتابع مع المتبوع فإنه صار جزءا من الجملة وبعض الجملة تابع للجملة ومن الدليل على ذلك ما مر في كتاب الأحكام من كون الشيء مباحا بالجزء مطلوبا بالكل أو مندوبا بالجزء واجبا بالكل وسائر الأقسام التى بختلف فيها حكم الجزء مع الكل وعند ذلك لا يتصور أن يرد الأمر والنهي معا فإذا نظرنا إلى الجملة وجدنا محل النهي موجودا في الجملة فتوجه النهي لما تعلق به من ذلك ووجه ما تقدم في تعليل المأزري وما ذكر معه لأنا نقول إن صار كل واحد من الجزئين كالتابع مع المتبوع فليس جزء الحرام بأن يكون متبوعا أولى من أن يكون تابعا وما ذكر في كتاب الأحكام لا ينكر وله معارض وهو اعتبار الأفراد كما مر وأما توجيه المأزري فاعتباره مختلف فيه وليس من الأمر المتفق عليه في مذهب مالك ولا غيره فهو مما يمكن أن يذهب إليه مجتهد ويمكن أن لا"

(1)

.

"المسألة العاشرة"

في أن حكم ما يجمع المكلف بينه من أمرين أصليين مستقلين مختلف باختلاف ما ينشأ عن اجتماعهما من التنافي أو التوافق في الأحكام.

(1)

الموافقات 3/ 147/ 148.

ص: 193

1913 -

وُرُودُ أَمْرَيْنِ لِأَصْلِيَيْنِ فِي

فِعْلٍ يُرَى بِالْقَصْدِ لِلْمُكَلَّفِ

1916 -

كَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الائْتِلَافِ

حَيْثُ يُرَى بَيْنَهُمَا تَنَافِي

1917 -

وَالنَّهْيُ عَنْ جَمْعٍ لِبَيْعٍ وَسَلَفْ

أَصْلٌ لِمَنْعِ مَا بِعَكْسِهِ اتَّصَفْ

وبيان ذلك أنه يقع "ورود" ومجيء اجتماع "أمرين" شرعيين "لأصليين" يعني على شيئين أصليين ليس احدهما تابعا للأخر لا في الوجود ولا في العرف، ويكون ذلك "في فعل" واحد، ويحصل ذلك الورود والاجتماع و"يرى" أي يوجد "بـ" سبب "القصد" الذي يكون "للمكلف" أي من المكلف إليه، فبقصده يحصل الاجتماع ذلك ويقع. وقد تقدم أن للجمع تأثيرا، وإن في الجمع معنى ليس في الانفراد، كما ان معنى الانفراد لا يبطل بالاجتماع. ولكن لا يخلو أن يكون كل منهما منافي الاحكام لأحكام الآخر اولا؟

فإن كان بينهما التنافي في الاحكام فحكم اجتماعهما "ك" حكم اجتماع "الأمر والنهي في" حال حصول "الائتلاف" والاجتماع بينهما قصدا من المكلف، وذلك "حيث يرى" أي يوجد "بينهما" يعني بين أحكام الأمرين المذكورين "تناف" وتخالف، فيرجع الأمر في شأنهما إلى مقتضى المسألة السابقة، "ومعنى ذلك ان الشيء إذا كانت له احكام شرعية تقترن به فهي منوطة به على مقتضى المصالح الموضوعة في ذلك الشيء وكذلك كل عمل من أعمال المكلفين كان ذلك العمل عادة أو عبادة فإن اقترن عملان وكانت أحكام كل واحد منهما تنافي أحكام الآخر فمن حيث صارا كالشيء الواحد في القصد الاجتماعي اجتمعت الأحكام المتنافية التي وضعت للمصالح فتنافت وجوه المصالح وتدافعت وإذا تنافت لم تبق مصالح على ما كانت عليه حالة الانفراد فاستقرت الحال على وجه استقرارها في اجتماع المأمور به مع المنهي عنه فاستويا في تنافي الأحكام لأن النهي يعتمد المفاسد والأمر يعتمد المصالح واجتماعهما يودي إلى الامتناع كما مر فامتنع ما كان مثله"

(1)

.

"والنهي" الشرعي الواقع "عن جمع لبيع وسلف" في صفقة وحدة "أصل لمنع" جواز الجمع بين كل "ما" من الأمرين إذا اجتمعا يكون حكم احدهما بخلاف حكم الآخر و"بعكسه" قد "اتصف" وذلك "لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة وباب السلف

(1)

الموافقات 3/ 149.

ص: 194

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يقتضي المكارمة والسماح والإحسان فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى الذي في البيع فخرج السلف عن أصله إذ كان مستثنى من بيع الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب نسيئة فرجع إلى أصله المستثنى منه من حيث كان ما استثنى منه وهو الصرف أصله المغابنة والمكايسة والمكايسة فيه وطلب الربح ممنوعة فإذا رجع السلف إلى أصله بمقارنة البيع امتنع من جهتين إحداهما الأجل الذي في السلف والأخرى طلب الربح الذي تقتضيه المكايسة أنه لم يضم إلى البيع إلا وقد داخله في قصد الاجتماع ذلك المعنى وعلى هذا يجري المعنى في إشراك المكلف في العبادة غيرها مما هو مأمور به إما وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا لم يكن أحدهما تبعا للآخر وكانت أحكامهما متنافية مثل الأكل والشرب والذبح والكلام المنافي في الصلاة وجمع نية الفرض والنفل في الصلاة والعبادة لأداء الفرض والندب معا وجمع فرضين معا في فعل واحد كظهرين أو عصرين أو ظهر وعصر أو صوم رمضان أداء وقضاء معا إلى أشباه ذلك"

(1)

.

"ولأجل هذا منع مالك من جمع عقود بعضها إلى بعض وإن كان في بعضها خلاف فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين الأحكام اعتبارا بمعنى الانفراد حالة الاجتماع فمنع من اجتماع الصرف والبيع والنكاح والبيع والقراض والبيع والمساقاة والبيع والشركة البيع والجعل والبيع والإجارة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع ومنع من اجتماع الجزاف واليكيل واختلف العلماء في اجتماع الإجارة والبيع وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام المختلفة في العقد الواحد فالصرف مبني على غاية التضييق حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس والتقابض الذي لا تردد فيه ولا تأخير ولا بقاء علقة وليس البيع كذلك والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة وعدم المشاحة ولذلك سمى الله الصداق نحلة وهي العطية لا في مقابلة عوض وأجيز فيه نكاح التفويض بخلاف البيع والقراض والمساقاة مبنيان على التوسعة إذ هما مستثنيان من أصل ممنوع وهو الإجارة المجهولة فصارا كالرخصة بخلاف البيع فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل وغير ذلك فأحكامه تنافي أحكامهما والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين والبيع يضاد ذلك والجعل مبني

(1)

الموافقات 3/ 149/ 150/ 151.

ص: 195

1918 -

وَغَيْرُ مَا فِيهِ التَّنَافِي قَدْ ظَهَرْ

فَقَصْدُ الاجْتِمَاعِ فِيهِ مُعْتَبَرْ

1919 -

فَإِنْ يَكُنْ يُحْدِثُ حُكْمًا يَقْتَضِي

نَهْيًا فَإِنَّ النَّهْيَ فِيهِ الْمُقْتَضِى

1920 -

كَمِثْلِ مَا الأُخْتَيْنِ حُكْمًا أَشْبَهَا

وَحَيْثُ لَا فَالأمْرُ قَدْ تَوَجَّهَا

على الجهالة بالعمل وعلى أن العامل بالخيار والبيع يأبى هذين واعتبار الكيل في المكيل قصد إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل والجزاف مبني على المسامحة في العلم بالمبلغ للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا يوصل إلى علم والإجارة عقد على منافع لم توجد فهو على أصل الجهالة وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة والبيع ليس كذلك وقد اختلفوا أيضا في عقد على بت في سلعة وخيار في أخرى والمنع بناء على تضاد البت والخيار وكما اختلفوا في جمع العاديين في عمل واحد بناء على الشهادة بتضاد الأحكام فيهما أو عدم تضادها كذلك اختلفوا أيضا في جمع العبادة مع العادة كالتجارة في الحج أو الجهاد وكقصد التبرد مع الوضوء وقصد الحمية مع الصوم وفي بعض العبادتين كالغسل بنية الجنابة والجمعة وقد مر هنا وفي كتاب المقاصد بيان هذا المعنى في الكلام على المقاصد الأصلية مع المماصد التابعة وبالله التوفيق"

(1)

.

هذا شأن وحكم ما حصل فيه التنافي بين أحكام المجتمعين المذكورين.

"و" أما "غير" ـه وهو ما ليس "فيه التنافي" بين أحكامه من المجتمعين أمرا "قد ظهر" ووجد "فـ" إن "قصد" المكلف "الاجتماع فيه" هو الأمر الـ"معتبر" المعتد به في هذا الشأن، وهو لا يخلو من أن يحدث - ذلك الاجتماع - حكما يقتضي النهي أولا.

"فإن يكن يحدث حكما يقتضي" ويجلب بحاله "نهيا" شرعيا يتوجه إليه "فإن" ذلك "النهي" هو المحكم "فيه" وهو "المقتضي" لما يجري فيه من حكم، وذلك "كمثل مما" أي الجمع الذي ماثل الجمع بين "الأختين حكما" و "أشبهـ"ـه، كالجمع بين المرأة وعمتها، وخالتها، والجمع بين صوم اطراف رمضان مع قبله وما بعده، والخليطين في الاشربة، وما اشبه ذلك.

هذا حيث يجلب ويقتضي هذا اللاجتماع بحاله نهيا شرعا.

"و" ما "حيث لا" يقتضي النهي "فالأمر" في ذلك "قد توجها" - الالف

(1)

الموافقات 3/ 149/ 150/ 151.

ص: 196

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

1921 -

تَوَارُدُ الأمْرَيْنِ فِيمَا اتَّحَدَا

بِمَلْحَظَيْنِ جَائِزٌ أَنْ يَرِدَا

1922 -

مَعَ رُجُوعٍ وَاحِدٍ لِلْجُمْلَهْ

لِكَونِهَا فِي الشَّأْنِ مُسْتَقِلَّهْ

1923 -

وَمَرْجِعُ الثَّانِي لِجُزْئِيَاتِ

مِنَ التَّفَاصِيلِ أَوِ الصِّفَاتِ

1924 -

حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الأُصُولِ

إِذًا فَثَانٍ جَاءَ لِلتَّكْمِيلِ

1925 -

لِذَاكَ كَانَ تَابِعًا لِلأوَّلِ

شَأْنُ مُكَمَّلٍ مَعَ الْمُكَمِّلِ

الإطلاق، كالذي في قوله "أشبها" ومعنى قد توجه انه يصار إلى العمل به بلا نزاع. إذ لا يوجد إلا أمر أو نهي، وحيث لا يوجد النهي فإنه يوجد فيه الأمر.

"المسألة الحادية عشرة"

في بيان أن "توارد" ومجيء "الأمرين" الشرعيين المختلفين من جهة مقتضاهما "فيما" أي على ما "اتحدا بالملحظين " يعني على الشيء الواحد، فإنه "جائز أن يردا" ويجيئا كذلك.

وهذان الملحظان - الاعتباران - هما أن يأتي الامران "مع رجوع" مقتضى "واحد" منهما "للجملة" وذات المطلوب بتمامها "لكونها في الشأن" والاعتبار الشرعي لها "مستقلة" عن مقتضى الأمر الآخر وعن مجراه.

وهذا هو الملحظ - الاعتبار - الأول.

والملحظ - الاعتبار - الثاني "و" هو أن يكون "مرجعـ"ـه أي مرجع الأمر "الثاني لجزئيات" الأمر الأول أي إلى بعض "من التفاصيل" والاجزاء التي تركبت منها جملة ذلك المطلوب "أو الصفات" القائمة به.

وحكم هذا التوارد والجمع هو - كما تقدم - الجواز "حسبما ثبت" وتقرر "في الأصول" الشرعية وأجرى بناء الشريعة عليه "إذا" بناء على هذه الصورة التي عليها هذا الأمر "فـ" إن من هو "ثان" منهما إنما "جاء لـ" أجل تحصيل إلى "تكميل" والتناهي و"لذاك" لم يكن مستقلا في وجوده وإنما "كان تابعا لـ" لأمر "الأول" فشأنه "شأن" كل "مكمل" - بفتح الميم - "مع المكمل" يعني مع مكمله.

ص: 197

1926 -

وَذَاكَ كالصَّلَاةِ فِي التَّمْثِيلِ

مَعْ كُلِّ مَطْلُوبٍ لَهَا تَكْمِيلِي

1927 -

وَالْحُكْمُ جَارٍ فِي الضَّرُورِيَاتِ مَعْ

حَاجِيٍّ أَوْ مُحَسِّنٍ حَيْثُ يَقَعْ

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

1928 -

تَوَارُدُ النَّهْيِ مَعَ الأمْرِ عَلَا

مِثْلِ الذِي مَرَّ جَوَازُهُ انْجَلَا

وما كان مكملا - بكسر الميم - هكذا وتابعا فطلبه انما هو من تلك التي هو تابع لها، لا مطلقا، وهذا معنى كونه تابعا.

"وأيضا فإن هذا الطلب لا يستقل بنفسه بحيث يتصور وقوع مقتضاه دون مقتضى الأمر بالجملة بل إن فرض فقد الأمر بالجملة لم يمكن إيقاع التفاصيل لأن التفاصيل لا تتصور إلا في مفصل والأوصاف لا تتصور إلا في موصوف والجزئي لا يتصور إلا من حيث الكلي وإذا كان كذلك فطلبه إنما هو على جهة التبعية لطلب الجملة"

(1)

.

"وذاك كالصلاة" شأن "في التمثيل" لذلك "مع كل" أمر "مطلوب لها" وهو "تكميلي" لها كالطهارة الحدثية والخبثية، وأخذ الزينة، والخشوع، والذكر، والقراءة، والدعاء، واستقبال القبلة، واشباه ذلك.

"وكذلك سائر التوابع مع المتبوعات"

(2)

.

"و" هذا الترتيب و "الحكم جار" كما تقدم ذكره في كتاب المقاصد "في الضروريات مع " كل ما هو "حاجي أو محسن " أي تحسيني "حيث" ما "يقع" ويرد، سواء ورد في العبادات أو المعاملات، وذلك أن التوسعة ورفع الحرج يقتضي شيئا يمكن فيه التضييق والحرج وإذا ثبت هذا تصور في الموضع قسم آخر وهي: المسألة التالية:

"المسألة الثانية عشرة"

وهي معقودة في بيان أن "توارد" ومجيء اجتماع "النهي مع الأمر" الشرعيين "على" شيء واحد "مثل الذي مر" ذكره في المسألة السابقة "جوازه" هو الحكم الذي قد ظهر "وانجلا" رجحانه، وما تقرر في المسألة السابقة يدل على ذلك.

(1)

الموافقات 3/ 153.

(2)

الموافقات 3/ 153.

ص: 198

1929 -

لَاكِنْ لَهُ مِنْ بَعْدُ صُورَتَانِ

إِحْدَاهُمَا كَثِيرَةُ الإِتْيَانِ

1930 -

وَذَاكَ مَا الأَمْرُ بِهِ لِلْجُمْلَهْ

وَالنَّهْيُ لِلْوَصْفِ الذِي قَدْ حَلَّهْ

1931 -

كالصَّوْمِ يَوْمَ الْعِيدِ وَالصَّلَاةِ

فِي حَالِ مَكْرُوهٍ مِنَ الأَوْقَاتِ

1932 -

ثَانِيَةٌ لِعَكْسِ ذَا التَّصَوُّرِ

كَالأَمْرِ لِلْعَاصِينَ بِالتَّسَتُّرِ

1933 -

فَالأَوَّلُ اسْتَقَرَّ فِي الأُصُولِ

وَحُكْمُ ثَانٍ مِنْهُ ذُو حُصُول

" لاكن له" أي لهذا الاجتماع والتوارد ما ينبغي أن يذكر في شأنه "من بعد" ذكر حكمه المتقدم - الجواز - وهو أنه له "صورتان" اثنتان "إحداهما" وهي "كثيرة الإتيان" والمجيء في الشريعة "وذاك" هو "ما" يكون "الأمر به" أي فيه واردا حكمه "للجملة" - اللام بمعنى على - أي على الجملة أي ذات المأمور به، "و" يكون "النهي" فيه واردا حكمه "للوصف" يعني على الوصف "الذي قد حله" أي حل ما ذكر من الجملة، فاتصفت به وذلك "كالصوم يوم العيد" والصلاة بحضرة الطعام، والبيع المقترن بالغرر، أو الجهالة "والصلاة في حال مكروه" منهي عنه "من الأوقات" كبعد صلاة العصر، وبعد صلاة الصبح، والغش والخديعة في البيوع. وما أشبه ذلك مما ورد فيه الأمر على ذات المأمور به بتمامها، والنهي على وصف يرد عليها. هذه هي الصورة الأولى.

"وأما" الصورة التي هي "ثانية" فإنها التي "بعكس" هـ "ذا التصور" المذكور أي الصورة المذكورة وعكسه هو أن يكون النهي للجملة - ذات الفعل - والأمر لوصف من أوصافها، وذلك "كالأمر" الوارد من الشارع "للعاصين بالتستر" في حال تلبسهم بالعصيان، قال صلى الله عليه وسلم:"اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله" وكاتباع الحسنة السيئة لقوله عليه الصلاة والسلام: "واتبع الحسنة السيئة تمحها" وقوله - تعالى -: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النِّسَاء: 17]، وأشباه ذلك. "فـ" أما "الأول" وهو الأمر إلى الجملة والنهي إلى شيء من أوصافها فإنه قد "استقر" بحثه والنظر في شأنه، وبث الحكم في أمره "في" علم "الأصول" - أصول الفقه -، وذلك في مسألة "هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه" أو "هل النهي يقتضي الفساد"، وبذلك فإنه لا حاجة إلى إعادة الكلام عليه وعلى حكمه هنا.

"و" أما "حكم" الذي هو "ثان" من ذلك فإنه يعلم من معنى كلامهم في ذاك الأول وما قرروه فيه، فإنه "منه ذو حصول" وإدراك له منه.

ص: 199

1934 -

فَدُونَكَ التَّفْرِيعَ لَاكِنَّ هُنَا

مَعْنىً لَهُ انْجَرَّ الْكَلَامُ وَانْثَنَا

"‌

‌ المسألة الثالثة عشرة

"

1933 -

الطَّلَبُ الرَّاجِعُ لِلْمَتْبُوعِ مَعْ

ذِي تَابِعٍ أَوْلَى بِحَيْثُ مَا وَقْع

1936 -

مِنْ حَيْثُ مَا الْقَصْدُ إِلَيْهِ أَوَّلِي

وَقَصْدُ تَابِعٍ بِعَكْسٍ اجْتُلِي

1937 -

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ لِلطَّلَبْ

تَفَاوُتًا فِي الشَّرْعِ رَعْيُهُ وَجَبْ

" فدونك" النظر في "التفريع" له - أي لهذا الحكم عن هذا الكلام، وما تضمنه من تأصيل، وبناء للآراء والأقوال في موضوعه.

وبهذا تم وانتهى الكلام على هذه المسألة "لكن" قد عن "هنا" في هذا الموضع "معنى" آخر "له انجر الكلام وانثنى" أي مال، وهو ما تعقد له المسألة الموالية وهي.

"المسألة الثالثة عشرة"

التي هي معقودة في بيان أن "الطلب" الشرعي "الراجع لـ" المأمور به "لمتبوع" إذا قورن "مع" طلب "ذي" مأمور به "تابع" له متوجه إلى التفاصيل والأوصاف أو خصوص الجزئيات، فإنه يكون أعلى من ذلك الطلب - أي ذلك المتبوع - ذي التبعية و"أولى" منه وآكد منه في الاعتبار "بحيث ما" أي في أي موضع "وقع".

وورد، وذلك أمر ثابت "من حيث ما" - ما هذه زائدة - يعنى من حيث إن "القصد" الشرعي "إليه" أي المتبوع "أولي" وبذلك كان هو المقصود بذاته بذلك الحكم الشرعي الوارد فيه، "و" أما "قصد" الشارع ذاك الذي هو "تابع" له فإنه قد حصل "بعكس" ذلك "اجتلى" أي أظهر، إذ ليس مقصودا للشارع إلا بالقصد الثاني، ولأجل ذلك يلغى جانب التابع في المتجوع، فلا يعتبر التابع إذا كان اعتباره يعود على المتبوع بالإخلال.

"ومن هنا" بهذا الترتيب الذي تقرر فيه "يعلم أن للطلب" الشرعي سواء كان أوامر، أو نواهي "تفاوتا" في مراتبه ودرجاته، وهذا أمر ثابت "في" أحكام "الشرع" فلزم لذلك "رعيه"، و"وجب" اعتباره.

ص: 200

1938 -

مِنْ جِهَةِ التَّخْفِيفِ وَالتَّأْكِيدِ

وَنِسْبَةِ الإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ

1939 -

أَلَا تَرَاهُ فِي الضَّرُورِيَاتِ

ءَاكدَ مِنْهُ فِي الْمُكَمِّلَاتِ

وهذا التفاوت يبرز متجليا "من جهة التخفيف" في مدلولات الأوامر والنواهي "و" من جهة "التأكيد" والجزم فيها كذلك فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأوامر الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد، كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل، إلى سائر أصناف الضروريات. والحاجيات كذلك؛ فليس الطلب بالنسبة إلى الممتعات المباحة التي لا معارض لها كالطلب بالنسبة إلى ما له معارض كالتمتع باللذات المباحة مع استعمال القرض والسلم والمساقاة وأشباه ذلك؛ ولا أيضا طلب هذه كطلب الرخص التي يلزم في تركها حرج على الجملة؛ ولا طلب هذه كطلب ما يلزم في تركه تكليف ما لا يطاق. وكذلك التحسينيات حرفا بحرف

(1)

.

كما يبرز ذلك أيضا "و" يظهر في شأن "نسبة الإطلاق" للقول في الشريعة بأن الأمر للوجوب، أو الندب، أو الإباحة، أو غير ذلك مما هو منصوص عليه في كتب الأصول ببسط، وفي شأن نسبة "التقييد" فيها له بالقول - مثلا - بأن الأمر للوجوب ما لم يدل دليل على ذلك. فالضابط في ذلك هو أن ينظر في كل أمر: هل مطلوب بالقصد الأول، أم بالقصد الثاني فإن كان مطلوبا بالقصد الأول فهو أعلى المراتب في ذلك النوع، وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني نظر: هل يصح إقامة أصل الضروري في الوجود بدونه حتى يطلق على العمل اسم ذلك الضروري؟ أم لا؟ فإن لم يصح فذلك المطلوب قائم مقام الركن والجزء المقام لأصل الضروري وإن صح أن يطلق عليه الاسم بدونه فذلك المطلوب ليس بركن، ولكنه مكمل ومتم: إما من الحاجبات، وإما من التحسينيات؛ فينظر في مراتبه على الترتيب المذكور أو نحوه، بحسب ما يؤدي إليه الاستقراء في الشرع في كل جزء منها

(2)

.

"الا تراه" أي الطلب الشرعي وهو وارد "في" شأن الأمور "الضروريات آكد" وأقوى "منه" وهو وارد "في" شأن "المكملات" لها، كما تقدم بيان ذلك، وتقريره.

(1)

الموافقات 3/ 156.

(2)

الموافقات 3/ 158.

ص: 201

"‌

‌ المسألة الرابعة عشرة

"

1940 -

الأَمْرُ بِالشَّيءِ بِقَصْدٍ أَوَّلي

يَكُونُ عَنْهُ تَابِعٌ بِمَعْزِلِ

1941 -

لَاكِنَّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ أُمْر

بِهِ لِأَمْرٍ غَيْرِ ذَاكَ مُفْتَقِرْ

1942 -

دَلِيلُهُ مَا قَدْ مَضَى فِي الأَمْرِ

بِالْمُطْلَقَاتِ فَهْوَ فِيهِ يَجْرِي

1943 -

وَقَصْدُ تَابِع بِحُكْمٍ اقْتَضَا

دُونَ دَلِيلٍ خَصَّهُ لَا يُرْتَضَا

" المسألة الرابعة عشرة"

في بيان أن "الأمر بالشيء" إذا كان "بـ" الـ"قصد" الـ"أول" فإنه ليس أمر بالتوابع لماهية المأمور به بذلك الأمر الخارجة عنها، وبذلك "يكون عنه" كل "تابع" له منفصلا، ويرد "بمعزل" عنه، فثبوت حكمه وكونه مطلوبا لا يقع بذلك الأمر "لكنه" أي ذلك التابع "إن كان مما قد أمر به" شرعا فإنه محتاج "لأمر" آخر مستأنف "غير ذاك" و"مفتقر" إليه.

"دليله" أي دليل هذا الذي ذكر هو "ما قد مضى" ذكره وتقريره "في" شأن "الأمر بالمطلقات" من أنه لا يستلزم الأمر بالمقيدات، وما مضى من ذلك هناك "فهو" الذي "فيه" أي في هذا المواضع "يجري" حكمه ويسري أمره، وذلك لأن التوابع هنا راجعة إلى تأدية المتبوعات على وجه مخصوص، والأمر إنما تعلق بها مطلقا، لا مقيدا، فيكفي فيها إيقاع مقتضى الألفاظ المطلقة، فلا يستلزم إيقاعها على وجه مخصوص دون وجه، ولا على صفة دون صفة، فلا بد من تعيين وجه أو صفة على الخصوص، واللفظ لا يشعر به على الخصوص، فهو مفتقر إلى تجديد أمر يقتضي الخصوص. وهو المطلوب.

وينبني على هذا أن المكلف مفتقر في أداء مقتضى المطلقات على وجه واحد دون غيره إلى دليل، فإنا إذا فرضناه مأمورا بإيقاع عمل من العبادات مثلا، من غير تعيين وجه مخصوص، فالمشروع فيه على هذا الفرض لا يكون مخصوصا بوجه ولا بصفة، بل أن يقع على حسب ما تقع الأعمال الإتفاقية الداخلة تحت الإطلاق فالمأمور بالعتق مثلا أمر بالإعتاق مطلقا من غير تقييد مثلا بكونه ذكرا دون أنثى ولا أسود دون أبيض، ولا كاتبا دون صانع، ولا ما أشبه ذلك

(1)

"و" بناء على ذلك فإن "قصد تابع" معين مخصوص "بحكم اقتضى" وحكم به عليه "دون دليل" شرعي "خصه" بذلك هو تصرف "لا يرتضى" ولا يقبل.

(1)

الموافقات 3/ 158.

ص: 202

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإذا التزم من أمر بالإعتاق - مثلا - نوعا من هذه الأنواع المذكورة، دون غيره احتاج في الإلتزام إلى دليل، وإلا كان التزامه غير مشروع. وكذلك المصلي - مثلا - التزم في صلاة الظهر أن يقرأ بالسورة الفلانية دون غيرها دائما، أو أن يتطهر من ماء البئر دون ماء الساقية، أو غير ذلك من الالتزامات. التي هي توابع لمقتضى الأمر في المتبوعات، فلا بد من طلب دليل على ذلك، وإلا لم يصح في التشريع، وهو عرضة لأن يكر على المتبوع بالإبطال.

وبيانه أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث الإطلاق، ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات أو الكيفيات التوابع، فقد عرفنا من قصد الشارع أن المشروع عمل مطلق، لا يختص في مدلول اللفظ بوجه دون وجه، ولا وصف دون وصف، فالمخصص له بوجه دون وجه أو وصف دون وصف لم يوقعه على مقتضى الإطلاق، فافتقر إلى دليل على ذلك التقييد، أو صار مخالفا لمقصود الشارع.

وقد سئل مالك عن القراءة في المسجد، فقال: لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شيء أحدث. قال: ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن: وقال أيضا: أترى الناس اليوم أرغب في الخير ممن مضى؟ قال ابن رشد: التزام القراءة في المسجد بأثر صلاة من الصلوات، أو على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كأنه سنة مثل ما بجامع قرطبة أثر صلاة الصبح، فرأى ذلك بدعة - قال: وأما القراءة على غير هذا الوجه فلا بأس بها في المسجد. ولا وجه لكراهيتها. والذي أشار إليه هو الذي صرح به في موضع آخر؛ فإنه قال في القوم يجتمعون جميعا فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس

(1)

. وسئل مالك عن الجلوس في المسجد يوم عرفة بعد العصر للدعاء فكرهه، فقيل له: فالرجل يكون - في مجلسه فيجتمع الناس إليه ويكبرون. قال: ينصرف، ولو أقام في منزله كان خيرا له. قال ابن رشد: كره هذا وإن كان الدعاء حسنا وأفضله يوم عرفة، لأن الاجتماع لذلك بدعة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" وكره مالك في سجود القرآن أن يقصد القارئ

(1)

الموافقات 3/ 159.

ص: 203

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مواضع السجود فقط ليسجد فيها. وكره في المدونة أن يجلس الرجل لمن سمعه يقرأ السجدة لا يريد بذلك تعلما، وأنكر على من يقرأ في المساجد ويجتمع عليه، وأرى أن يقام وفيها: ومن قعد إليه فعلم أنه يريد قراءة سجدة قام عنه ولم يجلس معه.

وقال ابن القاسم سمعت مالكا يقول: إن أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه، رجل قد عرف وسمى؛ إلا أني لا أحب أن أذكره، وكان مساء يعني يسار الثناء عليه. قال ابن رشد: جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة، وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على أحدهما دون الأخرى لأن ذلك ليس من حدود الصلاة، إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف الصحابة المرضيين الكرام، وهو من محدثات الأمور.

وعن مالك نحو هذا القيام للدعاء، وفي الدعاء عند ختم القرآن، وفي الاجتماع للدعاء عند الانصراف من الصلاة، والتثويب للصلاة، والزيادة في الذبح على التسمية المعلومة، والقراءة في الطواف دائما، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب، وأشباه ذلك مما هو كثير في الناس: يكون الأمر واردا على الإطلاق فيقيد بتقييدات تلتزم، من غير دليل دل على ذلك. وعليه أكثر البدع المحدثات

(1)

.

وفي الحديث "لا يجعلن أحدكم للشيطان حظا من صلاته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه" وعن ابن عمر وغيره أنه سئل عن الإلتفات في الصلاة يمينا وشمالا فقال: نلتفت هكذا وهكذا، ونفعل ما يفعل الناس كأنه التزام عدم الإلتفات، ورآه من الأمور التي لم يرد التزامها.

وقال عمر: "واعجبا لك يا ابن العاص؛ لئن كنت تجد ثيابا أفكل الناس تجد ثيابا؟ والله لو فعلت لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت وانضح ما لم أر" هذا فيما لم يظهر الدوام فيه، فكيف مع الإلتزام؟

والأحاديث في هذا والأخبار كثيرة، جميعها يدل على أن التزام الخصوصات في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل، وإلا كان قولا بالرأي واستنانا بغير مشروع وهذه الفائدة أنبتت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم المر بالمقيد

(2)

.

(1)

الموافقات 3/ 160.

(2)

الموافقات 3/ 161.

ص: 204

"‌

‌ المسألة الخامسة عشرة

"

1944 -

مَا الْفِعْلُ مَطْلُوبٌ بِهِ بِالْكُلِّ

ذَلِكَ مَطْلُوب بِقَصْدٍ أَصْلِي

1943 -

وَقَدْ يَصِيرُ تَرْكُ هَذَا يُطْلَبُ

بِالْقَصْدِ ثَابِتًا إِذَا مَا يَغْلِبُ

1946 -

كَذَاكَ مَا التَّرْكُ بِهِ مَطْلُوبُ

بِالْكُلِّ مَوْجُودٌ بِهِ التَّرْتِيبُ

1947 -

مَعْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَبْقَى عَلَا

مَا كَانَ فِي النَّوْعَيْنِ قَصْدًا أَوَّلَا

1948 -

فَأَوَّلٌ يَكْفِيهِ فِي الْبَيَانِ

أَنْ جَاءَ فِي مَعْرِضِ الامْتِنَانِ

" المسألة الخامسة عشرة"

في بيان أن "ما" هو من "الفعل مطلوب به" أي بالأمر الشرعي "بالكل" هو "ذلك" الذي هو "مطلوب بقصد أصلي" سواء كان ذلك الفعل واجبا أو مندوبا أو مباحا "وقد يصير" بموجب ما يعرض فيه من المفاسد ومقتضاه "ترك هذا" الفعل مما "يطلب" شرعا "بالقصد" الذي كان "ثابتا" وكذلك "إذا ما يغلب" بذلك الذي يعرض فيه فيصرف به عن أصله.

"كذلك ما" من الأفعال "الترك به" أي فيه "مطلوب بالكل" وعلى الجملة فإنه - أيضا - "موجود" وثابت "به" أي فيه هذا "الترتيب" وذلك أي المطلوب الترك بالكل هو المطلوب الترك بالقصد الأول، وقد يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني.

و"مع" ذلك فإنهما لا يخرجان بهذا عن أصلهما بل "إن كل واحد" منهما "يبقى على ما كان" عليه "في النوعين" المذكورين - مطلوب الفعل ومطلوب الترك - من أنه مقصود "قصدا أولا"، وهذا حكم فيه جار على دوام. وهذا يتبين من أوجه:

"فـ" أما الذي هو "أول" هنا وهو ما كان مطلوبا بالكل فإنه "يكفيه" في تقرر هذا الأمر في شأنه و"في البيان" لذلك "أن جاء" وورد "في معرض" ومساق "الامتنان" على الخلق، وهذه الجهة - جهة الامتنان - لا تزول أصلا، وقد يزول الإسراف رأسا؛ وما هو دائم لا يزول على حال هو الظاهر في القصد الأول، بخلاف ما قد يزول؛ فإن المكلف إذا أخذ المباح كما حد له لم يكن فيه من وجوه الذم شيء، وإذا أخذه من دواعي هواه ولم يراع ما حد له صار مذموما في الوجه الذي اتبع فيه هواه، وغير مذموم في الوجه الآخر. وأيضا

ص: 205

1949 -

وَحَالُهُ ثَابِتَةٌ وَدَائِمَهْ

فَهْيَ لِقَصْدٍ أَوَّلٍ مُلَائِمَهْ

1950 -

وَمُقْتَضَى النُّصُوصِ فِي مَعْنَاهُ

فَإِنَّهُ مُشَيِّدٌ مَبْنَاهُ

فإن وجه الذم تضمن النعمة واندرجت تحته، لكن غطى عليها هواه. ومثاله أنه إذا تناول مباحا على غير الجهة المشروعة قد حصل له في ضمنه جريان مصالحه على الجملة، وإن كانت مشوبة فبمتبوع هواه؛ والأصل هو النعمة، لكن هواه أكسبها بعض أوصاف الفساد، ولم يهدم أصل المصلحة، وإلا فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح لأن البناء إنما كان عليه، فلم يزل أصل المباح هان كان مغمورا تحت أوصاف الاكتساب والاستعمال المذموم. فهذا أيضا مما يدل على أن كون المباح مذموما ومطلوب الترك إنما هو بالقصد الثاني لا بالقصد الأول. هذا هو الوجه الأول

(1)

.

"و" الوجه الثاني أن "حاله" أي حال هذا المطلوب فعله "ثابتة ودائمة" ولا يغيرها ما يرد على محلها من تلك العوارض، وبذلك "فهي لقصد أول ملائمة" وموافقة، "ومقتضى النصوص" الواردة في هذا الشأن واردة "في" تقرير "معناه" أي معنى هذا الذي ذكر من كون هذه الحال ثابتة ودائمة له "فإنه" أي المقتضي "مشيد" ورافع ومظهر"مبناه" وصورته ومن ذلك قوله - تعالى -:{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النّحل: 72] وقوله سبحانه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البَقَرَة: 243] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النّحل: 14] إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البَقَرَة: 185] فهذه الآيات وأشباهها تدل على أن ما بث في الأرض من النعم والمنافع على أصل ما بث؛ إلا أن المكلف لما وضع له فيها اختيار به يناط التكليف داخلتها من تلك الجهة الشوائب، لا من جهة ما وضعت له أولا؟ فإنها من الوضع الأول خالصة. فإذا جرت في التكليف بحسب المشروع فذلك هو الشكر، وهو جريها على ما وضعت أولا، وإن جرت على غير ذلك فهو الكفران، ومن ثم انجرت المفاسد وأحاطت بالمكلف، وكل بقضاء الله وقدره {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وفي الحديث "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا" فقيل: أيأتي الخير بالشر؟ فقال: "لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم" الحديث

(2)

.

(1)

الموافقات 3/ 163.

(2)

الموافقات 3/ 164.

ص: 206

1951 -

وَجِهَةُ الأَخْذِ لَهُ فِي الْوَاقِعِ

مُعْتَبَرًا فِي ذَاكَ قَصْدُ الشَّارعِ

1952 -

فَعِنْدَ ذَا يُرَى الْمُبَاحُ الْفِعْلِ

بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا لَنَا بِالْكُلِّ

وأيضا فباب سد الذرائع من هذا القبيل؛ فإنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب فعله، لعارض يعرض. وهو أصل متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفاصيله فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة، لأنهم اتفقوا على مثل قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البَقَرَة: 104] وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعَام: 108] وشبه ذلك. والشواهد فيه كثيرة.

وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب، الندب قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك حسبما تناولته أدلة التعمق والتشديد والنهي عن الوصال وسرد الصيام والتبتل وقد تقدم من ذلك كثير ومثله المطلوب طلب الوجوب عزيمة، قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك إذا كان مقتضى العزيمة فيه مشوشا وعائد على الواجب بالنقصان كقوله:"ليس من البر الصيام في السفر" وأشباه ذلك.

فالحاصل أن المطلوب بالقصد الأول على الإطلاق قد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني وهو المطلوب

(1)

.

"و" الوجه الثالث هو "جهة الأخذ له" أي لهذا المطلوب فعله بالكل "في الواقع" فإنه يكون "معتبرا في ذاك" الأخذ له "قصد الشارع" فالمكلف يأخذه وهو قاصد في ذلك الأخذ له موافقه قصد الشارع فيه هذا هو الأصل.

وبذلك فإنه يتناوله على الوجه المشروع، وينتفع به كذلك، ولا ينسى حق الله فيه، لا في سوابقه ولا في لواحقه، ولا في قرائنه "فعند" حصول "ذا" أي هذا الحال فإنه "يرى" أي يوجد ويقع "المباح الفعل بالجزء" كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والملبس "مطلوبا لنا بالكل" - كما تقدم تقرير ذلك وبيانه في المسألة الثانية من كتاب الأحكام - لأن المباحات إنما وضعها الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق، بحيث لا تقدح في دين ولا دنيا، وذلك يحصل إذا وقع الاقتصاد في شأنها ومن هذه الجهة جعلت نعما، وعدت مننا، وسميت خيرا ومننا.

(1)

الموافقات 3/ 165.

ص: 207

1953 -

لَاكِنَّهُ إِنْ بَلَغَ الإِسْرَافَا

ذُمَّ لِلإِلْحَاقِ بِمَا قَدْ نَافَا

" لاكنه" أي لكن المكلف "إن بلغ" في التصرف فيها "الإسرافا" - الألف للإطلاق - يعني درجة الاسراف ومجاوزة الحد المحدود بمقتضى تلك المصالح "ذم" شرعا لما في ذلك التصرف من الصد عن وجوه الحقوق السابقة واللاحقة والمقارنة أو عن بعضها، و"للإلحاق" الحاصل في ذلك الفعل "بما" من الأفعال قد "نافا" وخالف المطلوب فعله، إذ دخلت فيه المفاسد بدلا عن المصالح في الدنيا، وفي الدين. وإنما حصل ذلك بسبب تحمل المكلف منها ما لا يحتمله، فإنه إذا كان يكتفي منها بوجه ما، أو بنوعين ما:

أحدهما أن هذه الظواهر التي نصت على أنها نعم مجردة من الشوائب إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها وهو المطلوب الأول أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك وهذا الثاني لا يصح إذ لا يمكن في العقل ولا يوجد في السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه فإنا إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنعم خالصة كما أنها ليست بنقم خالصة فإخبار الله عنها بأنها نعم وأنه امتن بها وجعلها حجة على الخلق ومظنة لحصول الشكر مخالف للمعقول ثم إذا نظرنا في تفاصيل النعم كقوله {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} [النباء: 6، 7] إلى آخر الآيات وقوله {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النحل: 10] إلى آخر ما ذكر فيها وفي غيرها أفيصح في واحدة منها أن يقال إنها ليست كذلك بإطلاق أو يقال إنها نعم بالنسبة إلى قوم ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين هذا كله خارج عن حكم المعقول والمنقول والشواهد لهذا أن القرآن أنزل هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور وأنه النور الأعظم وطريقه هو الطريق المستقيم وأنه لا يصح أن ينسب إليه خلاف ذلك مع أنه قد جاء فيه {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البَقَرَة: 26] وأنه {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البَقَرَة: 2] لا لغيرهم وأنه {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)} [لقمان: 3] إلى أشباه ذلك ولا يصح أن يقال أنزل القرآن ليكون هدى لقوم وضلالا لآخرين أو هو محتمل لأن يكون هدى أو ضلالا نعوذ بالله من هذا التوهم لا يقال إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين في أن الحياة الدنيا لعب ولهو وأنها سلم إلى السعادة وجد لا هزل {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} [الأنبياء: 16]. لأنا نقول: هذا حق

ص: 208

1954 -

وَالثَّانِ مِنْ بَيَانِهِ إِنْ لَمْ يَرِدْ

بِهِ امْتِنَانٌ فَيُرَى مِمَّا اعْتُمِدْ

إذا حملنا التعرف بالنعم على ظاهر ما دلت عليه النصوص، كما يصح في كون القرآن هدى وشفاء ونورا كما دل عليه الإجماع وما سوى ذلك فمحمول على وجه لا يخل بالقصد الأول في بث النعم

(1)

.

والوجه الثاني: أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما ذلك من جهة وضع المكلف؛ لأنها لم تصر نقما في أنفسها، بل استعمالها على غير الوجه المقصود فيها هو الذي صيرها كذلك، فإن كون الأرض مهادا والجبال أوتادا، وجميع ما أشبهه نعم ظاهرة لم تتغير، فلما صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير مأخذ صارت عليهم وبالا؛ وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة، لا هي، لأنهم استعانوا بنعم الله على معاصيه. هذا هو شأن المطلوب فعله بالكل

(2)

.

"و" أما "الثان" وهو المطلوب تركه بالكل "فـ" إن "من بيانه" الذي يتضح به أنه لا يخرجه ما يرد عليه من موجبات كونه مطلوبا فعله عن أنه مطلوب بالقصد الأول "أنـ"ـه "لم يرد به" شرعا "امتنان" على الخلق، كما أنه لم يجيء في معرض تقدير النعم "فيرى" أي يوجد وهو "مما اعتمد" وقصد طلبه شرعا، كما في القسم الأول، فلم يقع امتنان باللهو من حيث لهو، ولا بسبجه من جهة ما يسبجه، بل من جهة ما فيه من الفائدة العائدة لخدمة ما هو مطلوب فإن هذا القسم خارج عنها بالجملة. ويحقق ذلك - أيضا - أن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها خلقا واختراعا فحصلت المنة بها من تلك الجهة، ولا تجد اللهو أو اللعب تهيئة تختص به في أصل الخلق، وإنما هي مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة. ألا ترى إلى قوله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعرَاف: 32] وقال: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)} [الرحمن: 10] إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22] وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] إلى أشباه ذلك، ولا تجد في القرآن ولا في السنة تعرف الله إلينا بشيء خلق للهو واللعب

(3)

.

(1)

الموافقات 3/ 166/ 167.

(2)

الموافقات 3/ 167.

(3)

الموافقات 3/ 169.

ص: 209

1955 -

وَكَوْنُهُ لِلَّهْوِ يُعْزَى وَاللَّعِبْ

وَأَنَّهُ يَخْدُمُ ضِدَّ مَا طُلِبْ

1956 -

وَذَا عَلَيْهِ تَنْبَنِي أُصُولُ

يُرَى بِهَا لِفِقْهِهَا تَفْصِيلُ

1957 -

كَالْفَرْقِ بَيْنَ مُسْتَجَازِ الْفِعْلِ مَعْ

عَوَارِضِ التَّرْكِ وَمَا لَيْسَ يَسَعْ

هذا هو - بإيجاز - الوجه الأول المبين لما ذكر. "و" الوجه الثاني هو "كونه" أي كون ما ذكر من المطلوب تركه بالكل "للهو يعزى" أي ينسب "واللعب" الذي سماه الشارع باطلا، كقوله - تعالى -:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجُمُعة: 11] يعني الطبل أو المزمار أو الغناء.

وقال في معرض الذم للدنيا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعَام: 32] الآية. وفي الحديث: "كل لهو باطل إلا ثلاثة الزوجة والفرس والآت الرمي" فعده مما لا فائدة فيه إلا الثلاثة، فإنها لما كانت تخدم أصلا ضروريا أو لاحقا به استثناها، ولم يجعلها باطلا.

"و" الوجه الثالث هو "أنه" أي المطلوب الترك بالكل "يخدم ضد ما طلب" شرعا وبذلك صار مطلوب الترك، لأنه ليس فيه إلا قطع الزمان في غير فائدة، وليس له قصد ينتظر حصوله منه على الخصوص، فصار الغناء المباح - مثلا - ليس بخادم لأمر ضروري، ولا حاجي ولا تكميلي، بل قطع الزمان به ضد عما هو خادم لذلك، فصار خادما لضده

(1)

.

"فصل"

فإن قيل هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه، لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول، فالواجب العمل على ما يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح، أو ترك الاستعمال، وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر، إلا تعليق الفكر بأمر صناعي وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء.

فالجواب عن هذا هو أنه غير صحيح "و" غير صواب، بل "ذا" التقرير والبحث وما يثمره "عليه تنبني" وتؤسس "أصول" علمية "يرى" أي يوجد ويثبت "بها لـ" أجل "فقهها" أي الذي تثمره "تفصيل" في الأحكام المتعلقة بها، وذلك "كالفرق بين" ما هو من الأفعال المطلوبة بالكل "مستجاز" أي مباح "الفعل" وإن "مع" ورود "عوارض الترك" عليه المقتضية للفساد "وما" من الأفعال "ليس يسع" أي يجوز ويسوغ فيه ذلك مع وجود تلك العوارض.

وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا دخلتها المناكر، كالبيع، والشراء والمخالطة

(1)

انظر الأصل.

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر؛ بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل وهي إما مطلوب بالأصل وإما خادم للمطلوب بالأصل؛ لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج، أو تكليف ما لا يطاق وذلك مرفوع عن هذه الأمة فلا بد للإنسان من ذلك لكن مع الكف عما يستطاع الكف عنه. وما سواه فمعفو عنه، لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل. وقد بسطه الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الأحياء على وجه أخص من هذا. فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد

(1)

.

وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه - فإن قيل فالحمام دار يغلب المنكر. فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه أن يكون مكروها. فكيف أن يكون جائزا؟ قلنا الحمام موضع تداو وتطهر، فصار بمنزلة النهر، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات، وتظاهر المنكرات، فإذا احتاج إليه المرء دخله، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه؟ والمنكر اليوم في المساجد والبلدان، فالحمام كالبلد عموما، وكالنهر خصوصا هذا ما قاله. وهو ظاهر في هذا المعنى.

وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها. وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج؛ وأما إذا لم يؤد إليه وكان في الأمر المفروض مع النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر، ويتجاذبها طرفان: فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحا. ويدخل أيضا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب، فإن لاعتبار الأصل رسوخا حقيقيا، واعتبار غيره تكليمي من باب التعاون. وهو ظاهر.

أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل فعلى خلاف ذلك، لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء وإن قلنا إنه مباح، إذا حضره منكر أو كان في طريقه، لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه، ولا هو خادم لمطلوب الفعل فلا يمكن والحالة هذه أن يستوفي المكلف حظه منه، فلا بد من تركه جملة؛ وكذلك اللعب وغيره. وفي كتاب الأحكام

(1)

الموافقات 3/ 173.

ص: 211

1958 -

وَمَيْزِ مَا يُقْلَبُ بِالنِّيَاتِ

مِنَ الْمُبَاحِ لِلتَّعَبُّدَاتِ

بيان لهذا المعنى في فصل الرخص، وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها أو اكتسابها

(1)

.

"فصل"

"و" مما ينبني على ذلك - أيضا - "ميز" أي عزل وفرز "ما" من الفعال "يقلب" ويغير "بالنيات" المعقودة للعبادة "من المباح" ويصير بذلك "لـ" درجة "التعبدات" أي العبادات على الإطلاق.

وذلك أن ما كان خادما لمأمور به تصور فيه أن ينقلب إليه، فإن الأكل والشرب والوقاع وغيرها في إقامة ما هو ضروري لا فرق في ذلك بين كون التناول في الرتبة العليا من اللذة والطيب وبين ما ليس كذلك وليس بينهما تفاوت يعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ، أو من جهة الخطاب الشرعي فإذا أخذ من جهة الحظ فهو المباح بعينه، وإذا أخذ من جهة الإذن الشرعي فهو المطلوب بالكل؛ لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب، وطلبه بالقصد الأول. وهذا التقسيم قد مر بيانه في كتاب الأحكام.

فإذا ثبت هذا صح في المباح الذي هو خادم المطلوب الفعل انقلابه طاعة؛ إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ أو من جهة الإذن. وأما ما كان خادما لمطلوب الترك فلما كان مطلوب الترك لم يصح انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل؛ لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن، وقد فرض عدم الإذن فيه بالقصد الأول. وإذا أخذ من جهة الحظ فليس بطاعة، فلم يصح فيه أن ينقلب طاعة. فاللعب مثلا ليس في خدمة المطلوبات كأكل الطيبات وشربها؛ فإن هذا داخل بالمعنى في جنس الضروريات وما دار بها، بخلاف اللعب، فإنه داخل بالمعنى في جنس ما هو ضد لها. وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه خاصة، لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقة، وقد مر بيان ذلك. وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح، فإن من الناس من يقول إنه ينقلب بالقصد طاعة. وإذا عرض على هذا الأصل تبين الحق فيه إن شاء الله تعالى

(2)

.

كما تبنى على هذا الأصل - المبحث - فوائد أخرى، انظرها في الأصل - الموافقات - لاستتمام الفائدة.

(1)

الموافقات 3/ 174/ 175.

(2)

الموافقات 3/ 176/ 177.

ص: 212

"‌

‌ المسألة السادسة عشرة

"

1959 -

قَدْ مَرَّ أَنَّ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ مَعَا

لَيْسَا عَلَى حَدِّ سَوَاءٍ وَقَعَا

1960 -

وَمِنْ هُنَا فَلْيُتَصَوَّرْ مُقْتَضَا

مَا جَاءَ فِي تَنْوِيعِ جِنْسِ الاقْتِضَا

1961 -

إِلَى كرَاهَة وَللتَّحْرِيمِ

وَالنَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بِالتَّقْسِيمِ

1962 -

وَالاقْتِضَاءُ بِاعْتِبَارٍ ثَانِ

وَمَلْحَظٍ مُخَصِّصٍ قِسْمَانِ

" المسألة السادسة عشرة"

في أن الأحكام الشرعية باعتبار مقتضى درجة الخطاب الشرعي الدال عليها تنقسم باعتبار ذلك المقتضى إلى الأحكام الأربعة المعروفة، وقد تنقسم إلى واجب؛ ومحرم فقط باعتبار آخر.

وبيان ذلك أنه "قد مر" ومضى قبل في المسألة الثالثة عشرة "أن" درجة مقتضى "الأمر" الشرعي ليست واحدة "و" كذلك "النهي" في هذا الشأن، فهما "معا" في ذلك "ليسا على حد سواء" أي متساو "وقعا" ووجدا، بل مقتضى كل واحد منهما على مراتب حصلت على حسب المصالح الناشئة من امتثال الأمر، واجتناب النهي، والمفاسد الناشئة عن ذلك.

"ومن هنا" وبناء على هذا الاعتبار والتقدير "فليتصور" ويدرك "مقتضى" ومعنى "ما جاء في "الشريعة من "تنويع" يعني من حصر أنواع "جنس الاقتضاء" أي الطلب الشرعي في أنواع، وقسمه إلى ذلك، فإنه مقسوم "إلى كراهة" وهو ما اقتضى الخطاب الشرعي تركه اقتضاء غير جازم.

"وللتحريم" وهو ما اقتضى الخطاب الشرعي تركه اقتضاء جازما "و" إلى "الندب" وهو ما اقتضى الخطاب الشرعي فعله اقتضاء غير جازم؛ "و" إلى "الوجوب" وهو ما اقتضى الخطاب الشرعي فعله اقتضاء جازما، وذلك "بالتقسيم" المبني على ما تقدم ذكره من الإقتضاء "و" قد يؤخذ "الاقتضاء" الشرعي باعتبار آخر "ثان و" هو "ملحظ" أي اعتبار "مخصص" إذ هو مبني على طرح ما تقدم اعتباره من تفاوت المصالح المذكورة، وعلى الاقتصار على اعتبار الإقتضاء المجرد - الطلب الشرعي المجرد - وبذلك يبقى الحكم تابعا لذلك للاقتضاء الذي ليس إلا "قسمان

ص: 213

1963 -

إِذْ هُوَ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ أَصْلِهِ

إِمَّا لِتَرْكِ الشَّيْءِ أَوْ لِفِعْلِهِ

1964 -

وَهَذَا الاعْتِبَارُ مَرْقىً عَالِ

لَمْ يَرْقَهُ إِلَّا أُولُو الأَحْوَالِ

1965 -

وَهُمْ وَإِنْ تَجَمَّعُوا صِنْفَانِ

إِذْ لَهُمُ فِي ذَاكَ مَأْخَذَانِ

1966 -

فَنَاظِرٌ فِي أَخْذ لِلآمِرِ

وَنَاظِرٌ لِلنَّهْيِ وَالأَوَامِرِ

إذ هو "أي الاقتضاء المذكور "باعتبار حكم" ومقتضى "أصله" اللغوي ومدلوله "أما لترك الشيء" أي فعله إن كان متضمنه طلب الكف "أو لفعله" إن كان متضمنه طلب الفعل - بمعنى إدخاله للوجود - ولا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب، ولا بين محرم ومكروه، "وهذا الاعتبار مرقى" أي موضع رقي "عال" رفيع "لم يرقه" أي لم يصعده "إلا أولوا" أي أرباب وأصحاب "الأحوال" من الصوفية ومن حذا حذوهم ممن أطرح مطالب الدنيا جملة، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة، إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما، ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما، بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك، وعلى المكروه: أنه محرم، وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص. "وهم وإن تجمعوا" على اقتفاء هذا المسلك والأخذ بهذا الاعتبار فإنهم من جهة المدرك والمأخذ المعتمد عليه في اختيار هذا الاعتبار والمضي على مقتضاه "صنفان" اثنان "إذ لهم في ذاك مأخذان" مختلفان أخذ كل واحد من الصنفين من أحدهما، واعتبره مستقاه في هذا الشأن، "فـ" كان منهم من هو "ناظر في أخذه" بهذا المسلك والاعتبار "لـ" جهة "الآمر" سبحانه وتعالى، وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الإقتضاء، وهو شامل للأقسام كلها، والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي، وذلك قبيح شرعا، دع القبيح عادة وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم أو عقاب، بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة. ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار، حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات وعد كل مخالفة كبيرة، وهذا رأي أبي المعالي في "الإرشاد" فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي، وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها، مع قطع النظر عن الآمر والناهي. وما رآه يصح في الاعتبار

(1)

. هذا هو الصنف الأول ومأخذه.

"و" أما الصنف الثاني فإنه الذي هو "ناظر لـ" لجهة معنى "النهي والأوامر"

(1)

الموافقات 3/ 179/ 180.

ص: 214

1967 -

إِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّقَرُّبِ

أَوْ مَا عَلَيْهَا حَاصِلُ التَّرَتُّبِ

الشرعية، وذلك لاعتبارات، إذ قد يحصل ذلك "إما لما فيها" يعني في الامتثال لمقتضاها "من التقرب" به إلى الله - تعالى - فإن امتثال الأوامر واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه - سبحانه - كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك.

فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب وبين ما هو مندوب، لأن الجميع يقتضيه، حسبما دلت عليه الشريعة، كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده، لأن الجميع يقتضي نقيض القرب، وهو إما البعد، وإما الوقوف عن زيادة القرب، والتمادي في القرب هو المطلوب فحصل من تلك أن الجميع على وزان واحد في القصد التقرب والهرب عن البعد

(1)

. وهذا هو الاعتبار الأول.

"أو" يحصل بالنظر إلى "ما" هو "عليها حاصل الترتب" فيه إضافة الصفة للموصوف أي الترتب الحاصل لجلب المصالح ودرء المفاسد عليها عند وقوع الامتثال لمقتضاها، وضد ذلك عند المخالفة فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد، فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب، كالأول في القصد إلى التقرب. وأيضا فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى مكمل خادم، ومكمل مخدوم، وما هو كالصفة والموصوف فمتى حصلت المندوبات كلمت الواجبات، وبالضد فالأمر راجع إلى كون الضروريات آتية على أكمل وجوهها، فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات، فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار، فحكم عليها بحكم واحد. وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدا لها وأنسا بها، فإن الأنس بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها، حتى قيل:"المعاصي بريد الكفر"، ودل على ذلك قوله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] وتفسيره في الحديث وحديث: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات" إلخ، فقوله "كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه" وفي قسم الإمتثال قوله:"وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه" الحديث

(2)

. هذا هو الاعتبار الثاني.

(1)

الموافقات 3/ 179/ 180.

(2)

الموافقات 3/ 181.

ص: 215

1968 -

أَوْ جِهَةِ الْعَدْلِ وَمَا قَد تَبِعُوا

إِلَى اصْطِلَاحٍ لَا الْمَعَانِي يَرْجِعُ

" أو" يحصل لـ"جهة" إقامة "العدل" في العبادة، بصرف جميع نعمه سبحانه وتعالى إلى شكره. وذلك بالنظر إلى مقابلة النعمة بانشكران أو الكفران، من حيث كان امتثال الأوامر واجتناب النواهي شكرانا على الإطلاق، وكان خلاف ذلك كفرانا على الإطلاق فإذا كانت النعمة على العبد ممدودة من العرش إلى الفرش بحسب الإرتباط الحكمي وما دل عليه قوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجَاثيَة: 13] وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا} [إبراهيم: 32] إلى قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] وأشباه ذلك، فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك، أو كانت سببا في وصولها إليك، والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم، فحصل شكر النعم التي في السموات والأرض وما بينهما وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك أو كانت سببا فيها كذلك أيضا

(1)

. وهذا هو الاعتبار الثالث.

وهذا الذي عليه الصوفية في هذا الشأن "وما قد تبعوا" فيه من الاعتبارين المذكورين ليس خلافا حقيقيا لما عليه أهل العلم الشرعي من الفقهاء والأصولين في هذا المقام، وإنما هو خلاف راجع "إلى" مجرد "اصطلاح" لهم في ذلك فقط، "لا" خلاف "المعاني" التي قررها علياء الشريعة "يرجع" إذ هذا النظر قد اقتضى انقسام الأوامر والنواهي - كما يقول الجمهور - بحسب التصور النظري، وإنما أخذوا في نمط آخر، وهو أنه لا يليق بمن يقال له:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود، في التوجه إلى الواحد المعبود. وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه، وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ إذ ليس للعبد حق على السيد من حيت هو عبد، بل عليه بذل المجهود، والرب يفعل ما يريد

(2)

.

(1)

الموافقات 3/ 181/ 182.

(2)

الموافقات 3/ 182.

ص: 216

"‌

‌ المسألة السابعة عشرة

"

1969 -

إِنَّ الأَوَامِرَ مَعَ النَّوَاهِي

مِنْ حَيْثُ مَا فِيهِنَّ حَقُّ اللهِ

1970 -

يُمْكِنُ أَخْذُهَا لِلامْتِثَالِ

مُجَرَّدًا عَنْ مُقْتَضَى الأحْوَالِ

1971 -

وَأَخْذُهَا مِنْ حَيْثُ مَا تَعَلَّقَا

بِشَأْنِهَا لِلْعَبْدِ حَقٌّ مُطْلَقَا

1972 -

فَالْمَأْخَذُ الثَّانِي عَلَى اعْتِبَارِ

حَقِّ الْعِبَادِ فِي الأُمُورِ جَارِ

" المسألة السابعة عشرة"

في أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق لله وما هو حق للعباد، وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله، كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد، وبناء على هذا فإن الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هو حق لله - تعالى - مجردا عن النظر في غير ذلك، ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد. وبيان ذلك "إن الأوامر مع النواهي من حيث" وجهة "ما" تقرر "فيهن" وثبت فيهن جميعا وهو "حق الله" سبحانه وتعالى "يمكن" ويصح شرعا "أخذها لـ" أجل "الامتثال" لمقتضاها "مجردا عن" اعتبار "مقتضى وحكم "الأحوال" التي تعتريها من جهة ما فيها من حقوق العباد. "و" كذلك يمكن "أخذها من حيث" أي جهة "ما تعلقا" - الألف للإطلاق - "بشأنها" وتقرر فيها وهو "للعبد حق مطلقا" سواء كانت مما غلب فيه حق العبد أو مما غلب فيه حق الله - تعالى - "فـ" أما هذا "المأخذ الثاني" فإنه مبني "على اعتبار حق العباد في الأمور" التكليفية، وهو على ذلك "جار" أمره. ووجه ذلك أن المكلف إذا سمع قول الله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عِمرَان: 97]- مثلا - فإنه ينظر - بناء على هذا المأخذ - في نفسه بالنسبة إلى قطع الطريق وإلى زاد يبلغه، وإلى مركوب يستعين به، وإلى الطريق إن كان مخوفا أو مأمونا وإلى استعانته بالرفقة والصحبة، لمشقة الوحدة وغرورها، وإلى غير ذلك من الأمور التي تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية أو بالمفسدة، فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات انتهض للامتثال، وإن تعذر عليه ذلك علم أن الخطاب لم ينحتم عليه.

(1)

(1)

الموافقات 3/ 185.

ص: 217

1973 -

وَالْمَأْخَذُ الأَوَّلُ جَارِي الْقَصْدِ

عَلَى اطِّرَاحِهِ لِحَقِّ الْعَبْدِ

1974 -

وَهْوَ صَحِيحٌ بِالدَّلِيلِ الآتِي

مِنْ مُقْتَضَى الأخْبَارِ وَالآيَاتِ

" و" أما "المأخذ الأول" فإنه "جاري القصد" - فيه إضافة الصفة للموصوف - يعني القصد جار فيه "على اطراحه" أي المكلف، ونبذه "لحق العبد" في مقتضى الأوامر والنواهي، "و" هذا المأخذ "هو" مأخذ "صحيح" شرعا "بالدليل الآتي" أي الوارد "من مقتضى" وحكم "الأخبار" أي الأحاديث النبوية الواردة في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم:"احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. جف القلم بما هو كائن. فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه" الحديث؛ فهو كله نص في ترك الاعتماد على الأسباب، وفي الاعتماد على الله، والأمر بطاعة الله. وأحاديث الرزق والأجل كقوله:"اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب في ابن صياد: "إن يكنه فلا تطيقه".

وقال: "جف القلم بما أنت لاق" وقال: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها، ولتنكح فإن لها ما قدر لها" وقال في العزل "ولا عليكم أن لا تفعلوا، فإنه ليست نسمة، كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة" وفي الحديث "المعصوم من عصم الله" وقال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزني أدرك ذلك لا محالة" إلى سائر ما في هذا المعنى مما هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب، وأنها لا تملك شيئا، ولا ترد شيئا، وأن الله هو المعطي والمانع، وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى.

"و" ما ورد من "الآيات" الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق، وأن الله ضمان الرزق، كان ذلك مع تعاطي الأسباب أولا كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذّاريَات: 56، 57] وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)} [طه: 132].

فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله وحق العباد فالمقدم حق الله، فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى، والرزق من أعظم حقوق العباد، فاقتضى الكلام أن من

ص: 218

1973 -

وَمَرَّ فِي الأَسْبَابِ وَالْحُقُوقِ

مِنْ ذَاكَ مَا يَكْفِي أُوْلي التَّحْقِيقِ

"‌

‌ المسألة الثامنة عشرة

"

1976 -

أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَرَدَا فِي فِعْلِ

ذَا لِتَعَاوُنٍ وَذَا لِلأَصْلِ

اشتغل بعبادة الله كفاه الله مؤونة الرزق. وإذا ثبت هذا في الرزق ثبت في غيره من سائر المصالح المجتلبة، والمفاسد المتوقاة، وذلك لان الله قادر على الجميع. وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] وفي الآية الأخرى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعَام: 17] وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطّلَاق: 3] بعد قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (3)} [الطّلَاق: 2، 3] فمن اشتغل بتقوى الله تعالى فالله كافيه. والآيات في هذا المعنى كثيرة

(1)

.

(و) قد "مر في" المسألة السابعة من المسائل الموردة "في" شأن "الأسباب والحقوق وذاك ما" من البيان لهذا الأمر "يكفي أولى" أصحاب "التحقيق" العلمي.

واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما يرجع إلى نفس المكلف، لا إلى غيره؛ أما ما كان من حق غيره من العباد فهو بالنسبة إليه من حقوق الله - تعالى -.

"المسألة الثامنة عشرة"

في أن النهي والأمر قد يردان على محل واحد أحدهما في شأن التعاون والآخر في شأن الأصل المقرر في محل الورود فيقع بينهما التعارض الموجب لوقوع الخلف بين أهل العلم في حكم ذلك المحل.

وبيان ذلك أنه ربما قد جاء "أمر ونهي" و"وردا في" شأن "فعل" واحد "وذا" الأمر راجع "لـ" جهة الـ"تعاون" بين الخلق في جلب المصالح ودرء المفاسد "وذا" النهي راجع "لـ" جهة "الأصل" وهو الحكم المقرر في ذلك المحل أو العكس، وهو رجوع النهي إلى جهة التعاون، والأمر إلى جهة الأصل. وعلى كل حال يقع التعارض بينهما في الحكم الذي يقتضيانه في المحل الذي تواردا عليه، وبذلك يرد في هذا الشأن

(1)

الموافقات 3/ 186/ 187.

ص: 219

1977 -

هَلْ جَانِبُ التَّعَاوُنِ الْمُعْتَبَرُ

أَمْ جِهَةُ الأَصْلِ هُنَا يُسْتَفْسَرُ

1978 -

فَإِنْ يَكُ الأَمْرُ لِلأصْلِ الْوَاقِعِ

عَادَ لِبَابِ السَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

1979 -

وَالْخُلْفُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الأَصْلِ

لِأَنَّهُ بِالانْضِبَاطِ أَصْلِي

1980 -

أَوْ جِهَةُ التَّعَاوُنِ الْمُكَمِّلِ

إِذْ فِي سِوَاهُ فَتْحُ بَابُ الْحِيَلِ

1981 -

وَالْمَيْلُ لِلتَّفْصِيلِ فَالذِي يُرَا

تَعَاوُنٌ لَدَيْهِ غَالِبًا جَرَا

السؤال عن الجانب الراجح اعتباره في هذا المقام، فيقال:"هل جانب التعاون" هو "المعتبر" والمعتد بمقتضاه في هذا الموضع "أم جهة الأصل" هي المعتبرة فيه "هنا" في هذا المقام "يستفسر" ويستفهم عن هذا الأمر؟ أما اعتبارهما معا من جهة واحدة فلا يصح، ولذلك فإنه لا بد في هذا الشأن من التفصيل، الذي هو أن الأمر الشرعي إما أن يرجع إلى في ذلك الأصل أو يرجع إلى جهة التعاون.

"فإن يك" ذلك "الأمر" راجعا مقتضاه "لـ" جهة "الأصل" و"الواقع" الشرعي في المحكوم عليه، ولكنه معارض بالنهي المأخوذ من الأمر بالتعاون الذي يسقط بالعمل بذلك الأمر، "عاد" أمر النظر في ذلك "لباب السد" والإغلاق "للذرائع" أي الوسائل الموصلة إلى الحرام؛ ومقتضاه منع الأمر الجائز لئلا يتوسل به إلى أمر ممنوع؛ "و" هذا الأصل - سد الذرائع - قد وقع "الخلف فيه" يعني في العمل به على أوجه ثلاثة أحدها: العمل بمقتضى الأصل "باعتبار"ـه أي هذا "الأصل" على ما يعارضه هو النهي المذكور؛ "لأنه" موصوف "بالانضباط" والاطراد لجريا نه تحت دليله العام وبذلك فإنه "أصلي" يعني أنه جار على ما يقتضيه أصله فيه.

ثانيهما: اعتبار جانب "أو جهة التعاون" والتعاضد لين الخلق الذي هو "المكمل" للمقاصد الشرعية، وذلك لرجحانه؛ "إذ في سواه" وهو الأصل المذكور - يعني في العمل به - "فتح باب الحيل" ثم إن فيه التأدية إلى مآل ممنوع، والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها.

"و" ثالثها: "الميل للتفصيل" في ذلك، وهو تفصيل مبتناه على اعتبار الغلبة؛ "فـ" الموضع "الذي يرا" أي يوجد ويكون الـ"تعاون" الممنوع "لديه" أي فيه أمرا "غالبا" قد "جرى" ووقع؛ بحيث يكون أغلب جزئيات ذلك الموضع واقعة تحته.

ص: 220

1982 -

فَذَا اعْتِبَارُ الأَصْلِ فِيهِ وَاجِبُ

أَوْ لَا فَالاجْتِهَادُ أَمْرٌ لَازِبُ

1983 -

وَحَيْث الأمْرُ لِلتَّعَاوُنِ اسْتَقَرْ

ظَاهِرُهُ يَقْبُحُ فِي بَعْضِ الصُّوَرْ

1984 -

لَاكِنْ إِذَا أُحِلَّ فِي مَحَلِّهِ

كَانَ صَحِيحًا ثَابِتًا فِي أَصْلِهِ

1985 -

وَبَابُهُ الْحُكْمَ عَلَى مَا خصَّا

لِأجْلِ مَا عَمَّ وَذَاكَ نَصَّا

1986 -

كَمَنْعِ بَيْعٍ حَاضِرٍ لِبَادِ

وَفِي تَلَقِي الرَّكبِ ذَاكَ بَادِ

" فذا" الموضع "اعتبار" مقتضى "الأصل" ومفاده فيه أمر "واجب" إذ لو اعتبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة، وهو أمر باطل، فما أدى إليه فهو باطل مثله.

فإن لم يكن جانب التعاون فيه غالبا "أو لا" يرى كذلك "فـ" إن "الاجتهاد" هو المصير إليه في شأنه، وهو "أمر لازب" أي لازم في شأنه.

"و" أما "حيث" يكون "الأمر للتعاون" أمرا "استقر ظاهره" لكن جهته ليست غالبة فإنه "يقبح في بعض الصور" لأنه إلغاء لجهة النهي ليتوصل إلى المأمور به تعاونا، وطريق التعاون متأخر في الاعتبار عن طريق إقامة الضروري والحاجي لأنه تكميلي، وفاعل ذلك ما هو إلا بمثابة الغاصب والسارق الذي أتى ذلك ليتصدق بذلك على المساكين أو يبني قنطرة. "لكن" هذا ليس حكما عاما فإن تقديم التعاون وترجيحه "إذا أحل في محله" ونزل في منزلته التي يجري عليه فيها الطلب "كان صحيحا ثابتا" على ما تقرر له "في أصله" الشرعي وهو الطلب "و" يعلم أنه نزل منزلته وأحل محله إذا كان "بابه" والأصل الجاري مقتضاه عليه هو "الحكم على ما خصا" يعني على المنفعة الخاصة "لأجل ما عم" من المنافع "وذاك" أمر ثابت "نصا" من الشارع، وذلك "كمنع بيع" شخص "حاضر" أي ساكن بالحاضرة "لباد" أي لمن هو من سكان البادية، فإنه في الأصل منع من النصيحة إلا أنه إرفاق بأهل الحضر.

"و" مثله ما ورد من المنع الوارد "في تلقي الركب" جمع راكب، والمراد بهم - هنا - الذين يحملون السلع من البادية إلى المدينة، ومعنى تلقيهم - هنا - إستقبالهم قبل وصولهم إلى السوق والاشتراء منهم وقبل معرفتهم الأسعار. و"ذاك" المنع كالذي سبقه "باد" موجبه، وهو الارتفاق الذي هو ضروري أو حاجي لأهل السوق. وتضمين الصناع

ص: 221

"‌

‌ الفصل الرابع" في العموم والخصوص وفيه مقدمة ومسائل

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1987 -

الْقَصْدُ بِالْعُمُومِ حَيْثُ أُطْلِقَا

هُنَا الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ مُطْلَقَا

1988 -

وَذَا عَلَى الأدِلَّةِ الْمُسْتَعْمَلَهْ

مَبْنَاهُ وَهْيَ مَا مَضَتْ مُفَصَّلَهْ

قد يكون من هذا القبيل، وله نظائر كثيرة. فإن جهة التعاون هنا أقوى. وقد أشار الصحابة على الصديق - إذ قدموه خليفة - بترك التجارة والقيام بالتحريف على العيال، لأجل ما هو أعم في التعاون، وهو القيام بمصالح المسلمين، وعوضه من ذلك في بيت المال. وهذا النوع صحيح كما تفسر والله أعلم

(1)

.

"الفصل الرابع"

وهو معقود "في" بيان أحوال وأحكام "العموم والخصوص وفيه" أي هذا الفصل لبيان ما ذكر تورد "مقدمة" في بيان المقصود من العموم والخصوص - هنا - "ومسائل" وهي اثنتا عشرة مسألة.

"المقدمة" - بفتح الدال وكسرها - وهي معقودة في بيان أن المراد بالعموم ليس هو ما دلت عليه الألفاظ العامة فقط، وإنما "القصد بالعموم حيث أطلقا" وذكر "هنا" هو "العموم المعنوي" وهو ما ثبت شموله وعمومه "مطلقا" سواء كانت له صيغة تخصه تدل عليه أو لا؛ فإذا قلنا في وجوب الصلاة وغيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره أنه عام، فإنما معنى ذلك، أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم.

"وذا" العموم متوسل إليه بالاستقراء، وبذلك فهو "على" مقتضى "الأدلة المستعملة" هنا، "مبناه" أي بناؤه، "وهي ما" أي الأدلة الاستقرائية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم والتي "مضت" أي مضى ذكرها في المقدمات "مفصلة" ومبينة.

في أنه إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فإنه لا يؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال.

(1)

الموافقات 3/ 193.

ص: 222

" المسألة الأولى"

1989 -

وَحَيْثُ مَا يَثْبُتُ أَصْلٌ عَمَّا

أَوْ مُطْلَق وَعَارَضَتْهُ حُكْمَا

1990 -

قَضَايَا الأَعْيَانِ فَلَا يُوَثِّرُ

فِيهِ وَيَبْقَى حُكْمُهُ الْمُقَرَّرُ

1991 -

وَمِثْلُهَا حِكَايَةُ الأحْوَالِ

وَذَا لِوَجْهَيْنِ فِي الاسْتِدْلَالِ

1992 -

مِنْ جِهَةِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ

وَجِهَةِ الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ

" المسألة الأولى"

"و" بيان ذلك أنه "حيث ما" أي في أي موضع أو باب فقهي "يثبت أصل عما" - الألف للإطلاق - أي عام وشامل وهو حال الأصول كلها، وإنما وصفه - أي الأصل - بذلك لبيان الواقع، أو لإتمام البيت.

"أو" أصل "مطلق" في الذي دل عليه من حكم "وعارضته حكما" أي من جهة مقتضاه "قضايا الأعيان" وهي الأحكام المخصوصة بمواردها المعينة المفردة "فـ" إنها "لا توثر فيه" يعني في مقتضى ذلك الأصل وجريان حكمه على ما انطوى تحته من جزئيات "و" إنما "يبقى" ويستمر "حكمه المقرر" فيه بمقتضى ومفاد الاستقراء المذكور "ومثلها" أي قضايا الأعيان في عدم التأثير في ذلك ما يروى من "حكاية الأحوال" التعبدية لبعض السلف ممن تركوا مباحات لاعتبارات عنت لهم في ذلك. "وذا" هذا الأمر - وهو عدم التأثير المذكور - مدرك ثبوته ومتقرر "لوجهين" ثابتين "في" شأن "الاستدلال من جهة" تقابل الاستدلال على ذلك أحدهما "القطعي والظني" في هذا المقام وذلك أن الأصل مقطوع به بالفرض، لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه حقيقة.

"و" ثانيهما من "جهة" تقابل "الكلي" في هذا الموضع وهو الأصل "والجزئي" وهو قضايا الأعيان.

وقضايا الأعيان جزئية لكونها أحكاما متعلقة بأناس معينين والقواعد - الأصول - المطردة كليات، ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات، وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص كما في المسألة

ص: 223

1993 -

وَشَأْنُهَا عَدَمُ الاعْتِبَارِ

حَيْثُ يُرَى التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَارِ

السفرية بالنسبة للملك المترف، وكما في الغنى بالنسبة لمالك النصاب، والنصاب لا يغنيه على الخصوص وبالضد في مالك غير النصاب، وهو به غني.

"و" بذلك فإن "شأنها" أي الجزئيات التي تعارض الكليات القطعية أن يسقط الاعتداد بها، إذ حكمها هو "عدم الاعتبار" لمقتضاها إن ظهر رجحان ذلك في شأنها، وذلك يحصل "حيث" أي في الموضع الذي "يرى" أي يكون "التأويل غير جار" وغير ماض رجحانه فيه، والتأويل موضعه الدليل القوي الذي يكون إسقاطه مخالفا للنظر الفقهي، وقواعده، والطرح والإسقاط محله الدليل الضعيف الذي لا يعرج على مثله في مجاري معارضة القواعد الكلية والأصول العامة وهذا يعضد بأمرين آخرين:

أحدهما: أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية، وقضايا الأعيان محتملة لإمكان أن تكون على غير ظاهرها، أو على ظاهرها؛ وهي مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل، فلا يمكن - والحالة هذه - إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه.

ثانيهما: أنها لو عارضتها فإما أن يعملا معا، أو يعمل بأحدهما دون الآخر - أعني في محل المعارضة - فإعمالهما معا باطل، وكذلك إهمالهما لأنه إعمال مثبت لوقوع التعارض فيما بين الظني والقطعي؛ والمقرر أن التعارض لا يحصل بينهما في الحقيقة لفقدان التساوي فيما بينهما. وأما إعمال الجزئي دون الكلي فهو ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة، فلم يبق إلا الوجه الرابع، وهو إعمال الكلي دون الجزئي، وهو المطلوب.

فإن قيل: هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد، فإن تخصيص العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جار فيها، فيلزم إما بطلان ما قالوه، وإما بطلان هذه القاعدة، لكن ما قالوه صحيح فلزم إبطال هذه القاعدة

(1)

.

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن ما فرض السؤال ليس من مسألتنا بحال، فإن ما نحن فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضا وفي الحقيقة ليس بمعارض؛ فإن القاعدة إذا كانت كلية، ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية

(1)

الموافقات 3/ 195.

ص: 224

1994 -

وَإِنَّ ذَا الأَصْلَ عَمِيمُ الْفَائِدَهْ

بِحَيْثُ مَا الْجُزْئِيُّ نَافِي قَاعِدَهْ

1995 -

فَالْمُتَمَسَّكُ الذِي يُعْتَمَدُ

مَا كَانَ كُلِّيًا بِحَيْثُ يَرِدُ

1996 -

إِذْ يُقْبَلُ الْمُعَارِضُ الْجُزْئِيُّ

لِلرَّدِّ وَالتَّأْوِيلُ لَا الْكُلِّيُّ

المخصوصة وحدها، مع إمكان أن يكون معناها موافقا لا مخالفا، فلا إشكال في أن لا معارضة هنا. وهو هنا محل التأويل لمن تأول، أو محل عموم الاعتبار إن لاق بالموضع الاطراح والإهمال، كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كليا عاما ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره، على ما أعطته قاعدة التنزيه، فمثل هذا لا؛ يؤثر في صحة الكلية الثابتة. وكما إذا ثبت لنا أصل عصمة الأنبياء من الذنوب، ثم جاء قوله:"لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" ونحو ذلك، فهذا لا يؤثر لاحتمال حمله على وجه لا يخرم ذلك الأصل، وأما تخصيص العموم فشيء آخر لأنه إنما يعمل بناء على المراد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال.

فحينئذ يعمل كما قاله الأصوليين، وليس ذلك مما نحن فيه

(1)

.

"فصل"

في أن هذا الأصل المقرر هنا وهو تقديم الكليات على الجزئيات وقضايا الأعيان، والتصرف في شأن الجزئي على الوجه الذي لا يؤثر به على الكلي المعارض له في الظاهر تبنى فوائد جمة.

"و" بذلك فـ "إن هذا الأصل عظيم الفائدة" وذلك "بحيث ما" أي في كل موضع ورد فيه الدليل "الجزئي" وهو قد "نافى" وخالف "القاعدة" الكلية الجاري حكمها في موارده. "فـ" المستدل وذو النظر الفقهي "المتمسك" بهذا الأصل، هو "الذي يعتمد" ويرجح "ما كان" من القواعد والأدلة "كليا" عاما "بحيث" أي في كل موضع "يرد" فيه ويأتي، فيقدمه على الدليل الجزئي الذي فرض أنه معارض له، ثم ينظر في كل ذلك الدليل الجزئي ويحكم عليه بما يقتضيه حاله "إذ يقبل المعارض الجزئي للرد" له والإسقاط لمقتضاه، كما يجري على ذلك من تقدم القطعي على الظني بدون تفصيل؛ "والتأويل" وهو إخراجه عن ظاهره حتى تزول دلالته على الاعتراض، ويدخل مقتضاه تحت حكم قاعدة عامة أخرى، وهذا المسلك "لا" يقبله "الكلي" لو اعتمد الجزئي

(1)

الموافقات 3/ 196.

ص: 225

1997 -

وَذَا الذِي أَوْقَعَ فِي الإِشْكَالِ

وَاللَّبْسِ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ

1998 -

إِذْ تَرَكُوا الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّهْ

تَتَبُّعًا لِلصُّوَرِ الْجُزْئِيَّهْ

1999 -

وَرَعْيُهُ دَاعٍ إِلَى تَقْرِيبِ

مَئَاخِذِ الْخِصَامِ وَالتَّشْغِيبِ

وقدم على الكلي، فالمستمسك بالجزئي لا يمكنه مع التمسك به الخيرة في الكلي، والتصرف فيه بوجه ما، وإنما تثبت لديه المعارضة، وترمي به أيدي الإشكالات في مهاو بعيدة "وذا" هذا الأمر - وهو اعتماد الجزئي في مقابله الكلي - يجب أن يتقي فإنه "الذي أوقع" ورمى "في" متاهات "الإشكال و" غموض المعاني "اللبس" في شأن فهم النصوص الشرعية "أهل الزيغ" عن الصراط المستقيم "والضلال" في أمور الدين "إذ تركوا القواعد" العامة "الكلية" العقدية والفقهية اقتفاء منهم و"تتبعا للصور الجزئية" المتشابهة المحتملة للتأويل أو الرد، أو ما شابه ذلك كالتفويض في مواطنه. وهذه هي الفائدة الأولى.

"و" من فوائده كذلك أن "رعيه" أي هذا الأصل واعتباره والعمل بمقتضاه "داع" ومفض "إلى" تسهيل و"تقريب" قطع وإزالة "مئاخذ" ومدارك "الخصام والتشغيب" أي إثارة الشغب والاضطراب في النظر بجلب الشبهات، الواقع من المخالفين.

ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس، وقد ورد على "غرناطة" بعض العدوة الأفريقية فأورد على مسألة العصمة الإشكال المورد في قتل موسى للقبطي، وأن ظاهر القرآن يقضي بوقوع المعصية منه عليه السلام بقوله:"هذا من عمل الشيطان" وقوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ} [القَصَص: 16] فأخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية بمجردها، وما ذكر فيها من التأويلات إخراج الآيات عن ظواهرها. وهذا المأخذ لا يتلخص، وربما وقع الانفصال على غير وفاق، فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك: المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها إلى الأصل، وهي مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام، فيقال له: الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة، وعن الصغائر باختلاف، وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام، فمحال أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرة. وإن قيل إنهم معصومون أيضا من الصغائر، وهو صحيح، فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبا. فلم يبق إلا أن يقال أنه ليس بذنب، ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك، ورأى ذلك مأخذا

ص: 226

"‌

‌ المسألة الثانية

"

2000 -

قَوَاعِدُ الشَّرْعِ لَدَيْهَا بَادِ

تَنْزِيلُهَا عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِي

2001 -

مُعْتَبَرًا فِي كلِّ أَصْلٍ أَصْلِ

لَا أَنَّهَا عَلَى الْعُمُومِ الْكلِّي

2002 -

أَلَا تَرَى الْعَقْلَ بِهِ التَّكْلِيفُ

وَبِالْبُلُوغِ يَحْصُلُ التَّعْرِيفُ

2003 -

إِذْ غَالِبًا بِهِ يَكُونُ الْعَقْلُ

بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ فَهْيَ أَصْلُ

علميا في المناظرات، وكثيرا ما يبنى عليه النظار، وهو حسن. والله أعلم

(1)

.

في أن القواعد مجراة على العموم العادي الغالب، لا العموم الكلي التام الذي لا يتخلف عنه جزئي.

"المسألة الثانية"

وبيان ذلك أن "قواعد الشرع" العامة ظاهر "لديها" أي فيها و "باد" بمقتضى واقع الحال الجاري فيها أنها جرى "تنزيلها على العموم العادي" وهو عموم أغلبي أكثري حال كون ذلك التنزيل "معتبرا" أمره "في كل أصل أصل" كيفما كان محله "لا أنها" أي تلك القواعد، جارية "على العموم الكلي" المتصف بالشمول والاستغراق التام بحيث لا يختلف جزئي ما من جزئياته عن مقتضاه وحكمه.

أما كون الشريعة جارية على ذلك الوضع - إجزاء القوأعد على العموم العادي - فظاهر "ألا ترى العقل" وهو الذي "به يحصل ويثبت "التكليف" الشرعي على العباد، "و" هو "بالبلوغ يحصل التعريف" بوجوده، لأنه مظنة لوجوده "إذ غالبا" لا دائما "به" أي معه "يكون العقل" حاصلا "بمقتضى" وموجب "العادة" الجارية في الناس "فهي" في هذا الشأن وما أشبهه "أصل" شرعي محكم.

وإنما قيد حصول العقل عند البلوغ بوصف الغلبة، لوجود من يتم عقله قبل البلوغ، ومن ينقص وإن كان بالغا، إلا أن الغالب الاقتران.

وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة، وإن كانت المشقة قد توجد بدونها، وقد تفقد معها ومع ذلك فلم يعتبر الشارع تلك النوادر، بل أجرى القاعدة

(1)

الموافقات 3/ 19.

ص: 227

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

مجراها. ومثله حد الغنى بالنصاب، وتوجيه الأحكام بالبينات، وإعمال أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير ذلك من الأمور التي قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر، ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف فاعتبرت هذه القواعد كلية عادية لا حقيقية. وعلى هذا الترتيب تجد سائر الفوائد التكليفية.

وإذا ثبت ذلك ظهر أن لا بد من إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية من حيث هي منضبطة بالمظنات، إلا إذا ظهر معارض فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه، كما إذا عللنا القصر بالمشقة، فلا ينتقض بالملك المترف ولا بالصناعة الشاقة. وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل فلا ينتقض بما لا يتأتى كيله لقلة أو غيرها، كالتافه من البر. وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا يكون ثمنا لقلته، أو عللناه في الطعام بالاقتيات، فلا ينتقض بما ليس فيه اقتيات، كالحبة الواحدة. وكذلك إذا اعترضت علة القوت بما يقتات في النادر، كاللوز والجوز والقثاء والبقول وشبهها، بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع منه ما كان معتادا مقيما للصلب على الدوام وعلى العموم، ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار وكذلك نقول أن الحد علق في الخمر على نفس التناول حفظا على العقل، ثم إنه أجرى الحد في القليل الذي لا يذهب العقل مجرى الكثير، اعتبارا للعادة في تناول الكثير. وعلق حد الزنى على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب، فيحد من لم ينزل لأن العادة الغالبة مع الإيلاج الإنزال. وكثير من هذا

(1)

.

فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي

(2)

.

"المسألة الثالثة"

في أن صيغ العموم ينظر فيها باعتبارين:

أحدهما: اعتبار ما يدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق.

ثانيهما: اعتبار المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك.

(1)

الموافقات 3/ 199.

(2)

الموافقات 3/ 200.

ص: 228

2004 -

وَللْعُمُومِ صِيَغٌ وَضْعِيَّهْ

تَقْرِيرُهَا مَعْرِفَة نَحْوِيَهْ

2005 -

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ

أَنْ لِلْعُمُومِ بَعْدُ مَلْحَظَانِ

2006 -

مَلْحَظُ الاعْتِبَارِ بِالإِطْلَاقِ

لِمُقْتَضَى صِيغَةِ الاسْتِغْرَاقِ

2007 -

وَذَا إِلَيْهِ الْقَصْدُ فِي الأُصُولِ

حَيْثُ يُرَى التَّخْصِيصُ بِالْمَفْصُولِ

2008 -

وَمَلْحَظُ اعْتِبَارِ الاسْتِعْمَالِ

بِمُقْتَضَى الْعَادَاتِ وَالأَحْوَالِ

2009 -

فَشَأْنُهَا فِيمَا اقْتَضَتْهُ مَرْعِي

وَإِنْ يُخَالِفْ ذَاكَ أَصْلُ الْوَضْعِ

" و" بيان ذلك أنه قد ثبت "للعموم صيغ" أي مبان لفظية "وضعية" وهذه "تقريرها" وبحث أحوالها من جهة ثبوتها صيغا للعموم ودلالتها على ذلك "معرفة نحوية"، وهي قد درست، وبحث شأنها في كتب النحو، ومسائله "و" بذلك فإنه ليس أمرا مقصودا بحثه وبيانه هنا، "إنما المقصود بالبيان" هنا هو "أن" - بسكون النون - يعني أنه "للعموم بعد" الملحظ النحوي المذكور "ملحظان" أي نظران آخران باعتبار الوضع:

أحدهما: "ملحظ" أي لحظ "الاعتبار" والاعتداد "بالإطلاق لمقتضى" - متعلق بالاعتبار - أي موجب "صيغة الاستغراق" والعموم هذه في أصل وضعها اللغوي وأصل كلامه: لحظ الاعتبار لمقتضى صيغة الاستغراق بالإطلاق، "وذا" ملحظ ونظر "إليه القصد" والتوجه وعليه البناء "في"مسائل العموم علم "الأصول" الفقهية "حيث يرى" ويذكر ثابتا "التخصيص" للألفاظ العامة "بـ" الدليل "المفصول" يعني المنفصل، كالعقل، والحس وسائر المخصصات المنفصلة.

"و" ثانيهما: "ملحظ" أي لحظ "اعتبار" جهة "الاستعمال" الذي يحصل للألفاظ محاملها تكون "بمقتضى العادات" والأعراف التي يقصد بيانها والتعبير عنها، "والأحوال" التي يكون الكلام مصوغا ومسوقا على وفقها.

وهذه العادات والأحوال معتبر مقتضاها في فهم الكلام وإدراك المعنى المقصود به، وبذلك "فشأنها في ما اقتضته" وما تدل عليه من معنى أمر "مرعي" ومعتد به في حمل الكلام على المعنى المقصود به "وإن يخالف ذاك" المعنى ما دل عليه "أصل الوضع" - فيه إضافة الصفة للموصوف - يعني ما دل عليه اللفظ من جهة الوضع الأصلي.

ص: 229

2010 -

فَالاعْتِبَارُ هَكَذَا اسْتِعْمَالِي

وَرَعْيُهُ مُنْجٍ مِنَ الإِجْمَالِ

2011 -

وَالاعْتِبَارُ قَبْلَهُ قِيَاسِي

وَللسَّمَاعِ الْحُكْمُ فِي الْقِيَاسِ

2012 -

فَمِنْ أُصُولِ النَّحْوِ أَنَّ الْمُتَّبَعْ

هُوَ السَّمَاعُ إِنْ تَعَارُضٌ وَقَعْ

2013 -

إِذًا فَالاعْتِبَارُ لِلْعُمُومِ

مِنْ جِهَةِ الْمَسَاقِ وَالْمَفْهُومِ

2014 -

أَعْنِي بِهِ مُقْتَضَيَاتِ الْحَالِ

لِضَبْطِهَا أَوْجُهُ الاسْتِعْمَالِ

" فالاعتبار" الذي هو مبني على مراعاة ما ذكر من مقتضى العادات والأحوال "هكذا" هو اعتبار "استعمالي" والعمل به في حمل الألفاظ على المعاني "ورعيه" مسلك "منج" وحافظ "من الإجمال" في الكلام، وهو انبهام معناه، وخفاؤه، لأنه يدرك به رجحان المعنى المراد عند تعارض الاحتمالات في الكلام.

"و" أما "الاعتبار" الذي ذكر "قبله" فإنه اعتبار "قياسي" سمي بذلك لجريانه على أصل الوضع العام الذي يجري حكمه باطراد ما لم يخرج عن أصله لموجب كالسياق، "و" القياس في محل فـ "للسماع" يعطي "الحكم" والرجحان "في" مطرد "القياس" الجاري به العمل في هذا المقام.

"فمن أصول" علم "النحو أن المتبع "والمعمول به "هو السماع إن" حصل "تعارض" بينه وبين القياس، و"وقع" وهذا أمر جار المضي على مقتضاه في جميع الجزئيات اللغوية؛ "إذا" بناء على هذا "فالاعتبار لـ" مقتضى "العموم" ومدلوله، إنما يعلم حده وحاله "من جهة المساق" - أي اللواحق والسوابق التي تكتنفه "و" المعنى "المفهوم" من الكلام "أعني به" أي بالمفهوم هنا "مقتضيات" ومدلولات "الحال" الذي عليه المتكلم، أو المخاطب أو هما معا. وبيان ذلك أن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه، مما يدل عليه الكلام خاصة، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي؛ كما أنها أيضا تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع. وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال؛ فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم وكذلك قد يقصد بالعموم صنفا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع، دون غيره من الأصناف؛ كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع؛ كما تقول،

ص: 230

2013 -

وَمِنْهُ عُرْفيٌّ تَسَاوَى الْعَرَبي

فِيهِ وَمَنْ يَفْهَمُ قَصْدَ الْعَرَبِ

2016 -

وَمِنْهُ شَرْعِيٌّ بِهِ فِي الْوَاقِعِ

تَبَايُنُ الْفَهْمِ لِقَصْدِ الشَّارعِ

فلان يملك المشرق والمغرب والمراد جميع الأرض؛ وضرب زيد الظهر والبطن؛ ومنه {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} [الرحمن: 17]{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فكذلك إذا قال: من دخل داري أكرمته، فليس المتكلم بمراد، وإذا قال: أكرمت الناس، أو قاتلت الكفار فإنما المقصود من لقي منهم، فاللفظ عام فيهم خاصة، وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال. قال ابن خروف ولو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها فضربهم ولم يضرب نفسه، لبر ولم يلزمه شيء. ولو قال: اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب - قال: فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الأخبار في نحو قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعَام: 102]؛ لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه. ومثله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النُّور: 35] وإن كان عالما بنفسه وصفاته: ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر. قال: فكل ما وقع الإخبار به من نحو هذا فلا تعرض فيه لدخوله تحت المخبر عنه، فلا تدخل صفاته تعالى تحت الخطاب وهذا معلوم من وضع اللسان.

فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضبط مقتضيات الأحوال قد يتوصل به إلى ضبط هذه الوجوه فإنه يحصل "لضبطها" - اللام بمعنى الباء - أي بضبطها - أي هذا الأحوال ضبط "أوجه الاستعمال" للعموم المختلفة التي على وفق تلك الأحوال.

"و" العموم الوارد في النصوص الشرعية على ضربين فـ "منه" أي ما هو "عرفي" الذي تدل عليه الألفاظ العامة باعتبار وضعها، وهذا النوع فهمه "تساوى العربي فيه ومن يفهم قصد" ومراد "العرب" في كلامهم. وهذا النوع تقدم ذكره.

"ومنه" ما هو عموم "شرعي" يعلم المراد به جهة الشرع، وهو الذي "به" أي فيه "في الواقع" وحقيقة الأمر يقع "تباين" أي اختلاف وتفاوت "الفهم" والإدراك "لقصد" ومراد "الشارع" الحكيم منه وهذا التفاوت والتباين في إدراكه - أي إدراك هذا القصد - أمر حاصل، إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد، ولا المشتغل

ص: 231

2017 -

فَمَا أَتَى فِيهِ بِعَكْسِ مَا مَضَى

فَمِنْ تَفَاوُتِ النُّهَى فِيمَا اقْتَضَا

2018 -

وَمِنْهُ الاعْتِبَارُ بِالإِطْلَاقِ

لِمَا أَتَى أَخَصَّ فِي الْمَسَاقِ

2019 -

مِنْ مُقْتَضَى مَا جَاءَ لِلْعُمُومِ

فِي مُنْتَهَى مَحْمُودٍ أَوْ مَذْمُومِ

2020 -

فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا تَذَرْ

جَارٍ عَلَى الْعُمُومِ حَيْثُ مَا صَدَرْ

بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة، ولا المبتدئ فيه كالمنتهي {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجَادلة: 11] فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه؛ حتى إذا تبحر في إدارك معاني الشريعة نظره، واتسع في ميدانها باعه زال عنه ما وقف من الإشكال، واتضح له القصد الشرعي على الكمال

(1)

.

هذا هو شأن العموم في النص الشرعي "فما أتى فيه" وهو مفهوم ومدرك "بعكس" وخلاف "ما" أي هذا الأصل الذي "مضى" تقريره في هذا الشأن "فـ" إنه آت من جهة "تفاوت" مدركات "النهى" - بضم النون - جمع نهية وهي العقل "فيما" أي في المعنى والحكم الذي "اقتضاه" ذلك العام.

"ومنه" أي العموم ما كان يدرك بواسطة "الاعتبار" والاعتداد "بالإطلاق" الذي يحصل وهو ثابت "لما" هو من هذه الألفاظ قد "أتى" في واقع الأمر وكان "أخص في المساق" - في بمعني الباء - أي بالمساق الذي ورد فيه فبين المراد بما جاء فيه "من مقتضى" وحكم "ما جاء" فيه "للعموم" وهو "في منتهى أمر "محمود أو "أمر "مذموم"، فالعموم جار في ذلك على كل حال "فمثل قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: 42] وقوله - سبحانه - {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] لم يقصد به أنها تدمر السماوات والأرض والجبال، ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها، وإنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنه أن توثر فيه على الجملة ولذلك قال - سبحانه -:{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]. وبذلك فهو "جار على" سبيل "العموم" والشمول بمقتضى القصد، ما أخرج منه مما اقتضاه الوضع لم يكن مرادا فلم يكن داخلا في دلالته وذلك "حيث ما" أي في أي موضع "صدر" ووقع.

(1)

الموافقات 3/ 204/ 205.

ص: 232

2021 -

وَلَيْسَ مَا امْتَازَ بِأَمْرٍ خَارِجِي

فِي أَصْلِهِ عَنْ حُكْمِ ذَا بِخَارجِ

2022 -

وَالشَّاهِدُ الْعَدْلُ لِسَانُ الْعَرَبِ

فَهْمًا وَإِفْهَامًا لِهَذَا الْمَذْهَبِ

2023 -

إِذْ جُبِلُوا طَبْعًا عَلَى إِهْمَالِ

مَا لَا يَمُرُّ قَصْدُهُ بِبَالِ

2024 -

لِذَاكَ لَا صِحَّةَ لاسْتِثْنَاءِ مَا

لَمْ يَكُ بِالدَّاخِلِ فِيمَا فُهِمَا

2025 -

كَأْنْ يُقَالَ مَنْ غَزَا الْكُفَّارَا

إِلَّا أَنَا فَأَعْطِهِ دِينَارَا

2026 -

وَبَعْضُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالأُصُولِ

نَبَّهَ لِلْمَعْنَى مِنَ الْمَنْقُولِ

" و" هكذا يتحقق أنه "ليس" كل "ما امتاز" وتبين المراد به "بأمر خارجي" من حس أو عقل مصاحب له "في أصله" الدلالي "عن حكم ذا" الذي تقدم بيانه "بخارج" بل هذا الحكم جار فيه كذلك، "والشاهد العدل" المبرز هو حال "لسان العرب" أي لغتهم "فهما" وإدراكا لما تدل عليه الألفاظ "وإفهاما" تبليغا للمراد بتلك الألفاظ "لهذا المذهب" متعلق بقوله:"والشاهد العدل" يعني صحة المذهب، وهو أن المراد من الكلام هو المعتبر، وليس ما دلت عليه الألفاظ بوضعها الإفرادي.

"إذ" العرب قد "جبلوا طبعا على إهمال" كل "ما" من المعاني "لا" يخطر ولا "يمر قصده ببال" المتكلم عادة "لذاك لا صحة لاستثناء" وإخراج "ما" من المعاني "لم يك" في واقع الأمر "بالداخل فيما" قد "فهما" من الكلام، وإن كانت ظواهر الألفاظ بمقتضى وضعها تدل عليه، وتدخله، وبذلك فإنه لا يصح أن يستثني ما هو معلوم الخروج بمقتضى العادة أو العرف كأن يقال - مثلا -: من دخل داري أكرمته إلا نفسي و"كأن يقال" يعني كأن يقول الشخص لخادمه "من غزا الكفار إلا أنا فأعطه دينارا" فقوله إلا أنا معلوم خروجه من الحكم، فلا حاجة إلى إخراجه، ومثله أن يقال: قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم.

وإنما يصح استثناء ما يظن ويتوهم دخوله في الكلام.

"وبعض أهل العلم بالأصول" كالشافعي "نبه لـ" وجوب النظر إلى "المعنى" المقصود "من" الكلام "المنقول" وطرح اعتبار ما دلت عليه الألفاظ بمقتضى وضعها، وذكر أن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالأخطار لا يحمل لفظه عليه إلا مع الجمود على مجرد اللفظ، وأما المعنى فيبعد أن يكون مقصودا للمتكلم، كقوله صلى الله عليه وسلم:

ص: 233

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

" أيما إهاب دبغ فقد طهر" قال الغزالي: خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد، بل هو الغالب الواقع ونقيضه هو الغريب المستبعد، وكذا قال غيره أيضا، وهو موافق لقاعدة العرب، وعليه يحمل كلام الشارع بلا بد

(1)

.

"فصل"

إذا تقرر إما تقدم فالتخصيص إما بالمنفصل أو المتصل.

فإن كان بالمتصل - كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض وأشباه ذلك - فليس في الحقيقة بإخراج لشيء بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد وهو ينظر إلى قول سيبويه: "زيد الأحمر" عند من لا يعرفه "كزيد" وحده عند من يعرفه. وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما. وهكذا إذا قلت "الرجل الخياط" فعرفه السامع فهو مرادف "لزيد" فإذا المجموع هو الدال، ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت "عشرة إلا ثلاثة" فإنه مرادف لقولك "سبعة" فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب. وإذا كان كذلك فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا، ولا يصح أن يقال إنه مجازا أيضا، لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك "ما رأيت أسدا يفترس الأبطال" وقولك:"ما رأيت رجلا شجاعا" وأن الأول مجاز، والثاني حقيقة. والرجوع في هذا إليهم، لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام

(2)

.

وأما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك أيضا راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ، حسبما تقدم في رأس المسألة، لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون.

فإن قيل: وهكذا يقول الأصوليون إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة، فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع، وليس بمراد الدخول تحتها، وإلا كان التخصيص نسخا. فإذا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص بالمتصل على ما فسرت. فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون؟ فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان

(1)

الموافقات 3/ 202.

(2)

الموافقات 3/ 213.

ص: 234

2027 -

وَهَذَا الأَصْلُ فَهْمُهُ مُهِمّ

إِذْ يَنْبَنِي عَلَيْهِ عِلْمٌ جَمُّ

وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص، فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ، وهم قالوا إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه، وبينهما فرق. فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه، والذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز؛ كقولك رأيت أسد يفترس الأبطال.

فإن قيل أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلا، أم لا؟ فإن كان باطلا لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ، والأمة لا تجتمع على الخطأ. وإن كان صوابا وهو الذي يقتضيه إجماعهم فكل ما يعارضه خطأ. فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ.

فالجواب أن إجماعهم أولا غير ثابت على شرطه، ولو سلم أنه ثابت لم يلزم منه إبطال ما تقدم؛ لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام رجعوا إلى اعتباره: كل على اعتبار رآه، أو تأويل ارتضاه. فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال، بلا خلاف بيننا وبينهم، إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علما بمقاصدهم، ولا يجود محصول كلامهم

(1)

. وبالله التوفيق.

"فصل"

"و" اعلم بأن "هذا الأصل" الذي قرر وبين هنا "فهمه" وإدراك معناه "مهم" يجب الاعتناء به "إذ ينبني" ويؤسس "عليه علم جم" أي كثير، فقد انبنت عليه الأحكام:

منها: أنهم اختلفوا في العام إذا خص يبقى حجة أم لا؟ وهي من المسائل الخطيرة في الدين، فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع؛ لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات، فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص، صار معظم الشريعة مختلفا فيها هل هو حجة أم لا؟ ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه. فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل المذكور لم يبق

(1)

الموافقات 3/ 214.

ص: 235

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

2028 -

عَزَائِمُ الشَّرْعِ جَمِيعًا لَا يُخَصْ

مِنْهَا الْعُمُومُ حَيْثُ كَانَتْ بِالرُّخَصْ

الإشكال المحظور، وصارت العمومات حجة على كل قول. ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة أخرى، وهى أن عمومات القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم، وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص؛ وفيه ما يقتضى إبطال الكليات القرآنية، وإسقاط الاستدلال به جملة، إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن، لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم. وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية، وتضعيف الاستناد إليها. وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس أنه قال: ليس في القرآن عام إلا مخصص، إلا قوله تعالى:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البَقَرَة: 282] وجميع ذلك مخالف لكلام العرب، ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقا، بحسب قصد العرب في اللسان، وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام.

وأيضا فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا على وجه هو أبلغ ما يكون، وأقرب ما يمكن في التحصيل ورأس هذه الجوامع في التعبير العمومات، فإذا فرض أنها ليست بموجودة في القرآن جوامع، بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر، فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصره وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح فيحتمل التأويل.

فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الاستعمالي، بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع، فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير، وعلم جميل

(1)

. وبالله التوفيق.

"المسألة الرابعة"

في أن العزائم لا تخصصها الرخص. وبيان ذلك أن "عزائم الشرع" كلها "جميعها لا يخص منها العموم" أي عمومها "حيث كانت" أي في أي باب فقهي وردت "بالرخص" متعلق بقوله: "لا تخص" لأن التخصيص هو قصر العام على بعض مسمياته، وهذا لا يجري حكمه على عمل الرخصة في مدلول العزيمة على التحقيق كما سيأتي بيانه.

(1)

الموافقات 3/ 215/ 216.

ص: 236

2029 -

وَمُطْلِقٌ لِذَاكَ فِي التَّحْقِيقِ

عَلَى مَجَازِ الْقَوْلِ لَا الْحَقِيقِي

2030 -

إِذْ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ رَفْعُ الْحَرَجِ

وَلَيْسَ فِي التَّخْيِيرِ بِالْمُنْدَرجِ

2031 -

وَقَدْ مُضَى ذَلِكَ بِالْبَيَانِ

فَالشَّأْنُ فِيهَا الشَّأْنُ فِي النِّسْيَانِ

" و" أما من هو "مطلق لذلك" وهو أن الرخص تخصص العزائم فإن "في التحقيق" إنما أجرى كلامه "على مجاز القول لا" على القول "الحقيقي" الذي مدلوله هو قصر العامّ على بعض أفراده والرّخص لا تقتضي هذا الأمر في شأن العزائم، فهي لا تقصرها على بعض أفرادها، لأنّ الرّخص جارية مع ثبوت أحكام العزائم في مواطنها، فهي لم تستثن أيّ فرد من أفرادها ولم تخرجه عن حكمها، كما في أمر تخصيص العامّ في شأن أفراده "إذ مقتضى الرّخصة" ومفادها هو "رفع الحرج" عمّن شرّعت له فارتكبها "و" بذلك فإنّ شأن الرّخصة والعزيمة "ليس" في الذي يسري عليه حكم "التّخيير" الدّال على تغيير حكم العزيمة الأصلي الذي هو الوجوب "بالمندرج" الدّاخل، إذ لم يأت دليل يدلّ على جريان التخيير في ذلك. "وقد مضى" ذكر "ذلك" الفرق الذي بين التّخيير ورفع الحرج في هذا الشّأن "بالبيان" والتّوضيح الكافي، وذلك في كتاب "الأحكام" في فصل العزائم والرّخص، وإذا ثبت ذلك فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها لم يلحقها تبديل ولا تغيير، وللمخالفة حكم آخر.

وأيضا: فإنّ الخطاب بالعزيمة من جهة حقّ الله - تعالى - والخطاب بالرّخصة من جهة حقّ العبد، فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة، بل من جهتين مختلفتين، وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع، وزال التناقض المتوهّم في الإجتماع، وبذلك "فالشّأن" والأمر "فيها" أي الرّخص من حيث تخلّف العزيمة في مواطنها مثل "الشّأن في النّسيان" والخطإ والإكراه وغيرها من الأعذار الّتي يتوجه الخطاب مع وجودها، مع أنّ التّخلّف غير مؤثم ولا موقع في محظور، وعلى هذا ينبني معنى آخر يعمّ هذه المسألة وغيرها، وهو أنّ العمومات الّتي هي عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار، فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص، وإن أطلق عليها أنّ الأعذار خصّصتها فعلى المجاز لا على الحقيقة، ولنعدّها مسألة على حدتها، وهي

(1)

:

فيما تقدّم ذكره من الأعذار لا تخصّص عمومات العزائم.

(1)

انظر الموافقات 3/ 245.

ص: 237

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

2032 -

وَكُلُّ عُذْرٍ مُسْقِطٍ لِلاثْمِ

لَيْسَ مُخَصَّصًا عُمُومَ الْحُكْمِ

2033 -

وَذَاكَ كَالإكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ

وَالْخَطَإِ اللَّاحِقِ لِلإِنْسَانِ

2034 -

وَالْحُكْمُ فِيهَا وَاحِدٌ فَلْنَكْتَفِ

بِخَطَإِ الْحَاكِمِ وَالْمُكَلَّفِ

2035 -

كَمَانِعِ الْحَقِّ لِذِي اسْتِيجَابِ

وَشَارِبِ الْمُسْكِرِ عَنْ جُلَّابِ

" المسألة الخامسة"

"و" بيان ذلك أنّ "كلّ عذر" مزيل و"مسقط للإثم" عن المكلّف "ليس" في واقع الأمر "مخصِّصا" - بكسر الصّاد - "عموم" وشمول "الحكم" الأصليّ - أي العزيمة - على الإطلاق "وذاك" العذر هو "كالإكراه" - بكسر الهمزة - وهو الإضطرار إلى الفعل بالتّخويف مع الاقتدار والاختيار "والنّسيان" وهو الذّهول عن الشّيء "والخطإ اللّاحق" الحاصل "للإنسان" وهو الإتيان بالشّيء على غير وجهه من غير قصد إليه "و" أمّا "الحكم فيها" أي هذه الأعذار كلّها هي والرّخص فإنّه حكم "واحد" وهو عدم المؤاخذة ورفع الحرج فيها فقط، أمّا مقتضى العزائم فإنّه لم يرفع في مواطنها لا بالتّخصيص ولا بغيره، بل هو مستمرّ فيها كما هو متقرّر بالواقع. هذا وإذ قد تقرّر أنّ ذلك كلّه واحد "فلنكتف" على سبيل التمثيل المساق للبيان "بـ" الحديث عن "خطإ الحاكم" القاضي أو الأمير في حكمه "و" بالحديث عن خطإ الشّخص "المكلّف" في فعله، أمّا خطأ الحاكم فإنّه متصوّر في "كـ" حاكم "مانع الحقّ لـ" شخص "ذي استيجاب" أو استحقاق له وقاض به لغيره، وكان ذلك عن خطإ، وذلك كأن يسلّم المال إلى غير أهله والزّوجة إلى غير زوجها، أو أدّب من لم يستحقّ تأديبا وترك من كان مستحقّا له، أو قتل نفسا بريئة، أمّا الخطأ في الدّليل أو الشّهود وما أشبه ذلك هذه صورة الحاكم المخطئ. "و" أمّا المكلّف المخطئ فإنّه مثل "شارب" الشّيء "المسكر" بدلا "عن" إلى "جُلاب" - بضمّ الجّيم - وهو ماء الورد الذي ظنّ ذلك الشّراب إيّاه، ومثله آكل مال اليتيم أو غيره يظنّه متاع نفسه، وقاتل المسلم يظنّه كافرا، وواطئ الأجنبية يظنّها زوجته أو أمته، وما أشبه ذلك. فإذا صدر ذلك الضّرب الذي تقدّم ذكره من الحكم عن الحاكم أو هذا الضّرب من الفعل عن المكلّف

ص: 238

2036 -

أَفَيُقَالُ إِنَّ ذَا وَمِثْلَهُ

مِمَّا أَبَاحَ الشَّرْعُ إِذْنًا فِعْلَهُ

2037 -

كَلَّا وَلَكِنْ رَفَعَ التَّأثِيمَا

وَالأَصْل بَاقٍ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَا

2038 -

وَحَيْث يُمْكِنُ التَّلَافِي شُرِعَا

جَبْرًا لِمَا بِهِ الْفَسَادُ وَقَعَا

"‌

‌ المسألة السّادسة

"

2039 -

ثُبُوتُ مَا عَمَّ لَهُ نَهْجَانِ

مِنْ جِهَةِ الصِّيغَةِ وَالْمَعَانِ

" أفيقال إنّ ذا" الفعل أو الحكم "ومثله" من كلّ ما كان عن خطإ هو "ممّا أباح" وأجاز "الشّرع إذنا" أي إباحة "فعله" وإتيانه؟

"كلّا" فالحكم الشّرعي الجاري على ذلك كلّه هو المنع والحظر، فإنّ المفاسد الّتي حُرِّمت لأجلها هذه الأشياءُ الّتي أتاها ذلك المكلّفُ واقعةٌ أو متوقعةٌ، فإنَّ شارب المسكر قد زال عقله وصدّه عن ذكر الله - تعالى - وعن الصّلاة، ومن الآية آكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرّر والفقر، وقاتلُ المسلم قد أزهق دم نفس من قتلها فكأنّما قتل النّاس جميعا، وواطئ الأجنبية قد تسبّب في اختلاط نسب المخلوق من مائه، فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال: إنّ الله أذن فيها أو أمر بها؟ كلّا. وكذلك الحاكم فإنّه يصح إذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله، فكيف يقال: إنّه مأمور بذلك، أو أشهد ذوي زور، فهل يصلح أن يقال: إنّه مأمور بقبولهم وبإشهادهم؟ هذا لا يسوغ بناء على مراعاة المصالح في الأحكام تفضلا كما اخترناه، أو لزوما كما يقوله المعتزلة "ولكن" الخطأ في ذلك كلّه جلب العذر لهؤلاء و"رفع" المؤاخذة و"التأثيما" عنهم "و" أمّا الحكم الشّرعي الذي هو "الأصل" فإنّه "باق" جريانه على تلك الجزئيّات وهو "يقتضي" بدلالته "التّعميما" لها ولكلّ ما ينطوي تحته من جزئيّات "و" بناء على هذا وعملا به يعمل بالاستدراك والتلافي لما كان عن خطإ من فعل أو حكم "حيث" يتأتّى و"يمكن التّلافي" لذلك واستدراكه، فإنّه أمر قد "شُرِعَا" يعني وجب شرعا، وهو إصلاح يكون "جبرا لما" حصل "به" أي فيه "الفساد" وهو خلاف الشّرع المذكور و"وقعا" - الألف للإطلاق - فيه من الأفعال والأحكام.

"المسألة السّادسة"

في بيان أنّ "ثبوت ما عمّ" أي العموم للدّليل وحصول الشّمول له - حتّى يتحقّق أنّه أمر كليّ عامّ "له نهجان" أي سبيلان يوصلان إليه. أوّلهما: ما كان "من جهة الصّيغة" الدّالة على العموم لغة ووضعا "و" ما كان من جهة "المعان" يعني العقول.

ص: 239

2040 -

فَالأَوَّلُ الْمَشْهُورُ فِي الأُصُولِ

وَمَرَّ ذِكْرُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ

2041 -

ثَانِيهِمَا اسْتِقْرَاءُ حَالِ الْمَعْنَا

لَدَى الْمَوَاقِعِ بِحَيْثُ عَنَّا

2042 -

حَتّى يَكُونَ مِنْهُ أَمْر كُلِّي

فِي الذِّهْنِ يَجْرِي كَالْعُمُومِ الأَصْلِي

2043 -

وَهْوَ الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ الْمُصْطَلَحْ

عَلَيْهِ قَبْلُ وَهْوَ أَمْرٌ اتَّضَحْ

2044 -

إِذِ اعْتِبَارُ شَأْنِهِ بِشَانِ

تَوَاتُرِ الْمَعْنَى لَدَى الْبَيَانِ

2045 -

كَأَنْ نَّقُولَ مَثَلًا رَفْعُ الضَّرَرْ

قَاعِدَةٌ يَعُمُّ حَالُهَا الْبَشَرْ

فالعامّ قد يكون عامّا لغة، وقد يكون عامّا عقلا وقد تقدّم ذكر أنّ العامّ معنى هو ما كان مدركا عمومه بالاستقراء، فكان مطلقا، أو عامّا.

وبهذا يكون العامّ معنى هو ما سيذكره بعد. فتأمّل، "فـ" هذا "الأوّل" هو "المشهور" ذكره "في"علم "الأصول و "قد "مرّ" ومضى "ذكره على التّفصيل"، الذي يليق بهذا الكتاب.

"ثانيها" أي النّهجين هو "استقراء" وتتبّع "حال المعنى" المحكوم به أو المحكوم عليه "لدى" أي في "المواقع" والمواطن التي ورد فيها، فيستقرأ "بحيث" أي في أيّ موضع "عنّا" - الألف للإطلاق - أي عرض "حتّى" يحصل و"يكون منه" أي من ذلك الاستقراء أي ذلك المعنى "أمر كليّ" عامّ مقتضاه في الشّريعة "في الذّهن" - متعلّق بيكون - وبذلك "يجري" ويقع "كالعموم الأصلي" الثابت بالألفاظ العامّة لغة.

"و" هذا العموم الثّابت بالاستقراء "هو العموم المعنويّ" وهو النّوع نفسه "المصطلح عليه قبل" في المسألة الثّالثة الماضي ذكرها بهذا المصطلح، "وهو" أي هذا العموم "أمر" وشأن "اتّضح" حاله وبانت صورته في الواقع، والأذهان "إذ اعتبار" وقياس "شأنه" وحاله إنّما كان "بشأن" وحال "تواتر المعنى لدى" أي عند جريان وحصول "البيان" والإيضاح له، فإنّ جود حاتم - مثلا - إنّما ثبت على الإطلاق من غير تقييد، وعلى العموم من غير تخصيص بنقل وقائع خاصّة متعددة تفوِّت الحصر، مختلفة في الوقوع، متفقة في معنى الجود في هذه الإفادة. فكذلك إذا فرضنا قاعدة فقهيّة علم عمومها من جهة هذا الاستقراء "كأن نقول مثلا" - قاعدة - "رفع الضّرر" والحرج هي "قاعدة يعمّ" مقتضاها و"حالها" جميع "البشر".

ص: 240

2046 -

ثَابِتَةٌ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدِ

بَلْ بِمَجيءِ الْمَنْعِ فِي مَوَارِدِ

2047 -

وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُفِيدَهْ

فِي مُقْتَضَى نَوَازِلٍ عَدِيدَهْ

2048 -

وَآخِذٌ بِالسَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

بَانٍ عَلَيْهَا الْحُكْمَ فِي الْمَوَاقِعِ

وهي قاعدة "ثابتة" على الوجه المذكور "لا بدليل" عامّ "واحد بل" هي ثابتة "بمجيء" وورود "المنع" والرّفع "في موارد" ونوازل متعددة تضافرت على هذا الشّأن، وهي مختلفة الجهات والأبواب، متّفقة في أصل رفع الحرج، كما إذا وجدنا التيّمّم شرع عند مشقّة طلب الماء، والصلّاة قاعدا عند مشقّة طلب القيام، والقصر والفطر في السّفر، والجمع بين الصلاتين في السّفر والمرض والمطر، والنّطق بكلمة الكفر عند مشقّة القتل والتأليم، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التّلف الذي هو أعظم المشقّات، والصلّاة إلى أي جهة كان لعسر استخراج القبلة والمسح على الجبائر والخفّين لمشقّة النّزع ولرفع الضّرر، والعفو في الصّيام عمّا يعسر الإحتراز منه من المفطرات، كغبار الطّريق ونحوه، إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشّارع لرفع الحرج، فإنّا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلّها، عملا بالاستقراء، فكأنّه عموم لفظي، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنويّ ثبت في ضمنه ما نحن فيه

(1)

.

"وهذه" المسألة - وهي إثبات العموم والشّمول بهذه الطريقة - "مسألة مفيدة في" حال جريانها على "مقتضى نوازل" وجزئيّات "عديدة" كثيرة.

"و" كلّ من هو "آخذ بـ" قاعدة "السدّ" والمنع "للذّرائع" أي الوسائل الّتي قد تفضي إلى الوقوع في الحرام، فإنّه "بان" ومؤسّس أخذه وعمله ذاك "عليها" يعني على مقتضي هذه المسألة - القاعدة - "في المواقع" الّتي ورد فيها اعتبارها والعمل بمقتضاها شرعا، ثمّ عمّم حكمها.

قال الشّاطبي: أنّ قاعدة سدّ الذّرائع إنّما عمل السّلف بها بناء على هذا المعنى، كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها، وكإتمام عثمان الصلّاة في حجّه بالنّاس، وتسليم الصّحابة له في عذره الذي اعتذر به من سدّ الذّريعة، إلى غير ذلك من أفرادها الّتي عملوا بها، مع أنّ المنصوص فيها إنّما هي أمور خاصّة كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا

(1)

انظر الموافقات 3/ 249.

ص: 241

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] وقوله {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وفي الحديث: "مِن أكبر الكبائر أن يسبّ الرّجّل والديه" وأشباه ذلك، وهي أمور خاصّة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلّا في معنى سدّ الذّريعة وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال

(1)

.

"فصل"

ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها: أصليّة وفرعيّة، وذلك أنّها إذا تقرّر عند المجتهد، ثمّ استقرئ معنى عامّا من أدلّة خاصّة واطّرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعنّ بل يحكم عليها وإن كانت خاصّة، بالدّخول تحت عموم المعنى المستقرئ من غير اعتبار بقياس أو غيره إذ صار ما استقرى من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامّة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصّة بمطلوبه؟

ومن فهم هذا وإن عليه الجواب عن إشكال القرافي الذي أورده على أهل مذهب مالك، حيث استدلّوا في سدّ الذّرائع على الشّافعيّة بقوله تعالى {وَلَا تَسُبُّوا} [الأنعام: 108] وقوله {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] وبحديث لعن الله اليهود حُرّمت عليهم الشّحوم فجملوها إلخ وقوله: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين قال فهذه وجوه كثيرة يستدلّون بها وهي لا تفيد فإنّها تدلّ على اعتبار الشّرع سدّ الذّرائع في الجملة، وهذا مجمع عليه، وإنّما النّزاع في ذرائع خاصّة، وهي بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن تذكر أدلّة خاصّة بمحل النّزاع، وإلّا فهذه لا تفيد، قال: وإن قصدوا القياس على هذه الذّرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجّتهم القياس خاصّة ويتعيّن عليهم حينئذ إبداء الجامع حتّى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق، ويكون دليلهم شيئا واحدا وهو القياس، وهم لا يعتقدون ذلك، بل يعتقدون أن مدركهم النّصوص، وليس كذلك، بل ينبغي أن يذكروا نصوصا خاصّة بذرائع بيوع الآجال خاصّة ويقتصرون عليها: كحديث أم ولد زيد بن أرقم هذا ما قال في إيراد هذا الإشكال. وهو غير وارد على ما تقدم بيانه لأنّ الذّرائع قد ثبت سدّها في خصوصات كثيرة بحيث أعطت في الشّريعة معنى السدّ مطلقا عامّا وخلاف الشّافعي هنا غير قادح في أصل المسألة ولا خلاف أبي حنيفة.

(1)

انظر الموافقات 3/ 250.

ص: 242

"‌

‌ المسألة السابعة

"

2049 -

مَعْنَى الْعُمُومَاتِ إِذَا مَا اتَّحَدَا

مُكَرَّرًا مُنْتَشِرًا مُؤَكَّدَا

2050 -

بِحَسَبِ الْحَاجَةِ فِي الْمَوَاضِعِ

مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِأَمْرٍ وَاقِعِ

2051 -

فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ

فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ

أما الشّافعي: فالظّنّ به أنّه تمّ له الاستقراء في سدّ الذّرائع على العموم، ويدلّ عليه قوله بترك الأضحية إعلاما بعدم وجوبها، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنّة، وإنّما فيه عمل جملة من الصّحابة، وذلك عند الشّافعي ليس بحجّة، لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال دليل آخر راجح على غيره فأعمله، فترك سدّ الذّريعة لأجله، وإذا تركه لمعارض راجح لم يعد مخالفا في أصله وأما أبو حنيفة، فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل، لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلّا الجواز ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سدّ الذّرائع وهذا واضح إلّا أنّه نقل عنه موافقة مالك في سدّ الذّرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل، وإذا كان كذلك فلا إشكال

(1)

.

"المسألة السابعة"

في أن العمومات إذا اتّحد معناها، وانتشرت في أبواب الشّريعة، أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص، فهي مجراة على عمومها على كلّ حال، وإن قلنا بجواز التّخصيص بالمنفصل.

وبيان ذلك أنّ "معنى" ومدلول "العمومات" من الأحكام "إذا ما اتّحدا" - الألف للإطلاق - يعني العمومات الّتي اتّحد معناها المعتبر شرعا فيها، وكان "مكررا" اعتباره، بحيث ما وجد في موضع إلّا اعتبر فيه وكان ذلك "منتشرا" في أبواب الشّريعة من العبادات والمعاملات "مؤكّدا" ذلك الاعتبار فيها له، وكان ذلك "بحسب الحاجة" له "في المواضع" والموارد الّتي ورد فيها "من غير تخصيص" يلحقه "بأمر" مخصّص له "واقع" في الشّريعة "فإنّه" أي هذا المعنى "يجري" ويسري "على عمومه" ذلك على كلّ حال، فيعمل بمقتضاه "في كلّ ما" من الجزئيات "يدخل في مفهومه" ويندرج تحت مدلوله.

(1)

انظر الموافقات 3/ 253 - 254 - 255.

ص: 243

2052 -

وَذَاكَ ثَابِتٌ بِالإِسْتِقْرَاءِ

لِمَوْرِدِ الْمَشْرُوعِ فِي أَنْحَاءِ

2053 -

كَمِثْلِ مَا قُرِّرَ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجْ

فِي الدِّينِ فَالْعُمُومُ فِيهِ يُنْتَهَجْ

2054 -

بِسَبَبِ التَّكْرَارِ وَالتَّأْكِيدِ

وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ

2055 -

وَذُو عُمُومٍ لَيْسَ بِالْمُنْتَشِرِ

وَلَا مُؤَكدٍ وَلَا مُكَرَّرِ

" وذاك" أمر "ثابت" مستقر "بالاستقراء" والتّتبع "لمورد" وموطن الحكم "المشروع" من هذا الصنف في هذه الشّريعة الغرّاء وذلك "في أنحاء" أي جهات مختلفة وأبواب فقهية متباينة.

وذلك "كمثل ما قُرِّر" وثُبِّت "من" قاعدة "رفع الحرج" والضّرر "في"هذا "الدّين" الحنيف، "فـ" إنّ "العموم" والشّمول هو الحكم الّذي "فيه" يعني في العمل به "ينتهج" ويتبع، وقد ثبت هذا الحكم وهو - إجراؤه على العموم - في شأنه "بسبب" حصول "التّكرار" لبناء الأحكام الشرعيّة عليها "والتأكيد" لذلك باعتباره في جميع المواطن الوارد هو فيها "وعدم التّخصيص" لعمومه "و" عدم "التّقييد" لمطلقه، فإنّ الشّريعة قرّرت أن لا حرج علينا في الدّين في مواضع كثيرة، ولم تستثن منه موضعا، ولا حالا، فعدّه علماء الأمّة أصلا مطّردا وعموما مرجوعا إليه من غير استثناء، ولا طلب مخصّص، ولا احتشام من الزام الحكم به، ولا توقّف في مقتضاه، وليس ذلك إلّا لمّا فهموا بالتّكرار والتأكيد من غير القصد إلى التّعميم التّامّ. وأيضا قرّرت - أي الشّريعة - أن "لا تزر وازرة وزر أخرى" فأعملت العلماء هذا المعنى في مجاري عمومه، وردّوا ما خالفه من أفراد الأدلّة بالتّأويل وغيره وبينت - كذلك - بالتّكرار "أن لا ضرر ولا ضرار" فأبى أهل العلم من تخصيصه، وحملوه على عمومه. وعلى الجملة فكلّ أصل تكرّر تقريره وتأكّد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه، وأكثر الأصول تكرارا الأصول المكيّة كالأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والنّهي عن الفحشاء والمنكر، والبغي، وأشباه ذلك. وهذا الذي تقرّر في العامّ من وجوب إجراءه على عمومه وما يقتضيه من الاستغراق من غير تخصيص أو تقييد إنّما هو في العامّ الموصوف بما تقدّم من كونه مكرّرا اعتباره في بناء الأحكام ومؤكّدا على الوجه المذكور. "و" أمّا العامّ الذي هو "ذو عموم" وشمول دلاليّ لكنّه "ليس" اعتباره في بناء الأحكام عليه "بالمنتشر" في أبواب الشّريعة "ولا" هو "مؤكّد ولا مكرّر" جريان مقتضاه في المسائل الفقهيّة.

ص: 244

2056 -

لَا بُدَّ فِي الأَخْذِ بِهِ مِنَ النَّظَرْ

وَالْبَحْثِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُعْتَبَرْ

2057 -

وَعِنْدَ ذَا يَبْدُوا انْفِرَادُ قِسْمِهِ

بِالْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصٍ لِحُكْمِهِ

فإنّه "لا بدّ في" شأن العمل و"الأخذ به" في بناء الأحكام الفقهيّة "من النّظر" في الأدّلة الشّرعيّة "والبحث" فيها "عمّا شأنه" وحكمه "أن يعتبر" ويعدّ مخصّصا له، أو معارضا له. وهذا الضّرب هو الّذي قال فيه النّاظم نفسه في "المرتقى":

والأخذ بالعموم قبل البحث عن مخصّص ممّا به المنع اقترن فإذا تقرّر لديك العلم بحال هذا الضّرب، وانفصاله عن الضّرب الأوّل بما تقدّم فإنّه "وعند ذا" العلم "يبدوا" ذلك "انفراد" وتميز "قسمه" عن القسم الأوّل "بـ" وجوب "البحث عن" دليل "مخصّص لحكمه".

وقد ذهب الجمهور إلى أنّه يحكم بانتفاء المخصّص لهذا الضّرب من العموم إذا غلب على الظّنّ انتفاؤه بعد البحث عنه، ولا يشترط القطع بذلك، لاعتياصه ولما يفضي إليه من إسقاط كثير من الأدّلة.

"فصل"

وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم وهل يصحّ من غير البحث عن مخصّص أم لا؟

فإنّه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أنّ القسم الأوّل غير محتاج فيه إلى بحث، إذ لا يصحّ تخصيصه إلّا حيث تخصّص القواعد بعضها بعضا.

فإن قيل: قد حُكِيَ الإجماعُ في أنّه يمنع العمل بالعموم حتّى يبحث هل له مخصّص أم لا؟ وكذلك دليل مع معارضه فكيف يصحّ القول بالتفصيل؟

فالجواب: أن الإجماعَ - إن صحّ - فمحمول على غير القسم المتقدّم جمعا بين الأدّلة، وأيضا فالبحث يبرز أنّ ما كان من العمومات على تلك الصيغة فغير مخصّص، بل هو على عمومه، فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدّم ما يحصل للمتأخر دون بحث بناء على ما ثبت من الاستقراء. والله أعلم

(1)

.

(1)

انظر الموافقات 3/ 256 - 257.

ص: 245

"‌

‌ الفصل الخامس في البيان والإجمال وفيه مسائل

"

"‌

‌ المسألة الأولى

"

2058 -

أُمِرْ رَّسُولُ اللهِ بِالْبَيَانِ

لِمُقْتَضَى جَوَامِعِ الْقُرْآنِ

2059 -

فَهْو الْمُبَلِّغُ لَهُ الْمُبَيِّنُ

وَذَا دَلِيلُهُ جَلِيٌّ بَيّنُ

" الفصل الخامس في البيان والإجمال" وفيه مسائل:

"المسألة الأولى"

وهو معقود "في"الكلام على "البيان والإجمال" وبيان معناهما والأحكام المتعلقة بهما، "وفيه" يعني وفي سبيل هذا البيان نورد "مسائل" وهي اثنتا عشرة مسألة. منها في الكلام على البيان النّبوي.

وذلك أنّه "أمر رّسول" بالإدغام - للرّاء في الرّاء - "الله" صلى الله عليه وسلم "بالبيان" والتفسير "لمقتضى" ومعنى "جوامع القرآن" وهي ما ورد فيه من ألفاظ يسيرة مطويّة على معان كثيرة.

"فهو "عليه الصلاة والسلام وحده "المبلِّغُ لهُ" أي لهذا المقتضى و"المبيّنُ" له على الحقيقة إذ سواه من علماء الأمّة وفقهائها ليسوا سوى متّبعين له في ذلك.

"وذا" الذي تقدّمَ ذكرُه من أنّه عليه الصلاة والسلام هو وحده المبيّن لما أنزله تعالى في كتابه العزيز "دليله" والبرهان الدّال عليه "جليٌّ" ظاهر "بيّن" واضح، إذ قد ورد منصوصا عليه في قوله - تعالى - {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فكان صلى الله عليه وسلم مبيّنا له "بالقول" كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث الطلاق: "فتلك العِدّة التي أمر الله أن يُطلَّق لها النّساء". وكما قال لعائشة رضي الله عنها حين سألته عن قوله - تعالى -: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] إنّما ذلك العرض. وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

ص: 246

2060 -

بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَبِالإِقْرَارِ

حَسَبَمَا قَدْ جَاءَ فِي الأخْبَارِ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

2061 -

الْعَالِمُونَ وَارِثُوا النَّبِيِّ

فِي هَدْيِهِ لِلْمِنْهَجِ السَّوِيِّ

2062 -

فَهُمْ مُطَالَبُونَ أَنْ يُبَيِّنُوا

لِلنَّاسِ بِالإِطْلَاقِ مَا تَبَيَّنُوا

" و" كان مبيّنا له - أيضا - بـ "الفعل" كما هو الحال في شأن الصّلاة، وقال:"صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي" والحجّ، وقال عند ذلك "خذوا عنّي مناسككم" إلى غير ذلك.

"و" كذلك كان مبيّنا "بالإقرار" وهو السّكوت عن الإنكار لفعل فاعل وهو عالم به، إذ هو عليه الصلاة والسلام لا يُقِرُّ الباطل، ولا يقبله، فسكوته عن الشّيء دليل على أنّه ليس بحرام ولا باطل.

ومن ذلك تقرّر حكمه بالإقرار إثبات النّسب بالقيافة، إذ أقرّ عليه الصلاة والسلام قول مجزز المدلجي في أقدام زيد وابنه أسامة أنّ هذه الأقدام بعضها من بعض واستبشر بذلك.

وهذا كلّه قد تقرّر أمره "حسبما قد" ورد و"جاء في الأخبار" والأحاديث الصحيحة، واتفق عليه علماء الأمّة.

"المسألة الثانية"

في بيان أن العالمَ يجبُ عليه بيان هذه الشَّريعة وما ورد فيها من علوم، وأحكام إذ "العالمون" هم "وارثوا النّبي" صلى الله عليه وسلم وذلك "في هديه" للعباد وإرشاده لهم "للمنهج" أي الطريق والسّبيل "السويّ" أي المستقيم ولذلك "فهم مطالبون" شرعا "أن يبيّنوا" ويوضحوا "للنّاس" مؤمنين كانوا أو كفارا "بالإطلاق ما" من المعارف والعلوم الشرعية "تبيّنوا" أي تبيّن لهم وظهر والدليل على هذا أمران:

ص: 247

2063 -

مِنْ جِهَةِ الإِرْثِ الذِي قَدْ صُحِّحَا

لَهُمْ وَبِالنَّصِّ الذِي قَدْ وَضَحَا

2064 -

وَإِذْ بَدَا تَعَيُّنُ الْبَيانِ

فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَمْرٌ ثَانِ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

أحدهما ما يؤخذ "من جهة" دليل "الإرث" للنّبي عليه الصلاة والسلام الثابت لهم، و"الذي قد صححا" - الألف للإطلاق - شرعا "لهم" فالعلماء ورثة الأنبياء، وهو معنى صحيح ثابت ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثه في البيان، وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلّة، وبين أصول الأدلّة في الإتيان بها، فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ

(1)

.

"و" ثانيهما ما تقرر "بالنّصّ" الوارد في ذلك و"الذي قد وضحا" اقتضاؤه له على جزم وقطع. قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] الآية. وقال - جلّت قدرته -: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42] وقال - تعالى -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140] والآيات في هذا المعنى كثيرة. وفي الحديث "ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلّا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحقّ، ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها" وقال: "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل" والأحاديث في هذا كثيرة، ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء، والبيان يشمل البيان الإبتدائي للنّصوص الواردة والتكاليف المتوجهة، فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم (1).

"وإذ" قد تقرّر و"بدا" أي ظهر من هذه الأدلّة السّابقة وما شابهها "تعيُّن" ووجوب "البيان" على أهل العلم به "فـ" إنّه "ينبني عليه" أي على هذا الوجوب والتعيّن "أمر ثان" آخر "وهو "ما تعقد له المسألة الموالية وهي:

"المسألة الثالثة"

المعقودة في ذكر أنّ العالم يبيّن بالفعل أيضا.

(1)

انظر الموافقات 260 - 261.

ص: 248

2065 -

إِذَا تَأَتّى مَعَ ذَا أَنْ يَصْدُرَا

بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَحَتْمٌ أَنْ يُرَا

2066 -

بِنِسْبِة الْعَالِمِ ذَا حُصُولِ

كَمِثْلِ مَا كانَ مِنَ الرَّسُولِ

2067 -

وَهَكَذَا قَدْ كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ

الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَشَأْنُ الْخَلَفِ

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

2068 -

الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ الْمُطَابِقَانِ

إِنْ وَقَعَا الْغَايَةُ فِي الْبَيَانِ

2069 -

لأجْلِ ذَاكَ قَالَ صَلُّوا وَخُذُوا

لِيَحْصُلَ الْبَيَانُ فِيمَا يُوخَذُ

وذلك أنّه "إذا تأتّى" وأمكن "مع ذا" الذي تقرّر في البيان النّبوي وهو "أن يصدرا" - الألف للإطلاق - عنه عليه الصلاة والسلام ويقع منه بيانه "بالقول والفعل" كما تقدّم ذكره "فـ" واجب و"حتم أن يرى" ويوجد هذا - وهو البيان بالقول والفعل - أيضا "بنسبة" واعتبار "العالم" أمرا "ذا حصول" له، وذلك "كمثل ما كان" البيان يحصل "من الرّسول" صلى الله عليه وسلم "وهكذا" وهو التبيين بالفعل كالقول "قد كان شأن" وحال "السّلف" الصالح "المقتدى بهم" في الأمور الدينية وكذلك كان "شأن الخلف" من أهل العلم. دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين في المسائل على إثر هذا - بحول الله -، فلا نطول به ههنا لأنه تكرار

(1)

.

"المسألة الرابعة"

في بيان مراتب هذه الوسائل البيانية، وأنّها متفاوتة.

فـ "القول والفعل" النّبويان "المطابقان" يعني المتطابقين المتّفقين "إن وقعا" معا بيانا لحكم ما فإنَّ ذلك هو "الغاية في البيان" الشّرعي للأحكام، وذلك كالبيان النّبوي الحاصل في شأن الطهارة، والصّلاة، والصّوم، والحجّ وغير ذلك من العبادات والعادات و"لأجل" تحصيل "ذاك" القدر العالي من البيان في شأن الصلاة "قال" عليه الصلاة والسلام بعدما أتى بها "صلّوا" - كما رأيتموني أصلي - "و" قال في شأن الحجّ، وهو فاعل له:"خذوا" - عنّي مناسككم - وذلك كلّه "ليحصل البيان" التامّ "فيما" من تلك العبادة "يوخذ" عنه.

(1)

انظر الموافقات 3/ 261.

ص: 249

2070 -

وَكلُّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِ

وَإِنْ يَكُنْ فِيهِ الْبَيَان الْهَادِي

2071 -

فَقَاصِرٌ مِنْ جَانِبٍ عَنْ غَايَهْ

وَبَالغ مِنَ آخَرَ النِّهَايَهْ

2072 -

فَالْفِعْلُ مُبْدٍ غَايَةَ الْبَيَانِ

فِي كُلِّ مَا رَجَعَ لِلْعَيَانِ

2073 -

مِمَّا لَهُ كَيْفِيَّةٌ مُعَيَّنَهْ

وَالْقَوْلُ دُونَهُ إِذَا مَا بَيَّنَهْ

هذا شأن ما إذا حصل البيان على الوجه التامّ الكامل. "و" أمّا إذا حصَّل "كلُّ واحد" منهما - القول والفعل - البيان "على انفراد" فإنّه "وإن يكن فيه" أي في هذا الضرب "البيان" النّبوي الكافي و"الهادي" إلى إثبات الحكم الشّرعي في مورده "فـ" إنّه بيان "قاصر من جانب عن" إفادة "غاية" البيان ونهايته "و" لكنّه "بالغ من "جانب "آخر" أقصى "النّهاية" والغاية في ذلك.

"فالفعل مبد" أي مظهرٌ ومفيد "غاية البيان" الشرعيّ "في كلّ ما" من الشّعائر والأمور الدينية "رجع" العلم به وإدراكه على ما هو عليه "للعيان" والمشاهدة كالصّلاة والحجّ وغيرهما "من" كلّ "ما له كيفيّة" وصورة خارجية "معيّنة" مخصوصة لا يبلغها البيان القولي، ولذلك بيّن عليه الصلاة والسلام الصلاة لأمّته، كما فعل به جبريل حين صلّى به، وكما بين الحجّ كذلك، والطّهارة كذلك "و" إن جاء البيان بالقول في ذلك فهو أي "القول دونه" الفعل في ذلك "إذا ما بيّنه" وفسّر صورته، فإنّه لو عرض البيان القولي في ذلك وما أشبهه على عين ما تلقّى بالفعل من الرّسول صلى الله عليه وسلم في شأنه، كان المدرك بالحسّ من الفعل فوق المدرك بالعقل من النّصّ، لا محالة.

وهبه عليه الصلاة والسلام زاد بالوحي الخاصّ أمورا لا تدرك من النّصّ على الخصوص، فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النّصّ لم ينافها بل يقبلها، فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله عليه الصلاة والسلام في الوضوء شمله بلا شكّ، وكذلك آية الحجّ مع فعله عليه الصلاة والسلام فيه، ولو تُرِكنا والنّصّ، لما حصل لنا منه كلّ ذلك، بل أمر أقل منه، وهكذا تجد الفعل مع القول أبدًا، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة، بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال، وإن كانت بسائطه معتادة كالصّلاة والحجّ والطّهارة ونحوها وإنّما يقرب مثل

ص: 250

2074 -

وَهْوَ عَنِ الْقَوْلِ لَهُ قُصُورُ

لأَنَّهُ مُخَصَّصٌ مَقْصُورُ

2075 -

وَالْقَوْلُ بِالْصِّيغَةِ ذُو تَفْهِيمِ

لِمُقْتَضَى الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ

2076 -

فِي الْحَالِ وَالأَزْمَانِ وَالأَعْيَانِ

فَهْوَ لِذَا أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ

هذا القول الذي معناه الفعليّ بسيط، ووجد له نظير في المعتاد، وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد، فبه حصل البيان لا بمجرد القول، وإذا كان كذلك لم يقم القول هنا في البيان مقام الفعل من كل وجه فالفعل أبلغ من هذا الوجه

(1)

.

"و" لكنّه "هو "أي الفعل "عن القول" من جانب آخر - وهو جانب إفادة العموم والخصوص ودرجة الحكم المأخوذ منه - "له قصور لأنّه" أي الفعل من جهة دلالته "مخصّص" بفاعله "مقصور" عليه. فلو تركنا والفعل الذي فعله النّبي صلى الله عليه وسلم مثلا لم يحصل لنا منه غير العلم بأنّه فعله في هذا الوقت المعيّن، وعلى هذه الحالة المعيّنة. فيبقى علينا النّظر: هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كلّ حالة، أو في هذه الحالة، أو يختصّ بهذا الزّمان، أو هو عامّ في جميع الأزمنة، أو يختصّ به وحده، أو يكون حكم أمّته حكمه؟

ثم بعد النّظر في هذا يتصدّى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله: من أي نوع هو من الأحكام الشرعية؟

وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان فلم يصحّ إقامة الفعل مقام القول من كلِّ وجه، وهذا بيّن بأدنى تأمل، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال حين بيّن بفعله العبادات:"صلّوا كما رأيتموني أصلّي"، و"خذوا عنّي مناسككم"، ونحو ذلك، ليستمر البيان إلى أقصاه

(2)

.

"والقول" ليس كذلك فإنّه "بالصّيغة ذو تفهيم" وبيان "لمقتضى الخصوص والعموم في الحال " - الألف واللام للجنس - أي الأحوال "والأزمان والأعيان" أي الأشخاص، فالقول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها "فهو لـ" أجل "ذا" الذي له من صيغ "أبلغ" وأقوى "في البيان" الشّرعي.

(1)

انظر الموافقات 3/ 262 - 263.

(2)

انظر الموافقات 3/ 263.

ص: 251

"‌

‌ فصل

"

2077 -

وَعِنْدَ ذَا لَا يَدْخُلُ التّرْجِيحُ

بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ وَذَا صَحِيحُ

2078 -

وَقَدْ يُرَى يَدْخُلُ فِيمَا وَرَدَا

عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ إنْ وُجِدَا

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

2079 -

وَمَا مِنَ الْقَوْلِ بَيَانًا يُطْلَقُ

فَالْفِعْلُ شَاهِدٌ لَهُ مُصَدِّقُ

تقرّر بما سبق وعلم به اختلاف الجهة التي يكون منها أحد البيانين: - القول والفعل - أرجح من الآخر "وعند ذا لا" يصحّ أن يقال إنّه "يدخل الترجيح" بإطلاق "بين البيانين" إذ لا يصدقان - على الدّوام - على محلّ واحد يتعارضان فيه، كما تقدّم بيانه، "وذا" أمر بيّن و"صحيح" كما ترى. "و" إنّما "قد يُرَى" التّرجيح وهو "يدخل فيما" إذا "وردا على محلّ" أي فعل بسيط معتاد - يعلم بالقول والفعل على سواء - "واحد إن وُجِدا"، وبذلك يقوم أحدهما مقام الآخر، وهنالك يقال: أيّهما أبلغ؟ أو أيّهما أولى، كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلا، فإنّه بيّن من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك، والذي وضع إنّما هو فعله ثمّ غسله، فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام صاحبه، أمّا حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسّي الأمّة به فيه، فيختص بالقول

(1)

.

"المسألة الخامسة"

في أنّ القول إذا وقع بيانا، فالفعل شاهد له، ومصدّق، أو مخصّص، أو مقيّد. "و" بيان ذلك أنّ "ما" أي الّذي "من القول" الشرعيّ أو الفقهيّ يجعل "بيانا" لحكم شرعيّ و"يطلق" لذلك "فالفعل" الموافق له الصادر من صاحب ذلك القول "شاهدٌ له" يقتضي الأخذ بظاهره وهو "مصدّقٌ" له أي مثبت صدقه، أو مخصّص له إن كان ذلك القول

(1)

انظر الموافقات 3/ 264.

ص: 252

2080 -

وَعَاضِدٌ يَرْفَعُ كُلَّ عَارِضْ

فَهْمًا إِذَا لَمْ يَكُ بِالْمُنَاقِضْ

2081 -

وَهْوَ مُكَذِّبٌ مَعَ التَّخَلُّفِ

وَمُوقِعُ الرِّيبَةِ وَالتَّوَقُّفِ

2082 -

وَذَاكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ مِنَ النَّظَرْ

وَمُقْتَضىً مِنَ الدَّلِيلِ الْمُعْتَبَرْ

عامّا وكان ذلك الفعل يقتضي ذلك أو مقيّدا له إن كان ذلك القول مطلقا وذلك الفعل يوجب تقييده.

"و" على الجملة هو "عاضدٌ" له ومقوّ "يرفع" ويزيل "كلّ" احتمال "عارض" يعرض فيه - أي القول - "فهما" أي من جهة فهم دلالته ومعناه.

وهذا كلّه "إذا لم يك" الفعل المذكور "بالمناقض" لذلك القول، والمخالف له. "و" هو أي الفعل المذكور "مكذّبٌ" أي حاكم بكذب ذلك القول "مع" حصول ووقوع "التّخلّف" أي تخلف الفعل عن القول، وحصول التنافي بينهما، "و" هو - أيضا - مع حصول هذا الذي ذكر من التّخلّف والتنافي "موقع" وموجب "للرّيبة" والشّكِّ في صدق ذلك القول "و" قد يوجب - أيضا - "التّوقّفِ" في ذلك كلّه لجريان التعارض في شأنه.

"وذاك" الذي تقرَّرَ في هذا الشأن كلِّه، "أمر بيّن" واضح "من" جهة "النّظر" وذلك أنّ العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني، ثمّ فعله هو ولم يخلّ به في مقتضى ما قال فيه، قوي اعتقاد إيجابه، وانتهض العمل به عند كلّ من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله، وإذا أخبر عن تحريمه مثلا، ثمّ تركه فلم ير فاعلا له ولا دائرًا حواليه، قوي عند متّبعه ما أخبر به عنه، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله، أو أخبر عن تحريمه ثم فعله، فإنّ نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى، بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة، إمّا من طريق احتمال إلى القول، وإمّا من تطريق تكذيب إلى القائل، أو استرابة في بعض مآخذ القول، مع أنّ التّأسّي في الأفعال والتروك بالنّسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغروز في الجبلّة، كما هو معلوم بالعيان، فيصير القول بالنّسبة إلى القائل كالتبع للفعل، فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتّباعه والتّأسّي به، أو عدم ذلك.

ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام في الرّتبة القصوى من هذا المعنى، وكان المتّبِعون لهم أشدّ اتّباعًا، وأجرى على طريق التّصديق بما يقولون، مع ما أيّدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة، ومن جملتها ما نحن فيه، فإنَّ شواهد العادات

ص: 253

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تُصدِّقُ الأمر أو تكذِّبُه، فالطبيب إذا أخبرك بأنَّ هذا المتناول سمّ فلا تقربه، ثم أخذ في تناوله دونك، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلَّةٍ بك ومِثلُهَا به، ثمّ لم يستعمله مع احتياجه إليه، دلَّ هذا كلّه على خلل في الإخبار، أو في فهم الخبر، فلم تطمئن النّفس إلى قبول قوله

(1)

.

"و" هذا - أيضا - هو "مقتضى" وحكم مأخوذ "من الدّليل" الشّرعي "المعتبر" الوارد في هذا الشّأن. قال - تعالى - {* أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44] وقال - سبحانه -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3] ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد فقد قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. وقال في ضدِّه: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].

فاعتبر في الصّدق كما ترى مطابقة الفعل القول، وهذا هو حقيقة الصّدق عند العلماء العاملين، فهكذا إذا أخبر العالم بأنّ هذا واجب أو محرم، فإنّما يريد على كلّ مكلّف وأنا منهم فإن وافق صدَق وإن خالف كذَب.

ومن الأدلّة على ذلك أنّ المنتصِبَ للنّاس في بيان الدّين منتصِبٌ لهم بقوله وفعله، فإنّه وارث النّبي، والنّبي كان مبيّنًا بقوله وفعله، فكذلك الوارث لا بدّ أن يقوم مقام الموروث، وإلّا لم يكن وارثًا على الحقيقة، ومعلوم أنّ الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يتلقّون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله، فكذلك الوارث، فإن كان في التّحفظ في الفعل كما في التّحفظ في القول، فهو ذلك، وصار من اتّبعه على هدى، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتّبعه على خلاف الهدى، لكن بسببه، وكان الصحابة رضي الله عنهم ربّما توقّفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيِّدُ المتبُوع عليه الصلاة والسلام ولم يفعله هو، حرصًا منهم على أن يكونوا متّبعين لفعله وإن تقدّم لهم بقوله، لاحتمال أن يكون تركُه أرجحَ، ويستدلُّون على ذلك بتركه عليه الصلاة والسلام له، حتّى إذا فعله اتّبعوه في فعله،

(1)

انظر الموافقات 3/ 264 - 265.

ص: 254

2083 -

وَمِنْ هُنَا دُخُولُ الاسْتِعْظَامِ

لِزَلِّة الْعَالِمِ فِي الأَنَامِ

2084 -

مِنْ حَيْثُ مَا مَنْصِبُهُ لِلاقْتِدَا

بِقَوْلهِ وَفِعْلِهِ وَالاهْتِدَا

كما في التّحلل من العمرة، والإفطار في السّفر، هذا وكلّ صحيح، فما ظنّك بمن ليس بمعصوم من العلماء؟ فهو أولى بأن يبيّن قوله بفعله، ويحافظ فيه على نفسه وعلى كلّ من اقتدى به.

ولا يقال: إنّ النّبي صلى الله عليه وسلم معصوم، فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبيّن خلل، بخلاف من ليس بمعصوم.

لأنّا نقول: إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل، فليعتبر في ترك اتباع القول، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح، وخرق لا يرقّع، فلا بدّ أن يجرى الفعل مجرى القول

(1)

.

"ومن" هذا الذي تقرّر في هذا الشأن "هنا" يأتي "دخول" ووقوع "الاستعظام لزلّة" وخطيئة "العالم" حتّى تصير صغيرته كبيرة "في"نظر "الأنام" أي النّاس وفي قلوبهم، بل وفي الشّرع أيضا، وذلك "من حيث ما منصبه" ومقامه في العادة منصوب "للاقتداء بقوله وفعله، والاهتداء" بهما، فإذا زلّ حُمِلت زلّتُه عنه قولا كانت، أو فعلا لأنّه موضوع منارا يهتدى به، فإذا علم كون زلّته زلّة صغرت في أعين النّاس وجسر عليها النّاس تأسيّا به وتوهّموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينًا للظّن به، وإن جهل كونها زلّة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع، وذلك كلّه راجع عليه.

وقد جاء في الحديث: "إنّي لأخاف على أمّتي من بعدي من أعمال ثلاثة". قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أخاف عليهم من زلّة العالم، ومن حُكم جائر، ومن هوى متَّبَع" وقال عمر بن الخطاب: "ثلاث يهدمن الدّين: زلّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون" ونحوها عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين. وعن معاذ بن جبل: "يا معشر العرب، كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلّة عالم، وجدال منافق بالقرآن؟ ".

(1)

انظر الموافقات 3/ 265 - 266.

ص: 255

2085 -

وَالْحَاصِلُ الأَفْعَالُ فِي التّأَسِّي

أَقْوَى وَأَدْعَى لِبَيَانِ الْحِسِّي

2086 -

لِذَا اعْتِبَارُ شَأْنِهَا تَأَكَّدَا

لِمَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ الاقْتِدَا

2087 -

وَكُلُّ مَا يَقُولُ أَوْ مَا يَفْعَلُ

لَهُ اعْتِبَارَانِ إِذَا يُفَصَّلُ

ومثله عن سلمان أيضًا، وشبّه العلماء زلّة العالم بكسر السفينة، لأنّها إذا غرقت غرق معها خلق كثير، وعن ابن عباس:"ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع".

وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدّين، أما زلّة العالم فكما تقدم، ومثال كسر السفينة واقع فيها، وأمّا الحكم الجائر فظاهر أيضًا، وأمّا الهوى المتبع، فهو أصل ذلك كلّه وأمّا الجدال بالقرآن، فإنّه من - اللَّسِن الأَلَدِّ - من أعظم الفتن لأنّ القرآن مهيب جدًّا، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقًّا، وصار مظنّة للاتباع على تأويل ذلك المجادل، ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة إلّا من ثبّتَ الله لأنّهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها، فصاروا فتنة على النّاس، وكذلك الأئمة المضلون، لأنّهم - بما ملكوا من السلطنة على الخلق - قدروا على ردّ الحقّ باطلا والباطل حقًّا، وأماتوا سنّة الله وأحيوا سنن الشيطان، وأمّا الدّنيا فمعلوم فتنتها للخلق

(1)

.

"والحاصل" أنّ "الأفعال في "شأن "التأسّي" والاقتداء "أقوى وأدعى" يعني أولى وأقرب "لبيان" الشّيء "الحسّي" إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال، و"لذا" الأمر الاهتمامُ بها و"اعتبار شأنها" أمر واجب بل قد "تأكّدا" وجوبه "لـ" يعنى على كلّ "من يقوم في مقام"، ومحلّ "الاقتداء" والاتّباع، فيجب عليه أن يتفقّد جميع أقواله وأفعاله، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه، أو ممنوع، "و" ذلك لأنّ "كلّ ما يقولـ"ــه "أو ما يفعاـ"ــه "له اعتباران" وملحضان شرعيّان "إذا يفصّل" ذلك الذي يقوله أو يفعله - أي ينظر فيه على وجه التّفصيل والبيان الشّامل لحاله -.

(1)

انظر الموافقات 3/ 266 - 267 - 268.

ص: 256

2088 -

فَبِاعْتِبَارِ جِهَةِ التَّكْلِيفِ

جَرَتْ عَلَى الأحْكَامِ فِي التّصْرِيفِ

2089 -

وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُبَيِّنَا

لِمَا مِنَ الْمَشْرُوعِ قَدْ تَعَيَّنَا

2090 -

فَقَوْلُهُ كَفِعْلِهِ مُقَسَّمُ

فِي حَقِّهِ وَاجِبٌ أَوْ مُحَرَّمُ

2091 -

وَهْو مُبَيَّنٌ بِهِ الْمَشْرُوعُ

فَغَيْرُ مَا بَيَّنَهُ مَمْنُوعُ

2092 -

وَذَا لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَا تَقْرِيبُ

يَظْهَرُ مِنْهُ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ

" فـ" أحدهما ما تقرّر "باعتبار جهة التّكليف" الشّرعيّ الأصليّ الذي يشترك فيه مع جميع المكلّفين، فهذه الجهة - كما هو معلوم - قد "جرت" في حقّه كسائر المكلّفين "على الأحكام" الخمسة الجاري مقتضاها "في"شأن "التّصريف" يعني تصرف المكلّفين، وعملهم. "و" ثانيهما: ما ثبت "باعتبار كونه مبيّنا" ومقررا "لما من" الحكم "المشروع قد تعيّنا" الألف للإطلاق - معلوم عينه بالدّليل الشّرعي، وبمقتضى هذا الاعتبار تصرّفاته لا تجري عليها الأحكام الخمسة، وإنّما يجري عليها الحظر والوجوب.

"فقوله كفعله" كلاهما "مقسّم في حقّه" إما "واجب" فرض عليه "أو محرّم" عليه، ولا ثالث لهما، "و" إنّما كان حكم ما ذكر من قوله وفعله كذلك لأنّه "هو مبيّن" ومقرر "به" ما هو المطلوب إتيانه و"المشروع" فعله، وبذلك "فغير ما" أي الذي من الأفعال والأقوال "بيّنه" بإتيانه وفعله "ممنوع" لأنّه ما ترك إتيانه وفعله إلّا لأنّه محرّم عنده بوجه ما.

"وذا" الموضوع يأتي "له من بعد ذا" الذي أوردناه فيه "تقريب" وتقرير "يظهر منه" أي من هذا التّقريب والتّقرير الآتي "الغرض" أي المقصود من هذا الكلام و"المطلوب" إدراكه منه. لكن هذا بالنّسبة إلى المقتضى به إنّما يتعيّن حيث توجد مظنّة البيان، أمّا عند الجهل بحكم الفعل أو التّرك، وإمّا عند اعتقاد خلاف الحكم، أو مظنّة اعتقاد خلافه. فالمطلوب فعله: بيانه بالفعل، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبًا، وكذلك إن كان مندوبًا مجهول الحكم، فإن كان مندوبًا مظنّة لاعتقاد الوجوب فبيانه بالتّرك أو بالقول الذي يجتمع إليه التّرك، كما فعل في ترك الأضحية وترك صيام السّتّ من شوّال وأشباه ذلك، وإن كان مظنّة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنّة للتّرك، فبيانه

ص: 257

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالفعل والدّوام فيه على وزان المظنّة، كما في السّنن والمندوبات التي تنُوسِيَتْ في هذه الأزمنة. والمطلوب تركه: بيانه بالتّرك أو القول الذي يساعده التّرك إن كان حراما، وإن كان مكروها، فكذلك إن كان مجهول الحكم، فإن كان مظنّة لاعتقاد التّحريم وترجيح بيانه بالفعل تعيّن الفعل على أقل ما يمكن وأقربه، وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وقال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وفي حديث المصبح جنبًا قوله: "وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصّيام". وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة: "يا عبد الرحمن، أترغب عمّا كان رسول الله يصنع؟ قال عبد الرحمن: لا والله، قالت عائشة: فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم". وفي حديث أم سلمة: "ألا أخبرتيها أنّي أفعل ذلك

" إلى آخر الحديث.

وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه قال: "رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول:

وهن يمشين بنا هميسا

إن تصدُقِ الطّيرُ نفعل لميسا

قال: فذكر الجماع باسمه فلم يكن عنه، قال: فقلت: يا بن عباس! أتتكلم بالرفث وأنت محرم؟ فقال: إنّما الرّفث ما روجع به النّساء"، كأنّه رأى مظنّة هذا الاعتقاد فنفاه بذلك القول بيانًا لقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197]، وأنّ الرّفث ليس إلّا ما كان بين الرّجل والمرأة، وإن كان مظنّة لاعتقاد الطلب أو مظنّة لأن يثابر على فعله، فبيانه بالتّرك جملة إن لم يكن له أصل، أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل كما في سجود الشّكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام، حسبما بيّنه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح، وستأتي إن شاء الله.

وعلى الجملة فالمراعى ههنا مواضع طلب البيان الشّافى المخرج عن الأطراف والانحرافات، والرادّ إلى الصراط المستقيم، ومن تأمل سير السّلف الصّالح في هذا المعنى تبيّن ما تقرَّرَ بحول الله، ولا بدَّ من بيان هذه الجملة بالنّسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتّى يظهر فيها الغرض المطلوب، والله المستعان

(1)

.

(1)

انظر الموافقات 3/ 268 - 269 - 297.

ص: 258

"‌

‌ المسألة السّادسة

"

2093 -

وَإِنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْمَنْدُوبِ

أَنْ لَّا يُسَوَّى مَعَ ذِي الْوُجُوبِ

2094 -

فِي قْولٍ أَوْ فِعْلٍ لِذَاكَ قَادَا

كعَدَمِ التَّسْوِيَةِ اعْتِقَادَا

2095 -

إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مِنَ التَّنْبِيهِ

غَيْرِ مُخِلِّ بِاعْتِقَادٍ فِيهِ

2096 -

وَذَاكَ مِثْلُ تَرْكِ الالْتِزَامِ

لِفِعْلِهِ وَلَا عَلَى الدَّوَامِ

2097 -

وَهْوَ لَدَى الشَّرْعِ كَثِيرٌ مُعْتَبَرْ

وَكَمْ حَدِيثٍ يَقْتَضِيهِ وَأَثَرْ

2098 -

قَدْ تَرَكَ الرَّسُولُ مَحْبُوبَ الْعَمَلْ

خَشْيَةَ أَنْ يَعُودَ فَرْضًا اسْتَقَلْ

" المسألة السّادسة"

في وجوب عدم التّسوية بين المندوب والواجب في القول والعمل والاعتقاد.

"و" ذلك "إنّ من حقيقة" وماهية الحكم "المندوب" شرعا "أن لّا يُسَوَّى مع" الحكم "ذي الوجوب" أي الواجب "في قول أو فعل" على وجه يكونان فيه قد أفضيا "لذاك" الذي ذكر من التّسوية و"قادا" له "كعدم التّسوية" بينهما "اعتقادا" فإنّه ممنوع كذلك "إلّا" أن يسوّى بينهما في القول والعمل "على وجه" فيه ضرب "من التّنبيه" والدّلالة على ثبوت الفرق بينهما، وبذلك فهو "غير مخلّ" أي محدث للخلل "بـ" أي في "اعتقاد" المكلّف "فيه" وإنّما يبقى كلّ حكم منهما - أي الواجب والمندوب - في الاعتقاد على ما هو عليه في الشّرع "وذاك" الوجه يحصل بـ "مثل ترك الالتزام لفعله" أي المندوب "و" إتيانه "لا على" سبيل "الدّوام" والاستمرار، وبذلك ينفصل حاله عن حال الواجب الذي من صفته إتيانه على سبيل الدّوام والاستمرار في وقته المحدّد له شرعا. "و" هذا التّصرُّف "هو "تصرّف وارد "لدى" أي في "الشّرع" وهو "كثير" فيه و"معتبر" مقتضاه فيه "وكم" من "حديث" نبويّ "يقتضيه" ويدلّ عليه "و" كم من "أثر" ورد في تقريره، فـ "قد ترك الرّسول" صلى الله عليه وسلم "محبوب العمل" - فيه إضافة الصّفة إلى الموصوف - أي العمل المحبوب فعله شرعا، ولم يتركه إلّا "خشية" ومخافة "أن يعود" أي يصير "فرضا" وواجبا "استقلّ " وانفرد بذاته، بعد أن كان مندوبا فقط. ومن ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد فصلّى بصلاته ناس كثير، ثم صلّى من القابلة فكثروا،

ص: 259

2099 -

فَقِيلَ خَوْفَ فَرْضِهِ بِالأَمْرِ

وَحْيًا وَهَذَا الْخَوْفُ لَيْسَ يَسْرِي

2100 -

وَقِيلَ خَوْفَ الْفَرْضِ أَنْ يُظَنَّا

فَيَدْخُلُ الْعَالِمُ فِي ذَا الْمَعْنَا

ثم اجتمعوا من اللّيلة الثالثة فلم يخرج إليهم، فلمّا أصبح قال:"قد رأيت صنيعكم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلّا أنّي خشيت أن تفرض عليكم" وذلك في رمضان. وقد وقع الخُلفُ بين أهل العلم في الجانب الذي خاف صلى الله عليه وسلم أن يكون به افتراض العبادة بسبب هذه المواظبة عليها فقيل إنّه صلى الله عليه وسلم كان منه ذلك - التّرك - "خوف فرضه" أي القيام المذكور وإيجابه "بالأمر" الإلاهي "وحْيًا" منه، تعالى - له صلى الله عليه وسلم "وهذا الخوف" جعْلُه هو العلّة - هنا - غير بيّن، إذ لا ارتباط ظاهر بين المواظبة على عبادة ما وفرضها وإيجابها بالوحي، وبذلك فجعل هذا الخوف هو الخوف النّبوي المقصود في هذا المقام أمر "ليس يسري" قبوله في مقتضيات العقول، وإن كان عليه الجمهور - كما قال المصنّف -.

"وقيل": إنّما كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام "خوف" أن يعتقد الوجوب و"الفرض" في ذلك الفعل و"أن يُظنَّا" - الألف للإطلاق - إنْ داوم عليه قال القسطلاني: "قال أبو العبّاس القرطبي: "معناه تظنّونه فرضا للمداومة فيجب على من يظنّه كذلك، كما إذا ظنّ المجتهد حِلَّ شيء أو تحريمه وجب عليه العمل بذلك". وقيل: إنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان حكمه أنّه إذا ثبت على شيء من أعمال القرب واقتدى النّاس في ذلك العمل فرض عليهم، ولذا قال خشيت أن تفرض عليكم. اهـ

واستبعد ذلك في "شرح التقريب" وأجاب بأنّ الظّاهر أنّ المانع له عليه الصلاة والسلام أنّ النّاس يستحلّون متابعته ويستعذبونها ويستسهلون الصّعب منها فإذا فعل أمرًا سهل عليهم فعله لمتابعته فقد يوجبه الله عليهم لعدم المشقّة عليهم فيه في ذلك الوقت، فإذا توفيّ عليه الصلاة والسلام زال عنهم ذلك النّشاط وحصل لهم الفتور فشقّ عليهم ما كانوا استسهلوه لا أنّه يفرض عليهم ولا بدّ كما قال القرطبي وغايته أن يصير ذلك الأمر مرتقبًا متوقعًا قد يقع وقد لا يقع، واحتمال وقوعه هو الذي منعه عليه الصلاة والسلام من ذلك قال: ومع هذا فالمسألة مشكلة ولم أر من كشف الغطاء في ذلك.

وأجاب في الفتح: بأنّ المخوف افتراض قيام اللّيل بمعنى جعل التهجد في

ص: 260

2101 -

وَيَتْرُكُ الْعِبَادَةَ النَّدْبِيَّهْ

خَوْفَ اعْتِقَادِ أَنَّهَا فَرْضِيَّهْ

المسجد جماعة شرطًا في صحة التنفل في اللّيل ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: "حتّى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلّوا أيها النّاس في بيوتكم"، فمنعهم من التّجمّعِ في المسجد إشفاقًا عليهم من اشتراطه وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم

(1)

.

وإذا تقررّ ما تقدّم من أنّ مداومته عليه الصلاة والسلام على أمر قد يعتقد فيه الوجوب، وهو ليس كذلك "فـ" إنّه بمقتضى الإقتضاء "يدخل العالِمُ" - أيضا - "في ذا المعنا" والحكم، فالعالم المقتدى به يلزمه هذا الإتّقاء محتاطا في هذا الشّأن، "و" بذلك "يترك العبادة الندبية" سواء كانت عبادة بدنية أو مالية وذلك "خوفَ" - بالنّصب مفعول لأجله - "اعتقاد" النّاس "أنّها" عبادة "فرضيّة" أي مفروضة وواجبة، وقد مضى على هذا السّنن - التّرك المذكور - الصّحابة رضي الله عنهم لمّا فهموا هذا الأصل من الشّريعة وكانوا أئمة يقتدى بهم، فتركوا أشياء، وأظهروا أشياء ليبيّنوا أن تركها غير قادح، وإن كانت مطلوبة فمن ذلك ترك عثمان القصر في السّفر في خلافته، وقال:"إنّي إمام النّاس، فينظر إليَّ الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين، فيقولون: هكذا فرضت"، وأكثر المسلمين على أن القصر مطلوب.

وقال حذيفة بن أسيد: "شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحِّيانِ مخافة أن يَرَى النّاس أنّها واجبة"، وقال بلال:"لا أبالي أن أضحِّيَ بكبشٍ أو بديكٍ".

وعن ابن عباس أنّه كان يشتري لحمًا بدرهمين يوم الأضحى، ويقول لعكرمة:"من سألك، فقل هذه أضحية ابن عباس، وكان غنيًّا".

وقال بعضهم: "إنّي لأترك أضحيتي وإنّي لمن أيسركم، مخافة أن يظنّ الجيران أنّها واجبة".

وقال أبو أيوب الأنصاري: "كنّا نضحّي عن النّساء وأهلينا، فلمّا تباهى النّاس بذلك تركناها"، ولا خلاف في أن الأضحيةَ مطلوبةٌ.

وقال ابن عمر في صلاة الضحى: "إنّها بدعة"، وحمل على أحد وجهين: إما أنّهم

(1)

انظر إرشاد الساري 3/ 438.

ص: 261

2102 -

وَيَتْرُكُ الْمُبَاحَ فِي مَظِنَّهْ

الاعْتِقَادِ أَنَّ ذَاكَ سُّنَّهْ

2103 -

وَمَالِكٌ لَهُ بِهَذَا الْبَابِ

عِنَايَةٌ تُوجَدُ فِي أَبْوَابِ

2104 -

إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

عِبَادَةً وَعَادَةً بِمَانِعِ

كانوا يصلّونها جماعة، وإمّا أفذاذًا على هيئة النّوافل في أعقاب الفرائض، وقد منع النّساء المساجد مع ما في الحديث من قوله:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" لما أحدثنَ في خروجِهنَّ ولما يخاف فيهنّ

(1)

.

"و" كذلك "يترك" هذا العالم المقتدى به فعل "المباح" إذا كان فعله له واردا "في مظِنَّة" أي موضع يفضي فيه الظنّ من النّاس إلى "الاعتقاد أن ذاك" الفعل "سنّة" متّبعة. وأئمة المسلمين استمروا بالعمل بهذا الأصل على الجملة، وإن اختلفوا في التّفاصيل.

"و" الإمام "مالك" بن أنس رحمه الله "له" اهتمام "بهذا الباب" - الذي هو اتّقاء ودرء فساد المعتقد في الأحكام - و"عناية" قويّة "توجد" ظاهرة ومتجلية في المسائل الواقعة تحت حكم هذا الأصل والمنقولة أحكامها عنه وهي مثبوتة "في أبواب" من الفقه.

ومن ذلك أنّه كره هو وأبو حنيفة صيام ستّ من شوَّال، وذلك للعلّة المتقدّمة، مع أن الترغيبَ في صيامها ثابتٌ صحيحٌ. لئلا يُعتقدَ ضمُّها إلى رمضان. قال القرافي: وقد وقع ذلك للعجم.

وقال الشّافعي في الأضحية بنحو ذلك حيث استدلّ على عدم الوجوب بفعل الصّحابة وتعليلهم.

والمنقول عن مالك من هذا كثير، وإنّما وقع اعتبار هذا الأصل في مذهبه "إذ لم يكن للسّدّ" والإغلاق "للذّرائع" أي الوسائل المفضية إلى المحظور وقوعا أو توقعا سواء كان الموضوع

الذي عرض فيه ذلك "عبادة وعادة بـ" شخص "مانع" له، وإنّما اتّخذه - أي سدّ الذّرائع - كما هو معلوم أصلا من أصوله المعتبرة المتّبعة.

(1)

انظر الموافقات 3/ 261.

ص: 262

"‌

‌‌

‌ فصل

"

2105 -

ثُمَّ بَيَانُ الْقَوْلِ مَهْمَا يُكْتَفَا

بِهِ لَدَى التّفْرِيقِ مِمَّا يُقْتَفَا

2106 -

أَوْ لَا فَبِالْفِعْلِ وَلَوْ فِي سَابِقِ

لَهُ وَفِي قَرِينَةٍ وَلَاحِقِ

" فصل"

2107 -

وَلَا مَعَ الْمُبَاحِ تَرْكًا خَوْفَ أَنْ

يُظَنَّ أَنَّ تَرْكَهُ هُوَ السَّنَنْ

" فصل"

"ثمّ" إنّ التّفرقة بين المندوب والواجب كما تحصّل بما ذُكرَ، فإنّها يحصِّلها كذلك "بيان القول" بأن يصرّح بأنَّ هذا واجب، وذاك مندوب وذلك "مهما" أي كان محصّلا للمراد منه، وبذلك "يكتفى به" عن البيان الفعلي، وذلك لأنَّ هذا البيان القولي "لدى" أي عند جريان "التّفريق" بين الأحكام الشرعية "ممّا يقتفى" ويتبع، ويجرى عليه. وأمّا إن كان لا يكتفى به "أوْ لَا" يحصل البيان المراد به "فـ" إنّه لا مناص من البيان "بالفعل ولو" يكون "في سابق" يعني بفعل سابق "له" أي للمندوب يدلّ على أنّه غير واجب، كأن يترك الاستعداد له "و" قد يكون "في قرينة" يعني بفعل يكون قرينة على أنَّه مندوب - كعدم المواظبة، والاستخفاء. "و" قد يكون بفعل "لاحق" يَدلّ على ذلك - كترك القيام في الجماعة في رمضان بعد فعله وأمثلة أخرى ظاهرة مما تقدَّم ذكره.

وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النَّصِّ. وأمّا المنصوصة المفصّلُ بيانها بالقول فلا كلام فيها. وعلى كلِّ حال فالفعل أقوى في هذا المعنى لما تقدّم أن الفعل يصدق القوال أو يكذبه.

"فصل"

"و" كما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يُسوّى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن "لا" يُسوّى "مع" الفعل "المباح تركا" يعني في التّرك المطلق من غير بيان، وذلك "خوف" وخشية "أن يظنّ أنّ تركه" أي المندوب "هو السّنن" المحكوم به شرعا فيه، وذلك لتسويته بالمباح في التّرك.

ص: 263

2108 -

مَعْ أَنَّ فِيهِ طَلَبًا بِالْكُلِّ

وَالتَّرْكُ إِخْلَالٌ بِأَمْرٍ كُلِّي

2109 -

فَالْمُقْتَدَى بِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ

يَفْعَلُ مَنْدُوبًا وَلَا يَلْتَزِمُهْ

2110 -

وَقْدْ يُرَى الأَصْلُ لِذَا فِعْلُ عُمَرْ

فِي غَسْلِ ثَوْبِهِ عَلَى مَا فِي الأثَرْ

وهو أمر لا يسوغ الجريان عليه فيه - أي المندوب - "مع" ما تقرّر شرعا في شأنه من "أن فيه طلبا" يقتضي فعله وجوبا "بالكلّ" وإن كان مندوبا بالجزء - كما تقدّم بيانه في كتب الأحكام - "و" بذلك فإنَّ "التّرك" له بالكلّية "إخلال" وذهاب "بأمر كلّي" قد يكون واجبا، فيؤدي ذلك التّرك إلى الإخلال بالواجب، وبذلك "فـ" إنَّ العالمَ "المقتدى به" بناء "على ما" تقدّم أنّه "يلزمه" في هذا الشّأن "يفعل" ما كان من العبادات "مندوبا و" يظهره للنّاس ليعملوا به، لكن "لا يلتزمه" ولا يداوم عليه لما تقدّم ذكره وتقريره. وهذا كلّه مطلوب ممّن يقتدى به كما هو شأن السّلف الصّالح.

وفي هذا الحديث الحسن عن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا بني إن قدرت أن تصبح وليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثمّ قال لي: يا بني! وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي؛ فقد أحبني، ومن أحبني كان معى في الجنة" فجعل العمل بالسنّة إحياء لها فليس بيانها مختصًّا بالقول. وقد قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكّة وهو الأبطح: "أستحبّ للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به فإنّ ذلك من حقِّهم لأنَّ ذلك أمر قد فعله النّبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، فيتعيّن على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ويكون للنّزول بهذا الموضع حكم النّزول بسائر المواضع، لا فضيلة للنُّزول به بل لا يجوز النُّزول به على وجه القربة". هكذا نقل الباجي. وهو ظاهر من مذهب مالك في أن المندوب لا بدَّ من التَّفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب، وذلك بفعله وإظهاره

(1)

.

"وقد يرى" أي يعتقد أنّ "الأصل لذا" النَّهج المقرّر هنا هو "فعل عمر" بن الخطّاب رضي الله عنه وذلك "في غسلـ"ــه "ثوبه" وقال "على ما في الأثر" بل أغسلُ ما رأيتُ وأنضح ما لم أر.

(1)

انظر الموافقات 3/ 275 - 276.

ص: 264

"‌

‌ المسألة السابعة

"

2111 -

مِنْ حَقِّ مَنْسُوبٍ إِلَى الإِبَاحَةِ

أَنْ لَّا يُسَوَّى مَعَ ذِي الْكَرَاهَةِ

2112 -

فِي التَّرْكِ دَائِمًا وَلَا الْمَنْدُوبِ

بِقَصْدِ فِعْلِهِ عَلَى الدُّؤُوبِ

2113 -

خَشْيَةَ أَنْ يُعَدَّ فِي الْمَكْرُوهِ

أَوْ قُرْبَةً إِلَّا مَعَ التَّنْبِيهِ

قال بعضهم في هذا الحديث إنّ عمر رأى أنّ أعماله وأقواله نهج للسنّة، وأنّه موضع للقدوة، يعني فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك، وصار ذلك أصلا في التّوسعة على النّاس في ترك تكلّف ثوب آخر للصّلاة، وفي تأخير الصّلاة لأجل غسل الثوب، وفي الحديث:"واعجبًا لك يا ابن العاص! لئن كنت تجد ثيابًا أفكلُّ النّاس يجد ثيابًا! والله لو فعلتها لكانت سنة" الحديث ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده ففي "العتبية" قيل لعمر بن عبد العزيز: أخّرت الصّلاة شيئًا. فقال: "إنّ ثيابي غُسلت". قال ابن رشد: "يحتمل أنّه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدّنيا، أو لعلّه ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعًا لله ليقتدى به في ذلك، ائتساءً بعمر بن الخطاب، فقد كان أتبع النّاس لسيرته وهديه في جميع الأحوال

(1)

. وانظر مزيد تقرير لهذه المسألة في الأصل.

"المسألة السابعة"

في بيان أنّ "من حقّ" كلّ فعل أو قول "منسوبٍ" شرعا "إلى" حكم "الإباحة أن لَّا يسوّى" ويوحّد "مع" الفعل أو القول "ذي الكراهة" الشّرعية "في التّرك" الذي هو حكم المكروه "دائما""و" كذلك من حقّه أن "لا" يسوّى مع "المندوب" - كما تقدّم ذكره - وكذلك "بقصد فعله" وإتيانه "على الدؤُّوب" أي الدّوام والاستمرار، كما هو الأمر الجاري في المندوب.

وإنّما منعت التّسوية بين المباح والمكروه في التّرك "خشية أن يعد" ويحسب المباح "في" قسم "المكروه" توهما. فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضّبّ، ويقول:"لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه"، وأكل على مائدته فظهر حكمه وقدِّم إليه طعام فيه ثوم لم يأكل منه، قال له أبو أيوب وهو الذي بعث به إليه: يا رسول

(1)

انظر الموافقات 3/ 276.

ص: 265

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الله! أحرام هو؟ قال: "لا ولكنّي أكرهه من أجل ريحه" وفي رواية أنّه قال لأصحابه: "كلوا فإنّي لست كأحدكم، إنّي أخاف أن أؤذي صاحبي" وروي في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلّقْنِي وأمسكني، واجعل يومي لعائشة. ففعل، فنزلت:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] فكان هذا تأديبًا وبيانًا بالقول والفعل لأمر ربّما استقبح بمجرى العادة، حتى يصير كالمكروه، وليس بمكروه.

والأدلّة على هذا الفصل نحو من الأدلّة على استقرار المندوبات

(1)

.

وكذلك لا يسوّى بين المباح والمندوب حتّى لا يظنّ كونه - أي المباح عبادة "أو قربة" - بضمّ القاف - ما يتقرب به إلى الله - تعالى - من العمل الصالح "إلَّا مع التّنبيه" بالقول أو غيره على التّفرقة بين المباح والمندوب، وبين المباح والمكروه فإنّه إن سوّى بين المباحات والمندوبات بالدّوام على فعلها على كيفيّة فيها معيّنة من غير التّنبيه المذكور وغير ذلك توهّمت مندوبات كما تقدّم في مسح الجباه بأثر الرّفع من السجود ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به، وقد حكى عياض عن مالك أنّه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة، فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام، فقال: "ابدأوا بأبي عبد الله، فقال مالك: إن أبا عبد الله - يعني نفسه - لا يغسل يده، فقال: لم؟ قال: ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، إنّما هو من رأي الأعاجم، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه.

فقال له عبد الملك: أأترك يا أبا عبد الله؟ قال: إي والله، فما عاد إلى ذلك ابن صالح. قال مالك: ولا نأمر الرّجل أن لا يغسل يده، ولكن إذا جعل ذلك كأنّه واجب عليه فلا، أميتوا سنّة العجم، وأحيوا سنّة العرب، أما سمعت قول عمر: تمعْددُوا، واخشوشنوا، وامشوا حفاة، وإياكم وزِيَّ العجم"

(2)

.

(1)

انظر الموافقات 3/ 278 - 279.

(2)

انظر الموافقات 3/ 278.

ص: 266

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

2114 -

حَقِيقَةُ الْمَكْرُوهِ حَيْثُ يَأْتِي

أَنْ لَّا يُسَوَّى بِالْمُحَرَّمَاتِ

2115 -

وَذَاكَ مَطْلُوبٌ بِهِ الْبَيَانُ

بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ وَهْوَ الشَّانُ

2116 -

خَوْفًا مِنْ أَنْ يَطُولَ فِيهِ الْعَهْدُ

فَيُوجِبُ التَّرْكَ لَهُ مَنْ بَعْدُ

" المسألة الثامنة"

في أنّ المكروهات لا يسوّى بينها وبين المحرّمات، ولا بينها وبين المباحات.

وذلك أنّ "حقيقة" استقرار "المكروه حيث" أي في موضع "يأتي" سواء كان عبادة أو معاملة "أن لّا يسوّى" في الاعتبار العملي والنّفسي "بالمحرَّمات" بل يجب التّفريق بينهما على الوجه المذكور "وذاك" التّفريق وعدم التّسوية "مطلوب" ومقصود "به البيان" للحكم الثّابت لهما شرعا، ويكون ذلك التّفريق المقصود به هذا البيان "بما اقتضاه الحال" وواقع الأمر في ذلك "و" إذا حصل هذا البيان فإنّه "هو الشّان" المطلوب والغرض المقصود، وإنّما وجب هذا البيان "خوفا من أن يطول فيه" يعني في تركه - أي المكروه - "العهد" والأمد حتّى يظنّ أنّه حرام "فيوجب" ذلك "التّرك له" بالإطلاق "من بعد" عند من يجهل حكمه.

ولا يقال: إنّ في بيان ذلك ارتكابا للمكروه وهو منهي عنه.

لأنا نقول: البيان آكد، وقد يرتكب النّهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة، ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم على الزّاني، وما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام له:"أنِكْتَهَا" هكذا من غير كناية، مع أن ذكر اللّفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع؟ غير أنّ التّصريح هنا آكد، فاغتفر لما يترتب عليه فكذلك هنا، ألا ترى إلى إخبار عائشة عمّا فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في التقاء الختانين، وقوله عليه الصلاة والسلام:"ألا أخبرتيها أنّي أفعل ذلك"، مع أن ذكر مثل هذا في غير محلّ البيان منهي عنه؟ وقد تقدّم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله:"إن تصدق الطير نَنِكْ لميسا" فمثل هذا لا حرج فيه

(1)

.

(1)

انظر الموافقات 3/ 280.

ص: 267

2117 -

وَلَا يُسَوَّى بِمُبَاحٍ فِعْلُهُ

خَشْيَةَ ظَنِّ أَنَّ ذَاكَ أَصْلُهُ

2118 -

وَذَا الْبَيَانُ فِيهِ أَمْرٌ جَارِ

بِالزَّجْرِ وَالتَّغْيِيرِ وَالإِنْكَارِ

2119 -

لَا سِيّمَا مَا كَانَ عُرْضَةً لأَنْ

يُظَنَّ فِيهِ أَنَّه مِنَ السَّنَنْ

2120 -

وَمَا مَضَى مِنْ هَذه الْمَسَائِلِ

فِي ضِمْنِهِ مَنْشَأُ فِقْهٍ طَائِلِ

2121 -

مِنْ ذَاكَ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ الاقْتِدَا

لَا يَنْبَغِي لَهُ الْتِزَامٌ سَرْمَدَا

2122 -

لِمَا مِنَ الْعِبَادَةِ النَّدْبِيَّهْ

وَلَا اقْتِصَارُهُ عَلَى كيْفِيَّهْ

" و" كما لا يسوّى بين المكروه والحرام كذلك "لا يسوّى" المكروه "بـ" الـ "مباح فعله" في عمله دائما وترك اتّقاءه واجتنابه وذلك "خشية ظنّ" قد يحصل بسبب ذلك فيفيد "أن ذاك" وهو الإباحة له - أي للمكروه - وجواز فعله بلا حرج هو "أصله" شرعا، وبذلك ينقلب حكمه من المكروه إلى المباح عند من يجهل حكمه الشّرعي.

"وذا" الموضع "البيان" الذي هو "فيه أمر جار" هو بيان كون المكروه مكروها "بالزّجر" والرّدع عن فعله "والتّغيير" له لأنّه منكر "والإنكار" على فاعله على القدر الذي يليق به شرعا "لا سيّما ما كان" من المكروهات "عُرْضة" - بضم العين وسكون الراء - يعني معروضا مهيئا بمقتضى حاله الذي هو عليه "لأن" يعتقد و"يظنّ فيه أنّه من السّنن" المرغب فيها شرعا، وذلك المكروهات المفعولة في المساجد، وفي مواطن الإجتماعات الإسلامية، والمحاضر الجمهورية. ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من هذه المكروهات، بل ومن المباحات كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحرّ وما أشبه ذلك

(1)

.

اعلم أنّ ما تقدم ذكره "وما مضى" إيراده "من هذه المسائل" قد احتوى وضمّ "في ضمنه" أصول وقواعد هي "منشأ" ومأخذ "فقه" أي علم بالفروع الفقهيّة "طائل" واسع. "من ذاك" الفقه الذي يؤخذ من هذا أنّ "من حلّ" ونزل "محلّ الاقتداء" به فصار منظورا إليه مرموقا في هذا الشّأن متّبعا أو كان مظنّة لذلك "لا ينبغي له" ولا يستحسن منه الـ "التزام" دائما "سرمدا لما" أي للذي هو "من العبادة" البدنيّة "النّدبيّة". "و" كذلك "لا" ينبغي له "اقتصاره على كيفيّة" واحدة إذا كانت تلك العبادة

(1)

انظر الموافقات 3/ 280 - 281.

ص: 268

2123 -

مِمَّا أَتَى شَرْعًا بِكَيْفِيَّاتِ

وَلْيَتْرُكِ الدّؤُوبَ فِي أَوْقَاتِ

" ممّا أتى شرعا بكيفيّات" متعدّدة، وإن فهمت من الألفاظ المطلقة وبناء على هذا فإنّ على هذا المقتدى به ترك التزام العبادة على هذا الوجه "وليترك الدّؤوب" والدّوام على فعل تلك العبادة "في أوقات" حتّى يعلم أنّها غير واجبة، لأنّ خاصيّة الواجب المكرّر الالتزام به والدّوام عليه في أوقاته، بحيث لا يتخلّف عنه.

كما أن خاصيّة المندوب عدم الالتزام، فإذا التزمه فهم النّاظر نفس الخاصيّة الّتي للواجب، فحمله على الوجوب، ثم استمرَّ على ذلك فَضَلَّ.

وكذلك إذا كانت العبادة تتأتّى على كيفيّات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفيّة الأخرى، أو ضمّت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه، أو كان المباح يتأتّى فعله على وجوه، فيثابر فيه على وجه واحد تحريًا له ويترك ما سواه، أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر، بحيث يفهم منه في التّرك أنّه مشروع. ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السّجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه النّاس، قرأها في كرّة أخرى، فلمّا قرب من موضعها تهيأ النّاس للسّجود، فلم يسجدها، وقال:"إنّ الله لم يكتبها علينا إلّا أن نّشاء"، وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء فقال:"أيحبّ أن يذبح؟ " إنكارًا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطّلب فيها عند الوضوء، ونقل عن عمر أنّه قال:"لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا" يعني: في الوضوء، مع أنّ المستحب التيامن في الشّأن كلّه.

ومثال العبادات المؤدّاة على كيفيّات يلتزم فيها كيفيّة واحدة إنكار مالك لعدم تحريك الرّجلين في القيام للصلاة. ومثال ضمّ ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود، وحديث عمر مع عمرو:"لو فعلتها لكانت سنّة، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر".

ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنّه سئل عن المرّة الواحدة في الوضوء قال: "لا، الوضوء مرتان مرتان، أو ثلاث ثلاث"، مع أنّه لم يحدّ في الوضوء ولا في الغسل إلّا ما أسبغ.

قال اللّخمى: "وهذا احتياط وحماية، لأنّ العامي إذا رأى من يقتدى به يتوضأ مرّة مرّة فعل مثل ذلك، وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصّلاة به"،

ص: 269

2124 -

إِلَّا بِحَيْثُ الأَمْنِ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدْ

جَاهِلٌ الْوُجُوبَ فِيمَا يَعْتَمِدْ

2125 -

وَعِنْدَمَا كَانَ أَوْلُوا التَّصَوُّفِ

قَدْ جَاهَدُوا النُّفُوسَ فِي التَّصَرُّفِ

2126 -

وَخَرَجُوا فِي سَائِرِ الأُمُورِ

فِعْلًا وَتَعْلِيمًا عَنِ الْجُمْهُورِ

والأمثلة كثيرة

(1)

.

وهذا الحكم المقرّر هنا الجاري مقتضاه في هذا الشّأن، فعلى المقتدى به الالتزام به "إلّا بحيث" أي في موضع قد حصل فيه "الأمن من" ذاك المحظور وهو "أن يعْتقِدَ جاهِلٌ" الحكم الشّرعيّ في ذاك "الوجوب فيما يعتمد" من ذلك ويفعل، وهذا الأمن يحصل فيما من لم يفعل بحضرة النّاس، بحيث فعله المقتدى به في نفسه، وحيث لا يطّلع عليه مع اعتقاده على ما هو به. فهذا لا بأس به، كما قاله المتأخرون في صيام ستّ من شوّال: إن فعل ذلك في نفسه معتقدا وجه الصّحة فلا بأس.

وكذا قال مالك في المرّة الواحدة: "لا أحبّ ذلك إلا للعالم بالوضوء"، وما ذكره اللّخمي يشعر بأنّه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدي به فلا بأس، وهو جار على المذهب، لأنّ أصل مالك فيه عدم التّوقيت، فأمّا إن أحبَّ الالتزام، وأن لا يزول عنه ولا يفارقه فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من النّاس، لأنّه إن كان كذلك فربَّما عدّه العامّي واجبًا أو مطلوبًا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك، ولا يكون كذلك شرعًا، فلا بدّ في إظهاره من عدم التزامه في بعض الأوقات، وذلك على الشّرط المذكور في أوّل كتاب الأدلّة

(2)

.

خلاصة القول أنّه عند ثبوت الأمن من المحظور المذكور بالكتمان والإخفاء يصار إلى الدّوام على ذلك، "و" هو أمر سائغ فإنّه "عندما كان أولوا" أي أهل "التّصوف قد جاهدوا" أي حاربوا "النّفوس" أي رعوناتها واعوجاجها "في التّصرُّف" أي العمل، حتّى انفصلوا بذلك "وخرجوا" به "في سائر الأمور" العباديّة والعاديّة "فعلا" وسلوكا "وتعليما" لمن يربّونهم "عن" طريق "الجمهور" الماضي على السّبيل

(1)

انظر الموافقات 3/ 271 - 272.

(2)

انظر الموافقات 3/ 282.

ص: 270

2127 -

كَانَ دُؤُوبُهُمْ عَلَى الْعِبَادَهْ

مُنَاسِبًا حَالَهُمُ الْمُعْتَادَهْ

2128 -

وَهُمْ أَهْمُّ حَالِهِمْ فِي الشَّأنِ

تَوْصِيَّةُ الأَتْبَاعِ بِالْكِتْمَانِ

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

2129 -

حَقِيقَةُ الْوَاجِبِ فِي اسْتِقْرَارِهِ

عَلَى لُزُومِ الْفِعْلِ وَاسْتِمْرَارِهِ

2130 -

فَلَا يُسَوَّى مَعَ الإِنْحِتَامِ

بِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الأَحْكَامِ

المعتاد "كان دؤوبهم" ودوامهم "على" فعل "العبادة" مطلقا "مناسبا" وجاريا على وفق "حالهم" وطريقتهم "المعتادة" لهم في التربية والسلوك، وهي الطريقة التي التزموا فيها بالتّسوية بين الواجب والمندوب في التزام الفعل، وبين المكروهات والمحرّمات في التّرك، بل سوّت بين كثير من المباحات والمكروهات في التّرك. "وهم أهم حالهم" الذي يأخذون به "في"هذا "الشأن" الذي هم عليه هو "توصيّة الأتباع" والمريدين "بالكتمان" والإخفاء لما هم عليه من حال وذلك خوفا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظنّ ما ليس بواجب واجبا، أو ما هو جائز غير جائز، وتعريضهم لسوء القال فيهم، فلا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم لأنّهم إلى هذا الأصل يستندون، ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل إما لحال غالبة، أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح، انفتح عليهم باب سوء الظنّ من كثير من العلماء، وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه، وهذا كلّه محظور

(1)

.

"المسألة التاسعة"

في بيان أنّ الواجبات لا تستقّر واجبات إلّا إذا لم يسوَّ بينها وبين غيرها من الأحكام الأخرى. وذلك أن "حقيقة" الحكم "الواجب" شرعا إنّما تتحقّق "في استقراره" وبنائه "على لزوم الفعل" الواجب به "واستمراره بلا قطع له من المكلّفين، وبذلك "فـ" إنّه "لا يسوّى" ولا يوحّد "مع" اتّصافه بوصف "الإنحتام" والوجوب "بغيره من سائر" أي بقيّة "الأحكام" الأربعة الأخرى - الإباحة، والنّدب،

(1)

انظر الموافقات 3/ 283.

ص: 271

2131 -

وَمِثْلُ ذَاكَ الْقَوْلُ فِي الْحَرَامِ

فِي حَتْمِ تَرْكِهِ عَلَى الدَّوَامِ

2132 -

وَذَاكَ ظَاهِرٌ وَلَكِنْ يُنْتَقَلْ

مِنْهُ لِمَعْنىً حُكْمُهُ بِهِ اتَّصَلْ

2133 -

وَذَاكَ أَنَّ الْوَاجِبَاتِ تَنْقَسِمْ

قِسْمَيْنِ مَا الْعِقَابُ فِيهِ يَنْحَتِمْ

2134 -

دُنْيَا عَلَى التَّرْكِ لَهُ وَثَانِ

مُخَالِفٌ لَهُ بِهَذَا الشَّانِ

2135 -

حَقِيقَةُ امْتِيَازِ قِسْمَيْهَا مَعَا

أَنْ لَّا يُسَوَّيَا بِحَيْثُ وَقَعَا

2136 -

وَالْحُكْمُ أَيْضًا فِي الْمُحَرَّمَاتِ

مِنْ جِهِة الْفِعْلِ عَلَيْهِ آتِ

2137 -

وَكُلُّ مَا يُحْذَرُ فِيمَا قَدْ مَضَا

مِنْ عَدَمِ الْبَيَانِ فِي ذَا مُقْتَضَا

والكراهة، والتّحريم - فهو لا يتساهل في تركه البتّة. "ومثل ذاك" القول المذكور في الواجب هو "القول" الذي يقال "في الحرام" وذلك في عدم تسويته بغيره من الأحكام الأخرى و"في حتم" أي وجوب ولزوم "تركه" واجتناب إتيانه "على الدّوام" فلا يؤتى، ولا يتسامح في إتيانه. "وذاك" كلّه "ظاهر" بيّن، فلا حاجة إلى الاستدلال عليه، وتقريره "ولكن ينتقل منه" أي من هذا الذي ذكر "لـ" ذكر "معنى" وشأن معنى آخر "حكمه" تعلّق "به" أي بما ذكر و"اتّصل" به من جهة بيان حال الجزاء المترتّب عليه "وذاك أنّ الواجبات" من حيث الجزاء المترتّب عليها "تنقسم" إلى "قسمين": أحدهما "ما" أي الواجب الذي "العقاب فيه " يعني في شأنه أمر "منحتم" أي واجب "دنيا" يعني في الدنيا وذلك "على التّرك له""وثانـ"ــيهما واجب "مخالف له" أي لهذا الأول "بهذا" أي في هذا "الشأن" المذكور، فهو لا يترتب على تركه عقاب دنيوي وبذلك فـ "حقيقة امتياز" وانفصال "قسميها" المذكورين "معا" بذلك "أن لّا يسوّيا" أو يوحدّا بينهما في البيان. "بحيث وقعا" ووردا "و" هذا "الحكم أيضا" جار "في" شأن "المحرّمات" وذلك "من جهة الفعل" لها وإتيانها فهو "عليه آت" ووارد، إذ من المحرّمات ما يترتب على فعلها العقاب الدّنيويّ، ومنها ما ليس كذلك "و" بناء عليه فـ "كلّ ما يحذر" ويخاف منه "فيما قد مضى" ذكره "من عدم البيان" المفضي إلى تمييز الأحكام بعضها عن بعض اعتقادا وفعلا "في ذا" الموضوع الذي نحن فيه - هنا - هو أمر "مقتضى" أي محكوم به فيه، وثابت.

ص: 272

2138 -

وَجُمْلَةُ الْمَاضِي مِنَ الأَدِلَّهْ

تُلْفَى هُنَا فِي الْحُكْمِ مُسْتَقِلَّهْ

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

2139 -

وَيَلْزَمُ الْبَيَانُ فِيمَا يَرْجِعُ

إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ حَيْثُ يَقَعُ

" وجملة الماضي" أي الذي مضى ذكره "من الأدلّة" في مجاري الاستدلال على أنّه ينبغي التّفريق بين الأفعال المختلفة الأحكام بما به يقع التمايز بينها، وتعلم به أحكامها تلك "تلفى" وتوجد "هنا" في هذا الموضوع "في" إفادة هذا "الحكم" المقرّر هنا قائمة و"مستقلة" أي ناهضة. ويتبين هذا الموضع، أيضا - بأن يقال: إذا وضع الشّارع حدّا في فعل مخالف، فأقيم ذلك الحدّ على المخالف، كان الحكم الشّرعي مقرّرًا ومبيّنا، فإذا لم يقم فقد أقرّ على غير ما أقرّه الشّارع، وغُيِّرَ إلى الحكم المخالف الذي لا يترتّب عليه مثل ذلك الحكم، ووقع بيانه مخالفًا، فيصير المنتصب لتقرير الأحكام قد خالف قولَه فعلُه، فيجري فيه ما تقدّم، فإذا رأى الجاهل ما جرى توهّم الحكم الشّرعي على خلاف ما هو عليه، فإذا قرّر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر، حصلت الرّيبة، وكذَّبَ الفعلُ القولَ كما تقدّم بيانه، وكلّ ذلك فساد، وبهذا المثال يتبيّن أنّ وارث النّبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها في أنفسها وفي لواحقها وسوابقها، وقرائنها، وسائر ما يتعلّق بها شرعًا، حتّى يكون دين الله بيّنًا عند الخاصّ والعامّ، وإلّا كان من الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] الآية

(1)

.

"المسألة العاشرة"

في أنّ البيان كما يلزم في الأحكام التّكليفية فإنّه يلزم - كذلك - في الأحكام الرّاجعة إلى خطاب الوضع، بلا فرق. "و" بيان ذلك "يلزم" ويجب على العالم "البيان فيما" من الأحكام "يرجع إلى خطاب الوضع" المتقدّم تفصيل الكلام فيه "حيث" ما "يقع" ويوجد، سواء كان عبادة، أو معاملة، وهذا البيان يحصل بالقول بحيث يبيّن به الشّرط والسّبب،

(1)

انظر الموافقات 3/ 284.

ص: 273

2140 -

بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كَمَا تَقَرَّرَا

فِيمَا يَلِي التَّكْلِيفَ حُكْمُهُ جَرَا

2141 -

فَحَيْثُ مَا قُرِّرَتِ الأَسْبَابُ مَعْ

مُوَافِقِ الْفِعْلِ الْبَيَانُ قَدْ وَقَعْ

2142 -

وَإِنْ يَكُ الْفِعْلُ عَلَى خِلَافِ

تَقْرِيرِهَا ءَاذَنَ بِالتَّنَافِي

2143 -

وَمِثْلُهُ حَالُ الْبَيَانِ الْوَاقِعِ

لِمُقْتَضَى الشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ

2144 -

وَذَاكَ مَا دَلِيلُهُ بِخَافِ

فِي الشَّرْعِ فَالتَّنْبِيهُ فِيهِ كَافِ

2145 -

وَقَدْ أَتَى عَنِ الرَّسُولِ فِي الْخَبَرْ

إِعْمَالُهُ الرُّخْصَةَ فِي حَالِ السَّفَرْ

والمانع كلّ في محلّه "و" يحصل أيضا بـ "الفعل" بحيث يعمل على وفقه "كما" في البيان بالقول والفعل الذي ثبت و"تقرر فيها" رجع من الخطاب "إلى" خطاب "التكليف" و"حكمه جرى" فيه "فحيث ما قرّرت الأسباب" قولا "مع موافق الفعل" يعني مع الفعل الموافق لذلك فإنّه بذلك "البيان" المطلوب لها "قد" حصل للنّاس و"وقع" في أذهانهم.

"و" أمّا "إن يك الفعل" قد وقع "على خلاف" بيانها بالقول و"تقريرها" به فإنّ ذلك قد "آذن" وأعلم "بالتّنافي "والاختلاف بين البيانين.

"ومثله" أي هذا الذي تقرّر في شأن بيان الأسباب من حال هو "حال البيان الواقع" الجاري "لمقتضى" وحكم "الشّروط والموانع" والرّخص والعزائم وغيرها مما هو راجع إلى خطاب الوضع، فما تقدّم تقريره في أمر بيان أسباب يُجْرَى على سننه بيان الشّروط والموانع والرّخص وما جرى مجراها في كونه راجعا إلى خطاب الوضع، بلا فرق.

"وذاك" كلّه "ما" أي ليس "دليله" الدّال عليه "بخاف في الشّرع" بل هو ظاهر، بيّن، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] الآية، وقوله - تعالى - {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44] وما ورد في شأن وجوب البيان على أهل العلم شرعا، وذلك كلّه معلوم، وقد تقدّم ذكره "فالتّنبيه" عليه - هنا - مغن عن ذكره، وهو "فيه كاف" كما هو بيّن، "وقد" يزاد لذلك أدلّة أخرى يتقرّر بها هذا الأمر.

ومنها: أنّه قد "أتى عن الرّسول" عليه الصلاة والسلام كما "في الخبر" الصّحيح "إعمال الرّخصة" يعني الإفطار والقصر "في حال السّفر" فكان بيانا لجريان هذه الرّخصة فيه، وعلى هذا السّبيل مضى في بيان ما سوى ذلك من الأحكام الوضعيّة

ص: 274

2146 -

حَتَّى لَقَدْ أَقَصَّ فِي الأَسْبَابِ

مِنْ نَفْسِهِ الْعَلِيَّةِ الْجَنَابِ

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

2147 -

مَا بَيَّنَ الرَّسُولُ لا إِشْكَالَ فِي

صِحَّتِهِ وَالْخُلْفُ فِيهِ مُنْتَفِ

2148 -

لأنَّهُ الْمَبْعُوثُ لِلْبَيَانِ

بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْقُرْآنِي

2149 -

وَمِثْلُهُ مَا أَجْمَعَ الصَّحَابَهْ

عَلَى بَيَانِهِ بِلَا اسْتِرَابَهْ

2150 -

وَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً مَا قَدْ صَدَرْ

مِنْ غَيْرِ إِجْمَاعٍ لَهُمْ فِيهِ نَظَرْ

" حتّى" إنّه "لقد أقصّ" - أي طلب أخذ القصاص - وهو "في" مجرى بيان "الأسباب" التي تترتّب عليه أحكام شرعيّة "من نفسه العليّة" القدر الساميّة "الجَنابِ" - بفتح الجيم - أي المقام، والمحلّ. والشواهد في هذا الشأن كثيرة، كإقامة الحدود، وبيان شروط صحّة العبادات ووجوبها، وصحّة المعاملات.

"المسألة الحادية عشرة"

في أنّ البيان النّبويّ حجّة لا يتطرّق لها الشّكّ على الإطلاق، وأما بيان الصّحابة فالمعتبر فيه ما أجمعوا عليه لأنّ ذلك لا يكون إلّا عن نقل، وأمّا ما لا يجمع عليه فيه فإنّ كونه معتبرا ودليلا شرعيّا موضع خلاف. وذلك أنّ "ما بيّنـ"ــه "الرّسول" صلى الله عليه وسلم "لا إشكال" ولا كلام "في صحّته" وكونه حجّة شرعيّة "و" بذلك فإنّ "الخلف فيه" - في كونه كذلك - أمر "منتف" ومفقود على الإطلاق "لأنّه" صلى الله عليه وسلم "المبعوث" المرسل "للبيان" الشّرعي "بمقتضى" وحكم "دليله" أي دليل كونه مبيّنا لهذا الدّين على الإطلاق، وهو الدّليل "القرآني" الذي هو قوله - سبحانه -:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]"و مثله" أي البيان النّبوي في كونه حجّة شرعيّة "ما أجمع" وأطبق "الصّحابة" - رضوان الله عليهم - "على بيانه" فإنّه - أيضا - حجّة شرعيّة "بلا" وجود "استرابة" أي شكّ في كونه كذلك. وذلك كإجماعهم - بعد الخلف - على الغسل من التقاء الختانين المبيّن - لقوله تعالى -: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. وغير ذلك مما جرى فيه إجماعهم. "وهل يكون" دليلا شرعيّا و"حجّة ما قد صدر" عنهم "من غير" وجود "إجماع لهم" عليه؟ هذا العلماء لهم "فيه نظر" وبحث

ص: 275

2151 -

لَكِنَّ الاعْتِمَادَ فِي الْبَيَانِ

عَلَيْهِمُ يَعْضُدُهُ أَمْرَانِ

2152 -

عِلْمُهُمْ بِمُقْتَضَى اللِّسَانِ

مِنْ جِهَةِ الأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِ

2153 -

وَكَوْنُهُمْ مُبَاشِرِي الْوَقَائِعِ

مُشَاهِدِي الْوَحْيِ بِكُلِّ وَاقِعِ

2154 -

فَهُمْ لِذَيْنِ أَقْعَدُ الْبَرِيَّهْ

بِالْفَهْمِ لِلْقَرَائِنِ الْحَالِيَّهْ

2155 -

فَحَيْثُ جَاءَ عَنْهُمْ تَبْيِينُ

حُكْمٍ فَالاتِّبَاعُ مُسْتَبِينُ

2156 -

وَانْظُرْ لِمَالِكٍ فَإنَّهُ اعْتَبَرْ

فِي مُقْتَضَى السُّنَّةِ تَبْيِينَ الأَثَرْ

وتفصيل، فجرى في شأنه اختلافهم لذلك. "لكن" الصحيح هو "الاعتماد في البيان" مطلقا "عليهم" لأنّ ذلك يرجّحه و"يعضده" أي يقوّيه "أمران":

أحدهما: "علمهم" الصّحيح المتين "بمقتضى" ومدلول "اللّسان" العربيّ "من جهة" دلالة "الألفاظ" اللّغوية "و" من جهة ما قد يقصد بها من "المعانِـ"ــي المجازيّة وغيرها، وذلك لأنّهم عرب فصحاء، لم تتغيّر ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم. فهم أعرف في فهم الكتاب والسنّة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قول، أو عمل واقع موقع البيان صحّ اعتماده من هذه الجهة. "و" الثاني "كونهم مباشري" ومتولّي "الوقائع" والأحداث - النّوازل - التي تنزل بهم، فكانوا لذلك أعلم من غيرهم بحقائقها، وكذلك كونهم "مشاهدي" تنزيل "الوحي بكلّ" نصّ "واقع" نزوله، والخطاب به، سواء كان من الكتاب أو من السنّة.

"فهم لـ" أجل "ذين" الأمرين اللّذين امتازوا هم بهما "أقعد" أي أولى وأجدر "البريّة" أي النّاس "بالفهم" والبيان للنّصوص الشّرعيّة، وذلك أن هذين الأمرين متضمنان "لـ" ما لا تحمله الألفاظ، ولا تدلُّ عليه بدلالتها المعروفة وهو "القرائن الحالية" التي تصحب النّوازل وأهلها، وتضمر في الكلام عادة، ومنها: أسباب التّنزيل، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن أخبر بالخبر، فما راء كمن سمع وبذلك.

"فـ" إنّه "حيث جاء" وورد "عنهم تبيين حكم" كتقييد مطلق أو تخصيص عامّ، أو تبيين معنى لفظ تعلّق به حكم شرعيّ "فالاتباع" في ذلك كلّه لهم رجحانه وصحّته أمر "مستبين" ظاهر، وقد أخذ بعض العلماء بهذا في مجاري تفقّههم في النّصوص الشّرعيّة، "و" في هذا الشّأن "انظر لمالك" - رحمه الله تعالى - "فإنّه" في موطّئه قد "اعتبر في "فهم ومعرفة "مقتضى" ومعنى ألفاظ "السّنّة" النّبويّة ما أفاده ودلّ عليه "تبيين" وتفسير "الأثر" المنقول عن الصّحابة، فكان يعتمد على ذلك في بيان السّنن، وما يعمل به منها، وما لا يعمل به

ص: 276

2157 -

هَذَا إِذَا لَمْ يُلْفَ مِنْ خِلَافِ

وَالإِجْتِهَادُ عِنْدَهُ يُوَافِي

2158 -

كَذَاكَ مَا يَكُونُ لَا يَفْتَقِرُ

لِذَيْنِكَ الأَمْرَيْنِ فِيهِ يُنْظَرُ

2159 -

وَهَوَ مَحَلُّ الْخُلْفِ فِي التَّقْلِيدِ

لَهُمْ وَلَكِنْ مَعَ ذَا التَّقْيِيدِ

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

2160 -

وَإِنَّ الإِجْمَالَ لَغَيْرُ وَاقِع

فِي الشَّرْع بِالنُّصُوصِ فِي مَوْاضِعِ

منها، وما يقيّد به مطلقاتها. و"هذا" إنّما يصار إليه في بيان الصّحابة "إذا لم يلف" أي يوجد ما يقدح في حجّيته "من خلاف" منقول عنهم في ذلك، فإن نقل عن أحد منهم خلاف في ذلك فإن النّظر "والاجتهاد" في المسألة "عنده" أي يعني عند حصول هذا الخلاف هو الذي "يوافي" أي يأتي، فيكون هو المصير إليه حينئذ، عوضا عمّا نقل عن الصّحابة في ذلك من رأي. "كذاك" لا يؤخذ بذلك الذي نقل عن الصّحابة من رأي في "ما" أي في الذي "يكون" من المواضع موضع اجتهاد، وبذلك فهو "لا يفتقر" أي يحتاج "لذينك الأمرين" المذكورين، وإنّما يبحث "فيه" و"ينظر" في شأنه لبيان الحكم الفقهيّ بسبيل الإجتهاد، والنّظر الفقهيّ - كما تقدّم ذكره -، لأنّ الصّحابة ومن سواهم في ذلك سواء، وذلك كمسألة العول، والوضوء من النّوم وكثير من مسائل الرّبا التي قال فيها عمر بن الخطاب: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّن لنا آية الرّبا، فدعوا الرّبا والرّيبة، أو كما قال. ومن أهل العلم من يأخذ بقول الصّحابي ورأيه، في مثل هذه المسائل، ومنهم من ليس كذلك، وإنّما يأخذ في ذلك بالنّظر والإجتهاد، "و" بذلك فإن هذا المحلّ "هو محلّ الخلف" كذلك بيّن العلماء على الوجه المذكور، وهو مبني على الخلف الجاري "في" صحّة "التّقليد لهم" أي الصّحابة واتّخاذ رأيهم دليلا شرعيّا، وليس هذا الخلف فيما تقدّم أنّ بيانهم فيه حجّة "ولكن" هذا - الخلف - إنّما يحصل "مع ذا التّقييد" المذكور وهو كون المحلّ محلّ اجتهاد، ونظر، وقع الخلف بينهم - أي الصّحابة -.

"المسألة الثانية عشرة"

في أنّ الإجمال في الشّريعة إمّا أنّه متعلّق بما لا ينبني عليه تكليف، وإمّا أنّه غير وارد فيها. "و" في بيان ذاك يقال:"إن الإجمال" وهو انبهام المعنى "لـ" شيء "غير واقع" وروده "في"نصوص هذا "الشّرع" العظيم. وهذا أمر قد ثبت تقريره "بالنّصوص" الشّرعيّة الواردة "في مواضع" والتي دلّت على ذلك، ومنها قوله - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

ص: 277

2161 -

أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا لَا يَنْبَنِي

عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ لِأَمْرٍ بَيِّنِ

2162 -

وَذَاكَ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا

لَيْسَ يُطَاقُ وَامْتِنَاعُهُ سَمَا

2163 -

إِذْ لَيْسَ بِالْجَائِزِ فِي الْبَيَانِ

تَأْخِيرُهُ عَنْ حَاجَةِ الإِنْسَانِ

دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وقوله - سبحانه - {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} [آل عمران: 138] وقوله - تعالى - {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وقوله سبحانه - {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)} [لقمان: 3] وإنّما كان هدى لأنّه مبيّن، والمجمل لا يقع به بيان، وكلّ ما في هذا المعنى من الآيات وفي الحديث "تركتكم على البيضاء: ليلها كنهارها" وفيه "تركت فيكم اثنين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّتي" ويصحّح هذا المعنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ويدلّ على أنّهما بيانٌ لكلّ مشكل، وملجأٌ من كلّ معضل، وفي الحديث "ما تركت شيئا ممّا أمركم الله به إلّا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا ممّا نهاكم الله عنه إلّا وقد نهيتكم عنه" وهذا المعنى كثير فإن كان في القرآن شيء مجمل فقد بيّنته السنّة كبيانه للصّلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها وللزّكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال وللحجّ إذ قال خذوا عنّي مناسككم وما أشبه ذلك ثمّ بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك ممّا لم ينصّ عليه في القرآن والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام

(1)

.

فإذا ثبت هذا فكلّ ما ورد في النّصوص الشّرعية وهو ممّا دلّ على مكلّف به فإنّه لا يكون إلّا محكما مبيّنا، فإن وجد فيها شيء ممّا هو مجمل فإنّه متّصل "أو متعلّق بما لا ينبني عليه تكليف" عملي، أو عقدي، وذلك "لأمر" يقتضي ذلك "بيّن" ظاهر "وذاك" الأمر هو "ما يلزم من" ذلك من "تكليف ما ليس يطاق و "هو أمر "امتناعه" هو القول الذي صحّ شرعا و"سما" رجحانه "إذْ ليس بالجائز" السّائغ "في" شأن "البيان" لما وقع به التّكليف "تأخيره" أي البيان "عن" وقت زمان "حاجة الإنسان" إليه. وهذا موضع قد تقدّم ذكره في مجاري الكلام على المتشابه والمحكم.

(1)

انظر الموافقات 3/ 289.

ص: 278

‌الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل

2164 -

أَدِلَّة الشَّرْعِ عَلَى التَّفْصِيلِ

أَرْبَعَةٌ بِنِسْبَةِ التَّأْصِيلِ

2165 -

أَوَّلُهَا الْكِتَابُ ثمَّ السُّنَّهْ

فَالرَّأْيُ وَالإِجْمَاعُ بَعْدَهنَّهْ

2166 -

وَقَدْ مَضَى فِي الرَّأْيِ وَالإِجْمَاعِ

رَدُّهُمَا لِقِسْمِ ذِي السَّمَاعِ

2167 -

فَلْنَقْتَصِرْ لِأَجْلِ ذَا مِنْهُنَّهْ

عَلَى الْكِتَابِ مُرْدَفًا بِالسُّنَّهْ

" الطرف الثاني" من الطرفين اللذين ذكر أن النظر يتعلق بهما، وهو معقود "في"ذكر "الأدلة" الشرعية "على التفصيل" بحيث يذكر كل دليل منها على حدة.

وفي ذلك يقال: "أدلة" الأحكام المنصوبة في "الشرع" لتؤخذ منها تلك الأحكام "على التفصيل" هي "أربعة" وذلك "بنسبة" أي اعتبار اتصافها بوصف "التأصيل" أي كونها أصولا عامة.

"أولها: الكتاب" العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "ثم السنة" النبوية "فالرأي" - أي القياس "والإجماع بعد" ذلك، فهذه "هذه" - الهاء للسكت والترتيب - هنا - بين الرأي والإجماع لفظي، إذ الإجماع مقدم على الرأي في القوة الحجية، كما لا يخفى.

"وقد مضى في" شأن "الرأي" أي القياس "والإجماع" على أنهما ليسا أصلين مستقلين في إفادة الأحكام الفقهية، إذ قد ثبت "ردهما لقسم" النص "ذي السماع" وهو نص الكتاب والسنة، إذ هما ليسا بحجة شرعية إلا بهما، ثم قصارى أمرهما الدلالة على ثبوت ما دلا عليه من حكم في النص الشرعي الذي هو في حقيقة الأمر دليل كل حكم شرعي على الإطلاق.

وإذا تقرر هذا "فلنقتصر لأجل ذا" الذي تقدم ذكره من رد الدليلين المذكورين إلى الكتاب والسنة "منهنه" أي الأدلة المذكورة على الحديث والكلام "على الكتاب" العزيز "مردفا" أي متبعا "بـ" الكلام على "السنة".

والله ولي التوفيق.

ص: 279

‌الدليل الأول: الكتاب وفيه مسائل:

"‌

‌المسألة الأولى

"

2168 -

إِنَّ كِتَابَ اللهِ أُسُّ الْحِكْمَهْ

وَمَطْلَعُ الْهَدْى وَمَجْلَى الرَّحْمَهْ

2169 -

وَعُمْدَةُ الشَّرْعِ وَأَصْلُ الْمِلَّهْ

وَمَنْشَأُ الأَحْكَامِ وَالأدِلَّهْ

2170 -

وَءَايَةُ التَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَهْ

وَالْمَلْجَأُ الْمُنْجِي مِنَ الضَّلَالَهْ

2171 -

فَوَاجِبُ الْمَعْنِيِّ بِالشَّرِيعَهْ

لُزُومُهُ فِي قَصْدِهِ ذَرِيعَهْ

" الدليل الأول: الكتاب وفيه" يعني في سبيل الكلام عليه المقصود - هنا - نورد "مسائل" وهي أربع عشرة مسألة.

"المسألة الأولى" منها في التذكير بـ "أن كتاب الله" تعالى: القرآن الكريم - هو "أس" - بضم الهمزة - أي أساس وينبوع "الحكمة" أي الإصابة في القول والعمل، والتزام سلوك الصراط المستقيم على بصيرة، "و" كذلك هو "مطلع" محل طلوع وبزوغ "الهدى" والرشاد على النفوس والعقول "و" هو أيضا "مجلى" بفتح الميم أي محل جلو وظهور "الرحمة" الربانية التي بها يرتفع العذاب والعقاب عن الخلق، "و" هو كذلك "عمدة" وأساس "الشرع" إذ كل ما احتوى عليه من علوم ومعارف، إنما هي من هذا الكتاب العزيز في واقع الأمر، "و" هو - أيضا - "أصل" هذه "الملة" الإسلامية، لأن قيامها إنما هو به "و" هو كذلك "منشأ" أي محل نشوء وظهور ما جاء من "الأحكام" الشرعية "و" أتى من رب العالمين من "الأدلة و "هو كذلك "أية" أي معجزة الخالق - سبحانه - القائدة إلى "التصديق" والإيمان "بالرسالة" الإسلامية هذه، "و" هو "الملجأ" الذي يلجأ - أي يهرب - إليه عند نزول الشدائد ووقوع المحن، والفتن، وهو كذلك "المنجي" المنقذ "من الضلالة" في أمور الدين والدنيا، وهو - أيضا - نور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، كما أنه لا نجاة بغيره.

وهذا كله لا يحتاج إلى أي تقرير، أو استدلال عليه، لأنه معلوم من هذا الدين بالضرورة.

وإذا علم هذا كله في شأن هذا الكتاب العزيز "فواجب" وفرض "المعني" المهتم "بالشريعة" يعني بفهمها والعلم بأحكامها ومضامينها المختلفة هو "لزومه" أي لزوم الكتاب نظرا، وتدبرا، "في قصده" لذلك الفهم والعلم وجعله وسيلة و"ذريعة" لذلك

ص: 280

2172 -

مُتَّخِذًا ءَايَاتِهِ سَمِيرَا

وَجَاعِلًا تَرْدَادَهُ هِجِّيرَا

2173 -

بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَا تَدَرُّبِ

فِيمَا يُهِمُّ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ

2174 -

وَلْيَعْضُدِ الْعِلْمَ بِهِ بِالْعَمَلِ

بِمُقْتَضَاهُ فَهْوَ قَصْدٌ أَوَّلِي

2175 -

وَلْيَسْتَعِنْ بِالسُّنَّةِ الْمُبَيَّنَهْ

فِي فَهْمِهِ فَهْيَ لَهُ مُبَيِّنَهْ

2176 -

أَوْ لَا فَقَوْلُ سَابِقِي الأئِمَّهْ

يَكْفِيهِ فِيمَا رَامَهُ وَأَمَّهْ

2177 -

وَهْوَ وَإِنْ أَعْجَزَ كُلَّ الْعَرَبِ

جَارٍ عَلَى نَهْجِ اللِّسَانِ الْعَرَبِي

2178 -

لِذَاكَ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي الأَحْكَامِ

إِعْجَازُهُ عَنْ مَدْرَكِ الأَفْهَامِ

" متخذا" ومصيرا "آياته" الكريمة "سميرا" أي جليسه ليلا، وأنيسه على الإطلاق، "وجاعلا ترداده" وتكراره "هجيرا" أي عادته التي لا ينفك متلبسا بها فإذا تحلى بهذا والتزم به أدرك من ذلك بغيته، ونال مراده، لكن "بشرط أن يكون ذا" أي صاحب "تدرب" وملكة معرفية "فيما يهم" ويحتاج إليه في هذا الشأن "من لسان العرب"، ولغتهم.

"وليعضد" أي يقوى "العلم به" أي بما ذكر من العلم الشرعي "بالعمل بمقتضاه" ومتضمنه "فـ" هذا العمل "هو قصد" ومراد "أولي" وأساسي في طلب تحصيل هذا العلم، وإدراكه.

"وليستعن" أي يطلب الإعانة "بالسنة" النبوية "المبينة" - بفتح الياء - أي الموضحة المعلومة المعنى المفسرة "في فهمه" أي القرآن الكريم "فهي له مبينة" - بكسر الياء - أي مفسرة، كما تقدم تقريره وبيانه، فإن لم يظفر بذلك "أو لا" يفهمه "فقول سابقي الأئمة" - فيه إضافة الصفة للموصوف - أي الأئمة السابقين من السلف الصالح والخلف التابع لهم بإحسان إلى يوم الدين "يكفيه" ويرشده "فيما رامه" أي قصده "وأمه" من فهم وعلم لنصوص هذا الكتاب، وآياته "وهو "أي هذا الكتاب "وإن" كان قد "أعجز كل العرب" وتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله، فإنه في أسلوبه وطريقة بناء الكلام فيه "جار" صوغه "على نهج" وطريق أساليب وتراكيب "اللسان العربي" وهذا أمر قد تقدم بيانه، "لذاك" وهو كونه جاريا على هذه الأساليب والتراكيب "لم يخرجه في" شأن "الأحكام إعجازه" هذا "عن مدرك" أي إدراك "الأفهام" له.

ص: 281

2179 -

وَذَا مِنَ الإِعْجَازِ وَجْهٌ مُعْتَلِ

وَالنَّصُّ فِي الأَمْرَيْنِ ثَابِتٌ جَلِى

"‌

‌ المسألة الثانية

"

2180 -

مَعْرِفَة الأسْبَابِ لِلتَّنْزِيلِ

مُفِيدَةٌ أَكِيدَةُ التَّحْصِيلِ

2181 -

فَالْعِلْمُ بِالْبَيَانِ وَالْمَعَانِي

وَهْوَ يُرِى الإِعْجَازَ فِي الْقُرْءَانِ

" وذا" الأمر نفسه "من الإعجاز وجه" وضرب "معتل" رفيع، إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب، وهو مفهوم، معقول، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله، ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا "والنص" القرآني الوارد "في" هذين "الأمرين" المذكورين وهما: كونه - أي القرآن - معجزا، وكونه ميسرا للفهم، والذكر نص "ثابت" على قطع "جلي" واضح معناه. فقد قال الله - تعالى - {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}

(1)

قال - سبحانه - {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)}

(2)

. وقال - جلت قدرته -: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}

(3)

- وقال - تعالى - {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}

(4)

، وعلى أي وجه فرض إعجازه فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}

(5)

فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم، وكذلك ما كان مثله وهو ظاهر

(6)

.

"المسألة الثانية"

في أن معرفة أسباب التنزيل لازمة ومؤكد الاطلاع عليها لمن أراد علم القرآن وبيان ذلك أن "معرفة الأسباب" الموجبة بإذن الله - تعالى - "للتنزيل" لآيات القرآن الكريم هي معرفة "مفيدة" في فهم هذه الآيات والمعنى المراد بها على التحقيق، وهي "أكيدة التحصيل" لها والدليل على ذلك أمران:

"فـ" أحدهما هو أن "العلم بالبيان" وهو - بإيجاز - مطابقة الكلام للمعنى المراد به، "والمعاني" وهو معرفة مطابقة القول للحال "وهو "الذي "يري" - بضم الياء - من أراه الشيء إذا أعلمه إياه - وجوه ودلائل - "الإعجاز" الذي "في" كل آية من آي "القرآن" إنما

(1)

سورة القمر: 17.

(2)

سورة مريم: 97.

(3)

سورة فصلت: 2.

(4)

سورة الشعراء: 195.

(5)

سورة ص: 29.

(6)

الموافقات 3 ص 258.

ص: 282

2182 -

حَاصِلُهُ مَعْرِفَةُ الْخِطَابِ

بِمُقْتَضَى الأَحْوَالِ وَالأسْبَابِ

2183 -

مِنْ حَيْثُ مَا يَرْجِعُ لِلْمُخَاطِبِ

أَوْ لِلْخِطَابِ أَوْ إِلَى الْمُخَاطَبِ

2184 -

أَوْ لِلْجَمِيعِ فَلِكُلِّ مَا قُصِدْ

فِيهِ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ اعْتُمِدْ

2185 -

إِذِ الْكَلَامُ حُكْمُهُ يَخْتَلِفُ

بِمَا إِلَى حَالَاتِهِ يَتَّصِفُ

2186 -

كمِثْلِ الاسْتِفْهَامِ لَفْظٌ وَاحِدُ

تَدْخُلُهُ مِنْ أَجْلِهَا مَقَاصْد

2187 -

كَالزَّجْرِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّنْبِيهِ

وَمَا بِسَاطُ الْحَالِ يَقْتَضِيهِ

" حاصله" ومتضمنه "معرفة" صور "الخطاب" التي تتمايز "بمقتضى" وموجب "الأحوال" المختلفة الآتي بيانها "والأسباب" التي تكون الخطابات مسبباتها المصوغة على وفقها كما يدل على ذلك واقع الحال.

وتلك الأحوال تتباين وتتمايز "من حيث مما يرجع" منها "للمخاطب" - بكسر الطاء - أي المتكلم، فحال كل متكلم مراعاة في صوغ كلامه بل عليها المدار في ذلك "أو" من حيث ما يرجع "للخطاب" نفسه، فإنه يختلف بمقتضى سياقه والمراد به "أو" - من حيث ما يرجع "للمخاطب" - بفتح الطاء - أي الموجه إليه ذلك الخطاب، فمراعاة شأنه أمر ينبني عليه صوغ الكلام، وبناؤه "أو" من حيث ما يرجع "للجميع" أي جميع ما ذكر، "فلكل" منه "مما" نوى منه و"قصد فيه" من معان ومقتضيات، ولهذا "فإنه" أي العلم بما ذكر من الأحوال والأسباب "لعلم اعتمد" عليه في فهم مضامين الكلام ومعانيه، ويقصد إدراكه لذلك "إذ الكلام" - كما يدل على ذلك واقع الحال - "حكمه" ومقتضاه ومعناه "يختلف بـ" اختلاف "ما" من الأمور ينسب "إلى حالاته" المذكورة و"يتصف" أي يستند، فالكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير هذا وذلك "كمثل الاستفهام" فإن لفظه "لفظ واحد" ولكن "تدخله من أجلها" أي هذه الأحوال والأسباب "مقاصد" ومعان مختلفة، وذلك "كالزجر" والردع "و" كذلك "التوبيخ والتنبيه""و" غير ذلك من "ما بساط" - بكسر الباء - يعني سبب "الحال" أي حال الخطاب "يقتضيه" ويوجبه من حال معين.

وكالأمر يدخله معنى الإباحة، والتهديد، والتعجيز، والتكوين، وغير ذلك من المعاني التي تخطى عددها ثلاثين معنى.

ص: 283

2188 -

فَالْفَهْمُ لِلْخِطَابِ بِاسْتِقْلَالِ

عُمْدَتُهُ مُقْتَضَيَاتُ الْحَالِ

2189 -

وَجَهْلُهَا يُوقِعُ فِي الإِشْكَالِ

وَاللَّبْسِ وَالإِبْهَامِ وَالإِجَمَالِ

فإذا علم هذا، وتقرر أن اللفظ الواحد قد يدل على معان كثيرة بالاحتمال "فـ" إن "الفهم لـ" ما يدل عليه "الخطاب" من معنى مقصود به "باستقلال" وتفرد لا يتأتى على الوجه الصحيح من جهة ما قد يحتمله ويصلح للدلالة عليه من معنى، وإنما "عمدته" والوسيلة إليه "مقتضيات" وقرائن "الحال" الذي صيغ ذلك الخطاب على وفقه.

"و" لذلك كان "جهلها" أي جهل هذه المقتضيات والأحوال "يوقع في" الخطإ في فهم المراد من الخطاب وفي "الإشكال" من جهة تعارض الاحتمالات في شأنه "واللبس" - بفتح اللام - هو أن يظهر خلاف المراد "والإبهام" للمعنى المقصود "و" هو "الاجمال" - بكسر الهمزة - ولذلك فإن البحث عما يدرأ هذا من معرفة القرائن الحالية والدلالات المضمرة في الكلام ومنها أسباب التنزيل، أمر ضروري، وعدم المبالاة بذلك مفض إلى الوقوع في الإشكالات والشبه، والإجمال، وذاك موجب للوقوع في الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع.

ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي: "قال: خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة؛ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا.

قال: فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه، فقال، أعد عليّ ما قلت، فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه، وما قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب. فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا كيف رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، أنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.

وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس، وقال قل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه

ص: 284

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الآية؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] إلى قوله - تعالى - {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188] فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان. والقنوت يحتمل وجوها من المعنى يحمل عليه قوله - تعالى -: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فإذا عرف السبب تعين المراد. وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر، فقال: إن قدامة شرب فسكر"

(1)

.

"فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟ قال لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الخ فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفي رواية فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله. فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن الله يقول في كتابه {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين، وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِر} [المائدة: 90] ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى. فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت، الحديث.

وحكى إسماعيل القاضي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] الآية قال فكتب فيهم إلى عمر، قال فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إليّ قبل أن يفسدوا

(1)

الموافقات 3/ 259.

ص: 285

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من قبلك. فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين نرى أنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به، إلى آخر الحديث. ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات.

وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال، تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه، يفسر هذه الآية {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] قال؛ يأتي الناس يوم القيامة دخان، فيأخذ بأنفاسهم، حتى يأخذهم كهيئة الزكام. فقال: ابن مسعود: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل "الله أعلم" فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به:"الله أعلم" إنما كان هذا لأن قريشا استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم. دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ} [الدخان: 10] الآية إلى آخر القصة"

(1)

.

"وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو فقد ذكر السبب لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص، دون تطرق الاحتمالات، وتوجه الإشكالات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "خذوا القرآن من أربعة" منهم عبد الله بن مسعود، وقد قال في خطبة خطبها: والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وقال في حديث آخر: والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت؟ ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت؟ ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه. وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن. وعن الحسن أنه قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وما أراد بها؟ وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب. وعن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن شيء من القرآن، فقال: اتق الله، وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن؟ وعلى الجملة فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير"

(2)

.

(1)

الموافقات 3/ 260.

(2)

الموافقات 3/ 261.

ص: 286

2190 -

وَحَيْثُ لَا سَبَبَ لِلتَّنْزِيلِ

يَخْتَصُّ بِالْمَعْنَى عَلَى التَّفْصِيلِ

2191 -

يَرْجِعُ لاتِّبَاعِ عَادَاتِ الْعَرَبْ

وَمَالَهَا قَوْلًا وَقَصْدًا انْتَسَبْ

2192 -

وَذَاكَ مِمَّا يُوضِحُ الْمَعَانِي

وَيَرْفَعُ الإِشْكَالَ بِالْبَيَانِ

2193 -

فِي كُلِّ مَا جَاءَ مِنَ الآيَاتِ

وَمُقْتَضَاهُ مُفْهِمُ الْجِهَاتِ

قد علم مما تقدم أن القرائن الحالية - ومنها أسباب التنزيل - هي التي بها قد يحصل ويدرك فهم الخطاب الشرعي على الوجه الصحيح، لكن هذه الأسباب إنما تطلب حيث وردت، ويستضاء بها حيث وجدت "و" أما "حيث لا سبب" معلوم "للتنزيل" لنص ما "يختص بالمعنى" الذي دل عليه ذلك النص "على التفصيل" البين فإنه "يرجع" من أجل معرفة معنى ذلك النص والمراد به "لاتباع" ما جرت عليه "عادات العرب وما لها" من أعراف قد عزى "قولا" يعني في أقوالها "وقصدا" يعني وفي قصدها بتلك الأقوال، و"انتسب" لها زمان التنزيل ولا يعتد بما خالف ذلك وإن جرى عليه الناس في كلامهم بعد ذلك، فمعاني الألفاظ في زمان النبوة هي المعتبرة في فهم الخطاب الشرعي، "وذاك" وهو اتباع ما ذكر "مما يوضح" أي يبين ويفسر "المعاني" المتضمنة المنطوى عليها ذلك الخطاب "ويرفع الإشكال" العارض فيه بمقتضى الاحتمالات الواردة في ألفاظه، ويزيله "بالبيان" الذي يثمره، ويفيده وذلك يجري "في كل ما جاء" في الكتاب العزيز "من الآيات" البينات "ومقتضاه" أي معناه ومدلوله "مفهم" ومبين "الجهات" الفقهية التي يدل منها على الأحكام الفقهية التي يدل عليها، فإنه يصار في فهم معناه إلى ما تقدم ذكره من اتباع عادات العرب. ومن ذلك قوله - تعالى -:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}

(1)

فإنه نقل عن أبي يوسف: أن ذلك في الشرك، لأنهم كانوا حديثي عهد بالكفر، فيريد أحدهم التوحيد، فيهم ويخطئ بالكفر، فعفا لهم عن ذلك، كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه.

قال: فهذا على الشرك، ليس على الأيمان في الطلاق والعتاق، والبيع، والشراء، لم تكن الأيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم.

(1)

سورة البقرة 286.

ص: 287

2194 -

وَغَيْرُهُ يَجْرِي كهَذَا الْمَجْرَا

مِثْلُ أَتِمُّوا الحَجَّ رَبَّ الشِّعْرَا

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

" و" كذا "غيره" مما ورد وهو لا يفهم كل الجهات المذكورة، فإنه - كذلك - "يجرى كهذا المجرى" وهو اتباع العرب في فهمه، وذلك "مثل" قوله - تعالى -:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} [البقرة: 196] فإنه أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج، لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به، لكن على تغيير بعض الشعائر، ونقص جملة منها، كالوقوف بعرفة، وأشباه ذلك مما غيروا فجاء الإسلام بالإتمام لذلك، وإنما جاء إيجاب الحج نصا في قوله - تعالى -:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وإذا عرف هذا تبين هل في الآية دليل على إيجاب الحج والعمرة أم لا؟ ومنه - أيضا - قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)} [النجم: 49] فعين هذا الكوكب لكون العرب عبدته، وهم خزاعة، ابتداع لهم ذلك أبو كبشة ولم تعبد العرب من الكوكب غيرها، فلذلك عينت، "وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة، إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب، ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك. ومنه أنه نهى عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فلما كان بعد ذلك قيل لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم، ويحملون منها الودك، ويتخذون منها الأسقية، فقال: وما ذاك، قالوا نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم، فكلوا وتصدقوا وادخروا" ومنه حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة، فإن حديث ابن مسعود يبين أنه بأهل النفاق، بقوله: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق

(1)

. "وحديث الأعمال بالنيات واقع عن سبب، وهو أنهم لما أمروا بالهجرة هاجر ناس للأمر، وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة أراد نكاحها تسمى أم قيس، ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر، فكان بعد ذلك يسمى: مهاجر أم قيس، وهو كثير"

(2)

.

"المسألة الثالثة"

في إن ما حكى القرآن ولم يرد رده فيه يعد مقبولا وصحيحا شرعا. وما رده بعد ما حكاه فإنه باطل قطعا.

(1)

الموافقات 3/ 262.

(2)

الموافقات 3/ 263.

ص: 288

2195 -

وَكُلُّ مَحْكِيٍّ لَدَى الْقُرْآنِ

رُدَّ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْبُطْلَانِ

2196 -

وَهْوَ كَثِيرٌ جَاءَ فِي ءَايَاتِ

وَالأَمْرُ فِيهِ وَاضِحُ الآيَاتِ

" و" بيان ذلك أن "كل" أمر "محكيّ لدى" أي في "القرآن" الكريم "رد" من لدن الشارع فيه "فـ" إنه "لا إشكال" ولا نزاع "في البطلان" - الألف واللام بدل من الضمير - يعني في بطلانه سواء وقع رده قبل ذكره أو بعده، "وهو" أي هذا الرد "كثير" وروده، وقد "جاء في آيات" كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى -:{إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعَام: 91]، فأعقب بقوله - سبحانه - {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعَام: 91] الآية! وقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعَام: 136] الآية. فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا، بقوله {بِزَعْمِهِمْ} [الأنعَام: 136]، وبقوله {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعَام: 136] ثم قال: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعَام: 138] إلى تمامه، ورد بقوله:{سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعَام: 138] ثم قال: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ} [الأنعَام: 139] الآية؟ فنبه على فساده بقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعَام: 139] زيادة على ذلك. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] فرد عليهم بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفُرقان: 4] ثم قال: {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النّحل: 24] الآية! فرد بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} [الفُرقان: 6] الآية، ثم قال: وقال {الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسرَاء: 47] ثم قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الإسرَاء: 48] وقال تعالى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا (5)} [ص: 4، 5] إلى قوله {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8]؟ ثم رد عليهم بقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص: 8] إلى آخر ما هنالك. وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البَقَرَة: 116] ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن كقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقوله {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البَقَرَة: 116] وقوله {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [يُونس: 68] الآية! وقوله {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} [مَريم: 90] إلى آخره، وأشباه ذلك، ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذه يسير. "و" هذا "الأمر" المقرر هنا برهانه "واضح" أي بين ساطع "الآيات" - بكسر الهمزة - يعني إياته - أي نوره وضوءه - فالألف واللام فيه نابتا عن الضمير. هذا حكم هذا القسم - وهو الأول - وهو ما حكى القرآن ورد.

ص: 289

2197 -

وَكُلُّ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ رَدٌّ

فَهْوَ صَحِيحٌ وَبِهِ مُعْتَدٌّ

2198 -

دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ إِقْرَارُهُ

فَصَحَّ فِيمَا يَقْتَضِي اعْتِبَارُهُ

2199 -

إِذِ الْقُرْانُ شَأْنُهُ الْبَيَانُ

لِكُلِّ شَيْءٍ وَهْوَ الْفُرْفَانُ

2200 -

وَذَاكَ يَأْبَى ذِكْرَ شَيْءٍ فِيهِ

غَيْرُ صَحِيحٍ دُونَ مَا تَنْبِيهِ

2201 -

وَأَنَّ ذَا الْقِسْمَ كَثِيرُ الأَمْثِلَهْ

مُجْمَلَةً جَاءَتْ وَغَيْرَ مُجْمَلَهْ

2202 -

كَقِصَصَ الرُّسْلِ وَالأَنْبِيَاءِ

عَلَى اخْتِلَافِهَا وَالأوْلِيَاءِ

2203 -

كَقِصَّةِ الْكَهْفِ وَمَا مَعْهَا ذُكِرْ

مِنْ أَمْرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَوْ أَمْرِ الْخَضِرْ

" وكل ما" حكى فيه و"ليس عليه" فيه "رد" وإبطال "فـ" إنه مقبول و"هو صحيح" شرعا، ومعتبر "وبه معتد" ومأخوذ بمقتضاه، "دل على" هذا الذي ذكر من قبوله شرعا و"صحته" وصدقه "إقراره" بعد حكايته فيه - "فصح" وثبت كونه دليلا شرعيا "فيما" يفيده من حكم و"يقتضيـ"ـه "اعتباره" من مقتضى.

"إذ القرآن" الكريم "شأنه التبيان لكل شيء" كيفما كان "وهو الفرقان" الذي يقع به التفريق بين الحق والباطل، وهو البرهان والهدى، وحجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل، والإطلاق، والعموم، "وذاك يأبى" مقتضاه ويمنع "ذكر" وورود "شيء فيه" أي في هذا الكتاب العزيز، وذلك الشيء باطل و"غير صحيح دون ما" أي من غير "تنبيه" أو بيان يدل على حكم ذلك وأنه غير صحيح. هذا هو حكم هذا القسم - وهو ما حكى وسكت عنه - وهو القسم الثاني.

"و" اعلم "أن ذا القسم كثير الأمثلة" منها التي "مجملة" غير مفصلة "جاءت" ولا يعلم بيانها إلا قليل من الناس، "و" منها التي جاءت "غير مجملة" بل هي مبينة، مفصلة كآية الرد على محرفي الكلم عن مواضعه. ومن تلك الأمثلة الواردة في هذا القسم قصص أولي الأيدي والأبصار "كقصص الرسل والأنبياء على اختلافها" وما سيق من حجج وأدلة على التوحيد وشرائع الأمم السالفة وكل ما ورد فيها من حق، "و" كذا قصص "الأولياء" الصالحين التي تدل على تقواهم، وصلاحهم، وذلك "كقصة" أصحاب "الكهف وما معها ذكر" في سورتهم "من أمر" وخبر "ذي القرنين أو "- للتنويع - من "أمر" ونبأ "الخضر" مع موسى - عليه وعلى نبينا السلام -.

ص: 290

2204 -

وَلاطِّرَادِ هَذَا الأْصْلِ اعْتَمَدَهْ

بَعْضٌ لِلاسْتِدْلَالِ فِيمَا قَصَدَهْ

2205 -

كَمِثْلِ مَا اسْتَدَلَّ فِي وُقُوعِ

خِطَابِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِالْفُرُوعِ

2206 -

بِقَوْلِهِ لَمْ نَكُ فِي الْمُدَّثِرِ

لِكَوْنِهِ مُقَرَّرًا لَمْ يُنْكَرِ

" ولـ" أجل "اطراد هذا الأصل" وجريان مقتضاه بلا تخلف "اعتمده بعض" أهل العلم والنظار، "للاستدلال" والاحتجاج به "فيما" من الأحكام "قصده" يعني قصد إثباته.

وكان مما يجري عليه حكم هذا الأصل ومقتضاه، وذلك "كمثل ما استدل" يعني استدلال جماعة من الأصوليين "في"يعني على "وقوع خطاب أهل الكفر بالفروع" الشرعية "بقوله" - تعالى -:{لَمْ نَكُ} [المدَّثِّر: 43]" من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين الوارد "في" سورة "المدثر"، وإنما استدل بهذا القول وإن كان من كلام الكفار "لكونه مقررا" مسكوتا عنه "لم ينكر" بعد ذكره ص لدن الشارع إذ لو كان باطلا، لرد عند حكايته.

ومن ذلك - أيضا - الاستدلال على أن أصحاب الكهف سبعة، وثامنهم كلبهم بأن الله - تعالى - لما حكى من قولهم بإنهم {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وأنهم {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} أعقب ذلك بقوله:{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} أي ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا، ولما حكى قولهم {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} لم يتبعه بإبطال، بل قال:{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}

(1)

دل المساق على صحته دون القولين الأولين.

وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم. ورأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}

(2)

؟ فقيل له أكان شاكا حين سأل ربه أن يريه آية؟

فقال: لا، وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان ألا تراه قال {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} فلو علم شكا منه لأظهر ذلك، فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان، بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله {قَالَتِ الْأَعْرَابُ

(1)

سورة الكهف/ 22.

(2)

سورة البقرة/ 260.

ص: 291

2207 -

كَذَاكَ لِلسُّنَّةِ فِيهِ مَدْخَلُ

إِذِ الرَّسُولُ بَاطِلًا لَا يَقْبَلُ

2208 -

فَكُلُّ مَا يَرَاهُ أَوْ مَا يَسْمَعُهْ

مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَهُ نَتَّبِعُهْ

2209 -

لَا كِنَّ مَا الْبُطْلَانُ فِيهِ بَيِّنُ

سُكُوتُهُ عُلَيْهِ مِمَّا يُمْكِنُ

2210 -

إِحَالَةً مِنْهُ عَلَى مَا بُيِّنَا

وَفِي الأُصُولِ حُكْمُ ذَا تَبَيَّنَا

آمَنَّا} فإن الله تعالى رد عليهم بقوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}

(1)

. ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها، وما هو منها حق مما هو باطل.

ولمزيد من بسط الكلام في هذا الموضوع والاستدلال على هذا الحكم المقرر فيه انظر الأصل"

(2)

.

"فصل"

وهذا الأصل كما يجري مقتضاه في الكتاب "كذاك للسنة فيه" أي الأصل "مدخل" أي دخول تحت حكمه ومقتضاه، "إذ الرسول" عليه الصلاة والسلام لا يقر "باطلا" و"لا يقبل" أمرا منكرا شرعا "فكل ما يراه أو ما يسمعه من غير أن ينكره" أو يرده فإننا "نتبعه" في قبوله أي في الأصل، وإباحته له، لأن إقراره حجة شرعية، كما هو معلوم.

"لاكن" هذا إنما يجري فيما لم يعلم حكمه متقررا، وأما "ما" أي الذي حكمه هو الفساد و"البطلان" وهو حكم شرعي "فيه بين" وثابت فإن "سكوته" عليه الصلاة والسلام "عليه" من غير إنكار له "مما يمكن" ويتأتى "إحالة منه" صلى الله عليه وسلم "على ما" تقرر في ذلك من حكم و"بينا" - الألف للإطلاق - "وفي "علم "الأصول حكم ذا" الذي تقرر هنا "تبينا" وظهر واضحا، لا خفاء فيه.

وفي هذا الذي ذكره من أنه صلى الله عليه وسلم يسكت عن منكر رآه أو سمعه وحكمه معلوم شرعا، فيه نظر، لأنه مخالف لما أثر عنه في هذا الشأن فليتأمل.

(1)

سورة الحجرات/ 14.

(2)

الموافقات 3/ 265.

ص: 292

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

2211 -

إِذَا أَتَى فِي السُّورِ التَّرْغِيبُ

قَارَنَهُ فِي الْغَالِبِ التَّرْهِيبُ

2212 -

إِمَّا مَعَ التَّأْخِيرِ إِمَّا تَبْدِئَهْ

كَذَا مَعَ التَّخْوِيفِ حَالَ التَّرْجِئَهْ

2213 -

وَمَا أَتَى مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ

مَعْ ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الأَبْرَارِ

2214 -

وَذَاكَ رَاجِعٌ فِي الاعْتِبَارِ

لِمُقْتَضَى التَّبْشِيرِ وَالإِنْذَارِ

2215 -

وَانْظُرْ فَفِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ

ذَاكَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخِطَابِ

" المسألة الرابعة"

في بيان أنه "إذا أتى في السور" القرآنية ذكر "الترغيب" في العمل الصالح "قارنه" وصاحبه "في الغالب" والأكثر ذكر "الترهيب" والتخويف من سيء العمل، وذلك يرد "إما مع التأخير" للترهيب عن الترغيب و"إما" مع "تبدئة" به أي الترهيب، وتقديم له عن الترغيب، "كذا" الأمر والشأن "مع التخويف" في "حال" وقوع "الترجية"، فإنه - أي التخويف يأتي مقارنا له - أي للترجية - وكل ما يرجع إلى هذا المعنى فإنه مثله، "و" منه "ما أتى" في القرآن "من ذكر" أحوال وجزاء "أهل النار" - أعاذنا الله - تعالى - منها - "مع ذكر" أحوال وصفات وجزاء "أهل الجنة الأبرار" المحسنين - جعلنا الله - سبحانه - منهم بفضله وكرمه - "وذاك" الجمع والقرن بين ما ذكر كله "راجع في الاعتبار" والقصد الشرعي منه "لمقتضى" وحكم "التبشير" للمؤمنين الصالحين "والإنذار" أي التخويف للكافرين والظالمين "وانظر " لاستحضار ذلك في الأذهان والعلم به آيات القرآن الكريم "ففي فاتحة الكتاب ذاك" القرن والجمع، فأنت ترى أن الله - تعالى - جعل الحمد فاتحة كتابه وفيها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفَاتِحَة: 6، 7] إلى آخرها، فجيء بذكر الفريقين "و" كذا "غيرها" من السور فإن ما ورد فيها "من الخطاب" في هذا الشأن على هذا السنن مجراه ومضيه، فسورة البقرة بدئت بذكر الفريقين - أيضا - قال - تعالى فيها - {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البَقَرَة: 2] ثم قال - سبحانه - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}

(1)

ثم ذكر بإثرهم المنافقون وهم صنف من الكفار فلما ثم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى، ثم بالتخويف بالنار، وبعده بالترجية؛ فقال:

(1)

سورة البقرة/ 6.

ص: 293

2216 -

وَكاد لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَا الشَّانِ

إِلَّا الْقَضَايَا اللَّاتِي لِلأَعْيَانِ

2217 -

كَقَوْلِهِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَهْ

وَسُورَةُ الضُّحَى لِذَاكَ مُحْرِزَهْ

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البَقَرَة: 24]- إلى قوله - {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البَقَرَة: 24] إلى قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البَقَرَة: 25] الآية! ثم قال {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}

(1)

الآية.

ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا، ولما ذكر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم، قيل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البَقَرَة: 62] إلى قوله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البَقَرَة: 39] ثم ذكر تفاصيل ذلك الاعتداء إلى أن ختم بقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 102] وهذا تخويف؛ ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} [البَقَرَة: 103] الآية! وهو ترجية

(2)

.

ثم شرع في ذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة، ثم قال:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البَقَرَة: 112] الآية! ثم ذكر من شأنهم {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)} [البَقَرَة: 121] ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وبنيه، وذكر في أثنائها التخويف والترجية، وختمها بمثل ذلك. ولا يطول عليك زمان إنجاز الوعد في هذا الاقتران، فقد يكون بينهما أشياء متعرضة في أثناء المقصود، والرجوع بعد إلى ما تقرر.

وهو القانون الكلي العام الجاري مقتضاه في هذا الموضوع "وكاد لا يخرج عن ذا الشأن" الذي يقتضيه هذا القانون في هذا الموضوع "إلا القضايا" والأحكام الخاصة "الاتي" أسندت "للأعيان" يعني أناسا معينين، ففيها قد يتخلف هذا الجمع، ويسقط اطراده، وذاك "كـ" ما في "قوله" - تعالى - {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهُمَزة: 1] فإنه قد نزل في شأن شخص معين، هو أبي بن خلف، أو أمية بن خلف، أو الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل، وقد يكون نزل فيهم جميعا، إكتفاء بذكر وصف يجمعهم عن ذكرهم بصيغة الجمع، وذلك لأنهم اشتهروا بعيبه صلى الله عليه وسلم وهمزه، وفي ذلك إخبار بجزاء ذلك الكافر عن عمله القبيح هذا، فهو ليس مجري مجرى التخويف، وبذلك فهو ليس مما نحن فيه. وهذا الوجه - أيضا - جار في قوله - تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ

(1)

سورة البقرة/ 26.

(2)

الموافقات 3/ 268.

ص: 294

2218 -

وَهَذَا الإِقْتِرَانُ رُبَّمَا أَتَا

مَعَ فَاصِلٍ لِمَقْصِدٍ قَدْ ثَبَتَا

اسْتَغْنَى (7)} [العَلق: 6، 7]، وقوله - سبحانه -:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزَاب: 57، 58]- كذلك - جار على ما ذكر "و" كذلك "سورة الضحى" فإنها "لذاك" الوجه "محرزة" - بكسر الراء - أي متضمنة له، ولذلك خلت من ذلك الاقتران، وكذلك قوله - تعالى - {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشَّرح: 1] فإنه غير ما نحن فيه، بل هو أمر من الله - تعالى - للنبي عليه الصلاة والسلام بالشكر لأجل ما أعطاه.

"و" ذلك إن "هذا الاقتران" والجمع بين هذين الأمرين الترغيب والترهيب، أو التخويف، والترجية - "ربما" وقع و"أتى" في النصوص الشرعية "مع" وجود "فاصل" وفارق بينهما في الكلام، وإنما يحصل ذلك الفصل بينهما "لـ" أجل "مقصد" شرعي "قد ثبتا" الألف للإطلاق. وحصل في ذلك المقام، وذلك كمثل إيراد البراهين والحجج لتقرير الأحكام والقضايا المذكورة في مساق ذلك النص، فقد قال الله - تعالى في سورة الأنعام - وهي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات -:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعَام: 1] إلى قوله - سبحانه - {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعَام: 1]، وذكر البراهين التامة، ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه، إلى أن قال:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعَام: 54]{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [النِّسَاء: 87] فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف، وذلك يعطي التخويف تصريحا، والترجية ضمنا؛ ثم قال:{إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعَام: 15] فهذا تخويف، وقال:{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعَام: 16] الآية وهذا ترجية، وكذا قوله:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ} [الأنعَام: 17] الآية ثم مضى في ذكر التخويف، حتى قال:{وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعَام: 32]. ثم قال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعَام: 36] ونظيره قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعَام: 39] الآية ثم ذكر ما يليق بالموطن إلى أن قال: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعَام: 48] الآية واجر في النظر على هذا الترتيب، يلح لك وجه الأصل المنبه عليه. ولولا الإطالة لبسط من ذلك كثير

(1)

.

(1)

الموافقات 3/ 269.

ص: 295

2219 -

وَقَدْ يَكُونُ مُقْتَضَى الأَحْوَالِ

فِي جَانِبٍ مُتَّسِعَ الْمَجَالِ

2220 -

فَيَقَعُ الإِطْنَابُ فِي التَّخْوِيفِ

قَصْدًا إِلَى التَّأْنِيبِ وَالتَّعْنِيفِ

2221 -

عِنْدَ ظُهُورِ حَالِ الإِغْتِرَارِ

وَالصَّدِّ أَوْ مَظنَّةِ الإِصْرَارِ

2222 -

وَيَقَعُ الإِطْنِابُ فِي التَّرْغِيبِ

بِقَصْدِ رَفْعِ الذَّمِّ وَالتَّثْرِيبِ

" فصل"

قد تقرر - أخذا مما سبق ذكره - أن الترغيب والترهيب يردان متساويين في قدر الكلام عليهما، إلا أن هذا قد يتخلف أحيانا، "و" ذلك لأنه "قد يكون مقتضى" وموجب "الأحوال" العارضة "في جانب" من الجوانب المذكورة: - الترغيب والترهيب والتخويف والترجية - أقوى وأولى بالإعتبار من غيره من مقتضيات أحوال الجوانب الأخرى، فصار بذلك "متسع المجال" والميدان في الكلام عليه، والحديث فيه، وبناء على ذلك "فـ" إنه "يقع" ويحصل "الإطناب" وبسط الكلام "في"مقام "التخويف" والترهيب "قصدا إلى التأنيب والتعنيف" أي اللوم والتوبيخ والتقريع، وذلك يقع ويرد "عند ظهور" ووجود "حال الإغترار" على المخاطبين.

"و" كذا عند وقوع "الصد" منهم عن سبيل الله - تعالى - "أو "وجود "مظنة الإصرار" منهم على الذنوب والمعاصي، فهذا كله مما يوجب توسيع مجال التخويف وميدان الترهيب، "لكنه لا يخلوا من الترجية، كما في سورة الأنعام فإنها جاءت مقررة للخلق، ومنكرة على من كفر بالله، واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه، وصد عن سبيله، وأنكر ما لا ينكر ولد فيه وخاصم وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف، وإطالة التأنيب والتعنيف، فكثرت مقدماته ولواحقه. ولم يخل مع ذلك من طرف الترجية؛ لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق، وقد تقدم الدعاء، وإنما هو مزيد تكرار إعذارا وإنذارا. ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية؛ لأن درء المفاسد آكد

(1)

.

"و" كذلك "يقع الإطناب" - أيضا - في الكلام "في الترغيب" إذا اقتضت ذلك أحوال المخاطبين، وذلك "بقصد رفع" وإزالة "الذم" والعيب، "والتثريب" أي التأنيب

(1)

الموافقات 3/ 269.

ص: 296

2223 -

عِنْدَ ظُهُورِ حَالَةِ الْقُنُوطِ

وَالْيَأْسِ أَوْ مَظِنَّةِ التَّقْنِيطِ

2224 -

كَمِثْلِ مَا جَاءَ بِهُودٍ وَالزُّمَرْ

وَالْعَكْسُ فِي الأَنْعَامِ حُكْمُهُ ظَهَرْ

2225 -

وَمِنْ هُنَا يُوصَفُ بِاهْتِدَاءِ

مَنْ يَجْمَعُ الْخَوْفَ إِلَى الرَّجَاءِ

والإستقصاء في اللوم، وذلك الإطناب في الترغيب يقع "عند ظهور" ووجود "حالة" وصفة "القنوط واليأس" من المغفرة، واستحقاق الرحمة في النفوس "أو" في حال وجود "مظنة" أي زمان أو محل "التقنيط" من ذلك، وقد ورد هذا الضرب من الإطناب في آيات من القرآن، وذلك "كمثل ما جاء بـ" معنى الفاء أي في سورة "هود" وهو قوله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُود: 114] فقد ذكر أن سبب نزول هذه هو أن أبا اليسر كعب بن عمرو الانصاري كان يبيع التمر، فأتته امرأة فأعجبته فقال لها: في البيت أجود من هذا التمر فذهب بها إلى بيته، فضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر، نزلت هذه الآية، فقال: نعم، اذهب؛ فإنه كفارة لما عملت. وقد روي هذا الخبر بألفاظ أخرى، وقد أخرجه الترمذي والنسائي والبزار، والطبراني، والطبري، وغيرهم.

"و" كذلك ما ورد في سورة "الزمر" وهو قوله - تعالى -: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزُّمَر: 53] فقد روي في سبب نزول هذه الآية أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا، وأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لنا لما عملنا كفارة، فنزلت. وقيل غير هذا في سبب نزولها. "و" هذا الإطناب في الترغيب قد أتى ضده وهو "العكس" له وهو الإطناب في الترهيب "في"سورة "الأنعام" وقد تقدم ذكره لك تاما و"حكمه ظهر".

"فصل"

"ومن هنا" يؤخذ أنه "يوصف" ويحلى "باهتداء" ورشاد "من يجمع" في قلبه "الخوف" من عذاب رب العالمين وغضبه، "إلى الرجاء" من رحمته سبحانه وتعالى لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} [المؤمنون: 57] إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ

ص: 297

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

2226 -

إِنَّ كِتَابَ اللهِ فِي التَّعْرِيفِ

بِمُقْتَضَى الأَحْكَامِ فِي التَّكْلِيفِ

2227 -

أَكْثَرُهُ مَأْخَذُهُ كُلِّيُّ

فِي جُمْلَةِ الأُمُورِ لَا جُزْئِيُّ

2228 -

وَحَيْثُمَا قَدْ جَاءَ لِلْجُزْئِيِّ

مَأْخَذُهُ كَمَأْخَذِ الْكُلِّيِّ

أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} [المؤمنون: 60] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البَقَرَة: 218] وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}

(1)

.

"وهذا على الجملة؛ فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة فجانب الخوف عليه أقرب، وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط فجانب الرجاء إليه أقرب؛ وبهذا كان عليه الصلاة والسلام يؤدب أصحابه. ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 53] الآية؛ وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور فخوفوا وعوتبوا، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزَاب: 57] الآية، فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب"

(2)

.

"المسألة الخامسة"

في بيان "إن كتاب الله" - تعالى - أي القرآن "في" أمر "التعريف بمقتضاه" وحال "الأحكام" الواردة "في"شأن "التكليف" الشرعي للعباد "أكثره" وأغلبه تعريف "مأخذه" الدلالي وحكمه "كلي" محتاج إلى البيان والتفسير وذلك "في جملة" أي كل "الأمور" التي ورد فيها ذلك التعريف فإنه فيها كلي "لا جزئي" دال على أمر معين بذاته مبين.

"وحيثما قد" أتى و"جاء" هذا التعريف فيه - أي في القرآن - وهو "لـ" بيان وتعريف "الجزئي" المعين من هذه الأحكام فـ"مأخذه" الذي يؤخذ عليه "كمأخذ" التعريف "الكلي".

(1)

سورة الإسراء/ 57.

(2)

الموافقات 3/ 273 - 274.

ص: 298

2229 -

بِالإِعْتِبَارِ أَوْ بِمَعْنَى الأَصْلِ

إِلَّا الذِي خَصَّ دَلِيلُ النَّقْلِ

2230 -

لِذَا أَتَى بَيَانُهُ بِالسُّنَنِ

حَسَبَمَا يَأْتِي بِشَرْحٍ بَيِّنِ

2231 -

مَعْ كَوْنِهِ أَصْلًا لِمَا عَدَاهُ

حَسَبَمَا قُرِّرَ مُقْتَضَاهُ

2232 -

وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّنْزِيلِ

أَثْبَتَ هَذَا الْحُكْمَ بِالدَّلِيلِ

وذلك يصار إليه إما "بالاعتبار" والنظر إلى ما يؤول أمره من الحاجة إلى البيان على كل حال، "أو بـ" اعتبار اتصافه بوصف "معنى الأصل" وذلك باعتبار جواز القياس عليه، وهكذا حكم كل تعريف جزئي ورد في القرآن "إلا" التعريف "الذي خصـ"ـه "دليل النقل" الثابت شرعا، وذلك مثل خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا أمر ثابت بالاستقراء و"لذا" أي هذا الذي يتصف به هذا التعريف القرآني "أتى بيانه" وتفسيره في هذه الشريعة "بالسنن" النبوية، "حسبما يأتي" في مجاري الحديث في مسائل السنة "بشرح" وتوضيح "بين" أي ظاهر، وقد قال الله - تعالى -:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النّحل: 44] وفي الحديث: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" وإنما الذي أعطي القرآن، وأما السنة فبيان له. وإذا كان كذلك فالقرآن على اختصاره جامع، ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله، لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائدة: 3] الآية. وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن، إنما بينتها السنة وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها

(1)

.

ويتأكد هذا الأمر في هذا التعريف القرآني "مع" ثبوت "كونه أصلا" شرعيا "لـ" كل "ما عداه" من الأصول والأدلة الشرعية الأخرى، وذلك "حسبما قرر" بالأدلة الشرعية وثبت "مقتضاه" كما سيأتي.

"وبعض أهل العلم بـ" علوم القرآن و"التنزيل" كابن مسعود "أثبت هذا الحكم" الذي تقدم ذكره "بالدليل" والحجة التي تفيده، فقد روي عنه - كما في الصحيح - أنه قال "لعن الله

(1)

الموافقات 3/ 274 - 275.

ص: 299

2233 -

فَجَعَلَ السُّنَّةَ فَرْعًا يُفْهَمُ

مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ وَمَا ءَاتَاكُمْ

2234 -

وَالإِذْنُ أَنْ يَّحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

بِمَا أَرَاهُ اللهُ لِلْقِيَاسِ

2235 -

كَذَلِكَ الإِجْمَاعُ مِنْ وَيَتَّبِعْ

غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَزعْ

2236 -

وَبَعْدَ ذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرْ

عَلَيْهِ فِي اسْتِنْبَاطِ حُكْمٍ بِالنَّظَرْ

2237 -

إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَا قَدْ بَيَّنَهْ

وَهْوَ اقْتِفَاءُ السُّنَّةِ الْمُبَيَّنَهْ

الواشمات والمتنمصات والمتفلجات" للحسن المغيرات خلق الله. فقالت أم يعقوب - امرأة من بني أسد، كانت تقرأ القرآن - ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله. قالت: والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته. قال: والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه، "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". "فجعل" هذا الخبر "السنة" النبوية كلها "فرعا" عن الكتاب، وهذا الأمر "يفهم" ويعلم "من قوله" عزّ و"جلَّ" المتقدم وهو قوله: "وما أتاكم" الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، وكما أن حجية السنة مرجعها الكتاب فكذلك القياس، "و" ذلك أن الناس قد عدوا "الإذن" للرسول صلى الله عليه وسلم "أن يحكم بين الناس بما أراه الله" تعالى، دليلا على مشروعية إسناد الحكم الفقهي "للقياس" في المواطن التي يسوغ فيها ذلك.

"كذلك" شأن "الإجماع" فإن كونه دليلا شرعيا يؤخذ "من" قوله - تعالى -: " {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاء: 115] " و"ينتزع" منه عند من يرى ذلك، والاستدلال على حجية الإجماع بهذه الآية موضع خلاف شديد بين أهل العلم، وقد ورد بسط ذلك في كتب الأصول.

"فصل"

"وبعد" تقرر وثبوت "ذا" الذي ذكر من كون السنة مبينة للكتاب يتقرر بناء عليه أنه "لا ينبغي" ولا يصح شرعا ولا نظرا "أن يقتصر" في فهم النص القرآني على ما دل "عليه" بظواهره اللفظية اللغوية أول الأمر "في"شأن "استنباط" واستخراج "حكم" شرعي "بالنظر" والاجتهاد، لأن فهم هذا النص والاستنباط منه لا يتأتى إدراكه على الوجه الصحيح إن كان معناه منقولا، وهو الأكثر في معاني النصوص الشرعية - "إلا مع" حصول "العلم بما قد بينه" - يعني يبينه، "وهو "اتباع و"اقتفاء السنة" النبوية التي هي "المبينة" له

ص: 300

2238 -

فَلَا مَحِيصَ عَنْهُ فِي بَيَانِ

أُصُولِهِ الْجُمْلِيَّةِ الإِتْيَانِ

2239 -

وَمَا أَتَى فِي شَأْنِهِ عَنِ السَّلَفْ

إِنْ تُعْوَزِ السُّنَّةُ فِيهِ كَالْخَلَفِ

2240 -

ثُمَّ مَتَى أُعْوِزَ ذَا أَوِ انْتَفَا

فَهْمُ اللِّسَانِ الْعَرَبِي يُقْتَفَا

"‌

‌ المسألة السادسة

"

2241 -

ثُمَّ عَلَى ذَاكَ فَفِي الْقُرْآنِ

لِكُلِّ شَيْءٍ غَايَةُ الْبَيَانِ

2242 -

فَعَالِمٌ بِهِ عَلَى الإِطْلَاقِ

بِالشَّرْعِ عَالِمٌ بِالاسْتِحْقَاقِ

كما تقدم تقريره، "فـ" إنه "لا محيص" ولا مفر "عنه" أي عن هذا الاقتفاء "في" أمر "بيان" وتفسير "أصوله" أي الكتاب "الجملية" ـبضم الجيم - أي الكلية الورود و"الإتيان" أي المجيء من لدن الحكيم العليم - سبحانه - "و" أما "ما أتى" ونقل "في شأنه" أي شأن البيان القرآني "عن السلف" الصالح فإنه يصار إلى الأخذ به وذلك "إن تعوز" وتفقد بعد استقصاء البحث "السنة فيه" أي في ذلك الشأن، لأن ما أتى عنهم في ذلك يعد "كالخلف" والعوض عن البيان السني وذلك إن كان مما لا يقال من قبل الرأي، والاجتهاد.

"ثم متى أعوز ذا" كله ووقع العجز عن إدراكه "أو انتفى" وعدم حقيقة، أو حكما بأن يغلب على الظن انتفاؤه، فإنه يعتمد "فهم" مدلول "اللسان العربي" ومعناه فإنه الذي "يقتفى" ويتبع حينئذ، فما اقتضاه ودل عليه يؤخذ به في فهم هذا النص - النص القرآني - وإدراك المراد به.

"المسألة السادسة"

"ثم" نذكر بعد هذا الذي تقرر في شأن البيان السني للكتاب مسألة أخرى وهي: أنه إن أجري وسير "على ذاك" الترتيب المتقدم في كون الكتاب جامعا لجميع الكليات والأصول "فـ" إن "في القرآن" تمام التفصيل "لكل شيء" و"غاية البيان" له "فـ" كل من هو "عالم به على الإطلاق" وإن لم يكن عالما بالتفاصيل والجزئيات الشرعية المبينة بالأصول الأخرى فإنه "بالشرع" على الجملة "عالم" لا يعوز من ذلك شيء وهذا الوصف ثابت له "بالاستحقاق" يعني بكونه مستحقا له.

ص: 301

2243 -

لِمَا أَتَى فِيهِ وَفِي الآثَارِ

وَمُقْتَضَى التَّجْرِيبِ ذُو اعْتِبَارِ

وهذا أمر مستند ثبوته "لما أتى" من الأدلة والحجج "فيه" أي القرآن وهي تدل على ذلك في شأنه؛ ومن ذلك قوله - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائدة: 3] وقوله - سبحانه -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النّحل: 89] وقوله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعَام: 38] وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسرَاء: 9] يعني الطريقة المستقيمة ولو لم يكمل فيه جميع معانيها لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة، وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور، ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء

(1)

. "و" كذلك ما جاء "في الآثار" والأحاديث، مما هو مؤذن بذلك، "كقوله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق كثرة الرد" الخ.

فكونه حبل الله بإطلاق، والشفاء النافع، إلى تمامه، دليل على كمال الأمر فيه. ونحو هذا من حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعن ابن مسعود:"أن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وأن أدب الله القرآن" وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن" وصدق ذلك قوله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القَلَم: 4] وعن قتادة ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسرَاء: 82] وعن محمد بن كعب القرظي في قول الله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عِمرَان: 193]. قال: هو القرآن، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث:"يؤم الناس أقرأهم لكتاب الله" وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله، فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة، وعن عائشة: أن من قرأ القرآن فليس فوقه أحد. وعن عبد الله قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين، وعن عبد الله بن عمر قال: من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما، وقد أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه. وفي رواية عنه: من قرأ القرآن فقد اضطربت النبوة بين جنبيه، وما ذاك إلا أنه جامع لمعاني النبوة، وأشباه هذا مما يدل على هذا المعنى"

(2)

.

"و" كذلك "مقتضى" ومفاد "التجريب" فإنه أمر "ذو اعتبار" في هذا الشأن، فإنه لا

(1)

الموافقات 3/ 276.

(2)

الموافقات 3/ 276 - 277.

ص: 302

2244 -

وَإِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الاسْتِدْلَالِ

مَا جَاءَ فِي الْحَمْلِ وَفِي الْفِصَالِ

أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في المسألة من المسائل وقال ابن حزم الظاهري: كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة، نعلمه والحمد لله، حاشا القراض، فما وجدنا له أصلا فيهما البته. إلى آخر ما قال. وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة، وأصل الإجارة في القرآن ثابت، وبين ذلك إقراره عليه الصلاة والسلام وعمل الصحابة به

(1)

.

"و" في هذا المقام تجد "إن من أعجب الاستدلال" بالقرآن على الأحكام واروعه "ما جاء" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "في" شأن "الحمل، وفي الفصال" أي الفطام، فقد روي أن عثمان قد أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال له علي رضي الله عنه ليس ذاك عليها، قال الله - تعالى - {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وقال - تعالى -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البَقَرَة: 233] فالرضاع أربعة وعشرين شهرا، والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله، ولم يجلدها. ومن ذلك استنباط مالك بن أنس أن من سب الصحابة فلا حظ له في الفيء من قوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] وقول من قال "الولد لا يملك" من قوله - تعالى -: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} [الأنبيَاء: 26] وقول ابن العربي إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى إنسانا.

من قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العَلق: 2]، واستدلال منذر بن سعيد على أن العربي غير مطبوع على العربية بقوله:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النّحل: 78] وأغرب ذلك استدلال ابن الفخار القرطبي على أن الإيماء بالرؤوس إلى جانب عند الإباية والإيماء بها سفلا عند الإجابة، أولى مما يفعله المشارقة من خلاف ذلك. بقوله تعالى:{لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} [المنَافِقون: 5] الآية، وكان أبو بكر الشبلي الصوفي إذا لبس شيئا

(1)

الموافقات 3/ 277.

ص: 303

2245 -

وَبِاعْتِبَارِ ذَاكَ كُلُّ مَسْأَلَهْ

يُقْصَدُ لاقْتِنَاصِهَا مُفَصَّلَهْ

2246 -

لَا بُدَّ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْقْرْآنِ

لِأَصْلِهَا وَمَا اقْتَضَى مِنْ شَانِ

2247 -

فَإِنْ بَدَا نَصٌّ عَلَى الْعَيْنِ اقْتُفِي

أَوْ لَا فَبِالنَّوْعِ أَوِ الْجِنْسِ اكْتُفِي

"‌

‌ المسألة السابعة

"

2248 -

وَلِلْقُرْآنِ تَنْتَمِي عُلُومُ

لَاكِنَّهَا يُلْفَى لَهَا تَقْسِيمُ

خرق فيه موضعا، فقال له ابن مجاهد؛ أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ فقال:{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] ثم قال الشبلي: أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد وقال له: قل قال قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المَائدة: 18] الآية. واستدل بعضهم على منع سماع المرأة بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعرَاف: 143] الآية؛ وفي بعض هذه الاستدلالات نظر

(1)

.

"فصل"

"وباعتبار ذاك" يعني هذا الذي عليه القرآن من الاحتواء على أصول الشريعة وكلياتها كلها يتقرر أن "كل مسألة" فقهية أو عقدية تطلب معرفة حقيقتها وحكمها الشرعي و"يقصد لاقتناصها" وتحصيلها "مفصلة" مبينة "لا بد أن ينظر في القرآن لأصلها" الذي يدل عليها وعلى حكمها "و" أن يلتفت إلى "ما اقتضاه" وأوجبه "من شأن" وحكم وبيان في ذلك "فإن بدا" أي ظهر "نص" منه دال "على العين" يعني على عينها، وما هو مطلوب من حكمها "اقتفي "واتبع؛ وعمل بمقتضاه، فإن كان خفيا "أو" مضمرا "لا" يظهر لنا "فـ" إنه يستغنى "بـ" ما ظهر منه وورد في "النوع" الذي تلك المسألة من أفراده "أو "يصار إلى ما ورد في "الجنس" المطلوب تلك المسألة تحته فإنه قد يكون مما به "اكتفي "في بيان حكم تلك المسألة.

"المسألة السابعة"

في بيان "و" توضيح أنه "للقرآن" الكريم تضاف و"تنتمي" أي تنتسب "علوم" كثيرة ليست نوعا واحدا "لاكنها" أنواع مختلفة، وبذلك "يلفى" أي يوجد "لها تقسيم"

(1)

الموافقات 3/ 279 - 280.

ص: 304

2249 -

قِسْمٌ مُعِينٌ فِيهِ كَالأَدَاة

لِفَهْمِهِ كَالنَّحْوِ وَاللُّغَاتِ

2250 -

وَكَالْقِرَاءَاتِ وَكَالأُصُولِ

وَالنَّسْخِ وَالأَسْبَابِ لِلتَّنْزِيلِ

2251 -

وَذَاكَ لَا نَظَرَ فِيهِ هَا هُنَا

وَإِنَّمَا سِيقَ لِأَنْ يُبِيَّنَا

2252 -

أَنَّ مِنَ الْعُلُومِ مَا يُعَدُّ

وَسِيلَةً وَمَا لِذَاكَ قَصْدُ

2253 -

كَالطِّبِّ وَالْمَنْطِقِ وَالْحِسَابِ

وَكالنُّجُومِ وَكَالإِصْطِرْلَابِ

على أقسام:

أحدها: ما عد باعتبار حاله بأنه "قسم معين" ومساعد على استخراج وإدراك ما "فيه" أي القرآن من الفوائد والمعارف، وبذلك فهو "كالأداة" أي الآلة التي توصل "لفهمه" ومعرفة مراد الله - تعالى - به، وذلك "كـ" علم "النحو و "معرفة "اللغات" التي لا بد منها في هذا الشأن "وكـ" علم "القراءات" وخاصة ما تواتر منها "وكـ" علم "الأصول" الفقهية "و" علم "النسخ" يعني الناسخ والمنسوخ "و" علم "الأسباب للتنزيل" وما أشبه ذلك مما يعد من علوم الآلة "وذاك" كله "لا نظر فيه" بالذات "ها هنا" إذ ليس من الأدلة الشرعية التي تؤخذ منها الأحكام الفقهية وهي التي عقد لها هذا الكتاب "وإنما سيق" ذكره "لأن يبينا" - الألف للإطلاق - ويوضح "أن من العلوم ما يعد" في رأي بعض الناس "وسيلة" معينة على فهم القرآن "و" هو ليس كذلك، ومن ثم فـ"ما لذاك قصد" أو إشارة في كلامنا في هذا القسم، فهو غير مراد لنا هنا.

وذلك "كـ" علم "الطب و "علم "المنطق و "علم "الحساب وكـ" علم "النجوم وكـ" معرفة طريقة استعمال "الإصطرلاب" الذي هو آلة لرصد النجوم، وهو يستعمل فيما يسمونه بعلم الهيئة. وقد تقدم ذكر حكاية الرازي في جعله هذا العلم - علم الهيئة - وسيلة إلى فهم قوله:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]، وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال": إن علوم الفلسفة مطلوبة، إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها".

ولو قال قائل في رد هذه الدعوى إن الأمر بالضد مما قال، لما بعد في المعارضة

ص: 305

2254 -

وَشَاهِدُ الْخَصْمَيْنِ شَأْنُ السَّلَفِ

وَإِنَّهُ لَغَايَةٌ لِلْمُنْصِفِ

2255 -

وَقِسْمُهَا الثَّانِي هُوَ الْعِلْمُ بِمَا

يُؤْخَذُ مِنْ جُمْلَتِهِ مُتَمِّمَّا

2256 -

مِنْ حَيْثُ مَا هُوَ كَلَامٌ لَا سِوَا

لَا مِنْ تَفَاصِيلَ عَلَيْهِنَّ احْتِوَا

2257 -

وَذَاكَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَهْ

عَلَى ثُبُوتِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَهْ

2258 -

بِكَوْنِهِ مُعْجِزَةَ الرَّسُولِ

بِمُقْتَضَى الْجُمْلَةِ لَا التَّفْصِيلِ

" وشاهد" ما بين "الخصمين" في هذا الشأن الذي يشهد بينهما بالحق هو "شأن" وحال "السلف" الصالح في تلك العلوم هل كانوا آخذين بها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، شهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير، "و" هذا فيه غنية في هذا المقام فـ"إنه لغاية" الحجة فيه "للمنصف" الذي يقبل الحق على كل حال، فلينظر امرؤ أين يضع قدمه. وثم أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور، ولا ينبئك مثل خبير؛ فأبو حامد الغزالي ممن قتل هذه الأمور خبرة، وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه.

خلاصة القول أن هذه المعارف والعلوم ليست من أدوات وآلات العلوم الشرعية بالضرورة.

"و" أما "قسمها" أي هذه العلوم المضافة إلى القرآن وضربها "الثاني" فإنه "هو العلم بما يؤخذ من جملته" وكل تراكيبه "متمما" وذلك "من حيث ما" زائدة - فالأصل من حيث "هو كلام" فقط "لا سوا" ذلك مما هو متضمن فيه فلا ينظر إلى حال موضوعه و"لا" إلى ما تضمنه "من تفاصيل" متعلقة بذلك الموضوع "عليهن" انطوى و"احتوى" سواء كانت تفاصيل إنشائية، - متعلقة بالأمر والنهي - أو خبرية "وذاك" العلم المندرج في هذا القسم يطلب من القرآن الكريم ويؤخذ منه لـ"ما فيه من الدلالة" والبرهان "على ثبوت الوحي" له - أي للقرآن - "و" ثبوت "الرسالة" لمحمد صلى الله عليه وسلم من لدن الحكيم الخبير، وذلك "بـ" سبب "كونه" أي ما ذكر من الكلام القرآني "معجزة الرسول" صلى الله عليه وسلم الدالة على صدقه في كل ما قاله وهذا ثابت "بمقتضى" وموجب "الجملة" إذ كل آية في القرآن معجزة، فهو معجز بالجملة "لا" على وجه "التفصيل" والتمييز كما هو شأن أدلة الأحكام الشرعية التي أدلتها مخصوصة بها، وإنما كان هذا الدال على ما ذكر من كون

ص: 306

2259 -

إِذْ وَقَعَ التَّنْبِيهُ فِي الإعْجَازِ

بِسُورَةٍ لَا عَلَى الامْتِيَازِ

2260 -

وَوَجْهُ أَنْ أَعْجَزَ كُلَّ اللُّسَنَا

لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ لِتَقْرِيرٍ هُنَا

2261 -

وَلَيْسَ فِي ذَا الْقِسْمِ هَا هُنَا نَظَرْ

وَكُتُبُ الْكَلَامِ فِيهِ تُعْتَبَرْ

2262 -

وَثَالِثٌ يُدْرَى مِنَ التَّنْبِيهِ

لِعَادَةٍ اللهِ تَعَالَى فِيهِ

2263 -

بِحَسَبِ الإِنْزَالِ وَالْخِطَابِ

بِمُقْتَضَاهُ لِأُولِي الأَلَبَابِ

القرآن وحيا وكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا مأخوذا من القرآن على وجه الجملة "إذ وقع التنبيه في "شأن "الإعجاز" على أنه قد حصل بالإتيان "بسورة" من مثل القرآن وإن كانت أصغر سورة فيه، فكل سور القرآن وقع الإعجاز بالإتيان بمثلها على سبيل الكلية والشمول "لا على" سبيل التخصيص و"الامتياز".

بل ماهية القرآن هي المعجزة له، كما ورد ذلك في القرآن نفسه، وحسبما نبه صلى الله عليه وسلم عليه في قوله:"ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وعجز الفصحاء اللسن والخصماء اللد عن الإتيان بما يماثله، أو يدانيه.

"و" بيان "وجه" كونه مرتقيا فوق المعتاد في صوغ الكلام ونسجه إلى "أن أعجز كل اللسنا" بضم اللام وسكون السين، وحركه بالضم للضرورة، أو هو لغة - جمع لسن أو ألسن -، وهو الفصيح البليغ - أمر "ليس بمحتاج لتقرير" وبيان "هنا" إذ ليس هذا موضع بحثه "و" كذلك "ليس في ذا القسم ها هنا" في كتاب الأحكام "نظر" وبحث ليس هذا محل ذلك "و" إنما "كتب الكلام" وعلم العقائد هي التي تتضمن الكلام "فيه" والبحث في شأنه، وهي التي "تعتبر" في ذلك، إذ هو من المسائل التي عقدت ووضعت هذه الكتب لها.

"و" أما الذي هو "ثالث" من هذه الأقسام فإنه الذي "يدرى" ويعلم من جهة ما ورد في كلامه - سبحانه - "من التنبيه" والإرشاد "لعادة الله" سبحانه و"تعالى" الجاري مقتضاها "فيه" أي في هذا القرآن، وذلك "بحسب" حال "الإنزال" له، "و" حال "الخطاب بمقتضاه" ومعناه الموجه "لأولي الألباب" أي أصحاب العقول، وحال

ص: 307

2264 -

مِنْ جِهَةِ التَّقْرِيبِ لِلتَّفْهِيمِ

وَالْقَصْدِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ

2265 -

وَذَا لَهُ قَوَاعِدٌ أَصْلِيَّهْ

فِي طَيِّهَا فَوَائِدٌ فَرْعِيَّهْ

2266 -

وَهَا أَنَا أُورِدُ مِنْهَا أَمْثِلَهْ

تُوضِحُ مِمَّا نُصَّ فِيهِ مُجْمَلَهْ

2267 -

مِنْ ذَلِكَ الإِنْذَارُ لِلْعَبِيدِ

مِنْ قَبْلِ أَخْذِ وَقْعِهِ الشَّدِيدِ

2268 -

وَمِنْهُ الإِبْلَاغُ وَالإِسْتِقْصَاءُ

فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ لِلْمُكَلَّفِ

معاملته - تعالى - لهم بالرفق والحسنى.

وذلك أمر بين "من جهة" جعله قرءانا عربيا يدخل تحت نيل أفهام، مع كونه المنزه القديم، وذلك لأجل "التقريب".

يعني تقريب معاني القرآن "لـ" حال "التفهيم" والإدراك لها، "و" من جهة "القصد" الإلاهي به "للتأديب والتعليم" للمخاطبين به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات.

وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم، وتتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد، وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله. "وذا" الأصل الذي احتوى عليه هذا القسم تسند "له قواعد أصلية" عامة "في طيها" وتحت مقتضاها تنطوي "فوائد فرعية" فقهية، ومحاسن أدبية. "وها أنا" أذكر و"أورد منها أمثلة" يستعان بها على فهم المراد. و"توضح" أي تبين "مما نص فيه" أي ورد فيه النص القرآني، وهذه الأمثلة تورد في هذا النظم "مجملة" غير مفصلة فيه "من ذلك" الذي يعد من هذه الأمثلة تقديم "الإنذار" والتخويف منه - سبحانه - "للعبيد من قبل أخذ" العذاب و"وقعه الشديد" لهم، وفي ذلك قال - سبحانه -:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسرَاء: 15] فجرت عادته - سبحانه - في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ولكل جزاء مثله.

"ومنه " - أيضا - "الإبلاغ" والإيصال "والاستقصاء في إقامة الحجة" على ما هو خطاب شرعي "للمكلف" فإنه - تعالى - أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه، وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه الكفاية.

ص: 308

2269 -

وَالتَّرْكُ لِلَاخْذِ بِذَنْبٍ أَوَّلِ

وَعَدَمُ التَّعْجِيلِ لِلْمُسْتَعْجِلِ

2270 -

كَذَا التَّأَنِّي فِيهِ وَالتَّثَبُّتُ

وَحَالُ الانْزَالِ لِذَاكَ مُثْبِتُ

2271 -

وَالْقَصْدُ لِلتَّحْسِينِ لِلْعِبَارَهْ

كَمِثْلِ مَا فِي مُوجِبِ الطَّهَارَهْ

2272 -

وَغَيْرهُ وَمَا اقْتَضَى وُضُوحَا

فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ أَتَى تَصْرِيحَا

" و" منه كذلك "الترك" منه - تعالى - "للاخذ" والتعذيب "بذنب" صدر من العبد من "أول" مرة. "و" كذلك "عدم التعجيل للمستعجل" المعاند، وتماديه على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان و"كذا" منه - أيضا - المضي على مقتضى "التأني فيه" والتريث في الأمور، "و" الجري على "التثبت" والتبين فيها والأخذ بالاحتياط، وهو الأمر المعهود جريان الشرع عليه في حقنا "وحال الإنزال" للقرآن مفرقا وبالتدريج مقرر "لذاك" و"مثبت" له، فلقد نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجومًا في عشرين سنة، حتى قال الكفار:{لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفُرقان: 32] فقال الله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفُرقان: 32] وقال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسرَاء: 106] وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف، والصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة وإلى كل محتاج إليه، وحين أبى من أبى من الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر بدأوا بالتغليظ بالدعاء، فشرع الجهاد لكن على التدريج أيضا، حكمة بالغة، وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان حتى إذا كمل الدين، ودخل الناس فيه أفواجا، ولم يبق لقائل ما يقول قبض الله نبيه إليه وقد بانت الحجة، ووضحت المحجة، واشتد أس الدين، وقوي عضده بأنصار الله. فلله الحمد كثيرا على ذلك

(1)

.

"و" منه "القصد للتحسين للعبارة" بالكناية ونحوها، في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيى من ذكره في عادتنا، وذلك "كمثل ما" جاء "في موجب" وسبب "الطهارة" وهو قوله - تعالى - {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النِّسَاء: 43] ومثله قوله - تعالى -: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المَائدة: 75]"و" أما "غيره" أي غير ما يستحيى منه عادة "وما اقتضى" واستوجب حاله "وضوحا" وبيانا له فإنه "في مقطع الحق" أي مجرى بيانه على قطع "أتى" وورد معبرا باسمه "تصريحا" لا تلويحا، ولا كناية.

(1)

الموافقات 3/ 282 - 283.

ص: 309

2273 -

وَمِنْهُ كَيْفِيَّةُ الأَخْذِ فِي الدُّعَا

للهِ جَلَّ وَعَلَا تَضَرُّعَا

2274 -

وَالْقَصْدُ لِلتَّقْدِيمِ لِلْوَسِيلَهْ

فِيمَا يُرِيدُ بَعْدَهَا حُصُولَهْ

2275 -

وَمُقْتَضَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ

وَغَيْرِهَا دَلِيلُ هَذَا الْبَابِ

" ومنه" - أيضا -: "كيفية" وطريقة "الأخذ" والعمل "في الدعا لله - جل وعلا - تضرعا" أي تذللا وخضوعا له - سبحانه - فقد بين القرآن كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء، إذ جاء في مساقه أداب استقرئت منه، وإن لم ينص عليه بالعبارة، فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير، فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن في الغالب إلا "بياء" المشيرة إلى بعد المنادي، لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء، فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة: منها إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادي وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه، فدل على استشعار الراغب هذا المعنى، إذ لم يأت في الغالب إلا "ربنا" "رب" كقوله:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البَقَرَة: 286]{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البَقَرَة: 127]{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عِمرَان: 35]{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البَقَرَة: 260] ومنها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام بأمور العباد وإصلاحها، فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان، قائلا: يا من هو المصلح لشؤوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا، وهو مقتضى ما يدعو به. وإنما أتى "اللهم" في مواضع قليلة، ولمعان اقتضتها الأحوال

(1)

.

"و" منها "القصد للتقديم للوسيلة" والذريعة الموصلة إلى إدراك المراد، وذلك ماض "في"كل "ما يريد" مقدم الوسيلة وقوعه "بعدها" يعني بعد تقديمها و"حصوله" ثبوته "ومقتضى" وموجب "فاتحة الكتاب" وهو، قوله - تعالى -:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفَاتِحَة: 5، 6] وغيرها كقوله - تعالى -: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عِمرَان: 193] وقوله - سبحانه -: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عِمرَان: 53] وقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عِمرَان: 191] وقوله - سبحانه -: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ

(1)

الموافقات 3/ 283.

ص: 310

2276 -

وَالْقَصْدُ لِلنِّدَاءِ دُونَ حَرْفِ

بِلَفْظِ رَبِّ الْمُقْتَضِي لِلْعَطْفِ

2277 -

لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ اسْتِشْعَارِ

قُرْبِ الْمُنَادَى عَالِمِ الأَسْرَارِ

2278 -

وَقَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ فِي شَأْنِ النِّدَا

وَالالْتِفَاتِ مَا يُوَفِّي الْمَقْصِدَا

2279 -

وَقِسْمُهَا الأوَّلُ قِسْمُ الْعَمَلِ

وَقَصْدُهُ بِالذِّكْرِ قَصْدٌ أَوَّلِي

وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يُونس: 88] وقوله - سبحانه -: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نُوح: 21] إلى قوله - سبحانه -: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نُوح: 28]"وغيرها" ذلك من الأداب التي هي كلها "دليل" وحجة "هذا الباب" الذي هو أخذ الأحكام والآداب من مجرد التقرير القرآني لها الثابث بعدم رده لها، "و" من ذلك - أيضا - "القصد لـ" التعبير بـ"النداء" والدعاء الصادر من العباد لله رب العالمين "دون حرف" النداء، ثم ورود هذا النداء "بلفظ رب" نحو قوله - تعالى - {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البَقَرَة: 286] وقوله - سبحانه -: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البَقَرَة: 127] وقوله - تعالى -: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [آل عِمرَان: 35] وذلك لأن هذا اللفظ - الرب - هو اللفظ "المقتضى للعطف" أي الرحمة، والقيام بأمور العباد وإصلاحها، فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والإحسان، قائلا يا من هو المصلح لشؤوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا، وهو مقتضى ما يدعو به. وإنما أتى (اللهم) في مواضع قليلة، ولمعان اقتضتها الأحوال. وإما إسقاط لفظ النداء في دعاء العبد ربه - سبحانه - وتعالى - فإن ذلك حاصل "لأجل ما" انطوى "فيه من استشعار قرب المنادى" وهو الله - تعالى - "عالم الأسرار" والظواهر، ولما فيه من الإشارة إلى أنه - سبحانه - حاضر غير غافل.

"وقد مضى من قبل" في المسألة الخامسة في النوع الثاني من كتاب المقاصد "في شأن" نكت وفوائد اختلاف صيغ "النداء" والدعاء في القرآن "و" كذا في شأن "الالتفات" في الخطاب بالضمائر المختلفة "ما" من البيان والإيضاح لذلك "يوفى المقصدا" ويحصل المطلوب فيه.

"و" أما "قسمها" الثالث فإنه المقصود "الأول" في هذه العلوم، وهو الأهم منها لأنه "قسم" مدار محتواه على بيان شأن "العمل" التكليفي وما به قوامه، وحصوله، "و" بذلك "قصده بالذكر" بالمعرفة والإدراك "قصد أولي" لأن العلم الشرعي الغرض من تحصيله هو

ص: 311

2280 -

وَهْوَ الذِي بَيَّنَ أَهْلُ الْعِلْمِ

وَعَرَّفوا بِمَا لَهُ مِنْ حُكْمِ

2281 -

أَخْذًا مِنَ النُّصُوصِ فِي الْكِتَابِ

بِالنُّطْقِ وَالْمَفْهُومُ فِي الْخِطَابِ

2282 -

بِمَا يُؤَدِّيهِ وَيَقْتَضِيهِ

فَهْمُ اللِّسَانِ الْعَرَبيِّ فِيهِ

2283 -

وَذَاكَ مُحْتَوٍ عَلَى عُلُومِ

ثَلَاثَةٍ بَيِّنَةِ التَّقْسِيمِ

2284 -

أَحَدُهَا مَعْرِفَةُ الْمَعْبُودِ

وَمَنْ لَهُ تَوَجُّهُ الْعَبِيدِ

2285 -

ثَانٍ لَهُ مَعْرِفَةُ الْكَيْفِيَّهْ

فِيمَا بِهِ تَوَجُّهُ الْبَرِيَّهْ

2286 -

ثَالِثُهَا مَعْرِفَةُ الْمَئَالِ

لِمَا بِهِ نَتِيجَةُ الأَعْمَالِ

العمل به، فكان ما يحصل هذا الغرض هو العلم المطلوب أصلا، وبالذات، "و" لهذا فإن هذا القسم "هو الذي بينـ"ـه "أهل العلم" وفصلوا القول في مسائله ومباحثه ودرسوها دراسة عميقة "وعرفوا بما" ثبت "له من "حقيقة و"حكم" وتعريف "أخذا" لذلك واستخراجا له "من النصوص" الواردة "في الكتاب" العزيز، وذلك الأخذ والاستخراج يكون من جهة ما دلت عليه تلك النصوص "بـ" دلالة "النطق" بها أي بمنطوقها "و" كذلك يكون من جهة "المفهوم" الوارد كل منهما "في الخطاب" بتلك النصوص، وذلك الأخذ والاستخراج يكون "بـ" حسب "ما" من المعاني "يؤديه" أي يعطيه "ويقتضيه فهم" ودلالة "اللسان العربي فيه". كما تقدم بيانه في المسألة الأولى في النوع الثاني في كتاب المقاصد. "و" إنما كان "ذاك" أي هذا القسم مخصوصا بالقصد وبهذا المقام الأعلى لأنه منطو و"محتو على علوم ثلاثة" بها قيام العلم الشرعي ووجوده، وهي علوم "بينة" واضحة "التقسيم" ظاهرته تميز بعضها عن بعض بماهياتها، "أحدها" أي هذه العلوم هو "معرفة المعبود" سبحانه وتعالى "و" هو "من له" جلت قدرته يحصل "توجه" وقصد "العبيد" بالدعاء والأعمال.

"وثانـ"ـي هذه العلوم المنسوبة "له" أي لهذا القسم والمتضمنة فيه هو "معرفة" وعلم "الكيفية" التي تحصل "فيما" يكون "به توجه البرية" إليه - تعالى - وتقع به عبادته من الأعمال "ثالثها" أي هذه العلوم "معرفة المآل" ومصير العباد، وهذا علم مطلوب "لما" يعلم "به" وهو "نتيجة الأعمال" وجزاؤها.

ص: 312

2287 -

وَكُلُّهَا تَدْخُل تَحْتَ جِنْسِ

الْجِنُّ مَخْلُوقٌ لَهُ كَالإِنْسِ

2288 -

أَعْنِي بِهِ التَّعَبُّدَ الْمَطْلُوبَا

وَهْوَ لَهَا مُسْتَلْزِمٌ وُجُوبَا

2289 -

مِنْ حَيْثُ لَا يَعْبُدُ مَنْ لَا يَعْرِفُ

وَعِنْدَمَا يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُ

2290 -

وَأَنَّهُ النَّاهِي لَهُ وَالآمِرُ

وَحَقُّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ظَاهِرُ

2291 -

مَرْجِعُهُ لِجِهَةِ التَّعَبُّدِ

احْتَاجَ لِلْعِلْمِ بِهَذَا الْمَقْصِدِ

2292 -

ثُمَّ النُّفُوسُ ذَاتُ طَبْعِ حَالِ

طَالِبَةٌ نَتَائِجَ الأعْمَالِ

" و" هذه العلوم "كلها تدخل" وتنطوي "تحت جنس" الأصل الشرعي العام وهو "الجن مخلوق له" يعني لعبادته سبحانه وتعالى "كالإنس" وهذا أصل مأخوذ من قوله - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذّاريَات: 56] فالتعبد يعم كل ذلك "أعني به التعبد" الذي جعل شرعا "المطلوبا" - الألف للإطلاق - الأول، "و" الذي "هو "أمر تتحقق ماهيته ولا تقوم بالشخص، إلا إذا قامت به تلك العلوم، وبذلك فهو - أي التعبد المذكور - "لها مستلزم" ومقتض لها "وجوبا" فلا انفكاك ولا انفصال بينه وبينها، وذلك مقرر ثابت على قطع "من حيث" إنه "لا يعبد" عبادة صحيحة وثابتة في واقع الأمر "من لا يعرف" فالمجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد بعبادة، ولا بغيرها، ثم إن معرفة المعبود هي قوام العبادة ووجودها، فإن فقدت فإنه لا عبادة على الإطلاق.

وبذلك فإن معرفة المكلف المعبود - سبحانه - هي الشرط في التعبد، "وعند ما" يعرفه و"يعلمه المكلف" على الوجه المطلوب شرعا "و" من جملة ما يعلمه من ذلك "أنه" وحده "الناهي له والآمر" على الحقيقة، "و" إن عبادته "حقه" سبحانه "عليه" وهو "حق ظاهر" بين، مرده و"مرجعه لجهة" ما خلق له من "التعبد" له سبحانه "احتاج" وافتقر "للعلم" بكيفية التعبد، وهو العلم الثاني الثابت وجوبه "بهذا المقصد" الذي خلق له الجن والإنس.

"ثم" بعد هذا يرد طلب علم أمور الآخرة وذلك أن "النفوس ذات" أي صاحبة "طبع" العجلة و"حال" أي صفة "طالبة" أخذ "نتائج" وثمرات "الأعمال" على شوق، ورغبة متقدة، إذ مآل الأعمال وجزاؤها عائد على العاملين بحسب ما كان منهم من طاعة، أو معصية.

ص: 313

2293 -

فَكَانَ ذَا مُسْتَدْعِى الْخِطَابِ

لِأَنْ يَنُصَّ حَالَةَ الْمَئَابِ

2294 -

فَأَوَّلٌ يَشْمَلُ عِلْمَ الذَّاتِ

وَالْعِلْمَ بِالأفْعَالِ وَالصِّفَاتِ

2295 -

وَمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَيْنِ مِنْ

أَمْرُ النُّبُوَّاتِ التِي لَهَا رُكِنْ

2296 -

فَهْيَ وَسَائِطٌ لَدَى الْوُجُودِ

بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ وَالْمَعْبُودِ

2297 -

وَكُلُّ أَصْلٍ ثَابِتٍ لِلدِّينِ

عِلْمِيًّا أَوْ لِلْفِعْلِ بِالتَّعْيِينِ

2298 -

وَذَا بِهِ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ

لِمُبْطِلٍ مُكَمِّلٍ لِلشَّانِ

" فكان ذا" هو "مستدعي" وطالب ورود "الخطاب" الشرعي لبيان أن الدنيا ليست بدار إقامة و"لأن ينص" أي يبين بالنص "حالة المآب" أي الرجوع إلى الله - تعالى - وإن الإقامة إنما تكون بدار الآخرة. هذه هي أنواع العلوم المنطوية في هذا القسم على سبيل الإجمال.

أما على سبيل التفصيل "فـ" إن النوع الذي هو "أول" منها وهو العلم بالمتوجه إليه بالعبادة وهو الله - سبحانه - فإنه "يشمل علم الذات" الإلاهية "والعلم بالأفعال والصفات" الإلاهية.

"و" كذلك يشمل "ما له تعلق بـ" أحد هـ"ذين" الموضوعين وهو أمر الصفات أو الأفعال الإلاهية "من أمر" وشأن "النبوات التي لها ركن فهي" أي النبوات "وسائط" جمع وسيطة وهي الرابطة "لدى" أي في "الوجود" الخارجي "بين المكلفين والمعبود" سبحانه وتعالى.

"و" كذلك هي وسائط في "كل أصل ثابت للدين" سواء كان ذلك الأصل "علميا" كالعلم بأنه لا إله إلا الله وما تبعه، وتفرع عنه من عقائد، "أو "كان منسوبا "للفعل" بأن كان أمرا عمليا ثابتا "بالتعيين" له.

"وذا" العلم يدخل "به" يعني فيه "إقامة البرهان" والحجج على رد افتراء كل مفتر، وصد كل رأي في أمور الدين إذا كان مسندا "لمبطل" أي مدعى باطل، ذي كذب، يعاند الحقائق، وهو مكابر. وهذا الأمر - وهو إقامة البرهان على ما ذكر - هو "مكمل" ومتمم "للشأن" الذي قيامه بهذا العلم، وقد تقدم بيانه.

ص: 314

2299 -

وَالثَّانِ مَا يَشْمَلُ فِي التَّعْرِيفِ

لِكُلِّ مَا يَرْجِعُ للِتَّكْلِيفِ

2300 -

مِنَ الْعِبَادِيَاتِ وَالْعَادَاتِ

وَشَامِلٌ جِنْسَ الْمُعَامَلَاتِ

2301 -

وَكُلُّ مَا يُتْبَعُ لِلتَّكْمِيلِ

مِنَ الْكِفَايَاتِ عَلَى التَّفْصِيلِ

2302 -

وَأَصْلُهُ فِي الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ

وَعَكْسِهِ وَمُحْكَمِ التَّصْرِيفِ

2303 -

وَالثَّالِثُ الشَّامِلُ فِيهِ النَّظَرُ

مَوَاطِنًا ثَلَاثَةً تُعْتَبَرُ

2304 -

أَحَدُهَا الْمَوْتُ وَمَا يَلِيهِ

ثَانٍ لَهُ الْعَرْضُ وَمَا يَحْوِيهِ

" و" أما النوع "الثاني" من هذه العلوم فإنه "ما" أي الذي "يشمل في" في - هنا بمعنى على يعني يشتمل على "التعريف لكل" - اللام بمعنى الباء - أي بكل "ما يرجع" في هذا الدين "للتكليف" الشرعي "من" الأمور "العباديات" كالصلاة والزكاة والصوم والحج "و" هيئات "العادات" كالأكل والشرب، واللبس، "و" هو - كذلك - "شامل" بيانه "جنس المعاملات" الجارية بين الناس كالبيع والشراء، وغيرهما "و" كذلك "كل ما يتبع" كل واحد مما ذكر من العبادات والمعاملات والعادات، "لـ" أجل "التكميل" له "من" أنواع فروض "الكفايات" التي إذا فعلها البعض سقطت عن غيره، وهذا يمضي فيه "على التفصيل" ورد كل فرض كفاية إلى ما يكمله من هذه الأمور المذكورة.

"و" هذا الذي ذكر من العبادات وما معها "أصله" والجامع بينه تجده "في الأمر بالمعروف" وهذا يشمل كل مطلوب شرعا "وعكسه" وهو النهي عن المنكر، وهذا يشمل كل منهي عنه "و" النظر في "محكم" متقن "التصريف" في ذلك، يعني التصرف في ذلك - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - والقيام به. وهذا يشمل صفات المكلفين بذلك.

"و" أما النوع "الثالث" من هذه العلوم فإنه "الشامل فيه النظر" والبحث "مواطنا" أي مواضع "ثلاثة" وهي أمور "تعتبر" ويهتم بها عند أهل الإيمان لعظمة شأنها في قلوبهم، وعقولهم. "أحدهما" أي هذه المواطن هو "الموت" وفناء الخلق بعد وجودهم، وهو أمر ذو هول ورهبة. "و" بعد هذا يأتي "ما يليه" أي الموت من أحوال القبور ومواطن الأرواح، وهو "ثان له" أي لما ذكر من المواطن، ويدخل فيه يوم "العرض" أي يوم القيامة "وما يحويه" ويشتمل عليه من الحساب والعقاب، والنعيم المعجل.

ص: 315

2305 -

وَثَالِثٌ مَنْزِلُ الإِسْتِقْرَارِ

فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ أَوْ فِي النَّارِ

2306 -

وَإِنَّ هَذَا الْجِنْسَ فِي التَّرْغِيبِ

تَكْمِيلُهُ وَمُقْتَضَى التَّرْهِيبِ

2307 -

وَمِنْهُ الإِخْبَارُ عَنِ النَّاجِينَا

وَمُنْتَهَاهُمْ وَالْمُكَذِّبِينَا

2308 -

فَذَاكَ مَا مِنَ الْقُرْآنِ قَدْ ظَهَرْ

فَانْحَصَرَتْ عُلُومُهُ فِي اثْنَيْ عَشَرْ

2309 -

لَاكِنَّهَا قَدْ رَدَّهَا الْغَزَالِي

لِسِتَّةٍ تَأْتِي عَلَى الإِجْمَالِ

2310 -

ثَلَاثَةٌ سَوَابِقٌ مُهِمَّهْ

وَمِثْلُهَا تَوَابِعٌ مُتِمَّهْ

2311 -

مَعْرِفَةُ الْمَعْبُودِ وَالتَّوَجُّهِ

إِلَيْهِ وَالْمَئَالُ حَيْثُ يَنْتَهِى

" و" بعد هذا يأتي "ثالث" هذه المواقع - المواطن - وهو "منزل الاستقرار" والبقاء، وهو إما "في جنة الفردوس" وغيرها من الجنان، "أو في النار" أعاذنا الله - تعالى - منها بمنه ورحمته. هذا "وإن هذا الجنس" الذي كلامنا تمامه "في الترغيب" في الخير و "تكميله و" كذا "مقتضى" وموجب "الترهيب" والتخويف من النشر، "ومنه" أي هذا الذي به التكميل "الإخبار عن" أحوال "الناجينا" - الألف للإطلاق - من عذاب الله - تعالى - "و" كذا أخبار "منتهاهم" ومصيرهم المحمود، "و" كذا أخبار "المكذبينا" - الألف للإطلاق - الضالين، وأخبار مصيرهم السيء. وإذا تقرر هذا "فذاك" الذي تقدم ذكره من العلوم هو "ما" أي الذي "من القرآن" الكريم "قد ظهر" وبان "فانحصرت علومه" أي القرآن "في اثني عشر" علما، "لاكنها قد ردها" أبو حامد "الغزالي" في أول كتابه "إحياء علوم الدين""لستة" أقسام "تأتي" مسرودة "على" سبيل "الإجمال" من غير تفصيل لها، وهي ليست كلها بمنزلة واحدة إذ "ثلاثة" منها "سوابق" للثلاثة الأخرى كما أنها "مهمة" لأنها أصول وأركان لما سواها "و" أما الثلاثة الأخرى التي هي "مثلها" من حيث كونها علوما فإنها "توابع متمة" لما سواها مما ذكر.

أما الثلاثة الأولى فأولها شرح و"معرفة المعبود" سبحانه وتعالى، وهذا العلم يشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال "و" ثانيها تعريف طريق "التوجه" والقصد "إليه" سبحانه وتعالى على الصراط المستقيم، وذلك بالتحلية والاتصاف بالأخلاق الحميدة، والتخلية عن الأخلاق الذميمة. "و" ثالثها: تعريف الحال الذي يكون عليه "المئال" في الدار الآخرة "حيث ينتهي" الأمر بالمكلف، وحيث يستقر، وهذا العلم

ص: 316

2312 -

وَقِصَصُ الْمُجِيبِ وَالْمُعَانِدِ

وَرَدُّ كُلِّ بَاطِلٍ وَفَاسِدِ

2313 -

وَعِلْمُ كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الزَّادِ

لِلسَّفَرِ الْمُفْضِي إِلَى الْمَعَادِ

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

2314 -

وَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَنْهُ صَادِرُ

أَنْ لِلْقُرْانِ بَاطِنٌ وَظَاهِرُ

مشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة "و" أما الثلاثة الأخرى فأحدها ذكر "قصص المجيب" - اللام للجنس - يعني المجبين لله - تعالى -، وذلك بالتعريف بأحوالهم وذلك قصص الانبياء والأولياء وسره الترغيب، "و" كذا "المعاند" يعني المعاندين الكافرين بالله - تعالى -، والإعلام بأوصافهم وذلك قصص أعداء الله، وسره الترهيب "و" ثانيها "رد كل" قول ومعتقد "باطل وفاسد" لسقوط ما بني عليه وفساده وبطلانه وهذا يشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق به، وادكار عاقبة الطاعة والمعصية، وسره في جنبة الباطل والتحذير والافضاح، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح، والتعريف بعمارة منازل الطريق

(1)

، "و" أما ثالثها فهو "علم كيفية" وطريقة "أخذ الزاد" والأهبة "للسفر" والرحيل "المفضي إلى المعاد" - بفتح الميم - مصدر ميمي بمعنى العود والرجوع، ومحصول هذا العلم ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. وهذه الأقسام الستة تشعبت إلى عشرة، وهي ذكر الذات، والصفات، والأفعال، والمعاد، والصراط المستقيم، وهو جانب التحلية، والتزكية، وأحوال الأنبياء، والأولياء، والأعداء، ومجاهدة الكفار، وحدود الأحكام.

"المسألة الثامنة"

في ضبط معنى أن للقرآن ظاهرا وباطنا لأنه موضوع اختلاف، وتنازع شديد، كما أنه من مزالق النظر في بيان معاني النصوص الشرعية "و" ذلك "إن بعض الناس" منقول "عنه" و"صادر" منه "أن" بتخفيف النون للضرورة "للقرآن" في معناه ما هو "باطن" خفي "و" فيه ما هو "ظاهر" يعلم من ظاهر النصوص.

(1)

الموافقات 3/ 286.

ص: 317

2315 -

مُسْتَنِدًا فِيهِ لِمُرْسَلِ الْخَبْر

وَمَا مِنَ التَّفْسِيرِ فِيهِ قَدْ صَدَرْ

2316 -

فَمِنْهُ أَنَّ بَاطِنِ الْكِتَابِ

فَهْمُ مُرَادِ اللهِ بِالْخِطَابِ

2317 -

وَالظَّاهِرُ التِّلَاوَةُ الْمُجَرَّدَهْ

دُونَ تَعَقُّلٍ لِمَا قَدْ قَصَدَهْ

2318 -

وَمَا أَتَى مِنْ طَلَبِ التَّدَبُّرِ

ءَايَاتِهِ بِصِحَّةِ الْفَرْقِ حَرِ

وقائل هذا القول ربما كان "مستندا فيه" يعني في القول به "لمرسل" روي عن الحسن البصري، في "الخبر" عن هذا الأمر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن - بمعنى ظاهر وباطن - وكل حرف حد، وكل حد مطلع""و" معتمدا - كذلك - على "ما من التفسير فيه" يعني في بيان معنى هذا الخبر "قد" ورد و "صدر" أي جاء فيه، "فمنه" أي هذا التفسير الوارد لهذا الخبر "أن باطن الكتاب" معناه هو "فهم مراد الله" - تعالى - ومقصده "بالخطاب" بحيث تتخطى ظواهر الألفاظ إلى المقاصد الشرعية منه. "و" أما "الظاهر" فإنه "التلاوة المجردة" التي تحصل "دون تعقل" وإدراك "لما قد قصده" الشارع من ذلك الكتاب، لأن الله - تعالى - قال:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النِّسَاء: 78] والمعنى لا يفقهون عن الله مراده من الخطاب ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام، كيف وهو منزل بلسانهم؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام، وكان هذا هو معنى ما روى علي عن أنه سئل: هل عندكم كتاب؟ فقال لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، الحديث. وإليه يرجع تفسير الحسن للحديث المذكور، إذ قال: الظهر هو الظاهر هو الباطن هو السر.

"وما أتى" في القرآن الكريم. "من طلب التدبر آياته" ومن ذلك قوله - تعالى -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النِّسَاء: 82] أمر قاض "بصحة الفرق" بين التلاوة المجردة والتلاوة التي معها الدبر، وهو بإفادة هذا الفرق "حر" أي جدير وحقيق. لأن ظاهر المعنى شيء هم عارفون به، لأنهم عرب، فالمراد إذن شيء آخر، وهو لا شك أنه من عند الله - تعالى - وإذا حصل التدبر ارتفع هذا الفرق، ولم يوجد في قراءة القرآن اختلاف في البتة، فهذا الوجه الذي يفهم من جهته الاتفاق، وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه ولما قالوا في الحسنة:{هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 79] وفي السيئة: هذا من عند رسول الله، بين لهم أن كلا من عند الله وأنهم لا يفقهون حديثا، لكن بين الوجه الذي يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله:

ص: 318

2319 -

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَا مَعْنَاهُ

الظَّاهِرُ الْمُفْهِمُ مَا اقْتَضَاهُ

2320 -

وَالْبَاطِنُ الْمَعْنِيُّ سِرُّ الْحَقِّ

يُوتِيهِ مَنْ يَخْتَصُّهُ فِي الْخَلْقِ

2321 -

فَإِنْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِ مُدَّعِيهِ

مَا مَرَّ فَهْوَ لَا نِزاعَ فِيهِ

2322 -

وَإِنْ يَكُنْ مَقْصِدُهُ سِوَاهُ

طُولِبَ بِالدَّلِيلِ فِي دَعْوَاهُ

{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النِّسَاء: 79] الآية وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محَمَّد: 24] فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد. وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن فلم يحصل منهم تدبر. قال بعضهم: الكلام في القرآن على ضربين:

أحدهما: يكون برواية فليس يعتبر فيها إلا النقل.

والآخر: يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة على لسان العبد. وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام علي

(1)

.

"وقال بعض النّاس" في هذا الشّأن "ما معناه": إنّ "الظاهر" هو الوجه "المفهم ما اقتضاه" النّصّ القرآنيّ وأفاده إمّا من جهة اللّغة أو من جهة النّقل. "و" أمّا "الباطن المعنى" أي المقصود هنا فإنّه "سرّ" يلهمه العبد ولا يكون إلّا بلسان "الحقّ" وهذا فضل "يؤتيه" - سبحانه - "من يختصه" بذلك "من الخلق" والله ذو الفضل العظيم. وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام عليّ. وحاصل هذا الكلام أنّ المراد بالظاهر هو المفهوم العربيّ والباطن هو مراد الله تعالى - سبحانه - من كلامه وخطابه، "فإن يكن من قصد" ومراد صاحب هذا القول و"مدعيه" هو "ما مرّ" ذكره تفسيرا له - أي لهذا القول وهذا الرأي المدّعى - "فـ" - إنّ ذلك صحيح و"هو" قول وجيه، وبذلك فإنّه "لا نزاع فيه" ولا نكير يرد على من ذهب إلى القول به، لأنّه جار على قواعد العلم الشّرعيّ، وواقع حاله.

"و" أمّا "إن يكن مقصده" بذلك "سواه" أي سوى هذا المعنى ممّا يتجاوز هذا الذي ذكر ويتخطّاه "طولب" وألزم بالإتيان "بالدّليل في "إثبات "دعواه" وما يراه في هذا الشّأن، لأنّه ادّعى أمرا زائدا على ما كان معلوما عند الصّحابة ومن بعدهم، وما كان على هذا الحال من الدّعاوى فإنّه لا يثبت ولا يصحّ إلا بدليل ذي قوّة شرعيّة كافية في

(1)

الموافقات 3/ 286 - 287.

ص: 319

2323 -

وَلَيْسَ يَكْفِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلُ

بَلْ مَا عَلَى الْقَطْعِ لَهُ تَنَزُّلُ

2324 -

وَكْم مِثَالٍ ثَابِت التَّقْرِيرِ

مُصَحِّحٍ لِسَابِقِ التَّفْسِيرِ

2325 -

مِنْ ذَاكَ مَا فِي سُورَةِ النَّصْرِ وَفِي

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ مِن النَّعْي الْخَفِي

2326 -

لِذَا بَكَى لِآيَةِ الإِكْمَالِ

عُمَرُ لاسْتِشْعَارِهِ بِالْحَالِ

2327 -

وَالذَّمُّ لِلْكُفَّارِ فِي مَوَاطِنِ

بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الأمْرِ الْبَاطِنِ

إثباته، "و" بذلك فإنّ صاحب هذا المدّعى "ليس يكفيه" في إثبات مدّعاه هذا "حديث مرسل" أو ما في معناه من جهة الحجّيّة "بل" يفيد في ذلك ويكفي فيه "ما على القطع" والجزم في ذلك قد دلّ و"له" وقوع و"تنزّل" في إفادة ذلك.

"وكم" من "مثال" وارد في هذا الشّأن "ثابت" ما يفيده من "التّقرير" والتّثبيت "مصحّح لسابق التّفسير" يعني للتّفسير السّابق ذكره للّفظيّ الظّاهر، والباطن، و"من ذاك ما" روي عن ابن عبّاس "في" شأن تفسير صدر "سورة النّصر" إذ قال: كان عمر يدخلني مع أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عبد الرّحمن بن عوف: أتدخله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنّه من حيث تعلم. فسألني عن هذه الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النّصر: 1] فقلت إنّما أجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إيّاه، وقرأ السّورة إلى آخرها، فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما أعلم. فظاهر هذه السّورة أنّ الله - تعالى - أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يسبّح بحمد ربّه ويستغفره إذ نصره الله وفتح عليه، وباطنها أنّ الله نعى إليه نفسه. "و" منه - كذلك - ما ورد "في"شأن قوله - تعالى -:{"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ" لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائدة: 3]"من النّعي" أي الإخبار بموته عليه الصلاة والسلام "الخفي" الذي لا يدلّ عليه ظاهر هذه الآية، ولكنّ الآية دالّة عليه بالإشارة.

"لذا بكى لـ" نزول "آية الإكمال" هذه "عمر" بن الخطاب وقال: ما بعد الكمال إلا النّقصان، وكان منه ذلك "لاستشعاره" وعلمه "بالحال" الذي ستؤول إليه حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو الفناء، والانتهاء، فما عاش عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية إلّا أحدا وثمانين يوما. "و" من ذلك - أيضا - "الذّمّ للكفّار" الوارد "في مواطن" من القرآن الكريم وذلك "بـ" سبب "عدم اعتبار" هم "الأمر" والمعنى "الباطن" المقصود من الآيات، فإنّه لمّا قال الله - تعالى -:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العَنكبوت: 41] الآية. قال الكفار ما بال العنكبوت

ص: 320

"‌

‌ فصل

"

2328 -

وَدَاخِلٌ فِي الظَّاهِرِ الْمُفَسَّرِ

بِمُقْتَضَى إِطْلَاقِهِ الْمُقَرَّرِ

والذّباب يذكر في القرآن ما هذا كلام الإله فنزل {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} فأخذوا بمجرد الظّاهر ولم ينظروا في المراد فقال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البَقَرَة: 26] الآية. ويشبه ما نحن فيه نظر الكفّار للدّنيا واعتدادهم منها بمجرد الظّاهر الذي هو لهو ولعب وظلّ زائل وترك ما هو مقصود منها وهو كونها مجازا ومعبرا لا محلّ سكنى وهذا هو باطنها على ما تقدّم من التّفسير ولمّا قال تعالى {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} [المدَّثِّر: 30] نظر الكفار إلى ظاهر العدد فقال أبو جهل فيما روي لا يعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فبيّن الله تعالى باطن الأمر بقوله {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} إلى قوله {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدَّثِّر: 31] وقال {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فنظروا إلى ظاهر الحياة الدّنيا وقال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنَافِقون: 8] وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمَان: 6] الآية لمّا نزل القرآن الذي هو هدى للنّاس ورحمة للمحسنين ناظره الكافر النّضر بن الحارث بأخبار فارس والجاهلية وبالغناء فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل الله وقال تعالى في المنافقين {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} وهذا عدم فقه منهم لأنّ من علم أنّ الله هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء وأنّه هو مصرّف الأمور فهو الفقيه ولذلك قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الحَشر: 13] وكذلك قوله تعالى {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التّوبَة: 127] لأنّهم نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثمّ انصرفوا.

فاعلم أنّ الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر وعدم اعتبارهم للمراد منه وإذا أثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله من خطابه وهو باطنه

(1)

.

"فصل"

في أنّ الظاهر يشمل كلّ ما ينبني عليه فهم القرآن من المعاني العربيّة.

وبذلك فإنّه مندرج "وداخل في" معنى "الظّاهر المفسّر" - المبيّن - وذلك "بمقتضى" وحكم "إطلاقه المقرّر" - فيما سبق إيراده من الكلام -.

(1)

انظر الموافقات 3/ 288.

ص: 321

2329 -

جَمِيعُ مَا يَرْجِعُ لِلِّسَانِ

مِنْ مَقْصِدٍ مَلْحَظُهُ بَيَانِي

2330 -

كَفَهْمِ مَعْنَى ضَيِّقِ وَضَائِقْ

فِي مَوْضِعِيهِمَا لأَمْرٍ فَارِقٍ

2331 -

وَمُقْتَضَى النِّدَاءِ لِلتَّفْهِيمِ

عَلَى الْخُصُوصُ أَوْ عَلَى التَّعْمِيمِ

" جميع ما يرجع" أي يفهم "لـ" جهة "اللّسان" العربيّ، "من" معنى و"مقصد" مدركه و"ملحظه" أي المحلّ الذي يلحظ منه "بياني" بحيث يؤخذ من جهة صيغ الكلام وأحوال تراكيبه، ومنازعه البلاغيّة - كالتّمثيل والتّشبيه وما أشبه ذلك - ممّا لا معدل به عن ظاهر القرآن، وذلك "كفهم معنى ضيّق" بتشديد الياء على وزن فعيل "وضائق" - بصيغة اسم الفاعل - "في موضعيهما" من القرآن الكريم، وهما قوله - تعالى -:{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعَام: 125] وقوله تعالى {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هُود: 12] وما حصل من التّفرقة بينهما في الصّيغة "لأمر" أي معنى "فارق" بينهما، وهو أنّ الأوّل - وهو ضيّق - يدلّ على اللّزوم والثّبوت، لأنّ فعيلا يدلّ على الوصف اللّازم ككبير وصغير وميّت، والثّاني - وهو ضائق - يدلّ على الحدوث والتّجدد، وعدم الثّبوت، كجالس وقائم وضاحك. "و" كذا فهم الفرق بين "مقتضى" ومفاد "النّداء" المسوق "للتّفهيم" لمعنى جار على نوع معين من النّاس "على" وجه "الخصوص" نحو {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا} وبين النّداء الوارد على سبيل الشّمول "أو على التّعميم" نحو {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} أو {يَا بَنِي آدَمَ} ، فقد روي عن إبراهيم بن علقمة أنّه قال: كلّ شيء نزل في {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فإنّه مكيّ، و {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدنيّ وبيّن أنّ ما يرد بعد أحد المناديين يكون موافقا لحاله من جهة ما يحتاج إليه من الإصلاح، والتّذكير أو إقامة الحجّة والبرهان عليه في أمور العقيدة وغيرها، فللمؤمن يساق في ذلك ما يصلحه ويثبّته وتتمّ به عبادته لربّه، وللكافر يساق فيه ما يردّهُ عن غيّهِ، ويصرفه إلى الحقِّ، ويستثير عقله، وغير ذلك ممّا يجري على وفق حال كلّ واحد من الطّرفين: المؤمن، والكافر.

قال السّيوطي في الإتقان: خطاب المدح نحو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ولهذا وقع خطابا لأهل المدينة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} [الأنفَال: 74] أخرج ابن أبي حاتم عن خيثمة ما تقرأون في القرآن {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنّه في التّوراة [يا أيّها المساكين] وأخرج البيهقيّ وأبو عبيد وغيرهما عن ابن مسعود قال: إذا سمعت الله

ص: 322

2332 -

وَالنَّصْبُ فِي قَالُوا سَلَامًا وَحْدَهْ

وَالرَّفْعُ فِي قَالَ سَلَامٌ بَعْدَهْ

2333 -

وَمَا بِسَوْقِ الاسْمِ وَالْفِعْلِ لَدَا

تَذَكَّرُوا وَمُبْصِرُونَ قَصَدَا

يقول {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأوعها سمعك فإنّه خير يأمر به أو شرّ ينهى عنه

(1)

.

وقال الزّمخشريّ في الكشّاف: فإن قلت: لم كثر في كتاب الله النّداءُ على هذه الطّريقة ما لم يكثر في غيره؟ قلتُ: لاستقلاله بأوجه من التّأكيد وأسباب المبالغة، لأنّ كلّ ما نادى الله له عباده - مِنْ أوامره، ونواهيه، وزواجره، ووعده، ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدّارجة عليهم، ممّا أنطق الله به كتابه - أمورٌ عظامٌ وخطوب جسام، ومعان عليهم أن يتيّقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون، فاقتضت أن ينادوا بالآكد الأبلغ"

(2)

.

"و" مثل ذلك "النّصب" الوارد "في"قوله - تعالى -: " {قَالُوا سَلَامًا} [هُود: 69] وحده" بعد قوله - سبحانه -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا} [الذّاريَات: 24، 25]"والرّفع" الوارد "في"قوله - تعالى -: {"قَالَ سَلَامٌ"} [الذّاريَات: 25]" الوارد "بعده" أي بعد {قَالُوا سَلَامًا} المذكور وهو منصوب بإضمار أذكر، وهو مصدر سدّ مسدّ الفعل مستغنى به عنه. وأصله: نسلم عليكم سلاما.

وأمّا [سلام] فمعدول به إلى الرّفع على الإبتداء، وخبره محذوف، معناه عليكم سلام، للدلالة على ثبات السّلام، كأنّه قصد أن يحيّيهم بأحسن ممّا حيّوه به

(3)

.

"و" من ذلك - أيضا - "ما" أريد "بسوق الاسم" الآتي وهو [مبصرون] في مجرى الإخبار بالإبصار "أو" يعني و"الفعل" وهو [تذكّروا] وذلك "لدا" يعني في قوله تعالى: [{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ "تَذَكَّرُوا"} [الأعرَاف: 201]] "و" في قوله - تعالى - {"فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ"} [الأعرَاف: 201] و"قصدا" - الألف للإطلاق - من الفرق، وهو على ما يبدو أنّ الفعل الماضي يدلّ على ثبوت الوقوع، والزّوال بعد الوقوع. والاسم - الوصف - يدلّ - هنا - على القيام بالذّات،

(1)

انظر الإتقان الجزء 2/ 100.

(2)

انظر الكشّاف 1/ 90.

(3)

انظر الكشّاف عند هذه الآية.

ص: 323

2334 -

وَمَيْزُ مَا يُفِيدُ قَصْدَ الْوَصْلِ

بِحَيْثُ مَا جَاءَ وَقَصْدَ الْفَصْلِ

2335 -

وَالْفَرْقُ مَا بَيْنَ إِذَا وَإِنْ وَمَا

بَعْد مِنَ الْجَوَابِ يَأْتِي بِهِمَا

2336 -

وَغَيْر هِذِه مِنَ الْمَعَانِي

الْمُسْتَفَادَاتِ مِنَ الْبَيَانِ

2337 -

وَمِنْ هُنَا يَقُولُ بَعْضُ الْعُلَمَا

إِعْجَازُهُ إِلَى الْفَصَاحَةِ انْتَمَا

والاستمرار. والله - تعالى - أعلم.

"و" منه - أيضا - "ميّز" أي فرز وعزل "ما يفيد" ويقتضي من الكلام بحكم حاله ترك عطف بعضه على بعض "قصد الوصل" بين أجزائه "بحيث ما" يعني في أيّ موضع "جاء" وورد "و" ما من الكلام يقتضي ويفيد بحكم حاله عطف بعضه على بعض "قصد الفصل" بين أجزائه. وهذا موضوع مفصّل فيه البحث والكلام في علم البيان.

"و" من ذلك - أيضا -: "الفرق" الحاصل "ما بين" لفظة "إذا" الشّرطيّة "و" لفظة "إن" الشّرطيّة "وما" يرد "بعد" هما "من الجواب" و"يأتي بـ" مقتضا "هما" قال القزويني في التلخيص: "فإن وإذا للشرط في الاستقبال لكن أصل إن عدم الجزم في وقوع الشرط، فلا تقع في كلام الله تعالى على الأصل إلا حكاية أو على ضرب من التأويل وأصل إذا الجزم بقوعه"

(1)

"وغير هذه" المعاني المذكورة "من المعاني المستفادات من "جهة "البيان" وما انطوى عليه من وجوه الكلام، وأساليبه المختلفة، فإذا حصل فهم ذلك كلّه على ترتيبه في اللسان العربيّ، فقد حصل فهم ظاهر القرآن.

"ومن "هذا الذي قرّر "هنا" وبيّن أمره "يقول بعض العلماء" إنّ القرآن "إعجازه إلى الفصاحة" يسند، فإنّه إليها "انتمى" وانتسب. قال الله - تعالى - {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البَقَرَة: 23] وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هُود: 13] وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها، إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة

(2)

.

(1)

انظر شرح التلخيص 2/ 38، 39.

(2)

الموافقات 3/ 290.

ص: 324

2338 -

وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ

وَمَا عَلَى الْعِبَادِ لِلْمَعْبُودِ

2339 -

فَإِنَّهُ بَاطِنُهُ الْمُرَادُ

وَبِالذِي قْد مَرَّ الاسْتِشْهَادُ

2340 -

وَمِثْلُ مَفْهُومِ أَبِي الدَّحْدَاحِ فِي

مَنْ ذَا الذِي يُقْرِضُ فِي الْمَعْنَى حَفِي

2341 -

لَا مِثْلَ مَفْهُومِ الْيَهُودِ

فِيِه تَبًّا لَهُمْ فِي الْقَصْدِ لِلتَّشْبِيهِ

هذا هو أمر الظّاهر وبيانه، "وكلّ ما دلّ" من المعاني "على التّوحيد" لله - تعالى - والإقرار له سبحانه بالرّبوبيّة "و" كذا "ما" دلّ على الحقوق وثبوتها ووجوبها "على العباد للمعبود" سبحانه وتعالى "فإنّه باطنه" أي القرآن، لأنّه "المراد" والمقصود الذي أنزل لأجله "و" الاستدلال على هذا جار "بالذي قد مرّ" آنفا وبه "الاستشهاد" على ذلك "و" منه - أي من هذا الباطن - "مثل مفهوم أبي الدّحداح" - الذي فهمه - في قوله - تعالى -[{"مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ" اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البَقَرَة: 245]] فإنّه قد روي عنه أنّه قال لمّا نزلت هذه الآية: إنّ الله كريم استقرض منّا ما أعطانا.

وهذا الذي فهمه من الآية أمر "في" طيّات "المعنى" الذي تدلّ عليه هذه الآية "خفيّ" لا يدركه إلّا فقيه يدرك من معاني النّص الشّرعي خفيّها، كما يدرك جليّها وقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا الدّحداح عن قوله هذا، فقال له "نعم ليدخلكم الجنّة".

و"لا" يعدّ من هذا "مثل مفهوم" ومدرك "اليهود فيه" أي في هذا النّص - الآية - المذكور "تبّا" وهلاكا "لهم" ما أخبث نفوسهم وما أبلد عقولهم إذ فهموا "في" معناها ومقتضاها "القصد للتّشبيه" لله - تعالى - بخلقه، وقالوا {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عِمرَان: 181] نعوذ بالله من الضّلالة والخذلان.

وممّا يعدّ من هذا الباطن - مراد الله تعالى - وقصده في كتابه، أنّ العبادات المأمور بها، بل المأمورات والمنهيّات كلّها إنّما طلب بها العبد شكرا لما أنعم الله به عليه، ألا ترى قوله - تعالى -:{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النّحل: 78] وفي الأخرى {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعرَاف: 10] والشّكر ضدّ الكفر، فالإيمان وفروعه هو الشّكر، فإذا دخل المكلّف تحت أعباء التّكليف بهذا القصد فهو الذي فهم المراد من الخطاب، وحصّل باطنه على التّمام، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ودمه فقط فهذا خارج عن المقصود، وواقف مع ظاهر الخطاب فإنّ الله قال:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} ثمّ قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التّوبَة: 5] فالمنافق إنّما فهم مجرد ظاهر الأمر من أنّ الدّخول فيما دخل فيه المسلمون موجب لتخلية سبيلهم فعملوا على الإحراز من عوادي الدّنيا، وتركوا المقصود من ذلك، وهو الذي بيّنه القرآن من التّعبد لله والوقوف على قدم الخدمة، فإذا كانت الصّلاة تشعر بإلزام الشّكر بالخضوع لله والتّعظيم لأمره فمن دخلها عريّا من ذلك كيف يعدّ ممّن فهم باطن القرآن؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول فوجب عليه شكر النّعمة ببذل اليسير من الكثير، عودا عليه بالمزيد فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك، كيف يكون شاكرا للنّعمة؟ وكذلك من يضارّ الزّوجة لتنفكّ له من المهر على غير طيب النّفس لا يعدّ عاملا بقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} [البَقَرَة: 229] حتّى يجري على معنى قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النِّسَاء: 4] وتجري هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى، لأنّ من فهم باطن ما خوطب به لم يحتلّ على أحكام الله حتّى ينال منها بالتّبديل والتّغيير، ومن وقف مع مجرد الظّاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود اقتحم هذه المتاهات البعيدة. وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا، وهم الذين يتّبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، كما قال الخوارج لعلي: إنّه حكّم الخلق في دين الله، والله يقول {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعَام: 57] وقالوا: إنّه محا نفسه من إمارة المؤمنين، فهو إذا أمير الكافرين وقالوا لابن عبّاس لا تناظروه، فإنّه ممّن قال الله فيهم:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزّخرُف: 58] وكما زعم أهل التّشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القَمَر: 14]{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى: 11]{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزُّمَر: 67] وحكّموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاؤوا فلو نظر الخوارج أنّ الله تعالى قد حكّم الخلق في دينه في قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المَائدة: 95]{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 35] لعلموا أنّ قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} غير مناف لما فعله عليّ، وأنّه من جملة حكم الله فإن تحكيم الرّجال يرجع به الحكم لله وحده، فكذلك ما كان مثله ممّا فعله عليّ. ولو نظروا إلى أن محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده لما قالوا: إنّه

ص: 326

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

2342 -

وَكَوْنُ مَفْهُومِ اللِّسَانِ الْعَرَبي

ظَاهْرهُ غَيْرُ خَفِي السَّبَبِ

2343 -

فَمَا بِهِ اسْتُنْبِطَ غَيْرُ جَارِ

عَلَى لِسَانِ الْعُرْبِ بِاعْتِبَارِ

أمير الكافرين، وهكذا المشبّهة لو حقّقت معنى قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشّورى: 11] في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها، وأنّ الربّ منزه عن سمات المخلوقين. وعلى الجملة فكلّ من زاغ ومال عن الصّراط المستقيم فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما، وكلّ من أصاب الحقّ وصادف الصواب فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه

(1)

.

"المسألة التاسعة"

في أنّ كلّ ما استنبط من القرآن وأخذ منه وهو غير جار على مقتضى اللّسان العربيّ لا يعتدّ به، ولا مبالاة به إذ ليس من علوم القرآن في شيء.

"و" ذلك أنّ "كون مفهوم" ومعنى "اللّسان العربيّ" هو "ظاهره" أي القرآن الكريم "غير خفي "الدّليل و"السّبب" الموجب لهذا الوصف - الحكم -، وذلك لأنّ المؤالف والمخالف اتّفقوا على أنّه منزّل بلسان عربي، قال - سبحانه - {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ثمّ ردّ الحكاية عليهم بقوله:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النّحل: 103] وهذا الرّدّ على شرط الجواب في الجدل لأنّه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم، والبشر هنا حَبر، وكان نصرانيّا فأسلم، أو سلمان، وقد كان فارسيّا فأسلم، أو غيرهما ممّن كان لسانه غير عربيّ باتّفاق منهم، وقال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصّلَت: 44] وقد علم أنّهم لم يقولوا شيئا من ذلك، فدلّ على أنّه عندهم عربيّ، وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربيّ فقط وإن لم يتّفقوا على فهم المراد منه، فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللّسان العربيّ

(2)

.

وبناء على هذا "فـ" إنّ كلّ "ما به" يعني فيه أي القرآن "استنبط" وهو "غير جار على" معاني وأساليب "لسان العرب" ومقتضياته "باعتبار" ما من الاعتبارات التي عليها بناء

(1)

الموافقات 3/ 291 - 292.

(2)

الموافقات 3/ 292 - 293.

ص: 327

2344 -

فَلَيْسَ مِنْ عُلُومِهِ وَالْمُدَّعِي

لِذَاكَ مُبْطِلٌ وَغَيْرُ مُتْبَعِ

2345 -

سَواءًا اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَوْ بِهِ

كَمَنْ نِكَاحُ التِّسْعِ مِنْ مَذْهَبِهِ

هذا اللّسان "فـ" إنّه "ليس من علومه" أي القرآن في شيء على الإطلاق "و" المنحرف عن العمل بمقتضى هذه الحقيقة - القاعدة - "المدّعى لذاك" وهو أنّه يستخرج من القرآن من المعاني ما لا يجري على وفق اللّسان العربي هو مفتر و"مبطل" أي آت بالباطل، "و" بذلك فهو "غير متبّع" فيما يصدر منه، بل لا مبالاة به على الإطلاق، "سواء" كان ذلك ممّا ادَّعى أنه "استفيد منه" أي من ظاهر ألفاظ القرآن "أو "كان ممّا ادّعى أنّه استفيد "به" أي بالقرآن وذلك "كمن "من أهل الكلام قال بجواز "نكاح" وتزوّج "التّسع" من النّسوة على وجه الجمع بينهنّ، وكان هذا في هذا الشّأن "من مذهبه" مستدلا بقوله - تعالى -:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النِّسَاء: 3]. ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع.

ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنّه مسمى في القرآن كبيان بن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عِمرَان: 138] الآية وهو من التُّرَّهات بمكان مكين، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد. ولو جرى له على اللسان العربي لعدّه الحمقى من جملتهم ولكنه كشف عوار نفسه من كلّ وجه. عافانا الله، وحفظ علينا العقل والدين بمنه وإذا كان بيانٌ في الآية علما له فأي معنى لقوله:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} كما يقال هذا زيد للناس ومثله في الفحش من تسمى بالكسف ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى وإن يروا كسفا من السماء ساقطا الآية فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد؟ كما تقول وإن يروا رجلا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وبيان بن سمعان هذا هو الذي تنسب إليه البيانية من الفرق وهو فيما زعم ابن قتيبة أول من قال بخلق القرآن والكِسف هو أبو منصور الذي تنسب إليه المنصورية، وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره وكان أحدهما يسمى بنصر الله والآخر بالفتح فكان يقول لهما أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال إذا جاء نصر الله والفتح قالوا وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى فبدل قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس بقوله كتامة خير أمة أخرجت للناس ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا لأن المتسميين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين

ص: 328

"‌

‌ فصل

"

2346 -

وَكَوْنُ مَا يُرَادُ فِي الْخِطَابِ

بَاطِنُهُ بَادٍ إِلَى الأَلْبَابِ

من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير المعنى إذا مت يا محمد ثم خلق هذان {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ} [النّصر: 2، 3] الآية فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله

(1)

.

ومن هؤلاء الضّالين من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا لأن الله قال حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يحرم شيئا غير لحمه ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس ومنهم من فسر الكرسي في قوله وسع كرسيه السموات والأرض بالعلم مستدلين ببيت لا يعرف وهو ولا بكرسئ علم الله مخلوق كأنه عندهم ولا يعلم علمه وبكرسئ مهموز والكرسي غير مهموز ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى أنه تخم من أكل الشجرة من قول العرب غوي الفصيل يغوي غوى إذا بشم من شرب اللبن وهو فاسد لأن غوي الفصيل فعل والذي في القرآن على وزن فعل ومنهم من قال في قوله ولقد ذرأنا لجهنم أي ألقينا فيها كأنه عندهم من قول الناس ذرته الريح وذرأ مهموز وذرا غير مهموز وفي قوله واتخذ الله إبراهيم خليلا أي فقيرا إلى رحمته من الخلة بفتح الخاء محتجين على ذلك بقول زهير وإن أتاه خليل يوم مسألة قال ابن قتيبة أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول؟ أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله؟ وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل موسى كليم الله وعيسى روح الله؟ ويشهد له الحديث "لو كنت متخذ خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله" وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعا للرأي وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت وإنما أكثرت من الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية والمعنى على ما علمت لتكون تنبيها على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب منها

(2)

.

"فصل"

"و" ذلك أنّ "كون ما يراد" ويقصد "في الخطاب" القرآني هو "باطنه" أمر بيّن "باد" لا خفاء به "إلى" - بمعنى اللام - يعني: لأولي "الألباب".

(1)

الموافقات 3/ 293 - 294.

(2)

الموافقات 3/ 294 - 295.

ص: 329

2347 -

بِمَا مَضَى لَكِنْ لَهُ شَرْطَانِ

صِحَّتُهُ بِمُقْتَضَى اللِّسَانِ

2348 -

وَشَاهِدٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ مِنْ ظَاهِرِ

دُونَ مُعَارِضٍ لَهُ فِي الظَّاهِرِ

والعقول "بما" تقدّم ذكره و"مضى" تقريره "لكنّ" هذا أمر مضبوط، فلا يعدّ من ذلك - الباطن - إلّا ما ثبت "له شرطان": أحدهما "صحّته" وثبوته "بمقتضى" الظاهر المقرّر في "اللّسان" العربي، بحيث يجري على مقاصده، ويصحّ أن يتّخذ اللسان العربي مرقاة إليه. "و" ثانيهما أن يكون له "شاهد من نص" يفيد القطع في ثبوته "أو من ظاهر" يدلّ على ثبوته بغلبة الظن "دون" وجود دليل "معارض له" أي لهذا الشاهد "في الظاهر"، إذ لا تعارض بين النصوص الشرعية في حقيقة الأمر.

أمّا الأوّل فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيا فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلا إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ولا مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا.

وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعى على القرآن والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء.

وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن لأنهما موفران فيه بخلاف ما فسر به الباطنية فإنه ليس من علم الباطن كما أنه ليس من علم الظاهر فقد قالوا في قوله تعالى وورث سليمان داود إنه الإمام ورث النبي علمه.

وقالوا في الجنابة إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام والصيام الإمساك عن كشف السر والكعبة النبي والباب علي والصفا هو النبي والمروة علي والتلبية إجابة الداعي والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه الصلاة والسلام إلى تمام الأئمة السبعة والصلوات الخمس أدلة على الأصول

ص: 330

"‌

‌ تكميل

"

2349 -

بَعْضُ التَّفَاسِيرِ بِإِشْكَالٍ صَدَرْ

مِنْ ذَاكَ تَفْسِيرُ فَوَاتِحِ السُّوَرْ

الأربعة وعلى الإمام ونار إبراهيم هو غضب نمرود لا النار الحقيقية وذبح إسحاق هو أخذ العهد عليه وعصا موسى حجته التى تلقفت شبه السحرة وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه السلام فيهم والبحر هو العالم وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم والمن علم نزل من السماء والسلوى داع من الدعاة والجراد والقمل والضفادع سؤالات موسى وإلزماته التى تسلطت عليهم وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين والجن الذين ملكهم سلمان باطنية ذلك الزمان. والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة إلى سائر ما نقل من خطابهم الذي هو عين الخبال وضحكة السامع نعوذ بالله من الخذلان قال القتبي وكان بعض أهل الأدب يقول ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر فإنه قال ذات يوم ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل:

إنه في رجل منهم قيل له فما تقول أنت فيه؟ قال البيت بيت الله وزرارة الحج قيل فمجاشع؟ قال زمزم جشعت بالماء قيل فأبو الفوراس؟ قال أبو قبيس قيل فنهشل؟ قال نهشل أشده وصمت ساعة ثم قال نعم نهشل مصباح الكعبة لأنه طويل أسود فذلك نهشل انتهى ما حكاه

(1)

.

"‌

‌ تكميل" في ذكر وبيان أمور بها تمام هذه المسألة

أحدها: أنّ "بعض التفاسير" قد جاء وهو غير واضح إذ هو مختلط "بإشكال" جلبه له ما اعتراه من احتمال أن يكون من هذا الصنف الفاسد ومن احتمال أن يكون من الباطن الصحيح، وهذه التفاسير منسوبة لأناس من أهل العلم، وربّما نسب بعضها إلى السّلف و"صدر" عنهم. فـ"من ذاك تفسير فواتح السور" المبدوءة بالحروف الهجائية، نحو {الم (1)} و {المص (1)} و {حم (1)} وما هو من جنسها فقد فسرت بأشياء

(1)

الموافقات 3/ 295 - 296.

ص: 331

2350 -

قِيلَ أُشِيرَ لِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ

إِنْ كَانَتِ الأَصْلُ لِوَضْعِ الْكَلِمِ

2351 -

وَقِيلَ بَلْ إِشَارَةٌ إِلَى عَدْد

جَاءَ لِتَنْبِيهٍ بِهِ عَلَى مُدَدْ

2352 -

وَذَا وَإِنْ مَعْنَاهُ جَاءَ فِي السِّيَرِ

مُحْتَمِلٌ لِلْبَحْثِ فِيهِ وَالنَّظَرِ

2353 -

وَقِيلَ فِيهَا إِنَّهَا حُرُوفُ

آتٍ لِأَسْمَاءٍ بِهَا تَعْرِيفُ

2354 -

وَإِنَّهُ لأَغْمَضُ الأَقْوَالِ

لِبُعْدِهِ عَنْ حَالِ الاسْتِعْمَالِ

منها ما يظهر أنّه جار على مفهوم صحيح، ومنها ما ليس كذلك، فـ"قيل" إنّها حروف "أشير" بها "لحروف المعجم" التي هي حروف الهجاء، وذلك "إن كانت" هذه الحروف الهجائية "الأصل لوضع الكلم" العربي وتركيبه، والقرآن منزل بهذا الكلم.

ولا يخفى ما في هذا القول من البعد لفقد المناسبة والرّابطة بين ذكر هذه الحروف، وهذا القصد. "وقيل بل" إنّها "إشارة إلى" ما دلّ عليه من "عدد" كلّ حرف منها بحساب الجمل وهذا العدد "جاء" ذكره "لتنبيه به" وتذكير "على" ما قد تستغرقه بقاء هذه الأمّة من "مدد" وأزمنة "وذا" القول "وإنّ معناه" قد "جاء في "كتب "السير" وذكر فيها فإنّه "محتمِل" - بكسر الميم - "للبحث فيه والنّظر" في شأنه، لأنه قول مفتقر إلى ما يسنده من جهة اللغة العربية، فإنّ العرب ما كانت تعهد استعمال الحروف المقطعة قاصدة ما دلّت عليه تلك الحروف من أعداد، وربّما لا يوجد لها مثل هذا البتة، وإنّما كان ذلك من عادة اليهود.

"وقيل فيها" أيضا: "إنّها حروف" قاصد و"آت لأسماء" معيّنة "بها تعريف"، فقد نقل عن ابن عبّاس في {الم (1)} أنّ الألف: الله. و"لام" جبريل. و"ميم" محمّد صلى الله عليه وسلم.

"و" هذا وإن صحّ في النّقل فـ"إنّه لأغمض" الأراء و"الأقوال" المذكورة في هذا الشأن وذلك "لبعده عن حال" وطريقة التصرّف في اللغة العربية و"الاستعمال" لها، فإنه لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقا، وإنّما أتى مثله إذا دلّ عليه الدّليل اللّفظي أو الحالي، كما قال الشاعر: قلت لها: قفي لنا، قالت قاف.

أراد وقفت، فاكتفى بذكر القاف. قال ابن جني: ولو نقل هذا الشاعر إلينا شيئا من جملة الحال فقال مع قوله قالت قاف: وأمسكت زمام بعيرها أو عاجته علينا، لكان أبين لما كانوا عليه وأدل، على أنها أرادت قفي لنا قفي لنا، أي تقول لي قفي لنا

ص: 332

2355 -

وَقِيلَ فِيهَا إِنَّهَا أَسْرَارُ

للهِ عِلْمُهَا وَذَا الْمُخْتَارُ

2356 -

لِعَدِّهَا فِي الْمُتَشَابِهَاتِ

إِذْ لَا دَلِيلَ بِالْبَيَانِ آتٍ

2357 -

وَمَعَ الإشْكَالِ فَقْد تَعَدَّا

قَوْمٌ بِهَا فِيمَا رَأَوْهُ الْحَدَّا

متعجبة منه، وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم أن قولها قاف إجابة له لا رد لقوله وتعجب منه في قوله قفي لنا

(1)

.

وما أشبه ذلك ممّا استغني فيه بحرف واحد دلّ على المراد به ما قارنه من حال أو مقال.

"وقيل فيها" كذلك "إنّها" أي هذه الفواتح "أسرار" ربانية "لله علمها" وحده سبحانه، لا يعلمها إلا هو "وذا" القول هو "المختار" والأظهر، وذلك لجعلها بمقتضى هذا القول و"لعدّها في المتشابهات" التي لا يعلم تأويلها إلا الله - تعالى - "إذ لا دليل بالبيان" لها "آت" من الشارع.

وإذا تقرر هذا فإن كلّ ما سيق من الأقوال في شرح هذه الفواتح مشكل والخوض فيه ضرب من الرّجم بالغيب والادّعاء العاري من أيّ دليل أو حجّة صحيحة "ومع" ثبوت هذا "الاشكال" وجريان مقتضاه في هذا الشأن "فقد تعدّا قوم" من المنتسبين إلى العلم كمحيي الدّين بن عربي، في بيان المقصود "بها" والمراد منها "فيما رأوه" في ذلك واعتقدوه فيه "الحدّا" - الألف للإطلاق - وتخطوه، إذ اتخّذوا هذه الفواتح سلّما إلى الاطّلاع والكشف على حقائق الأمور الغيبية، وجعلوها حججا في دعاو ادّعوها على القرآن، وربّما نسبوا شيئا من ذلك إلى عليّ بن أبي طالب، وزعموا أنّها أصل العلوم، ومنبع المكاشفات على أحوال الدّنيا والآخرة، وينسبون ذلك إلى أنّه مرادّ الله - تعالى - في خطابه العرب: الأمّة الأمّية التي لا تعرف شيئا من ذلك، وهو إذا سلم أنّه مراد في تلك الفواتح في الجملة، فما الدليل على أنه مراد على كلّ حال من تركيبها على وجوه، وضرب بعضها ببعض، ونسبتها إلى الطبائع الأربع، وإلى أنها الفاعلة في الوجود، وأنها مجمل كلّ مفصلّ، وعنصر كلّ موجود، وغير ذلك ممّا يجري في هذا المجرى؟

(1)

لسان العرب 15/ وقف.

ص: 333

2358 -

فَكُلُّ مَا يُنْسَبُ لِلْحُرُوفِ

مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ وَالتَّصْرِيفِ

2359 -

جَمِيعُهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلِ

خَارِجَةُ الْقَصْدِ عَنِ السَّبِيلِ

"‌

‌ فصل

"

2360 -

وَغَيْرُهَا مِنَ التَّفَاسِيرِ التِي

تُرْوَى وَمِنْ نَافٍ لَهَا وَمُثْبِتِ

2361 -

لَا بُدَّ مِنْ أَصْلٍ هُنَا يُوَالِي

يَرْفَعُ عَنْهَا وَاقِع الإِشْكَالِ

والصحيح أنّ ذلك كلّه ضروب من الأوهام، والتخيّلات، "فكلّ ما ينسب للحروف" ويسند لها "من المناسبات" والروابط بينها وبين أمور غيبية وأمور معرفية من صنف ما تقدّم ذكره "و" من "التّصريف" لأمور الكون والوجود، ومن التأثير فيها، بوجه ما "جميعه" كلام باطل و"دعوى بلا دليل" وبذلك فهي ساقطة الاعتبار "خارجة" في هذا الذي تنسبه من المعنى و"القصد" لهذه الحروف "عن السّبيل" المستقيم، والطريق الأنهج. وإن ادّعى أنّ ذلك مأخذه الكشف، فإنّ ذلك مردود لأنّ الكشف ليس دليلا علميا ولا شرعيا. في أنّه كما لا دليل على صحّة ما ذكر من التفاسير.

"فصل"

"و" الآراء المذكورة فكذلك حكم وحال "غيرها من التفاسير" التي قد تعدّ من الباطن، و"التي تروى" عن مثل سهل بن عبد الله التستري "و" النّاس في شأنها مختلفون ما بين "من" هو "ناف" ومنكر "لها" لا مبالاة بها عنده "و" من هو "مثبت" لها قائل بصحّتها، "لا بدّ" في قبولها والإعتداد بها "من أصل" يعتمد عليه "هنا" وصنف هذه "يوالي" أي ينصر ما ادّعى من التفاسير و"يرفع عنها واقع الإشكال" الذي يعتريها.

وممّا يجري عليه في هذا السبيل ويمثل به في هذا الشأن ما نقل عن سهل بن عبد الله التستري من تفاسير تحتمل أن تكون من الباطن، كما تحتمل أن تكون من الباطل وهو الظاهر، فقد نقل عنه أنّه قال في قوله - تعالى -:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البَقَرَة: 22] أي أضدادا: قال وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء، الطواعة إلى حظوظها

ص: 334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومنهيها بغير هدى من الله وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصل لكان المعنى فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا وهذا مشكل الظاهر جدا إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ولكن أتى بما هو ند في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين:

إحداهما أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار فيجريه فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته والنفس الأمارة هذا شأنها لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها لاهية أو صادّة عن مراعاة حقوق خالقها وهذا هو الذي يعني به الند في نده لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه وشاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهم لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم ائتمروا بأوامرهم وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان فما حرموا عليهم حرموه وما أباحوا لهم حللوه فقال الله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التّوبَة: 31] وهذا شأن المتبع لهوى نفسه.

والثانية: أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم ألا ترى أن عمر بن الخطاب قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان أين تذهب بكم هذه الآية {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] وكان هو يعتبر نفسه بها وإنما أنزلت في الكفار لقوله {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ} الآية ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص فإذا كان كذلك صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله فلا تجعلوا لله أندادا والله أعلم.

ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البَقَرَة: 35] قال لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره أي لا تهتم بشيء هو غيري قال فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه قال وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرا إلى هوى نفسه لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه عليه، إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها

ص: 335

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

2362 -

وَمَا اعْتِبَارَاتُ الْقُرْآنِ الْوَارِدَهْ

عَلَى الْقُلُوبِ ذَاتُ حَالٍ وَاحِدَهْ

قال وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر إلى آخر ما تكلم به.

وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله وإن كان ذلك منهيا عنه أيضا ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره ولم يرد النهي عن الأول تصريحا فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به وأيضا فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا إذ لا مناسبة فيه تظهر ولأنه لم يقل به أحد وإنما النهي عن معنى في القرب وهو إما التناول والأكل وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه، وذلك مساكنة الهمة فإنه الأصل في تحصيل الأكل ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهي عنه فهذا التفسير له وجه ظاهر فكأنه يقول لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان وذلك الخلد المدعى أضاف الله إليه لفظ العصيان ثم تاب عليه إنه هو التواب الرحيم

(1)

. ولا يخفى على كلّ ذي بصيرة مشربه ما عليه أهل السنّة والجماعة أنّ هذا الضرب من التفاسير فتنة لما تفتحه من اللّعب بكلام الله - تعالى - وصرفه عن ظاهره بتخيّلات وأوهام باطلة أساسها قائم على التّفاسير الإشارية الفاسدة، وهذيان الباطنية، ممّا تقتضي العقول والأدلة الشرعية أنه ضلال مبين وبهتان عظيم.

"المسألة العاشرة"

"و" هي في بيان أن ما يرد على القلوب من القرائن القرآنية إنما يقبل منها ما كان له ما يدل على صحته. إذ "ما" أي ليس "اعتبارات" ومفاهيم "القرآن" الكريم "الوارده على القلوب ذات حال واحده" بل هي مختلفة أحوالها.

(1)

الموافقات 3/ 298 - 299 - 300.

ص: 336

2363 -

لَكِنْ إِذَا صَحَّتْ عَلَى وِزَانِ

شُرُوطِهَا كَانَ لَهَا حَالَانِ

2364 -

حَالٌ يُرَى وَأَصْلُ الانْفِجَارِ

مِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ فِيِه جَارِ

2365 -

وَيَتْبَعُ الْوُجُودُ فَهْوَ مُعْتَبَرْ

فِي فَهْمِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ لَا نَظَرْ

2366 -

ثَانِيهِمَا مَا الأَصْلُ فِي انْفِجَارِهِ

مِنْ جِهَةِ الْمَوْجُودِ فِي اعْتِبَارِهِ

" لكن إذا صحّت" نظرا بموافقتها لمقتضيات اللغة وموجبات السياق، وجاءت وهي "على" وفق و"وزان" يعني كمال "شروطها" المقرّرة من جهة اللغة ومراد الشارع على الوجه الذي تقدّم بيانه "كان لها حالان" أحدها:"حال يرى" أي يوجد "وأصل" أي منبع "الانفجار" يعني انفجاره وفيضه "من جهة القرآن" الكريم، فكان حكمه هو الذي "فيه جار" وماض "ويتبعـ"ـه كلّ ما يحتويه "الوجود" ممّا يصدق عليه لفظ الموجود المحدث "فـ"ـهذا الضرب من الاعتبارات الذي هذا حاله "هو "مقبول و"معتبر في فهم باطن القرآن" بلا خلاف في ذلك و"لا نظر" لأنه جار على أخذ العلم من منبعه ومأخذه، ثم إن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن، وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلفين، وبحسب التكاليف وأحوالها، لا بإطلاق، وإذا كانت كذلك فالمشي على طريقها مشي على الصّراط المستقيم، ولأنّ الاعتبار القرآني قلّما يجده إلّا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد، فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده، كما لم يخرجوا في العمل به والتخلّق بأخلاقه عن حدوده، بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه، ويلزم من ذلك أن يكون معتدّا به لجريانه على مجاريه، والشّاهد على ذلك ما نقل من فهم السّلف الصّالح فيه فإنّه كلّه جار على ما تقضي به العربيّة، وما تدلّ عليه الأدلّة الشرعية حسبما تبين قبل

(1)

.

"ثانيهما" أي الحالين هو "ما" أي الذي "الأصل في انفجاره" ووروده على القلوب هو "من جهة الموجود" والكون وكذلك الانفجار والورود يأتي "في"حال "اعتباره" أي الموجود، والتفكر في جزئياته أو كليتهما، أو فيهما معا، فيكون الموجود - الكون - هو الأصل الذي تنبع منه تلك الاعتبارات.

(1)

الموافقات 3/ 343.

ص: 337

2367 -

وَيَتْبَعُ الْقُرْآنُ لِلْمَوْجُودِ

فِي الاعْتِبَارِ الْوَارِدِ الْوُجُودِي

2368 -

فَذَا بِهِ الْوَقْفُ السَّبِيلُ الْمَهْيَعُ

وَالأَخْذُ مُطْلَقًا بِهِ مُمْتَنِعُ

2369 -

فَإِنْ أَتَى التَّفْسِيرُ عَنْ مُعْتَبِرِ

عَلَى خِلَافِ شَرْطِهِ الْمُقَرَّرِ

2370 -

وَلَمْ يَكُنْ يَجْرِي عَلَى الْمَعْهُودِ

فَهْوَ مُنَزَّلٌ عَلَى الْوُجُودِي

" ويتبع القرآن" ويقتفي "لـ" ما يقتضيه "الموجود في "الحكم و"الاعتبار الوارد" على القلوب الثّابت "الوجود" يعني وجوده، ثمّ يؤول القرآن ويفسر على وفق ذلك ومطابقته "فذا" الحال الحكم الجاري "به" يعني فيه هو "الوقف" عن اعتباره، وهذا هو "السّبيل" أي الطريق "الأنهج" والأبين الأوضح في هذا الشأن "و" أمّا "الأخذ" والاعتداد "مطلقا به" فإنّه أمر "ممتنع" لأنّه بخلاف الحال الأوّل "فإن أتى" شيء من ذلك "التّفسير" الباطن منقولا "عن" شخص "معتبِر" - بكسر الباء - أي ناظر متفكر في الوجود، وهو "على خلاف شرطه" أي الباطن "المقرّر" أي المثبت المتقدم اشتراطه في صحّته "ولم يكن يجري على" الأسلوب "المعهود" في تفسير القرآن الكريم "فهو منزل على" الجانب والاعتبار غير القرآني وهو الجانب "الوجودي" الخارجي، قال الشاطبي: وإن كان الثاني - يعني الحال الثاني المذكور - فالتوقف عن اعتباره في فهم القرآن الكريم لازم، وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع لأنه بخلاف الأول فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن فنقول: إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآني وهو الوجودي ويصح تنزيله على معاني القرآن لأنه وجودي أيضا فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه المربي وهو أمر خاص وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا الموضع فلذلك يوقف على محله فكون القلب جارا ذا قربى والجار الجنب هو النفس الطبيعي إلى سائر ما ذكر يصح تنزيله اعتباريا مطلقا فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جدا عند أربابه غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ، وأيضا فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآني والوجودي وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد في السلوك سائر

ص: 338

"‌

‌ فصل

"

2371 -

وَفِيهِ لِلسُّنَّةِ أَيْضًا مَدْخَلُ

لِكَوْنِهَا لِلْحَالَتَيْنِ تَقْبَلُ

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

2372 -

وَيَنْبَغِي تَنْزِيلُ كُلِّ الْمَدَنِي

فَهْمًا عَلَى الْمَكِّي كَالْمُبَيِّنِ

2373 -

وَرَعْيُ ذَا وَ ذَا عَلَى التَّفْصِيلِ

بِحَسَبِ التَّرْتِيبِ فِي التَّنْزِيلِ

على الطريق لم يتحقق بمطلوبه ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم وللغزالي في مشكاة الأنوار وفي كتاب الشكر من الإحياء وفي كتاب جواهر القرآن في الاعتبار القرآني وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة فتأملها هناك والله الموفق

(1)

.

"فصل"

"و" هو في أن السنّة لها "فيه" أي في هذا الذي تقدم ذكره من النمط والأخذ بمقتضى الحالين -الاعتبار القرآني والاعتبار الوجودي-.

"للسنة أيضا مدخل" وبذلك يجري في تفسيرها على مقتضى ما تقرر في شأن القرآن الكريم وذلك "لكونها للحالتين" المذكورتين "تقبل" كما هو بين، وواضح

(2)

.

"المسألة الحادية عشرة"

في أنه يطلب "وينبغي تنزيل كلّ" السّور التي من القرآن "المدني" أي النازل بالمدينة "فهما" أي في الفهم "على" مقتضيات القرآن "المكيّ" النّازل بمكّة وحمله عليه "كـ" ما يحمل "المبين" -بالفتح- على المبين له "و" كذلك ينبغي "رعي" واعتبار "ذا" المنهج في القرآن المكيّ بعضه مع بعض "و" كذلك ينبغي رعي "ذا" -أيضا- في القرآن المدني بعضه مع بعض "على التّفصيل" المذكور وهو تنزيل وحمل المتأخّر على المتقدّم "بحسب الترتيب" الحاصل "في التّنزيل" له من لدن حكيم خبير،

(1)

الموافقات 3/ 303 - 304.

(2)

انظر الأصل الجزء 3/ 304.

ص: 339

2374 -

إِذْ غَالِبٌ فِيمَا لَهُ التَّأْخِيرُ

تَكْمِيلٌ أَوْ تَفْصِيلٌ أَوْ تَفْسِيرُ

2375 -

أَلَا تَرَى أَكْثَرَ ءَايِ الْبَقَرهْ

لِسُورَةِ الأَنْعَامِ كَالْمُفَسِّرَهْ

وخلاف هذا مفض إلى الخطإ والفساد في الفهم والإدراك لمعان النّصوص الشّرعية.

"إذ غالب" حال البيان الذي "فيما له" قد ثبت "التّأخير" في النّزول هو الـ"تكميل" لما طلب تكميله من الأحكام الشرعية المتقدم نزوله "أو" الـ"تفصيل" لما لم يفصل من مجمل، أو نحوه أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق "أو تفسير" مبهم خفيّ معناه "ألا ترى أَكْثَرَ" وغالب "آي" سورة "البقرة" فإنها "لسورة الأنعام" النازلة قبلها "كالمفسّرة" لها، والتي أتت ببيان قواعد العقائد، وأصول الدين، وقد خرّج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة. هذا ما قالوا. وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب، تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية الكلية التي إذا خرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة، أو نقص منها أصل كليّ

(1)

.

وأما سورة البقرة فإنها أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين حملتها وإن تبين في غيرها تفاصيل لها كالعبادات التي هي قواعد الإسلام والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها والجنايات من أحكام الدماء وما يليها وأيضا فإن حفظ الدين فيها وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيا عليها وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القذة بالقذة فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه

(2)

.

(1)

و

(2)

الموافقات 3/ 304 - 305.

ص: 340

"‌

‌ فصل

"

2376 -

كَذَلِكَ السُّنَّةُ فِي ذَا الْبَابِ

مِنْ مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ كَالْكِتَابِ

" فصل"

في أن الأخذَ بهذا المنهج لا يختصُّ بالقرآن الكريم بل "كذلك" شأن "السنة" النبوية "في ذا الباب" لأنها مبنيّة للكتاب، وبذلك فهي ماضية على وفقه في التفسير والبيان له وتفسير بعضها لبعض، وبذلك يؤخذ في شأن تفسيرها بما تقدم تقريره "من" وجوب اعتبار "مقتضى" وموجب "التّرتيب" المذكور فينزّل المتأخر منها على المتقدم "كـ" ما هو الحال المقرر في "الكتاب" في هذا الشأن فإنه بحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث كما يتبين ذلك في القرآن أيضا ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت ففهم منها ما يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات كحديث من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة أو حديث ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه إلا حرمه الله على النار وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق وكان ما عارضها مؤولا عند هؤلاء وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلا وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد فلم يضيع من أمر إسلامه شيئا كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه لقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المَائدة: 93] الآية وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البَقَرَة: 143] وإلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة

(1)

.

(1)

الموافقات 3/ 305 - 306.

ص: 341

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

2377 -

وَأَعْدَلُ التَّفْسِيرِ ذُو التَّوَسُّطِ

وَمُفْرِطٌ قَدْ ذُمَّ كَالْمُفَرِّطِ

2378 -

وَذَاكَ كَانَ فِيهِ شَأْنَ السَّلَفِ

الْمُقْتَدَى بِحَالِهِمْ فِي الْخَلَفِ

2379 -

وَالْمُفْرِطُ الذِي لَهُ تَعَمُّقُ

فِي جِهَةِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يَسْبِقُ

2380 -

لِلْفَهْمِ أَنَّ شَأْنَهُ لَمْ يُقْصَدِ

لَمَّا تَرَامَى لِمَدىً مُسْتَبْعَدِ

" المسألة الثانية عشرة"

في أنّ أفضل "وأعدل" منهج في شأن "التّفسير" للقرآن الكريم هو المنهج "ذو" أي صاحب "التّوسط" في اعتبار الباطن والظاهر القرآنيين، وبذلك فالآخذ به ماض على سنن الصواب. "و" أما من هو "مُفْرِط" - بضم الميم وسكون الفاء - أي المبالغ يغلو في الأخذ بظواهر الألفاظ، وهو طارح للباطن مسقط لاعتجاره، فإنه "قد ذم" لأنه قد قصر في فهم معاني القرآن من جهة أخرى، وعجز عن الاهتداء إلى فهم مراد وقصد الشارع من كلامه، وكلّ من هذا حاله فإنه على خلاف الصواب في هذا الشأن، لأن هذا الذي هو عليه منهج ناقص ما يثمره. و"كـ"ــذلك شأن "المفرّط " - بتشديد الرّاء المكسورة - وهو المهمل لجانب الظاهر ومقتضاه وشأنه في التّفسير بالإطلاق فإنه - أيضا - مجانب للصواب، لأنه ذو منهج فاسد، يضاهي هذيان الباطنية ومن وافقهم. وإذا تقرر هذا كان التوسط والاعتدال في الأخذ بالباطن بلا إفراط ولا تفريط، بل بانضباط بالقواعد ورعاية أمره هو السّبيل الصّحيح في هذا الشأن، "وذاك" الأخذ بالتوسط هو الذي "كان فيه" أي في اعتبار بالباطن سبيل و"شأن السّلف" الصالح "المقتدى" والمهتدى "بحالهم في "المنهج الذي عليه "الخلف" التابع لهم من أهل العلم وصالحي هذه الأمة.

"والمفْرط" - بسكون الفاء - كما تقدّم بيانه هو "الذي له" غلو و"تعمّق" أي مبالغة "في"اعتباره مقتضى "جهة" دلالة "اللّفظ" اللغوية وحدّها لا يتخطاها إلى اعتبار ما هو معهود في لسان العرب من التعبير بالكناية والمجاز ونحو ذلك. "بحيث" يتبادر و"يسبق للفهم" والذهن عند سماع طريقته في التفسير لنص قرآني ما "أن شأنه" أي باطنه والمراد منه "لم يقصد" فيه، وإنما يسبق ذلك للأذهان والأفهام "لمّا ترامى" أي صار هذا المفرط في تفسيره ذاك "لـ"ــــغاية غير مقصودة و"مدى مستبعد" بمقتضى النظر الصحيح

ص: 342

2381 -

ثُمَّ الْمُفَرِّطُ الذِي قَدْ قَصَرَا

عَنِ اللِّسَانِ الْعَرَبيِّ نَظَرَا

"‌

‌ المسألة الثالثة عشرة

"

2382 -

وَحَالَةُ التَّوَسُّطِ الْمَحْمُودِ

حَاصِلُهَا فِي الْفَهْمِ لِلْمَقْصُودِ

المبني على أن المقصود من الخطاب ليس هو التفقه في العبارة، بل التفقه في المعبر عنه، والمراد به. وهذا أمر لا يرتاب فيه عاقل.

فالمراد من الخطاب الشرعي هو التفهم لمعناه والتعبد بمقتضاه، وذلك أنه إعذار وإنذار، وتبشير، وتحذير، ورد إلى الصراط المستقيم. فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمرا عن ساعد الجد والاجتهاد، باذلا غاية الطاقة في الموافقات، هاربا بالكلية عن المخالفات، وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها، ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد، وتفريع التجنيس ومحاسن الألفاظ، والمعنى المقصود في الخطاب بمعزل عن النظر فيه

(1)

.

"ثم المفرّط" - بضم الميم وفتح الفاء ثمّ راء مشدّدة مكسورة - كما تقدّم إيضاح معناه هنا هو "الذي قد قصرا" - الألف للإطلاق - "عن" اعتبار "اللّسان العربيّ" وإعمال مقتضاه "نظرا" أي في نظره، وفي مجاري تفسيره لآي الذكر الحكيم، فخرج بذلك عن جادّة الصّواب، وسار إلى الانحلال والانسلال من ربقة الانضباط بالقواعد العلمية والشرعية في هذا الباب، وتاه في مسارب الباطنية، ومتاهات أرباب التفسير الإشاري المنكر شرعا، وعقلا.

"المسألة الثالثة عشرة" في بيان المراد بالمأخذ الوسط هنا

"و" في ذلك يقال: "حالة التوسط" والاعتدال "المحمود" الأخذ به في هذا الشأن "حاصلها" والمعنى المراد بها محصور "في" الإدراك و"الفهم لـ" لمعنى "المقصود" من الخطاب.

(1)

الموافقات الجزء 3/ 307.

ص: 343

2383 -

مِنْ حَيْثُ الاعْتِبَارُ لِلْمَسَاقِ

بِمُقْتَضَى الْحَالِ عَلَى الإِطْلَاقِ

2384 -

مَعَ الْتِفَاتِ ءَاخِرِ الْكَلَامِ

بِأَوَّلٍ وَالْبَدْءِ بِالتَّمَامِ

2385 -

لَكِنْ عَلَى بَعْضٍ لَهُ قَدْ يُقْتَصَرْ

حَيْثُ يُرَى الظَّاهِرُ مَقْصُودَ النَّظَرْ

2386 -

ثُمَّ إِذَا مَا صَحَّ فِي اللِّسَانِ

صِيرَ إِلَى تَفَهُّمِ الْمَعَانِي

وهو ما يقتنص ويؤخذ "من حيث الاعتبار" والنظر "للمساق" الحالي والزماني الذي يأتي مختلفا "بمقتضى" اختلاف "الحال على الإطلاق" أي سواء كانت أحوال الناس أو الأزمنة أو صور النوازل وهذا معلوم من علم المعاني والبيان فالكلام يصاغ على وفق أحوال المخاطب وأحوال موضوع الكلام.

ويزاد "مع" هذا الاعتبار أمر آخر يجب أن لا يغفل عنه في هذا الشأن وهو "التفات" يعني اعتبار مقتضى "آخر الكلام" ونهايته "بأوّلـ"ـــــه يعني مع اعتبار مقتضى أوّله على سواء، "و" كذلك يجب اعتبار مقتضى "البدء" فيه "بالتمام" يعني مع مقتضى التمام له، واعتبار كل من الطرفين بالآخر يعني مراعاة مقتضى ومعنى كل واحد في فهم الآخر، وإدراك المعنى المقصود به، فيجب الالتفات إلى أوّل الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أوّلها دون آخرها، ولا في آخرها دون أوّلها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلّق بالبعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن ردّ آخر الكلام على أوّله، وأوّله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلّف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض

(1)

.

هذا هو الأصل المعتمد في هذا الشأن والسبيل المتبع فيه "لكن" قد يكون الناظر "على" طرف - جزء - من الكلام و"بعض له" وهو فهم الظاهر "قد يقتصر" في أوّل نظره فيه، وذلك "حيث يرى" أي يعتقد أن "الظاهر" هو "مقصود النّظر" ومصبّه، فينظر في النّص على وفق ذلك بحسب اللسان العربي، وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم "ثم إذا ما صحّ" ما فهم من ذلك وأدرك "في اللسان"، وثبت "صير إلى تفهم" وإدراك "المعاني" المقصودة من ذلك الكلام، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد، فعليه

(1)

الموافقات 3/ 309.

ص: 344

2387 -

وَسَبَبُ التَّنْزِيلِ فِي ذَا الْمَقْصِدِ

مِمَّا بِهِ النَّاظِرُ فِيهِ يَهْتَدِي

2388 -

ثُمَّ الْكَلَامُ الْمُقْتَضِي لِلنَّظَرِ

فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ لِلْمُعْتَبِرِ

2389 -

مُتَّحِدٌ بِكُلِّ وَجْهٍ وَهْوَ مَا

أُنْزِلَ فِي قَضِيَّةٍ مُتَمِّمَا

2390 -

كَأَكْثَرِ السُّوَرِ فِي الْمُفَصَّلِ

وَالأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ جَلِي

2391 -

أَوْ مُتَعَدِّدٌ وَذَاكَ مَا أَتَتْ

فِيهِ قَضَايَا جُمْلَةٌ تَعَدَّدَتْ

2392 -

وَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ شَأْنُهُ اعْتُبِرْ

مِنْ جِهَةِ التَّعَدُّدِ الذِي ذُكِرْ

بالتعبد به، "وسبب التنزيل" لذلك النص قد يعين العلم "في" إدراك "ذا" أي هذا "المقصد" وهو العلم بالمقصود من الكلام والمراد منه، فإنّه "ممّا به النّاظر فيه" أي النص الطالب للمقصود به قد "يهتدي" ويستنير، وذلك لأن أسباب النزول تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها عن النظر "ثم" إنه بعد العلم بهذا يجب أن يعلم أمر آخر وهو أن "الكلام المقتضي" والموجب "للنظر فيه" والبحث في شأنه بحكم الحاجة إلى معرفة معناه هو "على قسمين" بالنسبة لما يحصل فيه من الاعتبار "للمعتبر" الناظر في شأنه.

أحدهما: الكلام الذي هو "متحد" أي واحد "بكل وجه" واعتبار، "و" هذا المراد به "هو ما" أي الذي من السور "أنزل في قضية" واحدة "متمّما" أي مكمّلا سواء كانت تلك السورة طويلة أو قصيرة وذلك "كأكثر السور" التي "في المفصل" وهو - على الأرجح من سورة الحجرات، إلى سورة الإخلاص "و" هذا "الأمر" والشأن "في ذلك واضح جليّ" أي بيّن يعرف ذلك بالنّظر في هذه السّور واستقراء أحوالها.

ثانيهما: أي القسمين المذكورين - هو الذي الكلام فيه مختلف في الاعتبار "أو متعدد و "المراد بـ"ــذاك ما" وردت و"أتت فيه قضايا" وهي "جملة تعدّدت" مواضيعها، وذلك كسورة البقرة، وآل عمران والنساء، وإقرأ باسم ربك، وأشباهها.

"وذا" القسم "على وجهين شأنه" وأمره "اعتبر" فينظر فيه منه ما أحدهما: اعتباره والنظر فيه "من جهة التّعدّد" للقضايا الواردة فيه، وهو التعدد "الذي ذكر" فيما سبق،

ص: 345

2393 -

فَكُلُّ قِصَّةٍ تُخَصُّ بِنَظْر

وَالْفِقْهُ إِذْ ذَاكَ الْتِمَاسُهُ ظَهَرْ

2394 -

عَلَى سَبِيلٍ وَاضِحِ الْبَيَانِ

وَمِثْلُهُ الأَوَّلُ فِي ذَا الشَانِ

2395 -

أَوْ جِهَةُ النَّظْمِ الْمُقَرِّ فِي السُّوَرْ

وَحْيًا وَلَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْبَشَرْ

2396 -

وَقِسْمُهُ الأَوَّلُ فِيهِ مِثْلُهُ

إِذْ كَانَ بِالْوَحْيِ كَذَاكَ أَصْلُهُ

2397 -

وَلَا الْتِمَاسَ فِيهِمَا لِلْفِقْهِ بَلْ

عَلَى مَدَى الإِعْجَازِ ذَلِكَ اشْتَمَلْ

2398 -

إِذًا فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى السُّوَرِ

إِلَّا مَعَ اسْتِيفَائِهَا بِالنَّظَرِ

وبسبب هذا التعدد "فكل قصّة" يعني قضيّة من تلك القضايا "تخصّ بنظر" على حدة، وتفرد به، "و" إذا فعل ذلك فإن "الفقه" والعلم بالأحكام الشرعية "إذ ذاك" قد صح "التماسه" و"ظهر" طلبه من تلك الأدلة "على سبيل واضح البيان" والمعالم المنصوبة فيه شرعا، ووجه بين لا كلام فيه. "ومثله" أي هذا القسم الثاني القسم "الأوّل في ذا الشأن" فلا فرق بينهما في التماس الفقه والعلم منهما. وثانيهما اعتباره والنظر فيه من ناحية "أو جهة النّظم" والتّرتيب "المقرّ" والمثبت "في السور وحيا" يعني بالوحي، "و" بذلك فإنه "لا مدخل" ولا رأي "فيه للبشر" على الإطلاق، فيجب أن لا يتخطى فيه حدود النقل، والرواية.

"وقسمه" أي الخطاب القرآني "الأوّل فيه" في شأن عدم قبول الرأي البشري في أمر نظمه وتركيبه اللفظي هو "مثله" مثل الأوّل "إذ كان" مدركا "بالوحي كذاك" وجوده وثابتا به "أصله" لأنه - كما تقدم نظم ألقي بالوحي، "ولا التماس" ولا أخذ "فيهما" أي نظمي سور القسمين "للفقه" والعلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين على وجه ظاهر "بل" ما يؤخذ من ذلك هو ما دلّ "على مدى" ودرجة "الإعجاز" الذي قام بالقرآن الكريم من تلك الجهة - جهة النظم والتركيب - فإنه على "ذلك اشتمل" وانطوى، كما قد يؤخذ منه بعض مسائل نبه عليها في المسألة السابقة. وإذ قد تقرر أنه يجب حمل المتقدم على المتأخر في النصوص الشرعية وتنزيله عليه.

وإذا تقرر أنه يجب هذا التنزيل، كما يجب الأخذ بمقتضى المساقات المختلفة على الوجه التي تقدم بيانه "إذا فلا يحصل" ولا يدرك "معنى" أي سورة من السور "إلا مع استيفائها" وإحاطتها "بالنّظر" وإعمال الذهن فيها طلبا لمضامينها ومعانيها، فاعتبار جهة النظم - مثلا - في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر فالاقتصار على

ص: 346

2399 -

كَذَاكَ لَا يَحْصُلُ مَعْنَى آيَهْ

فِي قِصَّةٍ إِلَّا مَعَ النِّهَايَهْ

2400 -

فَصَحَّ أَنْ لَا بُدَّ فِي الْكَلَامِ

مِنِ اعْتِبَارِ الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ

بعضها غير مفيد غاية المقصود "كذاك لا يحصل" ولا يدرك "معنى آية" ما "في قصّة" أو حكم "إلّا مع" بلوغ "النّهاية" والغاية منها من حيث النّظر فيها "فصح" وتقرر "أن لا بدّ في" فهم "الكلام" وإدراك معناه "من اعتبار" مقتضى ومفاد "البدء" منه "و" مقتضى "الختام" منه على حد سواء، وعلى سبيل الجمع.

"فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم ومنها ما هو المقصود في الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام فبه يبين ما تقدم فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البَقَرَة: 183] إلى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 187] كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى وحاصله بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه وقضائه وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبنى إلا عليها ثم جاء قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البَقَرَة: 188] الآية كلاما آخر بين أحكاما أخر وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البَقَرَة: 189] وانتهى الكلام على قول طائفة وعند أخرى أن قوله {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} [البَقَرَة: 189] الآية من تمام مسألة الأهلة، وإن انجر معه شيء آخر، كما انجر على القولين معا تذكير وتقديم لأحكام الحج في قوله:{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البَقَرَة: 189] وقوله تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكَوثَر: 1] نازلة في قضية واحدة.

وسورة اقرأ نازلة في قضيتين الأولى إلى قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العَلق: 5] والأخرى ما بقي إلى آخر السورة.

وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى: أحدها تقرير الوحدانية لله الواحد الحق. غير أنه يأتي على وجوه كنفي الشريك بإطلاق أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة من كونه مقربا إلى الله زلفى أو كونه ولدا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.

ص: 347

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني تقرير النبوة للنبي محمد وأنه رسول الله إليهم جميعا صادق فيما جاء به من عند الله إلا أنه وارد على وجوه أيضا كإثبات كونه رسولا حقا ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.

والثالث إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح الأمر. فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر ويتبع ذلك الترغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك.

فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلا وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنين الباقيين وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية ترفعا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن جاءت فكانت السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى فافتتحت السورة بثلاث جمل:

إحداها وهي الآكد في المقام بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه وذلك قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} إلى قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11].

والثانية بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جاريا على مجاري الاعتبار والاختيار بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن علي من هذا حاله سبيلا.

والثالثة بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة وأن ذلك له بتسخير السموات والأرض وما بينهما وكفى بهذا تشريفا وتكريما.

ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور منها كونهم من البشر ففي قصة نوح مع قومه قولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] ثم أجمل ذكر قوم آخرين: أرسل فيهم {رَسُولًا مِنْهُمْ} [البَقَرَة: 129] أي من البشر لا من الملائكة فقالوا {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} [المؤمنون: 33] الآية {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)} [المؤمنون: 34] ثم قالوا: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ

ص: 348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [المؤمنون: 38] أي هو من البشر ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] فقوله رسولها مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها ثم ذكر موسى وهارون ورد فرعون وملائه بقولهم {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] الخ.

وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا فهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود مضافا إلى المعنى الآخر وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية استكبارا من أشرافهم وعتوا على الله ورسوله فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف فإن التارات السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف وأصله العدم فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة الجارية فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلى فهذا كله كالتنكيت عليهم والله أعلم ثم ذكر القصص في قوم نوح فقال: {الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [الأعرَاف: 66] والملأ هم الأشراف وكذلك فيمن بعدهم {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ} [المؤمنون: 33] الآية وفي قصة موسى {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)} [المؤمنون: 47] ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام تم قوله {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)} [المؤمنون: 54] إلى قوله: {لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56] رجوع إلى وصف أشراف قريش وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} [المؤمنون: 57] ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم وذكر النعم عليهم والبراهين على صحة النبوة وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين فهذا النظر إذا اعتبر كليا في السورة وجد على أتم من هذا الوصف لكن على منهاجه وطريقه. ومن أراد الاختبار في سائر سور القرآن فالباب

ص: 349

"‌

‌ فصل

"

2401 -

وَكُلُّ مَا مَرَّ مِنَ التَّعَدُّدِ

بِنِسْبَةِ الْخِطَابِ لِلتَّعَبُّدِ

مفتوح والتوفيق بيد الله. فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد

(1)

.

"فصل"

في بيان "و" إيضاح أن "كل ما مرَّ" تقريره "من" ثبوت "التّعدد" في القضايا وكون القرآن مأخذه في النظر على أن جميع سوره كلام واحد وذلك "بنسبة" أي اعتبار حال "الخطاب" الشرعي إنما هو بالنظر "للتعبد" به وبما ورد فيه، إذ كلام الله - تعالى - في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه، ولا باعتبار حسبما هو مبين في علم الكلام خلافا لمن ذهب إلى أنه متنوع في الأزل إلى أمر ونهي وغيرهما.

وإذا تقرر أن كلامه - سبحانه - لا تعدد فيه في نفسه، فإن محل النظر والبحث إنما هو حال كلامه تعالى باعتبار جهة العباد المخاطبين به تنزلا لما هو من معهودهم في الخطاب. فهذا هو محل احتمال وتفصيل.

فيصح في الاعتبار أن يكون واحدا بالمعنى المتقدم - أي يتوقف فهم بعضه على بعض - بوجه ما، وذلك أنه يبين بعضه بعضا، حتى إن كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلا مقيد بالحاجيات فإذا كان كذلك فبعضه متوقف على البعض في الفهم فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار ويصح أن لا يكون كلاما واحدا وهو المعنى الأظهر فيه فإنه أنزل سورا مفصولا بينها معنى وابتداء فقد كانوا يعرفون انقضاء السورة وابتداء الأخرى بنزول بسم الله الرحمن الرحيم في أول الكلام وهكذا نزول أكثر الآيات التي نزلت على وقائع وأسباب يعلم من إفرادها بالنزول استقلال معناها للإفهام وذلك لا إشكال فيه

(2)

.

(1)

الموافقات 3/ 311 - 314.

(2)

الموافقات 3/ 314 - 315.

ص: 350

"‌

‌ المسألة الرابعة عشرة

"

2402 -

الرَّأْيُ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ ذَمُّهُ

وَالْمُقْتَضِي لَهُ جَلِيٌّ حُكْمُهُ

2403 -

وَالْقَوْلُ أَنَّ الرَّأْيَ فِي الْقُرْآنِ

عِنْدَ اعْتِبَارِ شَأْنِهِ ضَرْبَانِ

2404 -

ضَرْبٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ حُكْمُهُ اجْتُبِي

وَهْوَ الْمُوَافِقِ اللِّسَانِ الْعَرَبي

2405 -

وَمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ

فَقَصْدُ ذَا مُفْضٍ إِلَى الصَّوَابِ

" المسألة الرابعة عشرة"

في أن إعمال "الرأي" والقول به "في" تفسير "القرآن" وبيان المعنى به قد "جاء ذمّه" وإنكاره، كما جاء "و" ورد - أيضا - "المقتضي" لإعماله والذهاب "له" وهو "جلي" ظاهر "حكمه" أخذا مما دل على جوازه.

ومما ورد في ذمه ما نقل عن الصديق رضي الله عنه فإنه نقل عنه أنه قال: - وقد سئل عن شيء في القرآن -: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم"، وربما روى فيه "إذا قلت في كتاب الله برأيي". ونقل عن ابن عباس أنه قال:"من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"، لكن نقل عن بعض الصحابة القول بالرأي - كذلك - في القرآن، فقد روي عن أبي بكر أنه سئل عن معنى الكلالة المذكورة في القرآن فقال:"أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، الكلالة من لا ولد له ولا والد" فهذا وما أشبهه يدل على جواز القول بالرأي في حمل النص الشرعي على معناه، وهو ما يؤخذ منه جواز وقوع الخلاف في هذا الشأن.

"و" إذا تقرر وجود هذا الاختلاف في أمر القول في القرآن بالرأي فإنه يصار إلى الجمع بين هذه الأقوال المختلفة في هذا الأمر بأن يقرر أن "القول" الصحيح في هذا هو "أن الرأي في "تفسير وبيان معاني "القرآن" الكريم "عند اعتبار" وملاحظة "شأنه" وحاله "ضربان" أي نوعان، أحدهما "ضرب" مقضى به "لأهل العلم" الشرعي وهذا "حكمه" ومقتضاه "اجتبي و" اصطفي لأنه يكون "هو الموافق اللّسان العربي و" الموافق لـ"مقتضى" وحكم "السنة والكتاب" في شأن اللفظ المفسر "فقصد ذا" أي هذا الرأي وطلبه وعدم إهماله محمود لأنه "مفض" وموصل "إلى" درك "الصواب" في موضوع النظر المطلوب

ص: 351

2406 -

وَالأَمْرُ فِيهِ وَاضِحُ السَّبِيلِ

وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى دَلِيلِ

2407 -

وَغَيْرُ ذَا يُعَدُّ فِي الْمَذْمُومِ

وَهْوَ مُرَادُ مُقْتَضَى الْعُمُومِ

بيانه من النصوص الشرعية "و" هذا "الأمر" والحكم المقرر في هذا الضرب والمثبت "فيه واضح" الوجه بيّن "السّبيل" والمجرى النظري فيه "و" بذلك فهو "غير محتاج إلى دليل" يدل عليه، وإنما كان على هذا الظهور والوضوح لأمور:

أحدها أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها وذلك غير ممكن لا بد من القول فيه بما يليق.

والثاني أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول والمعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.

والثالث أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح.

والرابع أن هذا الفرض لا يمكن لأن النظر في القرآن من جهتين من جهة الأمور الشرعية فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا ومن جهة المآخذ العربية وهذا لا يمكن فيه التوقيف والإلزام ذلك في السلف الأولين وهو باطل فاللازم عنه مثله وبالجملة فهو أوضح من إطناب فيه

(1)

.

"و" أما الضرب الثاني فإنه الرأي الذي هو "غير ذا" المذكور، والذي يخالفه في كونه غير جار على موافقة اللسان العربي أو كونه غير موافق للأدلة الشرعية، وهذا الضرب "يعد في" الرأي "المذموم" شرعا وعلى لسان أهل العلم "وهو مراد" ومعنى "مقتضى" ودلالة "العموم" الذي تفيده لفظة الرأي في كلام من يذم الرأي ويعده افتراء

(1)

الموافقات 3/ 315 - 316.

ص: 352

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

على الله - تعالى -، لأنه تقول على الله - تعالى - بغير برهان، فيرجع إلى الكذب على الله - تعالى -. وفي هذا القسم جاء التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء كما روى عن ابن مسعود "ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وعليكم بالعتيق" وعن عمر بن الخطاب "إنما أخاف عليكم رجلين رجل يتأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك على أخيه" وعن عمر أيضا "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ولا من فاسق بين فسقه ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله" والذي ذكر عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن قوله:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عَبَسَ: 31] فقال "أيُّ سماءٍ تُظِلُّنِي"؟ الحديث. وسأل رجل ابن عباس عن: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [السَّجدَة: 5] فقال له ابن عباس: فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال الرجل: إنما سألتك لتحدّثني فقال ابن عباس: "هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم" وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء في القرآن قال: "أنا لا أقول في القرآن شيئا" وسأله رجل عن آية فقال: "لا تسألني عن القرآن وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه يعني - عكرمة - " وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن شيء من القرآن فقال "اتق الله وعليك بالسداد فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن"؟ وعن مسروق قال: "اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله" وعن إبراهيم قال: "كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه" وعن هشام بن عروة قال: "ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله" وإنما هذا كله توق وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم والقول فيه من غير تثبت وقد نقل عن الأصمعي وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة - أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله، وإذا سئل عن ذلك لم يجب. انظر الحكاية عنه في الكامل للمبرد

(1)

.

وقد بسط ابن القيم في أول كتابه إعلام الموقعين الكلام على هذه المسألة. وكذلك ابن حزم في الإحكام إلا أنه اختار كون الرأي بإطلاق.

(1)

الموافقات 3/ 316 - 317.

ص: 353

"‌

‌ فصل

"

2408 -

وَيُسْتَفَادُ مِنْ هُنَا أُمُورُ

أَكِيدَةٌ يَأتِي لَهَا تَقْرِيرُ

2409 -

مِنْهَا التَّحَفُّظُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَا

غَيْرِ بَيَانِ وَاتِّبَاعِ مَا انْجَلَا

2410 -

وَأَنَّ مَنْ يَتْرُكُ فِيهِ نَظَرَهْ

بِرَأْيِهِ مُعْتَمِدًا مَنْ فَسَّرهْ

" فصل"

في بيان أن ما يؤخذ "ويستفاد من" هذا الذي تقرر "هنا" في شأن القول في القرآن بالرأي "أمور" معرفتها "أكيدة" أي مطلوبة بالتأكيد "يأتي لها" تفسير في الكلام الآتي و"تقرير" لتدرك على وضوح وتعلم على بيان.

"منها" وجوب "التحفظ" والتوقي "من القول" في القرآن بالرأي "على غير بيان" لغوي وشرعي. "و" منها - أيضا - وجوب التوقي من "اتباع ما انجلا" أي ظهر بالرأي المجرد من غير بينة شرعية أو لغوية. وهذا تأكيد للمعنى السابق. وذلك لأن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات:

إحداها من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم وهيهات. والثانية من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه. والثالثة من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه لأن الأصل عدم العلم فعندما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال وكل واحد فقيه نفسه في هذا المجال وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره، فحسن ظنه بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين. ومن هنا افترقت الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل

(1)

. "و" منها "أنّ من يترك فيه" أي القرآن "نظره" ويهمل فيه القول "برأيه" وصار "معتمدا" على قول "من فسّره" من المتقدمين من السلف الصالح، لا

(1)

الموافقات 3/ 317.

ص: 354

2411 -

فِي سَعَةٍ مِنْ ذَاكَ إِلَّا إِنْ دَعَتْ

ضَرُورَةٌ لَهُ فَحُكْمُهُ ثَبَتْ

2412 -

وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ لِلْمُفَسِّرِ

بُعْدٌ عَنِ التَّقْصِيدِ فِي الْمُفَسَّرِ

2413 -

وَلْيَخْشَ فِيهِ الله مِنْ أَنْ يَسْئَلَهْ

فَلَا يُصِيبُ حُجَّةً فِي الْمَسْأَلَهْ

2414 -

ثُمَّ لَهُ فِي الاحْتِمَالَاتِ سَعَهْ

وَهْوَ سَبِيلُ مَنْ مَضَى الْمُتَّبَعَهْ

يلام، بل هو "في سعة" ومجال رحب "من ذاك" لأنه بعيد بذاك عن وصمه بالقول بالرأي، ثم إنه إنما يروي وينقل ما سمعه من أهل العلم المتقدمين وبذلك فإن له في هذا المسلك فسحة ومتقى ينتحيه "إلا إن دعت" حاجة أو اقتضت "ضرورة" قوله بالرأي وذهابه "له" فيه - أي في تفسير القرآن الكريم - فإنه يصير إليه لذلك "فحكمه" حينئذ الجواز وهو حكم قد "ثبت" في هذا الشأن لأنه مثل القياس الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه والضرورة. وما زال السلف يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه، وكذلك وجدناهم في القول في القرآن فإن المحظور فيهما واحد وهو خوف التقول على الله بل القول في القرآن أشد فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أو عنى كذا بكلامه المنزل وهذا عظيم الخطر

(1)

.

"و" منها "أن يكون فيه" أي في تفسير كلام الله - تعالى - "للمفسر" إذا كان ليس على جزم من صحة ما يقوله أخذا من الشارع "بعد عن التقصيد" - وهو أن يقول هذا المعنى - هو المقصود له "في" الكلام "المفسَّر" وهو مراده منه، وهذا لا يخفى ما فيه من الخطر العظيم، فليكن على حذر من هذا "وليخش فيه" أي في مقاله هذا بل وفي شأن تفسير القرآن كله "الله" تعالى "من أن يسأله" عن مأخذ مقاله ذاك، ويستفهمه: من أين قلت عني هذا؟ "فـ"ـــــيعجز عن الجواب و"لا يصيب حجّة" تدرأ عنه الإثم "في" هذه "المسألة"، ولا يخفى ما يترتب على ذلك شرعا، "ثم" إنّ المفسر غير محتاج إلى ذلك في التقصيد، إذ "له في "إيراد "الاحتمالات" الظاهرة من النص المفسر وحكايتها "سعهْ" وميدان رحب، وذلك بأن يقول: يحتمل أن يكون معنى هذه الآية - مثلا - كذا، وكذا بناء على صحة تلك الاحتمالات في طلب العلم، "و" هذا مسلك غير بدع بل "هو سبيل من مضى" من أهل العلم وطريقتهم "المتّبعهْ" في هذا الشأن.

(1)

الموافقات 3/ 317 - 318.

ص: 355

"‌

‌ الدليل الثاني: السنّة" وفيه مسائل:

"‌

‌ المسألة الأولى

"

2415 -

وَتُطْلَقُ السُّنَّةُ إِطْلَاقَاتِ

أَوَّلُهَا عَلَى الْحَدِيثِ الآتِي

2416 -

عَنِ الرَّسُولِ كَانَ مِنْ مُبَيَّنِ

بِهِ الْكِتَابُ أَوْ سِوَى مُبَيَّنِ

2417 -

وَتَارَةً يَكُونُ لَفْظُ السُّنَّةِ

إِطْلَاقُهُ مُقَابِلًا لِلْبِدْعَةِ

ولا يعرج على الاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل فإنها غير معتبرة. فعلى كل تقدير لا بدّ في كلّ قول يجزم به أو يحمّل من شاهد يشهد لأصله، وإلا كان باطلا، ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم. والله أعلم

(1)

.

"الدليل الثاني السنّة" وفيه مسائل

"المسألة الأولى"

من الأدلة الشرعية "السنة" النبوية الشريفة "وفيه" يعني وفي بيان هذا الدليل وأحواله نورد "مسائل" وهي عشرة:

"المسألة الأولى" منها: في تعريف لفظ السنة وبيان ما يراد به، لأنه لفظ مشترك إصطلاحا. "و" بذاك فإنه "تُطْلَقُ" هذا اللفظة: أي لفظ "السنة إطلاقات" مختلفة، "أوّلها" إطلاقه "على الحديث" الوارد و"الآتي عن الرّسول" صلى الله عليه وسلم على الخصوص، سواء "كان" ذلك الحديث "من" الصنف الـ "مبيَّن" - بفتح الياء - أي المفسّر "به الكتاب" العزيز - القرآن الكريم - "أو" كان "سوى" أي غير "مبيِّن" - بكسر الياء - له أي للكتاب. "وتارة يكون لفظ السنة إطلاقه مقابلا للبدعة" تقابل الضدين - وهذا هو الثاني من تلك الإطلاقات - فيقال:"فلان على السنة" إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أولا، ويقال فلان على بدعة، إذا عمل على خلاف ذلك، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة فأطلق عليه لفظ السنة من تلك الجهة وإن كان العمل بمقتضى الكتاب

(2)

.

(1)

الموافقات 3/ 318.

(2)

الموافقات 4/ 3.

ص: 356

2418 -

وَتَارَةً يُطْلَق وَالْمُرَادُ

مَا فِيهِ لِلصَّحَابَةِ اجْتِهَادُ

2419 -

وَوَقَعَ الإِجْمَاعُ فِيهِ فَاقْتُفِي

كَالْحَدِّ فِي الْخَمْرِ وَجَمْعِ المُصْحَفِ

2420 -

وَأَصْل الاسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ

لِذَاكَ رَاجِعٌ بِأَمْرٍ وَاضِحِ

2421 -

وَالْخلَفَاءُ مِنْ هُدَاةِ الأُمَّةِ

لِقَوْلهِ عَلَيْكمُ بِسُنَّتِي

2422 -

فَصَحَّ أَنَّ السُّنَّةَ الْمُتَّبَعَهْ

بِأَمْرِهِ مَحْضورَةٌ فِي أَرْبَعَهْ

" وتارة" أخرى "يطلق" لفظ السنة "والمراد" هو "ما" كان للصحابة به عمل وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد لكونه اتباعا لسنة ثبتت عندهم ولم تنقل إلينا، أو كان "فيه" لهم أي "للصّحابة اجتهاد" ونظر فقهي فكان مبتنى حكمهم عليه أو فيه.

"ووقع" بعد ذلك "الإجماع" أي إجماعهم أو إجماع خلفائهم "فيه" أي عليه "فاقتفي" أي اتبع من جاء من بعد وذلك "كالحدّ في الخمر" الذي حدّ بثمانين جلدة، ولم يكن في زمن النّبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وإنما ورد فيه ما يدلّ أنّه أربعون ضربة "و" كذلك "جمع المصحف" في زمن أبي بكر، وقد كان قبل ذلك مفرقا في العسب والعظام والصحف. ومثل ذلك تضمين الصناع، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة، وتدوين الدواوين، وما أشبه ذلك.

"وأصل الاستحسان" الذي جعل أصلا فقهيا عند بعض العلماء "و" كذلك "المصالح" المرسلة الذي جعل أصلا فقهيا عند المالكية وغيرهم "لذاك" الذي تقدّم تقريره في هذا الإطلاق الآخر "راجع" إذ عليه مبتناه "بأمر" وسبب "واضح" بين، فيكون الصحابة بتصرفاتهم المذكورة هم من قد أسسوا لهذين الأصلين، فمأخذهما من تصرفاتهم تلك وما أشبهها، ثم اقتفي سبيلهم في ذلك واتخذ أصلا فقهيا معتبرا.

"والخلفاء" الأربعة "من هداة" ومرشدي هذه "الأمة" الإسلاميّة، وذلك "لقوله" عليه الصلاة والسلام:"عليكم بسنتي" وسنة الخلفاء الراشدين المهديين "فصحّ" بناء على هذا الذي تقدم تقريره "أن السُّنَّةَ المُتّبعهْ" في هذه الشريعة "بأمره" عليه الصلاة والسلام "محصورة في أربعة" أوجه:

ص: 357

2423 -

فِي قَوْلهِ وَفِعْلِهِ وَمَا أَقَرّ

وَمَا عَنْ اِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ اسْتَقَرّ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

2424 -

وَأَنَّ لِلسُّنَّةِ عِنْدَ النَّظَرِ

وَالاعْتِبَارِ رُتْبَةَ التَّأَخُّرِ

2425 -

عَنِ الْكِتَابِ بِالدَّلِيلِ الْمُعْتَبَرْ

مِنْ مُقْتَضَى الأَخْبَارِ فِيهِ وَالأَثَرْ

" في قوله" عليه الصلاة والسلام، "وفعله" صلى الله عليه وسلم "وما أقر" عليه الصلاة والسلام من أمر، فهذه ثلاثة، وكلّ ذلك إمّا متلقى بالوحي، أو بالاجتهاد - بناء على صحة الاجتهاد في حقه - "و" رابعها "ما" كان "عن إجماع الصحابة" رضي الله عنهم فثبت و"استقرّ" وجرت الأمة عليه.

وهذا الذي ذكره الشاطبي من أنّ سنّة الخلفاء حجّة شرعية متبعة أمر فيه نظر، إذ المحقق أنه لا حجة إلا في الإجماع، وما سواه من إجماع الخلفاء، أو اتفاق بعض الصحابة وما أشبه ذلك مما هو دون الإجماع فإنه موضع خلاف، والثابت أنه ليس حجة. ولعل هذا ما رآه الناظم فلم يذكر في الوجه الرابع إلا ما كان عن إجماع الصحابة خلافا لقول الشاطبي:"ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء". فتأمّل.

"المسألة الثانية"

في أنه تقرر "و" ثبت "أن للسنة" النبوية "عند النظر والاعتبار" في درجتها مقارنة بالكتاب "رتبة" ومنزلة "التأخر" في شأن ترتيب الأدلة "عن" رتبة "الكتاب" الذي هو أعلى وأصح كتاب على وجه الأرض، وهذا التأخر لرتبة السنة عن رتبة ومنزلة القرآن أمر ثابت "بالدليل المعتبر" والبرهان الراسخ "من مقتضى" ومفاد "الأخبار" الواردة "فيه" يعني في شأن هذا التأخر، "و" مقتضى ما ورد فيه - كذلك - من "الأثر" ومن ذلك ما روي من أن عمر بن الخطاب كتب إلى شريح القاضي:"إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله. فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ" وفي رواية عنه: "إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض فيه، ولا تلفت إلى غيره" وقد بين معنى هذا في رواية أخرى إذ قال: انظر ما تبين لك في كتاب الله - تعالى - فلا تسأل عنه أحدا، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول

ص: 358

2426 -

وَمَعَ ذَا فَهْيَ لَهُ مُبَيِّنَهْ

وَمَا أُبِينَ سَابِقٌ مَا بَيَّنَهْ

2427 -

وَذَا الْمُرَادُ بِقَضَاءِ السُّنَّةِ

عَلَيْهِ فِي الْمَنْقُولِ لِلأَئِمَّةِ

الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا عن ابن مسعود: من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيّه صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عبّاس أنّه كان إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به، وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به. وهو كثير في كلام السلف والعلماء. ثم إن الكتاب مقطوع به من جهة الثبوت والسنة مظنونة الثبوت، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل والمقطوع به مقدم على المظنون فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة.

"و" يزاد "مع ذا" الذي تقدّم ذكره دليل آخر وهو أنّ السنّة مفسرة للكتاب "فهي له مبيّنة" وموضحة للمراد منه "و" معلوم أنّ "ما أبين" أي وضح وفسر هو "سابق" طبعا ووضعا "ما بيّنه" من الكلام المفسِّر والقول الشارح له، فالمبيِّن - بالكسر - تابع للمبيَّن - بالفتح - فهو ثان عليه في الاعتبار، إذ يلزم من سقوط المبين - بالفتح - سقوط البيان، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبيَّن، وما شأنه هذا فهو أولى في التقدّم، "وذا" الوصف الذي توصف به السنّة - وهو البيان المذكور - هو "المراد بقضاء السنّة عليه" أي الكتاب "في"الكلام "المنقول للأئمة" وأهل العلم، فقضاء السنّة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطّراح الكتاب، بل إنّ ذلك المعبّر في السنّة هو المراد في الكتاب، فكأنّ السنّة بمنزلة التّفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب ودل على ذلك قوله {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النّحل: 44] فإذا حصل بيان قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما بأن القطع من الكوع وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله فذلك هو المعنى المراد من الآية لا أن نقول إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه فلا يصح لنا أن نقول إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه الصلاة والسلام وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى فمعنى

ص: 359

"‌

‌‌

‌ المسألة الثالثة

"

2428 -

وَبَعْدُ فَالسُّنَّةُ فِي مَعْنَاهَا

إِلَى الْكِتَابِ بَيِّنٌ رُجْعَاهَا

2429 -

لِمَا لَهَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ

وَالْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ لِلْمَعَانِي

2430 -

وَذَا بِالاسْتِقْرَاءِ مَعْ أَدِلَّهْ

لَا يَنْتَمِي وَاضِحُهَا لِقلَّهْ

2431 -

فَهْيَ بَيَانُهُ عَلَى التّفْصِيلِ

وَهْوَ لِمَا يُبْدِيهِ ذُو شُمُولِ

كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له فلا يوقف مع إجماله واحتماله وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه

(1)

.

" المسألة الثالثة"

" و" هي في بيان أنّه "بعد" ذكر ما تقدم وتقريره "فـ" إنّه ينبغي أن يعلم أنّ "السنّة" النّبوية "في معناها" ومقتضياتها "إلى الكتاب" العزيز "بيّن" وواضح "رجعاها" ومردّها وذلك "لما" ثبت "لها فيه من البيان" لمشكله كآية التيمّم، وأية كنز الذّهب والفضّة، "والبسط" لمختصره، "والتّفصيل للمعاني" المجملة فيه كآية:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البَقَرَة: 43].

"وذا" كلّه ثابت "بالاستقراء" لما ورد في السنّة والكتاب من الأحكام والمعاني، - وهذا بيانه يأتي في المسألة الرّابعة - كما أنّه ثابت - أيضا - "مع" هذا الذي ذكر من الاستقراء بـ"أدلّهْ" نصيّة وغيرها، وهي أدلة "لا ينتمي" أي ينتسب "واضحها" وبيّنها في الدلالة على هذا الأمر "لقلّة" بل هو منسوب للكثرة، ومن ذلك قوله - تعالى -:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النّحل: 44] وعلى الجملة "فهي" أي السنة "بيانه" أي الكتاب "على" سبيل "التفصيل" لما ورد فيه من الكليات والألفاظ التي تحتاج إلى البيان "وهو "أي القرآن "لما يبديه" من الأحكام والقضايا "ذو شمول" وعموم، وهو ما يبيّن بالسنّة ويفسر بها. فقد قال سبحانه وتعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القَلَم: 4] وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن، واقتصرت في خلقه على ذلك. فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن لأن الخلق محصور في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبيانا لكل شيء، فيلزم

(1)

الموافقات 4/ 8.

ص: 360

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

2432 -

لِلنَّاسِ فِي السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ

مَئَاخِذُ عَتِيدَةُ الصَّوَابِ

2433 -

مِنْهَا اعْتِبَارُ الشَّاهِدِ الْقُرْآنِي

فِي صِحَّةِ السُّنَّةِ فِي الْمَعَانِي

2434 -

مِثْلُ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ

فَهْوَ عَلَى مَا تَقْتَضِي دَلِيلُ

من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة، لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب. ومثله قوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعَام: 38] وقوله: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائدة: 3] وهو يريد بإنزال القرآن فالسنة إذا في محصول الأمر بيان لما فيه وذلك معنى كونها راجعة إليه وأيضا فالاستقراء التام دل على ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله. وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقف عن قبولها وهو أصل كاف في هذا المقام

(1)

. وانظر الأصل في هذا الموضع لمزيد البيان لهذا والتقرير له.

"المسألة الرابعة"

في أن القرآن متضمن لكليات السنة في الجملة وإن كانت بيانا له على التفصيل.

وبيان ذلك أنّ "للناس" إيرادا وسوقا لأدلة وردت "في السنة والكتاب" و"مآخذ" أي حجج "عتيدة" أي قوية "الصواب" واضحة الدلالة على هذا الأمر وهو أنّ كلّ ما ورد في السنّة متضمن في الكتاب وأن السنة حجيتها ومقتضياتها راجعة إليه، فما فيها من أحكام وشرائع ينابيع جرت منه، وأفنان تفرعت عنه.

"منها" أي هذه المآخذ - الأدلة التي يؤخذ منها هذا الأمر ويدرك منها هذا الحكم - "اعتبار" واعتماد مقتضى "الشاهد" والدليل "القرآني" الوارد "في" إثبات "صحة" وحجية "السنة في" الذي تدل عليه من الأحكام و"المعاني" اللفظية الدالة على بناء هذه الأحكام - كالتخصيص والنسخ والتقدير - وفي لزوم اتباعها.

والمراد بذلك الشاهد ما ورد في القرآن الكريم من الأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، "مثل" قوله - سبحانه - {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحَشر: 7] "فهو" حجة "على" وجوب اتباع "ما تقتضيـ"ــــــه و"دليل" عليه وعلى

(1)

الموافقات 4/ 9 - 15.

ص: 361

2435 -

لِأَنَّهُ الأَصْلُ لِمَا قَدْ مَرَّا

وَذَا لِبَعْضِ السَّلَفِ اسْتَقَرَّا

صحة ما تقتضيه شرعا. وهذا الدليل هو أهم وأعم دليل اعتمد عليه في هذا الباب "لأنه الأصل لما قد مرّا" - الألف للإطلاق - ذكره في شأن السنة "وذا" الدليل "لبعض السلف" هو العمدة والبرهان الذي "استقرا" - الألف للإطلاق - بناء هذا الحكم عليه، وممن أخذ بهذا عبد الله بن مسعود، فقد روى أنّ امرأة من بني أسد أتته فقالت له: بلغني أنّك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول! فقال لها عبد الله: أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحَشر: 7]؟ قالت: بلى قال: فهو ذاك.

وفي رواية قال عبد الله: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد؛ فقالت: يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحديث. فظاهر قوله لها: هو في كتاب الله، ثم فسر ذلك بقوله:[ومما آتاكم الرسول فخذوه] دون قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النِّسَاء: 119] إن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبوي، ويشعر بذلك أيضا ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهاه، فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وروي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس: اتركهما فقال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى لله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر؛ فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزَاب: 36] عن الحكم بن أبان؛ أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد؛ فقال: هن أحرار قلت: بأي شيء؟ قال: بالقرآن قلت: بأي شيء في القرآن؟ قال: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59] وكان عمر من أولي الأمر قال: عتقت ولو بسقط

(1)

.

(1)

الموافقات 4/ 18 - 19.

ص: 362

2436 -

وَهْوَ قَرِيبٌ مِنَ الاسْتِدْلَالِ

أَوْ هُوَ نَفْسُهُ عَلَى الإِعْمَالِ

2437 -

ثَانٍ لَهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَا

الأَخْذُ لِلسُّنَّةِ تَبْيِينًا لِمَا

2438 -

جَاءَ عَلَى الإِجْمَالِ فِي الْكِتَابِ

مِنْ مُقْتَضَى الشُّرُوطِ وَالأَسْبَابِ

2439 -

وَغَيْرِهَا أَوِ الْمُقَدَّرَاتِ

وَمَا لَهُ حَدٌّ بِكَيْفِيَاتِ

2440 -

مِنْ نَوْعَيِ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ

وَأَنَّهُ لِلْمُقْتَضَى بِالآيَةِ

" و" هذا المأخذ "هو قريب من الاستدلال" على إعمال السنة بوجه عام "أو هو نفسه" دليل "على الأعمال" لها على هذا الوجه ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة. هذا هو الأول من هذه المآخذ. و"ثان له" أي لما ذكر من المآخذ - وهو الوجه "المشهور عند العلماء" - هو "الأخذ للسنة" حالة كونها "تبيينا لما" أي الذي "جاء على" وجه وحال "الإجمال في الكتاب" من الأحكام أو ما جاء فيه مجملا "من مقتضى" وحكم "الشروط" في الأعمال العبادية أو العادية "و" كذا "الأسباب" الموضوعة لها شرعا "وغيرها" كالموانع منها - "أو المقدرات" أي المقادير الموضوعة في شأن الزكاة والحدود وما أشبه ذلك "و" كذا "ما له حد" محدود مضبوط "بكيفيات" وهيئات معينة "من نوعي العادة" كالبيوع والأنكحة وغير ذلك من التصرفات البشرية العادية المجملة في النص القرآني والمبينة بالسنة، "والعبادةِ" كالصلوات على اختلافها في مواقيتها، وركوعها وسجودها، وسائر أحكامها، وكذلك الزكاة في شان مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى منها مما لا يزكى، وغير ذلك من أحكام العبادات وشروطها وأسبابها وموانعها المبينة بالسنة النبوية. "و" هذا البيان كله قد تقرر "أنه للمقتضى" والحكم الثابت "بالآية" المذكورة وهي قوله - تعالى -:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النّحل: 44]. وقد روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرا؟ إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك. وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا. وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية؛ قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلى

ص: 363

2441 -

الثَّالِثُ اعْتِبَارُ مَا الْكِتَابُ

عَلَيْهِ قَدْ دَلَّ بِمَا يُصَابُ

2442 -

فِي مُقْتَضَى السُّنَّةِ مَعْ بَيَانِ

مَا كَانَ مُجْمَلًا مِنَ الْمَعَانِي

2443 -

فَكُلُّ مَا لَدَى الْكِتَابِ أُصِّلَا

فَهْوَ لَدَى السُّنَّةِ قَدْ تَفَصَّلَا

الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر: يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه. وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب، فقال ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتبينه.

فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى

(1)

.

و"الثالث" من هذه الماخذ هو "اعتبار" وملاحظة "ما الكتاب عليه قد دلّ" في الجملة "بما" - الباء بمعنى مع - أي مع ما من المعاني والأحكام "يصاب" أي يلفى "في مقتضى" ومفاد "السنة مع" زيادة "بيان" وإيضاح "ما كان" فيه - أي القرآن - "مجملا من المعاني" والدلالات.

وذلك أن القرآن أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها، والتعريف بمفاسدها دفعا لها وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام: الضروريات ويلحق بها مكملاتها، والحاجيات: ويضاف إليها مكملاتها، والتحسينيات ويليها مكملاتها، ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد. وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور، فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعا على كتاب الله وبيانا لما فيه منها. فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام

(2)

.

إذن "فكل ما لدى" أي في "الكتاب أصلا" أي جعل أصلا شرعيا وقاعدة عامة "فهو لدى" أي في "السنة قد" شرح وبين و"تفصلا" - الألف للإطلاق - أي ورد مفصلا.

(1)

الموافقات 4/ 19.

(2)

الموافقات 4/ 22.

ص: 364

2444 -

وَلْتَعْتَبِرْ ذَلِكَ فِي الْمَقَاصِدِ

تَجِدْهُ فِيهَا وَاضِحَ الشَّوَاهِدِ

2445 -

فَإِنَّ حِفْظَ الدِّينِ فِي الإِيمَانِ

يُلْفَى وَفِي الإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ

2446 -

وَفِي مُكَمِّلَاتِهِ وَهْيَ الدُّعَا

إِلَيْهِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا مَعَا

2447 -

ثُمَّ جِهَادُ كُلِّ ذِي عُدْوَانِ

ثُمَّ تَلَافِي طَارِئ النُّقْصَانِ

2448 -

وَأَصْلُ ذَاكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِالبَيَانِ

" ولتعتبر ذلك" ولتلاحظه - على سبيل المثال - "في" حال وشأن "المقاصد" الشرعية التي هي حفظ الضروريات الخمس "تجده فيها" أمرا "واضح" وبين "الشواهد" والأدلة الدالة عليه، فهذه الضروريات كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة "فإن حفظ الدّين في الإيمان يلفى" أي يوجد إذا حصل "وفي الإسلام والإحسان" كذلك، وكلّ هذه الحقائق والمعاني أصلها في الكتاب وبيانها في السنة "و" هكذا الحكم - أيضا - "في مكمّلاته" أي الدين "وهي الدّعاء""إليه ترغيبا" يعني بالترغيب الذي مبتناه على ذكر ما أعدّ الله - تعالى - من الخير لمن اتّقاه "وترهيبا" يعني بالترهيب والتخويف وذلك بذكر ما أوعد الله - تعالى - به الكافرين والظالمين، وهذان الأمران - الترغيب والترهيب - يتوسل بهما "معا" في هذا الشأن، وكل يؤتى به حيث يصلح، ويفيد. "ثم جهاد" وصد "كل ذي عدوان" لهذا الدين، أو عناد لحقائقه، أو لإفساد لها. "ثم تلافي" وتدارك "طارئي النقصان" في أصله فيه إضافة الصفة إلى الموصوف أي النقصان الطارئ عليه في أصله بالحدود الزواجر، والتعزيزات.

"وأصل ذاك" كله "جاء في القرآن" الكريم "وجاءت السنة بالبيان" له على الكمال "و" كذلك حفظ "النفس" فإنه - أيضا - واجب، وحاصله في ثلاثة معاني: وهي إقامة أصله بشرعية النسل، وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود، من جهة المأكل والمشرب، وذلك ما يحفظه من داخل والملبس والمسكن وذلك ما يحفظه من خارج. وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرها وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد وشرعية الحد والقصاص ومراعاة العوارض اللاحقة وأشباه ذلك. وقد دخل حفظ النسل في هذا

ص: 365

2449 -

وَالنَّفْسُ وَالْمَالُ كَذَا وَالْعَقْلُ

وَالْعِرْضُ عِنْدَ مُلْحِقٍ وَالنَّسْلَ

2450 -

وَكَالضَّرُورِيَّاتِ فِي التَّبْيِينِ

بِالسُّنَّةِ الْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِي

القسم وأصوله في القرآن والسنة بينتها

(1)

.

"و" حفظ "المال كذا" وهو راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك، وتحصيله وكتنميته مخافة ألّا يفي بالمراد والمقصود الشرعي منه. ومكمله دفع العوارض المضرة به أو الذاهبة به، كالغصب والإحراق والاستراق، وتعريضه للغرر، والخطر، وتلافي حفظ أصله بالزجر، والحد والضمان. "و" كذلك حفظ "العقل" فإنه يحصل بتناول ما لا يفسده وبالإنكفاف عما يضر به، أو يفسده. وهذا في القرآن. ومكمله شرعية الحد أو الزجر وليس له في القرآن أصل على الخصوص، فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص - أيضا - فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة. "و" على السبيل يمضي أمر حفظ "العرض" أيضا، وذلك "عند ملحق" له بهذه الضروريات، وهو له في الكتاب أصله، والسنة شرحته في اللعان، والقذف، "و" كذلك حال حفظ "النسل" فإنه داخل في قسم حفظ النفس، وأصوله في الكتاب والسنة بيّنتها. هذا وجه في الاعتبار في الضروريات، ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد فيحصل المراد أيضا.

"وكالضروريات" المذكورة "في التبيين" والإيضاح "بالسنة" النبوية "الحاجي" من المقاصد "والتحسيني" منها فأنت إذا نظرت إلى الحاجيات اطرد النظر - أيضا - فيها على ذلك الترتيب أو نحوه، فإن الحاجيات دائرة على الضروريات. وكذلك التحسينيات. وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة فلم يتخلف عنها شيء. والاستقراء يبين ذلك ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه. ومن تشوف إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق.

فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة كالتيمم ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها. وفي الصلاة بالقصر ورفع القضاء في الإغماء والجمع والصلاة قاعدا وعلى جنب. وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض. وكذلك سائر العبادات. فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك وإلا

(1)

الموافقات 4/ 20.

ص: 366

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية. وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها والسنة أول قائم بذلك. وبالنسبة إلى النفس أيضا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص كالميتة للمضطر وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية.

وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر وإباحة الطلاق من أصله والخلع وأشباه ذلك.

وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها. ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار.

وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك. كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهادي وبينت السنة منه ما يحتذي حذوه فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب. وما فسر من ذلك في الكتاب فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه.

وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات فإنها راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات على رأي من رأى أنها من هذا القسم وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات وآداب الرفق في الصيام. وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان وآداب الأكل والشرب ونحو ذلك. وبالنسبة إلى النسل كالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان من عدم التضييق على الزوجة وبسط الرفق في المعاشرة وما أشبه ذلك. وبالنسبة إلى المال كأخذه من غير إشراف نفس والتورع في كسبه واستعماله والبذل منه على المحتاج وبالنسبة إلى العقل كمباعدة الخمر ومجانبتها وإن لم يقصد استعمالها بناء على أن قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوهُ} [المَائدة: 90] يراد به المجانبة بإطلاق فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معا. وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم وأشفى

ص: 367

2451 -

الْمَأْخَذُ الرَّابِعُ وَهْوَ يُعْتَبَرْ

حَيْثُ مَجَالُ الاجْتِهَادِ وَالنَّظَرْ

2452 -

مَا بَيْنَ جَانِبَيْنِ وَاضِحَيْنِ

فِي مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَارِدَيْنِ

2453 -

أَوْ سُنَّةٍ تَجَاذَبَا بَيْنَهُمَا

وَاسِطَةً فِيهَا اجْتِهَادُ الْعُلَمَا

2454 -

مَا لَمْ يَكُ الْمَأخذُ فِيهَا يَبْعُدُ

أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهَا التَّعَبُّدُ

2455 -

فَتَصْدُرُ السُّنَّةَ بِالْبَيَانِ

إِذْ ذَاكَ فِيهَا وَلَهُ وَجْهَانِ

2456 -

إِلَحَاقُهَا بِجَانِبٍ أَوْ جَعْلُهَا

مُحْتَمِلًا لِذَا وَهَذَا أَصْلُهَا

في الشرح وإنما المقصود هنا التنبيه

(1)

.

وبهذا انتهى الكلام على هذا المأخذ - المأخذ الثالث.

"المأخذ الرابع وهو" المأخذ الذي "يعتبر" أي يلاحظ ويقع "حيث مجال" ومحل "الاجتهاد والنّظر" الحاصل والواقع "ما بين جانبين" أي طرفين - حكمين - "واضحين" أمرهما من جهة ثبوتهما ودلالة ما دل عليهما، إذ كانا "في مقتضى" ومدلول نص "الكتاب" الكريم "واردين" آتيين "أو" في مقتضى ومدلول الـ"ـسُّنَّة" النبوية فعلم حكمهما على بيان من ذلك. ثم يرد أنه "تجاذبا" أي الحكمان المذكوران المتعارضان "بينهما واسطة" يتردد أمر حكمها بمقتضى حالها بين أن تلحق بهذا أو ذاك منهما لوجود شبه فيها بكليهما، ففي هذه الحالة ينظر في هذه الواسطة، ويجري "فيها اجتهاد العلماء" ويمضى فيها رأيهم وذلك "ما لم يك المأخذ" الذي يؤخذ منه الحكم الشرعي "فيها" والمدرك الذي يدرك منه "يبعد" على الناظر المجتهد "أو "ما "لم يكن من شأنها" وحالها جريان حكم "التَّعبدُ" بها الذي لا سبيل إلى العلم بحكمه إلا من جهة الوحي، فإن كانت من هذا الصنف الذي لا مجال للإجتهاد فيه "فـ"ـإنه "تصدر" و تأتي "السّنّة" النبوية "بالبيان" والتفسير "إذ ذاك" للحكم الشرعي الجاري "فيها" وهذا البيان يرد "و له وجهان" أحدهما "إلحاقها بجانب" من الجانبين - الحكمين - المذكورين، وصرفها عن اللحاق بالجانب الآخر. ثانيهما تصييرها "أو جعلها" أمرا آخذا من كل واحد منهما - أي الجانبين - بوجه احتياطي أو غيره، وبذلك يكون "محتمِلا" بكسر الميم "لِذَا" الجانبين معا "وهذا" هو "أصلها" الجاري حكمه فيها. وهذا الصنف الذي يجري فيه

(1)

الموافقات 4/ 21.

ص: 368

2457 -

كَبَيِّنِ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ

مَعْ ذِي اشْتِبَاهٍ عِنْدَ الاسْتِعْمَالِ

2458 -

وَأَصْلِيُّ الطَّيِّبِ وَالْخَبَائِثِ

مَعْ لَاحِقٍ يُوجَدُ فِي مَبَاحِثِ

البيان السني هو المقصود ذكره هنا. وهو يتضح بأمثلة أحدها: "كبيّن الحلال والحرام" - فيه إضافة الصفة للموصوف - يعني كقوله صلى الله عليه وسلم "الحلال بيّن والحرام بيّن" فهذان هما الجانبان المذكوران، والواسطة "مع" طرف "ذي اشتباه" يمكن إلحاقه إما بما هو حلال أو بما هو حرام "عند" إرادة "الاستعمال" له، والعلم بحكمه فهذا الطرف هو الواسطة - وقوله عند الاستعمال أتم به الكلام، فقط لكونه في المعنى مستغنى عنه -.

"و" كمثل "أصلي الطِيب والخبائث" فإن الله - تعالى - أحل الطيبات وحرم الخبائث والواسطة تظهر إذا قرنا "مَعْ" شيء متردد بين أن يكون طيبا وخبيثا، فيصح لذلك إجراء حكم "لاحقٍ" بالطيبات عليه، كما يصح إلحاقه بالخبائث، وهذا "يوجد" بمقتضى حاله "في مباحث" أي فيما يجري فيه البحث عن حكمه من المسائل التي تتعارض فيها الاحتمالات وتتقابل فيها الظنون. خلاصة القول: أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث، وبقي بين هذين الأصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية. وقال إنها رِكْس وسئل ابن عمر عن القنفذ فقال كل وتلا قل لا أجد فيما أوحي إلي الآية فقال له إنسان إن أبا هريرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول هو خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر إن قاله النبي صلى الله عليه وسلم فهو كما قال وخرج أبو داود نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهي العذرة فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث كما ألحق عليه الصلاة والسلام الضب والحبارى والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات.

والثاني أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر كالماء واللبن والعسل وأشباهها وحرم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة والبغضاء. والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ولكنه يوشك أن يسكر وهو نبيذ الدباء والمزفت والنقير وغيرها فنهى عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا سدا للذريعة ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة

ص: 369

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كالماء والعسل فقال عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام وبقى في قليل المسكر على الأصل من التحريم فبين أن ما أسكر كثيره فقليله حرام وكذلك نهى عن الخليطين للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدباء والمزفت وغيرهما فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين فكان البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعين ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين.

والثالث أن الله أباح من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلما فصيده حرام إذ لم يمسك إلا على نفسه فدار بين الأصلين ما كان معلما ولكنه أكل من صيده فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك فتعارض الأصلان فجاءت السنة ببيان ذلك فقال عليه الصلاة والسلام.

فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه وفي حديث آخر إذا قتله ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك وجاء في حديث آخر إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه الحديث وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين.

والرابع أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقا وجاء أن على من قتله عمدا الجزاء وأبيح للحلال مطلقا فمن قتله فلا شيء عليه فبقي قتله خطأ في محل النظر فجاءت السنة بالتسوية بين العمد والخطأ قال الزهري جاء القرآن بالجزاء على العامد وهو في الخطأ سنة والزهري من أعلم الناس بالسنن.

والخامس أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام فبين صاحب السنة صلى الله عليه وسلم من ذلك على الجملة وعلى التفصيل فالأول قوله الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات الحديث ومن الثاني قوله في حديث عبد الله بن زمعة واحتجبي منه يا سودة لما رأى من شبهه بعتبة الحديث وفي حديث عدي بن حاتم في الصيد فإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل لا تدري لعله قتله الذي ليس منها وقال في بئر بضاعة وقد كانت تطرح فيها الحيض والعذرات خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة وجاء في الصيد كل ما أصميت ودع ما أنميت وقال في حديث عقبة بن الحرث

ص: 370

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في الرضاع إذا أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته والمرأة التي أراد تزوجها قال فيه كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما دعها عنك إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة.

والسادس أن الله عز وجل حرم الزنى وأحل التزويج وملك اليمين وسكت عن النكاح المخالف للمشروع فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض فجاء في السنة ما بين الحكم في بعض الوجوه حتى يكون محلا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقا أو في بعض الأحوال وبالأصل الآخر في حال آخر فجاء في الحديث أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها وهكذا سائر ما جاء في النكاح الفاسد من السنة.

والسابع أن الله أحل صيد البحر فيما أحل من الطيبات وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث فدارت ميتة البحر بين الطرفين فأشكل حكمها فقال عليه الصلاة والسلام هو الطهور ماؤه الحل ميتته وروى في بعض الحديث أحلت ميتتان الحيتان والجراد وأكل عليه الصلاة والسلام مما قذفه البحر لما أتى به أبو عبيدة.

والثامن أن الله تعالى جعل النفس بالنفس وأقص من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى آخر الآية.

هذا في العمد. وأما الخطأ فالدية لقوله فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وبين عليه الصلاة والسلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي بحول الله فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف ويشبه الإنسان التام لخلقته فبينت السنة فيه أن ديته الغرة وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له.

والتاسع أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة فدار الجنين الخارج من بطن المذكاة ميتا بين الطرفين فاحتملهما فقال في الحديث "ذكاة الجنين ذكاة أمه" ترجيحا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال.

والعاشر أن الله قال فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فبقيت البنتان مسكوتا عنهما فنقل في السنة حكمهما وهو إلحاقهما بما فوق البنتين. ذكره القاضى إسماعيل. فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها فإنه أمر واضح لمن

ص: 371

2459 -

كَذَاكَ مَا الْمَجَالُ لِلْقِيَاسِ

فِيهِ لَفَرْعٍ مَعَ أَصْلٍ رَاسِ

2460 -

كمِثْلِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْقُرْآنِ

أَصْل لَهُ تَحَقُّق فِي شَانِ

2461 -

وَتُلْحِقُ السُّنَّةُ مَا دَانَاهَ

بِهِ وَمَا يَشْمَلُهُ مَعْنَاهُ

2462 -

كَانَ بِوَحْيٍ أَوْ بِالاجْتِهَادِ

وَإِنَ ذَاكَ فِي الرِّبَا لَبَادِ

تأمل وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما أو إليهما معا فيأخذ من كل منهما بطرف فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما

(1)

. هذا شأن ما تبينه السنة من الأحكام وهو فوق مدارك أهل النظر والاجتهاد، وطاقاتهم.

والسنة لا يجرى بيانها فيما هذا شأنه من الأحكام فقط بل "كذاك" يمتدّ بيانها إلى "ما" من المواضع والأحكام "المجال للقياس" أي الإلحاق "فيه لفرع" يعني لحكم فرع "مع" - بمعنى الباء - أي بحكم "أصل" هو أمر "راس" ثابت، وذلك "كمثل أن يوجد في القرآن" دليل حكم هو "أصل له" ثبوت و"تحقق في شان" ما، وهذا الأصل يشير إلى أنّ ما كان مثلما ورد فيه حكمه كحكم ما ورد فيه، وبذلك يكون الفهم والإدراك ممكنا بالنظر والاجتهاد مدنوا من العلم به لوجود ما يتوصل به إلى ذلك من المناسبة "و" لكن يجتزئ بذلك الأصل عن تفريع الفروع لأنه "تلحق السنة ما داناه" أي قاربه وشابهه من حيث قيام الجامع - العلة - بهما معا وتجمعه "به" أي بذلك الأصل "و" كذا تلحق به "ما يشمله" من الجزئيات "معناه" وعلته، وهذا ماض حكمه بناء على أن المقيس عليه - وإن كان خاصا - في حكم العام معنى، وقد مر في كتاب الأدلة أثناء ذكر كون الشريعة عامة في الأشخاص وأوعية الأفعال - ظروف الزمان والمكان - هذا المعنى. فإذا كان كذلك ووجدنا في الكتاب أصلا، وجاءت السنة بما في معناه أو ما يلحق به أو يشبهه، أو يدانيه فهو المعني ههنا. وسواء علينا أقلنا إن ذلك البيان السني "كان بوحي" من رب العالمين إلا أنه جار في أفهامنا مجرى المقيس "أو" قلنا إنه كان "بالاجتهاد" منه صلى الله عليه وسلم.

"و" أنت إذا بحثت عن المواضع التي يجري فيها هذا الأمر تجد "إن ذاك" وارد "في" مواضع متعددة ومن ذلك شأن "الربا" فإنه فيه "لباد" ظاهر، وذلك أن الله - عزّ

(1)

الموافقات 4/ 24 - 29.

ص: 372

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وجلّ - حرم الربا وربا الجاهلية الذي قالوا فيه: "إنما البيع مثل الربا" هو فسخ الدين في الدين، يقول الطالب: إما أن تقضي، وإما أن تربي وهو الذي دل عليه أيضا قوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون فقال عليه الصلاة والسلام وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله وإذا كان كذلك وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى فقال عليه الصلاة والسلام:"الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد" ثم زاد على ذلك بيع النساء إذا اختلفت الأصناف وعده من الربا لأن النساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة ويدخل فيه بحكم المعنى السلف يجر نفعا وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء وهو ممنوع، والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة وهو الزيادة ويبقى النظر لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما محل نظر يخفي وجهه على المجتهدين وهو من أخفى الأمور التى لم يتضح معناها إلى اليوم فلذلك بينتها السنة إذ لو كانت بينة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين كما وكل إليهم النظر في كثير من محال الاجتهاد فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس فتأمله.

والثاني أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح وبين الأختين وجاء في القرآن وأحل لكم ما وراء ذلكم فجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا وقد يروى في هذا الحديث فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم والتعليل يشعر بوجه القياس

(1)

.

(1)

الموافقات 4/ 30 - 31.

ص: 373

2463 -

وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ

وَحُكْمِ مَاءِ الْبَحْرِ فِي الطَّهَارَةِ

2464 -

الْمَأْخَذُ الْخَامِسُ مَا فِيهِ النَّظَرْ

مُسْتَنِدٌ فِيمَا مِنَ الْحُكْمِ اعْتَبَرْ

2465 -

إِلَى أَدِلَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ

جَاءَتْ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي

2466 -

يَرْجِعُ مَعْنَاهَا لِشَيْءٍ وَاحِدِ

مَعَ اخْتِلَافِ أَضْرُبِ الْمَوَارِدِ

" ومثله ما جاء في" شأن "الرّضاعة" فإن الله - تعالى - ذكر من تحريم الرضاعة قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النِّسَاء: 23] فألحق النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين سائر القرابات من الرضاعة التى يحرمن من النسب كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وأشباه ذلك وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق بالقياس إذ ذاك من باب القياس بنفي الفارق نصَّتْ عليه السنة إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك نظر وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد فقال عليه الصلاة والسلام إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب وسائر ما جاء في هذا المعنى.

ثم ألحق بالإناث الذكور لأن اللبن للفحل ومن جهة در المرأة فإذا كانت المرأة بالرضاع

(1)

فالذي له اللبن أم بلا إشكال

(2)

.

وكذلك "حكم ماء البحر" الوارد "فيـ"ـه بثبوت "الطهارة" له. وغير ذلك من هذا الصنف من الأمثلة.

"المأخذ الخامس" الدال على ما تقدم من أن كليات السنة متضمنة في الكتاب وأن السنة مع ذلك بيان له - أي للكتاب - هو "ما" يجري "فيه النظر" فليفي أنه "مستند فيما" قرر فيه "من الحكم" و "اعتبر" فيه "إلى أدلة" متفرقة "من القرآن" الكريم "جاءت لجملة" مختلفة "من المعاني" لكنها "يرجع معناها" ومبتناها "لشيء واحد" يجمعها ويكون منبعها "مع اختلاف" وتباين "أضرب" وأنواع "الموارد" التي وردت تلك الأدلة في بيان أحكامها الخاصة بها، وهذا المعنى الجامع شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان.

(1)

هنا سقطت كلمة: أما، وقوله: فالذي له اللبن أم، لعل الأصل فالذي له اللبن أب، وهو الذي يلائم قوله عليه السلام في الحديث السابق: فإنه عمّك.

(2)

انظر الجزء 4/ 36 - 37.

ص: 374

2467 -

فَتَصْدُرُ السُّنَّةُ فِي ذَا الْمَعْنَى

كَأَنَّهَا مَجْمُوعُ مَا قْد عَنَّا

2468 -

وَمِثْلُ ذَا مِنَ الْحَدِيثِ لَا ضَرَرْ

مَعْ مَا بِمَعْنَاهُ اسْتَقَرَّ فِي سُوَرْ

2469 -

الْمَأْخَذُ السَّادِسُ مَا فِيهِ النَّظَرْ

إِلَى تَفَاصِيلِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرْ

2470 -

وَقَصْدُهُ تَطَلُّبُ الْمَعَانِي

فِي سنَّةٍ مِنْ مُقْتَضَى الْقُرْآنِ

2471 -

إِمَّا عَلَى التَّنْصِيصِ أَوْ إِشَارَهْ

مِنْ حَيْثُ مَا تُفْهِمُهُ الْعِبَارَهْ

" فتصدر" أي تأتي "السنة" النبوية "في" - بمعنى الباء - يعني بمقتضى "ذا المعنى" الواحد الشامل "كأنها" قاعدة لمّ فيها "مجموع ما قد عنّا" - الألف للإطلاق - أي عرض ووقع اعتباره أصلا في تلك الأدلة كلها، ومن ذلك يعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد - الأدلة - بناء على صحة الدليل الدال على أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب "ومثل ذا" يعني مثاله "من الحديث" قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر" ولا ضرار مقارنا "مع ما" ورد "بمعناه" مفصلا و"استقر في سور" مختلفة من كتاب الله - تعالى - من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطّلَاق: 6] وقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البَقَرَة: 233] وقوله - سبحانه - {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [المُمتحنَة: 8] وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.

"المأخذ السادس" هو "ما" يقع "فيه النظر إلى تفاصيل الكتاب" العزيز "و" ما ورد تفاصيل "الخبر" والحديث النبوي فيها وإن كان في السنة بيان زائد، ومراد صاحب هذا المأخذ "وقصده" هو "تطلب" كل ما ورد من الأحكام و"المعاني في "الـ"سّنّة" ثم إثبات أنها كلها "من مقتضى" ومفاد "القرآن" فإنها كلها واردة فيه "إما على" سبيل "التنصيص" عليها "أو "على طريقة "إشارة" من نص - آية - وذلك "من حيث ما تفهمه العبارة" وتدل عليه بوضعها اللغوي فقط. ولنمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته. وله أمثلة كثيرة: إحداها: حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهي حائض فقال عليه الصلاة والسلام لعمر مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء يعني أمره في قوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن.

والثاني حديث فاطمة بنت قيس في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل

ص: 375

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لها سكنى ولا نفقة إذ طلقها البتة وشأن المبتوتة أن لها السكنى وإن لم يكن لها نفقة لأنها بذأت على أهلها بلسانها فكان ذلك تفسيرا لقوله ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.

والثالث حديث سبيعة الأسلمية إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن قد حلت فبين الحديث أن قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا مخصوص في غير الحامل وأن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن عام في المطلقات وغيرهن.

والرابع حديث أبي هريرة في قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم قالوا حبة في شعرة يعني عوض قوله وقولوا حطة.

والخامس حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة طاف بالبيت سبعا فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال نبدأ بما بدأ الله به وقرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله.

والسادس حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم قال الدعاء هو العبادة وقرأ الآية إلى قوله داخرين.

والسابع حديث عدي بن حاتم قال لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل. والثامن حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الوسطى صلاة العصر وقال يوم الأحزاب اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس.

والتاسع حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.

والعاشر حديث أنس في الكبائر قال عليه الصلاة والسلام فيها الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر وجميعها تفسير لقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية. وهذا النمط في السنة كثير

(1)

.

(1)

الموافقات 4/ 36 - 37 - 38.

ص: 376

2472 -

وَهْوَ وَإِنْ أُلْفِيَ فِي مَسَائِلِ

مِثْلِ بَيَانِ الْفَجْرِ غَيْرُ شَامِلِ

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

2473 -

وَحَيْثُ قِيلَ فِي الْكِتَابِ إِنَّهْ

دَلِيلُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّهْ

2474 -

وَإِنَّمَا جَاءَتْ لَهُ مُبَيِّنَهْ

وَلعُمُومِ مَا اقْتَضَى مُعَيِّنَهْ

" و" لكن هذا "هو" أمر غير مطرد فالجريان عليه منقطع غير تام لأنه "وإن ألفي" ووجد ماضيا مقتضاه "في مسائل مثل" مسألة "بيان الفجر" المتقدمة، فإنه "غير شامل" إذ القرآن لا يجري فيه هذا باطراد، إذ لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب، أو نحوها، وأوّل شاهد في هذا الصلاة والحج، والزكاة والحيض والنفاس واللقطة والقراض والمساقاة والديات والقسامات وأشباه ذلك من أمور لا تحصى فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه فلم يوف به إلا على التكلف المذكور والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرج مسلم بن الحجاج في كتابه المسند الصحيح دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب والله الموفق للصواب

(1)

.

"المسألة الخامسة"

في أن السنة تبين من الكتاب ما يرجع إلى التكليف، والأحكام، هذا هو مصب بيانها منه، فكان هو الأصل في هذا الشأن. "و" ذلك أنه "حيث قيل في" شأن "الكتاب إنّه دليل" أصلي وكلي على "ما دلت عليه السنة" النبوية واقتضته "وإنما جاءت" موضحة "له" و"مبينة" للمراد منه "ولعموم ما اقتضى" من أحكام الجزئيات والفروع والمعاني "معينة" وضابطة له، وقد تقدم بيان ذلك مبسوطا.

(1)

الموافقات 4/ 38 - 39.

ص: 377

2473 -

فَذَاكَ بِالنِّسْبَةِ لِلأَوَامِرِ

وَللنَّوَاهِي وَللإِذْنِ الصَّادِرِ

2474 -

وَخَارجٌ عَنْ ذَاك كَالإِخْبَارِ

بِمَا يَكُونُ أَوْ بِأَمْرِ جَارِ

2477 -

ضَرْبَانِ ضَرْبٌ جَاءَ فِي التَّقْرِيرِ

فِي مَوَرِدِ السُّنَّةِ كَالتّفْسِيرِ

2478 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ أَنَّهُ

تُبَيِّنُ الْكِتَابَ فِيهِ السُّنَّهْ

2479 -

كَمِثْلِ مَا عَنْهُ أَتَى فِي حَالِ

أُمَّتِهِ وَقِصَّةِ الدَّجَّالِ

" فذاك" إنما هو "بالنسبة للأوامر وللنواهي" الواردة في الكتاب "وللإذن الصادر" والآتي فيه. "و" أما ما هو "خارج عن ذاك" مما لا يتعلق به أمر ولا نهي "كالإخبار بما يكون" ويقع "أو" الإخبار "بأمر جار" واقع وماض فإن بيانه بالسنة "ضربان" أحدهما "ضرب جاء في" الذي يدل عليه من "التقرير" والإفادة "في مورد السنة" يعني في الدليل الذي ورد فيه في السنة "كالتفسير" للقرآن "فذاك" لا نظر و"لا إشكال فيه أنه" بيان "تبين الكتاب فيه السنة" وتفسره فيه، وذلك كما في قوله - تعالى -:{الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البَقَرَة: 58] قال "دخلوا يزحفون على أوراكهم. وفي قوله - تعالى - {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البَقَرَة: 59] قال: "قالوا حبة في شعرة".

و"كمثل ما عنه أتى" صلى الله عليه وسلم "في حال أمته" وشأنها، قال الله - تعالى -:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البَقَرَة: 143] الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: يدعى نوح فيقال هل بلغت فيقول نعم فيدعي قومه فيقال هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد. فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته. قال فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ فذلك قول الله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وفي قوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عِمرَان: 110]. قال "إنكم تتبعون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله وفي قوله بل أحياء عند ربهم يرزقون إن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش إلى آخر الحديث"

(1)

. "و" كذلك "قصة الدجال" فقد قال عليه الصلاة والسلام في شأنها ثلاث إذا خرجنا {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعَام: 158] الآية. الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وفي قوله {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}

(1)

الموافقات 4/ 41.

ص: 378

2480 -

ثَانِيهِمَا مَا وَقَعَ ابْتِدَاءًا

لِغَيْرِ تَفْسيرٍ بِحَيْثُ جَاءَا

2481 -

فَذَاكَ لَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يُرَا

وَفِي الْكِتَابِ أَصْلُهُ مُقَرَّرَا

2482 -

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْهُ حَظٌّ صَالِحْ

وَفِي الْمُكَمِّلَاتِ ذَاكَ وَاضِحْ

[الأعرَاف: 172] الآية. قال "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك" الحديث. وفي قوله: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هُود: 80] قال يرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه وقال الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسجع المثاني وفي رواية ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وسأله اليهود عن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسرَاء: 101] ففسرها لهم وحديث موسى مع الخضر ثابت صحيح وفي قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصَّافات: 89] قال لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث قوله: إني سقيم الحديث وقال: إنكم محشورون إلى الله غرلا ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبيَاء: 104] الآية وفي قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحَجّ: 1] قال ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار الحديث وقال إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار وأمثلة هذا الضرب كثيرة

(1)

. "ثانيهما" أي الضربين هو "ما وقع" وورد من الخبر "ابتداءا لغير تفسير" ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي "بحيث" أي في أي موضوع أو شأن "جاءا" - الألف للإطلاق - "فذاك لا يلزم" ولا يجب "فيه أن يرى و" أن يعتقد أنه يوجد "في الكتاب أصله" الذي يرجع إليه "مقررا" وثابتا لأنه أمر زائد على مواقع التكليف والقرآن إنما أنزل لبيان ذلك إثباتا له، وإظهارا لما به يقع به، ويوجبه من أمور.

"و" هذا الضرب "في الصّحيح منه حظ" أي جمع طرف من الأحاديث "صالح" ليجري مثالا على ذلك، ومنه حديث أبرص، وأقرع، وأعمى وحديث جريج العابد، ووفاة موسى، وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم قبلنا مما لا ينبني عليه عمل، ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآني، وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب فهو خادم للأمر والنهي، "و" معدود "في المكملات" لضرورة التشريع فلم يخرج بالكلية عن القسم الأول و"ذاك" أمر "واضح" دل عليه واقع الحال

(1)

الموافقات 4/ 41 - 42.

ص: 379

"‌

‌ المسألة السادسة

"

2483 -

وَتُطْلَقُ السُّنَّةِ فِي الإِخْبَارِ

لِلْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَللإِقْرَارِ

2484 -

فَالْقَوْلُ بَيِّنٌ وَلَا تَفْصِيلَ فِي

مَضْمُونِهِ وَذَاكَ لَيْسَ بِالْخَفِي

2485 -

وَالْفِعْلُ فِيهِ الْكَفُّ مِمَّا يُدْخَلُ

عِنْدَ كَثِيرٍ وَكَثِيرٌ يَفْصِلُ

2486 -

هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّبْيِينِ

لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى التَّعْيِينِ

2487 -

فَمَا بِهِ فِعْلُ الرَّسُولِ حَقَّقَا

فَإِنَّهُ دَلِيلُ الإِذْنِ مُطْلَقَا

2488 -

مَا لَمْ يَرِدْ مَا يَقْتَضِي تَبْيِينَهْ

فَيُقْتَفَى مِنْ قَوْلٍ أَوْ قَرِينَهْ

في هذه القصص إذا اعتبر فيها متضمنها من الترغيب والترهيب. والله - تعالى - أعلم.

"المسألة السادسة"

"و" هي في بيان أنه "تطلق السنة" عند الأصوليين "في" حال "الإخبار" عن ماهيتها "للقول" يعني على القول "والفعل وللإقرار" يعني على الإقرار، الذي يحصل بعد العلم وحصول طلب الإنكار وشرعيته لو كان منكرا "فـ"ـأما "القول" فإنه "بين" ظاهر لا إشكال فيه "ولا تفصيل في مضمونه" ومعناه "وذاك" أمر "ليس بالخفي" المبهم "و" أما "الفعل" فإنه "فيه الكف" عن الفعل والترك له "مما يدخل" ويعد من مضمونه ومعناه لأنه فعل "عند كثير" من الأصوليين الذين الفعل عندهم هو ما قابل الانفعال "و" لكن جمع "كثير" آخر منهم "يفصل" ويفرق بين الفعل والترك، ويرى أن الكف ليس فعلا. وإذا تقرر وجود "هذا" الخلاف وثبت فإنه لا مناص "ولا بد من التبيين" والتوضيح "لكل واحد" منهما - أي الفعل والترك - "على" سبيل "التعيين" أي ذكر بيان كل واحد منهما بعينه على حدة. ويبدأ بالفعل، فيقال:"فما" من الأمور قد ثبت "به" يعني فيه "فعل الرسول " صلى الله عليه وسلم و"حققا" جريانه فيه "فإنه" أي ذاك الفعل النبوي "دليل" على "الإذن مطلقا" يعني على مطلق الإذن في ذلك الأمر.

وذلك "ما لم يرد ما" الدليل أي الذي "يقتضي تبيينه" ويعين ما يدل عليه من حكم غير مطلق الإذن فإذا ورد "فـ"ــــإنه "يقتفى" ويتبع، ويؤخذ بمطلق الدليل "من قول أو قرينهْ"

ص: 380

2489 -

وَذَا مُقَرَّرٌ لَدَى الأُصُولِ

وَحَظُّ ذَا الْمَوْضِعِ بِالتَّفْصِيلِ

2490 -

تَقْرِيرُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي التَّأَسِّي

يَقْوَى كَمَا مَرَّ بِغَيْرِ لَبْسِ

2491 -

وَالتَّرْكُ فِي الأصْلِ لِغَيْرِ مَا أُذِنْ

فِيهِ لِأَنْ كَانَ بِنَهْيٍ يَقْتَرِنْ

حالية أو غيرهما من هذا الشأن "وذا" الكلام "مقرر لدى" أي في علم "الأصول" وذلك في مجرى ذكر أقسام السنة، وأحوال الفعل النبوي وأحكامها "وحظ ذا الموضع" في هذا الكتاب تذييل ما قيل فيه "بـ" ضرب من "التفصيل" وهو "تقرير أن الفعل" النبوي "في"شأن "التأسي" والاقتداء والامتثال "يقوى" على القول ويقدم عليه "كما""مر" ذكره وبيانه في أثناء الحديث على البيان القولي والفعلي في المسألة الرابعة من الفصل الخامس السابق، وذاك أمر قد تقرر هناك، "بغير لبس" ولا إشكال وسيأتي مزيد بيان في كتاب الإجتهاد من هذا الكتاب.

ثم إنه وإن دل الدليل أو القرينة على خلاف مطلق الإذن فيه فإنه لا يخرج عن أنواعه، فمطلق الإذن يشمل الواجب والمندوب، والمباح ففعله عليه الصلاة والسلام لا يخرج عن ذلك فهو إما واجب أو مندوب أو مباح وسواء علينا أكان ذلك في حال أم كان مطلقا فالمطلق كسائر المفعولات له والذي في حال كتقريره للزاني إذ أقر عنده فبالغ في الاحتياط عليه حتى صرح له بلفظ الوطء الصريح ومثله في غير هذا المحل منهي عنه فإنما جاز لمحل الضرورة فتقدر بقدرها بدليل النهي عن التفحش مطلقا والقول هنا فعل لأنه معنى تكليفي لا تعريفي فالتعريفي هو المعدود في الأقوال وهو الذي يؤتى به أمرا أو نهيا أو إخبارا بحكم شرعي والتكليفي هو الذي لا يعرف بالحكم بنفسه من حيث هو قول كما أن الفعل كذلك

(1)

.

"و" أما "الترك" فإنه "في الأصل لغير ما أذن فيه" شرعا من الأمور، وذلك "لأنـ"ــه أي الترك "كان بنهي يقترن"، وعليه يدل، وبذلك فإنه يقتضي المنع، أو الكراهة، فتركه عليه الصلاة والسلام دال على مرجوحية الفعل.

(1)

انظر الموافقات 4/ 44.

ص: 381

2492 -

إِمَّا عَلَى الإِطْلَاقِ أَوْ فِي حَالِ

وَذاكَ ظَاهِرٌ فِي الاسْتِدْلَالِ

2493 -

وَقَدْ يَكُونُ التَّرْكُ فِي الْمُبَاحِ

لِأَوْجُهٍ وَالْحُكْمُ ذُو اتِّضَاحِ

2494 -

كَالتَّرْكِ لِلضَّبِّ بِحُكْمِ الطَّبْعِ

وَالتَّرْكِ لِلثُّومِ لِحَقِّ مَرْعِي

2495 -

وَالتَّرْكُ خَوْفَ الافْتِرَاضِ لِلْعَمَلْ

أَوْ خَوْفَ فَاسِدٍ بِفِعْلِهِ اتَّصَلْ

وذلك "إما على" سبيل "الإطلاق" فالمتروك مطلقا ظاهر "أو في حال" خاص كتركه عليه الصلاة والسلام تحمل الشهادة للبشير بن سعد بن ثعلبة حين نحل ولده - النعمان - دون غيره من ولده، وقال عليه الصلاة والسلام له:"أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. قال: فأشهد غيري، فإني لا أشهد على جور""وذاك ظاهر"

(1)

أي جليّ أمره "في الاستدلال" على ثبوته كما ترى. "وقد يكون الترك" منه عليه الصلاة والسلام واقعا "في المباح لأوجه" أي أسباب غير السبب المتقدم وهو إفادة الحكم الشرعي المذكور "والحكم" في ذلك كله "ذو اتضاح" وظهور، لأنه يدل عليه سبب الترك، ويبينه من تلك الأوجه - الأسباب -: الكراهية طبعا وذلك "كالترك" الحاصل منه صلى الله عليه وسلم "لـ"ـــأكل "الضب" ثم قال: "أنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" فهذا ترك "بحكم" الجبلة و"الطبع"، ولا حرج فيه "و" منها "الترك لـ" أكل "الثوم" والبصل الواقع منه عليه الصلاة والسلام "لحق مرعي" ومعتبر وهو حق الملَكِ الذي يناجيه، ويجالسه، وهذا ترك لمباح اعتبارا لحق الغير. "و" منها "الترك" خشية و"خوف الافتراض" والإيجاب "للعمل" على الناس بمواظبته عليه الصلاة والسلام عليه واتباع الناس له فيه. ولأهل العلم في بيان وجه هذا الإيجاب آراء مختلفة تنظر في تفسير حديث تركه عليه الصلاة والسلام القيام في المسجد في رمضان. وقوله صلى الله عليه وسلم "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" وقوله - لما اعتم بالعشاء حتى رقد النساء والصبيان -:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة". ومنها الترك لأمر خشية "أو خوف" حال "فاسد" تعلق "بفعله" و"اتصل" به بناء على أن ما لا حرج فيه بالجزء منهي عنه بالكل، وذلك كإعراضه عليه الصلاة والسلام عن سماع غناء الجاريتين في بيته. وفي الحديث "لست من دَدٍ ولا ددٌ مني، ولست من الباطل ولا الباطل مني" والدّدُ

(1)

الموافقات 4/ 44.

ص: 382

2496 -

أَوْ تَرْكُ مَفْضُولٍ بِفِعْلِ الأَفْضَلِ

وَكُلُّهَا كَالأَصْلِ غَيْرُ الأَوَّلِ

اللهو، وإن كان مما لا حرج فيه فليس كل ما لا حرج فيه يؤذن فيه كما مرّ ذكره في كتاب الأحكام في مبحث المباح. ومنها اجتناب "أو ترك" مباح "مفضول بفعل" المباح "الأفضل" منه، فإن القسم لم يكن لازما لأزواجه في حقه وهو معنى قوله - تعالى - {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزَاب: 51] الآية عند جماعة من المفسرين ومع ذلك فترك ما أبيح له إلى القسم الذي هو أخلق بمكارم أخلاقه وترك الانتصار ممن قال له اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ونهي من أراد قتله وترك قتل المرأة التي سمت له الشاة ولم يعاقب عروة بن الحرث إذ أراد الفتك به وقال من يمنعك مني الحديث.

ومنهها الترك للمطلوب خوفا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب كما جاء في الحديث عن عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض وفي رواية لأسست البيت على قواعد إبراهيم ومنع من قتل أهل النفاق وقال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه

(1)

. "و" هذه الأوجه - الأسباب - "كلها كالأصل" المذكور وهو أن الترك إنما يكون في غير المأذون فيه "غير" الوجه "الأول" فإنه لا يجري عليه هذا الحكم لأنه ليس في الحقيقة من هذا النمط، لأنه ليس بترك إطلاقا، كيف وقد أكل على مائدته عليه الصلاة والسلام؟

وأما الثاني: فقد صار في حقه التناول ممنوعا أو مكروها لحق ذلك الغير هذا في غير مقاربة المساجد وأما مع مقاربتها والدخول فيها فهو عام فيه وفي الأمة فلذلك نهى آكلها عن مقاربة المسجد وهو راجع إلى النهي عن أكلها لمن أراد مقاربته.

وأما الثالث فهو من الرفق المندوب إليه فالترك هنالك مطلوب وهو راجع إلى أصل الذرائع إذا كان تركا لما هو مطلوب خوفا مما هو أشد منه فإذا رجع إلى النهي عن المأذون فيه خوفا من مآل لم يؤذن فيه صار الترك هنا مطلوبا. وأما الرابع فقد تبين فيه رجوعه إلى المنهي عنه.

(1)

انظر الموافقات 4/ 45 - 46.

ص: 383

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما الخامس فوجه النهي المتوجه على الفعل حتى حصل الترك أن الرفيع المنصب مطالب بما يمتضي منصبه بحيث يعد خلافه منهيا عنه وغير لائق به وإن لم يكن كذلك في حقيقة الأمر حسبما جرت به العبارة عندهم في قولهم حسنات الأبرار سيئات المقربين إنما يريدون في اعتبارهم لا في حقيقة الخطاب الشرعي ولقد روى أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد القسم على الزوجات وإقامة العدل على ما يليق به يعتذر إلى ربه ويقول اللهم هذا عملي فيما أملك فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك يريد بذلك ميل القلب إلى بعض الزوجات دون بعض فإنه أمر لا يملك كسائر الأمور القلبية التي لا كسب للإنسان فيها أنفسها.

والذي يوضح هذا الموضع وأن المناصب تقتضي في الاعتبار الكمالي العتب على ما دون اللائق بها قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام في حديث الشفاعة وفي اعتذار نوح عليه السلام عن أن يقوم بها بخطيئته وهي دعاؤه على قومه ودعاؤه على قومه إنما كان بعد يأسه من أيمانهم قالوا وبعد قول الله له لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وهذا يقضي بأنه دعاء مباح إلا أنه استقصر نفسه لرفيع شأنه أن يصدر من مثله مثل هذا إذ كان الأولى الإمساك عنه وكذلك إبراهيم اعتذر بخطيئته وهي الثلاث المحكيات في الحديث بقوله لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات فعدها كذبات وإن كانت تعريضا اعتبارا بما ذكر.

والبرهان على صحة هذا التقرير ما تقدم في دليل الكتاب أن كل قضية دم ترد أو لم تبطل أو لم ينبه على ما فيها فهي صحيحة صادقة فإذا عرضنا مسألتنا على تلك القاعدة وجدنا الله تعالى حكى عن نوح دعاءه على قومه فقال وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ولم يذكر قبله ولا بعده ما يدل على عتب ولا لوم ولا خروج عن مقتضى الأمر والنهي بل حكى أنه قال إنك إن تذرهم يضلوا عبادك الآية ومعلوم أنه عليه السلام لم يقل ذلك إلا بوحي من الله لأنه غيب وهو معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُود: 36] وكذلك قال تعالى في إبراهيم فنظر نظرة في النجوم {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصَّافات: 89] ولم يذكر قبل ذلك ولا بعده ما يشير إلى لوم ولا عتب ولا مخالفة أمر ولا نهي. ومثله قوله تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبيَاء: 63] فلم يقع في هذا المساق ذكر لمخالفة ولا إشارة إلى عتب بل جاء في الآية الأولى إذ جاء ربه بقلب سليم وهو غاية في المدح بالموافقة. وهكذا سائر المساق إلى آخر

ص: 384

‌فصل

2497 -

وَأَمَّا الإِقْرَارُ لِمَا قَدْ سُمِعَا

أَوْ مَا وَرَاءهُ فَهْوَ جِنْسٌ وَقَعَا

2498 -

عَلَى الْمُبَاحِ وَعَلَى الْمَطْلُوبِ

إِمَّا عَلَى النّدْبِ أَوْ الْوُجُوبِ

القصة. وفي الآية الأخرى قال ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إلى آخرها أفتضمنت الآيات مدحه ومناضلته عن الحق من غير زيادة فدل على أن كل ما ناضل به صحيح موافق ومع ذلك فقد قال محمد صلى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وإبراهيم في القيامة يستقصر نفسه عن رتبة الشفاعة بما يذكره وكذلك نوح فثبت أن إثبات الخطيئة هنا ليس من قبل مخالفة أمر الله بل من جهة الاعتبار من العبد فيما تطلبه به المرتبة فكذلك قصة محمد عليه الصلاة والسلام في مسألة القسم.

وقد مددت في هذا الموضع بعض النفس لشرفه ولولا الإطالة لبين من هذا القبيل في شأن الأنبياء عليهم السلام ما ينشرح له الصدر وتطمئن إلى بيانه النفس مما يشهد له القرآن والسنة والقواعد الشرعية. والله المستعان. وفي آخر فصل الأوامر والنواهي أيضا مما يتمهد به هذا الأصل وقد حصل من المجموع أن الترك هنا راجع إلى ما يقتضيه النهي لكن النهي الاعتباري.

وأما السادس فظاهر أنه راجع إلى الترك الذي يقتضيه النهي لأنه من باب تعارض مفسدتين إذ يطلب الذهاب إلى الراجح وينهى عن العمل بالمرجوح والترك هنا هو الراجح فعمل عليه

(1)

.

"فصل"

"وأما الإقرار" منه عليه الصلاة والسلام "لما قد سمعا" - الألف للإطلاق - يعني سمعه من الأقوال، "أو "إقراره "ما وراءه" من الأفعال "فهو" من أقسام السنة - أيضا كما تقدم ذكره - ومحمله أنه لا حرج فيما ورد فيه ونقل من قول، أو فعل، لكن لفظ لا حرج "جنس وقعا" - الألف للإطلاق - وحصل لأنه يطلق "على المباح" بمعنى المأذون فيه ولمعنى لا حرج فيه "و" كذلك يطلق "على المطلوب" الذي يريد "إما على الندب أو الوجوب".

(1)

انظر الجزء 4/ 46 - 47 - 48 - 49.

ص: 385

2499 -

إِذْ كُلُّهَا فِي مُقْتَضَى الإِذْنِ انْدَرَجْ

وَالْحَظْرُ وَالْمَكْرُوهُ عَنْهُ قَدْ خَرَجْ

والمباح والواجب والمندوب أنواع "إذ كلّها في مقتضى" ومعنى "الإذن" في الفعل "اندرج" ودخل "و" أما ذو "الحظر" أي المنع - الحرام - "والمكروه" فإن كل منهما قد انفصل "عنه" و"قد خرج" عن مقتضاه. لأن المكروه منهي عنه وإذا كان كذلك لم يصح السكوت عنه. ولأن الإقرار محل تشريع عند العلماء، فلا يفهم منه المكروه بحكم إطلاق السكوت عليه دون زيادة تقترن به فإذا لم يكن ثم قرينة ولا تعريف أو هم ما هو أقرب إلى الفهم وهو الإذن أو أن لا حرج بإطلاق والمكروه ليس كذلك. لا يقال فيلزم مثله في الواجب والمندوب إذ لا يفهم بحكم الإقرار فيه غير مطلق الإذن أو أن لا حرج وليسا كذلك لأن الواجب منهي عن تركه ومأمور بفعله والمندوب مأمور بفعله. وجميع ذلك زائد على مطلق رفع الحرج فلا يدخلان تحت مقتضى الإقرار وقد زعمت أنه داخل هذا خلف.

لأنا نقول بل هما داخلان لأن عدم الحرج مع فعل الواجب لازم للموافقة بينهما لأن الواجب والمندوب إنما يعتبران في الاقتضاء قصدا من جهة الفعل ومن هذه الجهة صارا لا حرج فيهما بخلاف المكروه فإنه إنما يعتبر في الاقتضاء من جهة الترك لا من جهة الفعل وأن لا حرج راجع إلى الفعل فلا يتوافقان وإلا فكيف يتوافقان والنهي يصادم عدم الحرج في الفعل.

فإن قيل من مسائل كتاب الأحكام أن المكروه معفو عنه من جهة الفعل ومعنى كونه معفوا عنه هو معنى عدم الحرج فيه. وأنت تثبت هنا الحرج بهذا الكلام.

قيل كلا بل المراد هنا غير المراد هنالك لأن الكلام هنالك فيما بعد الوقوع لا فيما قبله. ولا شك أن فاعل المكروه مصادم للنهي بحتا كما هو مصادم في الفعل المحرم ولكن خفة شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعد ما وقع في حكم ما لا حرج فيه استدراكا له من رفق الشارع بالمكلف ومما يتقدمه من فعل الطاعات تشبيها له بالصغيرة التى يكفرها كثير من الطاعات كالطهارات والصلوات والجمعات ورمضان واجتناب الكبائر وسائر ما ثبت من ذلك في الشريعة والصغيرة أعظم من المكروه فالمكروه أولى بهذا الحكم فضلا من الله ونعمة.

وأما ما ذكر هنا من مصادمة النهي لرفع الحرج فنظر إلى ما قبل الوقوع ولا مرية في

ص: 386

"‌

‌ المسألة السابعة

"

2500 -

قَوْلُ الرَّسُولِ بِاقْتِرَانِ الْفِعْلِ فِي

شَأْنِ التّأَسِّي غَايَةَ الْمُكَلَّفِ

2501 -

وَحَيْثُ مَا الْقَوْلُ بِإِذْنٍ قَدْ وَرَدْ

وَكَانَ فِي الْفِعْلِ سِوَى ذَاكَ اعْتُمِدْ

2502 -

فَالاقْتِدَاءُ بِالرَّسُولِ أَحْسَنُ

فِي التَّرْكِ وَالأَخْذِ بِإِذْنٍ بَيِّنُ

أن الأمر كذلك فلا يمكن والحال هذه أن يدخل المكروه تحت ما لا حرج فيه وأمثلة هذا القسم كثيرة كقيافة المدلجي في أسامة وأبيه زيد وأكل الضب على مائدته عليه الصلاة والسلام وعن عبد الله بن مغفل قال أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا قال فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما وقد استدل بعض العلياء على طهارة دم النبي عليه الصلاة والسلام بترك الإنكار على من شرب دم حجامته

(1)

.

تنبيه: هذا الذي ذكر من أن الترك فعل يدرس عاما في كتب الأصول لا يخص بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده فيها، بل إن الترك فعل مطلقا سواء كان من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، نعم لهم تفرقة بين الترك غير النبوي الذي يعتبر سببا في أمر محظور، والترك الذي ليس كذلك.

"المسألة السابعة"

في بيان أن "قول الرسول" صلى الله عليه وسلم إذا أتى "باقتران الفعل" يعني مع اقترانه بالفعل النبوي في أمر ما فإنه يكون "في شأن التأسي" والاقتداء به في ذلك أقصى ما يكون و"غاية" ما يطلب بالنسبة إلى "المكلف" لأن فعله صلى الله عليه وسلم واقع على أزكى ما يمكن في وضع التكاليف، فالاقتداء به في ذلك العمل في أعلى مراتب الصحة. "و" أما "حيث ما القول بإذن" في الفعل "قد ورد" وأتى "و" لكن لم يطابقه الفعل النبوي بأن "كان" عليه الصلاة والسلام "في الفعل سوى ذاك" الذي أذن فيه "اعتمد" وأتى "فـ"ــــــــــإنه يصار في شأنه إلى "الاقتداء بالرسول" صلى الله عليه وسلم "أحسن في "الذي أتاه من ذلك "الترك" والكف، "و" أما العمل و"الأخذ بـ" ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك من "إذن" فإنه أمر "بين" ظاهر يقتضي الإباحة والأمر في ذلك واسع

(1)

الموافقات 4/ 49 - 50 - 51.

ص: 387

2503 -

كَإِذْنِهِ فِي الْهَجْو لِلْكُفَّارِ

وَمَا عَلَى سَبِيلِ ذَاكَ جَارِ

مثال ذلك: ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من أنه قيل له: "أأكذب لامرأتي؟ " قال: "لا خير في الكذب".

قال: أفأعدها وأقول لها قال لا جناح عليك ثم إنه لم يفعل مثل ما أجازه بل لما وعد عزم على أن لا يفعل وذلك حين شرب عند بعض أزواجه عسلا فقال له بعض أزواجه إني أجد منك ريح مغافير كأنه مما يتأذى من ريحه فحلف أن لا يشربه أو حرمه على نفسه ويرجع إلى الأول فقال الله له يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك وكان قادرا على أن يعد ويقول ولكنه عزم بيمين علقها على نفسه أو تحريم عقده حتى رده الله إلى تحلة الأيمان وأيضا فلما قال للرجل الواهب لابنه أشهد غيري كان ظاهرا في الإجازة ولما امتنع هو من الشهادة دل على مرجوحية مقتضى القول

(1)

.

و"كإذنه" عليه الصلاة والسلام "في الهجو" والذم "للكفار" وقال لحسان: "أهجهم وروح القدس معك" فهذا إذن في الهجاء، ولم يذم عليه الصلاة والسلام أحدا بعيب فيه خلاف عيب الدين، ولا هجى أحدا بمنثور، كما لم يتأتَ له المنظوم - أيضا - ومن أوصافه عليه الصلاة والسلام أنه لم يكن عيّبا ولا فحاشا.

"و" غير ذلك من الأمثلة من "ما" هو "على سبيل ذاك" الذي ذكر من الأمثلة "جار" وماض كإذنه صلى الله عليه وسلم لأقوام في أن يقولوا لمنافع كانت لهم في القول، أو نضال عن الإسلام ولم يفعل هو شيئا من ذلك. وإنما كان منه التورية كقوله نحن من ماء وفي التوجه إلى الغزو فكان إذا أراد عزوة ورى بغيرها فإذا كان كذلك فالاقتداء بالقول الذي مفهومه الإذن إذا تركه قصدا مما لا حرج فيه وإن تركه اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام أحسن لمن قدر على ذلك فمن أتى شيئا من ذلك فالتوسعة على وفق القول مبذولة وباب التيسير مفتوح والحمد لله

(2)

.

(1)

الموافقات 4/ 51 - 52.

(2)

الموافقات 4/ 52 - 53.

ص: 388

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

2304 -

وَإِنْ يُوَافِقْ فِعْلُهُ مَا قَدْ أُقِرْ

فَهْوَ صَحِيحٌ فِي التَّأَسِّي مُعْتَبَرْ

2303 -

إِذْ نَفْسُ الإِقْرَارِ بِحَيْثُ مَا صَدَرْ

لَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ نَظَرْ

" المسألة الثامنة"

"و" هي في بيان أنه "إن يوافق فعله" عليه الصلاة والسلام "ما" من الأفعال أو الأقوال "قد أقر"هـ "فـ" إن ذلك الإقرار "هو" دليل و"صحيح في" شأن "التأسي" وبرهان "معتبر" في ذلك وصاف، لا كدر فيه، ولا شوب، ولا انحطاط عن أعلى ما يتمسك به في شأن التأسي، لأن فعله عليه الصلاة والسلام واقع موقع الصواب، فإذا وافقه إقراره لغيره على مثل ذلك الفعل، فإن التأسي به في ذلك كمجرد الاقتداء به في الفعل فالإقرار دليل زائد مثبت. فيكون الإقرار المقبول المعمول به على الوجه الصحيح هو هذا الذي معه الفعل النبوي "إذ نفس الإقرار" وحده لا يدل على جريان الاقتداء ومضيه فيما ورد فيه "بحيث ما صدر" ووقع سواء كان فعلا أو قولا، كما أنه "لا يقتضي" أو يستوجب "الجواز" لإتيان ما ورد فيه "من غير نظر" وبحث، لأنه - أي الإقرار - وإن اقتضى الصحة فالترك كالمعارض له، وإن لم تتحقق فيه المعارضة فقد رمى فيه شوب التوقف لتوقفه عليه الصلاة والسلام عن الفعل. ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحا وبعده عن التلهي به وإن لم يحرج في استعماله وقد كانوا يتحدثون بأشياء من أمور الجاهلية بحضرته وربما تبسم عند ذلك ولم يكن يذكر هو من ذلك إلا ما دعت إليه حاجة أو ما لا بد منه ولما جاءته المرأة تسأله عن مسألة من طهارة الحيضة قال لها خذي فرصة ممسكة فتطهري بها فقالت وكيف أتطهر بها فأعاد عليها واستحيى حتى غطى وجهه ففهمت عائشة ما أراد ففهمتها بما هو أصرح وأشرح فأقر عائشة على الشرح الأبلغ وسكت هو عنه حياء فمثل هذا مراعى إذا لم يتعين بيان ذلك فإنه من باب الجائز أما إذا تعين فلا يمكن إلا الإفهام كيف كان فإنه محل مقطع الحقوق والأمثلة كثيرة. والحاصل أن نفس الإقرار لا يدل على مطلق الجواز من غير نظر بل فيه ما يكون كذلك نحو الإقرار على المطلوبات والمباحات الصرفة ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة. فإن قارنه قول فالأمر فيه كما تقدم فينظر إلى الفعل فيقضى بمطلق الصحة فيه مع المطابقة دون المخالفة. والله - تعالى أعلم -، وأحكم

(1)

.

(1)

الموفقات 4/ 53 - 54.

ص: 389

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

2506 -

وَسُنَّةُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ

مَقْبُولَةً فِي جُمْلَةِ الأحْكَامِ

2507 -

لِمَا أَتَى فِي شَأْنِهِمْ خُصُوصًا

أَوْ فِي عُمُومٍ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَا

" المسألة التاسعة"

"و" هي في ذكر أن "سنة الصحابة الكرام" رضي الله عنهم سنة "مقبولة" وطريقة يمضي عليها، ويرجع إليها "في جملة" أي كل "الأحكام" الفقهية.

وذلك "لـ" أمور أحدها "ما أتى" في نصوص شرعية من الثناء "في" حقهم و"شأنهم خصوصا" من غير مثنوية، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله - تعالى -:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عِمرَان: 110]"أو في" نصوص ذي "عموم يقبل التخصيصا" - الألف للإطلاق - كقوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البَقَرَة: 143] ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى. ولا يقال إن هذا عام في الأمة فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم. لأنا نقول أولا ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر. وثانيا على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي. وثالثا أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التى وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم. فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح. وأيضا فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق وأنهم وسط أي عدول بإطلاق وإذا كان كذلك فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به وهكذا سائر الآيات التى جاءت بمدحهم كقوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحَشر: 8] إلى قوله {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ

ص: 390

2508 -

وَشِدَّةُ اقْتِدَائِهِمْ أَوْجَبَ أَنْ

كَانَ الذِي يَرَوْنَهُ أَهْدَى سَنَنْ

2509 -

وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ كَوْنُ مَالِكِ

مُتَّبَعًا مُسْتَحْسَنَ الْمَدَارِكِ

2510 -

إِذْ جَدَّ فِي اقْتِفَاءِ آثَارِ السَّلَفْ

فَصَارَ مُقْتَدَى بِهِ عِنْدَ الْخَلَفْ

{وَالْإِيمَانَ} [الحَشر: 9] الآية وأشباه ذلك

(1)

.

"و" يضاف لهذا "شدة اقتدائهم" ومتابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته، مع حمايته ونصرته، وذلك قد "أوجب" واقتضى "أن كان الذي يرونه" ويستنبطونه من الأحكام الفقهية والمناهج التي تسلك إلى بناء تلك الأحكام هو "أهدى سنن" وأصحها، وأحرى بالاتباع مما سواه "ومن" هذا الذي تقرر "هنا" في حق الصحابة من الفضل والعلم "يظهر" لك سر أو علة "كون مالك" بن أنس - رحمه الله تعالى - إماما "متبعا" - بفتح الباء - ومقتدى به "مستحسن المدارك" التي يأخذ بها في بناء الأحكام، ويتخذها سبلا إلى إدراكها، فحمد أهل العلم مسلكه في ذلك "إذ جد" وأخذ بالحزم "في اقتفاء" واتباع "آثار السلف" الصالح وما صدر عنهم من فتاوى وأقضية وطرق في الاستنباط للأحكام من أدلتها، "فصار" متبعا و"مقتدى به عند الخلف" ممن بعده من أهل العلم الموافقين له في مذهبه. وما كان له ذلك إلا ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون. وثانيها: ما جاء في الحديث من الأمر باتباعه وأن سنته في طلب الاتباع كسنة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله عليه الصلاة والسلام: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وقوله تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا ومن هم يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي وعنه أنه قال أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلا به وعنه أيضا إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي منهم أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي كلهم خير ويروى في بعض الأخبار أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلى غير ذلك مما في معناه.

والثالث أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل فقد جعل طائفة

(1)

الموافقات 4/ 55 - 56.

ص: 391

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا. ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة وهذه الآراء وإن ترجح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المعتمد في المسألة وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ويتكثرون بموافقتهم وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين فمدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر من ذهب إليها من الصحابة. وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم وكبر شأنهم في الشريعة وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فقط لا عن النظر معهم فيما نظروا فيه. وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل أن يجتهد لا يمنع من تقليد الصحابة ويمنع في غيره. وهو المنقول عنه في الصحابي كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم.

وأيضا فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لا بد من ذكر بعضه.

فعن سعيد بن جبير أنه قال ما لم يعرفه البدريون فليس الدين. وعن الحسن وقد ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم وعن إبراهيم قال لم يدخر لكم شيء خبئ عن القوم لفضل عندكم وعن حذيفة أنه كان يقول اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا وعن ابن مسعود من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال علي إياكم والاستنان بالرجال. ثم قال فإن كنتم لا بد فاعلبن فبالأموات لا بالأحياء وهو نهي للعلماء لا للعوام. ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز قال سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله من عمك بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل

ص: 392

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

2511 -

مَا كَانَ مُخْبِرًا بِهِ الرَّسُولُ

مِنْ خَبَرٍ فَهْوَ كمَا يَقُولُ

2512 -

مُعْتَمَدٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْبَرَا

بِهِ وَعَنْهُ مُطْلَقًا حَيْثُ جَرَا

2513 -

كمِثْلِ مَا إِذَا بِحُكْمٍ نَطَقَا

أَمْرًا وَنَهْيًا فَهْوَ حَقٌّ مُطْلَقَا

المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا وفي رواية بعد قوله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي خالفها من اهتدى بها مهتد الحديث.

وكان مالك يعجبه كلامه جدا وعن حذيفة قال اتبعوا آثارنا فإن أصبتم فقد سبقتم سبقا بينا وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالا بعيدا وعن ابن مسعود نحوه فقال اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعنه أنه مر برجل يقص في المسجد ويقول سبحوا عشرا وهللوا عشرا فقال عبد الله إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل بل هذه بل هذه يعني أضل والآثار في هذا المعنى يكثر إيرادها وحسبك من ذلك دليلا مستقلا وهو: الرابع ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم وأن من أحبهم فقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام

(1)

.

وما ذكره المصنف هنا من حجية قول الصحابي يجب أن ينظر مع ما قرره ابن حزم - رحمه الله تعالى - في هذا الشأن، وبين أمره. وملخصه أن الحجة إنما هي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أوما أخذ منهما بطرق برهانية. قتأمل.

"المسألة العاشرة"

في بيان أن "ما كان مخبرا" - بكسر الباء بصيغة اسم الفاعل - "به الرسول" صلى الله عليه وسلم "من خبر" دنيوي أو أخروي "فهو كما يقول" فخبره عليه الصلاة والسلام كله صدق وحق "معتمد عليه فيما أخبرا" - الألف للإطلاق - "به" من خبر "و" كذا فيما أخبر به "عنه" أي عن نفسه "مطلقا" بلا تفصيل "حيث" ما "جرا" وورد أي سواء انبنى عليه في التكليف حكم أم لا؟ "كمثل ما إذا" كان "بحكم نطقا" سواء كان "أمرا" أو كان طلب كف "ونهيا فهو حق مطلقا".

(1)

الموافقات 4/ 56 - 59.

ص: 393

2514 -

مُتَّبَعَ الْحُكْمِ بِكُلِّ حَالِ

فِي الاعْتِقَادَاتِ وَفِي الأعْمَالِ

2515 -

لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَالإِلْهَامِ

فِيهِ وَالاطِّلَاعِ وَالْمَنَامِ

2516 -

لِأنَّهُ مُؤَيِّدٌ مَعْصُومُ

وَفي الْكَلَامِ حُكْمُ ذَا مَعْلُومُ

وهو كذلك "متبع الحكم" والمقتضى "بكل حال" سواء "في"ذلك "الاعتقادات وفي الأعمال" البدنية، "لا فرق" في ذلك "بين" ما كان حاصلا بسبيل "الوحي" وهو ما يخبر به الملك عن الله - تعالى - "و" ما كان من جهة "الإلهام" في حقه عليه الصلاة والسلام والإلهام هو النفث في الروع والإلقاء في النفس، ولا فصل "فيه" كما لا فرق بين ما ذكر "و" بين "الاطلاع" والكشف الذي يكون صلى الله عليه وسلم عليه "و" كذلك ما يرد في حال "المنام" من المغيبات التي تكون على وجه خارق للعادة، أو كيف ما كان فذلك كله معتبر يحتج به ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا "لأنه مؤيد" من رب العالمين بالتوفيق "معصوم" من همزات الشياطين، ومسالك الخطيئة، والمعصية، لا ينطق عن الهوى "وفي" علم "الكلام" الذي موضوعه العقائد "حكم ذا" وهو كونه عليه الصلاة والسلام معصوما، وكون كل ما يصدر عنه حق "معلوم" مفصل فيه المقال، فلا نطيل بالإحتجاج عليه، ولكنا نمثله ثم نبني عليه ما أردنا بحول الله. فمثاله قوله عليه الصلاة والسلام: إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فهذا بناء حكم على ما ألقي في النفسر. وقال عليه الصلاة والسلام أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر وفي حديث آخر آرى رؤياكم قد تواطت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر فهذا بناء لمن النبي صلى الله عليه وسلم على رؤيا النوم ونحو ذلك وقع في بدء الأذان وهو أبلغ في المسألة عن عبد الله بن زيد قال لما أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالرؤيا فقال إن هذه لرؤيا حق الحديث إلى أن قال عمر بن الخطاب والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد فذاك أثبت فحكم عليه الصلاة والسلام على الرؤيا بأنها حق وبنى عليها الحكم في ألفاظ الآذان. وفي الصحيح صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ثم انصرف فقال يا فلان ألا تحسن صلاتك ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه. إني والله الأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي فهذا حكم امرئ بني على الكشف ومن تتبع الأحاديث وجد أكثر من هذا، فإذا تقرر هذا فلقائل أن يقول قد مر قبل هذا في كتاب المقاصد قاعدة بينت أن ما يخص

ص: 394

2517 -

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَا

بِذَاكَ لِلأمَّةِ لَنْ يَعُمَّا

رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصنا وما يعمه يعمنا فإذا بنينا على ذلك فلكل من كان من أهل الكشف والاطلاع أن يحكم بمقتضى اطلاعة وكشفه ألا ترى إلى قضية أبي بكر الصديق مع بنته عائشة فيما نحلها إياه ثم مرض قبل أن تقبضه قال فيه وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله قالت فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركته إنما هي أسماء فمن الأخرى قال ذو بطن بنت خارجة أراها جارية وقضية عمر بن الخطاب في ندائه سارية وهو على المنبر فبنوا كما ترى على الكشف والاطلاع المعدود من الغيب وهو معتاد في أولياء الله تعالى وكتب العلماء مشحونة بأخبارهم فيه فيقتضي ذلك جريان الحكم وراثة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والجواب أن هذا السؤال هو فائدة هذه المسألة وبسببه جلبت هذه المقدمة وإن كان الكلام المتقدم في كتاب المقاصد كافيا ولكن نكتة المسألة هذا تقريرها. فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحة ما بين وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوما بلا خلاف إما بأنه لا يخطئ البتة وإما بأنه لا يقر على خطإ إن فرض فما ظنك بغير ذلك؟ فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله عز وجل وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان ويجوز أن تكون رؤياه حلما وكشفه غير حقيقي وإن تبين في الوجود صدقة واعتيد ذلك فيه وطرد فإمكان الخطأ والوهم باق

(1)

.

"ومن "هذا الذي قرر "هنا" وثبت بالدليل والبرهان "يعلم" ويدرك على تمام "أن" هذا "الحكما" - الألف للإطلاق - الثابت في حقه عليه الصلاة والسلام مخصوص به و"بذاك" فإنه "للأمة لن يعما" - الألف للإطلاق - أي يشمل، فأي فرد منها كيفما كان حاله ومنزلته في الصلاح والتقوى لا يبنى على ما يصدر عنه حكم شرعي، لما تقدم ذكره.

وأيضا فإن كان مثل هذا معدودا في الاطلاع الغيبي فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، كما في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمَان: 34] إلى آخر السورة، وقال في الآية الأخرى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعَام: 59] واستثنى المرسلين في الآية الأخرى بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا

(1)

الموافقات 4/ 60 - 61 - 62.

ص: 395

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجنّ: 26، 27] الآية. فبقي من عداهم على الحكم الأول، وهو امتناع علمه وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عِمرَان: 179] الآية. وقال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النَّمل: 65] وفي حديث عائشة: ومن زعم أن محمدا يعلم ما في غد؛ فقد أعظم الفرية على الله وقد تعاضدت الآيات والأخبار وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر، حسبما مر في باب العموم من هذا الكتاب، فإذا كان كذلك؛ خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء صلوات الله عليهم في العلم بالمغيبات.

وما ذكر قبل عن الصحابة أو ما يذكر عنهم بسند صحيح؛ فمما لا ينبني عليه حكم، إذ لم يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوعه على حسب ما أخبروه هو مما يظن بهم، ولكنهم لا يعاملون أنفسهم إلا بأمر مشترك لجميع الأمة، وهو جواز الخطإ لذلك قال أبو بكر: أراها جارية؛ فأتى بعبارة الظن التي لا تفيد حكما، وعبارة يا سارية! الجبل مع أنها إن صحت لا تفيد حكما شرعيا، هي أيضا لا تفيد أن كل ما سواها مثلها، وإن سلم؛ فلخاصية أن الشيطان كان يفر منه؛ فلا يطور حول حمى أحواله التي أكرمه الله بها بخلاف غيره، فإذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغيب؛ فلا يكون على علم منها محقق لا شك فيه، بل على الحال التي يقال فيها: أرى أو أظن، فإذا وقع مطابقا في الوجود، وفرض تحققه بجهة المطابقة أولا، والاطراد ثانيا؛ فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكم لأنه صار من باب الحكم على الواقع؛ فاستوت الخارقة وغيرها. نعم تفيد الكرامات والخوارق لأصحابها يقينا وعلما بالله تعالى، وقوة فيما هم عليه وهو غير ما نحن فيه. ولا يقال: إن الظن أيضا معتبر شرعا في الأحكام الشرعية؛ كالمستفاد من أخبار الاحاد والقياس وغيرهما، وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علما مع الاطراد والمطابقة؛ فإنه يفيد ظنا، فيكون معتبرا.

لأنا نقول: ما كان من الظنون معتبرا شرعا؛ فلاستناده إلى أصل شرعي حسبما تقدم في موضعه من هذا الكتاب، وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني، هذا وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ثبت ذلك بالنسبة إليه؛ فلا يثبت بالنسبة إلينا لفقد الشرط وهو العصمة، وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط باتفاق العقلاء

(1)

.

(1)

الموافقات 4/ 62 - 63.

ص: 396