الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الاجْتِهَادِ
2518 -
وَيرْجِعُ القَصْدُ بِحَيْثُ اجْتُهِدَا
…
إِلَى اجْتِهَادٍ وَلِفَتْوىً وَاقْتِدَا
2519 -
فَانْحَصَرَ الْكَلَامُ فِي أَطْرَافِ
…
ثَلَاثَةٍ بَيَانُهَا يُوَافِي
الطَّرَفُ الأَوَّلُ فيما يتعلق بالمجتهد من جهة الاجتهاد وفيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
2520 -
الاجْتِهَادُ كُلُّهُ ضَرْبَانِ
…
مُتَّصِلُ الْحُكْمِ مَدَى الزَّمَانِ
2521 -
دُونَ انْقِطَاعٍ وَهْوَ مَا تَعَلَّقَا
…
بِحَيْثُ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أُطْلِقَا
2522 -
وَأَنَّهُ لَا خُلْفَ فِي قَبُولِهِ
…
كَكُلِّ مَا يُؤْخَذُ مِن دَلِيلِهِ
2523 -
مُسْتَدْعِيًا لِلْبَحْثِ فِي تَعْيِينِ
…
مَحَلِّهِ بِمُوجِبٍ تَبْيِينِي
2524 -
كَمِثْلِ فَهْمِ مُدَّعِ مِنْ مُدَّعَا
…
عَلَيْهِ كَيْ يُنْفِذَ مَا قَدْ شُرِعَا
2525 -
وَلَا غِنَى عَنْهُ لِكُلِّ مُجْتَهِدْ
…
بَلْ لِلمُكَلَّفِينَ حُكْمُهُ اعْتُمِدْ
2526 -
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا يَرْتَفِعْ
…
لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ وَهْوَ مُمْتَنِعْ
2527 -
وَبَعْضُهُ صَحَّ بِهِ التَّقْلِيدُ
…
فِيمَا فِي الأنْوَاعِ لَهُ وُجُودُ
2528 -
لَاكِنَّ الاجْتِهَادَ فِي الأَنْوَاعِ لَا
…
يَكْفِي فِي الأشْخَاصِ إِذَا تُؤُمِّلَا
2529 -
ثَانِيهِمَا الْمُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَا
…
وَهْوَ إِلَى ثَلَاثَةٍ تَنَوَّعَا
2530 -
الأوَّلُ التَّنْقِيحُ لِلْمَنَاطِ
…
فِي جُمْلَةِ أَوْصَافٍ بِهَا النَّصُّ حَفِي
2531 -
فَيَحْصُلُ التَّنْقِيحُ فِيهَا بِالنَّظَرْ
…
لِمَيْزِ مُلْغَىً شَأْنُهُ وَمُعْتَبَرْ
2532 -
كَمِثْلِ مَا فِي قِصَّةِ الْموَافِي
…
مُنْتَهِكِ الصِّيَامِ مِنْ أَوْصَافِ
2533 -
وَهْوَ مِنَ التَّأوِيلِ لِلظَّوَاهِرِ
…
وَخَارجٌ عَنِ الْقِيَاسِ الصَّادِرِ
2534 -
الثَّانِ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ حَيْثُ مَا
…
لَمْ يَكُ نَصٌّ بِالْمَنَاطِ أَعْلَمَا
2535 -
وَنيلَ بِالْبَحْثِ وَالاجْتِهَادِ
…
وَهْوَ قِيَاسِيٌّ فِي الاعْتِدَادِ
2536 -
وَالثَّالِثُ التَّحْقِيقُ لِلْمَنَاطِ مَعْ
…
وُجُودِ تَخْصِيصٍ الْفَرْقُ يَقَعْ
2537 -
كَأَنَّه تَحَقُّقٌ مَنَاطَ مَا
…
مَنَاطُ حُكْمِهِ الأعَمُّ عُلِمَا
2538 -
وَأَنَّهُ بِحَسَبِ الأَشْخَاصِ
…
وَوَاقِعٌ مِنْ أُولي الاخْتِصَاصِ
2539 -
لِكَوْنِهِ مِثْلَ الطَّبِيبِ يُعْطِي
…
كُلَّ امْرِئٍ مُصْلِحَهُ بِالْقِسْطِ
2540 -
وَكَمْ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مِنْ خَبَرْ
…
يَشْهَدُ بِاعْتِبَارِهِ وَمِنْ أَثَرْ
"
المسألة الثانية
"
2541 -
مَقَامُ الاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ اسْتَقَرْ
…
لِكُلّ عَالِمٍ بِوَصْفَيْنِ اشْتَهَرْ
2542 -
الْفَهْمُ لِلْمَقَاصِدِ الشَّرعِيَّةْ
…
عَلَى كمَالٍ حَالُهُ مَرْعِيَّةْ
2543 -
ثُمَّ تَمَكُّنٌ مِنِ اسْتِنْبَاطِ مَا
…
رَامَ تَنَزُّلًا عَلَى مَا فَهِمَا
2544 -
وَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى حُصُولِ
…
مَعَارِفٍ تَهْدِي إِلَى السَّبِيلِ
"تنبيه"
2545 -
مُجْتَهِدٌ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ يَلْزَمُهْ
…
عُمُومُ الاجْتِهَادِ فِيمَا يَعْلَمُهْ
2546 -
مِمَّا لَهُ بِالاجْتِهَادِ الْمُوجِبِ
…
تَعَلُّقٌ غَيْرُ اللِّسَانِ الْعَرَبي
2547 -
أَعْنِي سِوَى الْغَرِيبِ وَالتَّصْرِيفِ
…
وَمَا يَخُصُّ الشِّعْرَ فِي التَّألِيفِ
2548 -
فأَوَّلٌ دَلِيلُهُ مِنَ النَّظَرْ
…
وَالثَّانِ مِمَّا فِي الْمَقَاصِدِ اسْتَقَرْ
2549 -
وَالاجْتِهَادُ بَوْنُهُ فِي الرُّتَبِ
…
بِحَسَبِ الْفَهْمِ لِسَانَ العَرَبِ
"
المسألة الثالثة
"
2550 -
أَنَّ فُرُوعَ الشَّرْعِ كَالْقَوَاعِدِ
…
تَرْجِعُ فِي الحُكْمِ لِقَوْلٍ وَاحِدِ
2551 -
وَلَا يَصِحُّ غَيْرُ ذَاكَ فِيهِ
…
وَكَمْ مِنَ الآيَاتِ تَقْتَضِيهِ
2552 -
وَلَازِمٌ فِي الْعَكْسِ أَنْ يُكَلَّفَا
…
غَيْرُ مُطَاقٍ وَهْوَ لِلْمَنْعِ اقْتَفَا
2553 -
وَالعيُ لِلنَّسْخِ وَللتَّرْجِيحِ
…
قَاضٍ لِمَا قُرِّرَ بِالتَّصْحِيحِ
2554 -
وَلَيْسَ فِي مَجَالِ الاجْتِهَادِ
…
نَقْضٌ لِمَا مَرَّ فِي الاسْتِشْهَادِ
2555 -
فَإنَّهُ مِمَّا بِهِ الأدِلَّةْ تَعَارَضَتْ
…
تَفْصِيلًا أَوْ فِي الْجُمْلَةْ
2556 -
وَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى الأنْظَارِ
…
لَا نَفْسِ الأمْرِ عِنْدَ الاعْتِبَارِ
2557 -
وَمِنْهُ الاخْتِلَافُ لِلصَّحَابَةْ
…
الْحُكْمُ وَاحِدٌ بِلَا اسْتِرَابَهْ
2558 -
وَمَا أَتَى فِي شَأْنِ الاقْتِدَاءِ
…
بِأَيِّهِمْ كَانَ فَفِي ابْتِدَاءِ
2559 -
أَوْ بِاعْتِبَارِ قُطْرٍ أَوْ زَمَانِ
…
وَذَا هُوَ التَّوْسِيعُ بِالْبَيَانِ
2560 -
وَلَا بِوَقْعِ الْمُتَشَابِهَاتِ
…
أَعْنِي بِهَا نَوْعَ الْحَقِيقِيَّاتِ
2561 -
فَإِنَّهَا لِلابْتِلَاءِ وُضِعَتْ
…
لَا أَنَّهَا لِلْاخْتِلَافِ شُرِعَتْ
2562 -
وَمَعَ ذَا فَالذَّمُّ فِيهَا وَارِدُ
…
لِمُخْطِئٍ فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدُ
2563 -
وَالاخْتِلَافُ غيْرُ حُجَّةٍ وَفي
…
رَدِّ التَّنَازُعِ دَلِيل اقْتُفِي
2564 -
وَالْوَاجِبُ التَّرْجِيحُ أَوْ تَوَقُّفُ
…
فِيمَا يُرَى دَلِيلُهُ يَخْتَلِفُ
2565 -
وَلَا يَجِوزُ عِنْدَهُ لِلطَّالِبِ
…
تَتَبُّعُ الرُّخْصَةِ فِي الْمَذَاهِبِ
2566 -
لِأنَّ فِي ذَاكَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَا
…
وَهْوَ مُضِلٌّ قَصْدُهُ عَنِ السُّوَا
2567 -
إِذْ حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ مُقْتَضَاهَا
…
أَنْ تَخْرُجَ النُّفُوسُ عَنْ هَوَاهَا
"
فصل
"
2568 -
وَمِنْ هُنَا يُمْنَعُ مَنْ يُقَلّدُ
…
الأخْذُ بِالتَّخْيِيرِ فِيمَا يَرِدُ
2569 -
فِيهِ اخْتِلَافُ مُفْتِيَيْنِ بَلْ يَقِفْ
…
إِنْ كَانَ بِالتَّرْجِيحِ غَيْرَ مُتَّصِفْ
2570 -
إِذْ نِسْبَةُ الْمُفْتِي إِلَى الْمُقَلِّدِ
…
كنِسْبَةِ الدَّلِيلِ لِلْمُجْتَهِدِ
2571 -
وَالرَّعْيُ لِلْخِلَافِ مُقْتَضَاهُ
…
إِعْمَالُ مَرْجُوحٍ بِمَا قَوَّاهُ
2572 -
فِي الْجَانِبِ الآخَرِ لِلتَّلَافِي
…
بَعْدَ الْوُقُوعِ فَانْتَفَى التَّنَافِي
"
المسألة الرابعة
"
2573 -
إِنَّ مَجَالَ الاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرْ
…
مَا كَانَ دَائِرًا بِمُقْتَضَى النَّظَرْ
2574 -
بَيْنَ مَحَلَّىْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتِ
…
وُضُوحُ قَصْدِ الشَّرْعِ فِيهِ آتِ
2575 -
بَيَانُ ذَا كُلُّ خِطَابِ وَاقِعِ
…
لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ قَصْدُ الشَّارعِ
2576 -
فِي جِهَةِ النَّفْيِ أَوِ الإِثْبَاتِ
…
فَذَاكَ نَوْعُ الْمُتَشَابِهَاتِ
2577 -
وَمَا بِهِ الْقَصْدُ بَدَا بِالْقَطْعِ
…
فَذَاكَ قِسْمُ الْوَاضِحَاتِ الْمَرْعِي
2578 -
وَلَا مَجَالَ فِيهِ بَعْدُ لِلنَّظَرْ
…
فِيمَا بِهِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا ظَهَرْ
2579 -
وَمَا بَدَا ظَنًّا فَذَا الْمُرَدَّدُ
…
وَالضَّعْفُ كَالْقُوَّةِ فِيهِ يُوجَدُ
2580 -
فَغَيْرُ مَا يَقْوَى لِجَانِبٍ رَجَعْ
…
لِلْمُتَشَابِهَاتِ حَيْثُ مَا يَقَعْ
2581 -
وَمَا بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ تَظْهَرُ
…
قُوَّتُهُ فَذَاكَ فِيهِ النَّظَرُ
2582 -
تمَّ ثُبُوتُ الضِّدِ مَهْمَا ثَبَتَا
…
مَجْرَاهُ كالنَّفْيِ بِحَيْثُ مَا أَتَا
2583 -
وَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِثْلُ الْغَرَرْ
…
إِذْ فِيهِ مَا يُلْغَى وَفِيهِ مُعْتَبَرْ
2584 -
وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا قَدْ يُرَا
…
يُمْكِنُ أَنْ يُلْغَى وَأَنْ يُعْتَبَرَا
"
تنبيه
"
2585 -
عِلْمُ مَوَاقِعِ الْخِلَافِ الْبَادِ
…
مُرَشّحٌ لِمَرْقَى الاجْتِهَادِ
2586 -
وَذَاكَ قَصْدُ كُلِّ مَنْ حَضَّ عَلَى
…
مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ أَنْ تُحَصَّلَا
"
المسألة الخامسة
"
2587 -
وَحَيْثُ الاجْتِهَادُ فِي اسْتِنْبَاطِ مَا
…
إِلَى النُّصُوصِ حُكْمُهُ قَدِ انْتَمَا
2588 -
فَالْعِلْمُ بِاللِّسَانِ شَرْطٌ فِيهِ
…
حَسَبَمَا قَدْ مَرَّ فِي التَّنْبِيهِ
2589 -
وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى اللِّسَانِ
…
بِحَيْثُ مَا جُرّدَ لِلْمَعَانِي
2590 -
مِنَ الْمَفَاسِدِ أَوِ الْمَنَافِعِ
…
بَلْ شَرْطُهُ الْعِلْمُ بِقَصْدِ الشَّارعِ
"
المسألة السادسة
"
2591 -
ثُمَّ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ قَدْ يُرَا
…
تَعَلُّقٌ لِلاجْتِهَادِ نَظَرَا
2592 -
فَذَا لِقَصْدِ الشَّرْعِ لَا يَفْتَقِرُ
…
كَمَا اللِّسَانُ فِيهِ لَا يُعْتَبَرُ
2593 -
وَذَاكَ كالْقَارِئ فِيمَا يَحْمِلُ
…
أَوْ صَاحِبِ الْحَدِيتِ فِيمَا يَنْقُل
"
المسألة السابعة
"
2594 -
وَالاجْتِهَادُ مَعَ ذَا ضَرْبَانِ
…
مُعْتَبَر شَرْعًا لِأَهْلِ الشَّانِ
2595 -
وَهْوَ الذِي يَصْدُرُ عَمَّنْ أَحْكَمَا
…
أُصُولَهُ وَذَاكَ مَا تَقَدَّمَا
2596 -
ثَانِيهِمَا مَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرْ
…
لِكَوْنِهِ عَنْ غَيْرِ أَهْلِهِ صَدَرْ
2597 -
وَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى الأَهْوَاءِ
…
وَذَمهُ لَيْسَ بِذِي خَفَاءِ
"
المسألة الثامنة
"
2598 -
الخَطَأُ الآتِي فِي الاجْتِهَادِ
…
فِيمَا الدَّلِيلُ فِيهِ غَيْرُ بَادِ
2599 -
حَتى يُرَى الْمَفْهُومُ غَيْرَ مَا قُصِدْ
…
أَوْ حَيْثُ عِرْفَانُ الدَّلِيلِ قَدْ فُقْدْ
2600 -
وَمَوْقِعُ الْخَطَأْ فِي الْكُلِّيِّ
…
أَشَدُّ حَالًا مِنْهُ فِي الْجُزْئِيِّ
2601 -
وَزَلَّةُ الْعَالِمِ لَا تُعْتَمَدُ
…
فِي مَأْخَذِ الْعِلْمِ وَلَا تُقَلَّدُ
"
فصل
"
2602 -
وَفِي الْخِلَافِ بَعْدُ لَا يُعْتَدُّ
…
بِهَا وِلَا فِي بَابِهِ تُعَدُّ
2603 -
وَإِنَّمَا تُذْكَرُ تَنْبِيهًا عَلَا
…
أَنْ يَتَحَاشَى مِثْلَهَا إِنْ نَقَلَا
2604 -
وَهْيَ مُنَافَاةُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِي
…
الْمُقْتَفَى سَبِيلُهُ فِي الشَّرْعِ
2605 -
وَأَهْلُ الاجْتِهَادِ يَعْرِفُونَا
…
مَوْضِعَهَا مَعْرِفَةً يَقِينَا
"
المسألة التاسعة
"
2606 -
وَعَارِضٌ لِقِسْمِ غَيْرِ الْمُعْتَبَرْ
…
الاعْتِقَادُ أَنَّهُ أَهْلُ النَّظَرْ
2607 -
وَخُلْقُهُ إِنْ كَانَ فِي جُزْئِيِّ
…
فَهْوَ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْكُلِّيِّ
2608 -
مِمَّا يُرَى فِي الشَّرْعِ ذَا اسْتِقْلَالِ
…
فِي الاعْتِقَادَاتِ أَوِ الأعْمَالِ
2609 -
فَهْوَ بِأَخْذِ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ
…
يَقْصِدُ أَنْ يَهْدِمَ كُلِّيَاتِهِ
2610 -
وَذَلكَ رَاجِعٌ إِلَى الأهْوَاءِ
…
الْمُبْدِيَاتِ تَرْكَ الاهْتِدَاءِ
2611 -
وَأَصْلُ هَذَا الْقِسْمِ بِالتَّفْصِيلِ
…
مُسْتَوْضَحٌ مِنَ ءَايَةِ التَّأْوِيلِ
2612 -
وَقَدْ أَتَى الْحَدِيثُ بِالتَّحْذِيرِ
…
مِنْ مُقْتَفِي مُشْتَبِهِ الأُمُورِ
"
فصل
"
2613 -
وَجَاءَ أَيْضًا فِيهِ عَدُّ الْفِرَق
…
مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لَهَا مُحَقَّقِ
2614 -
وَإنَّمَا تُذْكَرُ بِالأوْصَافِ
…
لِيُتَّقَى مِنْ حَالِهَا الْمُنَافِي
2615 -
وَقَدْ أَتَى فِي بَعْضِهَا التَّعْيِينُ
…
حِينَ وَجَبْ بِفُحْشِهَا التَّبْيِينُ
2616 -
إِذًا فَفَاحِشٌ يُشَاعُ قَوْلَا
…
وَغَيْرُهُ عَنْهُ السُّكُوتُ أَوْلَى
2617 -
لَاكِنَّ ذَا تَظَاهُرٍ مَقْصُودِ
…
يُقْصَدُ بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّشْرِيدِ
" فصل"
2618 -
ثُمَّ لَهَا عَلَامَةٌ جُمْلِيَّةْ
…
حَاصِلُهَا مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِيَّةْ
2619 -
فِي الافْتِرَاقِ وَفِي الاقْتِفَاءِ
…
لِلْمُتَشَابِهَاتِ بِالأهْوَاءِ
2620 -
ثُمَّ عَلَامَات عَلَى التَّفْصِيلِ
…
بِحَسَبِ الآتِي مِنَ الدَّلِيلِ
" فصل"
2621 -
وَالْعِلْمُ قِسْمَانِ فَقِسْمٌ نَشْرُهُ
…
مُطَّلَبٌ وَلَا يَجُوزُ سَتْرُهُ
2622 -
وَذَاكَ جُلُّ الْعِلْمِ بِالْمَشْرُوعِ
…
فَكَتْمُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَمْنُوعِ
2623 -
ثَانِيهِمَا مَا نَشْرُهُ لَا يُطْلَبُ
…
مُطْلَقًا أَوْ فِي حَالَةٍ يُجْتَنَبُ
2624 -
كَالْمُتَشَابِهَاتِ وَالتَّبْيِينِ
…
لِحَالَةِ الْفِرَقِ بِالتَّعْيِينِ
2625 -
وَبَتِّ عِلْمِ الْمُنْتَهِي لِلْمُبْتَدِى
…
وَعِلَلِ التَّشْرِيعِ لِلْمُقَلِّدِ
2626 -
وَذِكْرِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَمَلُ
…
وَمَا بِالاسْتِنْبَاطِ فَرْضًا يُنْقَلُ
"
تنبيه
"
2627 -
إِنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ الْمُضِلَّةْ
…
مِنْ جُمْلَةِ الأمَّةِ بِالأدِلَّةْ
2628 -
وَمَا أَتَى التَّكْفِيرُ فِيهِ مِنْها
…
فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِذْ ذَا عَنْهَا
"
المسألة العاشرة
"
2629 -
ثُمَّ لِلَافْعَالِ مَئَالٌ مُعْتَبَرْ
…
فِي الشَّرْعِ مَقْصُودٌ لَهُ فِيهِ النَّظَرْ
2630 -
وَذَاكَ فِي الأفْعَالِ بِالإِطْلَاقِ
…
عَلَى خِلَافٍ أَوْ عَلَى وِفَاقِ
2631 -
وَذَا بِالإِستِقْرَاءِ صَحَّ وَالنَّظَرْ
…
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرْ
2632 -
وَهْوَ أَمْرٌ صَعْبٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ
…
لَاكِنَّهُ مِنْ بَعْدُ عَذْبُ الْمَوْرِدِ
2633 -
وَهَذَا الأصْلُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ
…
قَوَاعِدٌ رَاجِعَةٌ إِلَيْه
2634 -
كَالرَّعْيِ لِلخِلَافِ وَالذَّرَائِعِ
…
وَأَصْلْ الاسْتِحْسَانِ فِي الْمَوَاقِعِ
2635 -
وَكلُّهَا مَعْدُودَة لِمَالِكِ
…
فِيمَا لَهُ مِنْ حَسَنِ الْمَدَارِكِ
2636 -
وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ بَابُ الْحِيَلِ
…
لِقَلْبِ حُكْمٍ وَسُقُوطِ الْعَمَلِ
2637 -
وَمِنْهُ يُسْتَمَدُّ الأصْلُ الجَارِي
…
فِي أَخْذِ مَطْلُوبٍ مَعَ الطَّوَارِي
"
المسألة الحادية عشرة
"
2638 -
وَهَاهُنَا أَسْبَابُ الاخْتِلَافِ
…
تُذْكَرُ تَفْصِيلًا بِقَوْلٍ شَافِ
2639 -
مِنْ ذَاكَ الاشْتِرَاكُ فِي الإِفْرِادِ
…
أَوْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ وَالإِسْنَادِ
2640 -
وَدَوَرانُ اللَّفْظِ فِي الْحَقِيقَهْ
…
وَعَكْسُهَا وَيَقْتَفِي طَرِيقَهْ
2641 -
أَوِ الدَّلِيلُ دَارَ مُقْتَضَاهُ
…
مَا بَيْنَ الاسْتِقْلَالِ أَوْ سِوَاهُ
2642 -
أَوْ بَيْنَ مَا يَخُصُّ أَوْ يَعُمُّ
…
أَوْ كَانَ بَعْضٌ نَسْخَهُ يَؤُمُّ
2643 -
أَوْ كانَ آتِيًا عَلَى احْتِمَالِ
…
فِيهِ لِحُكْمَيْنِ فِي الاسْتِدْلَالِ
2644 -
وَحَالُ الاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ
…
أَوِ الرِّوَايَاتِ التِي لِلَّناسِ
2645 -
وَعُدَّ فِيهَا جُمْلَةٌ مِنَ الْعِلَلْ
…
فَسَادُ الإسْنَادِ لِمَا قَدِ انْتَقَلْ
2646 -
وَالنَّقْلُ بِالْمَعْنَى وَمِنْ كِتَابِ
…
وَالْجَهْلُ بِالْخَطِّ وَبِالْإِعْرَابِ
2647 -
وَالْحَذْفُ لِلْجِزْءِ أَوِ اسْقَاطُ السَّبَبْ
…
أَوْ بِسَمَاعِ الْبَعْضِ فِي حِينِ الطَّلَبْ
"
المسألة الثانية عشرة
"
2648 -
مَا خَالَفَ الْمَشْرُوعَ قَطْعًا لَا يُعَدْ
…
فِيمَا مِنَ الْخِلَافِ حُكْمًا يُعْتَمَدْ
2649 -
كَذَاكَ مَا ظَاهِرُهُ الْخِلَافُ
…
وَفِي الْحَقِيقَةِ لَهُ ائتِلَافُ
2650 -
وَذَاكَ فِي التَّفْسِيرِ مِمَّا يَكْثُرُ
…
وَالشَّرْحُ لِلسُّنَّةِ فِيهِ يَصْدُرُ
2651 -
ثُمَّ لِذَا الْخِلَافِ حَيْثُ يُنْقَلُ
…
جُمْلَةُ أَسْبَابٍ هُنَا تُفَصَّلُ
2652 -
مِنْهَا شُمُولُ لَفْظِ مَا يُفَسَّرُ
…
لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي تُذْكَرُ
2653 -
وَكَوْنُ الألْفَاظِ لَهَا اتِّفَاقُ
…
فِي حُكْمِ مَعْنىً خَصَّهُ الْمَسَاقُ
2654 -
وَمَا يُرَى تَفْسِيرُهُ إِذْ عَنَّا
…
مَرْجِعُهُ لِلُغَةٍ وَمَعْنَا
2655 -
أَوْ مَا بِهِ الْخِلَافُ غَيْرُ وَارِدِ
…
مِنْ أَصْلِهِ عَلَى مَحَلِّ وَاحِدِ
2656 -
وَمَا بِهِ يَخْتَصُّ مَنْ يَجْتَهِدُ
…
عِنْدَ رُجُوعِهِ لِمَا يَعْتَمِدُ
2657 -
وَمَا بِهِ الْخِلَافُ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلْ
…
بِالاخْتِيَارِ لَا عَلَى الْحُكْمِ اشْتَمَلْ
2658 -
وَحَيْثُمَا مُفَسِّرٌ قَدْ فَسَّرَا
…
بِأَوْجهٍ مُحْتَمِلَاتٍ نَظَرَا
2659 -
يُبْنَى عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ حُكْمُهُ
…
مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ يَلُوحُ رَسْمُهُ
2660 -
أَوْ أَنْ يُرَى الْخِلَافُ فِي تَنْزِيلِ
…
مَعْنىً أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي تَأْوِيلِ
2661 -
أَوْ أَنْ يَكُونَ الْخُلْفُ فِي مُجَرَّدِ
…
عِبَارَةٍ مُوضِحَةٍ لِلْمَقْصِدِ
"
فصل
"
2662 -
وَقَدْ يُقَالُ أَنَّ مَا يُعْتَدُّ
…
بِهِ مِنَ الْخِلَافِ إِذْ يُعَدُّ
2663 -
يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْوِفَاقِ
…
بِالْقَصْدِ لِلْمَشْرُوعِ بِالإِطْلَاقِ
2664 -
وَصَارَ الاخْتِلَافُ فِي الْمَوَاقِعِ
…
فِيمَا يُوَدِّيهِمْ لِقَصْدِ الشَّارعِ
" فصل"
2665 -
ثُمَّ يُرَى الْخِلَافُ فِي الْحَقِيقَهْ
…
خِلَافَ جَاعِلِ الْهَوَى طَرِيقَهْ
2666 -
وَقَدْ مَضَى عَدَمُ الاعْتِدَادِ
…
بِخُلْفِهِ مِنَ الدَّلِيلِ الْهَادِي
2667 -
وَنَقْلُ قَوْلِهِ لِأنْ يُبَيَّنَا
…
فَسَادُهُ بِحَيْثُ مَا تَعَيَّنَا
2668 -
وَالْحَاصِلُ اتِّحَادُ حُكْمِ الشَّرْعِ
…
فِي كُلِّ أَصْلٍ يُقْتَفَى وَفَرْعِ
"
المسألة الثالثة عشرة
"
2669 -
لِطَالِبِ الْعِلْمِ ثَلَاثُ رُتَبِ
…
رُتْبَةُ مَنْ قَدِ ارْتَقَى فِي الطَّلَبِ
2670 -
إِلَى مَحَلِّ الاهْتِدَاءِ لِلنَّظَرْ
…
فِي شَأْنِ مَا يَحْفَظُهُ قَدْ اسْتَقَرْ
2671 -
وَالْبَحْثِ عَنْ أَسْبَابِهِ مُفْتَقِرَا
…
لِلشَّيْخِ فِيمَا يَسْتَفِيدُ نَظَرَا
2672 -
وَشَيْخُهُ يُعِينُ فِي التَّفَهُّمِ
…
وَرَفْعِ إِشْكَالٍ وَصَرْفِ مُوهِمِ
2673 -
فَلَازِمٌ لِمِثْلِ ذَا التَّقْلِيدُ
…
وَأَنَّهُ فِي حَقِّهِ الْمَحْمُودُ
2674 -
وَرُتْبَةٌ أُخْرَى لِمَنْ تَحَقَّقَا
…
بِفَهْمِ مَعْنَى مَا اسْتَفَادَ مُطْلَقَا
2675 -
حَسَبَمَا أَدَّى لِمُقْتَضَاهُ
…
بُرْهَانُهُ الشَّرْعِيُّ وَاقْتَضَاهُ
2676 -
فَهْوَ عَلَى بَيِّنَةٍ بِحَيْثُ لَا
…
يَعْتَرِضُ الشَّكُّ لِمَا قَدْ حَصَّلَا
2677 -
لَاكنَّهُ بِهِ اسْتَمَرَّ الْحَالُ
…
فِي شَأْنِ مَا كَانَ لَهُ اسْتِقْلَالُ
2678 -
فِي حِفْظِهِ فَزَلَّ عَنْهُ حُكْمَا
…
مَعْ كَوْنِهِ لَمْ يَعْرَ عَنْهُ فَهْمَا
2679 -
فَهَلْ لِمَنْ يَبْلُغُهَا أَنْ يَجْتَهِدْ
…
هِيَ مَحَلُّ الْبَحْثِ وَالْخُلْفُ يَرِدْ
2680 -
وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ فِيهَا أَمْثِلَةْ
…
كمِثْلِ الأخْذِ بِالنُّصُوصِ الْمُعْمَلَةْ
2681 -
وَالنَّفْيِ لِلْقِيَاسِ شَأْنُ الظَّاهِرِي
…
أَوْ مُعْمِلٌ لِلرَّأْيِ فِي الْمَصَادِرِ
2682 -
دُونَ مُرَاعَاةٍ وَلَا اعْتِبَارِ
…
مُخَالِفٍ لَهُ مِنَ الأخْبَارِ
2683 -
فَالظَّاهِرِيُّ مَالَ لِلْمَسْمُوعِ
…
وَرَدِّهِ كُلِّيَّةَ الْمَشْرُوعِ
2684 -
فَهْوَ بِذَاكَ غَيْرُ ذِي الْتِفَاتِ
…
مَا لِلْمَعَانِي مِنْ خُصُوصِيَّاتِ
2685 -
وَذُو الْقِيَاسِ جَرَّدَ الْمَعَانِي
…
وَعَدَّهَا كُلِّيَّةً فِي الشَّأْنِ
2686 -
مُطَّرِحًا لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَمَا
…
مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ فِيهِ يُمِّمَا
2687 -
وَرُتْبَةُ الْجَامِعِ لِلأمْرَيْنِ
…
وَالْمُقْتَفِى شَرْعًا كِلَا الْحُكْمَيْنِ
2688 -
رُتْبَةُ مَنْ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةْ
…
وَهْيَ لِلاجْتِهَادِ أَقْصَى غَايَةْ
2689 -
إِذْ نَزَّلَ الْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةْ
…
عَلَى خُصُوصِيَّاتِهَا الْفَرْعِيَّةْ
2690 -
بِحَيْثُ لَا يَصُدُّهُ اسْتِبْصَارُ
…
فِي طَرَفٍ عَمَّا لَهُ اعْتِبَارُ
2691 -
وَذَا هُوَ الْعَالِمُ وَالرَّبَّانِي
…
وَالرَّاسِخُ الْمَحْمُودُ فِي الْقُرْآنِ
2692 -
وَهْوَ لَهُ عَلَامَتَانِ الأولَى
…
جَوَابُ مَنْ يَسْأَلُهُ تَفْصِيلَا
2693 -
عَلَى الذِي يَلِيقُ بِالسُّؤَالِ
…
فِيمَا يَخُصُّهُمْ مِنَ الأحْوَالِ
2694 -
وَكَوْنُهُ يَنْظُرُ فِي الْمَئَالِ
…
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجِيبَ فِي سُؤَالِ
"
المسألة الرابعة عشرة
"
2695 -
قَدْ مَرَّ فِي الْقَوَاعِدِ الْمَكِّيَّةْ
…
بِأَنَّهَا الأوَائِلُ الْكُلّيَّةْ
2696 -
وَأَنَّهَا أَتَتْ عَلَى الإِطْلَاقِ
…
بِمُقْتَضَى مَكَارِمِ الأخْلَاقِ
2697 -
وَالْمَدَنِيُّ شَأْنُهُ التَّكْمِيلُ
…
وَالشَّرْحُ وَالبَيَانُ وَالتَّفْصِيلُ
2698 -
أَكْثُرُهُ آتٍ لِجزْءٍ ثَابِتٍ
…
وَمَعَ أَسْبَابٍ وَفِي حَالَاتِ
2699 -
فَوَقَعَ التَّحْدِيدُ لِلأحْكَامِ
…
عِنْدَ اتِّسَاعِ خُطَّةِ الإِسْلَامِ
2700 -
وَطَلَبِ الْعِبَادِ لِلْحُظُوظِ فِي
…
جُمْلَةِ مَا لَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ
2701 -
فَمُقْتَضَى التَّشْرِيعِ كُلِّيَاتُ
…
مُطْلَقَةُ الْحُكْمِ وَجُزْئِيَّاتُ
2702 -
فَمَا لِكُلِّيَّاتِهِ قَدِ انْتَمَا
…
يُشَارِكُ الْجُمْهُورُ فِيهِ الْعُلَمَا
2703 -
وَمَا بِجُزْءٍ ثَابِتٍ قَدِ اسْتَقَرْ
…
يَخْتَصُّ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ بِالنَّظَرْ
"
فصل
"
2704 -
أَرْبَابُ الأحْوَالِ لهُمْ مَجَالُ
…
لَيْس لِغَيْرِهِمْ بِهِ اسْتِقْلَالُ
2705 -
إِذْ أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَادَةْ
…
بِأَكمَلِ الحَالَاتِ وَالْعِبَادَةْ
2706 -
وَآثَرُوا الْقَوَاعِدَ الْمَكِّيَّةْ
…
لِأنَّهَا الْعَزَائِمُ الأصْلِيَّةْ
2707 -
مَعْ كَوْنِهَا جَوَامِعَ التَّكْلِيفِ
…
غَيْرَ مَنَاطِ النَّسْخِ وَالتَّخْفِيفِ
2708 -
حَسْبَمَا قَدْ كَانَ فِيهَا الشَّأْنُ
…
لِسَابِقِي الأُمَّةِ حَيْثُ كَانُوا
2709 -
وَمُقْتَضَى التَّحْدِيدِ وَالتَّقْدِيرِ
…
هُوَ الذِي يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ
2710 -
فَهْوَ مَجَالٌ لاجْتِهَادِ الْفُقَهَا
…
لِيَقِفُوا الْجُمْهُورَ عِنْدَ مُنْتَهَا
"
الطرف الثاني" فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُجْتَهِدِ مِن أَحْكَامِ فَتوَاه، وفيه مسائل:
"
المسألة الأولى
"
2711 -
مُفْتِى الْوَرَى وَارِثُ ذِي النُّبُوَّةِ
…
وَقَائِمٌ مَقَامَهُ فِي الأمَّةِ
2712 -
لِأنَّهُ مُبَلِّغُ الأحْكَامِ
…
نِيَابَةً عَنْهُ إِلَى الأنَامِ
2713 -
وَشَارعٌ لِبَعْضِهَا بِالنَّظَرِ
…
فَهْوَ لِهَذَا بِاتِّبَاعِهِ حَرِي
2714 -
ثُمَّ إِذَا مَا صَحَّ بِالْبُرْهَانِ
…
فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَمْرٌ ثَانِ
"
المسألة الثانية
"
2715 -
فَتْوَى الْمَقَالِ هُوَ الأمْرُ الْجَارِي
…
وَقَدْ تُرَى بِالْفِعْلِ وَالإِقْرَارِ
2716 -
وَتَحْصُلُ الْفَتْوَى مِنَ الْفِعْلِ عَلَى
…
وَجْهَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ نُقِلَا
2717 -
الأوَّلُ الْمَقْصُودُ لِلأفْهَامِ فِي
…
مَعْهُودِ الاستِعْمَالِ لِلْمُكَلَّفِ
2718 -
كَمَا أَتَى فِي شأْنِ عَدِّ الشَّهْرِ
…
وَذَاكَ كَالْقَوْلِ الصَّرِيحِ يَجْرِي
2719 -
ثَانِيهِمَا مَا يَقْتَضِيهِ الْمَنْصِبُ
…
مِنِ اتِّبَاعِ مَا إِلَيْهِ يَذْهَبُ
2720 -
وَفِي خُذُوا عَنِّي وَصَلُّوا أَصْلُهُ
…
إِذًا فَمَنْ يُفْتِي كَذَاكَ فِعْلُهُ
2721 -
فَمَا بِهِ الْقَصْدُ إِلَى الْبَيَانِ
…
فَظَاهِرٌ فِي كُلِّ شَأْنٍ شَانِ
2722 -
وَغَيْرُ مَا يُقْصَدُ فِيهِ ذَلِكَا
…
فَإنَّهُ فِي حُكْمِهِ كذَلِكَا
2723 -
لِلإِرْثِ أَوْ لحِكْمَةِ التَّأَسِّي
…
بِفِعْلِ مَنْ لَهُ اعْتِبَارٌ حِسِّي
2724 -
إِذْ هُوَ سِرٌّ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ
…
لَا سِيَمَا مَعْ عَادَةِ التَّكَرُّرِ
2725 -
وَحَيْثُ يُلْفَى فَقْدُ هَذَا الشَّأْنِ
…
فِي مَوْضِعٍ فَمِنْ تَأَسٍّ ثَانِ
2726 -
وَقَدْ بَدَا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ
…
ذَاكَ بِمَوْضِعَيْنِ بِالتَّفْصِيلِ
2727 -
عِنْدَ دُعَائِهِ إِلَى الإِسْلَامِ
…
مَعْ مُوثِرِي عِبَادَةِ الأصْنَامِ
2728 -
تَأَسِّيًا فِي ذَاكَ بِالآبَاءِ
…
وَعِنْدَ هَذَا جِيءَ بِالدُّعَاءِ
2729 -
إِلَى التَّأسِّي بِالأبِ الْكَبِيرِ
…
تَلَطُّفًا بِحِكْمَةِ الخَبِبرِ
2730 -
فَكَانَ ذَاكَ سَبَبَ الإِذْعَانِ
…
وَالْكَفِّ عَنْ عِبَادَةِ الأوْثَانِ
2731 -
وَعِنْدَ سَبْقِهِمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ
…
وَأَخْذِهِمْ بِأَكْمَلِ الْحَالَاتِ
2732 -
وَمِثْلُ حُكْمِ الْفِعْلِ لِلإِقْرَارِ
…
لِأنَّهُ كَفٌّ عَنِ الإِنْكَارِ
"
المسألة الثالثة
"
2733 -
وَمُقْتَضَى الْعِلْمِ بِهِ الفُتْيَا تَصِحْ
…
لَا مَعْ خِلَافِهِ لأمْرٍ يَتَّضِحْ
2734 -
بِعَدَمِ الْوُثُوقِ أَنَّ مَا ظَهَرْ
…
مِنْهُ عَلَى مَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ صَدَرْ
2735 -
وَذَاكَ رَاجِعٌ لِلانْتِفَاعِ
…
بِالاقْتِدَاءِ وَبِالاتِّبَاعِ
2736 -
وَالْحُكْمُ فِي الْوُقُوعِ أَمْرٌ ثَانِي
…
مُفْتَقِرٌ لِلشَّرْحِ وَالْبَيَانِ
2737 -
فَمَنْ يُخَالِفْ فِعْلُهُ مَقَالَهْ
…
فَحُطَّهُ عَنْ رُتْبَةِ الْعَدَالَهْ
2738 -
لِلْفِسْقِ لَمْ يَصِحَّ الاقْتِدَاءُ
…
بِهِ وَلَمْ يُقْبَلْ لَهُ إِفْتَاءُ
2739 -
وَغَيْرُ مَنْ يَبْلُغُ ذَاكَ الْمَبْلَغَا
…
اِفْتِاؤُهُ قَوْلًا وَفِعْلًا سُوِّغَا
2740 -
فِي كُلِّ مَا جَاءَ عَلَى الْوِفَاقِ
…
لَا فِي الذِي خَالَفَ بِالإِطْلَاقِ
"
المسألة الرابعة
"
2741 -
وَبَالِغُ الذِّرْوَةِ فِي الإِفْتَاءِ
…
مَنْ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى السَّوَاءِ
2742 -
تَوَخِّيًا لِأوْسَطِ الأمُورِ
…
فِي كُلِّ مَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ
2743 -
مِنْ غَيْرِ شِدَّةٍ وَلَا انْحِلَالِ
…
إِذْ مَقْصِدُ الشَّرْعِ فِي الاعْتِدَالِ
2744 -
وَكَمْ لِهَذَا مِنْ دَلِيلٍ شَاهِدِ
…
وَمَرَّ مُقْتَضَاهُ فِي الْمَقَاصِدِ
" فصل"
2745 -
وَقَدْ يَسُوغُ مَعَ ذَا لِلْمُجْتَهِدْ
…
فِي نَفْسِهِ الشِّدَّةُ فِيمَا يَعْتَمِدْ
2746 -
لَا كِنَّ مَعْ تَبْيِينِهِ وَأَمْنِهِ
…
أَنْ يُقْتَدَى فِيمَا اقْتَفَى بِشَأْنِهِ
2747 -
ثُمَّ لِمَنْ قَلَّدَ أَنْ يَعْتَبِرَا
…
حَالَ التَّوَسُّطِ الذِي قَدْ قُرِّرَا
2748 -
فَيَتَحَرَّى جُهْدَ الاسْتِطَاعَهْ
…
مَذْهَبَ مَنْ تَخَيَّرَ اتِّبَاعَهْ
" فصل"
"
الطرف الثالث" فيما يتعلق بإعمال قول المجتهد المقتدى به وحكم الاقْتِدَاءِ به وفيه مسائل:
"
المسألة الأولى
"
2749 -
حَقُّ الْمُقَلِّدِ السُّؤَالُ لِلْعَمَلْ
…
فِي غَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ إِذَا نَزَلْ
2750 -
فَاللهُ لِلْعِبَادِ قَدْ تَعَبَّدَا
…
بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ كمَا قَدْ وَرَدَا
2751 -
وَشَاهِدٌ لِلْعِلْمِ بِالتَّقْدِيمِ
…
تَرَتُّبُ التَّقْوَى عَلَى التَّعْلِيمِ
2752 -
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُسَلَّمَهْ
…
لَا كِنَّ هَذَا سِيقَ كالْمُقَدِّمَهْ
"
المسألة الثانية
"
2753 -
سُؤَالُ مَنْ جَوابُهُ لَا يُعْتَبَرْ
…
فِي الشرْعِ لَا يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ النَّظَرْ
2754 -
لِأنَّ مَنْ يَسْأَلُ مَنْ لَا يَعْلَمُ
…
يَقُولُ عَلِّمْنِيَ مَا لَ اتَعْلَمُ
2755 -
لَا كِنْ إِذَا تَعَيَّنَ السُّوَالُ
…
كانَ لِمَنْ يَدْرِي لَهُ اسْتِقْلَالُ
2756 -
فَإِنْ يَكُنْ فِي نَظَرٍ قَدِ اتَّحَدْ
…
فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِي أَنْ يُعْتَمَدْ
2757 -
وَمَعْ تَعَدُّدٍ فَفِي الأصُولِ
…
خُيِّرَ أَوْ صُدَّ عَنِ الْمَفْضُولِ
2758 -
هَذَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الأقْوَالَا
…
فِي الْحُكْمِ قَبْلَ أَنْ أَرَى السُّوَالَا
2759 -
وَبَعْدَ عِرْفَانٍ بِهَا التَّرْجِيحُ
…
حَتْمٌ وَقَدْ مَرَّ لِذَا التَّصْحِيحُ
"
المسألة الثالثة
"
2760 -
وَحَيْثُمَا التَّرْجِيحُ قَدْ تَعَيَّنَا
…
فَهْوَ عَلَى نَوْعَيْنِ قَدْ تَبَيَّنَا
2761 -
نَوْعٌ يَعُمُّ وَهْوَ فِي الأصُولِ
…
مُقَرَّرُ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ
2762 -
لَاكِنْ هُنَا مَعْنىً حَفِيٌّ يَبْرُزُ
…
وَيَنْبَغِي فِي شَأْنِهِ التَّحَرُّزُ
2763 -
وَهْوَ خُرُوجُ مُعْمِلِي التَّرْجِيحِ
…
فِيهِ إِلَى التَّنْقِيصِ وَالتَّقْبِيحِ
2764 -
وَذَاكَ غَيْرُ السَّنَنِ الْمَأْثُورِ
…
وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى أُمُورِ
2765 -
مِنَ التَّغَالِي وَمِنَ التَّنَازُعِ
…
أَوِ التَّعَصُّبِ أَوِ التَّقَاطُعِ
2766 -
وَإِنَّمَا التَّرْجِيحُ بِالْفَضَائِلِ
…
وَبِالْمَزِيَّاتِ مِنَ الدَّلَائِلِ
2767 -
وَأَصْلُهُ السُّنَّةُ وَالْكِتَابُ
…
فَمِنْهُمَا لِحُكْمِهِ اقْتِضَابُ
2768 -
وَنَوْعُهُ الثَّانِي الذِي يَخُصُّ
…
يُذْكَرُ فِي بَابٍ بِهِ يَخْتَصُّ
"
المسألة الرابعة
"
2769 -
مَنْ حَصَلَتْ فِيهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ
…
شُرُوطُ الانْتِصَابِ لِلإِفْتَاءِ
2770 -
قِسْمَانِ قِسْمٌ هُوَ فِي مَقَالِهْ
…
وَفِعْلِهِ وَفي جَمِيعِ حَالِهْ
2771 -
جَارٍ عَلَى مَا تَقْتَضِي فُتْيَاهُ
…
فَذَاكَ لَا يَعْدِلُهُ سِوَاهُ
2772 -
وَمُقْتَضَى الإِفْتِاءِ مِنْهُ أَنْفَعُ
…
إِذْ مَا يَقُولُ فِي الْقُلُوبِ أَوْقَعُ
2773 -
وَالثَّانِ مَا لَيْسَ كَذَاكَ حَالُهُ
…
بَلْ خَالَفَتْ أَقْوَالَهُ أَفْعَالُهُ
2774 -
وَفِي اخْتِلَافِ حَالَةِ الْمُفْتِينَ فِي
…
تَطَابُقِ الْمَقَالِ وَالتَّصَرُّفِ
2775 -
يَرْجِعُ لِلْمُقَلِّدِ اتِّبَاعُ مَنْ
…
فِي غَالِبٍ إِلَى تَطَابُقٍ رَكَنْ
2776 -
وَرَاجِحٌ تَطَابُقُ النَّوَاهِي
…
فِي بَابِنَا هَذَا بِلَا اشْتِبَاهِ
2777 -
لِأنَّهُ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ
…
وَالاجْتِنَابُ آكَدُ الْحَالَاتِ
2778 -
بِكَوْنِ الأوْلَى الدَّرْءَ لِلْمَفَاسِدِ
…
وَكَوْنِهِ يُلْفَى بِفِعْلٍ وَاحِدٍ
2779 -
وَللذِي مِنَ الْحَدِيثِ يَشْهَدُ
…
بِأَنَّهُ فِي الاعْتِبَارِ أَوْكَدُ
"
المسألة الخامسة
"
2780 -
الْمُقْتَدَى بِفِعْلِهِمْ قِسْمَانِ
…
ذُو عِصْمَةٍ وَالْعَكْسُ مِنْهُ ثَانِ
2781 -
فَالْأَوَّلُ الثَّابِتُ بِالدَّلِيلِ
…
فِي حَقِّهِ الْعِصْمَةُ كَالرَّسُولِ
2782 -
وَأَهْلِ الإِجْمَاعَاتِ فِي الْمَسَالِكِ
…
وَفِعْلِ أَهْلِ طَيْبَةٍ لِمَالِكِ
2783 -
فَذَا إِذَا مَا الْمُقْتَدِي فِيهِ قَصَدْ
…
إيقَاعَهُ الْفِعْلَ الذِي قَدِ اعْتَمَدْ
2784 -
كَمِثْلِ مَا أَوْقَعَ ذَاكَ الْمُقْتَدَا
…
بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ بَدَا
2785 -
فَالاقْتِدَاءُ صَحَّ بِالدَّلِيلِ
…
حَسْبَمَا قُرِّرَ فِي الأصُولِ
2786 -
مَعْ فَهْمِ مَغْزَاهُ وَإِنْ لَمْ يُفْهَمِ
…
لَا فَرْقَ بَيْنَ وَاضِحٍ وَمُبْهَمِ
2787 -
مِثْلَ اقْتِدَا الصَّحَابَةِ التُّقَاةِ
…
فِي الْخَلْعِ للنَّعْلَيْنِ فِي الصَّلَاةِ
2788 -
فَإِنْ يَكُنْ نَوَاهُ فِيمَا فَعَلَا
…
مَعْ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلَا
2789 -
بِرَدِّهِ لِأحْسَنِ الْمَحَامِلِ
…
يَبْنِى عَلَيْهِ الْحُكْمَ فِي الْمَسَائِلِ
2790 -
فَذَاكَ فِي الشَّرْعِ بِحَيْثُ مَا بَدَا
…
لَيْسَ بِمُعْتَدٍّ بِهِ فِي الاقْتِدَا
2791 -
ثَانِيهِمَا يَأْتِي عَلَى أَقْسَامِ
…
مُنْتَصِبٍ بِمَقْصِدِ الإِعْلَامِ
2792 -
بِفِعْلِهِ كَسَائِرِ الْحُكَّامِ
…
لِكَوْنِهِمْ فِي مَقْطَعِ الأحْكَامِ
2793 -
فَمِثْلُ هَذَا الْقِسْمِ لَا إِشْكَالِ فِي
…
صِحَّةِ الاقْتِدَاء لِلْمُكَلَّفِ
2794 -
أَوْ مُتَعَيِّنٌ لَهُ التَّعَبُّدُ
…
مِنْ حَالِهِ فِي مَا إِلَيْهِ يَقْصِدُ
2795 -
فَالاحْتِمَالُ فِيهِ قَدْ يُوَازِي
…
فِي مُقْتَضٍ لِلْمَنْعِ وَالْجَوَازِ
2796 -
فَالْمَنْعُ مِنْ تَطَرُّقِ النِّسْيَانِ
…
إِلَيْهِ وَالْخَطَأ وَالْعِصْيَانِ
2797 -
وَقَدْ يُقَالُ الظَّنُّ فِيهِ غَالِبُ
…
وَللْجَوَازِ حُكْمُهُ يُنَاسِبُ
2798 -
أَوْ مَنْ لَهُ فِعْلٌ وَلَا قَرِينَهْ
…
لِلْقَصْدِ فِيهِ تَقْتَضِي تَعْيِينَهْ
2799 -
فَهَاهُنَا الْمَنْعُ لِلاقْتِدَاءِ
…
إِلَّا مَعَ الْبَحْثِ وَالاسْتِبْرَاءِ
"
المسألة السادسة
"
2800 -
لِطَالِبِ الْعِلْمِ كَمَا مَرَّ رُتَبْ
…
فَمَنْ لَهُ التَّقْلِيدُ حُكْمُهُ وَجَبْ
2801 -
فَإنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِفِعْلِهِ
…
كَمِثْلِ مَا لَا يُقْتَدَى بِقَوْلهِ
2802 -
وَمَنْ بِالاجْتِهَادِ قَدْ تَحَقَّقَا
…
فَهْوَ لِلإِسْتِفْتَاءِ أَهْل مُطْلَقًا
2803 -
وَفِعْلُهُ فِي الاقْتِدَاءِ يُجْرَا
…
عَلَى الذِي مِنْ قَبْلِ ذَا اسْتَقَرَّا
2804 -
وَرُتْبَةُ الثَّانِي الذِي فِيهِ نَظَرْ
…
بِحَالِهِ فِي الاجْتِهَادِ يُعْتَبَرْ
2805 -
فَحَيْثُ جَازَ جَازَ الاقْتِدَاءُ
…
عَلَى الذِي مَرَّ وَالاسْتِفْتَاءُ
2806 -
مَا لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ ذَا حَالِ
…
وَهْوَ بِالاسْتِفْتَاءِ ذُو اسْتِقْلَالِ
2807 -
فَيَقْتَدِي بِهِ أُولُوا الأحْوَالِ
…
حَيْثُ يَصِحُّ ذَاكَ فِي الأفْعَالِ
2808 -
وَمَا بِهِ اسْتُفْتِى وَهْوَ حَالُهُ
…
كانَ كَمِثْلِ فِعْلِهِ مَقَالُهُ
2809 -
وَحَيْثُ مَا اسْتُفْتِيَ فِي سِوَاهُ
…
فَإنَّهُ سَائِغَةٌ فُتْوَاهُ
"
المسألة السابعة
"
2810 -
نَذْكُرُ مَا يَشْهَدُ لِلْمُقَلِّدِ
…
بِصِحَّةِ الْفُتْيَا مِنَ الْمُقَلَّدِ
2811 -
مِنْ ذَاكَ الاعْتِنَاءُ بِالْمَسَائِلِ .... وَكَثْرَةُ الْفِكْرَةِ فِي النَّوَازِلِ
2812 -
وَعَدَمُ الْبِدَارِ لِلْجَوَابِ
…
حَتَّى يَرَى النَّهْجَ إِلَى الصَّوَابِ
2813 -
وَقَوْلُ لَا أَدْرِي إِذَا لَمْ يَدْرِ
…
وَهْوَ مِلَاكُ الْعِلْمِ فِي التَّحَرِّي
2814 -
وَخَوْفُهُ للهِ مِنْ أَنْ يَسْأَلَهْ
…
عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَهُ أَوْ حَلَّلَهْ
2815 -
وَسُرْعَةُ الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ إِذَا
…
صَحَّ وَتَرْكُ مَا يَرَاهُ مَأْخَذَا
2816 -
وَقِلَّةُ الْكَلَامِ وَالإِقْرَارُ
…
بِخَطَأ إِنْ كانَ لَا الإِصْرَارُ
2817 -
إِلَى سِوَى ذَاكَ مِنَ الأوْصَافِ
…
كَالنُّصْحِ وَالإِجْمَالِ وَالإِنْصَافِ
2818 -
وَكَانَ مَالِكٌ أَشَدَّ الْخَلْقِ
…
تَحَرِّيًا لِمِثْلِ هَذَا الْخُلْقِ
"
المسألة الثامنة
"
2819 -
وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ عَنْ مُسْتَفْتِي
…
بِالْفِعْلِ حَيْثُ فَقْدُهُ لِلْمُفْتِي
2820 -
مَعْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ مُقْتَضَى
…
تَقْلِيدًا أَوْ مِنِ اجْتِهَادٍ مُرْتَضَى
2821 -
لأنَّهُ يَرْجِعُ لِلتَّكْلِيفِ
…
بِغَيْرِ مَا يُطَاقُ فِي التَّعْرِيفِ
2822 -
وَهْوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ فَقْدُ الْعِلْمِ
…
بِالأصلِ فَهْوَ كَانْتِفَاءِ الْحُكْمِ
2823 -
أَوْ فَقْدُ عِلْمِ الْوَصْفِ دُونَ الأصْلِ
…
مِثْلَ التَّفَاصِيلِ التِي لِلْفِعْلِ
2824 -
وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ فِي التَّفْرِيعِ
…
مَحَلُّهُ فِي كتُبِ الْفُرُوعِ
"
المسألة التاسعة
"
2825 -
وَمُقْتَضَى الْفُتْيَا لِمَنْ يُقَلِّدُ
…
مِثْلُ الدَّلِيلِ لِلذِي يَجْتَهِدُ
2826 -
لِكَوْنِ مَنْ قَلَّدَ غَيْرَ عَالِم
…
فَوَاجِبٌ سؤَالُهُ لِلْعَالِمِ
كتاب لواحق الاجتهاد ويتعلق بكتاب الاجتهاد نظران
2827 -
فَأَوَّلٌ فِي عَارِضِ الأدِلَّةِ
…
تَرْجِيحًا أَوْ تَعَارُضًا فِي الْجُمْلَةِ
2828 -
وَالثَّانِ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ
…
وَاخْتَصَّ كُلُّ مِنْهُمَا بِبَابِ
"
النظر الأول" في التعارض والترجيح وفيه
مقدمة
ومسائل
" مقدمة"
2829 -
مَنْ بِأصُولِ الشَّرْعِ قَدْ تَحَقَّقَا
…
وَقَامَ بِالْعِلْمِ عَلَيْهِ مُطْلَقَا
2830 -
يَكَادُ لَا تَعَارَضُ الأدِلَّهْ
…
لَدَيْهِ بَلْ تَكُونُ مُسْتَقِلَّهْ
2831 -
وَالْعِلْمُ بِالْمَنَاطِ فِي الْمَسَائِلِ
…
يَنْفِي اشْتِبَاهَ الأمْرِ فِي النَّوَازِلِ
2832 -
لِذَاكَ لَا يُوجَدُ فِي الأدِلَّةِ
…
تَعَارُضٌ أُجْمِعَ لِلأئِمَّةِ
2833 -
عَلَيْهِ حَتَّى وَجَبَ التَّوَقُّفُ
…
هَذَا لَدَى الْمَشْرُوعِ مَا لَا يُعْرَفُ
"
المسألة الأولى
"
2834 -
تَعَارُضُ الدَّلِيلِ لَيْسَ يُمْكِنُ
…
مِنْ حَيْثُ نَفْسُ الأمْرِ وَهْوَ بَيِّنُ
2835 -
مِنْ مَرْجِعِ الشَّرْعِ لِقَوْلِ وَاحِدِ
…
حَسْبَمَا صُحِّحَ بِالشَّوَاهِدِ
2836 -
لَا كِنَّمَا اعْتِبَارُهُ حَيْثُ وُجِدْ
…
بِنِسْبَةٍ لِنَاظِرٍ وَمُجْتَهِدْ
2837 -
وَمِنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ يُجْمَعَا
…
بَيْنَهُمَا وَعَكْسُهُ قَدْ وَقَعَا
"
المسألة الثانية
"
2838 -
فَحَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِي التَّنَافِي
…
رَدُّ الدَّلِيلَيْنِ إِلَى ائْتِلَافِ
2839 -
صِيرَ إِلَى التَّرْجِيحِ أَوْ تَوَقُّفِ
…
وَذَاكَ فِيمَا كَالأدِلَّةِ اقْتُفِي
2840 -
مِنَ الْعَلَامَاتِ أَوِ الأسْبَابِ
…
كَذَا الشُّرُوطُ حُكْمُهَا فِي الْبَابِ
2841 -
لَا كِنَّمَا التَّرْجِيحُ لَيْسَتْ تَتَّحِدْ
…
كَذَا الشُّرُوطُ حُكْمُهَا فِي الْبَابِ
"
المسألة الثالثة
"
2842 -
وَالْمُمْكِنُ الْجَمْعِ يُرَى لَهُ صُوَرْ
…
عِنْدَ تَعَارُضٍ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرْ
2843 -
تَعَارُضُ الْجُزْئِيِّ مَعْ كُلِّيَهْ
…
تَدْخُلُ حَتْمًا تَحْتَهَا الْجُزْئِيَّهْ
2844 -
كَالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ مِثْلِ الْكَذِبْ
…
فِي مَوْضِعٍ ذَاكَ بِهِ مِمَّا يَجِبْ
2845 -
وَقَدْ يَكُونُ مَحْمَلُ الْجُزْئِيِّ
…
فِيهِ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي الْكُلِّي
2846 -
أَوْ غَيْرُ ذَا فَحُكْمُهُ يُلْتَمَسُ
…
مِن مَا مَضَى مِنْ قَبْلِ ذَا يُقْتَبَسُ
2847 -
ثَانِيَةٌ تَعَارُضُ الْجُزْئِيِّ مَعْ
…
مِثْلٍ وَفِي كُلِّيَةٍ مَعْهُ اجْتَمَعْ
2848 -
مِثْلَ حَدِيثَيْنِ فَذَا وَجْهُ النَّظَرْ
…
فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَيْثُمَا صَدَرْ
2849 -
إِمَّا بِأَنْ يُحْكَمَ بِالإِهْمَالِ
…
لِجِهَةٍ وَالأَخْذِ بِالإِعْمَالِ
2850 -
لِلْجِهَةِ الأُخْرِى وَهَذَا لَا يَصِحْ
…
إِلَّا بِإبْطَالٍ بِأَمْرٍ يَتَّضِحْ
2851 -
مِنْ نَسْخٍ أَوْ تَطْرِيقِ وَهْمٍ أَوْ غَلَطْ
…
وَغَيْرِهَا مِنْ مُنْتَمٍ لِذَا النَّمَطْ
2852 -
إِمَّا بِأَنْ يُحْكَمَ بِالإِعْمَاِل
…
لِلْجِهَتَيْنِ حُكْمَ الاسْتِقْلَالِ
2853 -
وَعِنْدَ ذَا يَلْزَمُ أَنْ لَّا يَرِدَا
…
مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ وَرَدَا
2854 -
ثَالِثَة تَعَارُضُ الْجُزْئِيَّهْ
…
مَعْ مِثْلِهَا بِحَيْثُ لَا كُلِّيَّهْ
2855 -
شَامِلَةٌ وَلَا تَكُونُ الْوَاحِدَهْ
…
فِي طَيِّ الأُخْرَى عِنْدَ ذَاكَ وَارِدَهْ
2856 -
فَالأصْلُ أَنَّ حَالَةَ الْجُزْئِيِّ
…
رَاجِعَةُ لأصْلِهِ الْكُلِّيِّ
2857 -
فَكُلُّ كُلِّيٍّ لَهُ التَّرْجِيحُ
…
جُزْئِيُّهُ لَهُ بِهِ تُصْحِيحُ
2858 -
كَأَمْرِ الاسْتِقْبَالِ وَالصَّلَاةِ
…
عِنْدَ وُقُوعِ الْجَهْلِ بِالْجِهَاتِ
2859 -
وَانْجَرَّ فِي كُلِّيِّ هَاذِي الصُّورَهْ
…
مَا يُفْهَمُ الْحُكْمُ بِهِ ضَرُورَهْ
2860 -
رَابِعَةٌ تَعَارُضُ الْكُلِّيِّ
…
مَعْ مِثْلِهِ فِي نَوْعِهِ الأصْلِيِّ
2861 -
وَذا وإِنْ كانَ شَنِيعَ الظَّاهِرِ
…
فَهْوَ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الصَّادِرِ
2862 -
مِنْ حَيْثُ الإِمْكَانِ بِهِ أَنْ يُجْمَعَا
…
بَيْنَهُمَا عَلَى اعْتِبَارَيْنِ مَعَا
2863 -
وَذَاكَ كالدُّنْيَا لَهَا وَصْفَانِ
…
فِي ظَاهِرِ الأمْرِ هُمَا ضِدَّانِ
2864 -
وَصْفٌ أَتَى فِي ذَمِّهَا تَحْقِيرَا
…
لِشَأْنِهَا مُقْتَضِيًا تَنْفِيرَا
2865 -
وَالتَّرْكَ لِلْمَيْلِ وَالالْتِفَاتِ
…
لَهَا وَالاجْتِنَابَ فِي الْحَالَاتِ
2866 -
وَجَاءَ فِيهَا مَعْهُ وَصْفٌ ثَانِ
…
فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالامْتِنَانِ
2867 -
وَذَاكَ بَاعِثٌ عَلَى الْتِفَاتِهَا
…
وَنَيْلِ مَا قَدْ بُثَّ مِنْ خَيْرَاتِهَا
2868 -
لِأنَّهُ مِنْحَةُ رَبٍّ مُنْعِمِ
…
فَوَاجِبٌ قَبُولُ تِلْكَ النِّعَمِ
2869 -
فَالذَّمُّ مِنْ وَجْهَيْنِ وَجْهٌ يُخْبِرُ
…
وَوَصْفِ حَالِهَا بِلَهْوٍ وَلَعِبْ
2870 -
بِكَوْنِهَا إِلَى الْغُرُورِ تَنْتَسِبْ
…
وَعَدَمِ الْبُقْيَا وَالاستِقَلَالِ
2871 -
ثَانِيهِمَا مِنْ سُرْعَةِ الزَّوَالِ
…
مِنَ النُّصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالْخَبَرْ
2872 -
وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ جَمٌّ مُعْتَبَرْ
…
مِنْ حَيْثُ أَنَّ حَالَهَا يَدُلُّ
2873 -
وَالْمَدْحُ مِنْ وَجْهَيْنِ يُسْتَقْبَلُ
…
وَأَنَّهُ الْوَاحِدُ فِي الْوُجُودِ
2874 -
عَلَى وُجُودِ مُوجِدِ الْمَوْجُودِ
…
قَدْ جَاءَ فِي ذَاكَ مِنَ التَّنْزِيلِ
2875 -
ثُمَّ عَلَى الأُخْرَى وَكَمْ دَلِيلِ
…
بِكُلِّ مَا فِيهَا عَلَى الأنَامِ
2876 -
وَجِهَةِ الْمِنَّةِ وَالانْعَامِ
…
بِكُلِّ مَا فِيهَا عَلَى الأَنَامِ
2877 -
فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَا
…
عِبَادِهِ بِوَضْعِهَا تَفْضِيلَا
2878 -
وَبَثَّ مَا فِيهَا لِأنْ تَعَرَّفَا
…
لَهُمْ بِمَا حُقَّ لَهُ تَلَطُّفَا
2879 -
لِيَأخُذُوا جَمِيعَهُ بِحَقِّهِ
…
وَذَلِكَ الشُّكْرُ لِمُسْتَحِقِّهِ
2880 -
وَأَنَّ مَا أَعَدَّ حَيْثُ الْبُقْيَا
…
قَدْ مَنَّ بِالْبَعْضِ لَهُ فِي الدُّنْيَا
2881 -
حَسْبَمَا يَبْدُوا مِنَ الآيَاتِ
…
وَمِنْ هُنَا طَلَبُ الالْتِفَاتِ
2882 -
وَانْظُرْ إِلَى مَا جَاءَ فِي الأنْهَارِ
…
تجِدْهُ مَبْثُوثًا بِهَاذِي الدَّارِ
2883 -
وَإِنَّ فِي النَّحْلِ لَآيٍ شَاهِدَة
…
لَهُ عَلَى مَسَاقِ ذَاكَ وَارِدَهْ
2884 -
إِذَنْ فَقَدْ بَدَا مِنَ الْوَصْفَيْنِ
…
كَوْنهُمَا فِي شَأْنِهَا ضِدَّيْنِ
2885 -
وَالشَّرْعُ مَأْمُونٌ مِنِ اخْتِلَافِ
…
مُبَرَّأٌ مِنْ حَالَةِ التَّنَافِي
2886 -
فَلَزِمَ اعْتِبَارُنَا الأمْرَيْنِ
…
مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ بِحَالَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ
2887 -
فَالذَّمُّ بِالْتِفَاتِهَا مُجَرَّدَهْ
…
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُقْتَضٍ لِمَحْمَدَهْ
2888 -
غَيْرَ مُوَالَاةِ التَّمَتُّعَاتِ
…
لِرَاحَةِ النُّفُوسِ وَاللَّذَّاتِ
2889 -
فَهْيَ لِذَا لَهْوٌ بِغَيْرِ حَلّ
…
وَبَاطِلٌ مُسْتَوْجِبٌ لِلْبُعْدِ
2890 -
وَالْمَدْحُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا بَدَا
…
مِنْ حَالِهَا دَاعٍ إِلَى يسُبْلِ الهُدَى
2891 -
وَأَنَّهَا نُعْمَى عَلَى الْعِبَادِ
…
وَسَبَبُ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ
2892 -
وَمِنْ هُنَا تَوَارُدُ الأخْبَارِ
…
بِأَنَّهَا حَقٌّ لِلاسْتِبْصَارِ
2893 -
فَذَمُّهَا لَيْسَ عَلَى الإِطْلَاقِ
…
وَمَدْحُهَا لَيْسَ لِلاستِغْرَاقِ
2894 -
وَأَخْذُهَا بِالاعْتِبَارِ الأوَّلِ
…
يُذَمُّ فَهْوَ رَغْبَةُ الْمُسْتَعْجِلِ
2895 -
وَتَرْكُهَا مِنْهُ هُوَ الزُّهْدُ الذِي
…
هُوَ لِمَنْ يَفْعَلُ أَسْنَى مَأْخَذِ
2896 -
وَأَخْذُهَا بِالاعْتِبَارِ الثَّانِي
…
لَيْسَ بِمَذْمُومٍ مِنَ الإِنْسَانِ
2897 -
وَلَا يُسَمَّى رَغْبَةً وَالزُّهْدُ
…
فِيهَا عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ حَمْدُ
2898 -
وَمِنْهُ كَانَ الأخْذُ لِلصَّحَابَهْ
…
لَهَا عَلَى التَّوْفِيقِ وَالإِصَابَهْ
2899 -
إِذْ جَعَلُوهَا مَرْكَبًا لِلآخِرَهْ
…
وَحَالُهُمْ فِي الزُّهْدِ غَيْرُ قَاصِرَهْ
2900 -
وَكَمْ لِهَذَا الْفَصْل مِنْ فَوَائِدِ
…
يَعُمُّ نَفْعُهَا لَدَى مَوَارِدِ
2901 -
كَالْفَصْلِ فِي مَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ
…
بَيْنَ الْغَنِي وَالْفَقِيرِ بِالتَّفْصِيلِ
"
النظر الثاني" في أحكام السؤال والجواب
2902 -
وَذَاكَ مَنْسُوبٌ إِلَى عِلْمِ الْجَدَلْ
…
وَهْوَ عَلَى مَسَائِلٍ قَدِ اشْتَمَلْ
"
المسألة الأولى
"
2903 -
ثُمَّ الذِي يُلْقِى السُّؤَالَ مُجْتَهِدْ
…
أَوْ عَكْسُهُ إِمَّا لِمِثْلٍ أَوْ لِضِدْ
2904 -
فَأُوَّلٌ يَكُونُ لِلتَّبَصُّرِ
…
وَرَفْعِ إِشْكَالٍ وَللتَّذَكُّرِ
2905 -
وَالْقَصْدِ لِلتَّنْبِيهِ بِالإِفَادَهْ
…
يُورِدُهَا مَوْرِدَ الاسْتِفَادَهْ
2906 -
وَقَصْدَ أَنْ يَنُوبُ عَمَّنْ قَدْ حَضَرْ
…
أَوْ غَيْرِ مَا قَدْ مَرَّ مِمَّا يُعْتَبَرْ
2907 -
وَالثَّانِ لِلتَّنْبِيهِ بِالإِشْكَالِ
…
كَيْ مَا يَزُولَ وَللاسْتِدْلَالِ
2908 -
وَلاخْتِبَارِ عَقْلِهِ فِي عِلْمِهِ
…
وَالاسْتِعَانَةِ بِفَضْلِ فَهْمِهِ
2909 -
وَثَالِثٌ بِالْقَصْدِ لِلْمُذَاكَرَهْ
…
لِمُقْتَضَى تَفْهِيمِ مَنْ قَدْ ذَاكَرَهْ
2910 -
أَوِ التَّهَدِّي مَعَهُ لِلْفَهْمِ
…
أَوْ لِتَمَرُّن مَعًا فِي الْعِلْمِ
2911 -
وَالْكُلُّ مِنْهَا لِلْجَوابِ مُسْتَحِقْ
…
مَعْ عِلْمِهِ أَوْ قَوْلُ لَا أَدْرِي يَحِقْ
2912 -
وَالرَّابِعُ الْحَالُ بِهِ تَفْصِيلِي
…
بِنِسْبَةِ السَّائِلِ وَالْمَسْوُولِ
2913 -
فَيُلْزَمُ الْجَوَابُ فِيمَا يَعْلَمُ
…
عِنْدَ تَعَيُّنٍ لَهُ يَسْتَلْزِمُ
2914 -
فِي نَازِلٍ مُنْتَسِبٍ لِلشَّرْعِ
…
أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ نَصٌّ شَرْعِي
2915 -
بِنِسْبَةٍ لِسَائِلٍ لَا مُطْلَقًا
…
وَحَالُهُ لَا يَقْتَضِي تَعَمُّقَا
2916 -
وَأَنْ يَرَى مِمَّا عَلَيْهِ عَمَلُ
…
وَعَقَلُ سَائِلٍ لَهُ يَحْتَمِلُ
2917 -
وَلَيْسَ بِاللَّازِمِ فِي مَوَاضِعِ
…
كَمِثْلِ مَا يَعْدَمُ نَصُّ الشَّارعِ
2918 -
فِي شَأَنْهِ أَوْ مُسْتَنِدٍ إِلَيْهِ
…
لَيْسَ لَهُ تَعَيُّن عَلَيْهِ
2919 -
وَغَيْرُ جَائِزِ بِحَيْثُ يَقْتَضِى
…
تَعَمُّقَا أَو حَالَةَ الْمُعْتَرِض
2920 -
أَوْ كَانَ عَقْلُ سائِلٍ لَا يَحْتَمِلْ
…
جَوَابَهُ وَقِسْ عَلَيْهِ وَاسْتَدِلْ
"
المسألة الثانية
"
2921 -
وَكَثْرَةُ السُّوَالِ مِمَّا ذُمَّا
…
وَالنَّقْلُ فِيهِ مُسْتَفِيضٌ عَمَّا
2922 -
وَانْظُرْ إِلَى قِصَّةِ أَهْلِ الْبَقَرَهْ
…
فَإنَّهَا فِي شَأْنِهَا مُعْتَبَرَهْ
2923 -
وَمُكْثِرٌ مِنَ السُّوَالِ يُزْجَرُ
…
وَإِنْ يَعُدْ فَمَا قَضَاهُ عُمَرُ
2924 -
وإِنَّ مِنْ أَشَدِّهِ مَا يَرْجِعُ
…
إِلَى الْمَسَائِلِ التِي لَا تَنْفَعُ
2925 -
أَوْ لِلْأغَالِيطِ التِي لَا تُعْتَبَرْ
…
وَكَمْ أَتَى فِي النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ أَثَرْ
2926 -
وَمِنْهُ غَيْرُ نَافِعٍ فِي الدِّينِ
…
كَقِصَّةِ الْهِلَالِ بِالتَّعْيِينِ
2927 -
وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ لَهُ فِي الْوَقْتِ
…
وَمَا لَهُ تَعَمُّق ذُو مَقْتِ
2928 -
وَمَا يُرَى مِنْ بَعْدِ عِلْمِ مَا كَفَا
…
أَوْ مَا لَهُ تَشَابُة قَدْ عُرِفَا
2929 -
وَمَا يُرَى صَعْبًا مِنَ الْمَسَائِلِ
…
وَهْيَ شِرَارُهَا بِقَصْدِ السَّائِلِ
2930 -
وَكُلُّ مَا شجَرَ بَيْنَ السَّلَفِ
…
فَإنَّهُ أَمْرٌ بِالإِمْسَاكِ حَفِي
2931 -
وَكُلُّ مَا يُقْصَدُ لِلإِفْحَامِ
…
أَوْ طَلَبِ الظُّهُورِ فِي الْخِصَامِ
2932 -
وَعِلَّةُ الْحُكْمِ الذِي لَا يُعْقَلُ
…
مَعْنَاهُ لِلْقَاصِرِ عَنْهُ يَسْأَلُ
2933 -
وَمَا يُرَى الرَأْيُ بِهِ قَدْ نَابَا
…
مُعَارِضًا سُنَّةً أَوْ كِتَابَا
"
المسألة الثالثة
"
2934 -
الْكُبَرَاءُ تَرْكُ الاعْتِرَاضِ
…
عَلَيْهِمُ يُحْمَدُ فِي الأغْرَاضِ
2935 -
كَانَ الذِي يَصْدُرُ عَنْهُمْ يُفْهَمُ
…
مَعْنَاهُ أَوْ يَكُونُ لَيْسَ يُعْلَمُ
2936 -
دَلِيلُهُ قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرْ
…
وَغَيْرِهَا مِمَّا بِذَا الْمَعْنَى اعْتُبِرْ
"
المسألة الرابعة
"
2937 -
الاعْتِرَاضَاتُ عَلَى الظَّوَاهِرِ
…
غَيْرُ صَحِيحَةٍ لأمْرٍ ظَاهِرِ
2938 -
وَذَاكَ أَنَّ النَّصَّ مِمَّا يَنْذُرُ
…
وُجُودُهُ أَوْ شَأْنُهُ التَّعَذُّرُ
2939 -
لِلاحْتِمَالَاتِ التِي لَا يَسْلَمُ
…
مِنْهَا اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُفْهِمُ
2940 -
وَالْمُجْمَلُ الشَّأْنُ بِهِ التَّوَقُّفُ
…
عَلَى مُبَيِّنٍ لَهُ يُعَرِّفُ
2941 -
وَعِنْدَ ذَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُ الظَّاهِرِ
…
فَيُقْتَفَى فِي كُلِّ مَعْنىً صَادِرِ
2942 -
وَالاعْتِرَاضُ فِيهِ لِلْتكَلُّفِ
…
مُنْتَسِبُ الْحُكْمِ وَللتَّعَسُّفِ
2943 -
وَمُقْتَضَى تَطْرِيقِ الإِحْتِمَالِ
…
يُوقِعُ فِي الرَّفْعِ وَفِي الإِشْكَالِ
2944 -
وَقَبْلُ مَرَّ أَنَّ مُجْرَى الْعَادَهْ
…
تَخَاطُبًا مُعْتَمَدُ الإِفَادَهْ
2945 -
كَمَا مَضَى كَيْفَ اقْتِنَاصُ الْقَطْعِ
…
مِمَّا لِظَنِّ فِي الدَّلِيلِ الشَّرْعِي
2946 -
وَهْوَ خُصُوصِيَّةُ ذَا الْكِتَابِ
…
وَحُكْمُهُ يَعُمُّ فِي الأبْوَابِ
"
المسألة الخامسة
"
2947 -
وَإِنَّ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّهْ
…
قَوَاعِد أَصْلِيَّةً كُلِّيَّهْ
2948 -
ثُمَّ عَنِ الْقَوَاعِدِ الأصْلِيَّهْ
…
تَنْشَأُ جُزْئِيَّاتِهَا الْفَرْعِيَّهْ
2949 -
وَنَاظِرٌ فِي ذَاكَ إِمَّا مُجْتَهِدْ
…
لِنَفْسِهِ فِيمَا عَلَيْهِ يَعْتَمِدْ
2950 -
إِمَّا مُنَاظِرٌ فَأَمَّا الأَوَّلُ
…
فَالْحُكْمُ لاجْتِهَادِهِ مُوَكَّلُ
2951 -
فَمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ عِلْمُهُ
…
يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ حَالٍ حُكْمُهُ
2952 -
لَاكِنَّمَا الْقَوَاعِدُ الأصْلِيَّهْ
…
تَثْبُتُ عَنْ أَدِلَّةٍ قَطْعِيَّهْ
2953 -
ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا مِنْ عَقْلِ
…
أَوْ مِنْ دَلِيلٍ رَاجِعٍ لِلنَّقْلِ
2954 -
ثُمَّ الْفُرُوعُ الظَّنُّ فِيهَا كافِ
…
بِشَرْطِهِ الْمُقَرَّرِ الأوْصَافِ
2955 -
وَالْحُكْمُ مَا أَدَّى لَهُ الدَّلِيلُ
…
فِي حَقِّهِ وَهْوَ لَهُ السَّبِيلُ
2956 -
دُونَ افْتِقَارٍ مِنْهُ لِلْمُنَاظَرَهْ
…
لِعَدَمِ الْجَدْوَى بِمَنْ قَدْ نَاظَرَهْ
2957 -
وَحَيْثُمَا احْتِيَاطٌ أَوْ تَرَدُّدُ
…
أَحَدُ أَمْرَيْنِ بِهِ يُعْتَمَدُ
2958 -
إِمَّا السُّكُونُ لِبَيَانٍ يَلْحَقُ
…
إِمَّا اسْتِعَانَةٌ بِمَنْ يَسْتَوْثِقُ
2959 -
وَهْوَ الْمُنَاظِرُ وَلَا كِنْ يُفْتَقَرْ
…
فِيهِ لِتَفْصِيلٍ أَكِيدٍ يُعْتَبَرْ
2960 -
فَحَيْثُ مَا وَافَقَ فِي كُلِّيِّ
…
مُنَاظَرٍ فِيهِ مِنَ الْجُزْئِيِّ
2961 -
صَحَّ لَهُ فِيهِ بِهِ اسْتِعَانَهْ
…
وَحَيْثُ لَا فَالْعَكْسُ ذُو اسْتِبَانَهْ
2962 -
كَمَالِكِيٍّ آخِذٍ مَعْ ظَاهِرِي
…
فِي رِبَوِيٍّ دُونَ نَصٍّ صَادِرِ
2963 -
وَحَيْثُ الاتِّفَاقُ فِي الْكُلِّيِّ
…
يَبْقَى لَهُ التَّحْقِيقُ فِي الْجُزْئِيِّ
2964 -
مَنَاطَ حُكْمِهِ فَإنْ يَتَّفِقَا
…
فَذَا وَإِلَّا فَالْخِلَافُ مُتَّقَا
2965 -
إِذْ هُوَ رَاجِعٌ لِأَمْرٍ ظَنِّي
…
مُجْتَهَدٍ فِيهِ بِحُكْمِ الظَّنِّ
2966 -
وَأَنَّ هَذَا الأصْلَ فِيهِ أَمْثِلَهْ
…
كَثِيرَةٌ تَدْخُلُ فِيهَا أَسْئِلَهْ
2967 -
كَانَتْ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ
…
فِي بَعْضِ مَا أَشْكَلَ مِنْ أَحْكَامِ
2968 -
وَلَا عَلَيْكَ بَعْدُ فِي الْمُنَاظِرِ
…
فَهْوَ اصْطِلَاحٌ مَا لَهُ مِنْ حَاجِرِ
2969 -
وَمَا بِهِ الْمُحْتَجُّ فِي الْمَسَائِلِ
…
مُنَزِّلٌ لِنَفْسِهِ كَالسَّائِلِ
2970 -
الْمُسْتَفِيدِ قَاطِعًا لِلْخَصْمِ
…
بِأَقْرَبِ الطُّرْقِ لِذَاكَ الْحُكْمِ
2971 -
وَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
…
مَا فِيهِ رُشْدٌ لأُولِى الأَلْبَابِ
2972 -
وَحَيْثُ مَا الْقَصْدُ مِنَ الْمُنَاظِرِ
…
فِي رَدِّ خَصْمِهِ لأمْرٍ ظَاهِرِ
2973 -
فَذَا لَهُ أَصْل إِلَيْهِ يَرْجِعُ
…
تَقْرِيرُهُ بِإِثْرِ هَذَا يَقَعُ
"
المسألة السادسة
"
2974 -
لَا بُدَّ فِي الدَّلِيلِ مِنْ مُقَدِّمَهْ
…
تَكُونُ فِي الْحُكْمِ بِهَا مُسَلَّمَهْ
2975 -
وَعِنْدَ هَذَا الشَّأْنِ تُلْفَى قَاضِيَهْ
…
فِيمَا لِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ آتِيَهْ
2976 -
وَمَا نِزَاعٌ فِيهِ أَوْ جَدَالُ
…
فَلَا يَصِحُّ بِهِ الاسْتِدْلَالُ
2977 -
وَإنَّمَا يَحْصُلُ قَطْعُ الْحُكْمِ
…
فِيمَا لَهُ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْخَصْمِ
2978 -
وَأَصْلُ ذَاكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
…
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ يُرَى بَيَانَهُ
2979 -
وَمَا أَتَى مِنْ ذَاكَ فِي الْقُرْآنِ
…
وَفِي الْحَدِيثِ وَاضِحُ الْبُرْهَانِ
2980 -
وَالْقَصْدُ بِالْمُقَدِّمَاتِ هَاهُنَا
…
مَا حَصَّلَ الْمَطْلُوبَ مِنْ غَيْرِ عَنَا
2981 -
فِي عَادَةِ الْعُرْبِ بِأَهْدَى الطُّرُقِ
…
لَيْسَ الْمُرَادُ مَا لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ
"
خاتمة
"
2982 -
وَمُقْتَضَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .... بِهِ انْتَهَتْ مَسَائِلُ الْكِتَابِ
2983 -
وَإذْ قَضَى الْبُغْيَةَ مِمَّا أَصَّلَهْ
…
مُنْتَقِيًا لِللُّبِّ مِمَّا حَصَّلَهْ
2984 -
وَأكْمَلَ الْقَصْدَ الذِي قَدْ أَمَّ لَهْ
…
رَجَاءَ مَا مِنَ الثَّوَابِ أَمَّلَهْ
2985 -
قَالَ هُنَا وَبَقِيَّةُ مَسَائِلُ
…
أَضْرَبْتُ عَنْهَا حِينَ قَلَّ السَّائِلُ
2986 -
خِشْيَة أَنْ يَكُونَ فِي إِيرَادِهَا
…
مَا يَرْفَعُ التَّأْنِيسَ عَنْ وُرَّادِهَا
2987 -
أَوْ تُخْرِجَ النُّفُوسَ عَنْ مَأْلُوفِهَا
…
فَتُسْرعُ النُّكْرَ إِلَى مَعْرُوفِهَا
2988 -
وَمَعَ ذَا فَالْوَقْتُ قَلَّ الْمُنْصِفُ
…
فِيهِ وَعَزَّ مُسْعِدٌ وَمُسْعِفُ
2989 -
لِذَا ثَنَيْتُ دُونَهَا عِنَانِي
…
إِرَاحَةً لِمُمْتَطِى الْبَيَانِ
2990 -
قُلْتُ وَمَا اعْتَنَى بِرَسْمِهِ
…
يَشْهَدُ بِاطِّلَاعِهِ وَعِلْمِهِ
2991 -
وَفِي الذِي أَوْرَدَهُ كِفَايَهْ
…
مَا بَعْدَهُ لِلطَّالِبِينَ غَايَهْ
2992 -
وَقَدْ بَذَلْتُ الْجُهْدَ فِي تَقْرِيبِهِ
…
لِلْحِفْظِ بِالنَّظْمِ عَلَى تَرْتِيبِهِ
2993 -
وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يُوتِينَا
…
عِلْمًا يَزِيدُنَا بِهِ يَقِينًا
2994 -
وَأَنْ يُثِيبَهُ بِمَا اسْتُفِيدَا
…
مِنْ عِلْمِهِ مُبْدِئًا أَوْ مُعِيدَا
2995 -
وَيَنْفَعَ الْجَمِيعَ بِاقْتِفَاءِ
…
مَا سَنَّهُ صَفْوَةُ الأنْبِيَاءِ
2996 -
صَلَّى عَلَيْهِ أَكْمَلَ الصَّلَاةِ
…
مَنْ خَصَّهُ بِآخِرِ الصِّلَاتِ
2997 -
كَمَا أَقَرَّ مِنْ رِضَاهُ عَيْنَا
…
لآلِهِ وَصَحْبِهِ الأعْلِينَا
كِتَابُ الاجْتِهَادِ
2518 -
وَيَرْجِعُ القَصْدُ بِحَيْثُ اجْتُهِدَا
…
إِلَى اجْتِهَادٍ وَلِفَتْوىً وَاقْتِدَا
2519 -
فَانْحَصَرَ الْكَلَامُ فِي أَطْرَافِ
…
ثَلَاثَةٍ بَيَانُهَا يُوَافِي
الطَّرَفُ الأَوَّلُ فيما يتعلق بالمجتهد من جهة الاجتهاد وفيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
كتاب الاجتهاد
كتاب بيان الاجتهاد وأحواله
والاجتهاد هو استفراغ الفقيه الجهد في استنباط الحكم من الدليل الشرعي "ويرجع القصد" من البحث والنظر في هذا الكتاب المعقود "بحيث اجتهدا" يعني في أي موضع وقع الاجتهاد "إلى" المجتهد من جهة "اجتهاد"ـه وأحواله وهذا هو الطرف الأول، "و" كذلك يرجع "لفتوى"ـه. وهو الطرف الثاني "و" يرجع كذلك إلى إعمال قوله والـ"اقتدا"ء به.
"فانحصر" بذلك "الكلام" هنا - في هذا الكتاب - "في" مواضيع هي "أطراف" وأجزاء هذا الكتاب، وهي "ثلاثة" كما ترى، "بيانها" وإيضاحها يأتي و"يوافي" على الولاء والتتابع.
ويبدأ ببيان "الطرف الأول" منها، وهو - كما تقدم - محصور "فيما يتعلق بالمجتهد من جهة" ما يأتيه من أصناف "الاجتهاد" وأضربه، و"فيه" يعني وفي سبيل هذا الطرف نورد "مسائل" وهي أربعة عشرة مسألة:
"المسألة الأولى"
منها في أن الاجتهاد ليس صنفا واحدا.
2520 -
الاجْتِهَادُ كُلُّهُ ضَرْبَانِ
…
مُتَّصِلُ الْحُكْمِ مَدَى الزَّمَانِ
2521 -
دُونَ انْقِطَاعٍ وَهْوَ مَا تَعَلَّقَا
…
بِحَيْثُ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أُطْلِقَا
2522 -
وَأَنَّهُ لَا خُلْفَ فِي قَبُولهِ
…
كَكُلِّ مَا يُؤْخَذُ مِن دَلِيلِهِ
2523 -
مُسْتَدْعِيًا لِلْبَحْثِ فِي تَعْيِينِ
…
مَحَلِّهِ بِمُوجِبٍ تَبْيِينِي
2524 -
كَمِثْلِ فَهْمِ مُدَّعِ مِنْ مُدَّعَا
…
عَلَيْهِ فَي يُنْفِذَ مَا قَدْ شُرِعَا
وبيان ذلك أن "الاجتهاد" من دوامه وانقطاعه "على ضربين" أحدهما:
الاجتهاد الذي لا ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة، وبذلك "فهو متصل الحكم" دائما "مدى الزمان" والدهر.
"و" هذا الضرب "هو ما" من الاجتهاد "تعلقا" - الألف للإطلاق - "بحيث تحقيق المناط" يعني بتحقيق المناط الذي "أطلقا" - الإلف للإطلاق - "و" هذا الضرب قد تقرر "أنه لا خلف" بين جمهور الأمة "في قبوله كـ" ما لا خلف بينهم في قبول "كل ما" يفيده من الأحكام و"يؤخذ من دليله" يعني من دلالته ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله، وبذلك يكون واقع الحال في هذا المحل "مستدعيا" وطالبا "للبحث" والنظر "في تعيين" موضع هذا الحكم و"محله بـ" ما يعينه من دليل و"موجب تبييني" وتوضيحي مظهر للأنظار والعقول وجه ذلك التعيين وما يحققه من دلالة ويثبته من صفة عادية أو شرعية، وذلك "كمثل فهم" وإدراك من هو "مدع" و"من" هو "مدعى عليه" والتمييز بينهما في مجرى التقاضي والتنازع وهذا الفهم والتمييز مطلوب، على سبيل التعيين وذلك "كي ينفد ما قد شرعا" - الألف للإطلاق - في حقهما. ومعلوم أن المالكية قد رجحوا أن المدعي هو من قوله مجرد من أصل أو عرف يشهد له، والمدعى عليه بعكسه، إلا أن العلم بهذا التفصيل لا يبين لك من هو المدعي ومن هو المدعى عليه حتى ينظر في حال دعواهما وصفتها وتسمع لما يقولان في شأنها، وما يوصل إلى التصور التام لها مع البحث عن قرائن الأحوال التي قد تعلم بها حقيقة الأمر في ذلك، وهذا متوقف إدراكه على استفراغ الجهد.
ومن ذلك أن الشارع لما قال: "واشهدوا ذوي عدل منكم" وثبت عندنا معنى العدالة افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة، "وليس الناس في وصف العدالة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافًا متباينًا، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة: طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق. و"طرف آخر" وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف، كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها.
"وبينهما" مراتب لا تنحصر. وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع، وهو الاجتهاد
(1)
.
فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد، كما إذا أوصى بماله للفقراء، فلا شك أن من الناس من لا شي له، فيتحقق فيه اسم الفقر، فهو من أهل الوصية ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا. وبينهما وسائط، كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له، فينظر فيه: هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى؟ وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات، إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق، وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها. فلا يمكن أن يستغني هاهنا بالتقليد، لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير وإن لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا. فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد. وكذلك وإن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها، فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا، وهو نظر اجتهاد أيضا وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات، وقيم المتلفات. ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين. فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل؟ فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب، وهذا كله بين لمن شدا في
(1)
الموافقات 4/ ص 65.
2525 -
وَلَا غِنَى عَنْهُ لِكُلِّ مُجْتَهِدْ
…
بَلْ لِلمُكَلَّفِينَ حُكْمُهُ اعْتُمِدْ
2526 -
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا يَرْتَفِعْ
…
لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ وَهْوَ مُمْتَنِعْ
العلم: ومن القواعد القضائية "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعة - بل لا يمكنه توجيه الحجاج ولا طلب الخصوم بما عليهم - إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه، وهو أصل القضاء ولا يتعين ذلك إلا بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة، وهو تحقيق المناط بعينه
(1)
.
فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه؛ فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا. فوقعت له في صلاته زيادة، فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر. فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه. وكذلك سائر تكليفاته. ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة. فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون. وكله اجتهاد"
(2)
.
"و" هذا الضرب من الاجتهاد "لا غنى عنه لكل مجتهد" سواء كان قاضيا أو مفتيا، "بل" لا غنى عنه "للمكلفين" لأنه "حكمه اعتمد" وقصد دخوله في شأن التكليف، وتحصيل المكلف به كالصلاة والزكاة، ومصارفها، وما تجري فيه صحته وما لا تجري فيه وكل ما وضع الشرع حقائقه وأوكل إلى المكلف العلم بمواضعها، وما تتحقق فيه من صور، وأحوال. "ولو فرضنا" جدلا "أن هذا" الضرب من الاجتهاد "يرتفع" وينقطع "لارتفع التكليف" الشرعي عن العباد "وهو" أمر "ممتنع" ومحال، فإن فرض ارتفاعه مع بقاء التكليف فإن ذا يوجب التكليف بالمحال، المعلوم امتناعه شرعا، وعقلا، وهذا واضح في هذه المسألة.
(1)
الموافقات 4/ 66.
(2)
الموافقات 4/ ص 67.
2527 -
وَبَعْضُهُ صَحَّ بِهِ التَّقْلِيدُ
…
فِيمَا فِي الأنْوَاعِ لَهُ وُجُودُ
2528 -
لَاكِنَّ الاجْتِهَادَ فِي الأنْوَاعِ لَا
…
يَكْفِي فِي الأشْخَاصِ إِذَا تُؤُمِّلَا
2529 -
ثَانِيهِمَا الْمُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَا
…
وَهْوَ إِلَى ثَلَاثَةٍ تَنَوَّعَا
" و" قد يكون "بعضه" أي بعض هذا الضرب من الاجتهاد "صح به" يعني فيه "التقليد" وذلك "فيما" أي اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع، لا على الأشخاص المعينة، فكان له "في" تلك الأنواع "وجود" وثبوت، وذلك كالمثل في جزاء الصيد فإن الذي جاء في الشريعة في ذلك هو قوله - تعالى -:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المَائدة: 95] وهذا ظاهر في اعتبار المثل؛ إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه، وكونه مثلا لهذا النوع المقتول، ككون الكبش مثلا للضبع، والعنز مثلا للغزال، والعناق مثلا للأرنب، والبقرة مثلا للبقرة الوحشية، والشاة مثلا للشاة من الظباء. وكذلك الرقبة الواجبة في عتق الكفارات، والبلوغ في الغلام والجارية، وما أشبه ذلك
(1)
.
"لاكن الاجتهاد في الأنواع لا يكفي في "اجتهاد "الأشخاص" ولا يغني عنه "إذا تؤملا" واعتبر حاله. لأنه وإن كان قد علم أن الكبش مثل الضبع - مثلا - فإن معرفة الكبش المناسب بعينه ليكون مثلا للضبع المقتول متوقف على الاجتهاد والنظر ولا يغني عنه تقرر كون الكبش مثله، لأن الكبش يطلق على الكبير والصغير والهزيل، والسمين والصحيح، والمريض ولا بد من الاجتهاد في تعيين ما يصلح من ذلك في الجزاء، وتعيين ما لا يصلح منه لاعتبارات شرعية أو عرفية.
وهذا الذي قيل في الكبش في هذا الموضوع يقال في غيره من البهائم الأخرى المذكورة بأنه يجري فيه جزاء الصيد. وإذا علم هذا فإنه لا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان، إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به، كما تقدم ذكره. هذا هو الضرب الأول وحاله.
"ثانيهما" أي الضربين هو الاجتهاد "الممكن أن ينقطعا" - الألف للإطلاق - وإن يرتفع "و" هذا الضرب "هو إلى ثلاثة" من الأنواع "تنوعا" - الألف للإطلاق - النوع
(1)
الموافقات 4/ ص 67.
2530 -
الأوَّلُ التَّنْقِيحُ لِلْمَنَاطِ
…
فِي جُمْلَةِ أَوْصَافٍ بِهَا النَّصُّ حَفِي
2531 -
فَيَحْصُلُ التَّنْقِيحُ فِيهَا بِالنَّظَرْ
…
لِمَيْزِ مُلْغَىً شَأْنُهُ وَمُعْتَبَرْ
2532 -
كَمِثْلِ مَا فِي قِصَّةِ الْمُوَافِي
…
مُنْتَهِكِ الصِّيَامِ مِنْ أَوْصَافِ
2533 -
وَهْوَ مِنَ التَّأْوِيلِ لِلظَّوَاهِرِ
…
وَخَارجٌ عَنِ الْقِيَاسِ الصَّادِرِ
" الأول" منها هو "التنقيح للمناط" الذي يتعلق به الحكم، ويناط به وجودًا وعدمًا وذلك أن يكون المعتبر في الحكم مذكورا "في جملة أوصاف" ورد "بها النص" المفيد. لذلك الحكم والمقتضى له و"حفي" بها - أي معتن بذكرها - ويصح أن يقرأ فعلا ماضيا أي - اعتنى بذكرها - "فيحصل" من المجتهد "التنقيح فيها" أي في تلك الأوصاف "بالنظر" وإعمال الذهن بما يحقق ذلك ويحصله من الطرق المبينة في مسالك العلة وذلك "لميز" ما هو "ملغى شأنه" من تلك الأوصاف وغير معتد به "و" ما هو "معتبر" منها لوجود المناسبة للحكم المذكور فيه، وهذا ظاهر بين جريانه في أمثلة متعددة وذلك "كمثل ما" ورد "في" نص "قصة" الأعرابي "الموافي" أي الآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه "منتهك" حرمة "الصيام" - صيام رمضان - "من أوصاف" إذ ورد فيها - كما في الصحيح - أنه جاء وهو ينتف شعره ويضرب صدره يقول "أهلكت وهلكت واقعت أهلي في رمضان" فألغى وصف كونه أعرابيا ووصف كونه يضرب صدره وينتف شعره، ووصف كون الموطوءة زوجة، ووصف الوطء في القبل، لأن هذه الأوصاف لا تصلح للتعليل. والباقي الصالح للتعليل هو المجامعة في نهار رمضان عند الشافعي وأحمد، وعند مالك وأبي حنيفة الإفطار عمدا لما فيه من انتهاك حرمة رمضان. فقد نقحه أبو حنيفة ومالك مرتين والشافعي وأحمد مرة.
وقد قسمه الغزالي إلى أقسام ثلاثة ذكرها "في شفا الغليل" وهو مبسوط الكلام فيه في كتب الأصول وقال الأصوليون أنه ليس من القياس "و" إنما "هو من التأويل للظواهر" أي ظواهر الألفاظ، وبيان معناها المقصود للشارع فيها، ولذلك قال به أبو حنيفة مع إنكاره القياس في الكفارات. "وخارج عن القياس الصادر" تشريعه من الشارع، وهو القياس المشهور، ونقل في كتب أصولية متعددة أن الغزالي قال: تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس ولا نعلم بين الأمة خلافا في جوازه، لكنه - أي الغزالي - متعقب في ذلك. وهذا مبسوط في كتب الأصول فلا حاجة إلى تطويل الكلام
2534 -
الثَّانِ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ حَيْثُ مَا
…
لَمْ يَكُ نَصٌّ بِالْمَنَاطِ أَعْلَمَا
2535 -
وَنيلَ بِالْبَحْثِ وَالاجْتِهَادِ
…
وَهْوَ قِيَاسِيٌّ فِي الاعْتِدَادِ
2536 -
وَالثَّالِثُ التَّحْقِيقُ لِلْمَنَاطِ مَعْ
…
وُجُودِ تَخْصِيصٍ بِهِ الْفَرْقُ يَقَعْ
2537 -
كَأَنَّه تَحَقُّقٌ مَنَاطَ مَا
…
مَنَاطُ حُكْمِهِ الأَعَمُّ عُلِمَا
فيه، وإنما ذكرناه هنا للتنبيه، وإتمام الفائدة.
"الثان" من هذه الأقسام هو "تخريج" واستنباط "المناط" المعلق به الحكم، وهذا يصار إليه "حيث ما" أي في أي موضع "لم يك" إلى"نص" الشرعي المفيد لذلك الحكم أو غيره قد آذن "بـ" ذلك "المناط" و"أعلما" - الألف للإطلاق - به، "و" بذلك فهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط، فكأنه "نيل" وأدرك "بالبحث والاجتهاد" والنظر "وهو" الاجتهاد المذكور "قياسي في" اعتباره و"الاعتداد" به وهو معلوم، مبسوط عليه الكلام في كتب الأصول، مفصل فيه القول فيها على تمام، فلتراجع للإطلاع على ذلك.
"و" القسم "الثالث" من هذه الأقسام الثلاثة التي ينقسم إليها هذا الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع ويرتفع هو "التحقيق للمناط" على وجه خاص، وهو الذي يحصل للشخص "مع وجود" تمييز و"تخصيص" نفسي وباطني يحصل "به الفرق" في محل النظر بين ما هو متعلق الحكم، وما هو غير متعلقه و"يقع" به فـ "كأنه" في حقيقة أمره "تحقق" يعني تحقيق "مناط ما" من المواضيع "مناط حكمه" الشرعي "الأعم" والأشمل الذي قد "علما" - الألف للإطلاق - ثبوته. فكأن تحقيق المناط على قسمين: تحقيق عام؛ وهو ما ذكر. وتحقيق خاص من ذلك العام.
وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما. فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلا، ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له، أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول، من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة. وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية، والأمور الإباحية، ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة. فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر.
2538 -
وَأَنَّهُ بِحَسَبِ الأَشْخَاصِ
…
وَوَاقِعٌ مِنْ أُولي الاخْتِصَاصِ
أما الثاني وهو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} وقد يعبر عنه بالحكمة، ويشير إليها قوله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قال مالك: من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم؛ أما سمعت قول الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفَال: 29]. وقال أيضا إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد. وقال: الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد. وقال أيضا: يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله. وقد كره مالك كتابة العلم - يريد ما كان نحو الفتاوى - فسئل ما الذي نصنع؟ قال تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتاب
(1)
.
"و" على الجملة فهذا الضرب من الاجتهاد يقرر فيه لبيانه "أنه" الذي يعين المناط الذي يتعلق الحكم به "بحسب" أحوال "الأشخاص" المكلفين المختلفة باعتبار أنه نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المدخل. هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره، ويختص بوجه آخر: وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر. ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر. ويكون بريئا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض
(2)
.
"و" هذا الضرب من الاجتهاد إنما يكون من أهل الفضل والمنح الربانية، وبذلك فإنه "واقع" وحاصل "من أولى" أي أصحاب "الإختصاص" بهذه المنزلة، ممن رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها فهو يحمل على
(1)
الموافقات 4/ ص 70.
(2)
الموافقات 4/ ص 70/ 71.
2539 -
لِكَوْنِهِ مِثْلَ الطَّبِيبِ يُعْطِي
…
كُلَّ امْرِئٍ مُصْلِحَهُ بِالْقِسْطِ
2540 -
وَكَمْ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مِنْ خَبَرْ
…
يَشْهَدُ بِاعْتِبَارِهِ وَمِنْ أَثَرْ
كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف. فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، وإنما يقع ذلك "لكونه مثل الطبيب" الذي "يعطي كل امرئ" مريض الدواء أو الغذاء الذي يكون "مصلحه بالقسط" والعدل، وذا يعلمه بمهارته في الطب، وعلمه بقواعده، وأسراره، وهكذا شأن هذا المجتهد في هذا الضرب من الاجتهاد - التنقيح الخاص للمناط -.
"و" السائل عن أدلة صحة هذا الضرب من الاجتهاد يقال له: "كم على صحة هذا" من حديث وكم "من خبر" صحيح "يشهد باعتباره و" كم "من أثر" يدل على أنه مجرى على مقتضاه شرعا، فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال، وخير الأعمال، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال، فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفصيل. ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام:"سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله. قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" وسئل عليه الصلاة السلام "أي الأعمال أفضل قال: الصلاة لوقتها. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" وفي النسائي: عن أبي إمامة قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: "مرني بأمر آخذه عنك. قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له" وفي الترمذي: أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيرا والذاكرات" وفي الصحيح في قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ، قال: ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به" وفي البزار: أي العبادة أفضل؟ قال: "دعاء المرء لنفسه" وفي الترمذي: "ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن" وفي البزار: "يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ عليك بحسن الخلق وطول الصمت؛ فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما" وفي مسلم: "أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده" وفيه: "سئل أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" وفي الصحيح: "وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر" وفي الترمذي: "خيركم من تعلم القرآن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعلمه" وفيه: "أفضل العبادة انتظار الفرج" إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويشعر إشعارا ظاهرا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل.
وقد دعا عليه السلام لأنس بكثرة المال فبورك له فيه. وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه". وقال لأبي ذر: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم" ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في الإمارة والحكم:"إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن" الحديث وقال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح.
وفي أحكام إسماعيل بن إسحاق عن ابن سيرين قال: كان أبو بكر يخافت، وكان عمر يجهر - يعني في الصلاة - فقيل لأبي بكر: كيف تفعل؟ قال: أناجي ربي وأتضرع إليه. وقيل لعمر: كيف تفعل؟ قال أوقظ الوسنان وأخسأ الشيطان وأرضي الرحمن. فقيل لأبي بكر: "ارفع شيئا" وقيل لعمر: "اخفض شيئا" وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد إخراج كل واحد منهما عن اختياره وإن كان قصده صحيحا
(1)
.
وفي الصحيح "أن ناسا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان" وفي حديث آخر: "من وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله" وعن ابن عباس في مثله قال: "إذا وجدت شيئا من ذلك فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام بأجوبة مختلفة، وأجاب ابن عباس بأمر آخر، والعارض من نوع واحد.
وفي الصحيح: "إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار" وآثر عليه الصلاة والسلام في بعض الغنائم قوما، ووكل قوما إلى إيمانهم، لعلمه
(1)
الموافقات 4/ 71 - 72 - 73.
"
المسألة الثانية
"
2341 -
مَقَامُ الاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ اسْتَقَرْ
…
لِكُلِّ عَالِمٍ بِوَصْفَيْنِ اشْتَهَرْ
2342 -
الْفَهْمُ لِلْمَقَاصِدِ الشَّرعِيَّةْ
…
عَلَى كمَالٍ حَالُهُ مَرْعِيَّةْ
بالفريقين. وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال:"أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب، فردها في وجهه.
وقال علي: "حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ " فجعل إلقاء العلم مقيدا، فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم وقد قالوا في الرباني إنه الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره. فهذا الترتيب من ذلك. وروي عن الحارث بن يعقوب قال:"الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن، وعرف مكيدة الشيطان" فقوله وعرف مكيدة الشيطان هو النكتة في المسألة. وعن أبي رجاء العطاردي قال قلت للزبير بن العوام: ما لي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة؟ قال: نبادر الوسواس. هذا مع أن التطويل مستحب، ولكن جاء ما يعارضه، ومثله حديث "أفتان أنت يا معاذ؟ ".
ولو تتبع هذا النوع لكثر جدا، ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين، وعن الأئمة المتقدمين. وهو كثير
(1)
.
"المسألة الثانية"
في أن بعض أضرب الاجتهاد قد يحصل ممن اتصف بفهم مقاصد الشريعة على كمالها، وبالتمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها. وبيان ذلك أن "مقام" بعض أنواع "الاجتهاد في الشرع" قد "استقر" وثبت "لكل عالم" اتصف "بوصفين" و"اشتهر" بتحليه بهما.
أحدهما: "الفهم للمقاصد الشرعية" على الوجه الذي بنيت به الشريعة عليها، وقامت به عليها ويجب أن يكون ذلك الفهم "على كمال" وتمام "حاله المرعية" التي قيامها على العلم بثبوت رعاية المقاصد شرعا، وعلى العلم بأنواعها؛ والوجه الذي
(1)
الموافقات 4/ ص 73/ 74.
2543 -
ثُمَّ تَمَكُّن مِنِ اسْتِنْبَاطِ مَا
…
رَامَ تَنَزُّلًا عَلَى مَا فَهِمَا
2544 -
وَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى حُصُولِ
…
مَعَارِفٍ تَهْدِي إِلَى السَّبِيلِ
تراعى به في بناء الأحكام الفقهية، وبالمسالك التي تسلك بموجبها في الأعمال، وبالضوابط التي تضبط النفس بها عملا بمقتضاها.
وأنت خبير بأنه قد مر في "كتاب المقاصد" أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وإن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلف، إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات.
واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله
(1)
.
"ثم" الوصف الثاني وهو "تمكّن" هذا المجتهد "من استنباط" واستخراج "ما رام" وقصد من تلك المقاصد "تنزلا" يعني تنزيلا له "على" وفق "ما قد فهما" - الألف للإطلاق - يعني فهمه في تلك المقاصد.
"وذاك" التمكن "راجع" ثبوته في نفس المجتهد "إلى حصول معارف" له ترشد و"تهدي إلى السبيل" الأنهج في ذلك، وهو السبيل الموصل إلى حصول هذا الاجتهاد وتحققه على الوجه المطلوب شرعا. وهذه المعارف تجدها مبثوثة على تمام استقصاء في علم الأصول - أصول الفقه - وعلم القواعد الفقهية، فهناك تجدها متضمنة مبسوطا الكلام فيها.
لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالما بها مجتهدا فيها، وتارة يكون حافظا لها متمكنا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها، وتارة يكون غير حافظ ولا عارف، إلا أنه عالم بغايتها وأن له افتقارا إليها في مسألته التي يجتهد فيها، فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة
(1)
الموافقات 4/ ص 76 - 77.
تنبيه
2545 -
مُجْتَهِدٌ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ يَلْزَمُهْ
…
عُمُومُ الاجْتِهَادِ فِيمَا يَعْلَمُهْ
2546 -
مِمَّا لَهُ بِالاجْتِهَادِ الْمُوجِبِ
…
تَعَلُّقٌ غَيْرُ اللِّسَانِ الْعَرَبي
2547 -
أَعْنِي سِوَى الْغَرِيبِ وَالتَّصْرِيفِ
…
وَمَا يَخُصُّ الشِّعْرَ فِي التَّأْلِيفِ
بمسألته، فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم. وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة.
فإن كان مجتهدا فيها كما كان مالك في علم الحديث، والشافعي في علم الأصول فلا إشكال، وإن كان متمكنا من الاطلاع على مقاصدها؛ كما قالوا في الشافعي وأبي حنيفة في علم الحديث، فكذلك أيضا لا إشكال في صحة اجتهاده، وإن كان القسم الثالث فإن تهيأ له الاجتهاد في استنباط الأحكام مع كون المجتهد في تلك المعارف كذلك، فكالثاني، وإلا فكالعدم
(1)
.
"تنبيه"
قد حصل من هذه الجملة أن الـ "مجتهد في الشرع" يعني في أحكام الشريعة "ليس" يجب عليه أو "يلزمه" حصول "عموم الاجتهاد" منه "في" كل "ما يعلمه" من علم "مما له بالاجتهاد الموجب" - بفتح الجيم - يعني المطلوب شرعا - وهو إنما ذكره - لإتمام الكلام لصحة الاستغناء عنه "تعلق" بحيث يكون الاجتهاد متوقفا عليه "غير" علم "اللسان العربي" فإنه لابد من تحصيله على تمامه.
و"أعني" باللسان العربي هنا جملة علم هذا اللسان سواء كان متعلقا بالألفاظ كالنحو، أو بالمعاني كاللغة - معاني الألفاظ - وعلم المعاني "سوى" علم "الغريب" في اللغة "و" علم "التصريف" المتعلق بأصول الكلمات وما يعرض في شأنها من القلب والإبدال وغيرهما، "و" كذا "ما يخص" النظم" الشعر في "جهة "التأليف" يعني في تأليفه وصياغته، وذلك كالعروض والقافية فإن هذا غير مفتقر إليه هنا وإن كان العلم به كما لا في العلم بالعربية. والأدلة على هذا كله متوافرة.
(1)
الموافقات 4/ ص 77/ 78.
2548 -
فأَوَّلٌ دَلِيلُهُ مِنَ النَّظَرْ
…
وَالثَّانِ مِمَّا فِي الْمَقَاصِدِ اسْتَقَرْ
" فـ" أما الأمر "الأول" وهو أنه لا يشترط في المجتهد في الأحكام الفقهية أن يكون مجتهدا في كل علم يتوقف عليه اجتهاده في الأمور الشرعية فإن "دليله" يؤخذ "من" جهة "النظر" وواقع الحال الجاري في هذا الشأن، وهو أمور:
أحدها: أنه لو كان ذلك واجبا لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى الصحابة، ونحن نمثل بالأئمة الأربعة: فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته، وأبو حنيفة كذلك، وإنما عدوا من أهله مالكا وحده، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ويبنى الحكم على ذلك، والحكم لا يستقل دون ذلك الاجتهاد. ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم، لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب؛ وليس الأمر كذلك بالإجماع.
والثاني: أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه، ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال، بل يقول العلماء أن من فعل ذلك فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات، فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الاسطقصات أربعة وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان، وغير ذلك من المقدمات، كذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المَائدة: 6] بالخفض مروي على الصحة، ومن المحدث أن الحديث الفلاني صحيح أو سقيم، ومن عالم الناسخ والمنسوخ أن قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] منسوخ بآية المواريث، ومن اللغوي أن القرء يطلق على الطهر والحيض، وما أشبه ذلك، ثم يبني عليه الأحكام. بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين، وهي مبنية على مقدمات مسلمة في علم آخر، مأخوذة في علم الهندسة على التقليد، وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية، ولم يكن ذلك قادحا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة، إذ كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها، كانت كذلك في نفس الأمر أولا وهذا أوضح من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إطناب فيه
(1)
. فلا يقال: إن المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التي يبنى عليها لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده لأنا نقول: بل يحصل له العلم بذلك، لأنه مبني على فرض صحة تلك المقدمات. وبرهان الخلف مبني على مقدمات باطلة في نفس الأمر، تفرض صحيحة فيبني عليها، فيفيد البناء عليها العلم بالمطلوب، فمسألتنا كذلك
(2)
.
والثالث: أن نوعا من الاجتهاد لا يفتقر إلى شيء من تلك العلوم أن يعرفه، فضلا أن يكون مجتهدا فيه، وهو الاجتهاد في تنقيح المناط، وإنما يفتقر إلى الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة. وإذا ثبت نوع من الاجتهاد دون الاجتهاد في تلك المعارف ثبت مطلق الاجتهاد بدونه وهو المطلوب.
فإن قيل: إن جاز أن يكون مقلدا في بعض ما يتعلق بالإجتهاد لم تصف له مسألة معلومة فيه؛ لأن مسألة يقلد في بعض مقدماتها لا تكون مجتهدا فيها بإطلاق، فلم يمكن أن يوصف صاحبها بصفة الاجتهاد بإطلاق، وكلامنا إنما هو في مجتهد يعتمد على اجتهاده بإطلاق، ولا يكون كذلك مع تقليده في بعض المعارف المبني عليها.
فالجواب أن ذلك شرط في العلم بمسألة المجتهد فيها بإطلاق، لا شرط في صحة الاجتهاد، لأن تلك المعارف ليست جزءا من ماهية الاجتهاد، وإنما الاجتهاد يتوصل إليه بها. فإذا كانت محصلة بتقليد أو باجتهاد أو بفرض محال، بحيث يفرض تسليم صاحب تلك المعارف المجتهد فيها ما حصل هذا ثم بنى عليه كان بناؤه صحيحا؛ لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم، وهو لأنه على ما تقدم لا بد له من هذه المعارف كوسيلة إلى فهم مقاصد الشريعة على الأقل وإن لم يحتج إليها عند التخريج وإنما يصح ذلك إذا صح أن يأخذ مقاصد الشريعة تقليدا. فتأمل قد وقع. ويبين ذلك ما تقدم في الوجه الثاني، وأن العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس، كمالك والشافعي وأبي حنيفة كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم، وصاروا في عداد أهل الاجتهاد، مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم، ثم اجتهدوا بناء على مقدمات مقلد فيها، واعتبرت أقوالهم واتبعت آراؤهم، وعمل على
(1)
الموافقات 4/ 79.
(2)
الموافقات 4/ ص 80.
2349 -
وَالاجْتِهَادُ بَوْنُهُ فِي الرُّتَبِ
…
بِحَسَبِ الْفَهْمِ لِسَانَ العَرَبِ
وقفها، مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم، فصار قول ابن القاسم أو أشهب أو غيرهما معتبرا في الخلاف على إمامهم، كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة، والمزني والبويطي مع الشافعي، فإذًا لا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيها
(1)
.
"و" أما الأمر "الثان" وهو أن علم اللغة العربية يجب العلم به على تمام فإن دليله "مما" بين "في" كتاب "المقاصد" و"استقر" إيراده فيه، وخلاصة ذلك أن الشريعة عربية، فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز. فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة. والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية. فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة. فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولا.
وإذا تقرر هذا فإن "الاجتهاد بونه" وتفاوته "في الرتب" والدرجات إنما يحصل "بحسب" درجة "الفهم" لعلم "لسان العرب" فإنه المعيار في ذلك. والمجتهد لا بد أن يبلغ في اللغة العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش "والجرمي والمازني ومن سواهم. وقد قال الجرمي: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه. وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني. ومن هنالك كان الجرمي على ما قال، وهو كلام يروى عنه في صدر كتاب سيبويه من غير إنكار. ولا يقال: إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية، فقالوا ليس على الأصولي أن
(1)
الموافقات 4/ ص 81 - 82.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يبلغ في العربية مبلغ الخليل وسيبويه وأبي عبيدة والأصمعي، الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة، وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب والسنة
(1)
.
لأنا نقول: هذا غير ما تقدم تقريره. وقد قال الغزالي في هذا الشرط: إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال، حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه، وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الإجتهاد. ثم قال: والتخفيف فيه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد، وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو، وهذا أيضا صحيح، فالذي نفى اللزوم فيه ليس هو المقصود في الاشتراط، وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك المقدار، وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ولا أن يستعمل الدقائق، فكذلك المجتهد في العربية، فكذلك المجتهد في الشريعة. وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية، فيبنى في العربية على التقليد المحض، فيأتي في الكلام على مسائل الشريعة بما السكوت أولى به منه، وإن كان مما تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين، وعلما في الأئمة المهتدين. وقد أشار الشافعي في رسالته إلى هذا المعنى، وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها؛ ثم ذكر مما يعرف من معنيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادا به ظاهره، وبالعام يراد به العام ويدخله الخصوص، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام، وبالعام يراد به الخاص، ويعرف بالسياق، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره، وآخره عن أوله، وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد، تم قال: فمن جهل هذا من لسانها - وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة - فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقة الصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب
(1)
الموافقات 4/ ص 83.
"
المسألة الثالثة
"
2550 -
أَنَّ فُرُوعَ الشَّرْعِ كَالْقَوَاعِدِ
…
تَرْجِعُ فِي الحُكْمِ لِقَوْلٍ وَاحِدِ
2551 -
وَلَا يَصِحُّ غَيْرُ ذَاكَ فِيهِ
…
وَكَمْ مِنَ الآيَاتِ تَقْتَضِيهِ
والخطأ فيه. هذا قوله، وهو الحق الذي لا محيص عنه. وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها. وما سواها من المقدمات فقد يكفي فيه التقليد، كالكلام في الأحكام تصورا وتصديقا، كأحكام النسخ، وأحكام الحديث، وما أشبه ذلك. فالحاصل أنه لا غنى بالمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب، بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب
(1)
.
"المسألة الثالثة"
في أن الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها، وأصولها. وبيان ذلك "أن فروع الشريعة" وأحكامها الجزئية الجارية على أفعال المكلفين على سبيل التعيين والتفصيل هي "كـ" مثل "القواعد" أي الأصول من حيث إنها كلها "ترجع" في واقع الحال و"في الحكم لقول واحد" صادر من الشارع، وهو القول الذي يدل على الحكم المطلوب، وإن كثر الخلاف في الفروع، فإن ذلك لا يقتضي تعدد الأقوال أو الأدلة الشرعية فيما اختلف فيه من ذلك، وإنما الخلف منبعه فهم المجتهدين، واختلاف مداركهم واعتباراتهم في موضع الخلف، أما قول الشارع في ذلك فإنه - كما تقدم ذكره - ليس إلا واحدا "ولا يصح" شرعا ونظرا "غير ذلك" في هذا الشأن ولا يصلح "فيه" سواه.
"و" هذا أمر "كم من الآيات" في القرآن الكريم تدل عليه و"تقتضيه" تام الظهور والوضوح من ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82] فنفى أن يقع فيه الخلاف البتة، ولو كان ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال. وفي القرآن:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاء: 59] الآية؛ وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف، فإنه رد المتنازعين
(1)
الموافقات 4/ ص 84 - 85.
2552 -
وَلَازِمٌ فِي الْعَكْسِ أَنْ يُكَلَّفَا
…
غَيْرُ مُطَاقٍ وَهْوَ لِلْمَنْعِ اقْتَفَا
إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد، إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع، وهذا باطل. وقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]؛ الآية؛ والبينات هي الشريعة، فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله البتة لما قيل لهم: من بعد كذا، ولكان لهم فيها أبلغ العذر، وهذا غير صحيح. فالشريعة لا اختلاف فيها. وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فبين أن طريق الحق واحد، وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها. وقال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين. وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] إلى قوله: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشّورى: 113] ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم، فقال:{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشّورى: 14] وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} [البقرة: 176] والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد. قال المزني صاحب الشافعي: ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة
(1)
.
"و" يضاف لهذا الذي ذكر من الأدلة دليل آخر وهو أنه "لازم" عقلا "في" حال جريان "العكس" لهذا الذي ذكر ووقوع ضده في هذه الشريعة "أن يكلفا" - الألف للإطلاق - الناس عملا "غير مطاق" وغير مقدور عليه "و" التكليف بما لا يطاق "هو" أمر "لـ" من يجري عليه "المنع" الشرعي والعقلي "اقتفا" - كما تقدم تقريره - إنما كان ذلك يؤدي إلى هذا الذي ذكر من تكليف ما لا يطاق، لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما
(1)
الموافقات 4/ ص 86 - 87.
2553 -
وَالعَيُ لِلنَّسْخِ وَللتَّرْجِيحِ
…
قَاضٍ لِمَا قُرِّرَ بِالتَّصْحِيحِ
وفرضناهما مقصودين معا للشارع، فإما أن يقال: إن المكلف مطلوب بمقتضاهما أولا، أو مطلوب بأحدهما دون الآخر، والجميع غير صحيح.
فالأول يقتضي (افعل)، (لا تفعل) لمكلف واحد من وجه واحد، وهو عين التكليف بما لا يطاق. والثاني باطل، لأنه خلاف الفرض.
وكذلك الثالث، إذ كان الفرض توجه الطلب بهما. فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم
(1)
.
"و" دليل آخر وهو أن "العي" والاعتبار "للنسخ والترجيح" في مجاري النظر في الأدلة الشرعية واستخراج الأحكام منها هو أمر "قاض لما قرر" من أن القول الشرعي المذكور واحد، "بالتصحيح" وحاكم له بذلك، وذلك أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ والمنسوخ على الجملة، وحذروا من الجهل به والخطأ فيه، ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال، وإلّا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، والفرض خلافه، فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ - من غير نص قاطع فيه - فائدة، ولكان الكلام في ذلك كلاما فيما لا يجني ثمرة، إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما إبتداء ودواما، استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين، لكن هذا كله باطل بإجماع. فدل على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة. وهكذا القول في كل دليل مع معارضه، كالعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وما أشبه ذلك، فكانت تنخرم هذه الأصول كلها، وذلك فاسد، فما أدى إليه مثله.
وكذلك اتفقوا - أيضا - على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة، إذا لم يكن الجمع، وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير نظر في ترجيحه على الآخر. والقول بثبوت الخلاف في الشريعة يرفع باب الترجيح جملة، إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة، لكن ذلك فاسد، فما أدى إليه مثله
(2)
.
(1)
الموافقات 4/ ص 87.
(2)
الموافقات 4/ ص 88.
2554 -
وَلَيْسَ فِي مَجَالِ الاجْتِهَادِ
…
نَقْضٌ لِمَا مَرَّ فِي الاسْتِشْهَادِ
2555 -
فَإنَّهُ مِمَّا بِهِ الأدِلَّةْ تَعَارَضَتْ
…
تَفْصِيلًا أَوْ فِي الْجُمْلَةْ
2556 -
وَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى الأنْظَارِ
…
لَا نَفْسِ الأمْرِ عِنْدَ الاعْتِبَارِ
" و" لا يصح أن يقال: إن مما يدل على جريان الاختلاف في أحكام الشريعة وأنها موضوعة على وقوعه فيها، واقتضائها له باعتبار بنيتها - الأمور الاجتهادية - التي جعل الشارع فيها للاختلاف مجالا، فكثيرا ما تتوارد على المسألة الواحدة أدلة قياسية وغير قياسية، بحيث يظهر بينها التعارض ومجال الاجتهاد لما قصده الشارع في وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التي يختلف في أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك. ولذلك نبه في الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة والسلام:"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران" فهذا موضع آخر من وضع الخلاف بسبب وضع محاله.
إذ "ليس" في الأمور المقررة شرعا "في مجال الاجتهاد" وشأنه "نقض" أي هدم "لما مر" ذكره "في" هذا الموضوع في مجرى "الاستشهاد" به، لإنه لا يعارض في واقع الأمر ما ذكر. "فـ" مجال الاجتهاد وإن كان موضع الاختلاف بين أهل الاجتهاد، "إنه" لم يكن متصفا بذلك لتعدد الأقوال - الأدلة - الشرعية الواردة فيه، بل لأن النظر فيه مداره على الإلحاق المبني على مقتضى التشابه. الذي قد تتعارض فيه الجهات المعتبرة في بناء الأحكام الفقهية الظنون وتتقابل فيه الاحتمالات التي تصلح أن تكون مناطا للحكم فيه، فكان بذلك "مما تعارضت به" يعني فيه "الأدلة" وتقابلت فيه تقابل الأضداد في نظر المجتهد، "تفصيلا" أي على وجه التفصيل، بحيث يكون ذلك التعارض في ذلك على جزئية "أو في الجملة" بحيث يكون التعارض بين جهة جزئية وجهة كلية، وبيان ذلك كله والتمثيل له سيأتي - إن شاء الله تعالى - في المسألة الثالثة في كتاب "لواحق الاجتهاد".
"و" بذلك فإن "ذاك" التعارض وجوده وحصوله "راجع إلى الأنظار" يعني أنظار المجتهدين وما يعرض لهم في مجرى ذلك من الاعتبارات الفقهية والجهات التي تتجاذب الأحكام فيها، "لا" إلى "نفس" الواقع و"الأمر" في الشريعة فإن ذلك ليس راجعا إليه على الإطلاق، وهذا تدركه عند إمعان النظر في هذا الشأن، وإجراء "الاعتبار" والتأمل فيه.
2557 -
وَمِنْهُ الاخْتِلَافُ لِلصَّحَابَةْ
…
الْحُكْمُ وَاحِدٌ بِلَا اسْتِرَابَهْ
قال الشاطبي: (وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه، لأنها دائرة بين طرفي نفي وإثبات شرعيين، فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ. وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحد فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف، ولا هو حجة من حجج الاختلاف، بل هو مجال استفراغ الوسع، وإبلاع الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد. فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا. وإن قيل إن الكل مصيبون فليس على الإطلاق، بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده، لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده، ولا الفتوى إلا به، لأن الإصابة عندهم إضافية لا حقيقية، فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق لكان فيه حجة. وليس كذلك.
فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد، غير أنه إضافي، فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال، وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد، لا قولان مقرران، فلم يظهر إذًا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف، بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد)
(1)
، ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا، وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه. وقد مر جواب مسألة التصويب والتخطئة.
وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين، لا في نفس الأمر، فالأمر على ما قالوه جائز، ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة. وإن أرادوا تجويز ذلك في نفس الأمر فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة؛ لورود ما تقدم من الأدلة عليه، ولا أظن أن أحدا منهم يقوله
(2)
.
"و" هذا الاختلاف الفقهي المبني على ما ذكر "منه" كذلك "الاختلاف" الحاصل "للصحابة" في بعض الأحكام الفقهية "فالحكم" فيما اختلفوا ليس متعددا في واقع الأمر وإنما هو "واحد" فيه كما في كل ما جرى فيه الاختلاف الفقهي، وهذا أمر مقطوع بثبوته "بلا استرابة" أي شك.
(1)
الموافقات 4/ ص 92.
(2)
الموافقات 4/ ص 93.
2558 -
وَمَا أَتَى فِي شَأْنِ الاقْتِدَاءِ
…
بِأَيِّهِمْ كَانَ فَفِي ابْتِدَاءِ
" و" أما "ما أتى" من الخبر "في شأن الاقتداء بأيهم كان" الذي ورد في حديث مروي من عدة طرق كلها ضعيفة، وهو "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فإنه مع فرض صحته وتسليم كونه دليلا في هذا المقام موجه بأن المراد منه هو أنه - أي قول الصحابي - حجة على انفراد كل واحد منهم، أي أن من استند إلى قول أحدهم مصيب من قلد قول أحد المجتهدين، لا أن أقول كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واحد. فإن هذا مناقض لما تقدم.
وأما من قال: إن اختلاف الصحابة رحمة - كما روي ذلك عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز - "فـ" إن ذلك جار في الذي مهدوه من سبل النظر في النصوص الشرعية ومن مناهج بناء الأحكام الفقهية بطريقة اعتبار أصول الفقه المختلفة كسد الذريعة ورعاية المال، والأخذ بدلالة الإلتزام "في"زمان "ابتداء" النظر الفقهي ونشوءه قال القاضي إسماعيل:"إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي؛ فإما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا. قال ابن عبد البر: كلام إسماعيل هذا حسن جدا"
(1)
.
وذلك أن الصحابة لما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عِمرَان: 7] ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال، لأن الشريعة قد كملت، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة، فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه مقصود الشارع. فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها - وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها - لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب، للأدلة الدالة على ذم الاختلاف وأن الشريعة لا اختلاف فيها، ومواضع الاشتباه مظان الاختلاف في إصابة الحق فيها، فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة. فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف سهل على من بعدهم سلوك الطريق، فلذلك - والله أعلم - قال عمر بن عبد العزيز: ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم. وقال:
(1)
الموافقات 4/ ص 93.
2559 -
أَوْ بِاعْتِبَارِ قُطْرٍ أَوْ زَمَانِ
…
وَذَا هُوَ التَّوْسِيعُ بِالْبَيَانِ
2560 -
وَلَا بِوَقْعِ الْمُتَشَابِهَاتِ
…
أَعْنِي بِهَا نَوْعَ الْحَقِيقِيَّاتِ
2561 -
فَإِنَّهَا لِلابْتِلَاءِ وُضِعَتْ
…
لَا أَنَّهَا لِلْاخْتِلَافِ شُرِعَتْ
ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا
(1)
.
"أو "أن ذلك الاختلاف رجمه "باعتبار" صلاح بعضها بحال أهل "قُطرٍ" أو بلد، وصلاح بعضها الآخر بأهل غيره. "أو" باعتبار حال أهل "زمان" ما، دون أهل زمان آخر، وبذلك يكون الناس في سعة من أمرهم مع اختلاف أحوالهم الزمانية والمكانية، "وذا" إذا تأملت فيه تجد أنه "هو التوسيع" والتعميم "بالبيان" لكل ما قد يعرض من الأحوال للناس باختلاف بلداهم، وأزمنتهم. وأما الحكم الشرعي في واقع الأمر فهو واحد في كل جزئية.
"و" إذا كان - كل ما تقدم ذكره - من اختلاف الصحابة وجريان الاختلاف بين المجتهدين - لا يعارض هذا الأصل - وهو أن قول الشارع وحكمه في كل جزئية واحد - فإنه "لا" يعارض - كذلك "بوقع" أي وقوع "المتشابهات" وورودها، و"أعني بها" أي بالمتشابهات هنا "الحقيقيات" التي بين المراد بها في مجاري الكلام على الإحكام والتشابه.
"فـ" لا يصح أن يدعى فيها - أي المتشابهات المذكورة - أنها موضوعة في الشريعة قصد الاختلاف شرعا، لأن ذلك غير وارد، بل هو فاسد شرعا، ونظرا، وقد تقدم بيان ذلك والاستدلال عليه، والصحيح "إنها" في واقع الأمر قد وردت "للابتلاء" أي الاختبار و"وضعت" شرعا لأجله "لا أنها لـ" وقوع "الاختلاف" بين الناس في فهمها "شرعت" كما قد يدعى. ولما كانت موضوعة للابتلاء عمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم، ويقع الزائغون في اتباع أهوائهم ومعلوم أن الراسخين هم المصيبون وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها، وأن الزائغين هم المخطئون. فليس في المسألة إلا أمر واحد، ولا أمران ولا ثلاثة، فإذا لم يكن إنزال المتشابه علما للاختلاف ولا أصلا فيه.
(1)
الموافقات 4/ ص 94.
2562 -
وَمَعَ ذَا فَالذَّمُّ فِيهَا وَارِدُ
…
لِمُخْطِيء فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدُ
2563 -
وَالاخْتِلَافُ غيْرُ حُجَّةٍ وَفي
…
رَدِّ التَّنَازُعِ دَلِيلٌ اقْتُفِي
2564 -
وَالْوَاجِبُ التَّرْجِيحُ أَوْ تَوَقُّفُ
…
فِيمَا يُرَى دَلِيلُهُ يَخْتَلِفُ
2565 -
وَلَا يَجِوزُ عِنْدَهُ لِلطَّالِبِ
…
تَتَبُّعُ الرُّخْصَةِ فِي الْمَذَاهِبِ
2566 -
لِأنَّ فِي ذَاكَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَا
…
وَهْوَ مُضِلٌّ قَصْدُهُ عَنِ السُّوَا
" ومع ذا" كله "فالذم" آت "فيها" يعني شأنها و"وارد" شرعا "لـ" كل "مخطئ" في شأن فهمها، وبذلك "فالحق فيها واحد" إذن، وهو ما وافق قصد الشارع بها، والخطأ ما كان على خلاف ذلك.
"و" كذلك أمر "الاختلاف" بين الفقهاء على العموم، وكذلك بالنسبة للمقلد فإنه "غير حجة" في دعوى تعدد الأحكام الفقهية في المسألة الواحدة "وفي" الأمر بوجوب "رد" ما فيه "التنازع" إلى الله والرسول "دليل" قاطع في ذلك "اقتفي "واتبع فيه، ولأنه لو كان المختلف فيه مقبولا شرعا على ما هو عليه، ما أمر الله - تعالى - بهذا الرد في قوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف برد المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد، "و" بذلك فإن "الواجب" في حال وقوع التعارض بين ظواهر الأدلة والاختلاف الفقهي هو "الترجيح" بين تلك الأدلة بالنسبة للمجتهد، وبين تلك الأقوال بالنسبة للمقلد، وطرق الترجيح في ذلك مبينة في كتب أصول الفقه، فإن لم يظهر وجه للترجيح في ذلك "أو" حصل العجز عن الذهاب إليه فإنه يصار إلى الـ "توقف" وذلك جار مقتضاه "في" كل "ما يرى" ويعتقد أن "دليله" الشرعي "يختلف" ويتعارض ظاهره، "و" بناء على هذا الأمر تقرر أنه "لا يجوز" شرعا "عنده" أي عند وجود هذا الاختلاف في حكم ما "للطالب" له للعمل به "تتبع الرخصة" الواردة "في" مذهب ما من "المذاهب" الواردة في شأن هذه الرخصة التتبع "اتباعا للهوى و" معلوم شرعا أن اتباع الهوى مهلك و"مضل قصده" في مجاري الإتيان بالعمل "عن السوا" - بالمد وقصره للضرورة - والسواء - هنا - الطريق الموصل إلى الحق، بل قد تقرر أن اتباع الهوى مناقض لما بنيت عليه هذه الشريعة.
2567 -
إِذْ حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ مُقْتَضَاهَا
…
أَنْ تَخْرُجَ النُّفُوسُ عَنْ هَوَاهَا
"
فصل
"
2568 -
وَمِنْ هُنَا يُمْنَعُ مَنْ يُقَلِّدُ
…
الأخْذُ بِالتَّخْيِيرِ فِيمَا يَرِدُ
2569 -
فِيهِ اخْتِلَافُ مُفْتِيَيْنِ بَلْ يَقِفْ
…
إِنْ كَانَ بِالتَّرْجِيحِ غَيْرَ مُتَّصِفْ
" إذ حكمة" وفائدة ما جاء في الدين من "التشريع" أي وضع الأحكام التكليفية "مقتضاها" هو "أن تخرج النفوس عن" سلطان "هواها" إلى عبادة ربها؛ كما تقرر بيانه، وتقريره وذكره مرارا، وبذلك فإن إجازة تخيير المكلف بين القولين أو الأقوال الفقهية الواردة في مسألة ما نقض لهذه الحكمة التي ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة، أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته. وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته، اعتقادا، وقولا، وعملا. فلا يكون متبعا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع. ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا إتباع الشهوات في الاختيار؛ وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة، فلا يصح القول بالتخيير على كل حال
(1)
.
"فصل"
في أنه لا سبيل للمقلد في أن يأخذ من أقوال الفقهاء المختلفة على وفق اختياره وهواه.
"و" بيان ذلك أنه يؤخذ "من" هذا الذي تقرر "هنا" أنه "يمنع من يقلد" - بكسر اللام مبنيا للفاعل - من "الأخذ" والعمل "بالتخيير فيما يرد" من أقوال وآراء أهل العلم في كل ما ورد "فيه اختلاف مفتيين" أو أكثر "بل" يجب عليه أن "يقف" في الأخذ بأي رأي أو قول من ذلك "إن كان بـ" القدرة على "الترجيح" بين تلك الآراء والأقوال "غير متصف" بأن كان جاهلا بالأدلة المعتمد عليها في بناء تلك الأقوال، أو عالما بها ولكنه لا يدري ما به يحصل الترجيح بينها، وسبل ذلك، وإنما يجب
(1)
الموافقات 4/ ص 94.
2570 -
إِذْ نِسْبَةُ الْمُفْتِي إِلَى الْمُقَلِّدِ
…
كَنِسْبَةِ الدَّلِيلِ لِلْمُجْتَهِدِ
عليه الوقف في ذلك "إذ نسبة المفتي" بالنظر "إلى المقلد" له "كنسبة الدليل للمجتهد"، فلا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ومصادفة العامي المفتي، فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معا، ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح. وبعض الناس قد يعد القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة، وبذلك يتبع هواه، وما يوافق غرضه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين، وقواه بما روي من قوله عليه الصلاة والسلام:"أصحابي كالنجوم" وقد مر الجواب عنه، وإن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه. وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال: ليس بداخل تحت ظاهر الحديث، لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه، فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى، وقد مر ما فيه، فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها. وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد؛ فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد. ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع. وأيضا فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة، وهو قوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة.
فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول. وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت، ولذلك أعقبها بقوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النِّسَاء: 60] الآية
(1)
؛ وهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله: "أصحابي كالنجوم" وأيضا فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل. وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأن
(1)
الموافقات 4/ ص 96.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء، وهو عين إسقاط التكليف، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل، فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف. لا يقال: إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز فكذلك بعد لقائه، والاجتماع طردي.
لأنا نقول: كلا، بل للاجتماع أثر لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل، كما لو وجد دليلا ولم يطلع على معارضه بعد البحث عليه جاز له العمل. أما إذا اجتمعا واختلفا عليه فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد. ولقد أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب، واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق، فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور، لا قاصدا لاتباع هواه فيه، ولا لمقتضى التخيير على الجملة، فإن التخيير الذي هو معنى الإباحة مفقود ههنا، واتباع الهوى ممنوع فلابد من هذا القصد. وفي هذا الاعتذار ما فيه، وهو تناقض، لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال، إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه.
"فصل"
وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال، اتباعا لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق. ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة، وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية وفيما يتعلق به ذلك
(1)
.
فأما ما لا يتعلق به فصل قضية بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته ففيه من المعايب ما تقدم. وحكى عياض في المدارك قال موسى بن معاوية: كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان، فقال له بهلول: ما أقدمك؟ قال نازلة، رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق ثلاثا ما أخفيته. قال له البهلول: مالك يقول إنه
(1)
الموافقات 4/ ص 97.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يحنث في زوجته. فقال السائل: وأنا قد سمعته يقول وإنما أردت غير هذا. فقال: ما عندي غير ما تسمع. قال فتردد إليه ثلاثا كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول. فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال: يا ابن فلان ما أنصفتم الناس، إذا أتوكم في نوازلهم قلتم:(قال مالك). (قال مالك) فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص، الحسن يقول: لا حنث عليه في يمينه فقال السائل: الله أكبر قلدها الحسن أو كما قال.
وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين فالأمر أشد. وفي الموازية كتب عمر بن الخطاب: لا تقضي بقضائين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك. قال ابن المواز: لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل، وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد. وذلك عندي أن يقضي بقضاء بعض من مضى، ثم يقضي في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه، وهو أيضا من قول من مضى، وهو في أمر واحد. ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل. فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا. وما قاله صواب؛ فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام، على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر، مع عدم تطرق التهمة للحاكم. وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله.
وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى، فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم
(1)
وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى، فصرف يحيى رسوله، وقال له: لا أشير عليه بشيء؛ إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه. فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه، وركب من فوره إلى يحيى، وقال له لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع، وسوف أقضي له غدا إن شاء الله. فقال له يحيى: وتفعل ذلك صدقا؟ قال نعم. قال له: فالآن هيجت غيظي؛ فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله، متخيرا في الأقوال، فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضا مخلوق ضعيف فلا خير فيما تجيء به، ولا فيَّ إن رضيته منك، فاستعف من ذلك فإنه أستر لك، وإلا رفعت في عزلك. فرفع يستعفى فعزل.
(1)
الموافقات 4/ ص 98.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقصة محمد بن يحيى بن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة، ذكرها عياض، وكانت مما غض من منصبه
(1)
.
وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته، وأن لا يفتي أحدا، فأقام على ذلك وقتا؛ ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر، فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه، لمقابلته متنزهه وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه، فقال له ابن بقي: لا حيلة عندي فيه، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس. فقال له: فتكلم مع الفقهاء فيه، وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه، فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة. فتكلم ابن بقي معهم، فلم يجعلوا إليه سبيلا. فغضب الناصر عليهم، وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم. فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده. وبلغ ابن لبابة هذا الخبر، فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعا، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة وتقلدها وناظر أصحابه فيها. فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة، فاجتمع القاضي والفقهاء، وجاء ابن لبابة آخرهم، وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها، فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه. وابن لبابة ساكت فقال له القاضي: ما تقول أنت يأبا عبد الله؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء. وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا، وهم علماء أعلام يهتدى بهم أكثر الأمة؛ وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنة فسحة، وأنا أقول فيه بقول أهل العراق، وأتقلد ذلك رأيا. فقال له الفقهاء: سبحان الله؛ تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه، واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال له محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم، ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم
(1)
الموافقات 4/ ص 99.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأرخصتم لأنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا به مأخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء، فكلهم قدوة. فسكتوا، فقال للقاضي: أنه إلى أمير المؤمنين فتياي. فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد بن يحيى بن لبابة، وينفد ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر. ثم جيء من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطه الوثائق، ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة. فهني بالولاية، وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا. فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطه الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. قال القاضي عياض ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر فقال: ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة، فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه. أو كما قال
(1)
. وذكر الباجي في كتاب "التبيين لسنن المهتدين" حكاية أخرى في أثناء كلامه في معنى هذه المسألة، قال: وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء، دون أن يخرج عنها ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك؛ فيقضي في قضية بقول مالك، وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول، لا لرأي تجدد له، وإنما ذلك بحسب اختياره. قال: ولقد حدثني من أوثقه أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض، فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد، فأفتي المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن لا شفعة في الإجارات. قال لي: فوردت من سفري؛ فسألت أولئك الفقهاء - وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين - عن مسألتي. فقالوا: ما علمنا أنها لك؛ إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها، فأفتاني جميعهم بالشفعة، فقضى لي بها، قال وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول مُعلنا غير مستتر: إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالراوية التي توافقه. قال الباجي: ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه، ولو استجازه لم يعلن به ولا أخبر
(1)
الموافقات 4/ ص 99/ 100.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
به عن نفسه. قال وكثيرا ما يسألني من تقع له مسأله من الأيمان ونحوها (لعل فيها رواية؟) أو (لعل فيها رخصة) وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة. ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] الآية؛ فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا، لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق فيجتهد في طلبه، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته؟ هذا ما ذكره. وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحدا. والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكر، فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى. وأما المجتهد فهو أحرى بهذا الأمر
(1)
.
"فصل"
وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية، حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإن له نظرا آخر، بل في غير ذلك. فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع. وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا وما ليس بحجة حجة.
(1)
الموافقات 4/ 100 - 101.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حكى الخطابي في مسألة البتع المذكور في الحديث عن بعض الناس أنه قال: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه. قال وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة لأن الأمة قد اختلفت فيها. قال: وليس الاختلاف حجة وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين. هذا مختصر ما قال. والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه. ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد، ويحتج في ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره، ويقول إن الاختلاف رحمة وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين. ويقول له: لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة. والتوفيق بيد الله. وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله. ولكن نقرر منه ههنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله
(1)
.
وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض إما أن يكون حاكما به، أو مفتيا، أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتي.
أما الأول: فلا يصح على الإطلاق، لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي. فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر. ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين فكذلك، أو بالنسبة إلى الأول فكذلك، أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة. وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر. ومن ههنا شرطوا في
(1)
الموافقات 4/ ص 102.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد، وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده، ثم بمذهب فلان. فانضبطت الأحكام بذلك وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط. وهذا معنى أوضح من إطناب فيه.
وأما الثاني: فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان، وهو قول ثالث خارج عن القولين. وهذا لا يجوز له إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق. وإن بلغها لم يصح به القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول. وأيضا فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به. فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا. وأما إن كان عاميا: فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكم العلم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب، فإن العبد في تقلباته دائر بين لمتين لمة ملك، ولمة شيطان. فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين، وقد قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشّمس: 7، 8]{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 3]{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [البلد: 10] وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات.
والهوى لا يعدوهما. فإذا عرض العامي نازلته على المفتي فهو قائل له (أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق) فلا يمكن - والحال هذه - أن يقول له: (في مسألتك قولان، فاختر لشهوتك أيهما شئت؟) فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول ما فعلت إلا بقول عالم، لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره والتوفيق بيد الله تعالى
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ ص 103 - 104.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فصل: واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله فقال: إن أراد المانع ما هو على خلاف الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي فمسلم. وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك. بل قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بالحنيفية السمحة" يقتضي جواز ذلك، لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد، بل بتحصيل المصالح. وأنت تعلم بما تقدم ما في هذا الكلام، لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها. وليس تتبع الرخص ولا ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى. فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه، ومضاد أيضا لقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاء: 59] وموضع الخلاف موضع تنازع، فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه، لا الموافق للغرض.
فصل: وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيه الضرورة وإلجاء الحاجة، بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب، أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب. فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم؛ فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر. ومحال الضرورات معلومة من الشريعة؛ فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع، فلا حاجة إلى الإنتقال عنها؛ وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش، ودعوى غير مقبولة. وقد وقع في نوازل ابن رشد من هذا مسألة نكاح المتعة. ويذكر عن الإمام المازري أنه سئل: ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان - والضرورات تبيح المحظورات - من معاملة فقراء أهل البدو في سني الجدب، إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم: ما عندنا إلا الطعام فربما صدقوا في ذلك، فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم، خوفا أن يذهب حقهم في أيديهم بأكل أو غيره؛ لفقرهم، ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته، ولأحكام بالبادية أيضا، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة، وإباحة كثير من فقهاء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافا للقول بالذرائع
(1)
.
فأجاب: إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى فهذا ممنوع في المذهب، ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت. قال: ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قل، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه. فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع، وهتكوا حجاب هيجة المذهب. وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها؛ ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما، فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة، ويقبض البائع الثمن، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز. فانظر: كيف لم يستجر - وهو المتفق على إمامته - الفتوى بغير مشهور المذهب، ولا بغير ما يعرف منه؛ بناء على قاعدة مصلحية ضرورية، إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله. فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب، بل جميع المذاهب؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة.
"فصل"
وقد أذكر هذا المعنى جملة في اتباع رخص المذاهب من المفاسد، سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة؛ كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط، وكترك ما هو بمعلوم إلى ما ليس معلوم. لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها. ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك، ولكن فيما تقدم منه كاف. والحمد لله
(2)
.
"فصل"
وقد بنوا أيضا على هذا المعنى مسألة أخرى وهي:
(1)
الموافقات 4/ ص 105.
(2)
الموافقات 4/ ص 106/ 107.
2571 -
وَالرَّعْيُ لِلْخِلَافِ مُقْتَضَاهُ
…
إِعْمَالُ مَرْجُوحٍ بِمَا قَوَّاهُ
2572 -
فِي الْجَانِبِ الآخَرِ لِلتَّلَافِي
…
بَعْدَ الْوُقُوعِ فَانْتَفَى التَّنَافِي
هل يجب الأخذ بأخف القولين؟ أم بأثقلهما؟ واستدل لمن قال بالأخف بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البَقَرَة: 175] الآية؛ وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحَجّ: 78] وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" وقوله: "بعثت بالحنيفية السمحة". وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل. ومن جهة القياس أن الله غني كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى.
والجواب عن هذا ما تقدم، وهو أيضا مؤد إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة، فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سميت تكليفا، من الكلفة وهي المشقة. فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال. فما أدى إليه مثله؛ فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال، ثم قال المنتصر لهذا الرأي إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ الإذن، وفي المضار الحرمة. وهو أصل قرره في موضع آخر. وقد تقدم التنبيه على ما فيه في كتاب المقاصد وإذا حكمنا ذلك الأصل هنا لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف، وهذا كله إنما جره عدم الالتفات إلى ما تقدم
(1)
.
"فصل"
"و" أما "الرعي للخلاف" الذي يعد من أصول المالكية فإنه ليس معناه المراد به هو الانتقاء في الأقوال الواردة في مواطن الاختلاف، وإنما معناه و"مقتضاه" هو "إعمال" ما هو "مرجوح" من الأدلة إذا كان معتضدا "بما قواه" وجعله راجحا "في الجانب الآخر" وذلك "للتلافي" والتدارك المطلوب شرعا في ذلك الموطن، والمراد بالجانب الآخر ما "بعد الوقوع" للفعل، "فانتفى" بذلك "التنافي" والتعارض الحاصل هنا بين وجوب العمل بالدليل الراجح، وإهمال المرجوح، وبين هذه القاعدة - مراعاة الخلاف - كما نقل ذلك عن جماعة من الشيوخ.
(1)
الموافقات 4/ ص 108.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشاطبي: إن المسألة أشكلت على طائفة، منهم ابن عبد البر، فإنه قال:"الخلاف لا يكون حجة في الشريعة". وما قاله ظاهر، فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم، وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم؛ فمنهم من تأول العبارة ولم يحملها على ظاهرها، بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها، وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء ويكون هو الراجح ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف، فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر، فالأول فيما بعد الوقوع، والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان، فليس جمعا بين متنافيين ولا قولا بهما معا، هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس، وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي، وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف وسيأتي للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله. على أن الباجي حكى خلافا في اعتبار الخلاف في الأحكام، وذكر اعتباره عن الشيرازي. واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط. ولو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا في جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ لكان ذلك صحيحا. فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط. وما قاله غير ظاهر؛ لأمرين
(1)
.
أحدهما: أن هذا الدليل مشترك الإلزام، ومنقلب عن المستدل به إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ثم يقول: لو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا في جواز أكله فإن جلده لا يطهر بالدباغ لكان ذلك صحيحا، فكذلك إذا علق الحكم بالاستنباط. ويكون هذا القلب أرجح، لأنه مائل إلى جانب الاحتياط. وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه.
والثاني: أنه ليس كل جائز واقعا، بل الوقوع محتاج إلى دليل. ألا ترى أنا نقول يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء، وأن شرب الماء الساخن
(1)
الموافقات 4/ ص 109 - 110.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يفسد الحج، وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين، وما أشبه ذلك، ولا يكون هذا التجويز سببا في وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالاستنباط. فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال. فإن قال إنما أعني ما يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه، والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه في التعليل.
قيل: لم تفصل أنت هذا التفصيل، وأيضا فمن طرق الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه كالاطراد والانعكاس ونحوه. ويمكن أن يكون الباجي أشار في الجواز إلى ما في الخلاف من المعنى المتقدم، ولا يكون بين القولين خلاف في المعنى.
واحتج المانعون بأن الخلاف متأخر عن تقرير الحكم، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته. قال الباجي: ذلك غير ممتنع، كالإجماع، فإن الحكم يثبت به وإن حدث في عصرنا. وأيضا فمعنى قولنا إنه مختلف فيه أنه يسوغ فيه الاجتهاد، وهذا كان حاله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتقدم على علته. والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم، بل هو أصل الحكم. وقوله "إن معنى قولنا مختلف فيه كذا" هي عين الدعوى
(1)
.
"فصل"
ومن القواعد المبنية على هذه المسألة: أن يقال: هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع، حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركا كما يفعله المتورعون في التروك؟ أم لا؟ أما في ترك العمل بهما معا مجتمعين أو متفرقين فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما، وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح. وأما في العمل فإن أمكن الجمع بدليله فلا تعارض، وإن فرض التعارض فالجمع بينهما في العمل جمع بين متنافيين، ورجوع إلى إثبات الاختلاف في الشريعة. وقد مر إبطاله. وهكذا يجري الحكم في المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه. ولهذا الفصل تقرير في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله
(2)
.
(1)
الموافقات 4/ ص 110 - 111.
(2)
الموافقات 4/ ص 112.
"
المسألة الرابعة
"
2573 -
إِنَّ مَجَالَ الاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرْ
…
مَا كَانَ دَائِرًا بِمُقْتَضَى النَّظَرْ
2574 -
بَيْنَ مَحَلَّىْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتِ
…
وُضُوحُ قَصْدِ الشَّرْعِ فِيهِ آتِ
2573 -
بَيَانُ ذَا كُلُّ خِطَابِ وَاقِعِ
…
لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ قَصْدُ الشَّارعِ
2576 -
فِي جِهَةِ النَّفْيِ أَوِ الإِثْبَاتِ
…
فَذَاكَ نَوْعُ الْمُتَشَابِهَاتِ
" المسألة الرابعة"
في أن موطن الاجتهاد هو ما تردد فيه النظر بين طرفين متعارضين فيه.
وذلك "إن" الاجتهاد لا يجري فيما وضح أمره وبان حكمه شرعا بلا كدر، ولا غبش، وإنما "مجال الاجتهاد" الفقهي "المعتبر" شأنه هو "ما كان" حاله "دائرا" ومترددا "بمقتضى" وحكم "النظر" الفقهي "بين محلى" يعني طرفي "نفي" لحكم "أو إثبات" - أو بمعنى الواو - أي وإثبات له، بحيث يكون اعتراه جذب كل منهما له بمقتضى ماهيته وذلك بأن يكون إذا نظرت إليه من وجه حكمت فيه بحكم، وإذا نظرت إليه من وجه آخر حكمت له بحكم آخر، فوجه منه يثبت حكما والآخر منه ينفيه، وكلا الطرفين "وضوح" وثبوت جريان "قصد" صاحب "الشرع فيه آت" وواقع، كما تدل على ذلك الأدلة الواردة في ذلك من الكتاب والسنة، فيكون ذلك المحل قد تعارض فيه النفي لحكم ما والإثبات له المعتبران شرعا، فكان خاليا من رجحان أحدهما على الآخر بدليل شرعي حاسم لهذا التعارض.
و"بيان ذا" الموضوع وإيضاحه يحصل بأن يقال: لا تخلوا أفعال المكلفين أو تروكهم إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أولا. فإن لم يأت فيه خطاب، فإما أن يكون على البراءة الأصلية، أو يكون فرضا غير موجود، والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة إلى خطاب الشارع بالعفو، أو غيره وإن أتى فيها خطاب فإما أن يظهر للشارع فيه قصد في النفي والإثبات أو لا، فإن لم يظهر له فيه قصد فهو قسم المتشابهات، وبذلك "كل خطاب واقع" أي وارد من الشارع، وهو "لم يتبين" أي يظهر "فيه قصد" صاحب "الشرع" ومراده به سواء "في جهة" جريان "النفي" عليه، بأن يكون مما ينفى ولا يقبل باعتبار مقتضى المقاصد الشرعية "أو" في جهة ما يجري عليه "الإثبات" والقبول بمقتضى ذلك أيضا "فذاك" الخطاب "نوع" من أنواع "المتشابهات" التي تقدم الكلام
2577 -
وَمَا بِهِ الْقَصْدُ بَدَا بِالْقَطْعِ
…
فَذَاكَ قِسْمُ الْوَاضِحَاتِ الْمَرْعِي
2578 -
وَلَا مَجَالَ فِيهِ بَعْدُ لِلنَّظَرْ
…
فِيمَا بِهِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا ظَهَرْ
2579 -
وَمَا بَدَا ظَنًّا فَذَا الْمُرَدَّدُ
…
وَالضَّعْفُ كَالْقُوَّةِ فِيهِ يُوجَدُ
2580 -
فَغَيْرُ مَا يَقْوَى لِجَانِبٍ رَجَعْ
…
لِلْمُتَشَابِهَاتِ حَيْثُ مَا يَقَعْ
2581 -
وَمَا بِإحْدَى الْجِهَتَيْنِ تَظْهَرُ
…
قُوَّتُهُ فَذَاكَ فِيهِ النَّظَرُ
عليها في مجرى الحديث على الإحكام والتشابه "و" أما "ما" أي الخطاب الذي المراد "به" و"القصد" الشرعي منه قد "بدا" وظهر "بالقطع" والجزم "فداك" قسمه هو "قسم" النصوص والأدلة "الواضحات" البينة، "المرعي".
"و" بذلك فإنه "لا مجال" ولا محل "فيه بعد" هذا الحال الذي هو عليه "للنظر" والبحث "فيما" بدا "به" أي فيه "إثباتا" كان لحكم "أو نفيا" له، و"ظهر" فيه، و إنما لم يكن هذا مجالا للنظر والاجتهاد، لأنه واضح الحكم حقيقة، والخارج عنه مخطئ قطعا. هذا إذا كان حكم ما علم القصد الشرعي فيه قطعا "و" أما "ما بدا" أي ظهر قصده فيه "ظنا" غير مرجح "فذا" هو "المردد" فيه النظر من حيث حكمه الشرعي وبذلك يصار في شأنه إلى الاجتهاد، وإنما يجري في شأنه هذا التردد لما يعتريه بمقتضى حاله من احتمال قصد الشارع فيه معارضه، وذلك يصده عن أن يكون من الواضحات بإطلاق، "و" حصول "الضعف" في ذلك الظن "كـ" حصول "القوة فيه" فهو أي ذلك الظن على حال معتبر متى "يوجد" ويحصل، لأنه مزيل للقطع والجزم في محل كيفما كان. ومراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف، حتى ينتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك. إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين، وتارة لا يقوى "فغير ما يقوى" منه "الجانب" يعني في جانب من الجانبين المذكورين - الإثبات والنفي - بحيث يكون ضعفه مخلا باعتباره والاعتداد به "رجع لـ" قسم "المتشابهات" و"حيثما وقع" وورد، والمقدم عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
"و" أما "ما" أي الاحتمال - الظن - الذي "بإحدى" يعني في إحدى "الجهتين" النفي والإثبات "تظهر قوته" ورجحانه "فذاك" هو القسم الذي يجري "فيه" الاجتهاد و"النظر" الفقهي، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه وماهيته وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح في حقه في النفي أو
2582 -
ثُمَّ ثُبُوتُ الضِّدِ مَهْمَا ثَبَتَا
…
مَجْرَاهُ كَالنَّفْيِ بِحَيْثُ مَا أَتَا
2583 -
وَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِثْلُ الْغَرَرْ
…
إِذْ فِيهِ مَا يُلْغَى وَفِيهِ مُعْتَبَرْ
الإثبات، إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب، وأما على قول المخطئة، فالمقدم عليه إن كان مصيبا، فواضح أمره، وإلا فمعذور
(1)
.
وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات، إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات، بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا، وأن الإضافي إنما صار إضافيا لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين، فيقرب عند بعض من أحد الطرفين، وعند بعض من الطرف الآخر. وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات، فهو غير مستقر في نفسه، فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف
(2)
.
"ثم" إن "ثبوت الضد" وهو - هنا - الإثبات أو النفي، "مهما ثبتا" - الألف للإطلاق - أي حصل، ووقع "مجراه كالنفي" للضد الآخر "بحيث ما أتى" وورد فإذا نفى الوجوب في حكم ما - مثلا - فإن ذلك يفيد إثبات ضده فيه، ونفي العلم عن أمر يثبت ضده فيه لأن ثبوت العلم مع نفيه نقيضان، كوقوع التكليف وعدمه، وكالوجوب وعدمه، وما أشبه ذلك. وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان، كالوجوب مع الندب أو الإباحة مع التحريم. وما أشبه ذلك.
"وذا" الأصل الجاري المضي على مقتضاه في هذا القسم - قسم التردد والاجتهاد - أصل واضح لكن تساق "له أمثلة" هنا لتتميم الفائدة في شأنه والترسيخ لمعناه في الأذهان، وذلك "مثل الغرر" - بفتح الغين والراء - وهو منهى عنه، وإنما حسن سوقه هنا مثالا "إذ فيه ما يلغى" فلا يعتبر وجوده، "وفيه" ما هو "معتبر" وذلك باعتبار حالته ضعفا وقوة. فقد رأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء والسمك في الماء. كما رأيناهم أجمعوا على جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر
(1)
الموافقات 4/ ص 113.
(2)
الموافقات 4/ ص 114.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثلاثين أو تسعة وعشرين، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري، فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره لكثرته في الأول وقلته مع عدم الإنفكاك عنه في الثاني. فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين، آخذة بشبه من كل واحد منهما، فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة، ومن منبع مال إلى الجانب الآخر.
ومن ذلك مسألة زكاة الحلي، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين فصار الحلي المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين، فلذلك وقع الخلاف فيها. واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق، وصار المجهول الحال دائرا بينهما، فوقع الخلاف فيه. واتفقوا على أن الحر يملك، وأن البهيمة لا تملك، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه: هل يملك أم لا؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين. اتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلي بتيممه، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة، وما بين ذلك دائر بين الطرفين، فاختلفوا فيه. واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة. وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع وأقروا بالقبول فإجماع باتفاق، أو أنكروا ذلك فغير إجماع باتفاق، فإن سكتوا من غير ظهور إنكار فدائر بين الطرفين فلذلك اختلفوا فيه. والمبتدع بما لا يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين الطرفين؛ فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة، وبما اقتضى كفرا مصرحا به ليس من الأمة، فالوسط مختلف فيه: هل هو من الأمة أم لا؟ وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق، واختلفوا في إضافة أوصاف أمور إليه بناء على أنها كمال، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال، أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هي الكمال وكذلك ما أشبهها
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ ص 114/ 115/ 116.
2584 -
وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا قَدْ يُرَا
…
يُمْكِنُ أَنْ يُلْغَى وَأَنْ يُعْتَبَرَا
"
تنبيه
"
2585 -
عِلْمُ مَوَاقِعِ الْخِلَافِ الْبَادِ
…
مُرَشِّحٌ لِمَرْقَى الاجْتِهَادِ
2586 -
وَذَاكَ قَصْدُ كُلِّ مَنْ حَضَّ عَلَى
…
مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ أَنْ تُحَصَّلَا
" و" إنما "وقع الخلاف فيما قد يرى" هنا أي يبصر من المسائل التي هي دائرة بين طرفين واضحين متعارضين، وكل واحد منهما "يمكن أن يلغى" اعتباره لوجود معارضه من الجهة الأخرى "و" كذلك يمكن "أن يعتبرا" - الألف للإطلاق - وإن يعتد به لوجود ما يقتضي ذلك فيه ظنا. والاختلاف إنما يقع في مواطن الظنون، وما يكون فيه النظر مترددا بين أمرين متعارضين.
"تنبيه"
من أحكم النظر في هذا المعنى وتصور ما يثمره ظهر له أن "علم مواقع" وموارد "الخلاف الباد" الفقهي وإدراكه "مرشح" - بكسر الشين بصيغة اسم الفاعل - أي ومهيئ ومعد "لمرقى" ودرجة "الاجتهاد" لأنه يصير العالم به جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له. "وذاك" الذي يوصل إليه هذا العلم مما ذكر هو الذي يفسر به "قصد" ومراد "كل من حض" وحث "على معرفة الخلاف أن تحصلا" - الألف للإطلاق - وتدرك ومن ذلك ما جاء في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عبد الله بن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله؛ قال أتدري أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أعلم الناس أبصرهم بالحق إذ اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل، وإن كان يزحف في إسته" فهذا تنبيه على المعرفة بمواقع الخلاف.
ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف فعن قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه. وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه. وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه. وعن أيوب السختياني وابن عيينة: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء زاد أيوب: وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف
"
المسألة الخامسة
"
2587 -
وَحَيْثُ الاجْتِهَادُ فِي اسْتِنْبَاطِ مَا
…
إِلَى النُّصُوصِ حُكْمُهُ قَدِ انْتَمَا
2588 -
فَالْعِلْمُ بِاللِّسَانِ شَرْطٌ فِيهِ
…
حَسَبَمَا قَدْ مَرَّ فِي التَّنْبِيهِ
2589 -
وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى اللِّسَانِ
…
بِحَيْثُ مَا جُرِّدَ لِلْمَعَانِي
العلماء. وعن مالك: لا يجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه. قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال يحيى بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي. وعن سعيد بن أبي عروبة: من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما. وعن قبيصة بن عقبة: لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس
(1)
.
وكلام الناس هنا كثير، وحاصله معرفة مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف.
ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر، فلا بد منه لكل مجتهد. وكثيرا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمازري وغيره.
"المسألة الخامسة"
في أن الاستنباط من النصوص متوقف على العلم باللغة العربية.
"و" بيان، ذلك أنه "حيث" يكون جريان أمر "الاجتهاد" إنما هو "في استنباط مما" من الأحكام "إلى النصوص" الشرعية و"حكمه" إلى ذلك "قد انتمى" واستند.
"فـ" إن "العلم باللسان" العربي على الوجه المذكور "شرط فيه" وذلك "حسبما قد مر" ذكره "في التنبيه" المار ذكره قريبا في المسألة الثانية الماضي ذكرها، وقد أورده في الأصل - الموافقات - بعنوان "الفصل".
"و" أما الاجتهاد الذي لا يتعلق بالاستنباط المذكور فإنه "غير محتاج" فيه إلى علم "اللسان" العربي، وذلك يجري "بحيث مما" أي في الموضع الذي الاجتهاد يبنى على رعاية جلب المصالح ودرء المفاسد فيكون قد "جرد" وخلص "لـ"ـــرعاية "المعاني"
(1)
الموافقات 4/ ص 116 - 117.
2590 -
مِنَ الْمَفَاسِدِ أَوِ الْمَنَافِعِ
…
بَلْ شَرْطُهُ الْعِلْمُ بِقَصْدِ الشَّارعِ
المذكورة "من المفاسد أو المنافع"، أو رعاية معان - قواعد - مسلمة من صاحب الاجتهاد - وسيأتي التمثيل له - فهذا غير محتاج فيه إلى العلم بالعربية "بل شرطه" الذي يتوقف عليه حصوله هو "العلم بقصد" يعني مقاصد "الشارع" من الشريعة التي تقدم بيانها، وبسط القول في شأنها.
والدليل على اشتراط علم العربية في الضرب الأول من الاجتهاد، وعدم اشتراطه في هذا الضرب: أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية، وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية، فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب، كما لا يمكن التفاهم بين العربي والبربري أو الرومي أوالعبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه وأما المعاني مجردة فالعقلاء مشتركون في فهمها، فلا يختص بذلك لسان دون غيره فإذا من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام، وبلغ فيها رتبة العلم بها، ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي، فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي. ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية، ويعتبرون الألفاظ في كثير من النوازل وأيضا فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا فيما يتعلق بالمقيس عليه وهو الأصل، وقد يؤخذ مسلما؛ أو بالعلة المنصوص عليها أو التي أومأ إليها، ويؤخذ ذلك مسلما، وما سواه فراجع إلى النظر العقلي
(1)
.
وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة، والمزني والبويطي في مذهب الشافعي؛ فإنهم على ما حكي عنهم يأخذون أصول إمامهم وما بني عليه في فهم ألفاظ الشريعة، ويفرعون المسائل ويصدرون الفتاوي على مقتضى ذلك. وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم وعملوا على مقتضاها، خالفت مذهب إمامهم أو وافقته: وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع الأحكام، ولولا ذلك لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى، ولا حل لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك، ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص، فلما لم يكن
(1)
الموافقات 4/ ص 118.
"
المسألة السادسة
"
2591 -
ثُمَّ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ قَدْيُرَا
…
تَعَلُّقٌ لِلاجْتِهَادِ نَظَرَا
2592 -
فَذَ الِقَصْدِ الشَّرْعِ لَا يَفْتَقِرُ
…
كَمَا اللسَانُ فِيهِ لَا يُعْتَبَرُ
2593 -
وَذَاكَ كالْقَارِئ فِيمَا يَحْمِلُ
…
أَوْ صَاحِبِ الْحَدِيثِ فِيمَا يَنْقُل
شيء من ذلك دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلفاء بالإقدام فيه. فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه. هذا على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين، فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضا في صحة اجتهادهم على الإطلاق والله أعلم
(1)
.
"المسألة السادسة"
في أن الاجتهاد في تحقيق المناط لا يتوقف تحصيله على علم العربية. وبيان ذلك أن الاتجهاد قد يتعلق بما ذكر "ثم" إنه "بتحقيق المناط" - أي متعلق الحكم، وعلته - "قد يرى" ويوجد "تعلق للاجتهاد نظرا" واعتبارا، وما كان هكذا من الاجتهاد "فـ" إن "ذا لـ" علم "قصد" يعني مقاصد صاحب "الشرع لا يفتقر" تحصيله، وإيقاعه "كما" أن إدراك علم "اللسان" العربي "فيه لا يعتبر" شرطا، لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به، من حيث قصدت المعرفة به، فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التي ينظر فيها، ليتنزل الحكم على وفق ذلك المقتضى، "و" بذلك فإن "ذاك" المجتهد الذي كلامنا فيه إنما هو "كالقارئ" للقرآن "في" تأدية "ما يحمل" من الرواية القرآنية ووجوه القراءات، وما يتصل بذلك من معارف "أو "كمثل "صاحب الحديث" أي المحدث "في" شأن "ما ينقل" من الأحاديث والآثار، فهذا علمه متعلق بأحوال الأسانيد، وطرقها، وصحيحها، وسقيمها، وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به، وهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به من ذلك، سواء كان عالما بالعربية أم لا، وعارفا بمقاصد الشارع أم لا. ومثله الصانع في معرفة عيوب الصناعات، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب
(1)
الموافقات 4/ ص 119.
"
المسألة السابعة
"
2594 -
وَالاجْتِهَادُ مَعَ ذَا ضَرْبَانِ
…
مُعْتَبَرٌ شَرْعًا لِأهْلِ الشَّانِ
2595 -
وَهْوَ الذِي يَصْدُرُ عَمَّنْ أَحْكَمَا
…
أُصُولَهُ وَذَاكَ مَا تَقَدَّمَا
فيها، والعاد في صحة القسمة والماسح في تقدير الأرضين، ونحوها، كل هذا وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية، ولا العلم بمقاصد الشريعة، وإن كان اجتماع ذلك كمالا في المجتهد.
والدليل على ذلك ما تقدم ذكره من أنه لو كان لازما لم يوجد مجتهد إلا في الندرة، بل هو محال عادة وإن وجد ذلك فعلى جهة خرق العادة، كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها، ولا كلام فيه. وأيضا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك؛ إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع، وذلك باطل فما أدق إليه مثله. فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية، ومن الكفار المنكرين للشريعة. ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة؛ وهو التقليد في تحقيق المناط.
فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه، كما أنه في الأولين كذلك، فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط، من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه غيره وهو ظاهر
(1)
.
"المسألة السابعة"
"و" هي في التنبيه على أن "الاجتهاد" الواقع في الشريعة "مع ذا" الذي تقدم ذكره في شأنه من التفصيل باعتبار الاستنباط، وباعتبار أحوال النظر في المناط، هو من حيث صحته وبطلانه "ضربان" لا ثالث لهما:
أحدهما: الاجتهاد الذي هو "معتبر" ومعتد به "شرعا لأهل الشأن، وهو" الاجتهاد "الذي يصدر" ويأتي "عمن" أتقن و"أحكما" - الألف للإطلاق - "أصوله" وما يتوقف عليه تحصيله من قواعد ومعارف ويفتقر إليه إدراكه، "وذاك" هو "ما" أي الذي "تقدما"
(1)
الموافقات 4/ ص 119 - 120.
2596 -
ثَانِيهِمَا مَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرْ
…
لِكَوْنِهِ عَنْ غَيْرِ أَهْلِهِ صَدَرْ
2597 -
وَذَاكَ رَاجِع إِلَى الأهْوَاءِ
…
وَذَمُّهُ لَيْسَ بِذِي خَفَاءِ
"
المسألة الثامنة
"
2598 -
الخَطَأُ الآتِي فِي الاجْتِهَادِ
…
فِيمَا الدَّلِيلُ فِيهِ غَيْرُ بَادِ
2599 -
حَتَّى يُرَى الْمَفْهُومُ غَيْرَ مَا قُصِدْ
…
أَوْ حَيْثُ عِرْفَانُ الدَّلِيلِ قَدْ فُقْدْ
- الألف للإطلاق - أي مر ذكره في المسائل المتقدم إيرادها.
"ثانيهما": أي الضربين هو "ما كان غير" معتد به، ولا "معتبر" شرعا، وذلك "لكون" أتى "عن غير أهله" و"صدر" عنه، والذي ليس من أهله هو كل من ليس عارفا بما يفتقر إليه من علوم ومعارف "و" هذا الضرب من الاجتهاد ملغى اعتباره "ذاك" لأنه "راجع" في واقع الأمر "إلى" اتباع "الأهواء" والحكم بمقتضاها، "و" ما كان هكذا فإن "ذمه" شرعا "ليس بـ" أمر "ذي خفاء" أو إبهام، لأنه خبط في عماية، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق الذي أنزل الله، كما قال تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المَائدة: 48] وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] الآية؛ وهذا على الجملة لا إشكال فيه
(1)
.
"المسألة الثامنة"
في أن "الخطأ" العارض و"الآتي في الاجتهاد" على قسمين أحدهما ما يرد "فيما" من المواضيع بعض "الدليل فيه" قد خفي عن المجتهد "غير باد" أي غير ظاهر له، فيه "حتى" إنه لخفاء بعض هذا الدليل عليه "يرى" أي يوجد في نظره ورأيه المعنى "المفهوم" المدرك له بذلك الاجتهاد "غير ما قصد" شرعا، وفي حقيقة الأمر في ذلك الموضوع وقد يكون ذلك الخطأ - أيضا - متى "أو حيث" يكون "عرفان" المجتهد "الدليل" على الجملة "قد فقد" وعدم.
(1)
الموافقات 4/ ص 121.
2600 -
وَمَوْقِعُ الْخَطَأْ فِي الْكُلِّيِّ
…
أَشَدُّ حَالًا مِنْهُ فِي الْجُزْئِيِّ
" و" اعلم أن "موقع الخطأ" وموجده "في"الأمر "الكلي" - كتحليل - انتهاك ما حظر الشارع انتهاكه من نحو إزهاق النفوس، وسلب الأموال، وانتهاك الأعراض هو "أشد حالا" وأعظم خطرا "منه" أي من الاجتهاد "في" الأمر "الجزئي" وكأمر مقيس متردد حاله بين طرفين متعارضين من نحو معاملة استجدت.
وفي هذا الموطن حذر من زلة العالم، فإنه جاء في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير منها، فروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع" وعن عمر: "ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون" وعن أبي الدرداء: "إن مما أخشى عليكم زلة العالم، أو جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كمنار الطريق"
(1)
.
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرا: "إياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقول المنافق الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورا" قالوا: كيف زيغة الحكيم؟ قال: "هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون ما هذا؟ فاحذروا زيغته، ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق". وقال سلمان الفارسي: "كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؛ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان، وتنتهي عما ينتهي عنه فلان. وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان" الحديث.
وعن ابن عباس: "ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيترك قوله ثم يمضي الاتباع" وعن ابن المبارك أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي: يا بني لا تنشد الشعر؛ فقلت له: يا أبت كان الحسن ينشد، وكان ابن سيرين ينشد. فقال لي: أي بني؛ إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله.
(1)
الموافقات 4/ ص 121.
2601 -
وَزَلَّةُ الْعَالِمِ لَا تُعْتَمَدُ
…
فِي مَأْخَذِ الْعِلْمِ وَلَا تُقَلَّدُ
وقال مجاهد والحكم بن عيينة ومالك: "ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم "وقال سليمان التيمي: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله" قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا.
وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم. وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه، والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها؛ وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور لكن مما ينبني عليه في الإتباع لقوله فيه خطر عظيم. وقد قال الغزالي إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة، وذكر منها أمثلة، ثم قال: فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا في العالم أياما متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه. وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى، فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته، فيقضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعا يتقلد، وقولا يعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه وتبين له الحق، فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه ويضل عنه تلافيه، فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل
(1)
.
"فصل"
في أنه إذا ثبت هذا فإنه لا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل.
"و" منها أن "زلة العالم" كيفما كانت منزلته العلمية "لا تعتمد" أي لا تتخذ عمدة ولا يحتج بها على الإطلاق "في مأخذ العلم" وما يصح أن يكون دليلا علميا أو معرفيا، ولا يبالى بها، "ولا تقلد" أي تتبع بل يجب طرحها، والتحذير منها، إذ لا حجة شرعية في قول أحد أو فعله إلا ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم. وإنما لم يعتد بزلة العالم لأنه لو كانت معتدا بها لم تجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير في العلم، أو إلى الجهل،
(1)
الموافقات 4/ ص 122 - 123.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكذلك لا ينبغي أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحثا، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين، وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى.
وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: كنا في الكوفة فناظروني في ذلك - يعني في النبيذ المختلف فيه - فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا. فما جاؤوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود، وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه. قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق؛ عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة، كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى. فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن: فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟ فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة. أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خيارا. قال فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد؟ فقالوا: حرام. فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى.
والحق ما قال ابن المبارك: فإن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاء: 59] الآية. فإذا كان بينا ظاهرا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة لم يصح الاعتداد به ولا البناء عليه، ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع، مع أن حكمه مبني على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر" ولا ينقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين، لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض نقض حكمه. ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة، لأنه حكم بغير ما أنزل الله
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ ص 123 - 124.
"
فصل
"
2602 -
وَفِي الْخِلَافِ بَعْدُ لَا يُعْتَدُّ
…
بِهَا وِلَا فِي بَابِهِ تُعَدُّ
2603 -
وَإِنَّمَا تُذْكَرُ تَنْبِيهًا عَلَا
…
أَنْ يَتَحَاشَى مِثْلَهَا إِنْ نَقَلَا
2604 -
وَهْيَ مُنَافَاةُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِي
…
الْمُقْتَفَى سَبِيلُهُ فِي الشَّرْعِ
2605 -
وَأَهْلُ الاجْتِهَادِ يَعْرِفُونَا
…
مَوْضِعَهَا مَعْرِفَةً يَقِينَا
" و" منها أنه "في" شأن "الخلاف" الفقهي المعتبر "بعد" أي بعد ثبوت أنها زلة حقيقة "لا يعتد بها" ولا تعتبر "ولا" تحسب "في بابه" أي الخلاف المذكور ولا "تعد" فيه، وبذلك لا يصح اعتمادها خلافا في المسائل الشرعية لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد الذي هو في واقع الأمر موطنه الظنيات فقط، وإن حصل من صاحبها - أي هذه الزلة - اجتهاد فهو لم يصادف فيها محلا، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد. وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة كانت مما يقوى، أو يضعف. وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل وعدم مصادفته فإنه يعتد بها ولا تعتبر كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، ونكاح المتعة، وإتيان محاشى - أدبار - النساء، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها، "و" هذه الأقوال الساقط إعتبارها والاعتداد بها إن ذكرت فإنها "إنما تذكر تنبيها على أن يتحاشى" ويتقى ويجتنب "مثلها" أن يعمل به "إن نقلا" - الألف للإطلاق - عن عالم ما، كما يتحاشى ويتجنب العمل بها هي نفسها.
"و" هذه الأقوال الشاذة - الزلات - علامتها "هي" ما تتصف به من "منافاة" ومخالفة "الدليل" الشرعي "القطعي" حكمه و"المقتفى" أي المتبع "سبيله" ومقتضاه "في" هذا "الشرع" الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. "وأهل الاجتهاد" من علماء هذه الأمة "يعرفونا" - الألف للإطلاق - ويعلمون "موضعها" التي وردت فيه، كما يعرفونها بما هي عليها من حال وصفة "معرفة يقينا" لأنهم العارفون بما وافق الشرع أو خالفه، وأما غيرهم فلا تمييز لهم في هذا المقام، ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب: فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو
"
المسألة التاسعة
"
2606 -
وَعَارِضٌ لِقِسْمِ غَيْرِ الْمُعْتَبَرْ
…
الاعْتِقَادُ أَنَّهُ أَهْلُ النَّظَرْ
إجماع قطعي في حكم كلي، ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني، والأدلة الظنية متفاوتة، كأخبار الآحاد والقياس الجزئية. فأما المخالف للقطعي فلا إشكال في اطراحه، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه، لا للإعتداد به. وأما المخالف للظني ففيه الاجتهاد، بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره.
فإن قيل: فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا؟ فالجواب أن له ضابطا تقريبيا، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحب قول من عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين. لا من المقلدين.
"فصل"
وقد عد ابن السيد هذا المكان من أسباب الخلاف، حين عد جهة الرواية وأن لها ثماني علل: فساد الإسناد، ونقل الحديث على المعنى، أو من المصحف، والجهل بالإعراب والتصحيف، وإسقاط جزء الحديث، أو سببه، وسماع بعض الحديث وفوت بعضه، وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقة، فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف
(1)
. وإذا كان على هذا الوجه فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول. هذا هو القسم الأول وحاله.
"المسألة التاسعة"
في القسم الثاني وهو الخطأ الثابت أنه "عارض" ووارد "لقسم" يعني في الاجتهاد "غير المعتبر" غير المعتد به وهو الاجتهاد الذي أساسه "الاعتقاد" الحاصل من صاحب ذلك الرأي أو غيره عن جهل أو عن هوى "أنه" مجتهد وأنه من "أهل النظر" الفقهي المعتبر، وأن قوله معتد به. وهو في واقع الأمر ليس كذلك ولا دانيا منه.
(1)
الموافقات 4/ 125.
2607 -
وَخُلْقُهُ إِنْ كَانَ فِي جُزْئِيِّ
…
فَهْوَ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْكُلِّيِّ
2608 -
مِمَّا يُرَى فِي الشَّرْعِ ذَا اسْتِقْلَالِ
…
فِي الاعْتِقَادَاتِ أَوِ الأعْمَالِ
2609 -
فَهْوَ بِأَخْذِ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ
…
يَقْصِدُ أَنْ يَهْدِمَ كُلِّيَاتِهِ
2610 -
وَذَلكَ رَاجِعٌ إِلَى الأهْوَاءِ
…
الْمُبْدِيَاتِ تَرْكَ الاهْتِدَاءِ
2611 -
وَأَصْلُ هَذَا الْقِسْمِ بِالتَّفْصِيلِ
…
مُسْتَوْضَحٌ مِنَ ءَايَةِ التَّأْوِيلِ
" و" من كان هكذا فإن "خلقه" للحق وللدليل الشرعي "إن كان" قد حصل "في" أمر "جزئي" أي فرع فقهي كإسقاط شرط في أمر عبادي خاص كالاعتكاف مثلا "فهو أخف" حالا وأقل خطرا "منه" أي من خلفه إن كان قد حصل "في" الأمر "الكلي" القطعي. وفي الأصل العام "مما يرى" يوجد "في الشرع ذا استقلال" في حكم كونه أصلا ثابتا بذاته، سواء كان "في" أصول "الاعتقادات" التي بها قوام الإسلام والإيمان "أو" من أصول "الأعمال" التي لا تصح الأعمال إلا إذا قامت عليها، وذلك كالإخلاص والتشريع، والنية، وما أشبه ذلك. ومن كان على هذا الغلط "فهو" يكون ماضيا في مسلكه على خلاف ما عليه الاجتهاد والنظر الفقهي الصحيح، فتراه "يأخذ بعض" فروع كلي ما "وجزئياته" وهو "يقصد" بذلك "أن يهدم كلياته" يعني كليته المقطوع شرعا بثبوتها وبذلك يصير إلى ما ظهر له ببادئ رأيه في شأن تلك الجزئيات وكلياتها من غير أن يكون محيطا بمعانيها، أو راجعا رجوع افتقار وحاجة إليها، أو مسلما ما روي عن أهل العلم في فهمها، أو راجعا إلى الله ورسوله في أمرها، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
"وذلك" الانحراف عن الجادة والسبيل القويم في هذا الشأن كله "راجع إلى" اتباع "الأهواء" الكامنة في النفوس، و"المبديات" أي المظهرات للعيان إلزام وإيجاب "ترك الاهتداء" بالدليل الواضح، والاعتراف بالعجز فيما لم يتصل إليه علم الناظر، يعبر على هذا الجهل بمقاصد الشريعة، وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب. فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في إقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر. "وأصل هذا القسم" الذي كلامنا فيه "بالتفصيل" والبيان التام "مستوضح" يعني متضحا شأنه "من ءاية التأويل" وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
2612 -
وَقَدْ أَتَى الْحَدِيثُ بِالتَّحْذِيرِ
…
مِنْ مُقْتَفِي مُشْتَبِهِ الُامُورِ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7].
"وقد أتى الحديث" الصحيح الذي رواه مسلم وغيره "بتحذير من" كل شخص "مقتفي" ومتبع "مشتبه الأمور" من كل ما لم تتضح دلالته والمعنى المراد به. وذلك قوله عليه الصلاة والسلام "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" والتشابه في القرآن لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه، ولا العبارات المجملة ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ولا غير ذلك مما يذكرون بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية إذ لا دليل على الحصر وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم في القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التى يتقى اتباعها لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه. ودل على ذلك قوله تعالى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عِمرَان: 7] فجعل المحكم - وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه - هو الأم والأصل المرجوع إليه ثم قال "وأخر متشابهات" يريد وليست بأم ولا معظم فهي إذا قلائل ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه، وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الإعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة فقال في حديثه: "وأن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي" والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة لم يخص من ذلك شيء دون شيء وفي أبي
" فصل"
2613 -
وَجَاءَ أَيضًا فِيهِ عَدُّ الْفِرَق
…
مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لَهَا مُحَقَّقِ
2614 -
وَإنَّمَا تُذْكَرُ بِالأوْصَافِ
…
لِيُتَّقَى مِنْ حَالِهَا الْمُنَافِي
2615 -
وَقَدْ أَتَى فِي بَعْضِهَا التَّعْيِينُ
…
حِينَ وَجَبْ بِفُحْشِهَا التَّبْيِينُ
داود: "وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة" وهي بمعنى الرواية التى قبلها وقد روي ما يبين هذا المعنى ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه وإن كان غيره قد هون الأمر فيه أنه قال: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله: "ما أنا عليه وأصحابي" وهو ظاهر فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية
(1)
.
فصل
في أنه كما ورد في الحديث التحذير مما ذكر، ورد "وجاء أيضا فيه" وفي القرآن الكريم "عد" بعض "الفرق" التي يظن أن هذا الحديث شامل لها، وأنها داخلة تحته ولكن "من غير تعيين لها" في الجملة أو ذكر لها بعينها "محقق" ومثبت.
"وإنما تذكر بالأوصاف" التي تدل عليها وتبينها، وذلك "ليتقى" ويجتنب "من حالها" من هنا زائدة يعني حالها "المنافي" والمخالف للشريعة ويصح تضمين يتقى هنا معنى يحذر، ويكون "من" حينئذ للتعدية، ولبيان هذا التضمين. "و" هذه الفرق "قد أتى في بعضها التعيين" لما في ذكرها بعينها، وذلك قد حصل من الشارع "حين وجب بـ" سبب قبح أحوالها و"فحشها" بضم الفاء يعني مخالفتها الشديدة للشريعة "التبيين" والإيضاح لها. ومن ذلك الذي ورد فيه هذا التعيين والتبيين قوله صلى الله عليه وسلم الذي روي بألفاظ مختلفة في الخوارج "إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من
(1)
الموافقات 4/ 127 - 128.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الرمية" وفي رواية "دعه - يعني ذا الخويصرة - فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام - الحديث إلى أن قال -: آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر الخ". فقد عرف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء وذكر لهم علامة في صاحبهم وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كليين: أحدهما اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول، وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم ومن هنا ذم بعض العلماء رأي داود الظاهري وقال إنها بدعة ظهرت بعد المائتين ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه الصور والآيات وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في مشكل القرآن وكتابه في مشكل الحديث يبين لك صحة هذا الإلزام فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر.
والثاني: قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والاخرة ناجون وأن أهل الأوثان هالكون ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم فإذا كان النظر في الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد صار صاحبه هادما لقواعدها وصادا عن سبيلها ومن تأمل كلامهم في مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وابن عباس وفي غيرها ظهر له خروجهم عن القصد وعدولهم عن الصواب وهدمهم للقواعد وكذلك مناظرتهم عمر بن عبد العزيز وأشباه ذلك.
فهذان وجهان ذكرا في الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعا للمتشابهات. وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سوى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن وأن لا حرام إلا ما في قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعَام: 145] الآية وما سوى ذلك فحلال وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم وأن الزاني لا يرجم بإطلاق والقاذف للرجال لا يحد وإنما يحد قاذف النساء خاصة وأن الجاهل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
معذور في أحكام الفروع بإطلاق وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة محمد وأن المكلف قد يكون مطيعا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله وإنكارهم سورة يوسف من القرآن وأشباه ذلك وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية. ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا بها في الحكم الغالب العام وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة وكذلك في شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول منها وتركت غير المقبول وفي ذلك افتضاح المذنب إلى ما أشبه ذلك فكثير من هذه الأشياء خصت بها هذه الأمة. وقد قالت طائفة إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف وللستر حكمة أيضا وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة وعدم الألفة التى أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الرُّوم: 31، 32] وفي الحديث: "لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا" وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين. والشريعة طافحة بهذا المعنى ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب البر والصلة وقد جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] الآية أنه روى عن عائشة وأبي هريرة وهذا حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم؟ قلت الله ورسوله أعلم قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة وأنا منهم بري وهم مني برءآء". فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك المؤالفة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة
2616 -
إِذًا فَفَاحِشٌ يُشَاعُ قَوْلَا
…
وَغَيْرُهُ عَنْهُ السُّكُوتُ أَوْلَى
فاحشة جدا كبدعة الخوارج فلا إشكال في جواز إبدائها
(1)
.
وإظهارها "إذا فـ" الذي يصار إليه في هذا الشأن هو التفصيل، فما هو من منهج تلك الفرق أو معتقدها "فاحش" فإنه "يشاع" في الناس "قولا" ويذاع فيهم بيانا، وتعيينا، كما عين الرسول صلى الله عليه وسلم الخوارج - إن قلنا بأنه عينهم، وفي ذك نظر - وذكرهم بعلاماتهم - إن قلنا بأنهم المقصودون له بذلك - ليعرفوا ويحذر منهم، ويلحق بذلك - فحش البدعة - ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد "و" أما "غيره" أي الفاحش فإن الصمت "عنه" يعني عن تعيينه، والاعتقاد بذكر أوصافه و"السكوت أولى" كما تقدم بيانه وخرج أبو داود عن عمر بن أبي قرة قال: كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر فهذا من سلمان حسن من النظر فهو جار في مسألتنا فإن قيل فالبدع مأمور باجتنابها واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشديد بهم وتقبيح ما هم عليه فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في الجملة عليهم إلا القليل منهم كالخوارج ونبه على البدع من غير تفصيل وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة ولم يصرح بالتعيين غالبا تصريحا لقطع العذر ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس فنحن أولى
(1)
الموافقات 4/ 129 - 130 - 131.
2617 -
لَاكِنَّ ذَا تَظَاهُرٍ مَقْصُودِ
…
يُقْصَدُ بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّشْرِيدِ
"
فصل
"
2618 -
ثُمَّ لَهَا عَلَامَةٌ جُمْلِيَّةْ
…
حَاصِلُهَا مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِيَّةْ
بذلك معشر الأمة وما ذكره المتقدمون من ذلك فبحسب فحش تلك البدع وأنها لاحقة في جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد فهو ممكن أن يكون هو المراد في نفس الأمر أو بعضه فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد والأصل ما تقدم من الستر حتى يظهر أمر فيكون له حكمه ويبقى النظر هل هذا الظاهر من جملة ما يدخل تحت الحديث أم لا؟ فهو موضع اجتهاد وأيضا فإن البدع المحدثة تختلف فليست كلها في مرتبة واحدة في الضلال ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة التي قال فيها مالك التثويب ضلال وقد قسم المتقدمون البدع إلى ما هو مكروه وإلى ما هو محرم ولو كانت عندهم على سواء لكانت قسما واحدا وإذا كان كذلك فالبدع التى تفترق بها الأمة مختلفة الرتب في القبح وبسبب ذلك يظهر أنها كثيرة جدا وما في الحديث محصور فيمكن أن يكون بعضها غير داخل في الحديث أو يكون بعضها جزءا من بدعة فوقها أعظم منها أو لا تكون داخلة من حيث هي عند العلماء من قبيل المكروه فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه فلا يقدم على ذلك إلا ببرهان قاطع وهذا كالمعدوم فيها فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها
(1)
.
"لاكن" من كان "ذا تظاهر" وإبراز لبدعة "مقصود"، إذ يجاهر بها ويذيعها في الناس فإنه "يقصد" ويصار إلى ردعه وزجره "بالتأديب والتشريد" وهو النفي إلى مواطن يكف فيه شره، ومنكره.
"فصل"
"ثم" تقرر هذا الذي ذكر من حكم هذه الفرق يصار إلى ذكر أمر مهم في هذا الشأن وهو أن هذه الفرق "لها علامة" يعني علامات وخواص "جملية" كلية، وعلامات وخواص تفصيلة، أما الجملية فـ "حاصلها من جهة" العلامة "الوصفية" ينحصر
(1)
الموفقات 4/ 132 - 133.
2619 -
فِي الافْتِرَاقِ وَفِي الاقْتِفَاءِ
…
لِلْمُتَشَابِهَاتِ بِالأهْوَاءِ
" في" ثلاث صفات - علامات - إحداها: "الافتراق" الذي نبه عليه قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]- وقوله - سبحانه -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] وغير ذلك من الأدلة، قال بعض المفسرين: صاروا فرقا لاتباع أهوائهم، وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا، وهو قوله:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} ثم برأه الله منهم بقوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وهم أصحاب البدع والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله قال ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك مما اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت المرذية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التى ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه.
قال فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} وقد تقدمت فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى هذا ما قالوه وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين وهذه الخاصية موجودة في كل فرقة من تلك الفرق ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وأي فرقة توازي هذا إلا الفرقة التى بين أهل الإسلام
2620 -
ثُمَّ عَلَامَاتٌ عَلَى التَّفْصِيلِ
…
بِحَسَبِ الآتِي مِنَ الدَّلِيلِ
وأهل الكفر وهكذا تجد الأمر في سائر من عرف من الفرق أو من ادعى ذلك فيهم.
(1)
"و" ثانية هذه الصفات ذهابهم "في" سبيل "الاقتفاء" والاتباع "للمتشابهات" الذي
بين سبحانه وتعالى حكمة في قوله -: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] فجعل أهل الزيغ والميل عن الحق من شأنهم اتباع المتشابهات، وقال عليه الصلاة والسلام:"فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". أما ثالثة هذه الصفات فإنها الحكم "بـ" اتباع "الأهواء" والخضوع لسلطانها، الذي حذر الشارع الحكيم منه ونهى عن إتيانه قال - تعالى -:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] وقال - سبحانه -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أحد في خاصة نفسه، لأنها أمر باطن، فلا يعرفها غير صاحبها، إلا أن يكون عليها دليل في الظاهر، والتي قبلها راجعة إلى العلماء الراسخين في العلم لأن بيان المحكم والمتشابه راجع إليهم، فهم يعرفونها، ويعرفون أهلها بمعرفتهم لها، والتي قبلها تعم جميع العقلاء من أهل الإسلام، لأن التواصل والتقاطع معروف للناس كلهم وبمعرفته يعرف أهله هذه هي العلامات الجملية الكلية التي تتفرع عنها علامات تفصيلية متعددة، وقد لا تنحصر، وبهذا سميت جملية وكلية، "ثم" لهذه الفرق كذلك "علامات" تعتبر أفعالا وأقوالا وتصرفات خاصة بفرقة وبذلك توصف بأنها واردة "على" وجه "التفصيل" في كل فرقة على حدة وهي تعلم وتدرك "بحسب الآتي من الدليل" الشرعي فيها، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] إلى قوله سبحانه: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60] وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 116، 117] الآية وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] إلى آخرها وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] الآية وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
(1)
الموافقات 4/ 134 - 135.
"
فصل
"
2621 -
وَالْعِلْمُ قِسْمَانِ فَقِسْمٌ نَشْرُهُ
…
مُطَّلَبٌ وَلَا يَجُوزُ سَتْرُهُ
2622 -
وَذَاكَ جُلُّ الْعِلْمِ بِالْمَشْرُوعِ
…
فَكَتْمُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَمْنُوعِ
2623 -
ثَانِيهِمَا مَا نَشْرُهُ لَا يُطْلَبُ
…
مُطْلَقًا أَوْ فِي حَالَةٍ يُجْتَنَبُ
قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] الآية وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] إلى آخر الآيتين وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] إلى قوله: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا} الآية وقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] إلى غير ذلك مما نبه عليه القرآن الحكيم وكذلك في الحديث كقوله: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وكذلك ما تقدم ذكره في قسم زلة العالم وغيره مما في الأحاديث المختصة بهذا المعنى وإنما نبه عليها لتنبيه الشرع عليها ولم يصرح بها على الإطلاق لماتقدم ذكره فمن تهدى إليها فذاك وإلا فلا عليه أن لا يعلمها والله الموفق للصواب
(1)
.
"فصل"
في أنه ليس كل ما لا يعلم أنه هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، "و" بيان ذلك أن "العلم" من حيث طلب نشره وعدمه "قسمان": أحدهما: "قسم نشره" وبثه في الناس "يطلب" - بتشديد الطاء - شرعا "ولا يجوز ستره" أي إخفاؤه "وذاك" هو "جل" وغالب "العلم بالمشروع" يعني العلم بالأحكام والمقاصد والأسرار الشرعية "فـ" هذا القسم "كتمه" عن الخلق "من جملة الممنوع" والمحظور شرعا.
"ثانيهما" أي القسمين هو "ما" أي الذي "نشره" وبثه في الناس "لا يطلب" شرعا "مطلقا" في جميع الأحوال إذ لا يتعلق به حكم تكليفي "أو" لا يتطلب نشره "في حالة" معينة أو وقت أوفي حق شخص معين فقط بل يجب أن "يجتنب" نشره في ذلك كله دون
(1)
الموافقات 4/ 136.
2624 -
كَالْمُتَشَابِهَاتِ وَالتَّبْيِينِ
…
لِحَالَةِ الْفِرَقِ بِالتَّعْيِينِ
ما سواه من الحالات والأزمات، فإنه يسوغ نشره فيه وذلك الذي لا يسوغ نشره هو كل ما يكون نشره لا يفيد علما نافعا، ولا عملا، وذلك كـ "المتشابهات" والكلام فيها، فأن الله - تعالى - من اتبعها، فإذا ذكرت، وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو منهى عنه.
"و" منه كذلك "التبيين لحاله الفرق" وتنزيل ما قد يكون واردا فيها عليها "بالتعيين" لها وذكرها بأعلامها - أي بأسمائها التي تعينها - وأما يخص نشره بحال أو قوع وزمان فمن أمثلثه ما في الصحيح عن معاذ أن عليه الصلاة والسلام قال: يا معاذ تدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ الحديث إلى أن قال: قلت يا رسول أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا).
وفي حديث آخر عن معاذ في مثله قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها فيستبشروا؟ فقال: (إذا يتكلوا) قال أنس فأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبي هريرة أنظره في كتاب مسلم والبخاري فإنه قال فيه عمر: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه بشره بالجنة قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجلا فقال: (إن فلانا يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا فقال عمر لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون يغضبونهم قلت لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلها على وجهها فيطيروا بها كل مطير وأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها) فقال: (والله لأقومن في أول مقام أقومه بالمدينة) الحديث.
ومنه حديث سلمان مع حذيفة وقد تقدم
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ 137 - 138.
2625 -
وَبَتِّ عِلْمِ الْمُنْتَهِي لِلْمُبْتَدِى
…
وَعِلَلِ التَّشْرِيعِ لِلْمُقَلِّدِ
2626 -
وَذِكْرِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَمَلُ
…
وَمَا بِالاسْتِنْبَاطِ فَرْضًا يُنْقَلُ
" و" منه كذلك "بت" تعليم "علم" الشرائع الذي هو حظ "المنتهي" يعلمه "لـ" لشخص "المبتدي" الذي لا طاقة له بفهمه وإدراكه على الوجه الصحيح، والمطلوب في حقيقة الأمر أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، وأن يربى بصغار العلم قبل كباره. وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة في نظر الفقه، كما ذكر عز الدين بن عبد السلام في مسألة الدور في الطلاق التي مدارها على قول الزوج لزوجته إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاث، وإنما منع الفتيا بذلك لما يؤدي إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق، وهو مفسدة.
"و" منه - أيضا - الانشغال والبحث عن "علل" مسائل الفقه وحكم "التشريع" وأسراره بالنسبة "للمقلد" الذي لا قدرة له على النظر الفقهي الصحيح والاجتهاد، وإن كان لذلك كله علل صحيحة وحكم قائمة ثابتة، مستقيمة، ولذلك أنكرت عائشة رضي الله عنها على من قالت: لم تقضِ الحائض الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ وقالت لها: أحرورية أنت؟
"و" منه - كذلك - "ذكر ما ليس" ينبني "عليه عمل" بدني أو نفسي مطلوب شرعا، وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل وربما أوقع خيالا وفتنة وإن كان صحيحا وتلا قوله تعالى:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} فقال هذه الفاكهة فما الأب؟ ثم قال ما أمرنا بهذا إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقا. وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ولا حدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك
(1)
.
"و" منه أيضا ذكر "ما" أي الذي يحصل "بالاستنباط" والاستخراج من الأدلة "فرضا" أي مفروضا ومقدرا، و"ينقل" به، وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا به وإن كانت صحيحة في نظر الفقه كما ذكر عز الدين بن عبد السلام في مسألة الدور
(1)
الموافقات 4/ 138.
"
تنبيه
"
2627 -
أَنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ الْمُضِلَّةْ
…
مِنْ جُمْلَةِ الأُمَّةِ بِالأَدِلَّةْ
2628 -
وَمَا أَتَى التَّكْفِيرُ فِيهِ مِنْها
…
فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِذْ ذَا عَنْهَا
في الطلاق لما يؤدي إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق وهو مفسدة
(1)
.
"تنبيه": في بيان "أن جميع الفرق" الإسلامية الضالة "المضلة" هي "من جملة" هذه "الأمة" وذلك أمر ثابت "بالأدلة" الشرعية الدالة عليه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"تفترق أمتي" فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضمها إليها وقد جاء في الخوارج في هذه الأمة كذا فأتى بفي المقتضية أنها فيها وفي جملتها وقال في الحديث وتتمارى في الفوق ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار في كفرهم ولقال إنهم كفروا بعد إسلامهم، فإن قيل فقد اختلف العلماء في تكفير أهل البدع كالخوارج والقدرية وغيرهما: الجواب أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه
(2)
.
"و" إن قلنا بأنه أتى الدليل الشرعي بتكفير بعضها، فإن "ما أتى التكفير فيه منها" ثابتا "فإنه يخرج" عن هذه الفرق، إذ ليس منها "إذ ذا" ك، بل هو منفصل "عنها" بائن منها، لأن الفرق من لم تؤدهم بدعتهم إلى الكفر، إنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به في أهله، والأمر بالقتل في حديث الخوارج لا يدل على الكفر إذ للقتل أسباب غير الكفر كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل وما أشبه ذلك فالحق أن لا يحكم بكفر من هذا سبيله، وبهذا كله يتبين أن التعيين في دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب وأنه أمر اجتهادي لا قطع فيه إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر وما أعز وجود مثله
(3)
.
(1)
الموافقات 4/ 138.
(2)
الموافقات 4/ 139 - 140.
(3)
الموافقات 4/ 140.
"
المسألة العاشرة
"
2629 -
ثُمَّ لِلَافْعَالِ مَئَالٌ مُعْتَبَرْ
…
فِي الشَّرْعِ مَقْصُودٌ لَهُ فِيهِ النَّظَرْ
2630 -
وَذَاكَ فِي الَافْعَالِ بِالإِطْلَاقِ
…
عَلَى الخِلَافٍ أَوْ عَلَى الوِفَاقِ
2631 -
وَذَا بِالإِسْتِقْرَاءِ صَحَّ وَالنَّظَرْ
…
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرْ
" المسألة العاشرة"
في ذكر "ثم" بيان أن النظر "للأفعال" من حيث ما تؤول إليه من "مئال" هو أمر معتد به "معتبر في" بناء حكم "الشرع" فيها معرفته، إذ هو أمر "مقصود له" أي للشرع يعني لصاحب الشرع "فيه" أي في المئال المذكور "النظر" والاعتبار "وذاك" جار حكمه "في الأفعال" كلها "بالإطلاق" أي سواء كانت "على الخلاف" أي خلاف الشريعة "أو" كانت "على الوفاق" لها وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة
(1)
.
"وذا" الأمر - واعتبار مئالات الأفعال والنظر إليها ثابت "بـ" أمور: أحدها "الاستقراء" التام للأحكام الشرعية وأدلتها فإن ذلك "صح" به هذا الأمر وتقرر، وذلك أن المئالات معتبرة في أصل كما سنقف عليه في الأدلة النصية الآتية، "و" ثانيهما "النظر" ومقتضى العقل في هذا الموضوع وذلك أن مئالات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة فإن اعتبرت فهو المطلوب وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مئالات مضادة لمقصود تلك
(1)
الموافقات 4/ 140.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأعمال وذلك غير صحيح لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد، وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى أن لا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق
(1)
ثم إن التكاليف - كما تقدم - مشروعة لمصالح العباد، إما دنيوية، وإما أخروية، أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم وأما الدنيوية فإن الأعمال إذا تأملتها مقدمات لنتائج المصالح فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع والمسببات هي مئالات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر في المآلات
(2)
"و" ثالثها ما ورد "من أدلة الكتاب" العزيز على ذلك "و" كذلك ما ورد من "الخبر" النبوي دالا عليه، ومن ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الآية وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية وقوله {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} الآية وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] الآية وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة وأما في المسألة على الخصوص فكثير، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وقوله لولا قومك حديث عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم فقال له لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله هذا معنى الكلام دون لفظه وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال:"لا تزرموه" وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفا من الانقطاع وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها سماح تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية لكن مآله غير
(1)
الموافقات 4/ 142.
(2)
الموافقات 4/ 141.
2632 -
وَهْوَ أَمر صَعْبٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ
…
لَاكِنَّهُ مِنْ بَعْدُ عَذْبُ الْمَوْرِدِ
"
فصل
"
2633 -
وَهَذَا الَاصْلُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ
…
قَوَاعِدٌ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ
2634 -
كَالرَّعْيِ لِلخِلَافِ وَالذَّرَائِعِ
…
وَأَصْلْ الاسْتِحْسَانِ فِي الْمَوَاقِعِ
مشروع والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع. ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها قال ابن العربي حين أخذ في تقرير هذه المسألة اختلف الناس بزعمهم فيها وهي متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها
(1)
.
"و" هذا الأمر و"هو" هذا الاعتبار والنظر "أمر صعب" وشاق "على" الفقيه "المجتهد لكنه" كما تقدم ذكره "من بعد" ذلك ومن وراءه "عذب" وحلو "المورد" والمشرب.
"فصل"
"وهذا الأصل" المذكور - وهو وجوب اعتبار مآلات الأفعال والنظر إليها "ينبني عليه" وتؤسس "قواعد" فرعية "راجعة إليه".
وذلك "كـ" قاعدة "الرعي للخلاف" الفقهي في بناء الأحكام وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد على ما شرع الله له من الزواجر، أو غيرها، كالغصب - مثلا - إذا وقع فإن المغصوب منه لا بد أن يوفي حقه، لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله وكان ذلك من غير زيادة صح، فلو قصد فيه حمل على الغاصب لم يلزم، لأن العدل هو المطلوب ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة. وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد عليه بسبب جنايته، لأنه ظلم له. وكونه جانيا لا يجني عليه زائدا على الحد الموازي لجنايته، إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي أخذا من قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} [البقرة: 194] وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ونحو ذلك. وإذا ثبت هذا فمن واقع منهيا عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما
(1)
الموافقات 4/ 142 - 143.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي فيترك وما فعل من ذلك أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل نظرا إلى أن ذلك الواقع واقع المكلف فيه دليلا على الجملة وإن كان مرجوحا فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن من القرائن المرجحة كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم وحديث قتل المنافقين وحديث البائل في المسجد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد وفي الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" ثم قال: فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها، وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة وإلا كان في حكم الزنى وليس في حكمه باتفاق، فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح، وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد وهو أن العامل بالجهل مخطئا في عمله له نظران نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي وهذا يقتضي الإبطال ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام لأنه مسلم لم يعاند الشارع بل اتبع شهوته غافلا عما عليه في ذلك ولذلك قال تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] الآية وقالوا إن المسلم لا يعصي إلا وهو جاهل فجرى عليه حكم الجاهل إلا أن يترجح جانب الإبطال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بالأمر الواضح فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد فإذ ذاك لا نظر في المسألة مع أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل وهو المطلوب
(1)
.
"و" منها - كذلك - قاعدة سد "الذرائع" ومنع الوسائل المفضية إلى الحرام، وإن كانت تلك الوسائل حلالا باعتبار أصلها، وهذه القاعدة قد حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه، لأن المفسدة لا يخفى أن المصلحة المتروك فيها محققة، والمفسدة المتروكة من أجلها مظنوة، ومع ذلك حكمها مالك رحمه الله في أكثر أبواب الفقه لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة فإن عاقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدا بعشرة إلى أجل بأن يشترى البائع سلعته من مشتريها بخمسة نقدا فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدا بعشرة إلى أجل والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل لأن المصالح التى لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شئ ولكن هذا بشرط أن يظهر لذلك قصد ويكثر في الناس بمقتضى العادة، ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المآل أيضا، لأن البيع إذا كان مصلحة جاز، وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى، فكل عقدة منهما لها مآلها، ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة فلا مانع على هذا إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير، ولكن هذا بشرط أن لا يظهر قصد إلى المآل الممنوع، ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق، واتفقوا في خصوص المسألة على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله، عملا بمقتضى قوله تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وأشباه ذلك من المسائل التى اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل فيها وأيضا فلا يصح أن يقول الشافعي إنه يجوز التدرع إلى الربا بحال إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو وهو دال على القصد إلى الممنوع فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على
(1)
الموافقات 4/ 146 - 147 - 148.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر
(1)
.
"و" منها كذلك "أصل الاستحسان" وقاعدته الجاري حكمه "في المواقع" والمواضع التي يعمل به فيها وهو - أي الإحسان المذكور - في مذهب مالك الآخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتض القياس فيها.
أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلا فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين ومثله بيع العرية بخرصها تمرا فإنه بيع الرطب باليابس لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الإعراء كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل وصلاة الخوف وسائر الترخصات التي على هذا السبيل فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة فكان من الواجب رعى ذلك المآل إلى أقصاه ومثله الإطلاع على العورات في التداوي والقراض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه وقد قال ابن العربي في تفسير
(1)
الموافقات 4/ 144 - 145.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثاء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ثم جعله أقساما فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير وقال في أحكام القرآن الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين، فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ويريان معا تخصيص القياس ونقض العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا وهذا الذي قال هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام.
وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثيرا جدا وفي العتبيه من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره وكان كما لو اشتركا فيه وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به فقال أصبغ إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواء فلعله غلب ولا يدري وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا إن الوكاء قد يتفلت قال والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس قال وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان لأن العزل لا حكم له إذ أقر الوطء ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد لكن الاستحسان ما قال لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ولا يكون مع العزل إلا نادرا فأجرى الحكم على الغالب وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال وقد بالغ أصبغ في الاستحسان حتى قال إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة وإن الاستحسان عماد
2635 -
وَكُلُّهَا مَعْدُودَةٌ لِمَالِكِ
…
فِيمَا لَهُ مِنْ حَسَنِ الْمَدَارِكِ
2636 -
وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ بَابُ الْحِيَلِ
…
لِقَلْبِ حُكْمٍ وَسُقُوطِ الْعَمَلِ
العلم والأدلة المذكورة تعضد ما قال
(1)
.
"و" هذه القواعد - الأصول - "كلها معدودة" الإمام "لمالك" بن أنس رحمه الله يعني أنه منسوب إليه العمل بمقتضاها، وذلك معدود "فيما" يعد "له" ويحسب له "من حسن" الأصول وصحيح "المدارك" - جمع مدرك بضم الميم - وهو الدليل الذي يدرك من النظر فيه العلم المطلوب منه والذي يدل عليه.
"و" كذلك "راجع إليه" إلى هذا الأصل - وهو النظر في المئالات واعتبارها - أمر "باب الحيل" التي حقيقتها - في واقع الأمر - السعي "لقلب حكم" شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر "و" السعي إلى "سقوط العمل" المطلوب الإتيان به شرعا وعلى كل حال مئال العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة وهو مفسدة ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية، ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضا لكن على حكم الإنفراد فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة كإنفاق المال عند رأس الحول وأداء الدين منه وشراء العروض به وغيرها مما لا تجب فيه زكاة وهذا الإبطال صحيح جائز لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحا ممنوع وأما إبطالها ضمنا فلا وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقا ولا يقول بهذا واحد منهم ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال كالمنافقين والمرائين وما أشبه ذلك وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل والخلاف إنما وقع في أمر آخر
(2)
.
(1)
الموافقات 4/ 149 - 152.
(2)
الموافقات 4/ 146 - 145.
2637 -
وَمِنْهُ يُسْتَمَدُّ الأَصْلُ الجَارِي
…
فِي أَخْذِ مَطْلُوبٍ مَعَ الطَّوَارِي
"
المسألة الحادية عشرة
"
2638 -
وَهَاهُنَا أَسْبَابُ الاخْتِلَافِ
…
تُذْكَرُ تَفْصِيلًا بِقَوْلٍ شَافِ
" و" كذلك "منه" أي من هذا الأصل - أيضا - "يستمد" ويؤخذ "الأصل الجاري" المعمول به "في أخذ" شأن ما هو "مطلوب" أخذه "مع" اكتناف "الطواري" التي لا ترضى شرعا وإحاطتها به وذلك أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الإستطاعة من غير حرج كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الإكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضي فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع. وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق والله أعلم
(1)
.
"المسألة الحادية عشرة"
وهي معقودة في موضوع بيان أسباب الاختلاف الفقهي بين حملة الشريعة وهذا موضوع مهم جدا إذ الإحاطة بشأنه والعلم به يبصر بتمام صورة النظر الفقهي ويوصل إلى إدراك الحكم ومأخذه وإلى أن العلماء جميعا مستندون فيما يأتون وما يدرون من الأحكام الفقهية إلى الأدلة الشرعية التي تدلهم على ما هم عليه.
"و" بذلك فإنه تورد "هاهنا" في هذه المسألة "أسباب الاختلاف" بين الفقهاء و"تذكر تفصيلا" وبسطا "بقول" كاف في ذلك و"شاف" فيه.
(1)
الموافقات 4/ 152.
2639 -
مِنْ ذَاكَ الاشْتِرَاكُ فِي الإِفْرِادِ
…
أَوْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ وَالإِسْنَادِ
2640 -
وَدَوَرانُ اللَّفْظِ فِي الْحَقِيقَهْ
…
وَعَكْسُهَا وَيَقْتَفِي طَرِيقَهْ
وهذه الأسباب متعددة وقد ذكر منها - هنا - ثمانية:
"من ذاك" الذي ذكر منها هنا الاشتراك وهو على ثلاثة أقسام. أحدها "الاشترك" الواقع في الألفاظ والموجب للتأويلات المختلفة فيها "في" حال "الإفراد" والانفصال لها عن التركيب وذلك كالاشتراك الواقع في لفظ القرءان وفي لفظ "أو" الواقع في قوله - تعالى - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، ثانيها: الاشتراك الواقع فيها - أي الألفاظ - من جانب "جهة" ما يعرض لها بموجب "التصريف" لها من الأحوال والوجوه المحتملة وذلك كلفظة "لا تضار" في قوله - تعالى - {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] ولفظة "لا يضار" في قوله - سبحانه -: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]، "و" ثالثها: الاشتراك الواقع فيها من جهة "الإسناد" والتركيب.
وذلك نحو: "يرفعه" في قوله: - تعالى - {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فإن اختلف في الرافع هنا - فاعل رفعه - فقيل هو الله - تعالى - وقيل هو الكلم، ونحو الضمير في (قتلوه) في قوله - تعالى -:{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] فقيل الضمير لعيسى عليه السلام وهو الراجح، وقيل للعلم.
هذا هو السبب الأول "و" السبب الثاني "دوران اللفظ" بحكم حاله في الكلام ومعناه بين أن يكون مستعملا "في الحقيقة" يعني في حقيقته "و" أن يكون مستعملا في "عكسها" وهو المجاز، "و" هذا السبب يتبع السبب الأول و"يقتفي طريقه" من حيث أنه مقسوم - كذلك - إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما يرجع إلى اللفظ المفرد، نحو "ينزل ربنا" في حديث النزول، و"نور" في قوله - تعالى -:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35].
ثانيها: ما يرجع إلى أحواله - أي اللفظ - كالإضافة في قوله - تعالى -: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]، ولم يبين في هذا التركيب، وذلك كإيراد الممتنع بصورة الممكن، والممكن بصورة الممتنع كلفظ قدر في قوله ذاك الذي أوصى بأن يحرق بعد موته:"لئن قدر الله علي ليعذبني".
2641 -
أَوِ الدَّلِيلُ دَارَ مُقْتَضَاهُ
…
مَا بَيْنَ الاسْتِقْلَالِ أَوْ سِوَاهُ
2642 -
أَوْ بَيْنَ مَا يَخُصُّ أَوْ يَعُمُّ
…
أَوْ كَانَ بَعْضٌ نَسْخَهُ يَؤُمُّ
2643 -
أَوْ كَانَ آتِيًا عَلَى احْتِمَالِ
…
فِيهِ لِحُكْمَيْنِ فِي الاسْتِدْلَالِ
وأشباه ذلك مما يورد من الكلام بصورة غيره، كالامر بصورة الخبر، والمدح بصورة الذم، والتقليل بصورة التكثير، وعكسها.
السبب الثالث: الحجة "أو الدليل" إذا "دار" بحكم دلالته الظاهرة "مقتضاه" ومعناه "ما بين الاستقلال" والانفراد بالحكم "أو "- بمعنى الواو - أي و"سواه" وهو عدم الاستقلال به وذلك كحديث الوارد في شأن مسألة جمع البيع بالشرط في مذهب الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة وهذه مسألة سيأتي الكلام عليها، وكذلك ما ورد في شأن مسألة الجبر، والقدر، والاكتساب.
السبب الرابع: تقلب الدليل "أو" دورانه "بين" أن يكون من "ما يخص أو" - بمعنى الواو - أي وما "يعم" ومما يجري فيه ذلك قوله - تعالى -: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فقد ذهبت طائفة كثيرة من العلماء إلى أن هذه الآية مخصوصة إذ محمولة على أهل الكتاب، ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون بل هي عامة، لكنها نسخت بآية القتال، وكذلك قوله - تعالى -:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فقد قيل إنه علمه أسماء كل شيء، وقيل: إنما علمه أسماء الملائكة، وقيل غير ذلك، وعلى كل حال فالدليل هنا متردد بين العموم والخصوص في مقتضاه، ومعناه.
السبب الخامس: دعوى النسخ في الدليل وعدمه، وذلك إذا ظهرت علامة النسخ فيه لكنها غير مجزوم بها، "أو كان بعض" من أهل العلم "نسخه" أي نسخ ذلك الدليل "يؤم" ويقصد في بناءه للحكم في موضوعه أو في مجاري مقالاته وأمثلة هذا الصنف كثيرة جدا.
السبب السادس: كون الدليل تعتريه احتمالات في مراتبه الدلالية - كالأمر والنهي - "أو كان آتيا على احتمال" ظاهر "فيه لـ" اقتضاء "حكمين" مختلفين مقبولين "في"جهة "الاستدلال" به، وبذلك ينشأ الخلاف في حمل ذلك الدليل على معناه، مثاله: الخلاف الجاري في شأن الأذان، والتكبير على الجنائز، ووجوه القراءات كـ {يَطْهُرْنَ} في قوله - تعالى -:{حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].
2644 -
وَحَالُ الاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ
…
أَوِ الرِّوَايَاتِ التِي لِلَّناسِ
2645 -
وَعُدَّ فِيهَا جُمْلَةٌ مِنَ الْعِلَلْ
…
فَسَادُ الاسْنَادِ لِمَا قَدِ انْتَقَلْ
2646 -
وَالنَّقْلُ بِالْمَعْنَى وَمِنْ كِتَابِ
…
وَالْجَهْلُ بِالْخَطِّ وَبِالْإِعْرَابِ
2647 -
وَالْحَذْفُ لِلْجِزْءِ أَوِ اسقَاطُ السَّبَبْ
…
أَوْ بِسَمَاعِ الْبَعْضِ فِي حِينِ الطَّلَبْ
السبب السابع: "وحال" جهات "الاجتهاد" والاعتبارات الفقهية التي يختلف في مراعاتها فيه "و" كذلك أمر "القياس" وماجرى في شأنه من الاختلاف من حيث حجيته وكذلك من حيث تفاصيل العمل به، ومواضيعه.
السبب الثامن: تباين "أو" اختلاف أحوال "الروايات التي" تحصل "للناس" الذين ينقلون الأخبار والأحاديث النبوية، "و" أسباب هذا الاختلاف قد "عد فيها جملة" وكلها "من العلل" اللاحقة للخبر من جهة الرواية، وهي ثماني علل: أحدها: "فساد الإسناد لما قد انتقل" - بفتح التاء مبنيا للفاعل - وروى من الحديث سقوط اعتباره، وذلك يحصل بكون الرواة غير عدول، وهذا مفصل أمره في كتب "مصطلح الحديث".
"و" ثانيها: "النقل" للخبر "بالمعنى" دون الإتيان بلفظه الأصلي، وهذا أمر قد يقدح في ذلك الخبر، ويكسوه ثوب الشك والتردد من حيث كونه دليلا شرعيا معتمدا. "و" ثالثها: نقل الحديث "من كتاب" فيه تصحيف وخطأ في الألفاظ، والكلمات، وهذه العلة كالتي قبلها موجبة للشك والتردد في كل خبر حلت فيه، ووجدت. "و" رابعها:"الجهل بالخط" الذي كتب به الخبر بحيث يكون منبهما، وهذا كذلك موجب للتوقف فيما علل به. "و" خامسها: الجهل "بالاعراب" الذي يضبط به الخبر، ويعرف به معناه، ووجهه، وهذا - أيضا - موجب للتوقيف، والقدح في الأخذ بهذا الخبر. "و" سادسها:"الحذف للجزء" من الخبر وهذا يؤدي إلى نقص المعنى. وقد يكون في الجزء المحذوف ما به بيان ذلك الخبر كله، ووضوح المراد به، وبذلك فحذفه موجب لعدم العمل بالجزء الباقي، والمطلوب لذلك هو الوقف "و" سابعتها: حذف "وإسقاط السبب" أي سبب الخبر ومعلوم أن السبب به تمام الفهم لمعنى الخبر والمراد به - عادة - فإسقاطه موجب للنقص في الكلام، وبذلك فهو موجب للوقف. ثامنتها: رواية بعض الخبر، "أو "نقله، وذلك "بسماع" ذلك "البعض" منه فقط "حين الطلب" والرواية للحديث، وهذه العلة كالعلل التي قبلها فيها تقتضيه وتوجبه، وهذه العلل كلها قد يقع الاختلاف بسبب
"
المسألة الثانية عشرة
"
2648 -
مَا خَالَفَ الْمَشْرُوعَ قَطْعًا لَا يُعَدْ
…
فِيمَا مِنَ الْخِلَافِ حُكْمًا يُعْتَمَدْ
2649 -
كَذَاكَ مَا ظَاهِرُهُ الْخِلَافُ
…
وَفِي الْحَقِيقَةِ لَهُ ائْتِلَافُ
2650 -
وَذَاكَ فِي التَّفْسِيرِ مِمَّا يَكْثُرُ
…
وَالشَّرْحُ لِلسُّنَّةِ فِيهِ يَصْدُرُ
2651 -
ثُمَّ لِذَا الْخِلَافِ حَيْثُ يُنْقَلُ
…
جُمْلَةُ أَسْبَابٍ هُنَا تُفَصَّلُ
الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف، والنزاع.
"المسألة الثانية عشرة"
في أن ما لا يعتد به من الأقوال والآراء في الخلاف ضربان: أحدهما: ما خالف المقطوع به في الشريعة.
ثانيهما: ما كان ظاهره وقوع الاختلاف فيه وهو في الحقيقة ليس كذلك، وبيان ذلك أن كل "ما خالف" الحكم "المشروع" الثابت "قطعا" في الشريعة فإنه "لا يعد" ولا يحسب "فيما" هو "من الخلاف" الذي يعتد به "حكما" و"يعتمد" في بناء الأحكام الفقهية، ولا في مجاري النظر الفقهي، "و" كذاك - أيضا - حكم "ما ظاهره" وقوع "الخلاف" فيه "و" هو "في الحقيقة" ليس كذلك بل هو "له" مع غيره الذي يظهر أنه مخالف له "ائتلاف" ووفاق، "وذاك" الذي ظاهره الخلاف وهو ليس كذلك "في التفسير" للقرآن الكريم "مما يكثر" فتجد المفسرين ينقلون في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه. "و" هذا الضرب من الخلاف الذي هو غير حقيقي "الشرح للسنة" قد يرد "فيه" أيضا و"يصدر" أي يأتي، فليجر أمره على سنن الخلاف غير الحقيقي الوارد في تفسير الكتاب العزيز. كما يرد هذا - أيضا - في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه فإن نقل الخلاف في مسألة لاخلاف فيها في الحقيقة خطأ كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح. "ثم" بعد تقرر هذا وثبوته ينبغي أن يذكر أن "لذا" أي هذا "الخلاف" الجاري بين أهل العلم "حيث" أي في أي موضع "ينقل" ويذكر "جملة أسباب" تبين "هنا" و"تفصل" على الوجه الذي به تمام بيانها، وإظهارها.
2652 -
مِنْهَا شُمُولُ لَفْظِ مَا يُفَسَّرُ
…
لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي تُذْكَرُ
2653 -
وَكَوْنُ الأَلْفَاظِ لَهَا اتِّفَاقُ
…
فِي حُكْمِ مَعْنىً خَصَّهُ الْمَسَاقُ
2654 -
وَمَا يُرَى تَفْسِير إِذْ عَنَّا
…
مَرْجِعُهُ لِلُغَةٍ وَمَعْنَا
وهذه الأسباب "منها" استغراق و"شمول لفظ" قرآني "ما" من ما "يفسر" يعني مما فسره النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه أو غيرهم "لجملة" وطائفة "من المعاني" المختلفة، ويكون ما نقل في تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره كالصحابة بعض ما يدل عليه ذلك اللفظ فقط، ثم يذكر عن غيره من ذكر - من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره أشياء أخرى في تفسير ذلك اللفظ مما يحتمله ويشمله وبذلك "تذكر" مفصولة عن الذي ذكر فيه، أولا، وتورد في كتب التفسير على تلك الصورة التي تدل في الظاهر على التميز والانفصال، فيظن أن بين التفسيرين خلافا وواقع الأمر فيهما على خلاف ذلك مثال ما نقلوا في تفسير "المن "بأنه خبز رقاق، وقيل زنجبيل وقيل الترنجبين وقيل شراب مزجوه بالماء، فهذا كله يشمله اللفظ، لأن الله - تعالى - لكن به عليهم، ولذلك جاء في الحديث:"الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل"، فيذكر المن جملة نعم ذكر الناس آحادا.
هذا هو السبب الأول من هذه الأسباب، "و" السبب الثاني منها هو "كون الألفاظ" التي وقع تفسير لفظ ما بها مختلفة، لكن معناها واحد، إذ "لها اتفاق" واتحاد "في" مدلول و"حكم معنى" واحد، بينه و"خصه المساق" الذي ورد فيه ذكره، لكن نقل هذه الألفاظ المختلفة في ذلك يوهم أن في ذلك خلافا محققا، وثابتا، كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السماني، وقيل طير أحمر صفته كذا وقيل طير بالهند أكبر من العصفور وكذلك قانوا في المن شيء يسقط على الشجر فيؤكل وقيل صمغة حلوة وقيل الترنجبين وقيل مثل رب غليظ وقيل عسل جامد فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها
(1)
.
"و" السبب الثالث "ما يرى" أي يوجد "تفسيره" من الألفاظ وبيانه "إذ عنا" - الألف للإطلاق - أي عرض في الكلام، على قولين مختلفين: أحدهما: "مرجعه" ومرده لما دل عليه هذا اللفظ من جهة لـ "للغة و "ثانيهما مرجعه إلى تفسير الـ"معنا" المراد به،
(1)
الموافقات 4/ 156.
2655 -
أَوْ مَا بِهِ الْخِلَافُ غَيْرُ وَارِدِ
…
مِنْ أَصْلِهِ عَلَى مَحَلِّ وَاحِدِ
2656 -
وَمَا بِهِ يَخْتَصُّ مَنْ يَجْتَهِدُ
…
عِنْدَ رُجُوعِهِ لِمَا يَعْتَمِدُ
وهما - أي التفسيران - يرجعان معا إلى حكم واحد، لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع، والآخر إلى تقرير المعنى في الاستعمال، كما قالوا في قوله تعالى:{وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي المسافرين وقيل: النازلين بالأرض القواء وهي القفر وكذلك قوله: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] أي داهية تفجوهم، وقيل سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشباه ذلك
(1)
.
السبب الرابع: هو جريان النزاع "أو" الخلاف في "ما" من المواضع النزع "به" يعني فيه و"الخلاف غير وارد من أصله" وما بني عليه من تصور "على محل واحد" وإنما كل قول من أقوال المختلفين له مورد الذي ورد فيه على الخصوص والانفصال عن المورود الذي ورد فيه، غيره من الأقوال الأخرى المخالفة له، مثال ذلك ما ورد من اختلافهم في أن المفهوم له عموم أولا: وذلك أنهم قالوا لا يختلف القائلون بالمفهوم أنه عام فيما سوى المنطوق به، والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به، وهو مما لا يختلفون فيه أيضا وكثير من المسائل على هذا السبيل. فلا يكون في المسألة خلاف، وينقل فيها الأقوال على أنها خلاف
(2)
.
"و" السبب الخامس: هو "ما" من الاختلاف يتفرد "به" و"يختص" بأمره "مَنْ" مِنْ أهل العلم "يجتهد" فيؤدي به ذلك إلى اختلاف أقواله في مسألة واحدة.
"عند رجوعه لما يعتمد"ــه في آخر أمره من الاختيارات الفقهية الراجحة لديه، وذلك يصير إليه الفقيه المجتهد إذا عن له من الأدلة ما يقتضي رجوعه عما ذهب إليه في أول الأمر، فتنتقل عنه الأقوال المختلفة في ذلك بالنسبة إليه، فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة، لأن رجوع الإمام عما أفتى به إلى خلافه فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطرح منه للأول ونسخ له بالثاني وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع والحق فيه ما ذكر أولا ويدل
(1)
الموافقات 4/ 156.
(2)
الموافقات 4/ 157.
2657 -
وَمَا بِهِ الْخِلَافُ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلْ
…
بِالاخْتِيَارِ لَا عَلَى الْحُكْمِ اشْتَمَلْ
2658 -
وَحَيْثُمَا مُفَسِّرٌ قَدْ فَسَّرَا
…
بِأَوْجهٍ مُحْتَمِلَاتٍ نَظَرَا
2659 -
يُبْنَى عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ حُكْمُهُ
…
مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ يَلُوحُ رَسْمُهُ
عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد ولا يصح فيها غير ذلك وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر كما ذكر عن ابن عباس في المتعة وربا الفضل وكرجوع الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف
(1)
.
"و" السبب السادس: هو "ما" أي الذي "به الخلاف" يعني فيه جار "من حيث العمل" به "بالاختيار" الذي لا يدل على الإنكار لغير المعمول به، وبذلك فهذا الاختيار "لا" يكون "على" الاختلاف في "الحكم" قد "اشتمل" أو دل، وذلك كاختلاف القرآء في وجوه القراءات فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكاره غيره بل على إجازته والإقرار بصحته وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات وليس في الحقيقة باختلاف فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها
(2)
.
"و" السبب السابع: هو ما يحصل "حيثما" يكون لفظ "مفسر قد فسرا" الألف من مفسر واحد "بأوجه" كلها "محتملات" - بضم الميم - أي يصبح أن يفسر بها ذلك اللفظ لأنه يحتملها "نظرا" يعني من جهة ما يقتضيه النظر في دلالته اللغوية، أو الشرعية، أو العقلية، أو في دلالة جميع ذلك كله، "و" بذلك "يُبنى على كل احتمال حكمه" ومفاده، ويكون ذلك بالتسوية بين جميع الاحتمالات القائمة في ذلك "من غير ترجيح" لأي احتمال منها على ما سواه "يلوح رسمه" أو تظهر صورته في كلام ذلك المفسر، وإنما تحكى تلك الاحتمالات بالسوية في الإمكان، والدرجة، ويكون ذلك على سبيل توسيع المعاني خاصة. وما كان هكذا فإنه ليس بمستقر خلافا، إذا الخلاف مبنى على التزام كل قائل احتمالا يعضده بدليل يرجعه على غيره من الاحتمالات حتى يبنى عليه، وليس الكلام في مثل هذا.
(1)
الموافقات ج 4/ 157.
(2)
الموافقات ج 4/ 157.
2660 -
أَوْ أَنْ يُرَى الْخِلَافُ فِي تَنْزِيلِ
…
مَعْنىً أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي تَأْوِيلِ
2661 -
أَوْ أَنْ يَكُونَ الْخُلْفُ فِي مُجَرَّدِ
…
عِبَارَةٍ مُوضِحَةٍ لِلْمَقْصِدِ
السبب الثامن هو: أن يوجد "أو أن يرى الخلاف" بين العلماء محصورا "في تنزيل معنى" واحد فيحمله قوم على المجاز - مثلا - وقوم على الحقيقة، والمطلوب أمر واحد كما يقع لأرباب التفسير كثيرا في نحو قوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31] فمنهم من يحمل الحياة والموت على حقائقهما ومنهم من يحملهما على المجاز ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما ونظير هذا قول ذي الرمة: "وظاهر لها من يابس الشخت - وبائس الشخث - وقد مر بيانه وقول ذي الرمة فيه إن بائس ويابس واحد ومثل ذلك قوله {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} [القلم: 20] فقيل كالنهار بيضاء لا شيء فيها وقيل كالليل سوداء لا شيء فيها فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين الذين لا يتلاقيان"
(1)
.
السبب التاسع: هو أن يقع "أو أن يكون" الخلاف "في تأويل" وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي، فهذا لا يعد خلافا حقيقيا، لأن مقصود كل متأول لصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل وجميع التأويلات في ذلك سواء فلا خلاف في المعنى المراد وكثيرا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه وتقع في غيرها كثيرا أيضا كتأويلاتهم في حديث خيار المجلس بناء على رأي مالك فيه وأشباه ذلك
(2)
.
السبب العاشر: أن يراد "أو أن يكون الخلف في مجرد" الـ "عبارة" الـ "موضحة" والمبينة "للمقصد" والمعنى المراد الذي هو في واقع الأمر معنى واحد، وذلك كاختلافهم في الخبر: هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب فهذا خلاف في عبارة والمعنى متفق عليه وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما قال القاضي عبد الوهاب في مسألة الوتر أواجب هو إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة وإن لم يريدوا ذلك وقالوا لا يحرم تركه ولا يجرح فاعله فوصفه بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح الاحتجاج عليه وما قاله حق فإن العبارات
(1)
الموافقات ج 4/ 158.
(2)
الموافقات 4/ 158.
" فصل"
2662 -
وَقَدْ يُقَالُ أَنَّ مَا يُعْتَدُّ
…
بِهِ مِنَ الْخِلَافِ إِذْ يُعَدُّ
2663 -
يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْوِفَاقِ
…
بِالْقَصْدِ لِلْمَشْرُوعِ بِالإِطْلَاقِ
2664 -
وَصَارَ الاخْتِلَافُ فِي الْمَوَاقِعِ
…
فِيمَا يُؤَدِّيهِمْ لِقَصْدِ الشَّارعِ
لا مشاحة فيها ولا ينبني على الخلاف فيها حكم فلا اعتبار بالخلاف فيها هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف يجب أن تكون على بال من المجتهد ليقيس عليها ما سواها فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع
(1)
.
"فصل"
فصل:
"وقد يقال" بإعتبار أن العلماء جميعا سائقهم الباطني وقصدهم واحد وهو إدراك الحكم الشرعي والبحث عن مرضات الله - تعالى - "أن ما يعتد به من الخلاف" ويعتبر "إذ يعد" ويحسب في ظاهر الأمر كذلك - وقد تقدم بيانه - هو في الحقيقة "يرجع معناه إلى الوفاق" والإتفاق، وذلك كما تقدم ذكره "بـ" اعتبار حصول "القصد" من العلماء كلهم "لـ" إدراك الحكم "المشروع" المنزل من رب العالمين، وكلهم ساعون إلى ذلك "بالإطلاق" سواء في ذلك من منهم أصاب الحكم المشروع، ومن لم يصبه منهم فكان سائقهم واحد وقصدهم واحدا، "و" بذلك "صار الاختلاف" الحاصل بينهم "في المواقع" والمواضع التي اختلفوا فيها منحصرا "فيما" من الوسائل والسبل "يؤديهم" ويوصلهم "لقصد الشارع" ومراده فقط.
"وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضا يتعارضان في أنظار المجتهدين وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الإطلاع عليه. أما هذا الثاني فليس في الحقيقة خلافا إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي. أما الأول فالتردد بين الطرفين تحر لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه
(1)
الموافقات 4/ 159.
"
فصل
"
2665 -
ثُمَّ يُرَى الْخِلَافُ فِي الْحَقِيقَهْ
…
خِلَافَ جَاعِلِ الْهَوَى طَرِيقَهْ
2666 -
وَقَدْ مَضَى عَدَمُ الاعْتِدَادِ
…
بِخُلْفِهِ مِنَ الدَّلِيلِ الْهَادِي
لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه ولوافق صاحبه فيه فقد صار هذا القسم في المعنى راجعا إلى القسم الثاني فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقا وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أم قلنا بالتصويب إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيبا أيضا كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئا فالإصابة على قول المصوبة إضافية فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار. فإذا كان كذلك فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون. ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد حتى لم يصيروا شيعا ولا تفرقوا فرقا لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع فاختلاف الطرق غير مؤثر كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة كرجل تقربه الصلاة وآخر تقربه الصيام وآخر تقربه الصدقة إلى غير ذلك من العبادات فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود وإن اختلفوا في أصناف التوجه فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدا ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى لا إلى تحري مقصد الشارع والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها بل ليتعرف منها المقصد المتحد فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة وإلا لم يصح"
(1)
.
"فصل"
"ثم" إذا تقرر هذا وثبت حكمه فإنه ينبني عليه أنه قد "يرى الخلاف" الذي هو خلاف "في الحقيقة" وواقع الأمر إنما هو "خلاف" تارك منهج الحق و"جاعل الهوى طريقه" في أمور الدين فلم يكن خلفه ناشئا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل، "و" من كان هكذا فإنه "قد مضى" أنه يجب "عدم الاعتداد بخلفه" وعدم المبالاة به، وهذا حكم مأخوذ "من الدليل" الشرعي "الهادي" إلى الحق المبين
(1)
الموافقات 4/ 159 - 160 - 161.
2667 -
وَنَقْلُ قَوْلِهِ لِأَنْ يُبَيَّنَا
…
فَسَادُهُ بِحَيْثُ مَا تَعَيَّنَا
- وقد تقدم ذكر هذا الدليل - "و" بناء على هذا يكون "نقل قوله" أي قول هذا المخالف المتبع للهوى "لـ" أجل "أن يبينا" - الألف للإطلاق - ويوضح للناس "فساده" وبطلانه متى "ما تعينا" - الألف للإطلاق - ذلك ووجب، وإنما وجب أن لا يعتد بما كان على هذا الوجه من الخلاف، لأنه إذا اتبع الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى وذلك مخالفة الشرع ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع ولذلك سميت البدع ضلالات وجاء أن كل بدعة ضلالة لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب ودخول الأهواء في الأعمال خفي فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع فلا خلاف حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة فإن قيل هذا مشكل فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول وفرعوا عليها الفروع واعتبروهم في الإجماع وهذا هو الاعتداد بأقوالهم فالجواب من وجهين أحدهما أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها بل إنما أتوا بها ليردوها ويبينوا فسادها كما أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها وذلك في علمي الأصول معا بين وما يتفرع عليها مبنى عليها والثاني إذا سلم اعتدادهم بها فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسا وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره فمثله لا يقال فيه إنه متبع للهوى مطلقا بل هو متبع للشرع ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة وأيضا فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد وهو أتباع الشريعة وأشد مسائل الخلاف مثلا مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية وإلى هذا فإن منها ما
2668 -
وَالْحَاصِلُ اتِّحَادُ حُكْمِ الشَّرْعِ
…
فِي كُلِّ أَصْلٍ يُقْتَفَى وَفَرْعِ
"
المسألة الثالثة عشرة
"
2669 -
لِطَالِبِ الْعِلْمِ ثَلَاثُ رُتَبِ
…
رُتْبَةُ مَنْ قَدِ ارْتَقَى فِي الطَّلَبِ
2670 -
إِلَى مَحَلِّ الاهْتِدَاءِ لِلنَّظَرْ
…
فِي شَأْنِ مَا يَحْفَظُهُ قَدْ اسْتَقَرْ
يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه ولهذا لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم وأيضا فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم ومدارك الاجتهاد تختلف لم يمكن والحال هذه إلا حكاية أقوالهم والاعتداد بتسطيرها والنظر فيها واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه وإلا أدى إلى عدم الضبط ولهذا تقرير في كتاب الإجماع فلما اجتمعت هذه الأمور نقل خلافهم وفي الحقيقة فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة وإذا كان كذلك فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة لصحتها واتحاد حكمها وجهة الاختلاف فهم مخطئون فيها قطعا فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف فالاتفاق حاصل إذا على كل تقدير
(1)
.
"والحاصل" من هذه المسألة أنه يوجد على جزم "اتحاد حكم الشرع" وعدم تعدده "في كل أصل" شرعي "يقتفى" ويتبع "و" كل "فرع" من فروع الشريعة سواء كان موضوعها العبادة، أو المعاملات، فكلمة الإسلام متحدة في واقع الأمر في كل مسألة شرعية، والله - تعالى - هو وحده الموفق.
"المسألة الثالثة عشرة"
في بيان أنه "لطالب العلم" الشرعي إذا استمر في الطلب "ثلاث رتب" يمر بها أحدها: "رتبة من قد ارتقى" وصعد "في"مرتقى "الطلب" للعلم حتى انتهى به الأمر في ذلك "إلى" مرتبة و"محل الاهتداء" للتنبه و"للنظر" الذي "في شأن" وحال "ما يحفظه" من المسائل العلمية "قد استقر" كما استقر.
(1)
الموافقات ج 4/ 161 - 162.
2671 -
وَالْبَحْثِ عَنْ أَسْبَابِهِ مُفْتَقِرَا
…
لِلشَّيْخِ فِيمَا يَسْتَفِيدُ نَظَرَا
2672 -
وَشَيْخُهُ يُعِينُ فِي التَّفَهُّمِ
…
وَرَفْعِ إِشْكَالٍ وَصرْفِ مُوهِمِ
2673 -
فَلَازِمٌ لِمِثْلِ ذَا التَّقْلِيدُ
…
وَأَنَّهُ فِي حَقِّهِ الْمَحْمُودُ
2674 -
وَرُتْبَةٌ أُخْرَى لِمَنْ تَحَقَّقَا
…
بِفَهْمِ مَعْنَى مَا اسْتَفَادَ مُطْلَقَا
" و" ثبت - أيضا - في "البحث عن" علل ذاك الذي حفظه ومأخذه و"أسبابه" التي قام عليها وجوده هذه الحالة إنما تنشأ عن شعور بمعنى وفهم ما حصل، لكنه مجمل عنده بعد وربما ظهر له في بعض أطرف المسائل جزئيا لا كليا وربما لم يظهر له بعد، فمن كان في هذه الرتبة وهذه الحالة فإنه يكون "مفتقرا" ومحتاجا "للشيخ" الذي يعينه ويرشده "فيما يستفيد" من ذلك "نظرا" يعني بطريقة النظر والتفكر، فيمضي في ذلك وهو ينهي البحث نهايته.
"وشيخه يعين" أي يعينه "في" مجرى "التفهم" والتدرج في الإدراك لما يطلبه، "و" ذلك يحصل بوسائل منها "رفع إشكال" وإزالته في المواضع التي يعرض له فيه "و" منها:"صرف" ودفع أمر "موهم" أي موقع في الوهم - أي الخطأ - أو في معنى غير مراد، وبذلك يرشده ويهديه إلى ما يزيل ذلك كله يربيه على الجريان في مجراه في النظر، والفهم، مثبتا قدمه، ورافعا وحشته، مؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم.
"فـ" هذا الطالب حين بقائه في هذه الرتبة ما زال قاصرا عن النظر الفقهي الصحيح، وبذلك فإنه واجب و"لازم لمثل ذا التقليد" لغيره في أموره الدينية "و" هذا الأمر قد تقرر "أنه في حقه" هو الأمر "المحمود" والسبيل المستقيم، لأنه ما زال ينازع الموارد الشرعية وتنازعه، ويعارضها وتعارضه، طمعا في إدراك أصولها، والاتصال بحكمها ومقاصدها، ولم تتخلص له بعد، - وبذلك - كما تقدم - لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه، لأنه لم يتخلص له مسند الاجتهاد، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه، فاللازم له الكف والتقليد.
"و" ثاني هذه الرتبة "رتبة أخرى" وهي الرتبة التي "لمن تحققا" - الألف للإطلاق - أي اتصف حقيقة "بفهم معنى ما" حصل من مسائل العلم و"استفاد" لا "مطلقا" سواء كان ذلك من المسائل القريبة أو البعيدة المدرك.
2675 -
حَسَبَمَا أَدَّى لِمُقْتَضَاهُ
…
بُرْهَانُهُ الشَّرْعِيُّ وَاقْتَضَاهُ
2676 -
فَهْوَ عَلَى بَيِّنَةٍ بِحَيْثُ لَا
…
يَعْتَرِضُ الشَّكُّ لِمَا قَدْ حَصَّلَا
2677 -
لَاكِنَّهُ بِهِ اسْتَمَرَّ الْحَالُ
…
فِي شَأْنِ مَا كَانَ لَهُ اسْتِقْلَالُ
2678 -
فِي حِفْظِهِ فَزَلَّ عَنْهُ حُكْمَا
…
مَعْ كَوْنِهِ لَمْ يَعْرَ عَنْهُ فَهْمَا
2679 -
فَهَلْ لِمَنْ يَبْلُغُهَا أَنْ يَجْتَهِدْ
…
هِيَ مَحَلُّ الْبَحْثِ وَالْخُلْفُ يَرِدْ
ويحصل له ذلك التحقق "حسبما" يدل عليه الدليل الشرعي ويفيده، ووفق ما "أدى" وأوصل "لمقتضاه" وحكمه "برهانه" أي برهان ما حصله "الشرعي""و" ما "اقتضاه" من حكم، ومعنى، ومقصد وحكمة، ومن كان على هذا الحال وفي هذه الرتبة "فهو على بينة" وعلى بصيرة في فهم معنى ما حصله، وتحقيقه "بحيث" صار يحصل له اليقين و"لا يعترضـ"ــه "الشك لـ" يعني في "ما قد حصلا" - الألف للإطلاق - في المعارف والعلوم، بل تصير الشكوك - إذا وردت عليه - كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه فهو يتعجب من المتشكك في محصوله، كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار، "لاكنه" امتد "به الحال" و "استمر" به الإعراض "في شأن ما كان" من الأدلة "له استقلال" وانفرد عن الأصول العامة والقواعد الكلية "في حفظه" وتحصيله والمراد بذلك الأدلة التفصلية التي تفيد الأحكام الجزئية فقط "فزل" وزال "عنه" أي عن محفوضه ومدركه من الأدلة، "حكما" فصار لا يستحضره بذاته في بناء الأحكام الفقهية "مع كونه" في حقيقة الأمر "لم يعر عنه" يعني عن إفادته ومقتضاه "فهما" لاكنه مما ترقى بحفظه والعلم به إلى العلم بالكليات والقواعد العامة الذي يعتمد عليها في بناءه للأحكام الفقهية، حتى صار لا يبالي في القطع على المسائل والحكم عليها: أنص على ما يراه في شأنها أم على خلافه فيها. هذه المرتبة مرتبة مهمة ومعتبرة غير أن صاحبها لم يجمع بين العمل بالأدلة التفصلية والعمل بالأدلة الإجمالية كما هو مطلوب "فهل لمن يبلغها" ويصل إليها "أن يجتهد" في الأمور الشرعية، وينبذ التقليد أم لا؟ هذه المسألة "هي محل" وموضع من محال مواضع "البحث و" النظر بين أهل العلم لأنها موضع التباس، فكان "الخلف" لذلك قد "يرد" أي ورد بينهم فيها. وللمحتج للجواز أن يقول إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس، وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت وصار بعضها عاضدا للبعض
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة، وعمدة النحلة ومنبع التكليف فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا، إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة، إذ لو كان كذلك لم يكن واصلا بعد إلى هذه المرتبة، وقد فرضناه واصلا هذا خلف.
ووجه ثان، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي، حتى يبنى عليه فتياه ويرد إليه حكم اجتهاده فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل وهو محال.
ووجه ثالث وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصات، وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه فإن تكن في الحال غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي، فهي حاكمة في الحقيقة، لأن المعنى الكلي منها انتظم، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد. وهو المطلوب.
وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه:
منها أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها وتعاضدت مراميها، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعا حتى صارت الشريعة في حقه أمرا متحدا ومسلكا منتظما، لا يزل عنه من مواردها فرد ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضا من اعتباره، إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس. وإذا كان كذلك لم يستحق من هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله.
ومنها أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل آخر، كما في النكاح مثلا فإنه لا يسوغ أن يجرى مجرى المعاوضات من كل وجه، كما أنه لا يسوغ أن يجرى مجري الهبات والنحل من كل وجه، وكما في مال العبد وثمرة الشجرة والقرض والعرايا وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة، بل لكل باب ما يليق به ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره. وكما في الترخصات في العبادات
2680 -
وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ فِيهَا أَمْثِلَةْ
…
كَمِثْلِ الأخْذِ بِالنُّصُوصِ الْمُعْمَلَةْ
2681 -
وَالنَّفْيِ لِلْقِيَاسِ شَأْنُ الظَّاهِرِي
…
أَوْ مُعْمِل لِلرَّأْيِ فِي الْمَصَادِرِ
2682 -
دُونَ مُرَاعَاةٍ وَلَا اعْتِبَارِ
…
مُخَالِفٍ لَهُ مِنَ الأَخْبَارِ
والعادات وسائر الأحكام، وإن كان كذلك - وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلا إلى حفظ الضروريات والحاجيات والتكميليات - فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي، وأنه هو مقصود الشارع هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع.
ومنها: أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها وهي أفعال المكلفين، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم. وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع، فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد. وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذا كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال
(1)
.
"وهذه الرتبة" التي أهلها يعملون ببعض الأدلة الشرعية دون بعض قد حلت "فيها" مذاهب فقهية، فهي لذلك "أمثلة" يمثل بها لأهلها، وذلك "كمثل" من مذهبه في بناء الأحكام الفقهية هو "الأخذ بـ" ظواهر "النصوص" الشرعية "المعملة" في هذا البناء، لكن مع الطرح "والنفي" لصحة "القياس" والإنكار لكونه حجة شرعية، كما هو "شأن" أهل المذهب "الظاهري" الذي أسسه داود بن علي الظاهري.
ومثله - أيضا - مذهب مسلط "أو معمل للرأي" والقياس "في المصادر" ومواطن الأحكام "دون مراعاة ولا اعتبار" مقتضى وحكم ما هو "مخالف له" أي لهذا الرأي "من الأخبار" والأحاديث النبوية على الجملة، وكلا الفريقين - أهل الظاهري وأهل مذهب
(1)
الموافقات 4/ 164 - 165 - 166.
2883 -
فَالظَّاهِرِيُّ مَالَ لِلْمَسْمُوعِ
…
وَرَدِّهِ كُلِّيَّةَ الْمَشْرُوعِ
2884 -
فَهْوَ بِذَاكَ غَيْرُ ذِي الْتِفَاتِ
…
مَا لِلْمَعَانِي مِنْ خُصُوصِيَّاتِ
2885 -
وَذُو الْقِيَاسِ جَرَّدَ الْمَعَانِي
…
وَعَدَّهَا كُلِّيَّةً فِي الشَّأْنِ
الرأي هذا - قد غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام، اطرد له في جملة الشريعة اطراد لا يتوهم معه في الشريعة نقص، ولا تقصير، بل على مقتضى قوله - تعالى -:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
"فـ" أما الذي على المذهب "الظاهري" فإنه لا يعتد إلا بظواهر النصوص، أو ما خرج منها بأدلة برهانية، وبذلك "مال لـ" لأخذ بـ "المسموع" من الأدلة والمنقول منها، "ورده" أي جعله "كلية المشروع" يعني الشريعة، فهو لا يبغي عن ذلك حولا، ولا يرى أنه محتاج معه لغيره مما يأخذ به غيره من الأدلة غير النصية، "فهو بذاك" الاقتصار على الأدلة النصية - نصوص الكتاب والسنة - "غير ذي" مبالاة أو "التفات" إلى "ما للمعانى" والمقاصد والعلل المرعاة شرعا في بناء الأحكام "من خصوصيات" تمير مواضع الأحكام بعضها عن بعض، وتوجه النظر إلى فهم مراد الشارع من النصوص الشرعية الواردة فيها، وترشد إلى الوجوه التي تحمل عليها هذه النصوص، وتفسر بها ولا يخفى أن عدم المبالاة بهذا يصد عن التفقه في النصوص الشرعية على الوجه المطلوب ويحجر عن فهمها فهما كاملا وإنما يذهب من على هذا المذهب - المذهب الظاهري - إلى هذا الشأن، ومن ذلك أنه يرى: أن الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملا، ومصالحهم تجرى على حسب ما أجراها الشارع، لا على حسب أنظارهم فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة من حيث أن الشارع إنما تعبدنا بذلك. واتباع المعاني رأي فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة والخاص الظني لا يعارض العام القطعي
(1)
.
"و" أما "ذو" الرأي و"القياس" المذكور فإنه "جرد" وأخرج "المعاني" والمقاصد الشرعية وعلل الأحكام والقواعد الكلية "وعدها كلية في" هذا "الشأن" وهو بناء الأحكام الفقهية فيحكم بمقتضاها على سائر الفروع والجزئيات، من غير التفات منه إلى
(1)
الموافقات 4/ 167.
2686 -
مُطَّرِحًا لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَمَا
…
مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ فِيهِ يُمِّمَا
الأدلة الجزئية التفصيلية، وبذلك يكون "مطرحا" ونابذا "لجانب اللفظ" الشرعي ومقتضاه "وما من الخصوصيات" الدلالية قد أودع "فيه" و"يمما" - الألف للإطلاق - أي قصد فيه شرعا، ومن ثم يتصرف من على هذا المذهب على وفق هذا الذي يراه كلية الشريعة، والأدلة الشرعية التفصيلية إذا وردت عليه، فإنه يصرفها إلى ما يوافق هذا الذي يراه كلية في هذا الشأن، وأن كانت بظواهرها على خلاف ذلك، أو يطرحها بالكلية. ومعتمده في هذا الذي هو عليه في هذا الشأن هو أن:"الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا دل على ذلك الاستقراء فكل فرد جاء مخالفا فليس بمعتبر شرعا إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر لكن على وجه كلي عام فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام لأن دليله قطعي ودليل الخاص ظني فلا يتعارضان"
(1)
.
فأصحاب الرأي - هذا - جردوا المعاني، فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات الألفاظ والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلى ما اعتمدته في فهم الشريعة.
ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج ثابت في الدلائل عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: وجدت في كتاب جدي أتيت مكة فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فأتيت أبا حنفية فقلت له ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا قال البيع باطل والشرط باطل وأتيت ابن أبي ليلي فقال البيع جائز والشرط باطل وأتيت ابن شبرمة فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت سبحان الله ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما فقال لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما فقال لا أدري ما قالا حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق) فأجاز البيع وأبطل الشرط، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما فقال ما
(1)
الموافقات 4/ 167 - 168.
2687 -
وَرُتْبَةُ الْجَامِعِ لِلْأَمْرَيْنِ
…
وَالْمُقْتَفِى شَرْعًا كِلَا الْحُكْمَيْنِ
2688 -
رُتْبَةُ مَنْ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةْ
…
وَهْيَ لِلاجْتِهَادِ أَقْصَى غَايَةْ
2689 -
إِذْ نَزَّلَ الْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةْ
…
عَلَى خُصُوصِيَّاتِهَا الْفَرْعِيَّةْ
2690 -
بِحَيْثُ لَا يَصُدُّهُ اسْتِبْصَارُ
…
فِي طَرَفٍ عَمَّا لَهُ اعْتِبَارُ
أدري ما قالاه حدثني مسعود بن حكيم عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فشرطت حملاني فأجاز البيع والشرط فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه ولم ير غيره من الجزئيات معارضا فأطرح الاعتماد عليه والله أعلم
(1)
.
"و" أما الرتبة الثالثة فهي "رتبة الجامع للأمرين و" هما العمل بالقواعد الكلية، والعمل بالأدلة الجزئية التفصيلية، فصار بذلك الرجل "المقتفى" أي المتبع "شرعا كلا الحكمين" حكم القواعد الكلية، وحكم الأدلة التفصيلية الجزئية، وهذه الرتبة هي "رتبة من قد بلغ" غاية "النهاية" في العلم الشرعي، "و" بذلك فـ "هي لـ" تحصيل "الاجتهاد" وإدراكه "أقصى غاية" له، فليس وراءها رتبة أخرى تطلب في هذا الشأن، فصاحبها قد اتصف فيه بما به تمام هذا الأمر - الاجتهاد - "إذ نزل المعاني الشرعية" العامة "على خصوصياتها الفرعية" المراعاة للشارع، فلا يعمل بالقاعدة الكلية في موضع ما وهو معرض على ما ورد فيه من الأدلة الجزئية التفصيلية، كما لايعمل بدليل تفصيلي في موضع ما إلا وهو مستحضر للقاعدة الكلية الجاري حكمها فيه فصار "بحيث لا يصده" ولا يمنعه "استبصار" واستضاءة "في طرف" يعني بطرف من الطرفين - القواعد العامة والأدلة التفصيلية - "عما له اعتبار" من الطرف الآخر، فهو لا يجرى على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر، ومع ذلك يلتفت إلى تنزل ما تلخص وتخلص له من ذلك على ما يليق من أفعال المكلفين.
وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها وحاصله أنه متمكن فيها حاكم لها غير مقهور فيها بخلاف ما قبلها فإن صاحبها محكوم عليه فيها ولذلك قد
(1)
الموافقات 4/ 167 - 168.
2691 -
وَذَا هُوَ الْعَالِمُ وَالرَّبَّانِي
…
وَالرَّاسِخُ الْمَحْمُودُ فِي الْقُرْآنِ
2692 -
وَهْوَ لَهُ عَلَامَتَانِ الأُولَى
…
جَوَابُ مَنْ يَسْأَلُهُ تَفْصِيلَا
2693 -
عَلَى الذِي يَلِيقُ بِالسُّؤَالِ
…
فِيمَا يَخُصُّهُمْ مِنَ الأَحْوَالِ
2694 -
وَكَوْنُهُ يَنْظُرُ فِي الْمَئَالِ
…
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجِيبَ فِي سُؤَالِ
تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها وإن كانت محكوما عليها تحت نظره وقهره فهو صاحب التمكين والرسوخ فهو الذي يستحق الانتصاب للاجتهاد والتعرض للاستنباط وكثيرا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه والله أعلم
(1)
.
"وذا" الذي على هذه الرتبة "هو" الذي يسمى "العالم، والرباني، والراسخ" في العلم "الممدوح في القرآن" الكريم، وهو - أيضا - الحكيم، والفقيه، والعاقل لأنه يربى بصغار المسائل قبل كبارها، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به وقد تحقق بالعلم، وصار له كالوصف المجبول عليه، وفهم عن الله مراده.
"و" هذا الصنف من العلماء "هو" صنف متميز "له علامتان" العلامة "الأولى" منهما هي: "جواب من يسأله تفصيلا" بحيث يجيبه "على" الوجه "الذي يليق بـ "حال صاحب "السؤال" بخصوصة، إذ ديدانه اعتبار من يفتيهم "فيما يخصهم من الأحوال" إذا كانت لهم أحوال تخصهم، بخلاف صاحب الرتبة الثانية فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص من الأحوال.
"و" العلامة الثانية هو "كونه ينظر في المئال" الذي إليه العمل بما يفتي به "من قبل أن يجيب في" يعني عن "سؤال" السائل، وصاحب الرتبة الثانية لا ينظر في ذلك، ولا يبالي بالمئال إذا ورد عليه أمر، أو نهى، أو غيرهما وكان مساقه كليا.
ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة في مسألة الاستحسان، ومسألة اعتبار المئال، وفي مذهب الإمام من ذلك كثير.
(1)
الموافقات 4/ 168.
"
المسألة الرابعة عشرة
"
2695 -
قَدْ مَرَّ فِي الْقَوَاعِدِ الْمَكِّيَّةْ
…
بِأَنَّهَا الأوَائِلُ الْكُلّيَّةْ
2696 -
وَأَنَّهَا أَتَتْ عَلَى الإِطْلَاقِ
…
بِمُقْتَضَى مَكَارِمِ الأخْلَاقِ
" المسألة الرابعة عشرة"
في أنه تقدم التنبيه في الكلام الماضي على الاجتهاد الخاص بالعلماء، والاجتهاد العام لجميع المكلفين، ولكن لا بد من إعادة شيء من ذلك على وجه يوضح النوعين ويبين جهة المأخذ في الطريقين. وبيان ذاك أنه "قد مر" في المسألة الثامنة في كتاب الأدلة "في" مجرى الحديث عن "القواعد" أي الأصول المشروعة بالسّور "المكية" أي النازلة بمكة وما في حكمها "بأنها الأوائل" أي القواعد والأصول المشروعة "الكلية" العامة الجميلة.
"وأنها" أي هذه الأصول والقواعد قد "أتت على" وجه "الإطلاق" فهي غير مقيدة بجزئيات معينة وإنما شرعت "بمقتضى" وموجب أصل محاسن العادات عند أرباب العقول و"مكارم الأخلاق" ومن التلبيس بكل ما هو معروف من ذلك والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة، وكذلك مثل حدود الصلوات وما أشبهها. فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات ومصروفا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ومؤاساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ومراعاة حقوق الجوار وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق والدفع بالتي هي أحسن وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ 169 - 170.
2697 -
وَالْمَدَنِيُّ شَأْنُهُ التَّكْمِيلُ
…
وَالشَّرْحُ وَالْبَيَانُ وَالتَّفْصِيلُ
2698 -
أَكْثُرُهُ آتٍ لِجزْءٍ ثَابِتٍ
…
وَمَعَ أَسْبَابٍ وَفِي حَالَاتِ
2699 -
فَوَقَعَ التَّحْدِيدُ لِلأحْكَامِ
…
عِنْدَ اتِّسَاعِ خُطَّةِ الإِسْلَامِ
2700 -
وَطَلَبِ الْعِبَادِ لِلْحُظُوظِ فِي
…
جُمْلَةِ مَا لَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ
" و" أما القرآن "المدني" النازل بالمدينة وما فيه حكمه فإن "شأنه" هو "التكميل" لمقتضى هذه الأصول المكية "والشرح والبيان" لما طلب بيانه وشرحه من ذلك "والتفصيل" بإيضاح لما هو مجمل منه. وبذلك كان الحكم المدلول عليه بالقرءان المدني في الغالب "أكثره آت" ووارد "لجزء ثابت" وواقعة معينة كالرخص الواردة في أمور محددة، وإنما حصل هذا التعقيد والتعيين في الأحكام "ومع" وجود "أسباب" حادثة اقتضت ذلك "وفي حالات" لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات. ومع هذا استمر العمل بمقتضى ذلك الإطلاق في الأخذ بالمشروعات الذي مضى تقرير حكمه أولا فلم يترك الصحابة والتابعون هذا الأمر وبذلك كانوا مثابرين على مجانبة المنكرات والفواحش على مراتبها في الفتح، وعلى التلبيس بالمحاسن، فكانوا آخذين فيها بأقصى مجهودهم وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم إلا أنه بعد ما فتحت البلدان وانتشر الإسلام في أصقاع الأرض طلب الضبط والتعيين للأحكام الشرعية على وجه تفصيلي تنهار به الحقوق والواجبات والممنوعات والمباحات بعضها عن بعض بدرجتها المختلفة بوجه تام "فوقع التحديد" والتعيين "لـ" هذه "الأحكام" بالتفصيل عملا بالأحكام الواردة في القرآن المدني المفصلة وبالاجتهاد في ما لا نص فيه "عند" وقوع هذا الأمر المذكور، وهو "اتساع خطة الإسلام" وإيالته - ما يجري حكم الإسلام عليه ويدار من أهله - "و" هذا الاتساع إنما كان عنه هذا التجديد لأنه نشأ عنه حصول "طلب العباد للحظوظ" النفسية الدنيوية "في جملة ما" كان "لهم من التصرف" والعمل المتجلي في وقوع مشاحات في المعاملات ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق، وكذلك عروض خصوصيات ضرورات تقتضي أحكاما خاصة، وبدو فلتات من بعضهم في مخالفة المشروعات، وارتكاب الممنوعات، مما احتاجوا عنده إلى الحدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات إذ كان أكثرها
2701 -
فَمُقْتَضَى التَّشْرِيعِ كُلِّيَاتُ
…
مُطْلَقَةُ الْحُكْمِ وَجُزْئِيَّاتُ
جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة فضلا عن غيرها كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها فريقه ومال إليها طبعه وهي في نفسها على غير ذلك وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم وطلبوا بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان تارة القرآن وتارة بالسبة فتفصلت تلك المجملات المكية وتبينت تلك المحتملات وقيدت تلك المطلقات وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا وأصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليكون ذلك تماما لتلك الكليات المقدمة وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلا من الله ونعمة. فالأصول الأولى باقية لم تتبدل ولم تنسخ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات.
وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين، وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات، فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة، وما أشبه ذلك، مع بقاء الكليات المكية على حالها، وذلك يؤتى بها في السور المدنيات تقريرا وتأكيدا، فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين، وتمت واسطتها بالطرفين، فقال الله تعالى عند ذلك:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
(1)
.
وهكذا "فمقتضى" وموجب "التشريع" الإسلامي مشروعات "كليات" عامة "مطلقة الحكم" جارية على ما تقتضيه مجاري العادات الحسنة من الفعل والترك عند أرباب العقول - كما تقدم بيانه - "و" كذلك من مقتضاه - أيضا - مشروعات "جزئيات" على
(1)
الموافقات 4/ 170 - 172.
2702 -
فَمَا لِكُلِّيَّاتِهِ قَدِ انْتَمَا
…
يُشَارِكُ الْجُمْهُورُ فِيهِ الْعُلَمَا
2703 -
وَمَا بِجُزْءٍ ثَابِتٍ قَدِ اسْتَقَرْ
…
يَخْتَصُّ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ بِالنَّظَرْ
الوجه الذي تقدم بيانه.
"فما" من تلك المشروعات "لكلياته" تلك "قد انتما" فاندرج تحتها فإنه "يشارك الجمهور فيه" يعنى في العلم به وإدراكه "العلماء" لأن مأخذه العقول الراجحة ومحاسن العادات.
"و" أما ما كان منه "بجزء ثابت" واحد "قد" جرى و"استقر" فإنه لا مجال للجمهور في شأن العلم به وإنما "يختص أهل العلم" الشرعي - الفقهاء - "فيه بالنظر" وبناء الحكم فيه على الوجه المبين في أصول الفقه.
ولذلك عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاح ربما إلى مقاربة الحد الفاصل فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة وتارة باللين فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء وإياه تحروا، وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلا وتركا فلم يفصلوا القول فيه لأنه غير محتاج إلى التفصيل بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه وقد تشتبه فيه أمور ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان إعراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين وبون ما بين المنزلتين وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول وأصحابه وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في
"
فصل
"
هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك فعاملوا ربهم في الجميع ولا يقدر على ذلك إلا الموفق الفذ وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها حتى صارت كالنسي المنسي وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة والسلام بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه.
"فصل"
كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم واحتياطهم فسبقوا غاية السبق حتى سموا السابقين بإطلاق ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم فكانت المتمات أسهل عليهم فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقدارهم وجعلهم في الدين أئمة فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105] فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت وعلى الأول جرى الصوفية الأول وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه، ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ولا هي مما يلزمهم شرعا فيظن الظان أنهم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
شددوا على أنفسهم وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ وتنزيل أعمالهم عليه تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبك فخمسة دراهم وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره بل وكل إلى اجتهاد المنفق ولا شك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب والاحتياط في مثل هذه المبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق فأخذ هذا المسؤول في خاصة نفسه بما أفتى به والتزمه مذهبا في تعبده وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة وإسقاطا لحظوظ نفسه وقياما على قيام العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السموات والأرض وأنه قال: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] وقال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] وقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] ونحو ذلك فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ومثله لا يقال في ملتزمه إنه خارج عن الطريقة ولا متكلف في التعبد لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات فصارت هي الواجبة انحتاما مقدرة ألا تتعدى إلى ما دونها وبقي ما سواها على حكم الخيرة فاتسع على المكلف مجال لإبقاء جوازا والإنفاق ندبا فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر والجميع محمودون لأنهم لم يتعدوا حدود الله فلما كان الأمر على هذا استفسر المسؤول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله، ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع بل يبقى بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبق شيئا علما بأن في المال حقا سوى الزكاة وهو لا يتعين تحقيقا وإنما فيه الاجتهاد فلا يزال ناظرا في ذلك مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه أو كالوكيل فيه لخلق الله سواء عليه أمد نفسه منه أم لا. وهذا كان غالب أحوال الصحابة ولم يكن إمساكهم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى إلا أن هذا الرأي أجري على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر فالصواب والله أعلم أن أهل هذا البلد معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ولكن على نسبة القسمة ونحوها فإن قيل فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء؟ فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام، بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه، فسقط له طلب الحظ لنفسه، فساغ أن يفتي على حسب حاله، لأنه يقول: هذه حالتي فاحملني على مقتضاها؟ فلا بد أن يحمله على ما تقضيه كما لو قال أحد للمفتي إني عاهدت الله على أن لا أمس فرجي بيميني أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئا، وأن لا تمس يدي يد مشرك وما أشبه هذا، فإنه عقد لله على فعل فضل وقد قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع. وفي الحديث (إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا) فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه وقال عثمان ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصة حمى الدبر ظاهرة في هذا المعنى إذ عاهد الله أن لا يمس مشركا فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك الحديث كما وقع. غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال. وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع فلا بد أن يفتيه بمقتضاه وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه ولا يقال إن هذا خلاف ما صرح به الشارع لأن الشارع قد صرح بالجميع لكن جعل إحدى الحالتين وهي المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ولم يلزمها أحدا لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة فإنها لازمة فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء
" فصل"
2704 -
أَرْبَابُ الأحْوَالِ لَهُمْ مَجَالُ
…
لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ بِهِ اسْتِقْلَالُ
2705 -
إِذْ أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَادَةْ
…
بِأَكْمَلِ الحَالَاتِ وَالْعِبَادَةْ
فيه. فإن قيل: فإذا كانت غير لازمة فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم؟ قيل: لم يفت بها مقتضى اللزوم الذي لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك وإنما يفتي بها وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله وأصل الإلزام معمول به شرعا أصله النظر والوفاء بالعهد في التبرعات. ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم كالمتعة في الطلاق، وحديث:(لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره). وكان عليه الصلاة والسلام يعامل أصحابه بتلك الطريقة ويميل بهم إليها كحديث الأشعريين إذا أرملوا وقوله: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له) الحديث بطوله وقوله: (من ذا الذي تألى على الله لا يفعل الخير) وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمه الشطر من دينه. وقد أنزل الله في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى أن لا ينفق على مسطح {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} [النور: 22] الآية وبذلك عمل عمر بن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه وقال: والله ليمرن به ولو على بطنك إلى كثير من هذا الباب. وأخص من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه فإنه يفتي بما تقتضيه مرتبته، كما يحكى عن أحمد بن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان فسألها من أنت فقالت أخت بشر الحافي فأجابها بترك الغزل بضوئها هذا معنى الحكاية دون لفظها وقد حكى مطرف عن مالك في هذا المعنى أنه قال كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يفتي به الناس يعني العوام ويقول لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم هذا كلامه. وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير والله أعلم
(1)
.
فصل:
في أن "أرباب الأحوال" من الصوفية "لهم مجال" انفردوا به في شأن العبادة فـ "ليس لغيرهم" من عامة الناس طاقة "به" و"استقلال" أي قدرة على حمله، وإنما كان أرباب الأحوال هؤلاء على هذا الحال "إذ أخذوا أنفسهم في" الأمور المنطوية تحت حكم "العادة بأكمل الحالات" وأعلاها شرعا "و" كذلك كان شأنهم في أمور "العبادة".
(1)
الموافقات 4/ 173 - 177.
2706 -
وَآثَرُوا الْقَوَاعِدَ الْمَكِّيَّةْ
…
لأنَّهَا الْعَزَائِمُ الأصْلِيَّةْ
2707 -
مَعْ كَوْنِهَا جَوَامِعَ التَّكْلِيفِ
…
غَيْرَ مَنَاطِ النَّسْخِ وَالتَّخْفِيفِ
فإنهم أخذوا فيها بأعلى الأحوال وأكملها "و" في ذلك السبيل "آثروا" أي اختاروا الأخذ بمقتضى "القواعد المكية" عامة المطلقة المقدم بيانها، وإنما اختاروها وآثروها على الأحكام التفصيلية المدنية "لأنها" أي القواعد المكية المذكورة "العزائم الأصلية"، و"مع" ذا أمر آخر وهو "كونها" أي القواعد المكية "جوامع التكليف" إذ كل ما نزل بالمدينة إنما هو بيان أو شرح، أو تفصيل لها - كما تقدم ذكره -، وكذلك كونها "غير مناط" أي متعلق ومحل "النسخ والتخفيف" إذ هذا محله الأحكام المدنية، كما سبق ذكره.
[ومن ها هنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورًا لا توجد عند العامة ولا هي مما يلزمهم شرعا فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ وتنزيل أعمالهم تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبك فخمسة دراهم وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره بل وكل إلى اجتهاد المنفق ولا شك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب والاحتياط في مثل هذه المبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق فأخذ هذا المسؤول في خاصة نفسه بما أفتى به والتزمه مذهبا في تعبده وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة وإسقاطا لحظوظ نفسه وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السموات والأرض وأنه قال: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] وقال {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] وقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22] ونحو ذلك فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ومثله لا يقال في
2708 -
حَسْبَمَا قَدْ كَانَ فِيهَا الشَّأْنُ
…
لِسَابِقِي الأُمَّةِ حَيْثُ كَانُوا
ملتزمه إنه خارج عن الطريقة ولا متكلف في التعبد لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات فصارت هي الواجبة انحتاما مقدرة ألا تتعدى إلى ما دونها وبقي ما سواها على حكم الخيرة فاتسع على المكلف مجال لإبقاء جوازا والإنفاق ندبا فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر والجميع محمودون لأنهم لم يتعدوا حدود الله فلما كان الأمر على هذا استفسر المسؤول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع بل يبقى بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبق شيئا علما بأن في المال حقا سوى الزكاة وهو يتعين تحقيقا وإنما فيه الاجتهاد فلا يزال ناظرا في ذلك مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه أو كالوكيل فيه لخلق الله سواء عليه أمد نفسه منه أم لا]
(1)
.
وشأن أرباب الأحوال هؤلاء في الأمور الشرعية ماض على "حسبما قد كان فيها الشأن".
والحال "لسابقي" هذه "الأمة" من الصحابة "حيث كانوا"، وأينما حلوا ونزلوا، فقد كانوا آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أدلهم إليه اجتهادهم، واحتياطهم، فسبقوا غاية السبق، حتى سموا السابقين بإطلاق ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم فكانت المتمات أسهل عليهم فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقدارهم وجعلهم في الدين أئمة فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة ولله يختص برحمته من يشاء
(2)
.
(1)
الموافقات 4/ 174 - 175.
(2)
الموافقات 4/ 173 - 174.
2709 -
وَمُقْتَضَى التَّحْدِيدِ وَالتَّقْدِيرِ
…
هُوَ الذِي يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ
2710 -
فَهْوَ مَجَالٌ لاجْتِهَادِ الْفُقَهَا
…
لِيَقِفُوا الْجُمْهُورَ عِنْدَ مُنْتَهَا
لكن يجب أن يعلم "و" يقرر أن "مقتضى" وحكم "التحديد" لما هو واجب ولما هو دونه ولما هو حرام ولما هو دونه والفصل بين ذلك كله، وما أشبهه، "والتقدير" أي بيان المقادير التي تتعلق بالأحكام بالتفاصيل سواء كانت أموالا أو حدودا، أو غيرها "هو" المنهج "الذي يليق بالجمهور" لأن ذلك هو الموافق لقدراتهم العادية، والجاري على وفق أخذهم لحظوظهم المباحة لهم شرعا مع إلزامهم بما لا بد منه من أمورهم الدينية، وبذلك "فـ" إن هذا المنهج "هو مجال" النظر الفقهي والفتيا، وهو الميدان المعلوم "لاجتهاد الفقها" وذلك "ليقفوا الجمهور عند منتهى" حظوظهم، وغاية ما لهم من الحقوق، وما لا بد أن يتحملوه من الواجبات.
وذلك الذي عليه أرباب الأحوال المذكورون في شأن الإنفاق لما يملكون، هو الذي عليه أغلب الصحابة - كما يقول الشاطبي - قال: ولم يكن إمساكهم - يعني لبعض المال - مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى إلا أن هذا الرأي أجرى على اعتبار سنة الله - تعالى - في العاديات والأول - وهو من لا يمسك شيئا من المال - (ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد. وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه، قد أثبت له حظه من التوسع في المساحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر فالصواب والله أعلم أن أهل هذا البلد معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ولكن على نسبة القسمة ونحوها فإن قيل فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه فسقط له طلب الحظ لنفسه فساغ أن يفتي على حسب حاله لأنه يقول هذه حالتي فاحملني على مقتضاها فلا بد أن يحمله على ما تقضيه كما لو قال أحد للمفتي إني عاهدت الله على أن لا أمس فرجي بيميني أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئا وأن لا تمس يدي يد مشرك وما أشبه هذا فإنه عقد لله على فعل فضل وقد قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله فهو مما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع وفي الحديث إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه وقال عثمان ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصة حمى الدبر ظاهرة في هذا المعنى إذ عاهد الله أن لا يمس مشركا فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك الحديث كما وقع غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع فلا بد أن يفتيه بمقتضاه وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه ولا يقال إن هذا خلاف ما صرح به الشارع لأن الشارع قد صرح بالجميع لكن جعل إحدى الحالتين وهي المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ولم يلزمها أحدا لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة فإنها لازمة فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه فإن قيل فإذا كانت غير لازمة فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم قيل لم يفت بها مقتضى اللزوم الذي لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك وإنما يفتي لها وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله وأصل الإلزام معمول به شرعا أصله النظر والوفاء بالعهد في التبرعات ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم كالمتعة في الطلاق وحديث لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره وكان عليه الصلاة والسلام يعامل أصحابه بتلك الطريقة ويميل بهم إليها كحديث الأشعريين إذا أرملوا وقوله من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له الحديث بطوله وقوله من ذا الذي تألى على الله لا يفعل الخير وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمة الشطر من دينه وقد أنزل الله في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى أن لا ينفق على مسطح {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} [النور: 22] الآية وبذلك عمل عمر بن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه وقال والله ليمرن به ولو على بطنك إلى كثير من هذا الباب وأخص من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه فإنه يفتي بما تقتضيه مرتبته كما يحكى عن أحمد بن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان فسألها من أنت فقالت أخت بشر الحافي فأجابها بترك الغزل بضوئها هذا معنى الحكاية دون لفظها وقد حكى مطرف عن
"
الطرف الثاني" فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُجْتَهِدِ مِن أَحْكَامِ فَتْوَاه، وفيه مسائل:
"
المسألة الأولى
"
2711 -
مُفْتِي الْوَرَى وَارِثُ ذِي النُّبُوَّةِ
…
وَقَائِمٌ مَقَامَهُ فِي الأُمَّةِ
2712 -
لِأَنَّهُ مُبَلِّغُ الأَحْكَامِ
…
نِيَابَةً عَنْهُ إِلَى الأَنَامِ
مالك في هذا المعنى أنه قال كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يفتي به الناس يعني العوام ويقول لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم هذا كلامه وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير والله أعلم
(1)
.
"الطرف الثاني" ومتضمنه محصور "في" بيان "ما يتعلق بالمجتهد من أحكام" ترد عليه من جهة "فتواه". ولأجل النظر في هذا الشأن "و" إيراد هذا البيان "فيه" تورده هنا "مسائل" يفضي العلم بها إلى درك هذا المرأم، والقصد، وهي أربع مسائل:
"المسألة الأولى"
في أن المفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم وبيان ذلك أن "مفتي الورى وارث ذي النبوة" صلى الله عليه وسلم "و" بذلك فإنه "قائم مقامه في الأمة" والدليل على ذلك أمور:
أحدها: كونه واسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته، "لأنه" أي المفتي "مبلغ الأحكام" الشرعة "نيابة عنه" أي عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إلى الأنام" أي الخلق، لقوله عليه الصلاة والسلام "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وقوله صلى الله عليه وسلم:"بلغوا عني ولو آية"، وقوله:"تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم".
وإذا كان ذلك فهو معنى كونه قائما مقام النبي عليه الصلاة والسلام.
(1)
الموافقات 4/ 175 - 176 - 177.
2713 -
وَشَارعٌ لِبَعْضِهَا بِالنَّظَرِ
…
فَهْوَ لِهَذَا بِاتِّبَاعِهِ حَرِي
2714 -
ثُمَّ إِذَا مَا صَحَّ بِالْبُرْهَانِ
…
فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَمْرٌ ثَانِ
ثانيها: النقل الشرعي في الحديث "أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، وفي الصحيح بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظافري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم وهو في معنى الميراث وبعث النبي صلى الله عليه وسلم نذيرا لقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} وقال في العلماء: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] الآية وأشباه ذلك"
(1)
.
"و" ثالثها أنه ناقل لبعض الأحكام و"شارع لبعضها" الآخر "بـ" حسب "النظر" والاجتهاد، وذلك لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول، فالأول يكون مبلغا، والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام - على حد تعبير الشاطبي وكلامه - وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع حقيقة، فإذا كان المجتهد للمجتهد إنشاء الأحكام - كما يقول الشاطبي - بحسب نظره واجهاد "فهو" بهذا الوجه و"لهذا" السبب حقيق "باتباعه" و"حري" بالموافقة، فيما يفتى به وهذا كونه قائما مقام صاحب الرسالة، وكونه خليفة عنه على التحقيق، بل إن القسم الذي هو فيه مبلغ - أيضا - لا بد من نظره فيه من جهة تحقيق مناطها، وتنزيلها على الأحكام وكلا الأمرين راجع إليه فيها، فقد قام الشارع - أيضا - في هذا المعنى، وقد جاء في الحديث:"أن من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه""وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله - تعالى - وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولي الأمر وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] والأدلة على هذا المعنى كثيرة"
(2)
.
"ثم إذا ما" تقرر و"صح بالبرهان" ثبوته "فـ" إنه "ينبني عليه أمر ثان" وهو ما يورد في المسألة الولية:
(1)
الموافقات 4/ 178.
(2)
الموافقات 4/ 179.
"
المسألة الثانية
"
2715 -
فَتْوَى الْمَقَالِ هُوَ الأَمْرُ الْجَارِي
…
وَقَدْ تُرَى بِالْفِعْلِ وَالإِقْرَارِ
2716 -
وَتَحْصُلُ الْفَتْوَى مِنَ الْفِعْلِ عَلَى
…
وَجْهَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ نُقِلَا
2717 -
الأَوَّلُ الْمَقْصُودُ لِلأَفْهَامِ فِي
…
مَعْهُودِ الاسْتِعْمَالِ لِلْمُكَلَّفِ
2718 -
كَمَا أَتَى فِي شَأْنِ عَدِّ الشَّهْرِ
…
وَذَاكَ كَالْقَوْلِ الصَّرِيحِ يَجْرِي
" المسألة الثانية"
المعقود في أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول، ومن جهة الفعل، ومن جهة الإقرار وبيان ذلك أن "فتوى المقال" يعني أن الإفتاء الحاصل بالقول "هو الأمر" المعتبر في الغالب وهو "الجاري" اعتماده بين الناس وهذا أمر لا كلام فيه، "و" لكن "قد ترى" أي توجد وتحصل كذلك على وجه القلة "بالفعل والإقرار" إذا صدرا من مقتدى به، متبع في هديه وسمته "وتحصل الفتوى من الفعل" وتؤخذ منه "على وجهين: كل" واحد "منهما قد نقلا" - الألف للإطلاق - وورد ثبوته بالأدلة. "الأول" منهما ما كان حاصلا على الوجه "المقصود للأفهام" للمراد "في"مجرى العادة وبيان ذلك له "معهود الاستعمال للمكلف" وبيان ذلك له، وذلك "كـ" مثل "ما أتى" عن الرسول صلى الله عليه وسلم "في شأن عد" أيام "الشهر" حين قال: "هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة، ثم قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا" ومنه أنه عليه الصلاة والسلام سأله سائل في حجته، فقال: ذبحت قبل أن أرمي، فأومأ بيده، قال لا حرج، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا "يقبض العلم ويكثر الجهل والفتن، ويكثر الهرج. قيل يا رسول الله وما الهرج" فقال بيده فحرفها، كأنه يريد القتل ومنه حديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء فقلت آية؟ فأشارت برأسها أي نعم وحين سئل عليه الصلاة والسلام عن أوقات الصلوات قال للسائل صل معنا هذين اليومين ثم صلى ثم قال له الوقت ما بين هذين أو كما قال وهو كثير جدا
(1)
. "وذلك" الذي كان من الأفعال على هذا الوجه "كالقول الصريح" في بيان المراد "يجري" وبذلك
(1)
الموافقات 4/ 184.
2719 -
ثَانِيهِمَا مَا يَقْتَضِيهِ الْمَنْصِبُ
…
مِنِ اتِّبَاعِ مَا إِلَيْهِ يَذْهَبُ
2720 -
وَفِي خُذُوا عَنِّي وَصَلُّوا أَصْلُهُ
…
إِذًا فَمَنْ يُفْتِي كَذَاكَ فِعْلُهُ
2721 -
فَمَا بِهِ الْقَصْدُ إِلَى الْبَيَانِ
…
فَظَاهِرٌ فِي كُلِّ شَأْنٍ شَانِ
2722 -
وَغَيْرُ مَا يُقْصَدُ فِيهِ ذَلِكَا
…
فَإِنَّهُ فِي حُكْمِهِ كَذَلِكَا
فهو قائم مقامه، ومنزل منزلته.
"ثانيهما ما يقتضيه" ويوجبه "المنصب" النبوي "من" وجوب أو طلب "اتباع ما إليه يذهب" عليه الصلاة والسلام من التصرفات، وما يأتيه من الأفعال غير الجبلية، وأصل هذا ودليله قوله الله - تعالى -:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزَاب: 37]، وقال قبل ذلك:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وقال في إبراهيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] إلى آخر القصة. والتأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله، وشرع من قبلنا شرع لنا - كما يقول الشاطبي -.
"و" كذلك "في" قوله عليه الصلاة والسلام: "خذوا عني" مناسككم "و" قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا" كما رأيتموني أصلي مأخذ حكم هذا الوجه و"أصله"، وكذلك الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام لأم سلمة "ألا أخبرتيه أني أقبل، وأنا صائم". واقتداء ابن عمر بأفعاله عليه الصلاة والسلام على العموم والإطلاق أشهر من أن يخفى، ولذلك جعل الأصولين أفعاله عليه الصلاة والسلام في بيان الأحكام كأقواله وإذا تقرر هذا كله وثبت أمره "إذا فمن يفتي" من أهل العلم يكون تصرفه مأخذا للأحكام "كذاك" ويكون "فعله" كذلك مبينا لها.
"فما" من أفعاله يكون "به القصد إلى" تحصيل "البيان" لحكم شرعي "فـ" إنه "ظاهر" كونه مفيدا لذلك الحكم ودالا عليه، وذلك يجري مقتضاه "في كل شان شأن" على وجه الإطلاق، سواء كان شأنا عباديا أو غيره.
"و" أما "غير ما يقصد فيه ذاكا" - الألف للإطلاق - البيان المذكور "فإنه" أيضا "في حكمه" مثل الأول - وهو ما يقصد به البيان - "كذلكا" - الألف للإطلاق -.
2723 -
لِلإِرْثِ أَوْ لِحِكْمَةِ التَّأَسِّي
…
بِفِعْلِ مَنْ لَهُ اعْتِبَارٌ حِسِّي
2724 -
إِذْ هُوَ سِرٌّ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ
…
لَا سيَمَا مَعْ عَادَةِ التَّكَرُّرِ
2725 -
وَحَيْثُ يُلْفَى فَقْدُ هَذَا الشَّأْنِ
…
فِي مَوْضِعٍ فَمِنْ تَأَسٍّ ثَانِ
2726 -
وَقَدْ بَدَا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ
…
ذَاكَ بِمَوْضِعَيْنِ بِالتَّفْصِيلِ
2727 -
عِنْدَ دُعَائِهِ إِلَى الإِسْلَامِ
…
مَعْ مُوثِرِي عِبَادَةِ الأَصْنَامِ
وإنما كان هذا مقتضيا لإفادة الحكم الفقهي - أيضا - "لـ" أمرين:
أحدهما: ما يثبت لأهل العلم من "الإرث" للنبي صلى الله عليه وسلم وقد كان المورث عليه الصلاة والسلام قدوة بقوله، وفعله مطلقا، فذلك الوارث، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة، فلا بد أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله، مقتدى بها.
ثانيهما: ما ثبت لسرد "أو لحكمة التأسي" والاقتداء "بفعل" وتصرف كل "من له" قدر معظم و"اعتبار حسي" أي مدرك بالحس، وهذا الضرب من التأسي والاقتداء جار أمره بين الناس.
"إذ هو سر" مثبوت مودع "في طباع البشر" وفطرهم، لا يقدرون على الإنكفاف عنه بوجه، ولا بحال "لا سيما" إذا حصل ذلك "مع عادة" الدوام عليه و"التكرر" له، وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسى به.
وعلى كل حال فالتأسي والاقتداء في هذا الشأن هو الأصل، "وحيث" يتخلف هذا الأمر، و"يلفى" أي يوجد "فقد هذا الشأن في موضع" ما مع توفر موجباته وشروطه "فـ " إن ذلك إنما يكون "من" يعنى بسبب وجود "تأس" واقتداء بمقتدى ومتأسى به "ثان" مقدم على الذي ترك. "وقد بدا" وظهر بلا غبش "في زمن الرسول" صلى الله عليه وسلم "ذاك" الأمر، "بموضعين" ولاح فيهما "بالتفصيل" والبيان التام:
أحدهما: "عند دعائه" عليه الصلاة والسلام الكفار "إلى الإسلام" وإلى ترك ما هم عليه من الضلال والغواية وعبادة الأصنام، "مع" استحضار صورة "موثري" ومختاري "عبادة الأصنام" منهم.
2728 -
تَأَسِّيًا فِي ذَاكَ بِالآبَاءِ
…
وَعِنْدَ هَذَا جِيءَ بِالدُّعَاءِ
2729 -
إِلَى التَّأسِّي بِالأَبِ الْكَبِيرِ
…
تَلَطُّفًا بِحِكْمَةِ الْخَبِيرِ
2730 -
فَكَانَ ذَاكَ سَبَبَ الإِذْعَانِ
…
وَالْكَفِّ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ
2731 -
وَعِنْدَ سَبْقِهِمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ
…
وَأَخْذِهِمْ بِأَكمَلِ الْحَالَاتِ
وذلك "تأسيا" منهم "في ذاك بالآباء" يعني بآبائهم قال - تعالى -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البَقَرَة: 170]، وما أشبهه من الآيات. وقالوا:"أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب" ثم كرر عليهم التحذير من ذلك، فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم إلى أن نوصبوا الحرب، وهم رضوان بذلك، "وعند هذا" الذي هم عليه من التأسي والاقتداء بآبائهم "جيء بالدعاء" لهم "إلى" الاقتداء و"التأسي بالأب الكبير" وهو إبراهيم خليل الرحمان عليه السلام، وأضيفت الملة المحمدية إليه، فقال - تعالى -:{مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البَقَرَة: 130] وكان ذلك رحمة من رب العالمين و"تلطفا بحكمة" العليم "الخبير" اللطيف بعباده، (وبين لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها، وتعمل بكثير منها فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي وهو من أبلغ ما دعو به من جهة التلطف بالرفق ومقتضى الحكمة وبذلك جاء في القرآن بعد قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان عليه الصلاة والسلام يدعو بها وأيضا فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق الفعل القول بالنسبة إليهم "فكان ذاك سبب" هدايتهم وحصول الخضوع منهم للحق و"الإذعان" له "والكف عن عبادة الأوثان" والأصنام التي يعبدونها من دون الله - تعالى - "و" الموضوع الثاني "عند" ما دخلوا في الإسلام، وعرفوا الحق فحصل "سبقهم" وتسابقهم "إلى الخيرات" الموعودة من رب العالمين سبحانه وتعالى كما حصل "وأخذهم" في الأعمال "بأكمل الحالات" وأعلى الدرجات)، فكان منهم الإنقياد التام لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه، فربما أمرهم بالأمر وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم، فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول وقضيته عليه الصلاة والسلام معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما
2732 -
وَمِثْلُ حُكْمِ الْفِعْلِ لِلإِقْرَارِ
…
لِأَنَّهُ كَفٌّ عَنِ الإِنْكَارِ
أمرهم حتى قال لأم سلمة أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون فقالت اذبح واحلق ففعل النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعوه ونهاهم عن الوصال فلم ينتهوا واحتجوا بأنه يواصل فقال إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا وقال لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا وكانوا يبحثون عن أفعاله كما يبحثون عن أقواله وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان لكن على وجه آخر والمعنى في الموضعين واحد ولعل قائلا يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما فكان عمله للاقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر فضلا عن الإيمان فأفعاله لا يوثق بها فلا تكون مقتدى بها فالجواب أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي فليعتبر مثله في نصب أقواله فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا لأنه ليس بمعصوم ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال لم يكن معتبرا في الأفعال ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة
(1)
.
"ومثل حكم الفعل" فيما ذكر يعطى "للإقرار" وذلك "لأنه" أي الإقرار "كف" للنفس "عن الإنكار"، والكف فعل على القول الصحيح، "وبذلك فانكفاف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب بالفتوى وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر
(1)
الموافقات 4/ 183 - 184.
"
المسألة الثالثة
"
2733 -
وَمُقْتَضَى الْعِلْمِ بِهِ الْفُتْيَا تَصِحْ
…
لَا مَعْ خِلَافِهِ لأَمْرٍ يَتَّضِحْ
2734 -
بِعَدَمِ الْوُثُوقِ أَنَّ مَا ظَهَرْ
…
مِنْهُ عَلَى مَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ صَدَرْ
بالمعروف والنهي عن المنكر والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه"
(1)
.
"المسألة الثالثة"
في بيان أن موافقة أحوال المفتي "و" عمله "مقتضى العلم" الشرعي، وينتفع بها، ومفاده هو ما "به تصح الفتيا" منه وتقبل، وينتفع بها، ويجرى أمرها في الخلق، و"لا" تصح منه ولا تقبل ولا ينتفع بها في الغالب "مع خلافه" له، وَأمر مقرر بالنظر والشرع مستند "لأمر يتضح" اقتضاءه هذا الحكم، وذاك الأمر هو ما ينتهي إعمال الذهن والنظر في هذا الشأن وما يصل إليه من الاعتقاد التابث "بعدم الوثوق" في "أن ما" جاء عن هذا المفتي من الأقوال والأفعال وما "ظهر منه" من ذلك قد جرى "على" وفق "ما يقتضيه "الشرع" من أحكام وعلى وفق ما "صدر" عنه أي عن الشارع من ذلك، فأما فتيا هذا المفتي بالقول فإذا جرت أقواله على غير المشروع فإنما يفتى به من جملة أقواله، وبذلك يمكن جريانه على غير المشروع فلا يوثق به (وأما أفعاله فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم لم يصح الاقتداء بها ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح وكذلك إقراره، لأنه من جملة أفعاله. وأيضا فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي. هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة. وأما على التفصيل فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني فإن كان صامتا عما لا يعنى ففتواه صادقة، وإن كان من الخائضين فيما لا يعنى فهي غير صادقة. وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه، وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة. وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت فتياه، وإلا فلا. وعلى هذا
(1)
الموافقات 4/ 183 - 184.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر. ومثلها النواهي: فإذا نهي عن النظر إلى الأجنبيات من النساء وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه، أو نهي عن الكذب وهو صادق اللسان، أو عن الزنى وهو لا يزني، أو عن التفحش وهو لا يتفحش، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم، وما أشبه ذلك فهو الصادق الفتيا والذي يقتدي بقوله ويقتدي بفعله، وإلا فلا، لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء، ولذلك قال تعالى:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال في ضده: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل، وفي الكذب مخالفته. وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119] وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهى فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة، فإن وافق صدق وإن خالف كذب. فالفتيا لا تصح مع المخالفة، وإنما تصح مع الموافقة وحسب الناظر من ذلك سيد البشر صلى الله عليه وسلم، حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاء والتمام، حتى أنكر على من قال: يحل الله لرسوله ما شاء. وحين سأله الرجل عن أمر فقال: (إني أفعله) فقال له: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر غضب صلى الله عليه وسلم وقال:(والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) وفي القرآن عن شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89] وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا. وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وعبادة غير الله إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله. وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة، بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ويأتونه - عياذا بالله من ذلك - لكان ذلك أولى منفر وأقرب صاد عن الاتباع. فمن كان في رتبة الوارثة لهم فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول ولما نهى عن الربا قال:(وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب) وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال: (وأول دم أضعه دمنا دم ربيعة بن الحارث) وقال حين شفع له في حد السرقة: (والذي نفسي بيده لو
2735 -
وَذَاكَ رَاجِعٌ لِلانْتِفَاعِ
…
بِالاقْتِدَاءِ وَبِالاتِّبَاعِ
سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها) وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته، وأن الناس في أحكام الله سواء. والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى. وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول، فقال: الله تعالى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 144] الآية وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3].
عن جعفر بن برقان قال: (سمعت ميمون بن مهران يقول: إن القاص المتكلم ينتظر المقت والمستمع ينتظر الرحمة) قلت: أرأيت قول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2] الآية هو الرجل يقرظ نفسه فيقول فعلت كذا وكذا من الخير؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كان فيه تقصير؟ فقال: كلاهما. فإن قيل: إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال العلماء إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة. فكذلك هنا، ومثله الانتصاب للفتوى. ومن الذي يوجد لا يزل ولا يضل ولا يخالف قوله فعله؟ ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة. نعم، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب. وأما أن يقال إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب هذا مشكل جدا. فالجواب أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر، لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي. فنحن نقول واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق، طابق قوله فعله أم لا، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل)
(1)
.
"و" بذلك فإن المراد - هنا - بعدم صحة فتواه "ذاك راجع لـ" سقوط وعدم "الانتفاع بالاقتداء" به" وبالاتباع" له لأن هذا الانتفاع إنما يكون لفتوى من وافق قوله، وفعله، وأما من كان على خلاف ذلك فإنه لا يبارك في قوله ولا في فعله، ولا ينتفع بما يصدر منه قال - تعالى -:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونس: 81].
(1)
الموافقات 4/ 184 - 185 - 186.
2736 -
وَالْحُكْمُ فِي الْوُقُوعِ أَمْرٌ ثَانِي
…
مُفْتَقِرٌ لِلشَّرْحِ وَالْبَيَانِ
2737 -
فَمَنْ يُخَالِفْ فِعْلُهُ مَقَالَهْ
…
فَحُطَّهُ عَنْ رُتْبَةِ الْعَدَالَهْ
2738 -
لِلْفِسْقِ لَمْ يَصِحَّ الاقْتِدَاءُ
…
بِهِ وَلَمْ يُقْبَلْ لَه إِفْتَاءُ
2739 -
وَغَيْرُ مَنْ يَبْلُغُ ذَاكَ الْمَبْلَغَا
…
اِفْتِاؤُهُ قَوْلًا وَفعْلًا سُوِّغَا
2740 -
فِي كُلِّ مَا جَاءَ عَلَى الْوِفَاقِ
…
لَا فِي الذِي خَالَفَ بِالإِطْلَاقِ
" و" أما "الحكم" الفقهي الجاري "في" شأن "الوقوع" يعني في شأن وقوع ذلك التنافي بين قول المفتي وفعله، فإن ذلك "أمر ثان" محتاج و"مفتقر للشرح والبيان" والتفصيل في الحكم الجاري في هذا الموضوع لعدم اتحاد حاله، وبذلك "فمن يخالف فعله مقاله" ويضاده "فحطه" وأنزله "عن رتبة العدالة" إذ ليس من أهله في ورد ولا صدر، ثم أنسبه "للفسق" وأجر حكمه، وبذلك "لم يصح" ولم يسغ "الاقتداء به، ولم يقبل له إفتاء" ولم يجز انتصابه لذلك - الإفتاء - شرعا، كما لا يصح عادة، ومن اقتدى به كان مخالفا مثله "و" أما "غير من يبلغ ذاك المبلغا" - الألف للإطلاق - الذي يتصف صاحبه بالفسق وبسقوط عدالته، وفتواه، فإنه يكون "إفتاؤه قولا وفعلا" مقبولا، واتباعه في ذلك قد "سوغا" وجاز، وذلك "في كل ما جاء" منه وهو "على الوفاق" بين قوله وفعله، "لا في الذي خالف" فيه قوله فعله، فإنه لا يقتدي. به فيه "بالإطلاق" فلا يقتدي بقوله، ولا بفعله في ذلك "فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات وهو في فعله على حسب فتواه حصل تصديق قوله بفعله. وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ويخالط من نهاك عن مخالطتهم فلم يصدق القول الفعل. هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله، لأنه وارث النبي. فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة، وكذب الفعل القول، لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال. فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق، وقد قال أبو الأسود الدؤلي:
إبدأ بنفسك فانهها عن غيها
…
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويقتدى
…
بالرأي منك وينفع التعليم
"
المسألة الرابعة
"
2741 -
وَبَالِغُ الذِّرْوَةِ فِي الإِفْتَاءِ
…
مَنْ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى السَّوَاءِ
2742 -
تَوَخِّيًا لِأَوْسَطِ الأُمُورِ
…
فِي كُلِّ مَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
وهو معنى موافق للنقل والعقل، لا خلاف فيه بين العقلاء. فإن قيل: فما حكم المستفتي مع هذا المفتي الذي لم يطابق قوله فعله؟ هل يصح تقليده في باب التكليف أم لا؟ بمعنى أنه يؤخذ بقوله ويعمل عليه أو لا؟ فالجواب أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم، فإن أخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح، لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي. هذا هو المطرد والغالب وما سواه كالمحفوظ النادر الذي لا يقوم منه أصل كلي بحال. وأما إن أخذت من جهة الإلزام الشرعي فالفقه فيها ظاهر: فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته فلا يصح إلزامه، إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه، وغير العدل لا يوثق به وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر، إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته، وجهته غير موثوق بها، فيسقط الإلزام عن المستفتي، وإذا سقط الإلزام عن المستفتي فهل يبقى إلزام المفتي متوجها أم لا؟ يجرى ذلك على خلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي: هل هو شرط في التكليف أم لا؟ وذلك مقرر في كتب الأصول. وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته فقبول قوله صحيح، والعمل عليه مبرئ للذمة والإلزام الشرعي متوجه عليهما معا
(1)
.
"المسألة الرابعة"
في بين "و" إيضاح أن "بالغ الذروة" والقمة "في" الاتصاف بشروط "الإفتاء" وفي تحصيل ما يتوقف عليه ذلك من علوم هو "من يحمل الناس" في إفتاءه "على السواء" والاعتدال، فيفتيهم وهو يتوقى طرفي السرف - الإفراط والتفريط - "توخيا" منه وقصدا "لـ" لعمل بما قامت عليه هذه الشريعة وهو الأخذ بـ "أوسط الأمور" والمعهود "في كل ما يليق بالجمهور".
(1)
الموافقات 4/ 187 - 188.
2743 -
مِنْ غَيْرِ شِدَّةٍ وَلَا انْحِلَالِ
…
إِذْ مَقْصِدُ الشَّرْعِ فِي الاعْتِدَالِ
2744 -
وَكَمْ لِهَذَا مِنْ دَلِيلٍ شَاهِدِ
…
وَمَرَّ مُقْتَضَاهُ فِي الْمَقَاصِدِ
ويصلح له "من غير شدة" تنفر من التكليف، وتفضي إلى الملل، ثم الترك، "ولا انحلال" من ربقة التكليف، ومن تحمل ما هو معتاد فيه، مما لا يقوم الدين إلا به. وإنما يحسن مسلك الاعتدال والأخذ بالأوسط في هذا الشأن "إذ مقصد" صاحب "الشرع" وسره "في" أحكامه إنما هو تحصيل "الاعتدال" في النفوس، ومجاري حياة الناس الظاهرة وحمل الناس على التوسط فيما يأتون وما يدرون أمور التكليف، لا فهم بذلك يمضون على استقامة في ظواهرهم، وبواطنهم.
"وكم لـ" ثبوت "هذا" القصد الشرعي وتحققه في الأمور الشرعية "من دليل" شرعي "شاهد" عليه، "و" قد "مر" إيراده وبيان "مقتضاه في "كتاب "المقاصد" من هذا الكتاب، ومن خرج عن ذلك في شأن المستفتين فإنه قد خرج عن قصد الشارع. ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين. (وأيضا فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين.
وقد رد صلى الله عليه وسلم التبتل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة:(أفتان أنت يا معاذ؟) وقال: (إن منكم منفرين) وقال: (سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا) وقال: (عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) وقال: (أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل) ورد عليهم الوصال وكثير من هذا.
وأيضا فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق: أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا، لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة.
وهو مشاهد وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة.
"
فصل
"
2745 -
وَقَدْ يَسُوغُ مَعَ ذَا لِلْمُجْتَهِدْ
…
فِي نَفْسِهِ الشِّدَّةُ فِيمَا يَعْتَمِدْ
2746 -
لَا كِنَّ مَعْ تَبْيِينِهِ وَأَمْنِهِ
…
أَنْ يُقْتَدَى فِيمَا اقْتَفَى بِشَأْنِهِ
" فصل"
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا. وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطا وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب. ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك. وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة. وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشريعة حمل على التوسط، لا على مطلق التخفيف، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى، ولا على مطلق التشديد. فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه
(1)
. ومع هذا فإنه "قد يسوغ" ويجوز "للمجتهد في "خاصة "نفسه" الأخذ بمسلك "الشدة" وأن يحمل نفسه ذلك في عبادته، بل "في" كل "ما يعتمد"ـه ويأتيه من الأعمال والتصريفات.
"لا كن" ذلك ليس على الإطلاق، بل هو سائغ فقط إذا كان "مع تبيينه" لما به التقوى، ولما اقتضاه الأخذ بالوسط اللائق بالجمهور في ذلك، "و" مع "أمنه" من "أن يقتدى" به "فيما اقتفى" لا في خاصة نفيه من الأخذ بالشدة، ومن أن يتبع "بشأنه" يعني في شأنه وما عليه من حال في هذا الأمر. (وذلك أنه لما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدي به فيهن فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع،
(1)
الموافقات 4/ 198 - 190.
2747 -
ثُمَّ لِمَنْ قَلَّدَ أَنْ يَعْتَبِرَا
…
حَالَ التَّوَسُّطِ الذِي قَدْ قُرّرَا
2748 -
فَيَتَحَرَّى جُهْدَ الاسْتِطَاعَهْ
…
مَذْهَبَ مَنْ تَخَيَّرَ اتّبَاعَهْ
وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل؛ إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا، وكان عليه الصلاة والسلام قدوة، فربما اتبع لظهور عمله فكان ينهى عنه في مواضع، كنهيه عن الوصال ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم. وقد قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين، وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل، وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. ولهذا والله أعلم أخفى السلف الصالح أعمالهم لئلا يتخذوا قدوة، مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه)
(1)
.
"فصل"
"ثم" بعد ثبوت من أن الصواب هو حمل الناس في الفتوى على التوسط، يتقرر أمر آخر مبينا على هذا وهو أنه يحق "لمن قلد" - أي للمقلد - غيره "أن يعتبرا" - الألف للإطلاف - ويختار "حال التوسط الذي قد قررا" أنه السبيل الأنهج في شأن الفتوى "فيتحرى" لذلك بقدر الطاقة و"جهد الاستطاعة" على وقف ذلك "مذهب من تخير" وانتقى "اتباعه" في فتواه، لأن من كان على هذا السبيل من المذاهب هو الذي يكون أجدر بالاتباع، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله - تعالى -، ولكن الترجيح فيها لابد منه (لأنه أبعد من اتباع الهوى - كما تقدم - وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد. فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا: إنه بدعة حدثت بعد المائتين. وقالوا في مذهب أصحاب الرأي لا يكاد المعرق في القياس إلا يفارق السنة. فإن كان رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع. والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله، والله أعلم)
(2)
.
انتهى الكلام على الطرف الثاني. وبالله - تعالى - التوفيق.
(1)
الموافقات 4/ 190.
(2)
الموافقات 4/ 191.
"
الطرف الثالث" فيما يتعلق بإعمال قول المجتهد المقتدى به وحكم الاقْتِدَاءِ به وفيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
2749 -
حَقُّ الْمُقَلِّدِ السُّؤَالُ لِلْعَمَلْ
…
فِي غَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ إِذَا نَزَلْ
2750 -
فَاللهُ لِلْعِبَادِ قَدْ تَعَبَّدَا
…
بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ كَمَا قَدْ وَرَدَا
2751 -
وَشَاهِدٌ لِلْعِلْمِ بِالتَّقْدِيمِ
…
تَرَتُّبُ التَّقْوَى عَلَى التَّعْلِيمِ
" الطرف الثالث"
"فيما يتعلق بإعمال قول" وإفتاء "المجتهد المقتدى به، وحكم الاقتداء به" واتباعه "وفيه" يعني وفي هذا الشأن وبيانه نورد "مسائل" وهي تسع:
"المسألة الأولى"
منها في أن المقلد يجب عليه أن يسأل عما لم يعلمه من أمور دينه.
وبيان ذلك أن "حق المقلد" وحظه في سبيل كسب العلم الشرعي هو "السؤال" لأهل العلم، وذلك "لـ" أجل "العمل" والتفقه، وهذا ماض أمره "في غير ما يعلمه" من الأمور الدينية "إذا نزل" به وعرض له طلب إدراك حكمه الشرعي.
"فالله" سبحانه وتعالى "للعباد قد تعبدا" - الألف للإطلاق - يعني أنه جعل لهم ما يعبدونه به مشروطا بأن يكون ثابتا "بمقتضى" وبموافقة "العلم" الشرعي "كما قد ورد" عن الشارع.
"و" الدليل الذي هو "شاهد لـ" كون "العلم" هو المتصف "بالتقديم" على العلم طبعا، وشرعا هو "ترتب التقوى على التعليم" الوارد في قوله - تعالى -:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البَقَرَة: 282] وهذا بناء على ما قرره الأئمة في صناعة النحو هنا، ومقتضاه أن الله يعلمكم على حال، فاتقوه، فكأن الثاني - أي التعليم - سبب في الأول - أي التقوى -، فترتيب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويا، وهو يقتضي تقدم العلم على العمل.
2752 -
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُسَلَّمَهْ
…
لَاكِنَّ هَذَا سِيقَ كَالْمُقَدِّمَهْ
"
المسألة الثانية
"
2753 -
سُؤَالُ مَنْ جَوابُهُ لَا يُعْتَبَرْ
…
فِي الشَّرْعِ لَا يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ النَّظَرْ
2754 -
لِأَنَّ مَنْ يَسْأَلُ مَنْ لَايَعْلَمُ
…
يَقُولُ عَلِّمْنِيَ مَا لَا تَعْلَمُ
2755 -
لَا كِنْ إِذَا تَعَيَّنَ السُّوَالُ
…
كَانَ لِمَنْ يَدْرِي لَهُ اسْتِقْلَالُ
2756 -
فَإِنْ يَكُنْ فِي نَظَرٍ قَدِ اتَّحَدْ
…
فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِي أَنْ يُعْتَمَدْ
" وهذه" القاعدة - وهو أن العلم متقدم على العمل - "قاعدة مسلمة" اقتضى واقع الحال ثبوتها، والأدلة على ذلك كثيرة "لا كن هذا" إنما "سيق" هنا "كالمقدمة" لما يأتي من الكلام في المسألة الموالية، وهي:
"المسألة الثانية"
وهي في أن السائل لا يصلح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه.
وبيان ذلك أن "سؤال من جوابه لا" يعتد به ولا "يعتبر في" ميزان "الشرع" وحكمه "لا يصح" ولا يقبل، لأنه إسناد أمر إلى غير أهله، والإجماع منعقد على عدم صحة مثل هذا، بل هذا لا يمكن "من حيث النظر" العقلي المحكوم بالعادة وذلك "لأن من يسأل من لا يعلم" كأنه "يقول" له "علمني ما لا تعلم" أو أخبرني عما لا تدري، وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء، ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء، إذ لو قال له: دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء لعد من زمرة المجانين. فالطريق الشرعي أولى بالاهتمام والاعتبار، لأن في خلفه هلاك أخرويا. غير أنه يقال بعد هذا:
"لا كن إذا تعين السؤال" حق وجوبه "كان" توجهه "لمن يدري" الجواب الصحيح عنه فهو الذي "له استقلال" بذلك التوجه والجواب والإنفراد بهما، هذا الذي يتوجه إليه السؤال لعلمه ودرايته لا يخلوا من أن يتحد في ذلك القطر الذي فيه أو يتعدد "فإن يكن" في قطره وبلده "قد اتحد" أي انفرد بالأهلية لذلك والصلاحية "فذاك" لا خفاء و"لا إشكال في أن" يقصد و"يعتمد" لأن يسأل.
2757 -
وَمَعْ تَعَدُّدٍ فَفِي الأُصُولِ
…
خُيِّرَ أَوْ صُدَّ عَنِ الْمَفْضُولِ
2758 -
هَذَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الأَقْوَالَا
…
فِي الْحُكْمِ قَبْلَ أَنْ أَرَى السُّؤَالَا
2759 -
وَبَعْدَ عِرْفَانٍ بِهَا التَّرْجِيحُ
…
حَتْمٌ وَقَدْ مَرَّ لِذَا التَّصْحِيحُ
"
المسألة الثالثة
"
2760 -
وَحَيْثُمَا التَّرْجِيحُ قَدْ تَعَيَّنَا
…
فَهْوَ عَلَى نَوْعَيْنِ قَدْ تَبَيَّنَا
" و" أما "مع" حصول "تعدد" لمن هم أهل للسؤال عن ذلك في قطر واحد "فـ" إنه قد تقرر "في" علم "الأصول" أن المستفتي في هذه الحالة قد "خير" أي له الخيار في أن يسأل من يشاء من هؤلاء أن كانت مرتبتهم العلمية وأهليتهم في الجواب عن ذلك واحدة، وإن تفاوتت أعرض "أو صدّ عن المفضول" وسأل الفاضل منهم "هذا إذا" كان هذا السائل "لم يعرف" آراء هؤلاء العلماء المذكورين ومالهم من "الأقوال في الحكم" الذي يسأل عنه من "قبل أن" أبدي و"أرى السؤال" وكشفه بإيراده.
"و" أما إذا كان ذلك "بعد" حصول "عرفان" منه "بها" فإن حكمه إذا أراد أن يأخذ بأحدهما هو "الترجيح" بينها بما يكون به الترجيح الفقهي بينها، وهذا أمر "حتم" وواجب لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبد الله، وتخييره يفتح له باب الهوى، فلا سبيل إليه البتة.
"وقد مر" التقدير "لذا" الذي ذكر هنا و"التصحيح" له، أي الحكم بأنه الصحيح شرعا، ونظرا.
"المسألة الثالثة"
في أن الترجيح إذا تعين يحصل بطريقين:
عام، وخاص.
"و" بيان ذلك أنه "حيثما" يكون "الترجيح قد تعينا" - الألف للإطلاق - ووجب "فهو" أي الترجيح يكون "على نوعين" فيسلك في كل واحد منهما الطريق المقرر سلوكه فيه، وكلا النوعين "قد تبينا" وظهرا على وضوح تام.
2761 -
نَوْعٌ يَعُمُّ وَهْوَ فِي الأُصُولِ
…
مُقَرَّرُ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ
2762 -
لَاكِنْ هُنَا مَعْنىً حَفِيٌّ يَبْرُزُ
…
وَيَنْبَغِي فِي شَأْنِهِ التَّحَرُّزُ
2763 -
وَهْوَ خُرُوجُ مُعْمِلِي التَّرْجِيحِ
…
فِيهِ إِلَى التَّنْقِيصِ وَالتَّقْبِيحِ
2764 -
وَذَاكَ غَيْرُ السَّنَنِ الْمَأْثُورِ
…
وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى أُمُورِ
2765 -
مِنَ التَّغَالِي وَمِنَ التَّنَازُعِ
…
أَوِ التَّعَصُّبِ أَوِ التَّقَاطُعِ
أحدهما: الـ "نوع" الموصوف بأنه "يعم" وهو الجاري العمل به بين الأدلة المتعارضة ظهورها، وهو عام باعتبار أنه لا يختص بشأن أقوال المفتين وأحوالهم بل عام لها وللأدلة الشرعية وأحوالها، "و" هذا النوع "هو" الذي "في" علم "الأصول" مبين و"مقرر" مضمونه من المسائل والمباحث والآراء الموردة - في شأنها، كل ذلك مأتي به فيه على وجه "الجملة و" على وجه "التفصيل" والبسط في المقال، ولا حاجة إلى اجترار ذلك وتكريره. "لا كن" يوجد "هنا" في هذا الموضع "معنى حفي" به أي مهتم ومعتنى به "يبرز" ويظهر في تضاعيف وثنايا كلام بعض المرجحين، "وينبغي" بل يجب "في شأنه التحرز" والتوقي، "و" ذلك المعنى "هو خروج معملي الترجيح" هؤلاء في مجرى ترجيحهم بين أقوال العلماء وأدلتها مقالهم "فيه" من إيراد الترجيح بالوجوه الخالصة "إلى" الترجيح ببعض الطعن علي المذاهب المرجوحة عندهم، أو على أهلها القائلين بها، و"التنقيص" لها أو لهم، "والتقبيح" لهم مع أنهم يثبتون مذاهبهم، ويعتدون بها، ويراعونها، ويفتون بصحة الاستناد إليها في الفتوى.
"وذاك" الطعن وما جرى مجراه مما ذكر غير لائق بمناصب المرجحين، كما أنه سبيل وسنن "غير السنن المأثور" المنقول عن السلف الصالح، "وربما" أوصل و"أدى إلى أمور" بغيضة "من" نحو "التغالي" - بالغين المعجمة - وهو تبادل الغلو بين المختلفين، وذلك أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى ما ذكر من التغالي، وإلى الإنحراف في المذاهب، وذلك بسبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة قال الغزالي في بعض كتبه: [أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والإزدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العلماء المتلطفين محوها، مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون، فضلا عن قلب عاقل، هذا ما قال، وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية]
(1)
.
"و" كذلك ما يؤدي إليه ذلك "من التنازع" بين المختلفين، وذلك أن هذا الضرب من الترجيح مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضا فبينما نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح؛ فإن النفوس مجبولة على لانتصار لأنفسها ومذاهبها وسائر ما يتعلق بها، فمن غض من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه، فإنه تسبب في ذلك، كما في الحديث:(إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه) قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال (يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) فهذا من ذلك. وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع؛ كقوله: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] الآية وأشباه ذلك
(2)
.
وأيضا ما يؤدي إليه ذلك من ترك الإنصاف "أو التعصب" فالطعن في مساق الترجيح بين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه؛ لأن الذي غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ويظهر محاسنه فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام وإن كان مرجوحا؛ فإن الترجيح لم يحصل
(3)
.
وكذلك ما يورثه هذا من التدابر "أو التقاطع" بين أرباب المذهب، وربما نشأ الصغير منهم على ذلك، حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم، فيتفرقوا شيعا وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]
(1)
و
(2)
الموافقات 4/ 194 - 195.
(3)
الموافقات 4/ 193 - 194.
2766 -
وَإِنَّمَا التَّرْجِيحُ بِالْفَضَائِلِ
…
وَبِالْمَزِيَّاتِ مِنَ الدَّلَائِلِ
2767 -
وَأَصْلُهُ السُّنَّةُ وَالْكِتَابُ
…
فَمِنْهُمَا لِحُكْمِهِ اقْتِضَابُ
الآية وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وقد مر تقرير هذا المعنى قبل، فكل ما أدى إلى هذا ممنوع فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع، ونقل الطبري عن عمر بن الخطاب وإن لم يصحح سنده أنه لما أرسل الحطيئة من الحبس في هجاء الزبرقان بن بدر قال: له إياك والشعر قال: لا أقدر يا أمير المؤمنين على تركه؛ مأكلة عيالي، ونملة على لساني قال: فشبب بأهلك، وإياك وكل مدحة مجحفة قال: وما هي، قال: تقول بنو فلان خير من بني فلان إمدح ولا تفضل. قال أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني. فإن صبح هذا الخبر وإلا فمعناه صحيح، فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفا والعوائد شاهدة بذلك
(1)
.
وبهذا يعلم أن هذا المسلك ممنوع محظور شرعا، فالترجيح لا يكون على الإطلاق بالطعن في أهل العلم والتنقيص والتجريح لهم "وإنما الترجيح بالفضائل" الموجبة للرجحان "وبالمزيات" القاضية بذلك "من" نحو "الدلائل" والحجج الشرعية، والقرائن الحالية والمقالية ومقتضيات العوائد، والعقول، وذلك بعد ثبوت الوصف المشترك بين ما يجري فيه ذلك الترجيح.
وما سوى هذا من الطعن والتنقيص فإنه إبطال لأحد الطرفين الجاري الترجيح بينهما، وإهمال لجانبه رأسا. ومثل هذا لا يسمى ترجيحا. وإذا كان كذلك فالخروج في بعض الذاهب على بعض على القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين خروج إلى نمط آخر مخالف له. وهذا ليس من شأن العلماء. وإنما الذي يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه، وليس من أهله. والأئمة الذكورون برآء من ذلك النمط، لا يليق بهم.
ومدرك هذا الذي تقرر - هنا - "وأصله السنة والكتاب فمنهما" الأخذ "لحكمه" هذا - وهو منع ما ذكر من الطعن والتنقيص والتجريح لأهل العلم - ومنهما "اقتضاب" يعني أخذ هذا الحكم واستخراج. فقد جاء في حديث الذي لطم وجه اليهودي القائل:
(1)
الموافقات 4/ 194 - 195.
"
فصل
"
" والذي اصطفى موسى على البشر" أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب، وقال: ["لا تفضلوا بين الأنبياء" أو "لا تفضلوني على موسى" مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالتفضيل أيضا: فذكر المازري في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم. قال: وقد خرج الحديث على سبب، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي، فقد يكون عليه الصلاة والسلام خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص موسى، فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق قال عياض: وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته؛ لكن نهاه عن الخوض فيه والمجادلة به؛ إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى ذكر ما لا يحب منهم عند الجدال، أو ما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك. هذا ما قال وهو حق فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء فإنهم ورثة الأنبياء.
"فصل"
وأما إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة فلا حرج فيه، بل هو مما لا بد منه في هذه المواطن، أعني عند الحاجة إليه وأصله من الكتاب قول الله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] الآية، فبين أصل التفضيل، ثم ذكر بعض الخواص والمزايا المخصوص بها بعض الرسل وقال تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] وفي الحديث من هذا كثير (لما سئل من أكرم الناس؟ فقال: أتقاهم فقالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) وقال عليه الصلاة والسلام: (بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحد أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إليه بلى عبدنا خضر) وفي رواية: (أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ قال أنا. فعتب الله عليه إذا لم يرد العلم إليه. قال له: بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك) الحديث واستب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم والذي اصطفى محمدا على العالمين في قسم يقسم به فقال اليهودي:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والذي اصطفى موسى على العالمين، إلى أن قال عليه الصلاة والسلام:(لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بجانب العرش. فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق أو كان ممن استثنى الله) وفي رواية (لا تفضلوا بين الأنبياء فإنه ينفخ في الصور) الحديث، فهذا نفي للتفضيل مستند إلى دليل وهو دليل على صحة التفضيل في الجملة إذا كان ثم مرجح، وقال:(كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران. وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) وقال للذي قال له يا خير البرية (ذاك إبراهيم) وقال في الحديث الآخر (أنا سيد ولد آدم) وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق. وليس النظر هنا في وجه التعارض بين الحديثين وإنما النظر في صحة التفضيل ومساغ الترجيح على الجملة، وهو ثابت من الحديثين. وقال:(خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) وقال عمر: كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة وهم عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم) ففعلوا ذلك. وقال: (خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الله الأشهل ثم بنو الحرث بن الخزرج ثم بنو ساعدة وفي كل دور الأنصار خير) وقال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وقال عبد الرحمن بن يزيد: سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدى من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه فقال: ما أعرف أحد أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد. ولما حضر معاذا الوفاة قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا قال: أجلسوني قال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، يقول ذلك ثلاث مرات، والتمسوا العلم عند أربعة رهط. عند عويمر أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام الحديث وقال عليه الصلاة والسلام:(اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح، وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم
2768 -
وَنَوْعُهُ الثَّانِي الذِي يَخُصُّ
…
يُذْكَرُ فِي بَابٍ بِهِ يَخْتَصُّ
"
المسألة الرابعة
"
2769 -
مَنْ حَصَلَتْ فِيهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ
…
شُرُوطُ الانْتِصَابِ لِلإِفْتَاءِ
والحكم المنبرم الذي لا يتعدى إلى سواه وكذلك فعل السلف الصالح.
وربما انتهت الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم وعمروا بذلك دواوينهم وسودوا به قراطيسهم، حتى صار هذا النوع ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة، وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه، بل تطرق الأمر إلى السلف الصالح من الصحابة فمن دونهم، فرأيت بعض التآليف المؤلفة في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله مرجوحا وتنزيه الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده، بل أتى الوادي فطم على القرى، فصار هذا النحو مستعملا فيما بين الأنبياء، وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال فنظموا فيه ونثروا وأخذوا في ترفيع محمد عليه الصلاة والسلام وتعظيم شأنه، بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء، ولكن مستندين إلى منقولات أخذوها على غير وجهها، وهو خروج عن الحق. وقد علمت السبب في قوله عليه الصلاة والسلام:(لا تفضلوا بين الأنبياء) وما قال الناس فيه. فإياك والدخول في هذه المضايق، ففيها الخروج عن الصراط المستقيم]
(1)
.
هذا هو شأن هذا النوع من الترجيح وبيانه من جهة ما يجب أن يتقى فيه.
"و" أما "نوعه الثاني" وهو "الذي يخص" بشأن الترجيح بين أقوال المفتين فإنه يورد بعد هذا و"يذكر في باب" يعني مسألة. وموضع "به يختص" فيورد فيه بيانه ومجراه، وذلك في المسألة الموالية:
"المسألة الرابعة"
وهي معقودة في الكلام على الترجيح الخاص ومتضمن المقال في بيانه وشأنه أن "من حصلت فيه على استيفاء" وتمام "شروط" الصلاح و"الانتصاب للإفتاء" في الأمور
(1)
الموافقات 4/ 195 - 196 - 197 - 198 - 199.
2770 -
قِسْمَانِ قِسْمٌ هُوَ فِي مَقَالِهْ
…
وَفِعْلِهِ وَفِي جَمِيعِ حَالِهْ
2771 -
جَارٍ عَلَى مَا تَقْتَضِي فُتْيَاهُ
…
فَذَاكَ لَا يَعْدِلُهُ سِوَاهُ
2772 -
وَمُقْتَضَى الإِفْتِاءِ مِنْهُ أَنْفَعُ
…
إِذْ مَا يَقُولُ فِي الْقُلُوبِ أَوْقَعُ
2773 -
وَالثَّانِ مَا لَيْسَ كَذَاكَ حَالُهُ
…
بَلْ خَالَفَتْ أَقْوَالَهُ أَفْعَالُهُ
الشرعية للناس "قسمان":
أحدهما: "قسم هو في مقاله وفعله وفي جميع حاله".
وأوصافه "جار على ما يقتصي"ـه "فتياه" لا تنافي في ذلك ولا تخالف، ومن كان هكذا "فذاك لا يعدله" أو يساويه "سواه" ممن هو دونه في ذلك، "و" إنما كان كذلك لأمرين:
أحدهما: ما تقرر من أن من كان هكذا يكون "مقتضى الإفتاء" الذي يصدر "منه" ويأتي "أنفع" لمن يفتيهم "إذ ما يقول" وما به يعظ أو يفتي يكون "في القلوب أوقع" وأولى بالقبول، لأنه الذي ظهرت ينابيع العلم عليه، واستنارت كليته به، وصار كلا منه خارجا من صميم القلب - والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب - ومن كان بهذه الصفة فهو من الذي قال الله - تعالى - فيهم:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِر: 28]، بخلاف ما لم يكن كذلك، فإنه وغن كان عدلا وصادقا وفاضلا لم يبلغ كلامه من القلوب هذه البالغ، حسبما حققته التجربة العادية.
والثاني من الأمرين: أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول، كما تقدم بيانه، فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب، وانقادت له بالطواعية النفوس.
"و" أما "الثان" من القسمين فهو "ما ليس كذاك" الذي ذكر وصفه و"حاله" في هذا الشأن "بل" هو على خلافه في ذلك إذ "خالفت أقواله" في الوعظ والإفتاء "أفعاله" وإن كان لم يزل إلى درجة سقوط عدالته، وإن كان فضله وعلمه معلوما، فهذا دون الذي قبله لأن التفاوت الحاصل في هذه المراتب في هذا الشأن الظاهر فيه أنه مفيدة زيادة، وذلك أن من زهد الناس في الفضول التي لا تقدح في العدالة، وهو زاهد فيها وتارك لطلبها، فتزهيده أنفع من تزهيده من زهد فيها، وليس بتارك لها، فإن ذلك مخالفة، وإن كانت جائزة، وفي مخالفة القول الفعل - هنا - ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله
2774 -
وَفِي اخْتِلَافِ حَالَةِ الْمُفْتِينَ فِي
…
تَطَابُقِ الْمَقَالِ وَالتَّصَرُّفِ
2775 -
يَرْجِعُ لِلْمُقَلِّدِ اتِّبَاعُ مَنْ
…
فِي غَالِبٍ إِلَى تَطَابُقٍ رَكَنْ
2776 -
وَرَاجِحٌ تَطَابُقُ النَّوَاهِي
…
فِي بَابِنَا هَذَا بِلَا اشْتِبَاهِ
2777 -
لِأنَّهُ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ
…
وَالاجْتِنَابُ آكَدُ الْحَالَاتِ
2778 -
بِكَوْنِ الأَوْلَى الدَّرْءَ لِلْمَفَاسِدِ
…
وَكَوْنِهِ يُلْفَى بِفِعْلٍ وَاحِدٍ
فعله. "و" عليه فإنه "في" حاله "اختلاف حالة المفتين في" شأن "تطابق" وتوافق ما يصدر منهم من "المقال" الوعظي أو الإفتائي "و" من"التصرف" والأفعال "يرجح للمقلد" المستفتي استفتاء و"اتباع من" هو "في غالب" أحواله قد مال "إلى" تحصيل الـ"تطابق" التوافق بين أقواله وأفعاله، و"ركن" إلى ذلك، والمطابقة وعدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأمور، والنواهي "وراجح" ومقدم الـ "تطابق" الحاصل في "النواهي" عن التطابق الحاصل في الأمور وذلك "في بابنا" وموضوعنا "هذا بلا" خفاء في ذلك ولا "اشتباه" أي التباس، فإذا وجد مجتهدان: أحدهما مثابر ومداوم على أن لا يرتكب منهيا عنه لكنه في الأوامر ليس كذلك، والأخر مثابر على أن لا يخالف مأمورا به لكنه في النواهي غير ذلك.
فالأول الأرجح في الاتباع من الثاني "لأنه" أي ما ذكر من الأوامر والنواهي فيما عدا شروط العدالة المطابقة له إنما هو "من المكملات" ومحاسن العادات "والاجتناب" لما نهى عنه هو "آكد" وأقوى "الحالات" في القصد الشرعي، وذلك "بـ " سبب أمور: أحدها: "كون الأولى" والأخرى هو "الدرء للمفاسد" فإنه مقدم على جلب المصالح. وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم.
"و" ثانيها: "كونه" أي الاجتناب المذكور "يلفى" أي يوجد، ويحصل "بفعل واحد" وهو الكف، فللإنسان عليها قدرة جملة من غير مشقة - على ما ذكره الشاطبي، وهو غير واضح -. وأما الأوامر فلا قدرة للبشر على فعل جميعها، وإنما تتوارد على المكلف البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح، فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق بخلاف بعض النواهي، فإنه مخالفة في الجملة، فترك النواهي أبلغ في تحقيق الموافقة.
2779 -
وَللذِي مِنَ الْحَدِيثِ يَشْهَدُ
…
بِأَنَّهُ فِي الاعْتِبَارِ أَوْكَدُ
"
المسألة الخامسة
"
2780 -
الْمُقْتَدَى بِفِعْلِهِمْ قِسْمَانِ
…
ذُو عِصْمَةٍ وَالْعَكْسُ مِنْهُ ثَانِ
2781 -
فَالْأَوَّلُ الثَّابِتُ بِالدَّلِيلِ
…
فِي حَقِّهِ الْعِصْمَةُ كَالرَّسُولِ
2782 -
وَأَهْلِ الإِجْمَاعَاتِ فِي الْمَسَالِكِ .... وَفِعْلِ أَهْلِ طَيْبَةٍ لِمَالِكِ
" و" ثالثها: "لـ" كونه - أي الاجتناب - هو "الذي" ورد "من الحديث" ما "يشهد" له "بأنه في الاعتبار" الشرعي "أوكد" وأهم من الامتثال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فجعل ترك المناهي آكد في الاعتبار من امتثال الأوامر، حيث حتم الترك في المناهي من غير مثنوية، ولم يحتم امتثال الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة ترك المناهي على امتثال الأوامر.
"المسألة الخامسة"
في أن الإقتداء بالأفعال الصادرة من المقتدى بهم لا يقع على وجه واحد بل على وجهين.
بيان ذلك أن "المقتدى بفعلهم قسمان" وهما:
المقتدى به وهو "ذو عصمة" من الزلل والإنحراف عن الجادة والمعاصي. وهذا هو القسم الأول، والمخالف لهذا في أمر العصمة ومن هو على "والعكس منه"، وهو المقتدى به المجرد من العصمة المذكورة وهذا هو "ثان" القسمين، "فـ" أما "الأول" فإنه "الثابت بالدليل" الشرعي "في حقه العصمة" المذكورة "كالرسول " صلى الله عليه وسلم "وأهل الإجماعات" - بناء على أن إجماع الأمة معصوم - "في المسالك" والطرق المتبعة في الأعمال، "و" كذلك "فعل" من يعلم بالعادة أو بالشرع أنهم لا يتواطؤن على الخطأ مثل "أهل طيبة لـ" يعني عند "مالك" بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله.
2783 -
فَذَا إِذَا مَا الْمُقْتَدِي فِيهِ قَصَدْ
…
إِيَقَاعَهُ الْفِعْلَ الذِي قَدِ اعْتَمَدْ
2784 -
كَمِثْلِ مَا أَوْقَعَ ذَاكَ الْمُقْتَدَا
…
بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ بَدَا
2785 -
فَالاقْتِدَاءُ صَحَّ بِالدَّلِيلِ
…
حَسْبَمَا قُرِّرَ فِي الأُصُولِ
2786 -
مَعْ فَهْمِ مَغْزَاهُ وَإِنْ لَمْ يُفْهَمِ
…
لَا فَرْقَ بَيْنَ وَاضِحٍ وَمُبْهَمِ
2787 -
مِثْلَ اقْتِدَا الصَّحَابَةِ التُّقَاةِ
…
فِي الْخَلْعِ للنَّعْلَيْنِ فِي الصَّلَاةِ
2788 -
فَإِنْ يَكُنْ نَوَاهُ فِيمَا فَعَلَا
…
مَعْ كَوْبهِ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلَا
2789 -
بِرَدِّهِ لِأحْسَنِ الْمَحَامِلِ
…
يَبْنِى عَلَيْهِ الْحُكْمَ فِي الْمَسَائِلِ
" فـ" هـ "ذا" القسم "إذا" كان "ما المقتدي" - بصيغة اسم الفاعل - قد اقتدى به، وقد نوى "فيه" أي في اقتداءه هذا و"قصد" منه "إيقاعه الفعل الذي قد" أتاه و"اعتمد"ـه إيقاعا "كمثل ما" أي كمثل الإيقاع الذي "أوقع ذاك" الفعل عليه "المقتدى" - بصيغة المفعول - "بفعله من غير" أمر "زائد" عليه "بدا" - والجملة في محل جر نعت لزائد -.
"فـ" إن هذا "الاقتداء" اقتداء قد "صح بالدليل" الشرعي "حسبما قرر في" علم "الأصول" في مبحث الاقتداء بالأفعال النبوية، وهذا الاقتداء صحيح ومعتبر إذا حصل "مع فهم" المقتدي "مغزاه" وما فعل من أجله وقصد منه، والموجب له، بل "وإن لم يفهم" ذلك إذ "لا فرق" هنا "بين" ما هو "واضح" حاله ومغزاه من هذه الأفعال "و" ما هو "مبهم" منها حالا، ومغزى. وهذا الضرب من اقتداء هو "مثل اقتداء" الصحابة التقاة" رضوان الله - تعالى - عليهم، بالنبي صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة "في الخلع للنعلين في الصلاة" ونزع الخاتم الذهبي، والإفطار في السفر، والإحلال من العمرة عام الحديبية، وما أشبه ذلك.
"فإن يكن" المقتدي قد قصد التعبد، و"نواه فيما فعلا" - الألف للإطلاق - أي فعله من ذلك "مع كونه" أي هذا الفعل ليس متمحضا للعبادة، بل هو "في نفسه" وحقيقة أمره قد ورد "محتملا" - بصيغة اسم الفاعل - لأن يكون أمرا تعبديا، وأن يكون أمرا جبليا، أو دنيويا، وذلك "برده لأحسن المحامل" وهو المحمل التعبدي وحمله عليه ثم "يبنى عليه الحكم" المرتب عليه "في المسائل" ويفرع عليه المسائل التي يصلح أن يفرع عليه باعتباره أصلا.
2790 -
فَذَاكَ فِي الشَّرْعِ بِحَيْثُ مَا بَدَا
…
لَيْسَ بِمُعْتَدٍّ بِهِ فِي الاقْتِدَا
" فذاك" الحمل مردود، وذلك القصد ملغى حكمه "في الشرع" الحكيم "بحيث مما بدا" أي في موضع ظهر ووجد إذ "ليس بـ" دليل "معتد به في" شأن إثبات "الاقتداء" به، وذلك لأمور:
أحدهما: أن تحسين الظن لا يقتضي الإلغاء لاحتمال قصد المقتدي به دون ما نواه المقتدي، وإسقاطه من غير دليل فالاحتمال الذي عينه المقتدي لا يتعين، وإذا لم يتعين لم يترجح إلا بالتشهي وذلك مهمل في الأمور الشرعية إذ لا ترجيح إلا بمرجح. ولا يقال: إن تحسين الظن مطلوب على العموم، فأولى أن يكون مطلوبا بالنسبة إلى من ثبتت عصمته لأنا نقول تحسين الظن بالمسلم - وإن ظهرت مخايل احتمال إساءة الظن فيه - مطلوب بلا شك، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] الآية وقوله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} الآية بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم - كما أمر باعتقاد ما لا يعلم - في قوله: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12] وقوله: {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] إلى غير ذلك مما في هذا المعنى ومع ذلك فلم يبن عليه حكم شرعي، ولا اعتبر في عدالة شاهد ولا في غير ذلك مجرد هذا التحسين، حتى تدل الأدلة الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب. فإذا كان المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم، ولم يكن كل مسلم عدلا بمجرد هذا التحسين حتى تحصل الخبرة أو التزكية دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا يثبت ذلك الأمر، وإذا لم يثبته لم ينبن عليه حكم، وتحسين الظن بالأفعال من ذلك فلا ينبني عليها حكم. ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلا يحتمل أن يكون دينيا تعبدي، أو يحتمل أن يكون دنيويا راجعا إلى مصالح الدنيا، ولا قرينة تدل على تعين أحد الاحتمالين، فيحمله هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني بناء على تحسينه الظن به. والثاني أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة إلى المقتدى به مثلا، وهو مأمور به مطلقا وافق ما في نفس الأمر أو خالف؛ إذ لو كان يستلزم المطابقة علما أو ظنا لما أمر به مطلقا، بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما في نفس الأمر، وليس كذلك باتفاق، فلا يستلزم المطابقة. وإذا ثبت هذا فالاقتداء بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه، لا على أمر حصل لذلك المقتدي، لكنه قصد الاقتداء بناء على ما عند
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المقتدى به، فأدى إلى بناء الاقتداء على غير شيء، وذلك باطل بخلاف الاقتداء بناء على ظهور علاماته فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدي به علما أو ظنا وإياه قصد المقتدي باقتدائه فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة. والثالث أن هذا الإقتداء يلزم منه التناقض، لأنه إنما يقتدي به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا، وإذا لم يقتضه لم يكن الاقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر، وقد فرضنا أنه كذلك. هذا خلف متناقض. وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن. والفرق بينهما ظاهر؛ لأمرين؛ أحدهما: أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك، حسبما دلت عليه الأدلة الظنية. بخلاف تحسين الظن، فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أولا. والثاني: أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه، وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه. وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدى به: فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن قواه وثبته بتكراره في فكره ووعظ النفس في اعتقاده؛ وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ونفاه، وكرر نفيه على فكرة ومحاه عن ذكره. فإن قيل إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد والانقطاع إلى الله، ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب، شأن الأحكام الواردة على هذا الوزان.
فالجواب أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي، فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله؛ ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن، بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره والظن الذي يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه، وفرض مسألتنا ليس هكذا، بل على جهة أن لا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين، ويضعف الاحتمال الآخر؛ كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته. فمثل هذا له في هذه الدار حالان:(حال دنيوي) به يقيم معاشه ويتناول ما من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الله به عليه من حظوظ نفسه، و (حال أخروي) به يقيم أمر آخرته فأما هذا الثاني فلا كلام فيه، وهو متعين في نفسه وغير محتمل إلا في القليل، ولا اعتبار بالنوادر. وأما الأول فهو مثار الاحتمال: فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه، ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه في نفسه. فإذا عمله ولم يدر وجه أخذه فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ومتعبدا له به فيعمل به على قصد التقرب ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به، ليس له أصل ينبني عليه؛ إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدى به نيل ما أبيح له من حظه، فلا يصادف قصد المقتدي محلا، بل إن صادف أمرا مباحا صيرة متقربا به، والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام بل نقول: إذا وقف المقتدى به وقفة، أو تناول ثوبه على وجه أو قبض لحيته في وقت ما أو ما أشبه ذلك، فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي أو غافلا، كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين. فمثل هذا هو المراد بالمسألة. وكذلك إذا كان له درهم مثلا فأعطاه صديقا له لصداقته، وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به، فيقول المقتدي حسن الظن به يقتضي أنه يتصدق به، لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر الأخروي، فيجئ منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية. وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث:(واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة؛ إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا. فإذا بنينا على ما تقدم فلقائل أن يقول إن ما قاله غير متعين. لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه، لأنه لا حجر عليه ولا قدح فيه ينسب إليه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب من الدنيا أشياء وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له، ويتعين ذلك في أمور كحبه للنساء والطيب والحلواء والعسل والدباء وكراهيته للضب وأشباه ذلك. وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له، وهو منقول كثيرا.
ووجه ثان وهو أنه قد دعا عليه الصلاة والسلام بأمور كثيرة دنيوية كاستعاذته من الفقر والدين وغلبة الرجال وشماتة الأعداء والهم وأن يرد إلى أرذل العمر، وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل. ويدل عليه في نفس المسألة أن جملة من
2791 -
ثَانِيهِمَا يَأْتِي عَلَى أَقْسَامِ
…
مُنْتَصِبٍ بِمَقْصِدِ الإِعْلَامِ
2792 -
بِفِعْلِهِ كَسَائِرِ الْحُكَّامِ
…
لِكَوْنِهِمْ فِي مَقْطَعِ الأَحْكَامِ
الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله: (لكل نبى دعوة مستجابة) في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم، وهو الدعاء عليهم؛ كقوله وقال نوح {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] حسبما نقله المفسرون وكان من الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة. فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط، فكذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعين فيها أمر الآخرة البتة. فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم.
وأمر ثالث: وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله عليه الصلاة والسلام، كان من أفعال الجبلة الآدمية أولا إذ يمكن أن يقال إنه قصد بها أمورا أخروية وتعبدا مخصوصا، وليس كذلك عند العلماء؛ بل كان يلزم منه أن لا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا، لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به. وكذلك إذا لم يبين جهته لأنه محتمل أيضا، فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل. وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة. فإذا ثبت صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت، وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه.
مع أن الحديث - كما تقدم - يقتضي أن الدعوة مخصوصة بالأمة؛ لقوله فيه: (لكل نبي دعوة مستجابة في أمته) فليست مخصوصة به، فلا يحصل فيها معنى الإيثار الذي ذكره؛ لأن الإيثار ثان عن قبول الانتفاع في جهة المؤثر، وهنا ليس كذلك
(1)
.
هذا هو بيان القسم الأول وبيان حكمه وحاله وحال الاقتداء الجاري فيه، وحكمه.
وأما "ثانيهما" أي القسمين فإنه "يأتي على أقسام" ثلاثة:
أحدهما: "منتصب بمقصد" وغرض "الإعلام" والإخبار "بـ" جريان الاقتداء "بفعله" قصدا، وذلك "كـ" أفعال "سائر الحكام" ونواهيهم "لكونهم في مقطع الأحكام"
(1)
الموافقات 4/ 202 - 207.
2793 -
فَمِثْلُ هَذَا الْقِسْمِ لَا إِشْكَالِ فِي
…
صِحَّةِ الاقْتِدَاء لِلْمُكَلَّفِ
2794 -
أَوْ مُتَعَيِّنٌ لَهُ التَّعَبُّدُ
…
مِنْ حَالِهِ فِي مَا إِلَيْهِ يَقْصِدُ
2795 -
فَالاحْتِمَالُ فِيهِ قَدْ يُوَازِي
…
فِي مُقْتَضٍ لِلْمَنْعِ وَالْجَوَازِ
2796 -
فَالْمَنْعُ مِنْ تَطَرُّقِ النِّسْيَانِ
…
إِلَيْهِ وَالْخَطَإِ وَالْعِصْيَانِ
2797 -
وَقَدْ يُقَالُ الظَّنُّ فِيهِ غَالِبُ
…
وَللْجَوَازِ حُكْمُهُ يُنَاسِبُ
وموجباتها - بفتح الجيم - من أخذ، وعطاء، ورد، وإمضاء، ونحو ذلك "فمثل هذا القسم لا إشكال في "جوازه و"صحة الاقتداء" به "للمكلف"، إذ لا فرق بين تصريحه القولي بالانتصاب للناس، وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك، هذا إذا كان الفعل وفاعله على هذه الصورة، وأما إذا كان الفعل من القسم الذي، قرر فيه أنه واجب "أو متعين له" - يعني فيه حصول "التعبد" - آخذا "من" قرآئن "حاله في" كل "ما" العالم يأتي "إليه" فيه من فعل أو ترك و"يقصد" منه. "فـ" إنه "الاحتمال" بين كونه مما يصح "فيه" الاقتداء، وما ليس كذلك "قد يوازي" ويساوي فيتعارض "في" مضمونه هذا والذي هو "مقتض" وموجب من "للمنع" من وجه ومقتض وموجب "والجواز" من وجه آخر"فـ " أما وجه "المنع" فإنه من جهة ما يحتمله ذلك الفعل أو الترك "من تطرق النسيان إليه والخطأ والعصيان" من جهة الفاعل لأنه غير معصوم، وإذا لم يتعين وجه فعله، فكيف يصح الاقتداء به فيه قصدا في العبادات أو في العادات ولذلك حكي عن بعض السلف أنه قال: أضعف العلم الرؤية يعني أن يقول رأيت فلانا يعمل كذا ولعله فعله ساهيا وعن إياس بن معاوية لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك وقد ذم الله تعالى الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] الآية وفي الحديث من قول المرتاب سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر الناس أو هو قريب منه
(1)
.
"و" لكن "قد يقال" في مجرى الاحتجاج لتجويز الاقتداء بما هذا شأنه إن "الظن" في هذا الذي نحن "فيه" ظن "غالب" على خلافه، "و" الظن العمل به في الأحكام "للجواز حكمه" ينتمي، إذ هو الذي "يناسبه" نظرا، وشرعا فإذا تعين بالقرائن فصده
(1)
الموافقات 4/ 207.
2798 -
أَوْ مَنْ لَهُ فِعْلٌ وَلَا قَرِينَهْ
…
لِلْقَصْدِ فِيهِ تَقْتَضِي تَعْيِينَهْ
2799 -
فَهَاهُنَا الْمَنْعُ لِلاقْتِدَاءِ
…
إِلَّا مَعَ الْبَحْثِ وَالاسْتِبْرَاءِ
إلى الفعل أو الترك - ولا سيما في العبادات ومع التكرار أيضا، وهو من الاقتداء بقوله، فالاقتداء بفعله كذلك وقد قال مالك في إفراد يوم الجمعة بالصوم إنه جائز واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه، قال: وأراه كان يتحراه.
فقد استند إلى فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه، وضم إليه أنه لم يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيامه، وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه عليه الصلاة والسلام عن إفراد يوم الجمعة بالصوم. فقد يلوح من هنا أن مالكا يعتمد هذا العمل الذي يفهم من صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين، وغلب على الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة، فإن كونه من أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به، وتحريه إياه دليل على عدم السهو والغفلة. وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من أفعال السلف، إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن عينت قصد المقتدى به وجهة فعله فصح الاقتداء
(1)
.
وأما القسم الثالث فهو من تجرد فعله عما يبين حاله "أو من له فعل" صادر عنه "ولا قرينة" مبينة "للقصد فيه" والمراد فيه، "تقتضي تعيينه"، بحيث يبين كونه قصدا دنيويا، أو قصدا أخرويا.
فإن قلنا: في القسم الماضي ذكره - القسم الثاني - يعدم صحة الاقتداء "فهاهنا" في هذا القسم جريان "المنع للاقتداء" فيه أولى، وذلك أنه إن قلنا بصحة الاقتداء فيه فقد ينقدح فيه احتمال، فإن قرائن التحري للفعل موجودة، فهي دليل يتمسك به في الصحة، وأما هاهنا فقد فقدت قوى احتمال الخطأ والغفلة وغيرهما، هذا مع الاقتران بالاحتياط في الدين، فالصواب - والحالة هذه - منع الاقتداء هنا "إلا مع البحث" عن حقيقة هذا الفعل "والاستبراء" مما قد يكون محتملا له، وذلك يحصل بالسؤال عن حكم النازلة المقلد فيها، فقد قيل:"لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك" والله - تعالى - أعلم بالصواب.
(1)
الموافقات 4/ 208.
"
المسألة السادسة
"
2800 -
لِطَالِبِ الْعِلْمِ كَمَا مَرَّ رُتَبْ
…
فَمَنْ لَهُ التَّقْلِيدُ حُكْمُهُ وَجَبْ
2801 -
فَإِنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِفِعْلِهِ
…
كمِثْلِ مَا لَا يُقْتَدَى بِقَوْلهِ
2802 -
وَمَنْ بِالاجْتِهَادِ قَدْ تَحَقَّقَا
…
فَهْوَ لِلإِسْتِفْتَاءِ أَهْلٌ مُطْلَقًا
2803 -
وَفِعْلُهُ فِي الاقْتِدَاءِ يُجْرَا
…
عَلَى الذِي مِنْ قَبْلِ ذَا اسْتَقَرَّا
" المسألة السادسة"
في أن اتباع طالب العلم والاقتداء به وعدمه أمر فيه تفصيل وبيان ذلك أن "لطالب العلم" في طلبه - "كما مر" ذكره - "رتب" ثلاث وقد مر بيانها وبسط المقال فيها، فلينقل ذلك إلى هذا الموضع ويجرى عليه التفصيل الآتي في شأن الاتباع وعدمه، "فـ" أما "من" ثبت "له التقليد" لغيره، وتقرر في حقه "حكمه" الذي "وجب" عليه "فإنه لا" يسوغ ولا يصح أن "يقتدى بفعله" على الإطلاق "كمثل ما لا" يسوغ ولا يصح أن "يقتدى بقوله" لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد، فإن كان اجتهاده غير معتبر فالاقتداء به كذلك لأن أعماله إن كانت باجتهاد منه فهي ساقطة وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر. ولأنه عرضة لدخول العوارض عليه من حيث لا يعلم بها، فيصير عمله مخالفا فلا يوثق بأن عمله صحيح فلا يمكن الاعتماد عليه
(1)
.
"و" أما "من" كان "بالاجتهاد قد" اتصف و"تحققا" - الأف للإطلاق - "فهو "جدير بالاتباع، لأنه "للاستفتاء" يعني لاستفتاء الناس له "أهل مطلقا" فتؤخذ منه الفتوى من جهة الفعل كما تؤخذ منه من جهة القول.
"و" ذلك لكون "فعله في الاقتداء" به "يجرى على" السبيل "الذي من قبل ذا" الموضع في المسألة السابقة قد "استقرا" ذكره، فيجري في حقه ما جرى من التفصيل المذكور في حق من يقتدى بهم.
(1)
الموافقات 4/ 209.
2804 -
وَرُتْبَةُ الثَّانِي الذِي فِيهِ نَظَرْ
…
بِحَالِهِ فِي الاجْتِهَادِ يُعْتَبَرْ
2805 -
فَحَيْثُ جَازَ جَازَ الاقْتِدَاءُ
…
عَلَى الذِي مَرَّ وَالاسْتِفْتَاءُ
2806 -
مَا لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ ذَا حَالِ
…
وَهْوَ بِالاستِفْتَاءِ ذُو اسْتِقْلَالِ
2807 -
فَيَقْتَدِي بِهِ أُولُوا الأحْوَالِ
…
حَيْثُ يَصِحُّ ذَاكَ فِي الأَفْعَالِ
" و" أما شأن "رتبة" الحال "الثاني" ومقتضاه فإنه "الذي فيه النظر" والبحث لأنه موضع إشكال سواء بالنسبة إلى صلاحيته للاستفتاء، أو بالنسبة إلى الاقتداء به، إذ كل ذلك "بحاله في "أمر" الاجتهاد" وشأنه "يعتبر" ويعرف به حكمه، "فحيث" تقرر أنه قد صح اجتهاده و"جاز"، فإنه كذلك صح اتباعه و"جاز الاقتداء" به، وذلك لناء "على الذي مر" تقريره في المسألة السابقة، "و" كذلك شأن "الاستفتاء" أي استفتاءه، والأخذ بفتواه فمدار صحة ذلك على ثبوت كونه مجتهدا.
وذلك كله ماض حكمه في شأنه "ما لم يكن في" علمه و "فعله ذا حال" خاصة فإن كان صاحب حال في ذلك "وهو بـ" أمر "للاستفتاء ذو" قيام و"استقلال" وتحمل، فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور في المسألة السابقة أم لا؟ وهل يصح في استفتاءه في كل شيء أم لا؟ كل هذا مما ينظر فيه، والظاهر هو أن المجرى عليه في حكم ذلك هو التفصيل، أما الاقتداء بتصرفاته "فـ" إنه "يقتدي به" فيها "أولوا الأحوال" ممن هم مثله، إذ هم "حيث يصح" منهم "ذاك" ويليق بهم، فيشتركون معه "في" الصلاحية والأهلية للإتيان بتلك "الأفعال" وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الخطوط، بالغوا غاية الجهد في أداء الحقوق، إما لسائق الخوف، أو لحادي الرجاء، أو لحامل المحبة. فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه، فليس لهم عن الأعمال فترة، ولا عن جد السير راحة. فمن كان بهذا الوصف فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته؟ وأيضا فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم، وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم، والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم، فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة عن حمل تلك الأعباء، أو مريض العزم في قطع مسافات النفس، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية، أو راض بالأوائل، عن الغايات، فكل هؤلاء لا طاقة لهم باتباع أرباب الأحوال وإن تطوقوا ذلك زمانا فعما قريب ينقطعون، والمطلوب الدوام. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: "خذوا من العمل ما تطيقون،
2808 -
وَمَا بِهِ اسْتُفْتِى وَهْوَ حَالُهُ
…
كَانَ كَمِثْلِ فِعْلِهِ مَقَالُهُ
2809 -
وَحَيْثُ مَا اسْتُفْتِيَ فِي سِوَاهُ
…
فَإِنَّهُ سَائِغَةٌ فُتْوَاهُ
"
المسألة السابعة
"
2810 -
نَذْكُرُ مَا يَشْهَدُ لِلْمُقَلِّدِ
…
بِصِحَّةِ الْفُتْيَا مِنَ الْمُقَلَّدِ
فإن الله لن يمل حتى تملوا" وقال: "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل" وأمر بالقصد في العمل وأنه مبلغ، وقال: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد خوفا من الانقطاع وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ورفع عنا الإصر الذي كان على الذين من قبلنا. فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال لم يلق أن ينتصبوا منصب الاقتداء وهم كذلك، ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه اللهم إلا أن يكون صاحب حال مثلهم وغير مخوف عليه الانقطاع. فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل. وهذا المقام قد عرفه أهله، وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه
(1)
. هكذا شأن أفعاله وحكمها، "و" أما "ما به" أي فيه "استفتى" وسئل، فأجاب فيه بقوله، فإن ذلك لا يخلوا من حالين:
أحدهما: أن يستفتى في شيء "وهو حاله" فما كان على هذا الحال "كان" فيه "كمثل فعله مقاله" وفتواه، لأن نطقه في أحواله من جملة أعماله، والغالب فيه أنه يفتي بما يقتضيه حاله، لا بما يقتضيه حال السائل.
"و" الثاني الحال الذي يتجلى "حيث مما استفتى في سواه" أي سوى هذا الذي هو حاله، "فـ" هذا قد تقرر فيه "أنه سائغة" فيه "فتواه" والاقتداء بها لأنه إذ ذاك إنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال، إذ ليس مأخوذا فيه.
"المسألة السابعة"
في إن للمقلد - بفتح اللام - أوصافا ترشد إلى صحة أتباعه، واستفتائه وفي هذا الشأن "نذكر" بعضا من هذه الأوصاف التي قلنا أنها من "ما يشهد للمقلد" - بكسر اللام - العامي "بصحة الفتيا" التي يأخذها "من المقلد" - بفتح اللام - المتصف بهذه
(1)
الموافقات 4/ 209 - 210.
2811 -
مِنْ ذَاكَ الاعْتِنَاءُ بِالْمَسَائِلِ
…
وَكَثْرَةُ الْفِكْرَةِ فِي النَّوَازِلِ
2812 -
وَعَدَمُ الْبِدَارِ لِلْجَوَابِ
…
حَتَّى يَرَى النَّهْجَ إِلَى الصَّوَابِ
الأوصاف، وبصحة اتباعه له.
"من ذاك" الذي هو من هذه الأوصاف "الاعتناء" والاهتمام "بالمسائل" الفقهية المعروضة على النظر "وكثرة" التفكر وترديد "الفكرة في" كل ما يريد من "النوازل" ويقع، قال مالك بن أنس: ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم، فقيل له: يا أبا عبد الله والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر، ما تقول شيئا إلا تلقوه منك، قال فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا، قال الراوي: فرأيت في النوم قائلا يقول: مالك معصوم "و" من ذلك - أيضا - "عدم" الإسراع و"البدار للجواب" لأن المطلوب من المفتي هو إمعانه النظر في المسألة المسؤول عنها والتريث في الحكم فيها "حتى يرى" ما هو "النهج إلى الصواب" في ذلك، فإن لم يظهر له ما هو الصواب في ذلك توقف.
قال مالك - رحمه الله تعالى -: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن، وقال: ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل انصرف حتى أنظر فيها. فينصرف ويردد فيها، فقيل له في ذلك، فبكى، وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم. وكان إذا جلس نكس رأسه وحرك شفتيه يذكر الله، ولم يلتفت يمينا ولا شمالا. فإذا سئل عن مسألة تغير لونه - وكان أحمر - فيصفر وينكس رأسه ويحرك شفتيه، ثم يقول ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب منها في واحدة. وكان يقول: من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب. وقال بعضهم: لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة والله واقف بين الجنة والنار. وقال: ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام، لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كان الموت أشرف عليه. ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون، ثم حينئذ
2813 -
وَقَوْلُ لَا أَدْرِي إِذَا لَمْ يَدْرِ
…
وَهْوَ مِلَاكُ الْعِلْمِ فِي التَّحَرِّي
2814 -
وَخَوْفُهُ للهِ مِنْ أَنْ يَسْأَلَهْ
…
عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَهُ أَوْ حَلَّلَهْ
يفتون فيها. وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم. قال: ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتضى بهم ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول أنا أكره كذا وأرى كذا. وأما (حلال وحرام) فهذا الافتراء على الله أما سمعت قول الله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} [يونس: 59] الآية لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرماه
(1)
.
"و" من ذلك - أيضا - أن يتمسك بكلمة و"قول لا أدري إذا" كان "لم يدر" حكم ما سئل عنه "و" ذلك أن قول: لا أدري في هذا المقام "هو ملاك" - بكسر الميم - أي قوام وصلاح "العلم في" شأن "التحري" والقصد إلى الحق.
"و" كذلك "خوفه لله" تعالى "من أن يسأله عن كل ما حرمه" بفتواه "أو حلله" به، قال موسى بن داود: ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول: (لا أحسن) من مالك، وربما سمعته يقول: ليس نبتلى بهذا الأمر، ليس هذا ببلدنا. وكان يقول للرجل يسأله، اذهب حتى أنظر في أمرك. قال الراوي فقلت إن الفقه من باله وما رفعه الله إلا بالتقوى. وسأل رجل مالكا عن مسألة - وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب - فقال له: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها. قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله. وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها ولكن تعود. فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي، فقال: ما أدري ما هي؟ فقال: الرجل يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن. وسأله آخر فلم يجبه، فقال له يا أبا عبد الله أجبني، فقال ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك. وسئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري. وسئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلا في خمس. وقال: قال ابن عجلان إذا أخطأ العالم (لا
(1)
الموافقات 4/ 211.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أدري) أصيبت مقاتله. ويروى هذا الكلام عن ابن عباس وقال سمعت ابن هرمز يقول ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول (لا أدري) وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه: لا أدري. قال عمر بن يزيد فقلت لمالك في ذلك، فقال يرجع أهل الشام إلى شامهم، وأهل العراق إلى عراقهم، وأهل مصر إلى مصرهم، ثم لعلي أرجع عما أرجع أفتيهم به قال فأخبرت الليث بذلك، فبكى وقال: مالك والله أقوى من الليث. أو نحو هذا. وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة. وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي: لا أدري. قال أبو مصعب قال لنا المغيرة: تعالوا نجمع كل ما بقي علينا ما نريد أن نسأل عنه مالكا. فمكثنا نجمع ذلك، وكتبناه في قنداق ووجه به المغيرة إليه، وسأله الجواب، فأجابه في بعضه وكتب في الكثير منه: لا أدري. فقال المغيرة يا قوم لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى. من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري. والروايات عنه في (لا أدري) و (لا أحسن) كثيرة حتى قيل لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك (لا أدري) لفعل قبل أن يجيب في مسألة وقيل له: إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري، قال ويحك أعرفتني ومن أنا، وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر، وقال هذا ابن عمر يقول:(لا أدري) فمن أنا؟ وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرياسة وهذا يضمحل عن قليل. وقال مرة أخرى: قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء فلم يجب فيها. وقال ابن الزبير لا أدري وابن عمر لا أدري وسئل مالك عن مسألة فقال: لا أدري. فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير. وكان السائل ذا قدر، فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة. ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. قال بعضهم ما سمعت قط أكثر قولا من مالك:(لا حول ولا قوة إلا بالله) ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله: لا أدري {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] لفعلنا. وقال له ابن القاسم: ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر. فقال مالك: ومن أين علموها؟ قال منك. فقال مالك: ما أعلمها فكيف يعلمونها بي وقال ابن وهب قال مالك: سمعت من ابن شهاب أحاديت كثيرة ما حدثت بها قط ولا أحدث بها. قال الفروي: فقلت له؟ لم؟ قال: ليس عليها العمل. وقال رجل لمالك: إن الثوري حدثنا عنك
2815 -
وَسُرْعَةُ الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ إِذَا
…
صَحَّ وَتَرْكُ مَا يَرَاهُ مَأْخَذَا
2816 -
وَقِلَّةُ الْكَلَامِ وَالإِقْرَارُ
…
بِخَطَإٍ إِنْ كَانَ لَا الإِصْرَارُ
في كذا. فقال: إني لأحدث في كذا، وكذا حديثا ما أظهرتها بالمدينة، وقيل له عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك فقال أنا أحدث الناس بكل ما سمعت؟ إني إذا أحمق. وفي رواية: إني أريد أن أضلهم إذا. ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها، وإن كنت أجزع الناس من السياط، ولما مات وجد في تركته حديث كثير جدا لم يحدث بشيء منه في حياته وكان إذا قيل له:"ليس هذا الحديث عند غيرك" تركه. وإن قيل له: "هذا ما يحتج به أهل البدع" تركه وقيل له: إن فلانا يحدث بغرائب. فقال: من الغريب نفر. وكان إذا شك في الحديث طرحه كله وقال إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه. وقال ليس كل ما قال الرجل وإن كان فاضلا يتبع ويجعل سنة ويذهب به إلى الأمصار قال الله تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل} [الزُّمَر: 17 - 18]
(1)
.
"و" كذلك من تلك الأوصاف "سرعة الرجوع للحق" والصواب "إذا" ظهر له و"صح" عنده بما يقتضيه "وترك ما يراه مأخذا" ودليلا على ما قال به أول الأمر.
"و" منها - أيضا -: "قلة الكلام والإقرار" أي الاعتراف "بـ" كل "خطإ" في الأقوال والأفعال، "إن كان" قد صدر عنه فـ "لا" يستمر على "الإصرار" عليه. فقد سئل مالك مسألة أجاب فيها، ثم قال مكانه:"لا أدري" إنما هو الرأي، وأنا أخطئ، وأرجع، وكل ما أقول يكتب. قال ابن وهب سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل. وقال: وسمعته عند ما يكثر عليه السؤال يكف، ويقول: حسبكم، من أكثر أخطأ، وكان يعيب كثرة ذلك. وقال يتكلم كأنه جمل مغتلم يقول هو كذا هو كذا يهدر في كل شيء، وسأله رجل عراقي عن رجل وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فأفقست البيضة عنده عن فرخ، أيأكله؟ فقال مالك: سل عما يكون، ودع ما لا يكون. وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ فقال: لو سألت عما تنتفع به أجبتك، وقيل له: إن قريشا تقول إنك لا تذكر في مجلسك آباءها وفضائلهم، فقال إنما نتكلم فيما نرجو بركته.
(1)
الموافقات 4/ 211 - 212 - 213.
2817 -
إِلَى سِوَى ذَاكَ مِنَ الأَوْصَافِ
…
كَالنُّصْحِ وَالإِجْمَالِ وَالأِنْصَافِ
2818 -
وَكَانَ مَالِكٌ أَشَدَّ الْخَلْقِ
…
تَحَرِّيًا لِمِثْلِ هَذَا الْخُلْقِ
"
المسألة الثامنة
"
2819 -
وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ عَنْ مُسْتَفْتِي
…
بِالْفِعْلِ حَيْثُ فَقْدُهُ لِلْمُفْتِي
قال ابن القاسم: كان مالك لا يكاد يجيب، وكان أصحابه يحتالون أن يجئ رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب فيها، وقال لابن وهب: اتق هذا الإكثار وهذا السماع الذي لا يستقيم أن يحدث به، فقال: إنما أسمعه لأعرفه، لا لأحدث به، فقال له: ما يسمع إنسان شيئا إلا يحدث به، وعلى ذلك لقد سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها وأرجو أن لا أفعل ما عشت، ولقد ندمت أن لا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت، قال أشهب: رأيت في النوم قائلا يقول لقد لزم مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها، وذلك قوله: ما شاء الله لا قوة إلا بالله
(1)
.
"إلى سوى ذاك" الذي ذكره "من الأوصاف" التي إذا قامت بالعالم صيرته جديرا بالاتباع والاقتداء به وذلك "كالنصح" لكل ما ومن يطلب النصح له شرعا "والإجمال" في الأمور، وهو الأخذ فيها بالتؤدة والاعتدال "والإنصاف" وهو الأخذ والعطاء بالحق، والعدل. "وكان مالك" بن أنس - رحمه الله تعالى - كما ذكرنا - من "أشد الخلق" من الفقهاء "تحريا" وطلبا للصواب "لمثل" يعني بمثل "هذا الخلق" الشامل لهذه الأوصاف. وبعد فهذه جملة من الأوصاف تدل الإنسان المقلد على من يكون من العلماء أولى بالفتيا والتقليد له، ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من المرجوح، ولم آت بها على ترجيح تقليد مالك وإن كان أرجح بسبب شدة اتصافه بها، ولكن لتتخذ قانونا في سائر العلماء؛ فإنها موجودة في سائر هداة الإسلام، غير أن بعضهم أشد اتصافا بها من بعض
(2)
.
"المسألة الثامنة"
"و" هي في بيان أنه "يسقط التكليف عن" الـ "مستفتي" أي المحتاج للفتوى ويزول عنه "بالفعل" وذلك "حيث" يثبت ويحصل "فقده للمفتي".
(1)
الموافقات 4/ 213 - 214.
(2)
الموافقات 4/ 214.
2820 -
مَعْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ مُقْتَضَى
…
تَقْلِيدًا أَوْ مِنِ اجْتِهَادٍ مُرْتَضَى
2821 -
لأنَّهُ يَرْجِعُ لِلتَّكْلِيفِ
…
بِغَيْرِ مَا يُطَاقُ فِي التَّعْرِيفِ
2822 -
وَهْوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ فَقْدُ الْعِلْمِ
…
بِالأَصْلِ فَهْوَ كَانْتِفَاءِ الْحُكْمِ
2823 -
أَوْ فَقْدُ عِلْمِ الْوَصْفِ دُونَ الأَصْلِ
…
مِثْلَ التَّفَاصِيلِ التِي لِلْفِعْلِ
وعدمه "مع" حصول "عدم العلم به" بذلك الفعل والعلم بكونه مطلوبا شرعا من جهة "مقتضى" وحكم يكون مأخذه "تقليد" لمفت ما، "أو من "جهة "اجتهاد" صحيح "مرتضى" شرعا، ونظرا.
وإنما كان التكليف ساقطا في هذه الحالة "لـ" أمور:
أحدها: "أنه" أي التكليف في هذه الحالة "يرجع" يؤول "للتكليف بغير ما يطاق" ويدخل "في التعريف" الموضوع له، فالمكلف به مكلف بما لا يعلم، ولا سبيل له إلى الوصول إليه، فلو كلف به لكلف بما لا يقدر على الامتثال فيه، وهو عين المحال إما عقلا، وإما شرعا.
ثانيهما: أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه الصحيح - حسبما تبين في موضعه من الأصول -.
ثالثها: أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب، والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف، إذ لا حكم عليه قبل العلم بالحكم، إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به، وهذا غير عالم بالفرض، فلا ينتهض سببه على حال.
"و" هذا الفعل ما يتجلى فيه حاله ويتصور "هو على ضربين":
أحدهما: "فقد العلم بـ" حقيقة وما هو عليه في "الأصل" وواقع الأمر، ومن كان حاله هكذا مع ذلك الفعل "فهو كـ" مثل من وقع "انتفاء الحكم" الشرعي عليه في ذلك.
ثانيهما: عدم "أو فقد العلم" بـ "الوصف" الشرعي للفعل "دون" فقد معرفة "الأصل" يعني أصله، وذلك "مثل" فقد معرفة "التفاصيل" والصور "التي للفعل" المكلف به. فإن المرء قد يكون عالما بالطهارة أو الصلاة أو الزكاة على الجملة، لكنه لا يعلم كثيرا من تفاصيلها وتقيداتها وأحكام العوارض فيها، كالسهو، وشبهه.
2824 -
وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ فِي التَّفْرِيعِ
…
مَحَلُّهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ
"
المسألة التاسعة
"
2825 -
وَمُقْتَضَى الْفُتْيَا لِمَنْ يُقَلِّدُ
…
مِثْلُ الدَّلِيلِ لِلذِي يَجْتَهِدُ
2826 -
لِكَوْنِ مَنْ قَلَّدَ غَيْرَ عَالِمِ
…
فَوَاجِبٌ سِؤَالُهُ لِلْعَالِمِ
وكلا الوجهين يتعلق به أحكام بحسب الوقائع لا يمكن استيفاء الكلام فيها "و" لذلك فإن "كل ما يمكن" وروده "في"شأنهما من "التفريع" الفقهي "محله" الذي يطلب منه "في" حقيقة الأمر هو "كتب الفروع" الفقهية.
"المسألة التاسعة"
"و" هي في بيان أن "مقتضى" وموجب "الفتيا" بالنسبة "لمن يقلد" غيره "مثل الدليل" الشرعي بالنسبة "للذي يجتهد" وذلك "لكون من قلد" وكان "غير عالم" لا يقدر على النظر في الأدلة الشرعية، فوجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء "فـ " كان إلى"واجب" عليه "سؤاله العالم" بالأحكام الشرعية القادر على الاستنباط من تلك الأدلة، قال - تعالى -:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النّحل: 43]، والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذا القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام أقوال الشارع.
وأيضا فإنه إذا كان فقد المفتي يسقط التكليف، فذلك مساو لعدم الدليل، إذ لا تكليف إلا بدليل، فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به، فكذلك إذا لم يوجد مفت في العمل فهو غير مكلف به. فثبت أن قول المجتهد دليل العامي. والله أعلم
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ 216.
كتاب لواحق الاجتهاد ويتعلق بكتاب الاجتهاد نظران
2827 -
فَأَوَّلٌ فِي عَارِضِ الأَدِلَّةِ
…
تَرْجِيحًا أَوْ تَعَارُضًا فِي الْجُمْلَةِ
2828 -
وَالثَّانِ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ
…
وَاخْتَصَّ كُلُّ مِنْهُمَا بِبَابِ
"
النظر الأول" في التعارض والترجيح وفيه
مقدمة
ومسائل
" مقدمة"
2829 -
مَنْ بِأُصُولِ الشَّرْعِ قَدْ تَحَقَّقَا
…
وَقَامَ بِالْعِلْمِ عَلَيْهِ مُطْلَقَا
كتاب لواحق الاجتهاد
"ويتعلق بكتاب" لواحق "الاجتهاد" هذا "نظران" اثنان:
"فـ" أما الذي هو "أول" منهما فإنه النظر "في عارض الأدلة" الشرعية الذي يوجب لبعضها "ترجيحا" على بعض، والذي يقتضي - كذلك - تخالفا "أو تعارضا" بينها "في الجملة" لا في جميع الجهات ولا في حقيقة الأمر. "والثان" منهما النظر "في"أحوال "السؤال والجواب" من حيث من صدرا عنه، "و" في سبيل بيان هذين النظرين "اختص كل" واحد "منهما بـ" الكلام عليه في "باب" كما سيأتي.
"النطر الأول"
هذان النظران "في" شأن أحوال "التعارض" بين الأدلة "والترجيح" بينها، "و" هذا الشأن متضمنه "فيه مقدمة" ممهدة "ومسائل" ثلاث.
"مقدمة"
في الإعلام بأن "من" كان "بـ "معرفة "أصول الشرع قد تحققا" أي اتصف بذلك على الحقيقة "وقام بـ" بث "العلم" ونشره مشيا على ذلك التحقيق ومضيا "عليه مطلقا"
2830 -
يَكَادُ لَا تَعَارَضُ الأَدِلَّهْ
…
لَدَيْهِ بَلْ تَكُونُ مُسْتَقِلَّهْ
2831 -
وَالْعِلْمُ بِالْمَنَاطِ فِي الْمَسَائِلِ
…
يَنْفِي اشْتِبَاهَ الأَمْرِ فِي النَّوَازِلِ
2832 -
لِذَاكَ لَا يُوجَدُ فِي الأَدِلَّةِ
…
تَعَارُضٌ أُجْمِعَ لِلأَئِمَّةِ
2833 -
عَلَيْهِ حَتَّى وَجَبَ التَّوَقُّفُ
…
هَذَا لَدَى الْمَشْرُوعِ مَا لَا يُعْرَفُ
"
المسألة الأولى
"
2834 -
تَعَارُضُ الدَّلِيلِ لَيْسَ يُمْكِنُ
…
مِنْ حَيْثُ نَفْسُ الأَمْرِ وَهْوَ بَيِّنُ
في سائر المسائل "يكاد لا تعارض" - أصله تتعارض، بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفا - "الأدلة" الشرعية "لديه" أي عنده، وفي فهمه ونظره "بل تكون" عنده "مستقلة" بما يدل عليه وتفيده من حكم، "و" من المعلوم المقرر أن "العلم بالمناط" الذي تعلقت به الأحكام "في المسائل" الفقهية يزيل و"ينفي اشتباه الأمر" والحال "في" شأن الأحكام الفقهية المجراة في "النوازل" والمسائل فكل من حقق مناط المسائل فإنه لا يكاد يقف في متشابه - متعارض الجهات ومقتضياتها - لأن الشريعة لا تعارض فيها البتة فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر، فيلزم أن لا يكون عنده تعارض. و "لذاك" لا تعارض بين الأدلة الشرعية في واقع الأمر "لا يوجد في "هذه "الأدلة تعارض أجمع للأئمة عليه" يعني تعارض للأئمة - أي عند الأئمة - أجمع عليه، واتفق على جريانه ووقوعه "حتى" لزم ذلك و"وجب" عليهم كلهم "التوقف" من غير بوح بالحكم أو الرأي في شانه؛ "هذا لدى" أي في "المشروع" أي الشريعة "ما" من الأدلة "لا يعرف" على الإطلاق. لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم.
"المسألة الأولى"
في أن تعارض الدليل الشرعي بعضه مع بعض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر وواقع الحال، وإما أن يعتبر من جهة نظر المجتهد.
أما "تعارض الدليل" الشرعي بعضه مع بعض فإنه "ليس يمكن من حيث نفس الأمر" وواقع الحال على الإطلاق، "وهو" أمر "بين" واضح كما تقدم ذكره في كتاب الاجتهاد
2835 -
مِنْ مَرْجِعِ الشَّرْعِ لِقَوْلِ وَاحِدِ
…
حَسْبَمَا صُحِّحَ بِالشَّوَاهِدِ
2836 -
لَاكِنَّمَا اعْتِبَارُهُ حَيْثُ وُجِدْ
…
بِنِسْبَةٍ لِنَاظِرٍ وَمُجْتَهِدْ
2837 -
وَمِنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ يُجْمَعَا
…
بَيْنَهُمَا وَعَكْسُهُ قَدْ وَقَعَا
"
المسألة الثانية
"
2838 -
فَحَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِي التَّنَافِي
…
رَدُّ الدَّلِيلَيْنِ إِلَى ائْتِلَافِ
" من" جهة أن "مرجع الشرع" كله إنما هو "لقول واحد" وحكم واحد في كل جزئية "حسبما صحح بالشواهد" وبين بالأدلة القاضية بذلك، - وهو أنه لا تعارض البتة على الإطلاق بين الأدلة الشرعية - "لاكنما" التعارض يرد فيصح "اعتباره حيث" وقع و"وجد بالنسبة لـ" من حصل ذلك من "ناظر" في الأدلة الشرعية "ومجتهد" فإن ذلك أمر قد يحصل وهو معتبر ومنظور فيه بلا خلاف، إذا ورد في موضعه "ومنه" ما ورد فيه التعارض بين دليلين وهو "غير ممكن أن يجمعا" - الألف للإطلاق - "بينهما" فيه بوجه من وجوه الجمع كتعدد الأحوال، واختلاف المواطن الجاري فيها مقتضى الدليلين وهذا اعتبار والنظر فيه صواب، فإن أمكن الجمع ألغي فيهما اعتبار التعارض وتصوره، كالعام مع الخاص، والمطلق مع المقيد، وأشباه ذلك. "و" منه كذلك "عكسه" وهو ما يمكن فيه الجمع فإنه "قد وقعا" - الألف للإطلاق - النظر فيه كذلك، لكنا نتكلم - هنا - بحول الله - تعالى - فيما لم يذكروه من الضرب الذي لا يمكن فيه الجمع، ونستجر من الضرب الممكن فيه الجمع أنواعا مهمة. وبمجموع النظر في الضربين يسهل إن شاء الله على المجتهد في هذا الباب ما عسر على كثير ممن زاول الاجتهاد. وبالله التوفيق
(1)
.
"المسألة الثانية"
في أن المسلك الذي يسلك في شأن الأدلة التي لا سبيل إلى الجمع بينها، هو التوقف في شأنها أو الترجيح بينها، وبذلك "فحيث لا يمكن" ولا يتأتى "في" شأن "التنافي" والتخالف بين الأدلة الشرعية "رد الدليلين" المتنافيين المخالفين "إلى ائتلاف"
(1)
الموافقات 4/ 218.
2839 -
صِيرَ إِلَى التَّرْجِيحِ أَوْ تَوَقُّفِ
…
وَذَاكَ فِيمَا كَالأَدِلَّةِ اقْتُفِي
2840 -
مِنَ الْعَلَامَاتِ أَوِ الأَسْبَابِ
…
كَذَا الشُّرُوطُ حُكْمُهَا فِي الْبَابِ
2841 -
لَا كِنَّمَا التَّرْجِيحُ لَيْسَتْ تَتَّحِدْ
…
وُجُوهُهُ فَوُكِلَتْ لِلْمُجْتَهِدْ
وتوافق بينهما بوجه ما "صير إلى الترجيح" بين هذين الدليلين إن أمكن، "أو" إلى الـ "توقف" في شأنهما إن لم يظهر وجه للترجيح بينهما تطمئن إليه النفس، وبذلك أمرهما من المتشابهات الإضافة. كما تقدم بيانه في كتاب الاجتهاد. "وذاك" التعارض الذي يجري حصوله في الأدلة ويرد فيها، يرد كذلك ويجري "فيما" هو "كالأدلة" الشرعية من حيث إنه وضع دال على الأحكام، وبذلك "اقتفي" واتبع أمره في سبيل إدراك هذه الأحكام والدلالة عليها، وذلك كقول مجتهدين إذا وقع تعارضهما على المقلد لأن نسبتهما إليه نسبة الدليلين إلى المجتهد، وما أشبه ذلك "من" نحو تعارض "العلامات" الدالة على الأحكام المختلفة، كما إذا انتهب نوع من المتاع يندر وجود مثله من غير الانتهاب، فيرى في يد رجل ورع، فيدل صلاح ذي اليد على أنه حلال، ويدل ندور مثله من غير النهب على أنه حرام، فيتعارضان. ومنه تعارض الأشباه الجارة إلى الأحكام المختلفة، كالعبد، فإنه آدمي، فيجري مجرى الأحرار في الملك، ومال فيجري مجري سائر الأموال في سلب الملك. ومنه كذلك تنافي "أو" تعارض "الأسباب" من حيث مقتضياتها وأحكامها، وذلك كاختلاط الميتة بالمذكاة، والزوجة بالأجنبية، إذ كل واحدة منهما يطرق إليها احتمال وجود السبب المحلل والمحرم.
"كذا" تعارض "الشروط" من حيث "حكمها" فإنه كذلك جار أمره "في" هذا "الباب" بلا فرق بينه وبين ما تقدم، وذلك كتعارض البينتين إذا قلنا إن الشهادة شرط في إنفاذ الحكم، فإحداهما تقتضي إثبات أمره، والأخرى تقتضي نفيه.
فهذه المواضع كلها يجري فيها إن أمكن "لاكنما الترجيح" في هذا الضرب، بل وفي الترجيح بين الأدلة - أيضا - "ليست تتحد" أو تنحصر "وجوهه فوكلت" بذلك "للمجتهد"، وذلك إن الوقائع الجزئية النوعية أو الشخصية لا تنحصر، ومجاري العادات تقضي بعدم الاتفاق بين الجزئيات بحيث يحكم على كل جزئي بحكم جزئي واحد، بل لا بد من ضمائم تحتف، وقرائن تقترن، مما يمكن تأثيره في الحكم المقرر، فيمتنع إجراؤه في جميع الجزئيات. وهذا أمر مشاهد معلوم، وإذا كان كذلك فوجوه
"
المسألة الثالثة
"
2842 -
وَالْمُمْكِنُ الْجَمْعِ يُرَى لَهُ صُوَرْ
…
عِنْدَ تَعَارُضٍ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرْ
2843 -
تَعَارُضُ الْجُزْئِيِّ مَعْ كُلِّيَهْ
…
تَدْخُلُ حَتْمًا تَحْتَهَا الْجُزْئِيَّهْ
2844 -
كَالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ مِثْلِ الْكَذِبْ
…
فِي مَوْضِعٍ ذَاكَ بِهِ مِمَّا يَجِبْ
2845 -
وَقَدْ يَكُونُ مَحْمَلُ الْجُزْئِيِّ
…
فِيهِ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي الْكُلِّي
الترجيح جارية مجرى الأدلة الواردة على محل التعارض، فلا يمكن في هذه الحالة إلا الإحالة على نظر المجتهد فيه.
وحقيقة النظر الالتفات إلى كل طرف من الطرفين أيهما أسعد وأغلب وأقرب بالنسبة إلى تلك الواسطة، فيبنى على ذلك إلحاقها به من غير مراعاة للطرف الآخر، أو مع مراعاته، كما في مسألة ملك العبد في مذهب مالك، وفي مذهب من خالفه، وأشباهها.
هذا وجه النظر في هذا الضرب الأول على ظاهر كلام الأصوليين. وإذا تأملنا المعنى فيه وجدناه راجعا إلى الضرب الثاني، وإن الترجيح راجع إلى وجه من الجمع وإبطال أحد المتعارضين على ما ذكره الشاطبي.
"المسألة الثالثة"
"و" هي في بيان المتنافي المتعارض من الأدلة "الممكن" إجراء "الجمع" في شأنه "يرى" بالياء أي يوجد، ويصح راجحا "ترى" أي توجد "له" في واقع الحال "صور" مختلفة تظهر "عند" ما يكون "تعارض هناك" بين الأدلة "قد ظهر" وحصل إحدى هذه الصور "تعارض" حكم الطرف "الجزئي مع" حكم جهة "كلية" شاملة "تدخل حتما" ووجوبا "تحتها" بمقتضى الأدلة الشرعية والنظرية تلك الجهة "الجزئية" المعبر عنها فيما سبق بالطرف الجزئي، وذلك "كالقتل" للمسلم المباح "في"إيقاع "القصاص" عليه أو قتله بالزنى المتعارض مع حرمة قتل المسلم "أو مثل الكذب في موضع" يكون "ذاك" الكذب "به" يعني فيه "مما يجب" شرعا أو يباح كالكذب للإصلاح بين الزوجين فهو جزئي مع الكذب المحرم الذي مقتضاه كلية "وقد يكون محمل الجزئي فيه على" أنه "الرخصة" المسثتناة "في الكلي" أي منه.
2846 -
أَوْ غَيْرُ ذَا فَحُكْمُهُ يُلْتَمَسُ
…
مِن مَا مَضَى مِنْ قَبْلِ ذَا يُقْتَبَسُ
2847 -
ثَانِيَةٌ تَعَارُضُ الْجُزْئِيِّ مَعْ
…
مِثْلٍ وَفِي كُلِّيَةٍ مَعْهُ اجْتَمَعْ
2848 -
مِثْلَ حَدِيثَيْنِ فَذَا وَجْهُ النَّظَرْ
…
فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَيْثُمَا صَدَرْ
2849 -
إِمَّا بِأَنْ يُحْكَمَ بِالإِهْمَالِ
…
لِجِهَةٍ وَالأَخْذِ بِالإِعْمَالِ
2850 -
لِلْجِهَةِ الأُخْرِى وَهَذَا لَا يَصِحْ
…
إِلَّا بِإِبْطَالٍ بِأَمْرٍ يَتَّضِحْ
2851 -
مِنْ نَسْخٍ أَوْ تَطْرِيقِ وَهْمٍ أَوْ غَلَطْ
…
وَغَيْرِهَا مِنْ مُنْتَمٍ لِذَا النَّمَطْ
" أو غير ذا" يعني وقد يكون محمله غير ذا المحمل المذكور، فإن كان محمله هو الأول فهو بين، وإلا يكنه "فـ" إن "الحكم" الجاري فيه أمره "يلتمس" ويطلب "من" اتباع مقتضى "ما مضى" ذكره من المسلك في شأن التعارض والترجيح "من قبل ذا" الموضع فمنه يوخذ و"يقتبس" على التفصيل الماضي إيراده هناك - في كتاب الأدلة ومن قبل في كتاب الأحكام -.
"ثانية" تلك الصور صور "تعارض" مدلول الدليل "الجزئي مع" مدلول ما هو "مثل" له في كونه جزئيا "و" كل واحد منهما مندرج "في" الـ "كلية" التي اندرج فيه الآخر، فكلاهما "معه" أي مع الجزئي الآخر قد "اجتمع" في تلك الكلية وذلك "مثل" تعارض مقتضى "حديثين" أو قياسين أو علامتين في شأن حكم جزئية معينة، وكثيرا ما يذكر الأصوليون هذه الصورة في الضرب الأول الذي لا يمكن فيه الجمع، والصواب في شأنه هو التفصيل "فـ" يقال إن "ذا" قد اقتضى "وجه النظر فيه" أن يكون حكمه الجاري فيه "على وجهين حيثما صدر" أي وقع وحصل، فهو "إما بأن يحكم بالإهمال" والإلغاء "لجهة" من الجهتين المتعارضتين "والأخذ بالإعمال للجهة الأخرى، وهذا" الوجه "لا يصح إلا بإبطال" وإلغاء لهذه الجهة - الدليل - "بأمر" اقتضاؤه ذلك "يتضح" منه بموجب حاله، فلا إلغاء لها إلا بموجب لذلك "من نسخ" لها "أو تطريق" يعني وقوع "وهم" أي تخيل "أو غلط" في السند أو في المتن إن كان خبر آحاد، أو كونه مظنونا يعارض مقطوعا به، وما جرى مجرى ذلك كالقوادح في صحة الأقيسة والاعتداد بالعلامات المصوبة للدلالة على الأحكام "وغيرها من" كل ما هو "منتم" ومنتسب "لذا النمط" أي الضرب من القوادح في صحة الأدلة، والموجبات لإسقاط حجيتها. هذا هو الوجه الأول.
2852 -
إِمَّا بِأَنْ يُحْكَمَ بِالإِعْمَاِل
…
لِلْجِهَتَيْنِ حُكْمَ الاسْتِقْلَالِ
2853 -
وَعِنْدَ ذَا يَلْزَمُ أَنْ لَّا يَرِدَا
…
مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ وَرَدَا
2854 -
ثَالِثَةٌ تَعَارُضُ الْجُزْئِيَّهْ
…
مَعْ مِثْلِهَا بِحَيْثُ لَا كُلِّيَّهْ
2855 -
شَامِلَةٌ وَلَا تَكُونُ الْوَاحِدَهْ .. فِي طَيِّ الأُخْرَى عِنْدَ ذَاكَ وَارِدَهْ
2856 -
فَالأَصْلُ أَنَّ حَالَةَ الْجُزْئِيِّ
…
رَاجِعَةُ لأَصْلِهِ الْكُلِّيِّ
و"أما بأن يحكم بالإعمال للجهتين" - يعني الدليلين - معا "حكم الاستقلال" والانفراد، بحيث يعمل بكل واحد منهما على حدة في موضوعين منفصلين متباينين. "وعند" حصول "ذا" الأمر "يلزم" منه "أن لا يردا" أي هذان الدليلان "من" يعني على "جهة واحدة" ومحل واحد "إن وردا" - هذا تتميم للكلام فقط، والاستغناء عنه بين - وذلك لأن أعمالهما على هذا الوجه لا يتأتى إلا إذا لم يردا على موضوع واحد، وهذا بين، وإذا أعملا على هذا الوجه ارتفع التعارض البتة، إلا إن هذا الإعمال تارة يرد على محل التعارض، كما في مسألة العبد عند مالك، فإنه أعمل حكم الملك له من وجه، وأهمل ذلك من وجه. وتارة يخص أحد الدليلين فلا يتواردان على محل التعارض معا، بل يعمل في غيره ويهمل بالنسبة إليه لمعنى اقتضى ذلك. ويدخل تحت هذا الوجه كل ما يستثنيه المجتهد صاحب النظر في تحقيق المناط الخاص المذكور في أول كتاب الاجتهاد، وكذلك في فرض الكفاية المذكور في كتاب الأحكام
(1)
.
"ثالثة" هذه الصور صورة "تعارض" مقتضى الجهة "الجزئية مع" مقتضى جزئية "مثلها" وكل واحدة منهما منفصلة على الأخرى "بحيث لا كلية شاملة" لهما تجمعهما عكس الصورة السابقة "و" بحيث "لا تكون الواحدة" منهما "في طي الأخرى" وتحت حكمها "عند" حصول "ذاك" الانفصال "واردة" أو مندرجة، وما كان هكذا "فـ" الحكم فيه يقرر على ما يقتضيه "الأصل" الذي يعمل به هنا وهو "أن حالة الجزئي راجعة" من حيث تقويمها "لأصله الكلي" سواء كان ضروريا، أو حاجيا، أو تحسينيا.
(1)
الموافقات 4/ 22.
2857 -
فَكُلُّ كُلِّيٍّ لَهُ التَّرْجِيحُ
…
جُزْئِيُّهُ لَهُ بِهِ تُصْحِيحُ
2858 -
كَأَمْرِ الاسْتِقْبَالِ وَالصَّلَاةِ
…
عِنْدَ وُقُوعِ الْجَهْلِ بِالْجِهَاتِ
2859 -
وَانْجَرَّ فِي كُلِّيِّ هَاذِي الصُّورَهْ
…
مَا يُفْهَمُ الْحُكْمُ بِهِ ضَرُورَهْ
2860 -
رَابِعَةٌ تَعَارُضُ الْكُلِّيِّ
…
مَعْ مِثْلِهِ فِي نَوْعِهِ الأَصْلِيِّ
" فكل كلي له ترجيح" شرعي على الكلي المعارض له في موضوع ما، فإن "جزئيه" - أيضا - له ترجيح تبعا لكليه الذي "له" أي لهذا الجزئي "به" أي لكليه ذاك "تصحيح" ورجحان. فكل جزئي تابع لكليه راجحا كان أو مرجوحا، وذلك "كأمر" وشأن "الاستقبال" الوارد الأمر به في قوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البَقَرَة: 144] مع معارضه "و" هو الأمر بإقام "الصلاة" الوارد في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وذلك "عند وقوع" وحصول "الجهل بالجهات" والتباس أمرها فإن الصلاة راجعة إلى كلية من الضرورية واستقبال القبلة راجع إلى كلية من التحسينيات على قول من قال بذلك. وكذلك يجري على هذا السبيل أمر المكلف الذي لا يجد ماء ولا متيمما، إذ هو بين أن يترك مقتضى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لمقتضى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المَائدة: 6] إلى آخرها؛ أو يعكس، وتقرير الكلام في ذلك على نسق ووزان ما تقدم.
وإنما ترجح الجزئي برجحان كليه، لأن الجزئي خادم لكليه، وليس الكلي بموجود في الخارج إلا في الجزئي، فهو الحامل له، حتى إذا انخرم، انخرم الكلي، فهو إذا متضمن له، فلو رجح غيره من الجزئيات غير الداخلة معه في كلية للزم ترجيح ذلك الغير على الكلي، وقد فرضنا أن الكلي المفروض هو المقدم على الآخر، فلابد من تقديم جزئيه.
"و"هكذا - كما ترى - قد "انجر" في هذا الموضع ورود الكلام "في كلي هاذي الصورة" وإن كان الموضوع فيه هو تعارض الجزئيتين، وذلك لأن إيراد هذا الكلام على هذا الكلي هو "ما يفهم" أساس "الحكم به" الجاري هنا ووجهه "ضرورة" فلا يتوصل إلى فهمه والعلم به إلا بذلك، كما يتضح ذلك من الأمثلة، وما تقرر به الحكم فيها.
"رابعة" هذه الصور "تعارض الكلي مع" كلي "مثله" وكلاهما يجتمع مع الآخر "في نوعه الأصلي" فهما من نوع واحد.
2861 -
وَذا وَإِنْ كَانَ شَنِيعَ الظَّاهِرِ
…
فَهْوَ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الصَّادِرِ
2862 -
مِنْ حَيْثُ الإِمْكَانِ بِهِ أَنْ يُجْمَعَا
…
بَيْنَهُمَا عَلَى اعْتِبَارَيْنِ مَعَا
2863 -
وَذَاكَ كَالدُّنْيَا لَهَا وَصْفَانِ
…
فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ هُمَا ضِدَّانِ
2864 -
وَصْفٌ أَتَى فِي ذَمِّهَا تَحْقِيرَا
…
لِشَأْنِهَا مُقْتَضِيًا تَنْفِيرَا
2865 -
وَالتَّرْكَ لِلْمَيْلِ وَالالْتِفَاتِ
…
لَهَا وَالاجْتِنَابَ فِي الْحَالَاتِ
" وذا" الحال الذي عليه هذه الصورة "وإن كان شنيع" أي فضيع وقبيح "الظاهر" وذلك لما ذكر فيه من تعارض الكلية الشرعية وهي لا تتعارض لأنها قطعيات ولا مدخل فيها للظن، وتعارض القطعيات محال في حقيقة الأمر، "و" لكن ذلك قد يقع في هذا الموضع بوجه ما "فهو" أي التعارض "صحيح باعتبار الصادر" أي الواقع وذلك "من حيث" جريان "الإمكان به" يعني فيه "أن يجمعا" - الألف للإطلاق - "بينهما" أي الكليين القطعيين "على اعتبارين معا" وبذلك لا يكون بينهما تعارض في حقيقة الأمر، فكل موضوع له اعتباران قد يقع فيه هذا الضرب من التعارض "وذاك كالدنيا" فإنها "لها وصفان" ورد في النصوص الشرعية وصفها بهما، "في ظاهر الأمر هما ضدان" متعارض مقتضاهما أحدهما "وصف أتى" لها في النصوص الشرعية وهو "في ذمها تحقيرا لشأنها" ولكل ما فيها، فكان لذلك "مقتضيا تنفيرا" منها.
"و" موجبا "الترك للميل والالتفات لها و" قاضيا بوجوب "الاجتناب" لها "في" كل "الحالات" التي قد تعرض فيها باعتبار أحوال المكلف، إذ لا جدوى فيها على كل حال. وهذا هو الوجه الأول من هذا الوصف الشرعي لها: ومما ورد فيه وصف الدنيا على هذا الوجه قوله - تعالى -: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} [الحديد: 20] الآية؛ فأخبر أنها لعب ولهو، مما لا نفع فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا فائدة وراءها. وقوله - تعالى -:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، فحصر فائدتها في الغرور المذموم العاقبة وقوله - تعالى -:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ} [العنكبوت: 64] وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} إلى قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14] وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] إلى غير ذلك من الآيات. وكذلك الأحاديث في هذا المعنى، كقوله: "لو كانت الدنيا تزن عند
2866 -
وَجَاءَ فِيهَا مَعْهُ وَصْفٌ ثَانِ
…
فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالامْتِنَانِ
2867 -
وَذَاكَ بَاعِثٌ عَلَى الْتِفَاتِهَا
…
وَنَيْلِ مَا قَدْ بُثَّ مِنْ خَيْرَاتِهَا
2868 -
لِأَنَّهُ مِنْحَةُ رَبٍّ مُنْعِمِ
…
فَوَاجِبٌ قَبُولُ تِلْكَ النِّعَمِ
الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء" وهي كثيرة جدا. وعلى هذا المنوال نسج الزهاد ما نقل عنهم من ذم الدنيا وأنها لا شيء.
والثاني: أنها كالظل الزائل والحلم المنقطع. ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} إلى قوله: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] وقوله: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر: 39] وقوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196، 197] الآية؛ وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] وغير ذلك من الآيات المفهم معنى الانقطاع والزوال، وبذلك تصير. كأن لم تكن. والأحاديث في هذا أيضا كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام:"ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب تحت شجرة ثم راح وتركها وهو حادي الزهاد إلى الدار الباقية"
(1)
. هذا شأن ما ورد فيها من الذم.
"وجاء" عن الشارع "فيها" أي في الدنيا - أيضا - "وصف ثان" وهو "في معرض" ومساق "المدح" لها "والامتنان" بها وبما تشتمل عليه من نعم وخيرات "وذاك" أمر "باعث على التفاتها" يعني على الالتفات إليها - من باب الحذف والإيصال - والاشتغال بطلبها "ونيل" أي إدراك وأخذ "ما قد بث" ونشر فيها "من خيراتها" التي احتوت عليها، "لأنه" أي هذا المثبوت فيها من الخيرات "منحة" - بكسر الميم - أي عطية "رب" كريم "منعم" سبحانه وتعالى له الحمد وله الشكر "فواجب" بمقتضى ذلك "قبول تلك النعم" والإقبال على نيلها.
خلاصة القول أن هذا الوصف له وجهان - أيضا -:
أحدهما: ما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته، وصفاته العلى، وعلى
(1)
الموافقات 4/ 224 - 225.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الدار الآخرة، كقوله - تعالى -:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6] إلى قوله - تعالى -: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] وقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا} [النمل: 61] الآية؛ وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج: 5] الآية؛ وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84، 85] إلى غير ذلك من الآيات التي هي دلائل على العقائد وبراهين على التوحيد.
والثاني: أنها منن ونعم امتن الله بها على عباده، وتعرف إليهم بها في أثناء ذلك، واعتبرها ودعا إليها بنصبها لهم وبثها فيهم، كقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [إبراهيم: 32] إلى قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وقوله:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة: 22] الآية؛ وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النحل: 10] إلى قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وفيها:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81] الآية؛ وفي أول السورة: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} [النحل: 5] ثم قال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)} [النحل: 6] ثم قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] فامتن تعالى ههنا وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة، وهو الذي ذم به الدنيا في قوله:{أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد: 20] إلى غير ذلك، بل حين عرف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا؛ كقوله:{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 28 - 30] وهو قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} [النحل: 81] وقال: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] وهو كثير، حتى إنه قال في الجنة:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة، وقال:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65] إلى أن قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68] إلى قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وهو كثير أيضا.
فأنزل الأحكام، وشرع الحلال والحرام، تخليصا لهذه النعم التي خلقها لها من
2869 -
فَالذَّمُّ مِنْ وَجْهَيْنِ وَجْهٌ يُخْبِرُ
…
أَنْ لَيْسِ فِيهَا طَائِلٌ يُعْتَبَرُ
2870 -
بِكَوْنهَا إِلَى الْغُرُورِ تَنْتَسِبْ
…
وَوَصْفِ حَالِهَا بِلَهْوٍ وَلَعِبْ
2871 -
ثَانِيهِمَا مِنْ سُرْعَةِ الزَّوَالِ
…
وَعَدَمِ الْبُقْيَا وَالاسْتِقَلَالِ
2872 -
وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ جَمٌّ مُعْتَبَرْ
…
مِنَ النُّصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالْخَبَرْ
2873 -
وَالْمَدْحُ مِنْ وَجْهَيْنِ يُسْتَقْبَلُ
…
مِنْ حَيْثُ أَنَّ حَالَهَا يَدُلُّ
شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات. وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} يعني في الدنيا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} [النحل: 97] يعني في الآخرة. وقال حين امتن بالنعم: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99]، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] وقال في بعضها: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية: 12]، فعد طلب الدنيا فضلا، كما عد حب الإيمان وبغض الكفر فضلا. والدلائل أكثر من الاستقصاء
(1)
.
وهذا وما سبقه يقتضي التعارض في شأن النظر الشرعي إلى هذه الدنيا على وجه بين، "فالذم" الشرعي لها وارد عليها كما تقدم ذكره "من وجهين":
أحدهما: "وجه" مبرز لها شرعا "يخبر" ويعلم "إن ليس فيها" شيء "طائل" نافع ذو مزية "يعتبر" ويعتد به، وذلك "بـ" سبب "كونها إلى الغرور تنتسب" لأنها متاعه "و" بسبب "وصف حالها بلهو ولعب".
"ثانيهما": ما وصفت به "من سرعة الزوال " والانقضاء لأيامها "وعدم البقيا" - بضم الباء وسكون القاف - أي البقاء والدوام "و" من سرعة "الاستقلال" عنها، أي الانفصال "وفي" إثبات "كلا الوجهين" قد ورد "جم" أي جمع كثير "معتبر" ومعتد به "من النصوص في الكتاب والخبر" أي السنة، وقد تقدم ذكرها. "و" كما أن هذا الذم للدنيا قد جاء شرعا من وجهين فكذلك "المدح" لها فإنه أتى لها شرعا "من وجهين" - أيضا - كما تقدم ذكره، فمنهما "يستقبل" يعني يرد ويجيء، ويمكن أن يقرأ يستقبل مبنيا للمجهول أي يرفع ويحمل. أحد هذين الوجهين - بكسر الجيم - ورود هذا المدح "من حيث أن حالها" أي الدنيا "يدل" بما
(1)
الموافقات 4/ 226 - 227.
2874 -
عَلَى وُجُودِ مُوجِدِ الْمَوْجُودِ
…
وَأَنَّهُ الْوَاحِدُ فِي الْوُجُودِ
2875 -
ثُمَّ عَلَى الأخْرَى وَكَمْ دَلِيلِ
…
قَدْ جَاءَ فِي ذَاكَ مِنَ التَّنْزِيلِ
2876 -
وَجِهَةِ الْمِنَّةِ وَالانْعَامِ
…
بِكُلّ مَا فِيهَا عَلَى الأَنَامِ
2877 -
فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَا
…
عِبَادِهِ بِوَضْعِهَا تَفْضِيلَا
2878 -
وَبَثَّ مَا فِيهَا لِأنْ تَعَرَّفَا
…
لَهُمْ بِمَا حُقُّ لَهُ تَلَطُّفَا
2879 -
لِيَاخُذُوا جَمِيعَهُ بِحَقّهِ
…
وَذَلِكَ الشُّكْرُ لِمُسْتَحِقِّهِ
2880 -
وَأَنَّ مَا أَعَدَّ حَيْثُ الْبُقْيَا
…
قَدْ مَنَّ بِالْبَعْضِ لَهُ فِي الدُّنْيَا
هو عليه من دلالة وبرهان "على وجود" الله سبحانه وتعالى "موجد" أي خالق "الموجود" كيفما كان نوعه وجنسه "وأنه" سبحانه "الواحد في الوجود" لا إله إلا هو.
"ثم" إنه يدل - أيضا - "على" الدار "الأخرى" وما أعد فيها من نعيم، وعذاب.
"وكم" من "دليل" وبرهان "قط جاء في "إثبات وتقرير "ذاك" كله، وهو - أي هذا الدليل - "من" نصوص "التنزيل" والحديث النبوي الشريف؛ وقد تقدم إيراد ذلك كله وذكره فيما سبق.
"و" الوجه الثاني ما جاء من "جهة المنة" الإلهية بهذه الدنيا "و" المنة بـ "الإنعام بكل ما فيها" من الخيرات "على" جميع "الأنام" والخلق "فإنه سبحانه امتن" - كما تقدم ذكره - "علا عباده" وخلقه "بوضعها" الدنيا وخيراتها وخلقها لهم "تفضيلا" منه - تعالى - عليهم، "و" كذلك بـ "بث" ونشر "ما فيها" من النعم وذلك "لـ" أجل "أن" يـ "تعرفا" - الألف للإطلاق - "لهم" إليهم "بما حق" وثبت "له" من الإنعام والإكرام لهم "تلطفا" أي أجرا للطفه عليهم، وتفضلا منه - تعالى - وذلك، "ليأخذوا جميعه" أي جميع هذا الذي أنعم به عليهم "بحقه وذلك" الحق هو سوق "الشكر" بالجوارح والجنان "لمستحقه" وهو الله سبحانه وتعالى "و" يزاد على هذا "أن ما أعد" وهيأ سبحانه لعباده في الدار الآخرة "حيث البقيا" والخلود وهو ثبوت وتقرر قيام البراهين على وجود البارئ ووحدانيته واتصافه بصفات الكمال، وعلى أن الآخرة حق "قد من بالبعض له" يعني منه "في الدنيا".
2881 -
حَسْبَمَا يَبْدُوا مِنَ الآيَاتِ
…
وَمِنْ هُنَا طَلَبُ الالْتِفَاتِ
2882 -
وَانْظُرْ إِلَى مَا جَاءَ فِي الأنْهَارِ
…
تَجِدْهُ مَبْثُوثًا بِهَاذِي الدَّارِ
2883 -
وَإِنَّ فِي النَّحْلِ لَآيٍ شَاهِدَة
…
لَهُ عَلَى مَسَاقِ ذَاكَ وَارِدَهْ
2884 -
إِذَنْ فَقَدْ بَدَا مِنَ الْوَصْفَيْنِ
…
كَوْنُهُمَا فِي شَأْنِهَا ضِدَّيْنِ
2885 -
وَالشَّرْعُ مَأْمُونٌ مِنِ اخْتِلَافِ
…
مُبَرَّأٌ مِنْ حَالَةِ التَّنَافِي
وذلك "حسبما يبدوا" ويظهر "من الآيات" الدالة على ذلك، وقد تقدم ذكرها. فالدنيا مرآة يرى فيها الحق في كل ما هو حق، وهذا لا تنفصل الدنيا فيه من الآخرة، بل هو في الدنيا لا يفنى، لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العمل الذي تعطيه، فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه، وهو لا يفنى وإن فني منها ما يظهر للحس، وذلك المعنى ينتقل إلى الآخرة فتكون هنالك نعيما. فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت عنوانا عليه - كجعل اللفظ دليلا على المعنى - باق وإن فني العنوان
(1)
.
"ومن هنا" يعلم حصول "طلب" الشارع "الالتفات" إلى الدنيا، والميل إليها "وانظر
إلى ما جاء في "وصف "الأنهار" في الجنة، وهو قوله - تعالى - كما تقدم ذكره -: {فِيهَا
أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] الآية، "تجده" شيئا "مبثوثا" منشورا "بها ذي الدار" الدنيا وهذا معلوم "وإنـ" ـه
وارد في الكتاب العزيز كما "في" سورة "النحل" فإن فيه "الآي" التي هي دالة على هذا
و"شاهدة له" وهي "على مساق ذاك" الذي تقدم ذكره من نعيم الآخرة "واردة" وتلك الآية
هي قوله: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65] إلى أن قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68] إلى قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]
وبناء على هذا كله "إذن فقد بدا" وظهر "من هذا الوصفين" المذكورين "كونهما" يعني كون مقتضيهما "في" أمر هذه الدنيا و"شأنهما ضدين" متعارضين مفادهما التناقض في الحكم عليها.
"و" قد علم على قطع أن "الشرع" وكل ما يشتمل عليه من أحكام ومقتضيات "مأمون" معصوم لا "من اختلاف" بين أحكامه كما أنه "مبرأ من حمالة التنافي" والتعارض بين مضامينه
(1)
الموافقات 4/ 227.
2886 -
فَلَزِمَ اعْتِبَارُنَا الأمْرَيْنِ
…
مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ بِحَالَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ
2887 -
فَالذَّمُّ بِالْتِفَاتِهَا مُجَرَّدَهْ
…
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُقْتَضٍ لِمَحْمَدَهْ
2888 -
غَيْرَ مُوَالَاةِ التَّمَتُّعَاتِ
…
لِرَاحَةِ النُّفُوسِ وَاللَّذَّاتِ
2889 -
فَهْيَ لِذَا لَهْوٌ بِغَيْرِ حلِّ
…
وَبَاطِلٌ مُسْتَوْجِبٌ لِلْبُعْدِ
2890 -
وَالْمَدْحُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا بَدَا
…
مِنْ حَالِهَا دَاعٍ إِلَى سُبْلِ الهُدَى
وما قرر فيه من أمر. وإذا تقرر هذا "فـ" قد "لزم" ووجب شرعا وعقلا "اعتبارنا" وتوجيهنا "الأمرين" ومقتضي الوصفين "من جهتين" مختلفتين "أو بحالتين متباينتين" يدفع بهما هذا التعارض المتوهم ويدرؤ بهما. وهذا أمر يتوصل إليه بأن يقال: إن للدنيا نظرين. أحدهما: أن ينظر لهما نظرا لا حكمة فيه ولا اعتبار بما وضعت له من كونها متعرفا للحق، ومستحقا لشكر الواضع، وهذا هو الوجه الكريه لها، "فالذم" لها إذن إنما يكون "بالتفاتها" يعني بالالتفات إليها وأخذها "مجردة" منزوعة "من كل وجه" نظري أو نفعي معتبر في معيار الشرع "مقتض" وموجب "لمحمدة" أو جزاء بخير فيها أو في الآخرة، بل من كان طائل "غير موالاة" ومناصرة الشهوات و"التمتعات" بها طلبا "لراحة النفوس و" رغبة في نيل "اللذات" البهيمية انتظاما في سلك البهائم، وبذلك "فهي" أي الدنيا "لذا" الأمر ومن هذه الجهة "لهو" ولعب "بغير حل" بلا جد "وباطل" كريه "مستوجب للبعد" لها، وعدم الالتفات إليه، كما أنها كذلك قشر بلا لب، لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا أو مشروبا أو منكوحا من غير زائد، ثم يزول عن قريب، فلا يبقى منه شيء. فذلك كأضغاث الأحلام، فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق، وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال الله - تعالى - من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به، ولذلك صارت أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وفي الآية الأخرى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
هذا هو الاعتبار والنظر الذي إذا أجري على الدنيا ذمت.
"و" أما "المدح" لها فإنه يكون "بـ" النظر الثاني لها وهو "اعتبار أن ما بدا" وظهر "من حالها" من الآيات والبراهين الدالة على وحدانية الله - تعالى - وربوبيته وألوهيته وما جرى مجرى ذلك هو أمر "داع" وهاد بلسان حاله "إلى سبل" وطرق "الهدا" والرشاد.
2891 -
وَأَنَّهَا نُعْمَى عَلَى الْعِبَادِ
…
وَسَبَبُ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ
2892 -
وَمِنْ هُنَا تَوَارُدُ الأَخْبَارِ
…
بِأَنَّهَا حَقٌّ لِلاسْتِبْصَارِ
2893 -
فَذَمُّهَا لَيْسَ عَلَى الإِطْلَاقِ
…
وَمَدْحُهَا لَيْسَ لِلاسْتِغْرَاقِ
2894 -
وَأَخْذُهَا بِالاعْتِبَارِ الأوَّلِ
…
يُذَمُّ فَهْوَ رَغْبَةُ الْمُسْتَعْجِلِ
" و" بذلك فإن العاقل إذا نظر إليها بهذا النظر أدرك "أنها نعمى" من رب العالمين "على العباد و" أن فيها يكتسب "سبب النجاة في المعاد" أي في الآخرة، فإذا أدرك ذلك انتدب إلى شكر هذه النعمة حسب قدرته وتهيئته، وصار ذلك القشر محشوا لبا، بل صار القشر نفسه لبا، لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها، فيشكر الله بها، وعليها، والبراهين - كما هو معلوم - مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل، فلا دق ولاجل من هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم، "ومن" هذا الذي تقرر "هنا" أتى طلب الالتفات إلى الدنيا متوسلا به إلى التحلي بهذه الحكمة، ووقع "توارد" وتتبع "الأخبار" - بفتح الهمزة وكسرها - من رب العالمين "بأنها" أي الدنيا أهل للاعتبار، و"حق للاستبصار" والاستهداء بها وبما فيها إلى إدراك الحق الذي هو قوامها. قال - تعالى -:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] وقال - سبحانه -: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27]. وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38، 39] وقال - سبحانه - {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: 8] إلى غير ذلك. ولأجل هذا صارت أعمال أهل النظر معتبرة مثبتة.
وإذا تقرر هذا "فذمها" أي الدنيا "ليس على الإطلاق" وإنما هو مقيد باعتبار تقدم من التجرد من النظر ذي الحكمة والاعتبار "و" كذلك "مدحها" فإنه - أيضا - "ليس" على وجه العموم "والاستغراق" بل هو مخصص بما إذا أخذت بحكمة واعتبار واستبصار، واتخذت مسرحا لذلك متوسلا بها إلى درك الحق التي تشهد به، وعليه.
"و" بذلك كان "أخذها بالاعتبار الأول" المجرد من الحكمة "يذم" به أمرها وحالها، وهذا الأخذ في واقع الأمر هو المذموم "فهو" أخذ من لا يعقل، ولا بصيرة عنده وبذلك استحوذت عليه "رغبة المستعجل" المحب للعاجلة.
2895 -
وَتَرْكُهَا مِنْهُ هُوَ الزُّهْدُ الذِي
…
هُوَ لِمَنْ يَفْعَلُ أَسْنَى مَأْخَذِ
2896 -
وَأَخْذُهَا بِالاعْتِبَارِ الثَّانِي
…
لَيْسَ بِمَذْمُومٍ مِنَ الإِنْسَانِ
2897 -
وَلَا يُسَمَّى رَغْبَةً وَالزُّهْدُ
…
فِيهَا عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ حَمْدُ
2898 -
وَمِنْهُ كَانَ الأخْذُ لِلصَّحَابَهْ
…
لَهَا عَلَى التَّوْفِيقِ وَالإِصَابَهْ
2899 -
إِذْ جَعَلُوهَا مَرْكَبًا لِلآخِرَهْ
…
وَحَالُهُمْ فِي الزُّهْدِ غَيْرُ قَاصِرَهْ
2900 -
وَكَمْ لِهَذَا الْفَصْل مِنْ فَوَائِدِ
…
يَعُمُّ نَفْعُهَا لَدَى مَوَارِدِ
" وتركها منه" أي من جهة هذا الاعتبار وعملا بمقتضاه "هو الزهد" فيها "الذي هو لمن يفعلـ "ـه ويأتيه "أسنى" وأعلى "مأخذ" لها بهذا الاعتبار. "و" أما "أخذها بالاعتبار الثاني" المتصف بالحكمة والاستهداء بها إلى الحق فإنه "ليس بمذموم" وقوعه وحصوله "من الإنسان ولا يسمى" أخذه لها من هذه الجهة وبهذا الاعتبار "رغبة" فيها "والزهد فيها" عملا بهذا الاعتبار وتأسيسا "عليه ليس فيه حمد" ولا مدح من جهة الشرع، بل هذا يسمى سفها وكسلا، وتبذيرا، ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا.
"ومنه" أي من هذا الوجه - وبهذا الاعتبار - "كان الأخذ للصحابة لها" فكانوا في ذلك ماضين "على التوفيق" من الله - تعالى - لهم "و" على "الإصابة" للحق "إذ جعلوها مركبا" ومطية "للآخرة وحالهم في" شأن "الزهد" فيها حال "غير قاصرة" عن كل أي كان من المسلمين، فقد كانوا أورع الناس في كسبها، وأزهد الناس فيها، فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار، وحاش لله من ذلك. إنما طلبوها من الجهة الثانية فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم، كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى، فكان ذلك - أيضا - من جملة عبادات رضي الله عنهم وألحقنا بهم، وحشرنا معهم، ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه.
وإذا علمت هذا أدركت وجه الصواب والحق في هذا الشأن.
"وكم لـ" هذا الذي تقرر في "هذا الفصل من فوائد" علمية يستضاء بها في هذا الشأن، ويستهدى بمقتضاها فيه، وبذلك "يعم نفعها لدى" أي في "الموارد" أي موارد الأحكام
2901 -
كَالْفصْلِ فِي مَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ
…
بَيْنَ الْغَنِي وَالْفَقِيرِ بِالتَّفْصِيلِ
"
النظر الثاني" في أحكام السؤال والجواب
2902 -
وَذَاكَ مَنْسُوبٌ إِلَى عِلْمِ الْجَدَلْ
…
وَهْوَ عَلَى مَسَائِلٍ قَدِ اشْتَمَلْ
المتعلقة بهذا الشأن وذلك "كالفصل" بين المختلفين "في مسألة التفضيل" في الدرجات "بين" الشخص "الغني و" الشخص "الفقير" والحكم في ذلك "بـ"ـمقتضى "التفصيل" الوارد في هذا الشأن في هذا الفصل، وهو أن الفقر ليس أفضل من الغنى بإطلاق، كما أن الغنى ليس أفضل بإطلاق، بل الأمر في ذلك يتفصل، فإن الغنى إذا مال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموما، وكان الفقر أفضل منه، وإن مال إلى إيثار الآجلة بإنفاقه في وجهه والاستعانة به على التزود للمعاد فهو أفضل من الفقر. والله موفق بفضله.
"فصل"
واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء الكتاب؛ فلذلك اختصر القول فيه، وأيضا فإن ثم أحكاما أخر تتعلق به، قلما يذكرها الأصوليون، ولكنها بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب كالفروع، فلم نتعرض لها؛ لأن المضطلع بها يدرك الحكم فيها بأيسر النظر والله المستعان. وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر، والأصل العتيد، لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح
(1)
.
"النظر الثاني" المتعلق بلواحق الاجتهاد وهو النظر "في أحكام السؤال والجواب".
"وذاك" الموضوع - السؤال والجواب - الذي نحن فيه الآن "منسوب إلى علم الجدل" باعتبار أنه طرف منه، وقد صنف الناس من المتقدمين والمتأخرين في هذا العلم، "و" الذي يتعلق ببيانه الغرض منه في هذا الكتاب "هو" موضوع "على مسائل" ست "قد اشتمل" وببيانها يتبين أمره، ويتضح حاله.
(1)
الموافقات 4/ 229.
"
المسألة الأولى
"
2903 -
ثُمَّ الذِي يُلْقِى السُّؤَالَ مُجْتَهِدْ
…
أَوْ عَكْسُهُ إِمَّا لِمِثْلٍ أَوْ لِضِدْ
2904 -
فَأُوَّلٌ يَكُونُ لِلتَّبَصُّرِ
…
وَرَفْعِ إِشْكَالٍ وَللتَّذَكُّرِ
2905 -
وَالْقَصْدِ لِلتَّنْبِيهِ بِالإِفَادَهْ
…
يُورِدُهَا مَوْرِدَ الاسْتِفَادَهْ
2906 -
وَقَصْدَ أَنْ يَنُوبُ عَمَّنْ قَدْ حَضَرْ
…
أَوْ غَيْرِ مَا قَدْ مَرَّ مِمَّا يُعْتَبَرْ
2907 -
وَالثَّانِ لِلتَّنْبِيهِ بِالإِشْكَالِ
…
كَيْ مَا يَزولَ وَللاسْتِدْلَالِ
" المسألة الأولى" منها: في أنه بعد ذكر أن لهذا النظر الثاني متعلقه السؤال والجواب، "ثم" ذكر أن هذا منسوب إلى علم الجدل، ينتقل إلى ذكر متضمن هذه المسألة وهو أن "الذي يلقى السؤال" إما عالم "مجتهد أو عكسه" وهو المقلد. وعلى كلا التقديرين "إما" أن يكون السؤال ملقى "لمثل" السائل من حيث كونه عالما "أو لضد"ـه وهو المقلد، فهذه أربعة أقسام:
"فـ" أما الـ "أول" منها الذي هو سؤال العالم غيره في المشروع فإنه يقع و"يكون لـ" وجوه أحدها: "التبصر" ومعرفة حقيقة ما وقع السؤال عنه من أمر، وصورة وقوعه، وحصوله. "و" ثانيها "رفع إشكال" عن له، فيلقي السؤال ممهدا به لذلك، متوسلا به إليه.
"و" ثالثها: أن يكون ذلك "للتذكر" لما خشي عليه النسيان.
"و" رابعها: "القصد للتنبيه" للمسؤول على خطأ أتاه "بـ" طريق "الإفادة" والبيان.
ولكنه "يوردها مورد الاستفادة" ويسوقها مساق الاستفسار والاستفهام وقد يكون ذلك صادرا منه "وقصد "ـه "أن ينوب عمن قد حضر" في المجلس الذي أورد فيه ذلك السؤال من المتعلمين "أو غير ما قد مر" ذكره وهو "مما يعتبر" سببا في ذلك كتحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم. "و" أما "الثان" وهو سؤال العالم للمتعلم فإنه يكون "للتنبيه بـ" يعني على "الإشكال" وبيان موضعه وذلك "كي ما" يرفع و"يزول" بالبيان المزيل له "و" قد يكون تنبيها "للاستدلال" يعنى على الاستدلال بما علم على ما لم يعلم بحيث يذكره بما تقرر عند من علم ثم يحيل نظره عليه في بناء الحكم المطلوب.
2908 -
وَلاخْتِبَارِ عَقْلِهِ فِي عِلْمِهِ
…
وَالاسْتِعَانَةِ بِفَضْلِ فَهْمِهِ
2909 -
وَثَالِثٌ بِالْقَصْدِ لِلْمُذَاكَرَهْ
…
لِمُقْتَضَى تَفْهِيمِ مَنْ قَدْ ذَاكَرَهْ
2910 -
أَوِ التَّهَدِّي مَعَهُ لِلْفَهْمِ
…
أَوْ لِتَمَرُّن مَعًا فِي الْعِلْمِ
2911 -
وَالْكُلُّ مِنْهَا لِلْجَوابِ مُسْتَحِقْ
…
مَعْ عِلْمِهِ أَوْ قَوْلُ لَا أَدْرِي يَحِقْ
2912 -
وَالرَّابِعُ الْحَالُ بِهِ تَفْصِيلِي
…
بِنِسْبَةِ السَّائِلِ وَالْمَسْؤُولِ
2913 -
فَيُلْزَمُ الْجَوَابُ فِيمَا يَعْلَمُ
…
عِنْدَ تَعَيُّنٍ لَهُ يَسْتَلْزِمُ
2914 -
فِي نَازِلٍ مُنْتَسِبٍ لِلشَّرْعِ
…
أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ نَصٌّ شَرْعِي
" و" قد يكون - أيضا - "الاختبار عقله في علمه" وذكائه أي بلغ شأنه في قنص المعقولات وإدراك المضمرات من المعاني. "و" كذلك قد يكون "الاستعانة" بحسب إدراكه للمعرفة و"بفضل فهمه" إن كان له ذلك "و" أما القسم الذي هو "ثالث" وهو سؤال المتعلم لمثله فإنه قد يكون "بـ" سبب "القصد للمذاكرة" والمباحثة بين السائل والمسؤول سعيا "لـ" لاستفادة من "مقتضى" وثمار "تفهيم" وتعليم "من قد ذاكره" وناقشه في ذلك وقد يكون ذلك - أيضا - بسبب السعي إلى التوصل "أو التهدي" أي الاهتداء
بالتدرج "معه" أي المسؤول "للفهم" والإدراك للمعنى المطلوب فهمه وإدراكه من كلام "أو لتمرن" وتدرب يحصل منهما "معا في" شأن كسب "العلم" والتصرف النظري فيه على صواب، وسداد قبل لقاء العالم. "و" هذه الأقسام "الكل" أي كل واحد "منها للجواب مستحق" - بكسر الحاء - لكن "مع علمه" أي ذلك الجواب، والإطلاع عليه، وفقد المانع العارض المعتبر شرعا في ذلك فإن تخلف شيء من هذا فالمصير إليه في ذلك هو السكوت "أو قول لا أدري" فإنه قول "يحق" ويجب في هذا المقام.
"و" أما القسم "الرابع" - وهو سؤال المتعلم العالم، وهو يرجع: إلى طلب علم ما لم يعلم - فإنه "الحال" الذي عليه أمر الجواب فيه غير متحد بل هو "تفصيلي" وذلك "بنسبة" أي اعتبار أحوال "السائل والمسؤول". وبذلك "فـ" إنه "يلزم" المسؤول "الجواب فيما" سئل عنه إذا كان "يعلمـ "ـه وذلك "عند" حصول "تعين له" أي لذلك الجواب عليه بحيث يكون فرض عين عليه، وهذا أمر "يستلزم" ويستوجب عليه ذلك "في" كل أمر "نازل" بالناس واقع عليهم "منتسب" الحكم المطلوب فيه "للشرع" لا غير، "أو ما يكون فيه نص شرعي" هو الدليل،
2915 -
بِنِسْبَةٍ لِسَائِلٍ لَا مُطْلَقَا
…
وَحَالُهُ لَا يَقْتَضِي تَعَمُّقَا
2916 -
وَأَنْ يَرَى مِمَّا عَلَيْهِ عَمَلُ
…
وَعَقَلُ سَائِلٍ لَهُ يَحْتَمِلُ
2917 -
وَلَيْسَ بِاللَّازِمِ فِي مَوَاضِعِ
…
كمِثْلِ مَا يَعْدَمُ نَصُّ الشَّارعِ
2918 -
فِي شَأَنْهِ أَوْ مُسْتَنِدٍ إِلَيْهِ
…
لَيْسَ لَهُ تَعَيُّنٌ عَلَيْهِ
2919 -
وَغَيْرُ جَائِزِ بِحَيْثُ يَقْتَضِى
…
تَعَمُّقَا أَو حَالَةَ الْمُعْتَرِض
2920 -
أَوْ كانَ عَقْلُ سَائِلٍ لَا يَحْتَمِلْ
…
جَوَابَهُ وَقِسْ عَلَيْهِ وَاسْتَدِلْ
وإن لم يكن أمرا نازلا، وهذا "بنسبة" أي اعتبار كون الـ "سائل" متعلما، "لا مطلقا" وكون شأن السؤال "وحاله لا يقتضي" ولا يستوجب "تعمقا" وتكلفا في حق السائل "وأن يرى" ويعتقد أنه "مما" يبنى "عليه عمل" شرعي "و" أن يكون الجواب مما "عقل" الذي "سائل" عنه "له يحتمل" ويطيق.
وأشباه ذلك مما يعد من شروط هذا الأمر هذا حالما ما يلزم فيه الجواب في هذا القسم "وليس" الجواب "باللازم" للمسؤول في ما كان حاله على خلاف ما ذكر، وذلك يتجلى "في مواضع" معينة "كمثل ما" أي الموضع "يعدم" ويفقد "نص الشارع" دليلا "في شأنه" وحاله، وإنما معتمد الحكم فيه الاجتهاد فقط.
"أو" كمثل ما هو من الأجوبة "مسند إليه" أي المسؤول ومطلوب منه ولكن "ليس له" أي لذلك الجواب "تعين عليه" أي على ذلك المسؤول، إذ يوجد غيره ممن يقوم بذلك من غير تقصير، أو قصور منه في ذلك. "و" قد يكون الجواب "غير جائز" أصلا، وذلك "بحيث" يوجب ذلك الجواب و"يقتضي تعمقا" في النظر والعمل لا حاجة إليه شرعا، "أو" يقتضى ويستوجب مسايرة "حالة" السائل "المعترض" الذي يكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط المتضمنة نوعا من الإعتراض "أو كان عقل" الـ "سائل لا" يطيق ولا "يحتمل جوابه" أي جواب ما سأل عنه لضعف في قوة إدراكه وفهمه.
"و" هذا الذي ذكره من موانع الجواب "قس عليه" ما أشبهه من جهة تضمنه للمفسدة الراجحة على مصلحة الجواب "واستدل" بذلك على هذا المنع.
"
المسألة الثانية
"
2921 -
وَكَثْرَةُ السُّوَالِ مِمَّا ذُمَّا
…
وَالنَّقْلُ فِيهِ مُسْتَفِيضٌ عَمَّا
" المسألة الثانية"
في أن كثرة الأسئلة مما يطلب اجتنابه ويحق.
"و" بيان ذلك أن "كثرة السؤال" والمبالغة فيه "مما ذمّا" - الألف للإطلاق - ونهي عنه شرعا، "و" الدليل على ذلك "النقل" الوارد فيه، وهو "مستفيض" وكثير "عما" - الألف للإطلاق - وروده في الكتاب والسنة. ومن ذلك قوله - تعالى -:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]- وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] الآية. فقال رجل: يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام ثلاثا وفي كل ذلك يعرض وقال في الرابعة والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم فذروني ما تركتكم وفي مثل هذا نزلت {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الآية، وكره عليه الصلاة والسلام المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وكان عليه الصلاة والسلام يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم وقال:"إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها".
وقال ابن عباس: "ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم كلهن في القرآن {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم يعني أن هذا كان الغالب عليهم وفي الحديث إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه فحرم عليهم من أجل مسألته وقال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب فذكر الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما ثم قال من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا قال فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول سلوني فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال من أبي فقال
2922 -
وَانْظُرْ إِلَى قِصَّةِ أَهْلِ الْبَقَرَهْ
…
فَإِنَّهَا فِي شَأْنِهَا مُعْتَبَرَهْ
2923 -
وَمُكْثِرٌ مِنَ السُّوَالِ يُزْجَرُ
…
وَإِنْ يَعُدْ فَمَا قَضَاهُ عُمَرُ
2924 -
وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّهِ مَا يَرْجِعُ
…
إِلَى الْمَسَائِلِ التِي لَا تَنْفَعُ
2925 -
أَوْ لِلأغَالِيطِ التِي لَا تُعْتَبَرْ
…
وَكَمْ أَتَى فِي النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ أَثَرْ
أبوك حذافة فلما أكثر أن يقول سلوني برك عمر بن الخطاب على ركبتيه فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبينا قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك وقال: أولا والذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير والشر، وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال سلوني في معرض الغضب، تنكيلا بهم في السؤال حتى يروا عاقبة ذلك ولأجل ذلك ورد في الآية قوله {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]
(1)
.
"وانظر" كذلك "إلى قصة" بني إسرائيل "أهل البقرة فإنها في شأنها" ومضمونها "معتبرة" في هذا الأمر، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: لو ذبحوا بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون. وقال الربيع بن خيثم: يا عبد الله، ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه ولا تتكلف فإن الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86].
"و" كل من هو "مكثر من السؤال" يردع و"يزجر" عن ذلك "وإن يعد" إلى ذلك ولم ينكف عنه "فـ" حكمه هو "ما قضاه" وحكم به "عمر" بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك وهو الضرب كما في قصته مع صبيع هذا "وإن من أشده" من جهة ذم الشرع له ونهيه عنه "ما يرجع إلى المسائل التي لا تنفع" في واقع الأمر وإنما يؤتى بها على سبيل الافتراض والاحتمالات الذهنية، "أو ما يرجع للأغاليط" - جمع أغلوطة وهي ما ركب ووضع لإيقاع الناس في الغلط بها على وجه ما وهي بمقتضى ما بني عليه العلم الشرعي "التي لا تعتبر" ولا يعتد بها لأنها ليست من قبيل العلم النافع الذي يطلب للعمل، "وكم أتى" وورد عن الشارع "في" شأن "النهي عنها من أثر" وخبر، فقد روي عن ابن عمر أنه
(1)
الموافقات 4/ 232 - 233.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال: لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الأغلوطات، فسره الأوزاعي فقال: يعنى صعاب المسائل وذكرت المسائل عند معاوية فقال أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل، وعن عبدة بن أبي لبابة قال وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم وورد في الحديث إياكم وكثرة السؤال وسئل مالك عن حديث نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال قال أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وقال الله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فلا أدري أهو هذا أم السؤال في الاستعطاء.
وعن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن فإن الله بين ما هو كائن وقال ابن وهب قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل يا عبد الله ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء وقال الأوزاعي إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط وعن الحسن قال إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل يعنتون بها عباد الله وقال الشعبي والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلي من كناسة داري قلت من هم يا أبا عمر قال الأرأيتيون وقال ما كلمة أبغض إلي من أرأيت وقال أيضا لداود ألا احفظ عني ثلاثا إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله قال في كتابه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] حتى فرغ من الآية والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء فربما حرمت حلالا أو حللت حراما والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك وقال يحيى بن أيوب بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون إذا أراد الله أن لا يعلم عبده أشغله بالأغاليط والآثار كثيرة. والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه وكانوا يحبون أن يجئ الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم ألا ترى ما
2926 -
وَمِنْهُ غَيْرُ نَافِعٍ فِي الدِّينِ
…
كَقِصَّةِ الْهِلَالِ بِالتَّعْيِينِ
في الصحيح عن أنس قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأمارتها ثم أخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه جبريل وقال أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا وكان أصحابه يهابون ذلك قال أسد بن الفرات وقد قدم علي مالك وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة فإذا أجاب يقولون قل له فإن كان كذا فأقول له فضاق علي يوما فقال لي هذه سليسلة بنت سليسلة إن أردت هذا فعليك بالعراق وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لا يغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي وقد جاء عن عائشة أن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة فقالت لها أحرورية أنت إنكارا عليها السؤال عن مثل هذا وقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة فقال الذي قضى عليه كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل ولا شهق ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال عليه الصلاة والسلام إنما هذا من إخوان الكهان وقال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها فقال سعيد أعراقي أنت فقلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم فقال هي السنة يا ابن أخي وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة
(1)
.
فصل: في بيان أن لكراهية السؤال مواضع نذكر بعضا من ذلك وهو عشرة مواضع.
"ومنه" السؤال الذي هو "غير نافع في الدين" بحيث لا يثمر علما نافعا، ولا عملا مطلوبا شرعا، وذلك "كـ" السؤال الوارد في "قصة الهلال" وهو أنه عليه الصلاة والسلام سئل ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان هذا ما سألوا عنه "بالتعيين" وبالذات، فأنزل الله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] الآية فأجيبوا بما ينفعهم، وما يفهمون وترك الجواب عما سئل عنه بالذات والتعيين لأنه غير نافع لهم.
(1)
الموافقات 4/ 233 - 234 - 235.
2927 -
وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ لَهُ فِي الْوَقْتِ
…
وَمَا لَهُ تَعَمُّقٌ ذُو مَقْتِ
2928 -
وَمَا يُرَى مِنْ بَعْدِ عِلْمِ مَا كَفَا
…
أَوْ مَا لَهُ تَشَابُهٌ قَدْ عُرِفَا
2929 -
وَمَا يُرَى صَعْبًا مِنَ الْمَسَائِلِ
…
وَهْيَ شِرَارُهَا بِقَصْدِ السَّائِلِ
" و" منه السؤال الذي هو "غير محتاج إليه في الوقت" الذي أورد فيه.
قال الشاطبي: "وكان هذا - والله أعلم - خاصا بما لم ينزل فيه حكم وعليه يدل قوله: "ذروني ما تركتكم" وقوله: "وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها"
(1)
.
"و"منه السؤال عن "ما له تعمق" نظري لا حاجة إليه شرعا، وهذا الضرب من الأسئلة أمر "ذو مقت" يمقته الله - تعالى - ويبغضه ولا يرضاه لعباده ذلك ويدل على هذا قوله تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86] ولما سأل الرجل يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع قال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا.
"و" منه السؤال الحاصل الذي "ما يرى" أي يوجد "من بعد" معرفة و"علم ما" قد "كفا" من العلم والمعرفة في شأن ما، وذلك كمثل سؤال الرجل عن الحج هل يجب فعله في كل عام؟ مع أن قوله - تعالى -:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] قاض بظاهره أنه للأبد، لإطلاقه، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله - تعالى -:{اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
ومنه سؤال عما يخفى مراده عن مدارك الخلق "أو ماله تشابه قد عرفا" - الألف للإطلاق - وعلم وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} [آل عمران: 7] الآية وعن عمر بن عبد العزيز من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة. "و" منه "ما يرى" أي يقع سؤالا عما يعد "صعبا من المسائل، وهي شرارها" ويكون ذلك منتقى "بقصد السائل" وعزم منه عليه، وهذا منهي
(1)
الموافقات 4/ 236.
2930 -
وَكُلُّ مَا شَجَرَ بَيْنَ السَّلَفِ
…
فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالإِمْسَاكِ حَفِي
2931 -
وَكُلُّ مَا يُقْصَدُ لِلإِفْحَامِ
…
أَوْ طَلَبِ الظُّهُورِ فِي الْخِصَامِ
2932 -
وَعِلَّةُ الْحُكْمِ الذِي لَا يُعْقَلُ
…
مَعْنَاهُ لِلْقَاصِرِ عَنْهُ يَسْأَلُ
2933 -
وَمَا يُرَى الرَّأْيُ بِهِ قَدْ نَابَا
…
مُعَارِضًا سُنَّةً أَوْكِتَابَا
كما في النهي عن الأغلوطات السؤال عن "وكل ما شجر" أي وقع من الاختلاف "بين السلف" الصالح حتى تشاجروا "فإنه أمر" حري "بالإمساك" عن الخوض فيه "حفي" أي جدير وحقيق فقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال تلك دماء كف الله عنها يدي فلا أحب أن يلطخ بها لساني.
"و" منه السؤال عن "كل ما يقصد" ويراد "للإفحام" والإسكات للخصم "أو طلب للظهور" والانتصار "في الخصام" والنزاع فقط، ففي القرآن في ذم نحو هذا قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة: 204]. وقوله - سبحانه -: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف: 58]. وفي الحديث "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
"و" منه السؤال "عن علة الحكم الذي لا يعقل معناه" وعلته كالأمور التعبدية وكذلك الأمر بالنسبة للعاجز عن إدراك معنى الحكم و "للقاصر عنه" إذا كان "يسأل" عنه، وإن لم يكن مجهول المعنى. كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.
"و" منه السؤال عن كل "ما يرى" أي يوجد "الرأي به" أي فيه "قد نابا" - بالنون - أي نزل ووقع "معارضا سنة" نبوية ثابتة "أو كتابا" أي نصا منه. فقد قيل لمالك بن أنس الرجل يكون عالما بالسنة فإن قبلت منه، وإلا سكت. هذه الجملة من المواضع التي يكره السؤال فيها يقاس عليها ما سواها وليس النهي فيها واحدا بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخف ومنها ما يحرم ومنها ما يكون محل اجتهاد وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء إن المراء في القرآن كفر وقال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] الآية وأشباه ذلك من الآيات أو الأحاديث فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه والجواب بحسبه"
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ 237.
"
المسألة الثالثة
"
2934 -
الْكُبَرَاءُ تَرْكُ الاعْتِرَاضِ
…
عَلَيْهِمُ يُحْمَدُ فِي الأغْرَاضِ
2935 -
كَانَ الذِي يَصْدُرُ عَنْهُمْ يُفْهَمُ
…
مَعْنَاهُ أَوْ يَكُونُ لَيْسَ يُعْلَمُ
2936 -
دَلِيلُهُ قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرْ
…
وَغَيْرِهَا مِمَّا بِذَا الْمَعْنَى اعْتُبِرْ
" المسألة الثالثة"
في أن "الكبراء" من أهل العلم والنظر "ترك الاعتراض عليهم" مسلك ممدوح وأمر "يحمد في" الذي يحمد من "الأغراض" والمقاصد والأهداف، لأنه دال على حسن الخلق وجمال الطبع وحسن الإدراك، سواء "كان الذي يصدر عنهم" من أمر مما "يفهم معناه" ويدرك المراد به "أو يكون" يعني أو كان مما "ليس يعلم" معناه على ما قاله الشاطبي.
وهذا "دليله" أمور: أحدها ما ورد في "قصة موسى والخضر" عليهما السلام وما اشترطه عليه من أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا، فكان ما قصه الله - تعالى - من قوله - تعالى -:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وقول محمد صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله موسى لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما" وموسى وإن كان تكلم بلسان العلم، فإن الخروج عن الشرط يوجب الخروج عن المشروط "وغيرها" أي هذه القصة "مما" قد "بدا" وظهر بذا "المعنى" ودل عليه، فاعتد به و"اعتبر" مقتضاه في هذا الشأن فقد روي في الأخبار أن الملائكة لما قالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] رد الله عليهم بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وأرسل عليهم نارا فأحرقتهم وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] فهو الذي كتب له به الشقاء إلى يوم الدين لاعتراضه على الحكيم الخبير وهو دليل في مسألتنا وقصة أصحاب البقرة من هذا القبيل أيضا حين تعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم والثاني ما جاء في الأخبار كحديث تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فاعترض في ذلك بعض الصحابة حتى أمرهم عليه الصلاة والسلام بالخروج ولم يكتب لهم شيئا وقصة أم إسماعيل حين نبع لها ماء زمزم فحوضته ومنعت الماء من السيلان فقال عليه الصلاة والسلام: لو تركت لكانت زمزم عينا معينا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي الحديث أنه طبخ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدر فيها لحم فقال ناولني ذراعا قال الراوي فناولته ذراعا فقال ناولني ذراعا فناولته ذراعا فقال ناولني ذراعا فقلت يا رسول الله كم للشاة من ذراع فقال: والذي نفسي بيده لو سكت لأعطيت ذراعا ما دعوت وحديث علي قال دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة قال فجلست وأنا أعرك عيني وأقول إنا والله ما نصلي إلا ما كتب الله لنا إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا" وحديث "يا أيها الناس اتهموا الرأي فإنا كنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددناه" ولما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن جد سعيد بن المسيب فقال له ما اسمك قال حزن قال بل أنت سهل قال لا أغير اسما سماني به أبي قال سعيد فما زالت الحزونة حتى اليوم والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والثالث ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ ولا سيما عند الصوفية فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري عنهم أن التوبة منه لا تقبل والزلة لا تقال ومن ذلك حكاية الشاب الخديم لأبي يزيد البسطامي إذ كان صائما فقال له أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي: "كل معنا يا فتى فقال أنا صائم فقال أبو تراب كل ولك أجر شهر فأبى فقال شقيق كل ولك أجر صوم سنة فأبى فقال أبو يزيد دعوا من سقط من عين الله" فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله هذه سليسلة بنت سليسلة إن أردت هذا فعليك بالعراق فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه في جوابه ومثله أيضا كثير لمن بحث عنه فالذي تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها أو لا تقع من فهم السامع موقعها أن لا يواجه بالاعتراض والنقد فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح وأحرى بإدراك البغية إن شاء الله تعالى
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ 238 - 239.
"
المسألة الرابعة
"
2937 -
الاعْتِرَاضَاتُ عَلَى الظَّوَاهِرِ
…
غَيْرُ صَحِيحَةٍ لأَمْرٍ ظَاهِرِ
2938 -
وَذَاكَ أَنَّ النَّصَّ مِمَّا يَنْذُرُ
…
وُجُودُهُ أَوْ شَأْنُهُ التَّعَذُّرُ
2939 -
لِلاحْتِمَالَاتِ التِي لَا يَسْلَمُ
…
مِنْهَا اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُفْهِمُ
2940 -
وَالْمُجْمَلُ الشَّأْنُ بِهِ التَّوَقُّفُ
…
عَلَى مُبَيِّنٍ لَهُ يُعَرِّفُ
2941 -
وَعِنْدَ ذَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُ الظَّاهِرِ
…
فَيُقْتَفَى فِي كُلِّ مَعْنىً صَادِرِ
2942 -
وَالاعْتِرَاضُ فِيهِ لِلْتَكَلُّفِ
…
مُنْتَسِبُ الْحُكْمِ وَللتَّعَسُّفِ
" المسألة الرابعة"
في أن "الاعتراضات على" دلالة الألفاظ على الأحكام والمعاني بمقتضى "الظواهر" أي ظواهرها التي مفادها المعاني والأحكام الظنية اعتراضات "غير صحيحة" وذلك "لأمر ظاهر" بين "وذاك" الأمر هو: أولا: أن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشرع و"أن النص" الذي دلالتة قطعية والذي لا يحتمل إلا معنى واحد "مما ينذر وجوده" ويقل وروده في هذا الكلام "أو" يعني بل "شأنه" هو "التعذر" أي تعذر وجوده على وجه تام كامل فيه وذلك لـ "لاحتمالات" العشرة المتقدم ذكرها في المسألة التاسعة من كتاب المقاصد و"التي لا يسلم منها اللسان العربي المفهم" لمراد المتكلم وقصده، فإذا ورد دليل منصوص وهو بلسان العرب، فالاحتمالات دائرة به، وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين، فلم يبق إلا الظاهر "والمجمل" الذي انبهم معناه "الشأن" والحكم الجاري "به" أي فيه هو "التوقف" فيه أو البحث "على" دليل "مبين له يعرف" المعنى المراد به.
"وعند ذا" تعلم أنه "لم يبق غير الظاهر" معتمدا في بيان المعاني، وأخذها، وبذلك "فـ" إنه الذي "يقتفى" مقتضاه "في كل معنى صادر" من المتكلم.
"و" مورد "الاعتراض" على حجيته والقدح "فيه" باعتبار أنه ليس قطعي الدلالة، أمر "للتكلف" والتعمق "منتسب الحكم" يعني هو أمر منسوب في هذا الشأن للتكلف والتعمق "وللتعسف" وهو الذهاب في الأمر على عماية، وتخبط.
2943 -
وَمُقْتَضَى تَطْرِيقِ الاحْتِمَالِ
…
يُوقِعُ فِي الرَّفْعِ وَفي الإِشْكَالِ
" ومقتضى" بناء هذا الاعتراض على مجرد "تطريق" يعني تطرق "الاحتمال" إلى معاني الظواهر باعتبار أنها ليست قطعية الدلالة أمر "يوقع في الرفع" لشريعة "وفي الإشكال" إذ لن يبقى لها دليل يعتمد لورود الاحتمالات وإن ضعفت على كل لفظ ذي دلالة ظاهرة، والاعتراض المسموع المقبول مثله يضعف الدليل فيودى إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها، كذلك باتفاق.
ووجه ثالث: لو اعتبر مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب ولا لإرسال النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فائدة. إذ يلزم أن لا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات، إذ ليست في الأكثر نصوصا لا تحتمل غير ما قصد بها لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول فما يلزم عنه كذلك.
ووجه رابع: وهو أن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم منه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية؟ ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شدد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن لهم إليه حاجة مع ظهور المعنى. وكذلك ما جاء في الحديث في قوله: "أحجنا هذا لعامنا أو للأبد" وأشباه ذلك. بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم، ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال، فاعتبروه وقالوا فيه وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل، فذموا بذلك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالحذر منهم.
ووجه خامس: وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية والعمومات المتفق عليها كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84، 85]، إلى قوله:{قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم، وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء وقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت: 61] يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعد ما أقروا، فيدعون لله شريكا، وقال تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] إلى قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6] وأشباه ذلك. مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه
2944 -
وَقَبْلُ مَرَّ أَنَّ مُجْرَى الْعَادَهْ
…
تَخَاطُبًا مُعْتَمَدُ الإِفَادَهْ
2945 -
كمَا مَضَى كَيْفَ اقْتِنَاصُ الْقَطْعِ
…
مِمَّا لِظَنِّ فِي الدَّلِيلِ الشَّرْعِي
2946 -
وَهْوَ خُصُوصِيَّةُ ذَا الْكِتَابِ
…
وَحُكْمُهُ يَعُمُّ فِي الأَبْوَابِ
وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول. ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم، لكن الأمر على خلاف ذلك فدل على أنه ليس مما يعترض عليه، وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليلا يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الاعتقادية فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية، كقوله:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ} [الروم: 28] الآية وقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] وأشباه ذلك واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهة ولا قريبة من البديهة هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية فدخلوا في أشد مما منه فروا ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولا بالشريعة فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود
(1)
.
"و" قد مضى "قبل" فيما تقدم و "مر أن مجرى العادات تخاطبا" أي في شأن التخاطب "معتمد الإفادة" - فيه إضافة الصفة للموصوف أي إفادته معتمدة - بل هو قطعي في الجملة وإن طرق العقل إليه احتمالات، فكذلك العبارات لأنها في الوضع الخطابي تماثل مجاري العادات، أو تقاربها. "كما مضى" أيضا ذكر "كيف" يحصل "اقتناص" واستخراج إفادة "القطع" والجزم "مما" من الدلالة ينسب لإفادة "لظن في الدليل الشرعي" وذلك الكيف هو الاستقراء لأحوال الأدلة ومقتضياتها الظنية وضم بعضها إلى بعض حتى يحصل القطع بمدلولاتها وهذا مفصل في تضاعيف ما تقدم بيان سبيل هذا القنص وكيفيته "هو خصوصية ذا الكتاب" وما انفرد فيه بالسبق يدرك هذا منه من تأمله ومقتضى هذا السبيل "وحكمه يعم" كل الأدلة الظنية الشرعية ويجري أمره "في" جميع "الأبواب" كما مر ذكر ذلك في المقدمة الثالثة.
(1)
الموافقات 4/ 240 - 241 - 242.
"
المسألة الخامسة
"
2947 -
وَإِنَّ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّهْ
…
قَوَاعِد أَصْلِيَّةً كُلِّيَّهْ
2948 -
ثُمَّ عَنِ الْقَوَاعِدِ الأَصْلِيَّهْ
…
تَنْشَأُ جُزْئِيَّاتِهَا الْفَرْعِيَّهْ
2949 -
وَنَاظِرٌ فِي ذَاكَ إِمَّا مُجْتَهِدْ
…
لِنَفْسِهِ فِيمَا عَلَيْهِ يَعْتَمِدْ
2950 -
إِمَّا مُنَاظِرٌ فَأَمَّا الأَوَّلُ
…
فَالْحُكْمُ لاجْتِهَادِهِ مُوَكَّلُ
2951 -
فَمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ عِلْمُهُ
…
يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ حَالٍ حُكْمُهُ
2952 -
لَاكِنَّمَا الْقَوَاعِدُ الأَصْلِيَّهْ
…
تَثْبُتُ عَنْ أَدِلَّةٍ قَطْعِيَّهْ
2953 -
ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا مِنْ عَقْلِ
…
أَوْ مِنْ دَلِيلٍ رَاجِعٍ لِلنَّقْلِ
" المسألة الخامسة"
في أن الناظر في المسائل الشرعية إما أن يكون مجتهدا أو مناظرا، ثم إنه إما أن يكون ناظرا في قواعدها الأصلية، وإما أن يكون في جزئياتها الفرعية، وأن هذا ناظر كيفما كان تتعلق به أحكام في هذا الشأن "و" بيان ذلك "إن في المسائل الشرعية" كما هو معلوم ومقرر "قواعد أصلية كلية" تقدم بيانه بالتفصيل "ثم عن" هذه "القواعد الأصلية تنشأ" وتتفرع "جزئياتها الفرعية" كما هو معلوم.
ومن هو "ناظر في ذاك" سواء كان أصولا أو فروعا "إما مجتهد" يجتهد وينظر لاستخراج الحكم "لنفسه" ومعرفة الصواب "فيما عليه يعتمد"ـه من رأي أو قول في ذلك. و"إما مناظر" لغيره مناقش له في سبيل معرفة الصواب والحق في الموضوع ذلك التنافس والتناظر. "فأما الأول" وهو الناظر المجتهد، فإن ما يثمره نظره هو المعتبر "فالحكم لاجتهاده موكل" ومسند "فما يؤديه" ويوصله "إليه علمه" المدرك بذلك الاجتياد فإنه "يلزمه في كل حال" سواء كان مصيبا، أو مخطئا وسواء كان ذلك في الأصول أو الفروع "حكمه" ومقتضاه "لا كنما" الفرق حاصل بين القواعد الأصولية والفروع، إذ "القواعد الأصلية تثبت" ويحصل وجودها "عن أدلة قطعية" سواء كان ذلك ثابتا لها "ضرورة" بحيث يكون القطع والجزم بها ضروريا، "أو" كان مأخذه "نظرا من عقل" وسيلته التأمل والتفكر، "أو" كان ذلك مأخوذا "من دليل راجع للنقل" كما تقدم
2954 -
ثُمَّ الْفُرُوعُ الظَّنُّ فِيهَا كافِ
…
بِشَرْطِهِ الْمُقَرَّرِ الأَوْصَافِ
2955 -
وَالْحُكْمُ مَا أَدَّى لَهُ الدَّلِيلُ
…
فِي حَقِّهِ وَهْوَ لَهُ السَّبِيلُ
2956 -
دُونَ افْتِقَارٍ مِنْهُ لِلْمُنَاظَرَهْ
…
لِعَدَمِ الْجَدْوَى بِمَنْ قَدْ نَاظَرَهْ
بيان ذلك في المقدمة الثالثة في صدر هذا الكتاب.
"ثم" إن ثبوت أدلة "الفروع الظن فيها كاف" ومغن لكن "بشرطه المقرر الأوصاف" التي منها أن يكون عن دليل وبرهان يثمره، وأن لا يكون مخالفا لدليل قطعي، كما هو مبين في صدر كتاب الأدلة هذا. "و" أما "الحكم" في ذلك فهو - أيضا - "ما أدى له الدليل" وأوصل إليه، وهو الذي يثبت "في حقه" واجبا "وهو له السبيل" الذي يحق عليه اتباعه على استغناء أي "دون افتقار" وحاجة "منه للمناظرة" ومباحثة أهل العلم في هذا الشأن، وذلك "لعدم الجدوى" والفائدة "بمن قد ناظره " يعني يناظره، لأن نظره في مطلبه إما نظر في جزئي وهو ثان عن نظره في الكلي الذي ينبني عليه وإما نظر في كلي ابتداء والنظر في الكليات ثان عن الاستقراء وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك وهكذا إن كان عقليا ففرض المناظرة هنا لا يفيد لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده فلا يحتاج إلى غيره فيها وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه في نفسه فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة وأيضا فالمجتهد أمين على نفسه فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته إذ هو عنده مجتهد مقبول الاتول فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة وهنا أمثلة كثيرة كمشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمر المدينة فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال لم يبغ به بدلا ولم يستشر غيرهما وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة فلما أنزل الله الحكم لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم فكلمه عمر في ذلك فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة إلا من باب الاحتياط
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ 243 - 244.
2957 -
وَحَيْثُمَا احْتِيَاطٌ أَوْ تَرَدُّدُ
…
أَحَدُ أَمْرَيْنِ بِهِ يُعْتَمَدُ
2958 -
إِمَّا السُّكونُ لِبَيَانٍ يَلْحَقُ
…
إِمَّا اسْتِعَانَةٌ بِمَنْ يَسْتَوْثِقُ
2959 -
وَهْوَ الْمُنَاظِرُ وَلَا كِنْ يُفْتَقَرْ
…
فِيهِ لِتَفْصِيلٍ أَكِيدٍ يُعْتَبَرْ
2960 -
فَحَيْثُ مَا وَافَقَ فِي كُلِّيِّ
…
مُنَاظَرٍ فِيهِ مِنَ الْجُزْئِيِّ
2961 -
صَحَّ لَهُ فِيهِ بِهِ اسْتِعَانَهْ
…
وَحَيْثُ لَا فَالْعَكْسُ ذُو اسْتِبَانَهْ
2962 -
كَمَالِكِيٍّ آخِذٍ مَعْ ظَاهِرِي
…
فِي رِبَوِيٍّ دُونَ نَصٍّ صَادِرِ
" وحيثما" فرض "احتياط" وطلب المصير إليه "أو" فرض وقوع "تردد" فيما هو ناظر فيه فإنه يأتي "أحد أمرين" فيأخذ به ويعمله في هذا الموضوع، وهو الذي "به" أي فيه "يعتمد"ـه ويجري مقتضاه فيه، وهذان الأمران هما "إما السكون" عن الحكم انتظار "لبيان" ينقدح له في هذا الذي أشكل عليه فتردد فيه فيدركه و"يلحقـ" ـه، إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق الذي ينبغي له سلوكه. و"إما استعانة" أي طلب إعانة يكون منه "بمن يستوثق" يعني يثق به من أهل العلم "وهو المناظر" المستعاب به "ولاكن" الاستعانة به - أي بهذا المناظر - أمر "يفتقر" ويحتاج "فيه لتفصيل أكيد" ذكره وواجب العمل به إذ هو أمر "يعتبر" في ذلك ويعتد به، وذلك أن هذا المناظر لا يخلو أن يكون موافقا لهذا المستعين به في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه، أولا. "فحيثما وافق" المناظر هذا المستعين به "في كلي" ما هو "مناظر فيه من الجزئي" فإنه "صح له" أي المستعين "فيه" أي في ذلك الجزئي "به" أي بذلك المناظر "استعانة" وثبت له العمل بها على وجه تام صحيح "و" أما "حيث لا" اتفاق بينهما في كلي الجزئي المناظر فيه "فالعكس" وهو عدم صحة الاستعانة به هو الحكم الجاري اقتضاؤه حينئذ وهذا أمر بين "ذو استبانة" أي ظهور، اقتضاه أنه لا سبيل إلى أن ينتفع به المستعين في ذلك، إذما من جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلي، وإذا خالف في الكلي ففي الجزئي المبنى عليه أولى، فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين: جهة حكمها، وجهة أصلها، وبذلك لا يمكن رجوعها، إلى معنى متفق عليه، فالاستعانة المطلوبة إذن مفقودة بين من اختلفا في كلي ذلك الجزئي.
"كمالكي آخذ" بالتناظر "مع" فقيه "ظاهري" من أهل المذهب الظاهري "في" مناقشة "ربوي" سعى المالكي إلى إثبات الربا فيه "دون نص صادر" وارد من الشارع، وذلك كالدخن والذرة والأرز - مثلا - ففي هذا لا يمكن الاستعانة - كما تقدم ذكره - بالظاهري
2963 -
وَحَيْثُ الاتِّفَاقُ فِي الْكُلِّيِّ
…
يَبْقَى لَهُ التَّحْقِيقُ فِي الْجُزْئِيِّ
2964 -
مَنَاطَ حُكْمِهِ فَإِنْ يَتَّفِقَا
…
فَذَا وَإِلَّا فَالْخِلَافُ مُتَّقَا
2965 -
إِذْ هُوَ رَاجِعٌ لِأَمْرٍ ظَنِّي
…
مُجْتَهَدٍ فِيهِ بِحُكْمِ الظَّنِّ
2966 -
وَأَنَّ هَذَا الأَصْلَ فِيهِ أَمْثِلَهْ
…
كثِيرَةٌ تَدْخُلُ فِيهَا أَسْئِلَهْ
2967 -
كَانَتْ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ
…
فِي بَعْضِ مَا أَشْكَلَ مِنْ أَحْكَامِ
النافي للقياس لأنه بان على نفي القياس جملة وكذلك كل مسألة قياسية لا يمكن أن يناظر فيها مناظرة المستعين إذ هو مخالف في الأصل الذي يرجعان إليه وكذلك مسألة الحلبة والذرة أو غيرهما بالنسبة إلى المالكي إذا استعان بالشافعي أو الحنفي وإن قالوا بصحة القياس لبنائهما المسألة على خلاف ما يبني عليه المالكي وهذا القسم شائع في سائر الأبواب فإن المنكر للإجماع لا يمكن الاستعانة به في مسألة تنبني على صحة الإجماع والمنكر لإجماع أهل المدينة لا يمكن أن يستعان به في مسألة تنبني عليه من حيث هو منكر والقائل بأن صيغة الأمر للندب أو للإباحة أو بالوقف لا يمكن الاستعانة بهم لمن كان قائلا بأنها للوجوب البتة"
(1)
.
"و" أما "حيث" حصول "الاتفاق في الكلي" بين المستعين والمناظر على الوجه المذكور فإنه تصح الاستعانة - كما سبق ذكره - إذ إنما "يبقى له التحقيق في" ذلك "الجزئي" لـ "مناط" ومتعلق "حكمه" والأمر سهل في حكم ذلك "فإن يتفقا" بعد ذلك في حكم ذلك الجزئي "فذا" واضح "وإلا" يتفقا فيه، فذاك لا حرج فيه "فـ" هذا "الخلاف" بالخلاف "متقا" ومجتنبا "إذ هو راجع" في حقيقة الأمر "لأمر ظني مجتهد فيه بحكم الظن" ومقتضاه. هذا "وأن هذا الأصل" الذي فيه كلامنا هذا وردت "فيه أمثلة كثيرة تدخل فيها أسئلة كانت" صادرة "من الصحابة الكرام" رضي الله عنهم، وهي "في بعض ما أشكل" عليهم "من أحكام" كما في سؤالهم عند نزول قوله سبحانه وتعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] وعند نزول قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] الآية وسؤال ابن أم مكتوم حين نزل {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية حتى نزل {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] وسؤال عائشة عند قوله
(1)
الموافقات 4/ 246.
2968 -
وَلَا عَلَيْكَ بَعْدُ فِي الْمُنَاظِرِ
…
فَهْوَ اصْطِلَاحٌ مَا لَهُ مِنْ حَاجِرِ
2969 -
وَمَا بِهِ الْمُحْتَجُّ فِي الْمَسَائِلِ
…
مُنَزِّلٌ لِنَفْسِهِ كَالسَّائِلِ
2970 -
الْمُسْتَفِيدِ قَاطِعًا لِلْخَصْمِ
…
بِأَقْرَبِ الطُّرْقِ لِذَاكَ الْحُكْمِ
2971 -
وَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
…
مَا فِيهِ رُشْدٌ لأُوِلى الأَلْبَابِ
عليه الصلاة والسلام: "من نوقش الحساب عذب" واستشكالها مع الحديث قول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] وأشباه ذلك وإنما قلنا إن هذا الجنس من السؤالات داخل في قسم المناظر المستعين لأنهم إنما سألوا بعد ما نظروا في الأدلة فلما نظروا أشكل عليهم الأمر بخلاف السائل عن الحكم ابتداء فإن هذا من قبيل المتعلمين فلا يحتاج إلى غير تقرير الحكم
(1)
. "ولا عليك بعد" أن عرفت المعنى المقصود هنا بالمناظرة أن تبحث في شأن إطلاق لفظ "المناظر" هنا على هذا الذي ذكر، وكونه يصح إطلاق هذا اللفظ عليه أولا "فـ" إن هذا ما "هو "إلا "اصطلاح" استعماله لا مشاحة فيه، والتصرف فيه في المراد به هنا أمر سائغ "ماله من حاجر" يحجر عنه أو مانع يمنع منه، لأنه ينبني عليه حكم. "و" كما يدخل هذا الذي ذكر تحت لفظ المناظرة كذلك يدخل تحته "ما به" أي فيه "المحتج في المسائل" والقضاء "منزل لنفسه كالسائل المستفيد" أي الطالب للفائدة، وهو يريد بذلك أن يكون "قاطعا للخصم" مفحما له "بأقرب الطرق لذاك الحكم" الذي فيه النزاع والخلاف بين الطرفين. "وجاء من ذلك" الذي ذكر في هذا المقام من صنف هذه المناظرة، "في الكتاب" العزيز "ما فيه" بيان له و"رشد لأولي الألباب" والعقول في شأنه، ومن ذلك محاجة إبراهيم عليه السلام قومه بالكوكب والقمر والشمس فإنه فرض نفسه بحضرتهم مسترشدا حتى يبين لهم من نفسه البرهان أنها ليست بآلهة وكذلك قوله في الآية الأخرى {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)} [الشعراء: 70، 71] فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)} [الشعراء: 72، 73] فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء ومثله قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63]، الآية وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ
(1)
الموفقات 4/ 244 - 245.
2972 -
وَحَيْثُ مَا الْقَصْدُ مِنَ الْمُنَاظِرِ
…
فِي رَدِّ خَصْمِهِ لأمْرٍ ظَاهِرِ
2973 -
فَذَا لَهُ أَصْلٌ إِلَيْهِ يَرْجِعُ
…
تَقْرِيرُهُ بِإِثْرِ هَذَا يَقَعُ
"
المسألة السادسة
"
2974 -
لَا بُدَّ فِي الدَّلِيلِ مِنْ مُقَدِّمَهْ
…
تَكُونُ فِي الْحُكْمِ بِهَا مُسَلَّمَهْ
مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40] وقوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} [يونس: 35] الآية وقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، إلى آخرها فهذه الآية وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر وإن كان مقتضى الحقيقة فيها تبكيت الخصم إذ كان مجيئا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته فكان أبلغ في المقصود من المواجهة بالتبكيت ولما اخترموا من التشريعات أمورا كثيرة أدهاها الشرك طولبوا بالدليل كقوله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24]{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59]{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] الآية وهو من جملة المجادلة بالتي هي أحسن"
(1)
.
فصل: "وحيث ما" يكون "القصد من المناظر" محصورا "في رد خصمه" وصرفه "لأمر" ورأي ما "ظاهر" له. "فذا" شأن تكلف العلماء به، و"له أصل إليه يرجع" فعلى مقتضى هذا الأصل يسار فيه، وقد مر التنبيه عليه في المسألة السادسة في أول كتاب الأدلة عند قوله:"كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين".
وأما بيان هذا الأصل على التمام و"تقريره" فإنه "بأثر هذا" الموضع "يقع" ويرد، متضمنا في المسألة الموالية:
"المسألة السادسة"
وهي في بيان هذا الأصل على التمام - كما تقدم ذكره -. ونص ذلك أنه "لا بد في" بناء "الدليل" وحصول ماهيته "من مقدمة" ثانية - بعد مقدمة تحقق المناط - حاكمة "تكون في الحكم بها" وإجراء مقتضاها "مسلمة" وإن كان ذلك على سبيل الفرض.
(1)
الموافقات 4/ 245.
2975 -
وَعِنْدَ هَذَا الشَّأْنِ تُلْفَى قَاضِيَهْ
…
فِيمَا لتحْقِيقِ الْمَنَاطِ آتِيَهْ
2976 -
وَمَا نِزَاعٌ فِيهِ أَوْ جَدَالُ
…
فَلَا يَصِحُّ بِهِ الاسْتِدْلَالُ
2977 -
وَإنَّمَا يَحْصُلُ قَطْعُ الْحُكْمِ
…
فِيمَا لَهُ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْخَصْمِ
" وعند" حصول "هذا الشأن" لهذه المقدمة "تلفى" وتوجد "قاضية" وحاكمة "فيما" من المواضع هي فيه مسوقة "لتحقيق المناط" فيه و"آتية" له.
وربما وقع الشك في هذه الدعوى، فقد يقال: إن النزاع قد يقع في المقدمة الثانية وذلك أنك إذا قلت هذا مسكر وكل خمر أو وكل مسكر حرام فقد يوافق الخصم على أن هذا مسكر وهي مقدمة تحقيق المناط كما أنه قد يخالف فيها أيضا وإذا خالف فيها فلا نكير على الجملة لأنها محل الاختلاف وقد يخالف في أن كل مسكر خمر فإن الخمر إنما يطلق على النيئ من عصير العنب فلا يكون هذا المشار إليه خمرا وإن أسكر وإذ ذاك لا يسلم أن كل مسكر خمر ويخالف أيضا في أن كل مسكر حرام فإن الكلية لهذه المقدمة لا تثبت لأنها مخصوصة أخرج منها النبيذ بدليل دل عليه وإذا لم تصح كليتها لم يكن فيها دليل فإذا صارت منازعا فيها فكيف يقال بانحصار النزاع في إحدى المقدمتين دون الأخرى بل كل واحدة منهما قابلة للنزاع وهو خلاف ما تأصل والجواب أن ما تقدم صحيح وهذا الإشكال غير وارد وبيانه أن الخصمين إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال وقد مر هذا وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل وكان الدليل عند الخصم متنازعا فيه فليس عنده بدليل فصار الإتيان به عبثا لا يفيد فائدة ولا يحصل مقصودا"
(1)
.
"و" بناء على هذا يقرر أن كل "ما" وقع "نزاع فيه" بين المتناظرين "أو جدال" وعدم اتفاق "فـ" إنه "لا يصح به الاستدلال" في مجرى التناظر بينهما، إذ المقصود من المناظرة هو رد الخصم إلى الصواب، وهذا لا يحصل بشيء لا يعرفه ثم إنه من باب تكليف ما لا يطاق "وإنما يحصل قطع الحكم" في ذلك باعتماد المقدمة المعدودة "فيما" ثبت "له التسليم عند الخصم" المعترض وكذلك عند خصمه المستدل على سواء.
(1)
الموافقات 4/ 247.
2978 -
وَأَصْلُ ذَاكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
…
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ يُرَى بَيَانَهُ
2979 -
وَمَا أَتَى مِنْ ذَاكَ فِي الْقُرْآنِ
…
وَفِي الْحَدِيثِ وَاضِحُ الْبُرْهَانِ
" وأصل ذلك" ودليله "قوله سبحانه": {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فإنه في قوله سبحانه وتعالى هذا "يرى" أي يوجد حكم هذا الأصل و"بيانه" الكافي "وما أتى من" النصوص في مقام الاحتجاج على الكفار فإنه مبني على "ذاك في القرآن" الكريم "و" كذلك "في الحديث" النجوي وهذا أمر "واضح البرهان" والحجة، ومن ذلك قوله - تعالى -:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)} [المؤمنون: 84] إلى قوله: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} فقررهم بما به أقروا واحتج بما عرفوا حتى قيل لهم: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] أي فكيف تخدعون عن الحق بعد ما أقررتم به فادعيتم مع الله إلها غيره وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42] وهذا من المعروف عندهم إذ كانوا ينحتون بأيديهم ما يعبدون وفي موضع آخر {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] وقال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] قال له ذلك بعد ما ذكر له قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فوجد الخصم مدفعا فانتقل إلى ما لا يمكنه فيه المدفع بالمجاز ولا بالحقيقة وهو من أوضح الأدلة فيما نحن فيه وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] الآية فأراهم البرهان بما لم يختلفوا فيه هو آدم وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 65] وهذا قاطع في دعواهم أن إبراهيم يهودي أو نصراني وعلى هذا النحو تجد احتجاجات القرآن فلا يؤتى فيه إلا بدليل يقر الخصم بصحته شاء أو أبى وعلى هذا النحو جاء الرد على من قال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]، الآية فحصل إفحامه بما هو به عالم، وتأمل حديث صلح الحديبية ففيه إشارة إلى هذا المعنى فإنه لما أمر عليا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف، باسمك اللهم فقال اكتب من محمد رسول الله قالوا لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان هذا من حمية الجاهلية وكتب على ما قالوا ولم يحتشم من ذلك
2980 -
وَالْقَصْدُ بِالْمُقَدِّمَاتِ هَاهُنَا
…
مَا حَصَّلَ الْمَطْلُوبَ مِنْ غَيْرِ عَنَا
2981 -
فِي عَادَةِ الْعُرْبِ بِأَهْدَى الطُّرُقِ
…
لَيْسَ الْمُرَادُ مَا لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ
حين أظهروا النصفة من عدم العلم وأنهم إنما يعرفون كذا وإذا ثبت هذا فالأصل المرجوع إليه هو الدليل الدال على صحة الدعوى وهو ما تقرر في المقدمة الحاكمة فلزم أن تكون مسلمة عند الخصم من حيث جعلت حاكمة في المسألة لأنها إن لم تكن مسلمة لم يفد الإتيان بها وليس فائدة التحاكم إلى الدليل إلا قطع النزاع ورفع الشغب وإذا كان كذلك فقول القائل هذا مسكر وكل مسكر خمر إن فرض تسليم الخصم فيه للمقدمة الثانية صح الاستدلال من حيث أتى بدليل مسلم وإن فرض نزاع الخصم فيها لم يصح الاستدلال بها البتة بل تكون مقدمة تحقيق المناط في قياس آخر وهي الحي لا يقع النزاع إلا فيها فيبين أن كل مسكر خمر بدليل استقراء أو نص أو غيرهما فإذا بين ذلك حكم عليه بأنه حرام مثلا إن كان مسلما أيضا عند الخصم كما جاء في النص أن كل خمر حرام وإن نازع في أن كل خمر حرام صارت مقدمة تحقيق المناط ولا بد إذ ذاك من مقدمة أخرى تحكم عليها وفي كل مرتبة من هذه المراتب لا بد من مخالفة الدعوى للدعوى الأخرى التي في المرتبة الأخرى فإن سؤال السائل هل كل خمر حرام مخالف لسؤاله إذا سأل هل كل مسكر خمر وهكذا سائر مراتب الكلام في هذا النمط فمن هنا لا ينبغي أن يؤتى بالدليل على حكم المناط منازعا فيه ولا مظنة للنزاع فيه إذ يلزم فيه الانتقال من مسألة إلى أخرى لأنا إن فعلنا ذلك لم تتخلص لنا مسألة وبطلت فائدة المناظرة"
(1)
.
فصل: "و" هو في بيان أن "القصد" والمراد "بالمقدمات هاهنا" في هذا الموضع "ما حصل المطلوب" وبلغ المراد الذي قد يكون تبليغ أمر ما، أو إدراكه من الكلام وأخذه منه، ويكون ذلك "من غير عناء" أو نصب، إذ يبنى الكلام "في" ذلك على ما جرت عليه "عادة العرب" في التخاطب، ويطلب أن يكون ذلك "بأهدى الطرق" وأقربها إلى الفهم والإدراك على سنن البيان العربي، وأساليبه، وبذلك يعلم أن المراد بالمقدمات هنا ما ذكر و"ليس المراد" بها "ما لأهل المنطق" الذين رسموا ما يطلقون
(1)
الموافقات 4/ 248 - 249.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عليه المقدمات على وفق الأشكال المعروفة ولا على اعتبار التناقض والعكس وغير ذلك وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح لأن المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون وعلى وفق ما جاء في الشريعة، وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير ما كان بديهيا في الإنتاج أو ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي إلا أن المتحري فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما يكون ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك فإطلاق لفظ المقدمتين لا يستلزم ذلك الاصطلاح ومن هنا يعلم معنى ما قاله المازري في قوله عليه الصلاة والسلام "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"، قال: فنتيجة هاتين المقدمتين أن كل مسكر حرام، قال: وقد أراد بعض أهل الأصول أن يمزج هذا بشيء من علم أصحاب المنطق فيقول أن أهل المنطق يقولون لا يكون القياس ولا تصح النتيجة إلا بمقدمتين فقوله كل مسكر خمر مقدمة لا تنتج بانفرادها شيئا وهذا وإن اتفق لهذا الأصولي ههنا وفي موضع أو موضعين في الشريعة فإنه لا يستمر في سائر أقيستها ومعظم طرق الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك ولا يعرف من هذه الجهة وذلك أنا لو عللنا تحريمه عليه الصلاة والسلام التفاضل في البر بأنه مطعوم كما قال الشافعي لم نقدر أن نعرف هذه العلة إلا ببحث وتقسيم فإذا عرفناها فللشافعي أن يقول حينئذ: كل سفرجل مطعوم وكل مطعوم ربوي ....
فتكون النتيجة السفرجل ربوي قال: ولكن هذا لا يفيد الشافعي فائدة لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها عن مذهبه فجاء بها على هذه الصيغة قال ولو جاء بها على أي صيغة أراد مما يؤدي منه مراده لم يكن لهذه الصيغة مزية عليها قال وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابا أراد أن يرد فيها أصول الفقه لأصول علم المنطق هذا ما قاله المازري وهو صحيح في الجملة وفيه من التنبيه ما ذكرناه من عدم التزام طريقة أهل المنطق في تقرير القضايا الشرعية وفيه أيضا إشارة إلى ما تقدم من أن المقدمة الحاكمة على المناط إن لم تكن متفقا عليها مسلمة عند الخصم فلا يفيد وضعها دليلا ولما كان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله عليه الصلاة والسلام "وكل خمر حرام" مسلما لأنه نص النبي صلى الله عليه وسلم لم يعترض فيه المخالف بل قابله بالتسليم واعترض القاعدة بعدم الاطراد وذلك مما يدل على أنه من كلامه عليه الصلاة والسلام أمر اتفاقي لا أنه قصد قصد المنطقيين وهكذا يقال في القياس الشرطي في نحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} لأن لو لما سيقع لوقوع غيره فلا استثناء لها في كلام العرب قصدا وهو معنى تفسير سيبويه ونظيرها. إن لأنها تفيد ارتباط الثاني بالأول في التسبب والاستثناء لا تعلق له بها في صريح كلام العرب فلا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية وإلى هذا المعنى والله أعلم أشار الباجي في أحكام الفصول حين رد على الفلاسفة في زعمهم أن لا نتيجة إلا من مقدمتين ورأى أن المقدمة الواحدة قد تنتج وهو كلام مشكل الظاهر إلا إذا طولع به هذا الموضع فربما استقام في النظر"
(1)
.
(1)
الموافقات 4/ 249 - 250 - 251.
"
خاتمة
"
2982 -
وَمُقْتَضَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ
…
بِهِ انْتَهَتْ مَسَائِلُ الْكِتَابِ
2983 -
وَإِذْ قَضَى الْبُغْيَةَ مِمَّا أَصَّلَهْ
…
مُنْتَقِيًا لِللُّبِّ مِمَّا حَصَّلَهْ
2984 -
وَأَكْمَلَ الْقَصْدَ الذِي قَدْ أَمَّ لَهْ
…
رَجَاءَ مَا مِنَ الثَّوَابِ أَمَّلَهْ
2985 -
قَالَ هُنَا وَبَقِيَّةُ مَسَائِلُ
…
أَضْرَبْتُ عَنْهَا حِينَ قَلَّ السَّائِلُ
2986 -
خَشِية أَنْ يَكُونَ فِي إيرَادِهَا
…
مَا يَرْفَعُ التَّأْنِيسَ عَنْ وُرَّادِهَا
2987 -
أَوْ تُخْرِجَ النُّفُوسَ عَنْ مَأْلُوفِهَا
…
فَتُسْرعُ النُّكْرَ إِلَى مَعْرُوفِهَا
2988 -
وَمَعَ ذَا فَالْوَقْتُ قَلَّ الْمُنْصِفُ
…
فِيهِ وَعَزَّ مُسْعِدٌ وَمُسْعِفُ
" خاتمة"
"ومقتضى السوال والجواب" هو الذي "به انتهت مسائل" هذا "الكتاب".
"وإذ قضى" وأدرك المصنف - الشاطبي رحمه الله "البغية" - بضم الباء وكسرها - أي الطلبة "مما أصله" في هذا الكتاب، "منتقيا" أي مختارا ومصطفى "لللب" والخالص "مما حصله" من العلوم والمعارف، "وأكمل القصد" يعني الأمر المقصود له "الذي قد أم" أي قصد "له" في وضع هذا الكتاب "رجاء" إدراك وتحصيل "ما من الثواب" والجزاء الحسن "أمله" ورغب فيه فضلا من الله ونعمة "قال" - رحمه الله تعالى - "هنا: وبقيت مسائل أضربت عنها" أي أعرضت عن ذكرها، "حين قل" وندر "السائل" الباحث عنها ولم يسع إيرادها "خشية أن يكون في إيرادها" وذكرها "ما يرفع التأنيس" وراحة النفوس واطمئنانها "عن ورادها" المستقين من معينها.
"أو" بمعنى الواو يعني وخشية أن "تخرج النفوس عن" عادتها في الفهم و"مألوفها" في الإدراك لأمور القلوب والنفوس والمدارك المعرفية "فتسرع" بحكم ذلك إلى "النكر" - بضم النون - تسدد سهام القدح "إلى معروفها" وما هو الحق والصواب فيها.
"ومع ذا" كله "فالوقت" - اللام للحضور - يعني فهذا الوقت الذي نحن فيه "قل المنصف" المقسط في حكمه، وقوله:"فيه وعز" أي قل فيه كذلك من هو "مسعد" أي معين "ومسعف" يسعف ويعين على الحق.
2989 -
لِذَا ثَنَيْتُ دُونَهَا عِنَانِي
…
إِرَاحَةً لِمُمْتَطِى الْبَيَانِ
2990 -
قُلْتُ وَمَا اعْتَنَى بِرَسْمِهِ
…
يَشْهَدُ بِاطِّلَاعِهِ وَعِلْمِهِ
2991 -
وَفِي الذِي أَوْرَدَهُ كفَايَهْ
…
مَا بَعْدَهُ لِلطَّالِبِينَ غَايَهْ
2992 -
وَقَدْ بَذَلْتُ الْجُهْدَ فِي تَقْرِيبِهِ
…
لِلْحِفْظِ بِالنَّظْمِ عَلَى تَرْتِيبِهِ
2993 -
وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يُوتينَا
…
عِلْمًا يَزِيدُنَا بِهِ يَقِينًا
" لـ" أجل "ذا ثنيت" أي عطفت "دونها عناني" عن ذكر تلك المسائل، وصرفت لساني عن الحديث فيها "إراحة لـ" القلم الذي هو "ممتطى" ومركوب "البيان"، وإنما وصف بذلك لكونه وسيلة موصلة إلى إبراز مكنونات الصدور والنفوس من المعاني وإظهارها. "على أن في أثناء الكتاب رموزا مشيرة وأشعة توضح من شمسها المنيرة فمن تهدى إليها رجا بحول الله الوصول ومن لا فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على المحصول ففيه إن شاء الله مع تحقيق علم الأصول علم يذهب به مذاهب السلف ويقفه على الواضحة إذا اضطرب النظر واختلف فنسأل الله الذي بيده ملكوت كل شيء أن يعيننا على القيام بحقه وأن يعاملنا بفضله ورفقه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى"
(1)
.
"قلت" القول للعلامة ابن عاصم - رحمه الله تعالى -: "وما اعتنى" الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - "برسمه" وبيانه في هذا الكتاب "يشهد" جازما "باطلاعه" الواسع العميق "وعلمه" الغزير المتدفق. "وفي الذي أورده" وأتى به مسطور في هذا السفر غنية و"كفاية" في موضوعه "ما بعده للطالبين" فيه "غاية" يتشوفون إليها وهذا الكلام من الناظم على سبيل الحقيقة، إذ العلوم لا تنحصر في كتاب، ولا يحيط بها مخلوق، والغايات في العلوم لا يستطيع بها أحد "وقد بذلت" وأعطيت "الجهد" أي الطاقة - يعني جهده وطاقته - "في تقريبه" وتسهيله "للحفظ بالنظم" يعني بنظمه - فاللام نائبة عن الضمير - جاريا في ذلك "على" نسج المصنف للكتاب و"ترتيبه" له، إلا في مواطن جزئية اقتضى البيان لها تغيير ما هي عليه من ترتيب في الأصل. "والله جل وعلا" الولي الحميد نسأله أن "يوتينا" ويمنحنا بمحض فضله "علما" نافعا "يزيدنا به يقينا" وثباتا على الحق،
(1)
الموافقات 4/ 251.
2994 -
وَأَنْ يُثِيبَهُ بِمَا اسْتُفِيدَا
…
مِنْ عِلْمِهِ مُبْدِئًا أَوْ مُعِيدَا
2995 -
وَيَنْفَعَ الْجَمِيعَ بِاقْتِفَاءِ
…
مَا سَنَّهُ صَفْوَةُ الأَنْبِيَاءِ
2996 -
صَلَّى عَلَيْهِ أكْمَلَ الصَّلَاةِ
…
مَنْ خَصَّهُ بِآخِرِ الصِّلَاتِ
2997 -
كمَا أَقَرَّ مِنْ رِضَاهُ عَيْنَا
…
لآلِهِ وَصَحْبِهِ الأَعْلِينَا
ويرشدنا به إلى الصراط المستقيم، مثل ما نسأله سبحانه وتعالى أن يجزي المؤلف الجزاء الأوفى. "وأن يثيبه بما استفيدا" - الألف للإطلاق - "من علمه" وما انتفع به منه "مبدئا" سبحانه خلقه "أو معيدا" له.
"و" نسأله سبحانه كذلك أن "ينفع الجميع" أي جميع المسلمين "باقتفاء" واتباع "ما سنه" محمد رسول الله "صفوة الأنبياء" وإمام المرسلين "صلى عليه أكمل الصلاة" وأتمها الله - تعالى - الذي هو "من خصه" وحده "بآخر الصلات" النبوة "كما أقر من رضاه عينا لآله" الطيبين الأطهار "وصحبه" الأبرار "الأعلينا" في منازلهم ومراتبهم العلمية والعملية وبهذا انتهى هذا الشرح الذي نسأل الله - تعالى - رب العرش العظيم أن يجعله عملا متقبلا عنده، منتفعا به، وصدقة جارية دائمة النفع تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها بفضله عز وجل وكرمه. كما نسأله - سبحانه - أن يتوفانا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين، اللهم اجعلنا في الدنيا مستورين برداء عافيتك وفي الآخرة مرحومين، بمنك وكرمك يا رب العالمين.