المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة سلام عليكم ورحمة الله وبركاته … أما بعد: فإنَّ كلَّ ما - الإمامة العظمى - الريس

[عبد العزيز الريس]

فهرس الكتاب

‌مقدمة

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد:

فإنَّ كلَّ ما حكمَ الله ورسولُه فيه من أمور الحياة = واجبٌ علينا الإيمانُ به والامتثالُ له.

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

وإنَّ التحاكم للكتاب والسُّنة والرجوع إليهما أصلٌ عظيم يجب أن يكون نصبَ عين كلِّ متكلم في الشرع، فلا حقَّ، ولا راجحَ إلَّا ما دلَّ عليه الوحي.

وقد تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة على أنَّ الرجوع والتحاكم عند النزاع والاختلاف إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإنما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه الكتابُ المنزل من السماء، والرسولُ المؤيَّد بالأنباء كما قال تعالى:{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].

وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213].

ص: 5

وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} »

(1)

.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} :

«قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ وهذا أمرٌ من الله عز وجل بأنَّ كل شيء تنازعَ الناسُ فيه من أصول الدين وفروعه أن يُردَّ التنازُع في ذلك إلى الكتاب والسُّنة، كما قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ} ، فما حكم به الكتابُ والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحقُّ، وماذا بعد الحق إلَّا الضلال!، ولهذا قال تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي رُدُّوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجرَ بينكم {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ؛ فدلَّ على أنَّ من لم يتحاكم في محلِّ النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك = فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر.

وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خيرٌ {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي: وأحسَنُ عاقبةً ومآلًا، كما قاله السُّدي وغير واحد، وقال مجاهد: وأحسَنُ جزاءً؛ وهو قريب».

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 465).

ص: 6

وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تُحصى واردةً بإلزام جميع المكلَّفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في شيءٍ منها التخصيصُ بمن حصَّلَ شروط الاجتهاد المذكورة، وسنذكر طرفًا منها لنبيِّن أنه لا يجوز تخصيصُها بتحصيل الشروط المذكورة.

قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 4].

والمراد بـ {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} هو القرآن والسنة المبيِّنة له؛ لا آراء الرجال.

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61].

فدلَّت هذه الآية الكريمة أنَّ من دُعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصَدَّ عن ذلك، أنه من جملة المنافقين؛ لأنَّ العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.

وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

والردُّ إلى الله والرسول هو الردُّ إلى كتابه، والردُّ إلى الرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو الردُّ إلى سُنَّته.

وتعليقُه الإيمان في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} على ردِّ التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، يُفهم منه أن مَنْ يردُّ التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله.

ثم قال: وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 71].

ص: 7

ولا شكَّ عند أحدٍ من أهل العلم أنَّ طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورةٌ في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: نظرتُ في المصحف فوجدتُ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثةٍ وثلاثين موضعًا»

(2)

.

وقال الآجري: «فَرضَ على الخلق طاعته صلى الله عليه وسلم في نيِّفٍ وثلاثين موضعًا من كتابه عز وجل»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد ذكرَ الله طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعَهُ في نحوٍ من أربعين موضعًا من القرآن كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}»

(4)

.

وقال أيضًا: «وقد أمر الله بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعًا من القرآن»

(5)

.

وليس لأحدٍ أن يقلِّد عالمًا معظَّمًا أو غيره، وقد بان له الدليل في خلاف قوله ورأيه، وقد نقل الإمام ابن القيم رحمه الله عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله أنه قال:«أجمعَ الناس على أنَّ من استبانت له سُنَّةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدَعَها لقول أحدٍ من الناس»

(6)

.

(1)

أضواء البيان (7/ 300 - 304).

(2)

الصارم المسلول (1/ 59).

(3)

الشريعة (1/ 411).

(4)

مجموع الفتاوى (1/ 4).

(5)

مجموع الفتاوى (19/ 103).

(6)

إعلام الموقعين (2/ 211).

ص: 8

وممَّا حكمَ الله ورسوله فيهما ما يتعلَّق بأحكام الإمامة العظمى والولاية والسلطان، فلا يصحُّ لمن أراد نجاة الدنيا والآخرة أن يخالف حكمَ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إلى حكم غيره من الآراء البشرية الناقصة، أو الاستحسانات المتوهَّمة.

قال الإمام ابن القيم: «والاعتراضُ ثلاثة أنواع سارية في الناس؛ والمعصومُ من عصَمهُ الله منها:

النوع الأول: الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشُّبه الباطلة، التي يسمِّيها أربابها قواطع عقلية، وهي في الحقيقة خيالات جهلية، ومُحالات ذهنية.

النوع الثاني: الاعتراض على شرعهِ وأمره؛ وأهلُ هذا الاعتراض ثلاثة أنواع:

أحدها: المعترضون عليه بآرائهم وأقيسَتهِم، المتضمِّنة تحليلَ ما حرَّم الله سبحانه وتعالى، وتحريمَ ما أباحه، وإسقاطَ ما أوجَبه، وإيجابَ ما أسقَطه، وإبطالَ ما صحَّحه، وتصحيحَ ما أبطَلُه، واعتبارَ ما ألغاهُ، وإلغاءَ ما اعتبرَهُ، وتقييدَ ما أطلقَهُ، وإطلاقَ ما قيَّده.

وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلفُ قاطبةً على ذمِّها، والتحذير منها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض، وحذَّروا منهم، ونفَّروا عنهم، ثم قال:

النوع الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة، التي لأربابِ الولايات التي قدَّموها على حكم الله ورسوله، وحكَموا بها بين عباده، وعطَّلوا لها وبها شَرعَهُ وعَدلَهُ وحُدودَه.

فقال الأولون: «إذا تعارضَ العقلُ والنقل أيُّهما يُقدَّم؟: قدَّمنا العقل» .

وقال الآخَرون: «إذا تعارض الأثر والقياس، قدَّمنا القياس» .

ص: 9

وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: «إذا تعارضَ الذوقُ والوجد والكشف وظاهرُ الشرع، قدَّمنا الذوق والوجد والكشف» .

وقال أصحاب السياسة: «إذا تعارضت السياسة والشرع، قدَّمنا السياسة» .

فجعلت كلُّ طائفة قُبالةَ دينِ الله وشرعهِ طاغوتًا يتحاكمون إليه.

فهؤلاء يقولون: «لكم النقلُ ولنا العقل» ، والآخَرون يقولون:«أنتم أصحابُ آثارٍ وأخبار، ونحنُ أصحابُ أقيسة وآراء وأفكار» ، وأولئك يقولون:«أنتم أربابُ الظاهر، ونحن أهلُ الحقائق» ، والآخَرون يقولون:«لكم الشرعُ ولنا السياسة» .

فيا لها من بليَّةٍ عمَّتْ فأعمت، ورزَّيةٍ رمَتْ فأصمَّت، وفتنةٍ دعَتِ القلوبَ فأجابها كلُّ قلبٍ مفتون، وأَهويةٍ عَصفَتْ فصُمَّتْ منها الآذانُ وعَميت منها العيون، عُطِّلَتْ لها - والله - معالمُ الأحكام، كما نُفيتْ لها صفاتُ ذي الجلال والإكرام، واستند كلُّ قومٍ إلى ظُلمِ وظُلماتِ آرائهم، وحكَموا على الله وبين عبادهِ بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، وصار لأجلها الوحيُ عُرضةً لكلِّ تحريفٍ وتأويل، والدينُ وقفًا على كلِّ إفساد وتبديل»

(1)

.

ولا يزال الحال كما أخبر الإمام ابن القيم، فكم رأينا مَنْ يعارض شرعَ الله ودينَه بمثل ما ذكر.

ومن الأمثلة على ذلك ما نحن بصدد الحديث عنه؛ ألا وهو مسألة الإمامة والولاية، فقد وقع فيها من الخلط والتلبيس ما الله به عليم، فقد وقع من الناس في هذا تحريفٌ وتبديل بدوافعَ شتَّى، وامتطوا في ذلك من الأسماء البراقة ليروجَ

(1)

مدارج السالكين (2/ 68).

ص: 10

على الناس باطلُهم، ومن الأسماء التي تزيَّنوا بها اسمُ الحرية والحقوق وهكذا.

وقد نسوا أو تناسوا أن شرع الله ضبطَ الحقوق والحريات بميزان عدلٍ وحكم قسطٍ؛ قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17].

وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فكلُّ حقٍّ أو حرية تعارضُ الشريعة المحمدية فهي عبودية، إمَّا للهوى، أو للنفس، أو للحزب، أو غيرها.

ألا يعلم أولئك أننا عباد لله، والعبدُ لا يخرج عما يريد سيِّدُه ومولاه سبحانه، ومَن فعل ذلك وخرج عما يريده الله فقد خالف الحرية الحقَّة والحقوق المنضبطة.

لذا كل ما جاء به الشرع في باب الإمامة والولاية، فهو عدلٌ وعين الحكمة، ومَن خالف ذلك ضلَّ وأضلَّ.

ويجب لمن درس أبواب الإمامة والولاية أن يدرسها بالنظر إلى أدلة الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وتمييز الأقوال السلفية من الأقوال الدخيلة البدعية.

وقد وقع بعض المتأخرين في أقوال محدَثة في باب الإمامة والولاية، كما وقع ذلك من بعض المتأخرين في باب أسماء الله وصفاته؛ لذا يجب أن يتحاكم الجميعُ إلى الكتاب والسنة الصحيحة بفهم سلف هذه الأمة.

فكم نحن في حاجة أن نتذكر ونذكِّر بأهمية الاعتصام بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وأنهما الحجَّة في باب الإمامة، كما كنَّا نحاجُّ غيرنا من أهل البدع بهذه الأصول الثلاثة في إثبات أسماء الله وصفاته، ونتناقل ما ذكره العلماء في ذلك، كقول ابن قدامة في مقدمة اللمعة: «وقد أُمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء

ص: 11

بمنارهم، وحُذِّرنا المحدثات وأُخبرنا أنها من الضلالات.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدينَ المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة»

(1)

.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم»

(2)

.

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلامًا معناه: «قِفْ حيث وقفَ القوم، فإنهم عن علمٍ وقَفوا، وببصَرٍ نافذٍ كفُّوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدثَ بعدَهُم، فما أحدَثه إلَّا مَنْ خالف هديهم ورغبَ عن سُنَّتهم، ولقد وصَفوا منه ما يشفي وتكلَّموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسِّر، وما دونهم مقصِّر، لقد قصَّر عنهم قومٌ فجفَوا، وتجاوزَهُم آخرون فغلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيم»

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي:«حسن صحيح» ، وصححه أبو نعيم والبزار والحاكم وابن عبدالبر والضياء المقدسي والشيخ الألباني، وحسَّنه البغوي وابن القيم، انظر جامع العلوم والحكم (1/ 258)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 348)، وشرح السنة (1/ 97)، وإعلام الموقعين (4/ 148)، واتباع السنن واجتناب البدع (ص 20)، وإرواء الغليل (8/ 150).

(2)

أخرجه الدارمي (211)، والطبراني في الكبير (9/ 145)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة (79)، وإسناده صحيح.

(3)

أخرجه أبوداود (4612)، والآجري في الشريعة (2/ 930).

ص: 12

وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي رضي الله عنه: «عليك بآثار مَنْ سلف وإنْ رفضَكَ الناس، وإياكَ وآراءَ الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول»

(1)

انتهى المقصودُ نقله من كلام ابن قدامة»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإنما المتبع في إثبات أحكام الله كتابُ الله وسنةُ رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيلُ السابقين أو الأولين، لا يجوز إثباتُ حكم شرعيٍّ بدون هذه الأصول الثلاثة، نصًّا واستنباطًا بحال»

(3)

.

وقال في أوائل الفتوى الحموية مبيِّنًا أهمية علم السلف ووجوب الرجوع إليه خلافًا لأقوال المتكلمين:

«ثم من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بُعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - كانوا غيرَ عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضدَّ ذلك إما عدمُ العلم والقول، وإمَّا اعتقادُ نقيض الحقِّ وقولُ خلافِ الصِّدق، وكلاهما ممتنع»

(4)

.

إن هذا الأصل - وهو التمسك بطريقة السلف في فهم الدين كله - مهمٌّ للغاية؛ نحتاج أن نذكّر به أهل السنة اليوم كثيرًا؛ لأنه بدأ كثير منهم يضعفُ عن معرفته والتمسك به، ومن ذلك الاستمساك بمنهج السلف وفهمهم لباب الإمامة والولاية التي قلَّ أن يؤلَّفَ كتابٌ عقَدي إلَّا ويذكر منهجَ السلف في باب

(1)

الآجري في الشريعة (1/ 445).

(2)

لمعة الاعتقاد (ص: 8).

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 207).

(4)

ص: 3.

ص: 13

الإمامة، ومن خالف في ذلك فهو مبتدع ضال.

لذا احذروا - عباد الله - مخالفة سبيل السلف إلى شواذِّ بعض الخلف في أبواب الدين ومنها هذا الباب العظيم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرَّد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كلُّ قول من تلك الأقوال سائغًا لم يُخالف إجماعًا؛ لأن كثيرًا من أصول المتأخرين محدَثٌ مبتدعٌ في الإسلام مسبوقٌ بإجماع السلفِ على خلافهِ، والنزاعُ الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعًا، كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ممن قد اشتهرت لهم أقوالٌ خالفوا فيها النصوصَ المستفيضة المعلومة وإجماعَ الصحابة»

(1)

.

وإن مما يجب إدراكُه والإحاطة به أن الإخلالَ بأصل الإمامة سببٌ لفساد الدنيا والدين.

قال ابن عبدالبر: «لأن في منازعته والخروجِ عليه استبدالَ الأمن بالخوف؛ ولأن ذلك يحمل على هِراقِ الدماء، وشنِّ الغارات والفساد في الأرض، وذلك أعظمُ من الصَّبر على جَوره وفسقهِ، والأصولُ تشهدُ والعقلُ والدينُ أنَّ أعظَمَ المكروهَين أَولاهُما بالترك»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظُلم، كما دلَّت على ذلك الأحاديثُ الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد في القتال

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 26).

(2)

التمهيد (23/ 279).

ص: 14

والفتنة أعظمُ من الفساد الحاصل بظُلمهم بدون قتال ولا فتنة؛ فيُدْفَعُ أعظَمُ الفسادين بالتزام أدناهُما، ولعلَّه لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته، والله تعالى لم يأمر بقتال كلِّ ظالم وكلِّ باغٍ كيفما كان، ولا أمرَ بقتال الباغين ابتداءً»

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم: «فإذا كان إنكار المنكر يستلزمُ ما هو أنكَرُ منه، وأبغَضُ إلى الله ورسوله = فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقُتُ أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كلِّ شرٍّ وفتنةٍ إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نُقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصَّلاة»

(2)

، وقال:«مَنْ رأى من أميرهِ ما يكرهُه، فليصبر»

(3)

، «ولا ينزعنَّ يدًا من طاعته»

(4)

.

ومَن تأمَّلَ ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعةِ هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه؛ فقد

(1)

منهاج السنة النبوية (3/ 391).

(2)

هذا عبارة عن حديثين: أخرج مسلم (648) عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربَ فخذي: «كيف أنتَ إذا بقيتَ في قوم يؤخِّرون الصلاة عن وقتها؟» قال: قال: ما تأمر؟ قال: «صَلِّ الصلاة لوقتها .. » ، وأخرج مسلم (1855) عن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«خيارُ أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلُّون عليكم وتصلُّون عليهم، وشِرارُ أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال:«لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» .

(3)

أخرجه البخاري (7053) ومسلم (1849)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.

ص: 15

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دارَ إسلام عزمَ على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريشٍ لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهدٍ بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظمُ منه كما وجد سواء»

(1)

.

إنَّ ما يذكره ابن عبدالبر وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم من الفساد المترتِّب على عدم الالتزام بمنهج السلف في أصل الإمامة = نراهُ بأعيينا اليوم فيما يسمَّى بالربيع العربي؛ الذي أُزهقت فيه أنفس عشرات الآلاف من المسلمين، بل وتجاوزت مائة ألف نفس في دولة مسلمة واحدة، فكيف إذا جمع ضحاياها بضحايا الدول الأخرى.

كل هذا عدا الأعراض المنتهكة والأموال المتلَفة، ومع وضوح هذه المفاسد وضوحَ الشمس في رابعة النهار، إلَّا أن دعاة الفتنة يزدادون عمايةً ونفخًا في هذه الفتنة التي أكلت الأخضر واليابس بتأصيلاتٍ بدعيةٍ عن مذهب السلف أجنبية، بل وصاروا يُحيون كتبًا أُلِّفت على طريقة أهل البدع في أصل الإمامة.

لذا عزمتُ - مستعينًا بمولاي سبحانه - على ذكر تأصيلات السلف في أصل الإمامة والولاية، وتنقية ذلك من أصولٍ بدعية دخيلة سواءٌ كانت بدعًا خارجية - أو غيرها - قدر استطاعتي.

(1)

إعلام الموقعين (3/ 12).

ص: 16

فقمت بتوثيق النقول عن السلف، ثم كشف شبهات مثارة على هذا الأصل، ثم أعقبتُ ذلك بردودٍ على كتابين عصريين معتمدَين في تأصيل الأصول البدعية في أصل الإمامة والولاية.

1 -

الكتاب الأول: «الإمامة العظمى» للدكتور عبد الله الدميجي.

2 -

والكتاب الثاني: «الحرية والطوفان» للدكتور حاكم العبيسان.

ورددت على مقالين متضمِّنين لأصولٍ بدعية في مسألة الإمامة للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف، فصار الكتاب على النحو التالي:

الفصل الأول: ذكرت فيه تسعة تأصيلات في الإمامة والولاية.

الفصل الثاني: ذكرت فيه أكثر من ستين شبهة في أصل الإمامة، وبيَّنتُ زَيفها بحمد الله تعالى.

الفصل الثالث: استدراكات على كتاب «الإمامة العظمى» لعبد الله الدميجي، وقد بلغ عدد الاستدراكات عشرين استدراكًا.

الفصل الرابع: استدراكات على مقالين في الإمامة لعبد العزيز آل عبد اللطيف، وقد بلغ عددها أربعة عشر استدراكًا.

الفصل الخامس: استدراكات على كتاب «الحرية والطوفان» لحاكم العبيسان.

الفصل السادس: إشارات لكتاب «أسئلة الثورة» لسلمان العودة

(1)

.

(1)

وليعلم القارئ أنَّ كثيرًا من الحركيين المخالفين في هذا الأصل دافِعُهم الحزبية، والهوى، ولكي تدرك ذلك تأمل في مواقفهم من الثورات عند ظهورها، فقد كانوا ينفخون فيها ويشجعون عليها، متجاهلين أحاديث السمع والطاعة، فلما تولى حكم مصر الإخواني «محمد مرسي» وقامت الثورة ضدَّه أشاعوا أحاديثَ السمع والطاعة، فلما سقط حكم «محمد مرسي» رجعوا للنفخ في الثورات، وتهييج الناس على حكامهم!.

ص: 17

وقد كنت بدأت بالرد على كتاب «أسئلة الثورة» ، وكتبت أكثر من عشرين استدراكًا، لكن منعني من الإكمال أمور ثلاثة:

الأمر الأول: أنه معتمد كثيرًا على كتاب (الحرية والطوفان) لحاكم عبيسان، فالرُّد على أصلهِ كافٍ في الردِّ عليه.

الأمر الثاني: أنه قد كفاني الردَّ عليه الشيخ الفاضل الدكتور «فهد بن سليمان الفهيد» عميد كلية أصول الدين سابقًا في كتابه «الجناية على الإسلام في أسئلة الثورة» ، وأيضًا: ما كتبه الشيخ علي أبا بطين في كتابه «كشف أبرز شُبه كتاب أسئلة الثورة» ، وامتاز كتاب الدكتور فهد الفهيد بتعقُّبه لسلمان العودة في كلِّ خطأ وقف عليه، وقدَّم للكتابين فضيلة شيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله.

الأمر الثالث: أني بعد أن كتبتُ أكثر من عشرينَ استدراكًا على كتاب «أسئلة الثورة» نظرتُ في كتاب «الجناية على الإسلام في أسئلة الثورة» ، فوجدتُ ما كتبتهُ موافقًا ومتَّفقًا مع ما كتبه الشيخ فهد، فرأيتُ أنه لا داعي للتكرار، ثم حمدت الله؛ لأن من علامة صحَّة مذهب أهل السنة اتفاقهم وعدم اختلافهم.

قال أبو المظفر السمعاني: «ومما يدلُّ على أنَّ أهل الحديث هم على الحق: أنك لو طالعتَ جميعَ كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم؛ قديمِهم وحديثهم، مع اختلافِ بلدانهم وزمانهم وتباعُدِ ما بينهم في الديار وسكونِ كلِّ واحدٍ منهم قطرًا من الأقطار = وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمطٍ واحد يجرون فيه على طريقة، لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولُهم في ذلك واحد، وفعلُهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا ولا تفرُّقًا في شيء ما وإنْ قلَّ؛ بل لو جمعت

ص: 18

جميعَ ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلبٍ واحد، وجرى على لسانٍ واحد، وهل على الحقِّ دليلٌ أبيَنُ من هذا»

(1)

.

وهذا بخلاف أهل البدع فهم في أمرٍ مريجٍ، كلٌّ منهم على اعتقاد؛ بل الواحد منهم يناقضُ نفسه في اعتقاده، ومن البراهين على هذا ما في ذلك الكتاب من تناقض، واختلافِ المردود عليهم في باب الإمامة.

وقد أسميت هذا الكتاب:

الإمامة العظمى -تأصيلات أهل السنة السلفيين والرد على الشبهات المخالفين-

سيجد القارئ لهذا الكتاب تكرارًا في بعض الردود من جهة إيراد الأدلة وغير ذلك، وهذا ليس غريبًا؛ لأن طبيعة الكتاب الردُّ على أكثر من واحد، وطبيعي أن تكرر الشبهة نفسها، مما يستدعي تكرار الجواب عليها، وقد حاولتُ تفادي هذا إما باختصار الجواب تارةً عند ذكره مرة أخرى، أو بالإحالة على ما سبق ذكره؛ لذا سيجد القارئ إحالات كثيرة، وأيضًا سيجد نقلًا للشبهة، وقد تكون مطولةً والجوابُ عليها مختصرًا؛ لأنه قد سبق ذكرها.

وقد استطردت قليلًا في أشياء لا تتعلق بصلب الكتاب عند ذكر الشبهات، وعند الرد؛ للحاجة وللأهمية.

(1)

الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 45).

ص: 19

وإني لأرجو أن يكون هذا الكتاب

(1)

مفيدًا للسُّني لمعرفة تأصيلات أهل السنة في باب الإمامة، والرد على المخالفين والمشغِّبين على هذا الأصل، فإنَّ الخطأ في باب الإمامة شنيع، فإنَّ أولَ بدعة فرَّقتِ الأمة وتحزَّبت عليها طائفة هي بدعة الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكفّروه، ولم يعتقدوا له إمامة ولا ولاية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأول مَنْ ضلَّ في ذلك هم الخوارج المارقون حيث حكَموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنته»

(2)

.

وقال أيضًا: «ولهذا كان أول مَنْ فارقَ جماعة المسلمين من أهل البدع (الخوارج) المارقون»

(3)

.

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]:

«فإنَّ أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا، حين قسمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة» .

(1)

ومن الكتب المفيدة المفردة في هذه المسألة كتاب «البيان الواضح لمذهب السلف الصالح» وفيه وقفة مع كتاب «ثورة 25 يناير برؤية شرعية» لممدوح جابر، لمؤلفه الشيخ محمد بن كمال السيوطي، وكتاب «شبهات حول الخروج والثورات» للشيخ محمود الخولي، وقد استفدت من هذين الكتابين.

(2)

الاستقامة (ص: 13).

(3)

مجموع الفتاوى (3/ 349).

ص: 20

وقال الحافظ ابن رجب: «والاختلافُ في مسمَّياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث أخرجوا عصاةَ الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخَلوهم في دائرة الكفر، وعامَلوهم معاملة الكفار، واستحلُّوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم»

(1)

.

أسأل الله الرحمن الرحيم أن يتقبل هذا الكتاب، ويجعله سببًا لرضاه ولنشر دينه الحق، وسببًا لرجوع المسلمين في أصل الإمامة لما عليه السلف الصالح، إنه الرحمن الرحيم.

كتبه

د عبد العزيز بن ريس الريس

المشرف العام على شبكة الإسلام العتيق

[email protected]

(1)

جامع العلوم والحكم (1/ 114).

ص: 21

‌الفصل الأول

تأصيلات في الإمامة

عند أهل السنة

ص: 23

التأصيل الأول

قرَّر أهل السنة أنه يجب على المسلمين أن ينصبوا إمامًا وسلطانًا، واستدلوا لتقرير هذا الأصل بأدلة، أكتفي منها بذكر دليلين:

الدليل الأول: الإجماع:

فقد أجمع العلماء على وجوب تنصيب سلطانٍ ووالٍ على المسلمين.

قال الماوردي: «وعَقدُها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالإجماع وإن شذَّ عنهم الأصَمُّ»

(1)

اهـ.

قال ابن حزم: «اتفق جميعُ أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجبٌ عليها الانقياد لإمامٍ عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة، التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاشا النجدات من الخوارج، فإنهم قالوا: لا يلزم الناسَ فرضُ الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم»

(2)

.

الدليل الثاني: قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»

(3)

:

وذلك أن مصالح العباد في دينهم ودنياهم لا تستقيم ولا تصلح إلا بالإمام

(1)

الأحكام السلطانية (ص: 15).

(2)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 72)، وراجع للاستزادة: تفسير القرطبي (1/ 264)، وشرح النووي على مسلم (12/ 205)، والصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة (1/ 25)، وتاريخ ابن خلدون (1/ 239).

(3)

انظر: روضة الناظر وجنة المناظر (1/ 118)، والبحر المحيط في أصول الفقه (1/ 296).

ص: 25

والسلطان.

قال الشاعر الجاهلي «الأفوه الأودي» :

لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سراةَ لهم

ولا سراةَ إذا جُهَّالهم سادوا

(1)

وقال الإمام عبدالله بن المبارك

(2)

:

إنَّ الجماعة حبلُ الله فاعتصموا

منهُ بعُروته الوثقى لمن دانا

كم يدفعُ الله بالسلطان مُعضلةً

في ديننا - رحمةً منه - ودنيانا

لولا الخلافةُ لم تأمَنْ لنا سُبلٌ

وكان أضعفُنا نهبًا لأقوانا

(1)

لسان العرب (7/ 210).

(2)

غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 231).

ص: 26

التأصيل الثاني

مقاصد نصب الأئمة

مشروعية الولاية والإمامة؛ لأجل إقامة الدين وإصلاح الدنيا، وشرعيتها من باب الوسائل.

قال الماوردي: «الإمامة موضوعةٌ لخلافة النبوة في حراسةِ الدين وسياسةِ الدنيا»

(1)

.

وقال الطيبي: «إن الراعي ليس مطلوبًا لذاته، وإنما أُقيم لحفظِ ما استرعاه المالك، فينبغي أن لا يتصرف إلَّا بما أَذِنَ الشارع فيه»

(2)

.

وقال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]:

«الإمام إنما نصب لدفعِ العدو وحماية البيضة وسدِّ الخلل، واستخراجِ الحقوق وإقامةِ الحدودِ، وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها» .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالمقصود الواجبُ بالولايات: إصلاحُ دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا؛ وإصلاحُ ما لا يقومُ الدينُ إلَّا به من أمرِ دنياهم»

(3)

.

(1)

الأحكام السلطانية (ص: 15).

(2)

عمدة القاري (24/ 221).

(3)

السياسة الشرعية (ص: 21).

ص: 27

وقال أيضًا: «وولي الأمر إنَّما نُصِّبَ ليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يُمكِّن من المنكر بمالٍ يأخذه، كان قد أتى بضدِّ المقصود، مثل مَنْ نصَّبتُه ليُعينكَ على عدوك، فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالًا ليجاهد به في سبيل الله، فقاتل به المسلمين، يوضح ذلك أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}»

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم: «وجميع الولايات الإسلامية مقصودُها الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر»

(2)

.

وقال الشوكاني: «والحاصلُ أن الغرض المقصود للشارع من نصب الأئمة هو أمران: أوَّلهما وأهمهما إقامة منار الدين، وتثبيت العباد على صراطه المستقيم، ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه طوعًا وكرهًا.

وثانيهما تدبير المسلمين في جَلْب مصالحهم، ودفع المفاسد عنهم، وقسمة أموال الله فيهم، وأخذِها ممن هي عليه وردِّها، فيمن هي له وتجنيد الجنود، وإعداد العدة لدفع مَنْ أراد أن يسعى في الأرض فسادًا من بُغاة المسلمين وأهل الجسارة منهم = من التسلط على ضعفاء الرعية، ونهب أموالهم، وهتكِ حرمتهم، وقطعِ سُبلهم، ثم القيام في وجه عدوهم من الطوائف الكفرية إن قصدوا ديارَ الإسلام

(1)

السياسة الشرعية (ص: 58).

(2)

الطرق الحكمية (ص: 199).

ص: 28

وغزوهم إلى ديار الكفر إن أطاقَ المسلمون ذلك، ووجدوا من العدد والعدة ما يقوم به، فهذا هو موضوع الإمام الذي وردَ الشرعُ بنصبه»

(1)

.

وقال أيضًا: «المقصود بالولاية العامة هو تدبيرُ أمور الناس على العموم والخصوص، وإجراء الأمور مجاريها، ووضعها مواضعها، وهذا لا يتيسر ممن في حواسِّه خلل؛ لأنها تقتضي نقصَ التدبير إمَّا مطلقًا، أو بالنسبة إلى تلك الحاسَّة.

وأما سلامة الأطراف فلا وجه لاشتراطها، فإنَّ الأعرجَ والأشلَّ لا ينقصُ من تدبيره شيء، ويقوم بما يقوم به من ليس كذلك، ومعلومٌ أنه لا يراد من مثل الإمام السِّباق على الأقدام ولا ضربُ الصَّولجان ولا حملُ الأثقال»

(2)

.

(1)

السيل الجرار (1/ 646).

(2)

السيل الجرار (1/ 937).

ص: 29

التأصيل الثالث

لا تصح ولاية الحاكم الكافر

(1)

شرعًا، ولا يعتقد في العنق بيعة له

(2)

، ويدلُّ لهذا الأصل أدلة، أكتفي منها بذكر دليلين:

الدليل الأول:

قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 142].

قال الكاساني: «الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم؛ لأنَّ الشرع قطعَ ولاية الكافر على المسلمين؛ قال الله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}»

(3)

.

وقال الإمام ابن القيم: «لما كانت التولية شقيقة الولاية كانت توليتُهم نوعًا من تَولِّيهم، وقد حكم تعالى بأنَّ مَنْ تولَّاهم فإنه منهم، ولا يتمُّ الإيمانُ إلَّا بالبراءة منهم، والولايةُ تنافي البراءة، فلا تجتمعُ البراءة والولاية أبدًا، والولاية إعزاز، فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبدًا، والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبدًا»

(4)

.

(1)

ومن منظِّري الإخوان المسلمين مَنْ شذَّ وخالفَ الإجماع كالقرضاوي، فقد جوَّز ولاية الحاكم الكافر على المسلمين.

(2)

وليس معنى هذا أن المسلمين في بلاد الكفار - كبلاد أوروبا - لا يحترمون الأنظمة، ولا يطيعون الحاكم الكافر، بل يطيعونه في غير معصية الله؛ وطاعتُهم لأجل المصلحة من غير اعتقاد أنَّ في أعناقهم بيعة له.

(3)

بدائع الصنائع (2/ 239).

(4)

أحكام أهل الذمة (1/ 499).

ص: 30

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 142]:

«وقد استدل كثير من العلماء بهذا الآية الكريمة على أصحِّ قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر، لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومَن قال منهم بالصحة، يأمرهُ بإزالة ملكهِ عنه في الحال لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}» .

فكذلك تولِّي الكافر للولاية العامة محرَّمة لعموم الآية، وهي أَولى من الأمثلة التي ذكر ابن كثير.

الدليل الثاني: الإجماع:

قال الإمام ابن القيم: «قال ابن المنذر: أجمع كلُّ من يُحفظ عنه من أهل العلم أنَّ الكافر لا ولاية له على مسلمٍ بحال»

(1)

.

وقال القاضي عياض: «لا خلاف بين المسلمين أنه لا تنعقدُ الإمامة للكافر، ولا تستديمُ له إذا طرأ عليه»

(2)

.

تنبيهان:

التنبيه الأول: بيَّن العلماء أنَّ المراد بالكفر البواح؛ أي: الظاهر البيِّن بلا شك.

قال أبو العباس القرطبي: «وقوله: «عندكم من الله فيه برهان»

(3)

؛ أي:

(1)

أحكام أهل الذمة (2/ 787).

(2)

إكمال المعلم (6/ 246).

(3)

أخرجه البخاري (7056)، ومسلم (1709) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ص: 31

حُجَّة بيِّنة، وأمرٌ لا شكَّ فيه؛ يحصل به اليقين أنه كفر، فحينئذٍ يجب أن يخلع من عُقِدَتْ له البيعة على ما قدَّمناه»

(1)

.

التنبيه الثاني: إذا ثبت كفرُ الحاكم فإنه لا يُخرَجُ عليه إلَّا عند القدرة؛ فهو كغيره من الواجبات معلَّق بالقدرة.

قال ابن حجر: «وملخَّصه: أنه ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجبُ على كل مسلم القيامُ في ذلك؛ فمن قَوِيَ على ذلك فله الثواب، ومن داهنَ فعليه الإثم، ومن عجَز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض»

(2)

.

(1)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 46).

(2)

فتح الباري (13/ 123).

قال العلامة ابن باز في مجموع فتاواه (8/ 203): «قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعُسرنا ويُسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازعَ الأمر أهله، وقال: إلَّا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان» .

فهذا يدلُّ على أنه لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور، ولا الخروج عليهم، إلَّا أن يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان؛ وما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب فسادًا كبيرًا وشرًّا عظيمًا، فيختلُّ به الأمن، وتضيع الحقوق، ولا يتيسَّر ردعُ الظالم، ولا نصر المظلوم، وتختلُّ السُّبل ولا تأمن، فيترتَّب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشرٌّ كثير، إلَّا إذا رأى المسلمون كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا، أو كان الخروج يسبب شرًّا أكثر فليس لهم الخروج؛ رعايةً للمصالح العامة، والقاعدةُ الشرعية المجمَعُ عليها:«أنه لا يجوز إزالة الشَّر بما هو أشرُّ منه، بل يجب درءُ الشرِّ بما يزيله أو يخفِّفه» .

أما درء الشر بشرٍّ أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفرًا بواحًا عندها قدرةٌ تزيله بها، وتضع إمامًا صالحًا طيبًا من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين، وشرٌّ أعظم من شرِّ هذا السلطان = فلا بأس، أما إذا كان الخروج يترتَّب عليه فساد كبير، واختلال الأمن، وظلم الناس، واغتيالُ مَنْ لا يستحق الاغتيال

إلى غير هذا من الفساد العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجبُ الصبر، والسمعُ والطاعة في المعروف، ومناصحة ولاة الأمور، والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير.

هذا هو الطريق السَّوي الذي يجب أن يُسلك؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشرِّ وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شرٍّ أكثر.

قال العلامة ابن عثيمين في لقاء الباب المفتوح (51) سؤال (1222): «إن كنَّا قادرين على إزالته فحينئذٍ نخرج، وإذا كنا غير قادرين فلا نخرج، لأن جميع الواجبات الشرعية مشروطة بالقدرة والاستطاعة، ثم إذا خرجنا فقد يترتب على خروجنا مفسدة أكبر وأعظم مما لو بقي هذا الرجل على ما هو عليه، لأننا إنْ خرجنا ثم ظهرت العزَّة له، صِرْنا أذلَّةً أكثر، وتمادى في طغيانه وكفره أكثر، فهذه المسائل تحتاج إلى تعقُّل، وأن يقترن الشرع بالعقل، وأن تُبعد العاطفة في هذه الأمور، فنحن محتاجون للعاطفة لأجل تحمُّسنا، ومحتاجون للعقل والشرع حتى لا ننساقَ وراء العاطفة التي تؤدي إلى الهلاك» .

ص: 32

التأصيل الرابع

يشترط في تولية الوالي ابتداءً أن يكون مسلمًا عدلًا، فلا تصحُّ ولاية الفاسق، ويدلُّ لهذا الأصل دليلان:

الدليل الأول:

قال تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].

قال ابن جرير في تفسيره عند قوله تعالى: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} :

«هذا خبر من الله جلَّ ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إمامًا يقتدي به أهل الخير، وهو من الله جلَّ ثناؤه جوابٌ لما يُتوهَّم في مسألته إياه، أن يجعل من ذريته أئمة

ص: 33

مثله، فأخبر أنه فاعل ذلك، إلَّا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير مُصَيِّره كذلك، ولا جاعله في محلِّ أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة، لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به».

ثم روى بإسناد ثابت عن مجاهد أنه قال: «لا يكون إمامًا ظالمًا» .

الدليل الثاني: الإجماع:

قال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} :

«لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تُعقدَ الإمامة لفاسق» .

تنبيهات:

التنبيه الأول: معنى شرط العدالة: أي أن لا يكون فاسقًا عند الاختيار ابتداءً، أما عند الاستدامة، فيسقط هذا الشرط، بمعنى: أنه إذا تولَّى العدلُ اختيارًا، ثم عرضَ له الفسقُ فصار فاسقًا، فإنه لا يُخرَجُ عليه، ولا يُعزل بالإجماع

(1)

- كما سيأتي إن شاء الله

(2)

-.

التنبيه الثاني: شرط العدالة يُراعى عند الابتداء - كما تقدم -، وفي حال الاختيار، أمَّا عند الغلبة والقهر، فلا يُلتفت لهذا الشرط بما أنه مسلم - كما سيأتي إن شاء الله -.

(1)

ولهذه المسألة أشباه ونظائر، وهي من فروع وأمثلة القاعدة الفقهية المشهورة:«يُغتفر في الدوام ما لا يُغتفر في الابتداء» ، انظر:«الأشباه والنظائر للسبكي» (1/ 127)، و «الأشباه والنظائر للسيوطي» (1/ 186).

(2)

سيأتي (ص: 44، 186).

ص: 34

التأصيل الخامس

أهل السنة والجماعة يقرِّرون حُرمة الخروج على الحاكم الفاسق الظالم أو المبتدع ما دام مسلمًا، ويوجبون له السمع والطاعة في غير معصية الله، ويدلُّ لهذا الأصل عدة أدلة:

الدليل الأول:

مقتضى الأدلة الدالة على وجوب السمع والطاعة للحاكم المسلم وحُرمة الخروج عليه، ولم تفرِّق الأدلة بين العادل والفاسق والظالم والمبتدع، ولو كان هناك فرقٌ لبيَّنتهُ الشريعة، فإنَّ الأصل بقاءُ العامِّ على عمومه، وإليك بعض هذه الأدلة:

1 -

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .

وجه الدلالة: أن كلمة {أُولِي} نكرة أُضيفَت إلى معرفة، فأفادت العموم في كلِّ حاكمٍ بما أنه مسلم.

2 -

وعن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطاعة في المنشَط والمكرَه، وعُسرنا ويُسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازعَ الأمر أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلَّا أن تروا كُفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان»

(1)

.

ومحلُّ الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: «وأن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه، إلَّا أن تروا كُفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان» .

(1)

أخرجه البخاري (7056)، ومسلم (1709).

ص: 35

وقد أفاد العموم من جهتين:

الجهة الأولى: (أهله) لفظ عام، وذلك أنَّ لفظ (أهل) نكرة مضافة إلى معرفة، وهو الضمير، فأفادت العمومَ في كلِّ حاكمٍ مسلم.

الجهة الثانية: الاستثناء في قوله: «إلَّا أن تروا

» والاستثناء معيار العموم، فيفيد أنه عامٌّ في كلِّ حاكم، إلَّا أن يكون كافرًا كفرًا ظاهرًا.

3 -

قال علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه: «سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيَّ الله؛ أرأيتَ إن قامت علينا أمراء يسألونا حقَّهم ويمنعونا حقَّنا فما تأمرنا؟ فأعرضَ عنه، ثم سأله، فأعرضَ عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذَبهُ الأشعثُ بن قيس وقال: «اسمَعوا وأطيعوا فإنَّما عليهم ما حُمِّلوا وعليكُم ما حُمِّلتم»

(1)

.

وجه الدلالة: أن قوله: «إنْ قامت علينا أمراء» لفظ «أمراء» نكرة في سياق الشرط، فيفيد العموم لكلِّ أمير، ويدخل في هذا العموم أن يكون الأمير فاسقًا وظالمًا، لا سيما وأنه قال في الحديث:«ويمنعونا حقَّنا» .

4 -

قال عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا من وَليَ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصيةِ الله فلْيكرَهْ ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنَّ يدًا من طاعة»

(2)

.

وجه الدلالة: (وال) نكرة في سياق الشرط، فتفيد العموم لكلِّ والٍ، ثم نهى عن أي منازعة في قوله:«يدًا من طاعة» ، و (يدًا) عامة؛ لأنها نكرة في سياق النهي.

(1)

أخرجه مسلم (1846).

(2)

صحيح مسلم (1855).

ص: 36

الدليل الثاني:

أن الأدلة أمرت بالسمع والطاعة مع وجود المعصية عند الحاكم.

والفرقُ بين هذا الدليل والذي قبله: أنَّ هذا الدليل أخَصُّ؛ فقد نصَّ على السمع والطاعة مع ذكره للمعصية، كمثل حديث عبادة المتقدِّم، فقد استثنى أن يُرى منه الكفر البواح، فدلَّ على أنه إذا وقعت منه المعاصي الكبائر والصغائر يُسمَعُ ويُطاع له؛ لأنها ليست كفرًا، ومثله حديث سلمة بن يزيد الجعفي المتقدِّم، فقد نصَّ على السمع والطاعة مع وجود الظلم منهم، ومثله حديث عوف بن مالك المتقدم، فقد نصَّ على السمع والطاعة مع وجود المعصية منهم.

الدليل الثالث:

الأدلة التي أمرت بالصبر على ظُلم الحاكم وجَوره، مع أنه بظُلمه صار حاكمًا ظالمًا فاسقًا، من هذه الأدلة ما أخرجه الشيخان عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنكم سَتلقَون بعديْ أَثَرة، وأمورًا تنكرونها» ، قالوا: فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «تؤدُّون الحقَّ الذي عليكم وتسألونَ الله الذي لكم»

(1)

.

وقال في حديث أسيد رضي الله عنه: «فاصبروا حتى تلقَوني على الحوض»

(2)

.

ومنها ما أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ رأى من أميرهِ شيئًا يكرهُه، فليصبرْ عليه، فإنه مَنْ فارقَ الجماعة شبرًا، فماتَ إلَّا ماتَ ميتةً جاهلية»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (3603)، ومسلم (1843).

(2)

أخرجه البخاري (3792)، ومسلم (1845).

(3)

أخرجه البخاري (7053)، ومسلم (1849).

ص: 37

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله: «إنكم سترونَ بعدي أثرةً وأمورًا تنكرونها» ، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «تؤدُّون الحقَّ الذي عليكم وتسألونَ الله الذي لكم»

(1)

، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الأمراء يظلمون، ويفعلون أمورًا منكَرة، ومع هذا فأمرَنا أن نؤتيَهُم الحقَّ الذي لهم، ونسأل الله الحقَّ الذي لنا.

ولم يأذنْ في أخذِ الحقِّ بالقتال، ولم يرخِّص في تركِ الحقِّ الذي لهم.

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ رأى من أميرهِ شيئًا يكرههُ فليصبرْ عليه فإنَّه مَنْ فارقَ الجماعةَ شبرًا فماتَ إلَّا ماتَ ميتةً جاهلية» ، وفي لفظ:«فإنَّه مَنْ خرجَ من السلطان شبرًا فماتَ ماتَ ميتةً جاهلية» واللفظ للبخاري، وقد تقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أنهم لا يهتدون بهديهِ، ولا يستنُّونَ بسُنَّته، قال حذيفة: كيف أصنعُ يا رسولَ الله إنْ أدركتُ ذلك؟ قال: «تسمعُ وتطيعُ للأمير، وإنْ ضربَ ظهركَ، وأخذَ مالكَ فاسمَعْ وأطِعْ»

(2)

.

فهذا أمرٌ بالطاعة مع ظُلمِ الأمير، وتقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وليَ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فلْيكرَهْ ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا عن

طاعة»

(3)

، وهذا نهيٌّ عن الخروج عن السلطان، وإن عصى، وتقدَّم حديث عبادة:«بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السَّمعِ والطاعة، في منشَطنا ومكرَهنا، وعُسرنا ويُسرنا، وأثرَةٍ علينا، وأن لا ننازعَ الأمرَ أهله» ، قال: «إلَّا إن تروا كفرًا بواحًا عندكم من

(1)

سبق تخريجه (ص: 37).

(2)

أخرجه مسلم (1847).

(3)

سبق تخريجه (ص: 36).

ص: 38

الله فيه برهان»، وفي رواية:«وأن نقولَ - أو نقوم - بالحقِّ حيث ما كنَّا لا نخافُ في الله لومةَ لائم»

(1)

.

فهذا أمرٌ بالطاعة مع استئثار ولي الأمر، وذلك ظُلمٌ منه ونهيٌ عن منازعة الأمر أهله، وذلك نهيٌ عن الخروج عليه؛ لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم، وهم الذين لهم سلطانٌ يأمرون به، وليس المرادُ من يستحقُّ أن يولَّى ولا سلطانَ له، ولا المتولِّي العادل؛ لأنه قد ذكر أنهم يستأثرون، فدلَّ على أنه نهى عن منازعة وليِّ الأمر، وإن كان مستأثرا، وهذا بابٌ واسع»

(2)

.

الدليل الرابع: الإجماع:

قرر كثيرٌ من أهل السنة في كتب العقائد الإجماع على وجوب السمع والطاعة للحاكم المسلم، وحرمةَ الخروجِ عليه ولو فسق وظلم، فدلَّ هذا على أنَّ المخالف في هذا هم أهلُ البدع والضلال، ودونك شيئًا من نصوصهم في ذلك:

1 -

قال الإمام أحمد: «ومَن خرج على إمامٍ من أئمة المسلمين، وقد كانوا اجتمعوا عليه، وأقرُّوا بالخلافة بأيِّ وجهٍ كان بالرضا أو الغلبة، فقد شقَّ هذا الخارجُ عصا المسلمين وخالفَ الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنْ ماتَ الخارجُ عليه ماتَ ميتةً جاهلية، ولا يحلُّ قتالُ السلطان، ولا الخروجُ عليه لأحدٍ من الناس، فمَنْ فعلَ ذلك، فهو مبتدع على غير السُّنة»

(3)

.

(1)

سبق تخريجه (ص: 31).

(2)

منهاج السنة النبوية (3/ 394).

(3)

أصول السنة (ص: 45).

ص: 39

2 -

وقال الإمام علي بن المديني: «السُّنة اللازمة التي مَنْ تركَ منها خصلةً لم يقُلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها» ، فذكر أشياء ثم قال:«ومَن خرجَ على إمام من أئمة المسلمين، وقد اجتمع عليه الناس، فأقرُّوا له بالخلافة بأيِّ وجه كانت؛ برضا كانت أو بغلبة، فقد شقَّ هذا الخارجُ عليه العصا أو خالفَ الآثارَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنْ ماتَ الخارجُ عليه ماتَ ميتةً جاهلية، ولا يحلُّ قتالُ السلطان ولا الخروجُ عليه لأحدٍ من الناس، فمَن عملَ ذلك فهو مبتدعٌ على غير السُّنة»

(1)

.

3 -

وقال الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان: «أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا، فكان من مذهبهم» ، فذكرا أشياء ثم قالا:«ولا نرى الخروجَ على الأئمة ولا القتالَ في الفتنة، ونسمعُ ونطيع لمن ولَّاه الله عز وجل أمرنا، ولا ننزع يدًا من طاعة، ونتَّبع السُّنة والجماعة ونجتنبُ الشُّذوذَ والخلافَ والفرقة»

(2)

.

4 -

وقال حرب الكرماني في عقيدته التي تعلَّمها عن أهل السنة: «والانقياد لمن ولَّاه الله أمرك، لا تنزع يدكَ من طاعة، ولا تخرج عليه بسيفك حتى يجعل الله لكَ فرَجًا ومخرجًا، وأن لا تخرجَ على السلطان، وتسمع وتطيع، ولا تنكث بيعة، فمَن فعل ذلك فهو مبتدعٌ مخارق مفارق للجماعة، وإن أمركَ السلطان بأمرٍ هو لله معصية، فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه، ولا تمنعه حقَّه»

(3)

.

(1)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 185).

(2)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 198).

(3)

كتاب السنة من مسائل الإمام حرب (ص: 34).

ص: 40

5 -

وقال أبو عثمان الصابوني: «يرى أصحاب الحديث: الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كلِّ إمامٍ برًّا كان أو فاجرًا، ويرون جهاد الكفَرة معهم، وإن كانوا جَوَرةً فجَرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسطِ العدل في الرَّعية، ولا يرون الخروجَ عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدولَ عن العدل إلى الجور والحيف»

(1)

.

6 -

وقال المزني: «والطاعة لأولي الأمر فيما كان عند الله عز وجل مُرضيًا، واجتناب ما كان عند الله مُسخطًا، وترك الخروج عند تعدِّيهم وجَورهم، والتوبة إلى الله عز وجل كيما يعطف بهم على رعيَّتهم»

(2)

.

7 -

وقال ابن أبي زيد القيرواني: «والسمعُ والطاعة لأئمة المسلمين وكلِّ مَنْ وليَ أمرَ المسلمين عن رضا أو عن غلبة، واشتدَّتْ وطأته من بَرٍّ أو فاجر، فلا يخرج عليه، جارَ أو عدل» ، ثم قال:«وكلُّ ما قدَّمنا ذِكرَه فهو قولُ أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيَّناه، وكلُّه قولُ مالك؛ فمنه منصوصٌ من قوله، ومنه معلوم من مذهبه»

(3)

.

8 -

وقال ابن حجر: «قال ابن بطال: في الحديث حجَّة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وأن طاعته خيرٌ من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء. وحجَّتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلَّا إذا وقع

(1)

عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: 90).

(2)

شرح السنة (ص: 84).

(3)

الجامع (ص: 116).

ص: 41

من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها، كما في الحديث الذي بعده»

(1)

، وأقرَّه الحافظ ابن حجر.

9 -

وقال ابن قدامة: «السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين - بَرِّهم وفاجرِهم - ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله، ومن وَليَ الخلافة واجتمعَ عليه الناس ورضوا به، أو غلَبَهُم بسيفهِ حتى صار الخليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين = وجبتْ طاعته وحَرُمتْ مخالفته والخروجُ عليه وشقُّ عصا المسلمين»

(2)

.

10 -

وقال النووي تعليقًا على حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «ومعنى الحديث: لا تُنازِعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلَّا أن تروا منهم منكرًا محقَّقًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحقِّ حيث ما كنتم، وأما الخروجُ عليهم وقتالهم، فحرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسَقةً ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته»

(3)

.

11 -

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «استقر أمرُ أهل السُّنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جَور الأئمة، وترك قتالهم»

(4)

.

(1)

فتح الباري (13/ 7)، وانظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 8).

(2)

لمعة الاعتقاد (ص: 32).

(3)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 229).

(4)

منهاج السنة النبوية (4/ 315).

ص: 42

وقال أيضًا: «ولهذا كان مذهبُ أهل الحديث تركَ الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصَّبر على ظُلمهم إلى أن يستريحَ بَرٌّ، أو يُستراحَ من فاجر»

(1)

.

وقال أيضًا: «ويقولون: إنه يُعاوَن على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، ويُطاع في طاعة الله دون معصيته، ولا يُخرج عليه بالسيف، وأحاديثُ النبي صلى الله عليه وسلم إنما تدلُّ على هذا، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ رأى من أميره شيئًا يكرههُ فليصبرْ عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس يخرجُ عن السلطان شبرًا فمات عليه إلَّا مات ميتةً جاهلية» ، وفي لفظ:«أنه مَنْ فارقَ الجماعة شبرًا فمات عليه إلَّا ماتَ ميتةً جاهلية» ، فجعل المحذور هو الخروج عن السلطان ومفارقة الجماعة، وأمرَ بالصبر على ما يُكره من الأمير؛ لم يخصَّ بذلك سلطانًا معيَّنًا ولا أميرًا معيَّنًا ولا جماعةً معيَّنة

»

(2)

.

12 -

الحافظ ابن حجر؛ فقد نقل الإجماع الذي حكاه ابنُ بطَّالٍ، وأقرَّه عليه

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (4/ 429).

(2)

منهاج السنة النبوية (1/ 556).

(3)

انظر: (ص: 41).

ص: 43

التأصيل السادس

قرَّر أهل السنة أنه لا يُعزل الإمام والسلطان ولو كان فاسقًا وظالمًا ومبتدعًا بما أنه مسلم، ويدل لذلك ما تقدم ذكره من الأدلة مع إجماع السلف الدالِّ على وجوب السمع والطاعة، والصبر على جَورِ وظلمِ الحاكم المسلم، وقد أكد هذا المعنى النووي فقال:«وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحُكي عن المعتزلة أيضًا = فغلطٌ من قائلهِ مخالفٌ للإجماع، قال العلماء: وسبب عدم انعزاله، وتحريم الخروج عليه ما يترتبُ على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه»

(1)

، ثم نقل عن أبي بكر بن مجاهد حكاية الإجماع.

قال ابن الهمام: «واتفقوا في الإمرة والسلطنة على عدم الانعزال بالفسق لأنها مبنية على القهر والغلبة»

(2)

.

وقال العيني: «وفيه دليل - عند قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَرِهَ من أميرهِ شيئًا فليصبر» - على أنَّ السلطان لا ينعزل بالفسق والظلم ولا تجوز منازعته في السلطنة بذلك»

(3)

.

وستجد في كتب بعض المتأخرين ما يخالف هذا، حيث قرروا جوازَ خلع الحاكم لفسقٍ أو بدعة، وهؤلاء مخطئون مخالفون لإجماع السلف، وخطؤهم في

(1)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 229).

(2)

فتح القدير (7/ 254).

(3)

عمدة القاري (24/ 178).

ص: 44

هذا مثل خطأ بعض المتأخرين في تأويل الأسماء أو الصفات، أو في القدر أو الإيمان وهكذا

، فهم محجوجون بإجماع السلف السابق.

ومما يبيِّنُ شذوذَ هذا القول، وأنه مخالفٌ لإجماع السلف: ما تقدَّم نقلهُ في كتب العقائد من وجوب السمع والطاعة، وهذا لا يتوافقُ مع القول بالعزل، وكذلك الأدلة الكثيرة الآمرة بالصَّبر على جَور الحاكم لا تتوافقُ مع القول بالعزل.

وسيأتي - إن شاء الله - بسطُ هذا أكثر عند كشفِ الشبهات ومناقشتها.

ص: 45

التأصيل السابع

حُرمة إشاعة عيوب ولاة الأمور وإظهارها ولو باسمِ النصيحة، ويدلُّ لهذا الأصل عدة أدلة:

الدليل الأول:

أنَّ إظهارَ عيوبهم وأخطائهم سببٌّ لشحن النفوس عليهم، المؤدِّي للخروج عليهم؛ والوسائلُ المؤدية للمحرَّم محرَّمة لأنَّ للوسائل أحكام الغايات.

قال التابعي الجليل - وقيل: إنه صحابي - عبدالله بن عكيم: «لا أُعينُ على دمِ خليفةٍ أبدًا بعد عثمان، فيقال له: يا أبا معبد أو أَعنْتَ على دمهِ؟! فيقول: إنِّي أعدُّ ذِكرَ مساويهِ عونًا على دمهِ»

(1)

.

الدليل الثاني:

أنَّ نشرَ أخطاء وعيوب المسلمين منهيٌّ عنه؛ لأنه من الغيبة، فكيف بوليِّ الأمر، هذا على فرضِ أنها حقٌّ، فكيف إذا كانت كذبًا أو مبالغًا فيها.

وقد حرم الله الغيبة بقوله: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، وقد ذكر القرطبي في تفسيره أنَّ الغيبة كبيرةٌ من كبائر الذنوب بإجماع أهل العلم فقال:«لا خِلافَ أنَّ الغيبة من الكبائر، وأنَّ مَنْ اغتابَ أحدًا عليه أن يتوبَ إلى الله عز وجل» .

(1)

الطبقات الكبرى (3/ 85)، والتاريخ الكبير (1/ 32).

ص: 46

فإن قيل: إنَّ هناك فرقًا بين الغيبة والنصيحة، كما قال الإمام ابن القيم:«والفرقُ بين النصيحة والغيبة: أنَّ النصيحة يكون القصدُ فيها تحذيرُ المسلم من مبتدع، أو فتَّان، أو غاشٍّ، أو مفسدٍ، فتذكرُ ما فيه إذا استشاركَ في صُحبته ومعاملته، والتعلُّق به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاحِ معاوية وأبي جهم فقال: «أمَّا معاويةُ فصعلوكٌ، وأمَّا أبو جهمٍ فلا يضَعُ عَصاهُ عن عاتقهِ»

(1)

، وقال بعضُ أصحابه لمن سافر معه:«إذا هبطتَ بلادَ قومهِ فاحذروه»

(2)

.

فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين فهي قربةٌ إلى الله من جملة الحسنات، وإذا وقعت على وجه ذمِّ أخيك، وتمزيقِ عِرْضهِ، والتفكُّه بلحمهِ، والغضِّ منه لتضعَ منزلته من قلوب الناس، فهي الداءُ العضالُ ونارُ الحسنات التي تأكلُها كما تأكلُ النارُ الحطب»

(3)

.

فيقال: هذا حقٌّ لكنه في عامة الناسِ عدا ولي الأمر؛ لما سيأتي في التأصيل الآتي من الأدلة وإجماع السلف، والعجيبُ أنَّ كثيرًا من الناس يتناقضُ في هذا، فإذا ذكرتَ أخطاء مَنْ يحبُّ من الدعاة - ولو كانوا مبتدعة - دافعَ عنهم واستدلَّ على ذلك بحُرمة الغيبة، بخلافِ ما يتعلَّق بولي الأمر؛ فتراه سَبَّاقًا لنشرها وإشاعتها، وهو بهذا خالفَ النصوص الشرعية، وعكَسَ ما جاء به الشرع.

(1)

أخرجه مسلم (1480) من حديث فاطمة بنت قيس.

(2)

أخرجه أبو داود (4861)، وأحمد (5/ 289) من حديث عمرو بن الغفواء رضي الله عنه، وضعفه الشيح الألباني في السلسلة الضعيفة (1205).

(3)

الروح (ص: 240).

ص: 47

فائدة:

قرر غيرُ واحدٍ من أهل السُّنة ممن كتب في الاعتقاد مشروعية الدعاء للسلطان.

فمن ذلك ما رُوي عن الفضيل بن عياض بسندٍ صحيح أنه قال: «لو أنَّ لي دعوةً مستجابة ما صيَّرتها إلَّا في الإمام. قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى صيَّرتُها في نفسي لم تُجْزني، ومتى صيَّرتها في الإمام - يعني: عمَّتْ - فصلاحُ الإمام صلاحُ العباد والبلاد

قبَّل ابنُ المبارك جبهته وقال: يا معلِّم الخير! من يُحسِنُ هذا غيرك؟»

(1)

.

وأخرج الخلال في كتاب السنة بسند صحيح عن الإمام أحمد أنه قال: «وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار والتأييد، وأرى ذلك واجبًا عليّ»

(2)

.

وقال أبو عثمان الصابوني: «ويرون الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، وبسطِ العدلِ في الرعية»

(3)

.

وقال الإمام البربهاري: «وإذا رأيتَ الرجل يدعو على السلطان فاعلَمْ أنه صاحبُ هوًى، وإذا سمعتَ الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلَمْ أنه صاحبُ سُنَّةٍ إن شاء الله» ، ثم قال:«فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإنْ ظلَموا وجاروا؛ لأنَّ ظُلمهم وجَورَهُم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين»

(4)

.

(1)

حلية الأولياء (8/ 91).

(2)

السنة للخلال (1/ 83).

(3)

عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: 92).

(4)

شرح السنة (ص: 136).

ص: 48

التأصيل الثامن

صفة مناصحة ولاة الأمور المسلمين

إنَّ من خصائص ولاة الأمور المسلمين أنَّ نُصحَهم والإنكار عليهم لا يكون إلَّا أمامهم، فلا يصحُّ شرعًا خلفهم ووراءهم، وقد دلَّ على تقرير هذا الأصل عدة أدلة:

الدليل الأول:

قال أبو رقية تميم بن أوس الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدينُ النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: للهِ ولكتابه ولرسوله ولأئمةِ المسلمين وعامتهم»

(1)

.

وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم غايرَ في النصيحة بين ولاة الأمور وبين غيرهم، فدلَّ على أن نُصحَهم يختلف عن غيرهم، وهذا مفهومٌ من صنيع الإمام ابن أبي عاصم في كتابه السُّنة فإنه لما ذكرَ حديثَ الدين النصيحة بوَّبَ بعد ذلك بقوله:«باب كيف نصيحةُ الرَّعية للولاة؟»

(2)

، ثم ذكر حديث «مَنْ كان عندَهُ نصيحةٌ لذي سلطانٍ فلا يُبدِهِ علانية

».

وقرر هذا أيضًا شيخنا العلامة المحقق محمد بن صالح العثيمين رحمه الله فقال: «ثم إنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام فرَّقَ بينهم وبين عامة المسلمين، فقال:

«أئمة المسلمين وعامتهم» ، مما يدلُّ على أنَّ النصيحة للأئمة ليست كالنصيحة للعامة؛ لأنه يجبُ عند النصيحة للأئمة أن يُراعيَ الانسان مقامه، بحيث تكون

(1)

أخرجه مسلم (55).

(2)

السنة لابن أبي عاصم (2/ 521).

ص: 50

النصيحة مناسبةً لمقامه، وهذا من تنزيل الناس منازلهم ومن الحكمة»

(1)

، وقد بينتُ هذه الطريقة من خلال الأدلة الآتية.

الدليل الثاني:

قال عياض بن غنم رضي الله عنه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينصحَ لسلطانٍ بأمرٍ، فلا يُبْدِ له علانيةً، ولكن ليأخذْ بيده، فيخلو به، فإن قبلَ منه فذاك، وإلَّا كان قد أدَّى الذي عليه له»

(2)

، حسَّنَ الحديثَ العلامة الألباني

(3)

، وسمعت العلامة ابن باز يجوِّده.

الدليل الثالث:

قال سعيد بن جبير: «قلتُ لابن عباس: آمرُ إمامي بالمعروف؟ قال: إن خشيتَ أن يقتلكَ فلا، فإن كنتَ ولا بدَّ فاعلًا، ففيما بينكَ وبينه، ولا تغتبْ إمامَكَ»

(4)

.

الدليل الرابع:

قال أبو وائل: «قيل لأسامة بن زيد: لو أتيتَ عثمان فكلَّمته، قال: إنكم لتُرَوْنَ أنيِّ لا أكلِّمه إلَّا أُسمعكم، إني أكلِّمه في السِّر، دون أن أفتحَ بابًا لا أكونُ أوَّلَ مَنْ فتحَه»

(5)

.

(1)

شرح بلوغ المرام (15/ 411).

(2)

أخرجه أحمد (3/ 403).

(3)

السنة لابن أبي عاصم (2/ 522).

(4)

أخرجه سعيد بن منصور (846)، وإسناده صحيح.

(5)

أخرجه البخاري (3267) ومسلم (2989).

ص: 51

الدليل الخامس:

أن هذه طريقة السلف؛ فالمخالفُ لطريقةِ السلف واقعٌ في البدعة؛ لأنَّ هذه الوسيلة - وهي المناصحة من وراء ولي الأمر - لم يفعلْها السلفُ مع وجودِ المقتضي وانتفاءِ المانع؛ وما كان كذلك فهو بدعة

(1)

.

(1)

والضابط في التفريق بين الوسائل المشروعة والمحدثة أمران:

الأول: أن ينظر في هذا الأمر المُراد إحداثه لكونه مصلحة هل الْمُقتضي لفعله كان موجودًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والمانعُ منتفيًا؟

ــــــ فإن كان كذلك ففعل هذه المصلحة - المزعومة - بدعة؛ إذ لو كانت خيرًا لسبقَ القومُ إليها؛ فإنَّهم بالله أعلَمُ وله أخشى وكلُّ خير فِي اتباعهم فعلًا وتركًا.

ــــــ أما لو كان المُقتضي - أي: السبب المحوِجُ - غيرَ موجود في عهدهم أو كان موجودًا لكن هناك مانع يَمنع من اتِّخاذ هذه المصلحة فإنه لا يكون بدعة، بل يكون مصلحةً مرسلة؛ وذلك مثلُ جَمعِ القرآن فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المُقتضي لفعلهِ غيرُ موجود؛ إذ هو بين أظهُرهم لا يُخشى ذهابه ونسيانه، أما بعد موته فخُشِيَ ذلك؛ لأجلِ هذا جَمعَ الصحابة الكرامُ القرآن.

ومن الأمثلة أيضًا: الأذان فِي مكبرات الصوت، وتسجيل المحاضرات فِي الأشرطة السمعية، وصلاة القيام فِي رمضان جَماعة؛ فكلُّ هذه الأمور كان يوجد مانع فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فِعلها، أما الأمران الأوَّلان: فعدمُ إمكانهِ؛ لعدم وجودِها في زمانه، أما الأمر الثالث: فإنه ترك الفعل خشيةَ فرضهِ؛ وبعد موته لَمْ يكن ليُفرَضَ شيءٌ لم يكن مفروضًا من قبل.

الثانِي: إن كان الْمُقتضي غير موجود فِي عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فيُنظر فيه هل الداعي له عندنا بعض ذنوب العباد؟ فمثل هذا لا تُحدثُ له ما قد يسمِّيه صاحبه مصلحةً مرسلةً بل يؤمَرون بالرجوع إلى دين الله والتمسُّك به؛ إذ هذا المطلوب منهم فِعلُه، والمطلوب من غيرهم دعوتُهم إليه، ويُمثَّل لِهذا بتقديْم الخطبة على الصلاة في العيدين لأجلِ حبسِ الناسِ لسماعِ الذِّكرِ؛ فمثلُ هذا من البدَع المحدثة لا من المصالِح المرسلة.

ودونكَ كلام الإمام الْمُحقق ابن تيمية فِي بيان هذا الضابط، قال في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 278): والضابط فِي هذا - والله أعلم - أن يُقال: إنَّ الناس لا يُحدِثونَ شيئًا إلَّا لأنَّهم يرونه مصلحةً؛ إذ لو اعتقدوه مفسدةً لَمْ يُحدثوه، فإنه لا يدعو إليه عقلٌ ولا دينٌ فما رآهُ الناسُ مصلحةً نُظِرَ فِي السبب المُحوِج إليه؛ فإن كان السببُ الْمُحوجُ أمرًا حدثَ بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منَّا فهنا قد يَجوز إحداثُ ما تدعو الْحَاجة إليه، وكذلك إن كان المُقتضي لفعلهِ قائمًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِمعارضٍ زالَ بِموته.

وأمَّا ما لَمْ يَحدث سببٌ يُحوج إليه، أو كان السبب الْمُحوج إليه بعضُ ذنوب العباد فهنا لا يَجوز الإحداث؛ فكلُّ أمرٍ يكون الْمُقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودًا لو كان مصلحةً ولَمْ يُفعل = يُعلم أنه ليس بِمصلحةٍ، وأمَّا ما حدثَ المُقتضي له بعد موتهِ من غير معصية الخلق فقد يكون مصلحة.

ثم قال: «فأما ما كان المُقتضي لفعله موجودًا لو كان مصلحةً وهو مع هذا لَمْ يشرعه = فوضعهُ تغييرٌ لدين الله، وإنَّما دخل فيه من نُسِبَ إلَى تغيير الدِّين من الْمُلوك والعلماء والعبَّاد، أو من زلَّ منهم باجتهادٍ كما روي عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وغير واحدٍ من الصحابة: «إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم: زلَّة عالِم وجدالُ منافقٍ بالقرآن وأئمةٌ مضلُّون» .

فمثال هذا القسم: الأذان فِي العيدين فإن هذا لمَّا أحدثه بعضُ الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعةٌ؛ فلو لَمْ يكن كونه بدعةً دليلًا على كراهيته وإلَّا لقيل: هذا ذِكرٌ لله ودعاءٌ للخلق إلَى عبادة الله، فيدخل فِي العمومات كقوله:{اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} ] الأحزاب: 41 [وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا _[فصلت: 33].

ثُمَّ قال: ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريطٍ من الناس: تقديمُ الخطبة على الصلاة فِي العيدين؛ فإنه لمَّا فعله بعضُ الأمراء أنكره المُسلمون؛ لأنه بدعةٌ واعتذر مَنْ أحدَثهُ بأنَّ الناس قد صاروا ينفَضُّون قبل سَماع الخطبة، وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفضُّون حَتَّى يسمعوا أو أكثرهم فيُقال له: سببُ هذا تفريطُكَ؛ فإنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كان يَخطبهم خطبةً يقصدُ بِها نفعَهُم وتبليغَهُم وهدايتهم، وأنت قصدُكَ إقامة رياستك، وإن قصدتَ صلاحَ دينهِم فلا تعلِّمهم ما ينفعهم؛ فهذه المعصية منك لا تُبيحُ لكَ إحداثَ معصيةٍ أخرى بل الطريقُ في ذلك أن تتوب إلَى الله وتتَّبعَ سنة نبيِّهِ، وقد استقامَ الأمر؛ وإنْ لَمْ يستقم فلا يسألكَ الله إلَّا عن عَملك لا عن عملهم؛ وهذان المعنيان من فَهِمَهُما انْحلَّ عنه كثيرٌ من شُبهِ البدَع الحادثة» اهـ.

ص: 52

والذي يدل على أن السلف لم يفعلوا ذلك كلامُ ابن عباس وأسامة بن زيد المتقدم، وأيضًا قد حكاه عن السلف جمع من أهل العلم كالشيخ حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمهم الله.

وقال العلَّامتان محمد بن إبراهيم وسعد بن عتيق - رحمهما الله -: «وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر، والخروج من الإسلام، فالواجبُ فيها مناصحتُهم على الوجهِ الشرعي برفق، واتِّباعُ ما كان عليه السلفُ الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أنَّ ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلطٌ فاحش، وجهلٌ ظاهر، لا يعلم صاحبهُ ما يترتَّبُ عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نوَّرَ الله قلبه، وعرفَ طريقة السلف الصالح، وأئمة الدين»

(1)

.

وقال الإمام ابن باز رحمه الله: «فالنصحُ يكون بالأسلوب الحسن، والكتابة المفيدة، والمشافهة المفيدة وليس من النصح التشهيرُ بعيوب الناس ولا بانتقاد الدولة على المنابر ونحوها، لكن النصح أن تسعى بكلِّ ما يُزيلُ الشرَّ ويثبت الخير بالطرق الحكيمة، وبالوسائل التي يرضاها الله عز وجل»

(2)

.

وقال أيضًا: «ليس من منهج السلف التشهيرُ بعيوب الولاة وذِكرُ ذلك على المنابر؛ لأنَّ ذلك يُفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويُفضي إلى الخوض الذي يضرُّ ولا ينفع، ولكن الطريقة المتَّبعة عند السلف: النصيحة

(1)

الدرر السنية (9/ 119).

(2)

مجموع فتاواه (7/ 306).

ص: 54

فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتَّصلون به حتى يوجَّه إلى الخير»

(1)

.

تأمَّل أن الشيخ ابن باز ذكرَ أن التشهيرَ بعيوب السلطان باسم النصيحة ليست من طريقةِ السلف؛ إذن هي طريقة محدثة.

وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في رسالة (حقوق الراعي والرعية): «فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا يُتَّخذَ من أخطاء السلطان سبيلٌ لإثارة الناس، وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عينُ المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس، كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يُحدث الشرَّ والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يُحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يَحملونها، فإذا حاول أحدٌ أن يقلِّل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاعَ الشرعُ والأمن؛ لأن الناس إنْ تكلَّم العلماء لم يثقوا بكلامهم، وإنْ تكلَّم الأمراء تمرَّدوا على كلامهم فحصل الشرُّ والفساد.

فالواجب أن ننظر ماذا سلكَ السلف تجاه ذوي السلطان، وأن يضبطَ الإنسانُ نفسه وأن يعرف العواقب، وليُعلَم أنَّ مَنْ يَثورُ إنما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة

».

(1)

مجموع فتاواه (8/ 210).

ص: 55

وقد رأيتُ كثيرًا من المخطئين يعترضون على ما تقدم ذِكرهُ بما يلي:

الأمر الأول: أن القاعدة الشرعية أنَّ مَنْ أخطأ علانية فيُردُّ عليه علانية، قالوا: ومن ذلك ولاة الأمور.

فيُقال: هذه القاعدة صحيحة، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:

«وأمَّا إذا أظهرَ الرجلُ المنكرات وجبَ الإنكارُ عليه علانية، ولم يبقَ له غيبة، ووجبَ أن يُعاقَبَ علانية بما يردعُهُ عن ذلك من هَجْرٍ وغيره»

(1)

.

لكن تطبيقها على ولاة الأمور خطأ مخالف للشرع، وذلك لما تقدَّم ذِكرهُ من أنَّ لوليِّ الأمر طريقة في النصح تخالفُ عامة الناس وقد بيَّنها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ودرجَ على ذلك السلف.

فإذن هذه القاعدة عامة، ويُستثنى منها وليُّ الأمر للأدلة الخاصة، والخاصُّ مقدَّم على العام، هذا إذا كان وراءه، أما إذا كان أمامَهُ فالأصلُ الإنكار عليه علانية، إلَّا إذا اقتضت المصلحة خلافَ ذلك.

الأمر الثاني: اعترضوا بالنصوص العامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالوا: مقتضى عمومها أن تشملَ وليَّ الأمر.

فيقال: ما تقدَّمَ ذِكرهُ من الأدلة في نُصح ولاة الأمور أمامهم لا وراءهم = أدلة خاصة، فتُقدَّم على الأدلة العامة في الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر.

(1)

مجموع الفتاوى (28/ 217).

ص: 56

الأمر الثالث: ثبت عن جمعٍ من السلف أنهم أنكروا أمامَ السلطان، وقد دلَّت الأدلة على ذلك، ومن ذلك حديث:«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»

(1)

.

ومن ذلك ما ثبت في (مسلم): لمَّا قدَّم الأمير مروان بن الحكم خطبة العيد على الصلاة وأنكر رجل عليه فقال أبو سعيد رضي الله عنه: «أما هذا فقد قضى الذي عليه» ، ثم قال: «سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ رأى منكم منكرًا

الحديث»

(2)

.

ومن ذلك ما ثبت في مسلم أن بشر بن مروان كان يخطب فلما دعا رفعَ يديه فقال عمارة بن رؤيبة: «قبَّحَ الله هاتين اليدين، ما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يزيدُ في الخطبة إذا دعا على أن يُشيرَ بالسبابة»

(3)

.

والجواب على هذا أن يقال:

إنَّ هذه الأدلة خارج موردِ النزاع، فإنَّ موردَ النزاع في الإنكار والنُّصحِ وراءه لا أمامه - كما تقدم -.

تنبيه:

إنَّ هناك فرقًا بين الإنكار على ولي الأمر، لأنه فعل منكرًا، والإنكارِ على الفعل المنكَر بدون ذِكْرِ وليِّ الأمر، فمثلًا: إذا أتى ولي الأمر بالربا، فيُنكَرُ الرِّبا علانية، ولا يُنكَر على وليِّ الأمر نفسِه علانية. أفاد هذا الإمام العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله حيث قال: «ولكن الطريقة المتَّبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم

(1)

أخرجه الترمذي (2174)، وابن ماجه (4011)، وأحمد (3/ 7) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (49).

(3)

أخرجه مسلم (874).

ص: 57

وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجَّه إلى الخير. أمَّا إنكارُ المنكر بدون ذكرِ الفاعل: فيُنكَر الزنى، ويُنكَر الخمر، ويُنكَر الربا من دون ذِكرِ من فعله، فذلك واجبٌ؛ لعموم الأدلة»

(1)

.

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين وهو يتكلم عن حقوق ولي الأمر:

«رابعًا: إبداءُ خطئهم فيما خالفوا فيه الشرع، بمعنى أن لا نسكت، ولكن على وجه الحكمة والإخفاء، فلهذا أمرَ النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى الإنسانُ من الأمير شيئًا أن يمسِكَ بيده، وذكرَها هكذا أن تمسِكَ بيده، وتكلِّمه فيما بينكَ وبينه، لا أن تقوم في الناس، ولا أن تنشر معايبه، لأن هذا يحصل به فتنة عظيمة، فالسكوتُ عن الباطل لا شكَّ أنه خطأ، لكن الكلام في الباطل الذي يؤدي إلى ما هو أشدُّ هذا خطأٌ أيضًا، فالطريق السليم الذي هو النصيحة، وهو من دين الله عز وجل هو أن يأخذَ الإنسان بيده، ويكلِّمه سرًّا، أو يكاتبه سرًّا، فإنْ أمكنَ أن يوصله إيَّاه، فهذا هو المطلوب وإلَّا فهناك قنوات، الإنسانُ البصير يعرفُ كيف يوصِلُ هذه النصيحة إلى الأمير بالطريق المعروف»

(2)

.

وقال أيضًا: «ونحن لا نقول لا تنكر المنكر؛ لكن لا تُهاجم ولاةَ الأمور؛ لأن هذا ما ينفع، ولاة الأمور لا ينفع فيهم المهاجمة؛ لأنَّ الشيطان يُدخل في مُخَيِّلاتهم أشياء قد لا تكون طَرأت على بالك؛ أو أنها طرأت على بالك، لأن بعض الناس الذين ينكرون المنكر، والله أعلَمُ بالنِّيات، قد يكون مقصودهم أن يتولَّوا السُّلطة، ما ندري، الله أعلم، نبرأ إلى الله من هذا الشيء، لكن أنكِر المنكَر،

(1)

مجموع فتاوى ابن باز (8/ 210).

(2)

شرح بلوغ المرام (15/ 413).

ص: 58

مثلًا: البنوك حرام، هل من العقل أن تُهاجِمَ الدولة، لماذا تسمح لها وهي حرام؟ أم من العقل أن تقول: يا أيها الناس احِذَروا هذه البنوك، لا تُعاملوها، اهُجُروها، قاطِعوها، أيُّهما أنفع للمجتمع؟ .. الثاني أنفع للمجتمع.

الأغاني مثلًا في الإذاعات وغير الإذاعات موجودة، هل من الحكمة أن تُهاجم وزارة الإعلام، تقول: فعلت وتركت، وما أشبه ذلك؟ أو أن تقول: يا أيها الناس، احذَروا هذه المعازفَ فإنها حرام، ولا يغرَّنكم انتهاكُ الناس لها ولا كثرة استعمالها، ولا كثرة بثِّها في الإذاعات، فإنَّ هذا يوجبُ تحليلَ ما حرَّم الله، وتحذِّرهم وتبيِّنُ لهم الأدلة الدالة على المنع، أيُّهما أنفع للناس؟ لا شكَّ أنه الثاني، وأنا لست أقولُ في هذا اسكتوا عن الجهات المسؤولة.

ناصحوها، إمَّا بطريقٍ مباشر، أو غير مباشر، فإنْ حصلَ الهدى فهو للجميع، وإن لم يحصل فأنت سَلِمْت، وبرئتْ ذمَّتك، ومن زعم أننا نريد بذلك أننا نريد أن يبقى المنكر منكرًا ويُسكَتَ عنه فهذا ليس بصحيح»

(1)

.

(1)

مقتطف من شرحه الصوتي لكتاب الصيام من الكافي (الشريط الثاني: الوجه الثاني).

ص: 59

التأصيل التاسع

طرق تنصيب الأئمة

لتولي الولاية والحكم في الإسلام طريقتان:

الأولى: الاختيار.

الثانية: القهر والغلبة.

أما الطريقة الأولى: التولي بالاختيار، وهو قسمان:

القسم الأول: العهد؛ بأن يعهدَ الحاكم لمن بعده.

القسم الثاني: اختيار أهل الحلِّ والعقد؛ بأن يختاروا مَنْ يرونه مناسبًا للحكم والولاية.

وقد دلَّ على هذه الطريقة - بقسمَيها - فعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما وإجماعُ أهل العلم.

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «قيل لعمر بن الخطاب: ألا تستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلَفَ مَنْ هو خيرٌ مني أبو بكر، وإن أتركْ فقد تركَ مَنْ هو خيرٌ مني رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

قال أبو العباس القرطبي المالكي: «وقد حصل من هذا الحديث: أنَّ نصبَ الإمام لابدَّ منه، وأنَّ لنصبه طريقين: أحدهما: اجتهاد أهل الحلِّ والعقد، والآخر: النَّصُّ؛ إمَّا على واحدٍ بعينهِ، وإمَّا على جماعةٍ بأعيانها، ويفوَّضُ التخييرُ إليهم في

(1)

أخرجه البخاري (7218)، ومسلم (567).

ص: 60

تعيين واحدٍ منهم، وهذا مما أجمعَ عليه السَّلفُ الصالح، ولا مبالاة بخلافِ أهل البدع في بعض هذه المسائل، فإنهم مسبوقون بإجماع السلف، وأيضًا: فإنهم لا يُعتدُّ بخلافهم على ما تقدَّم»

(1)

.

وقال الماوردي الشافعي: «وأما انعقاد الإمامة بعهدٍ من قبله فهو مما انعقد الإجماعُ على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عملَ المسلمون بهما ولم يتناكروهما؛ أحدهما: أنَّ أبا بكر رضي الله عنه عَهِدَ بها إلى عمر، فأثبتَ المسلمون إمامته بعهده، والثاني: أنَّ عمر رضي الله عنه عهدَ بها إلى أهل الشورى، فقَبلت الجماعةُ دخولَهم فيها - وهم أعيان العصر - اعتقادًا لصحة العهد بها وخرج باقي الصحابة منها، وقال علي للعباس رضوان الله عليهما حين عاتبه على الدخول في الشورى كان أمرًا عظيما من أمور الإسلام لم أر لنفسي الخروج منه، فصار العهد بها إجماعًا في انعقاد الإمامة»

(2)

.

وقال النووي: «وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحلِّ والعقد لإنسانٍ إذا لم يستخلف الخليفة، وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة، كما فعل عمر بالسِّتة»

(3)

.

وقال أبو زرعة العراقي: «وقد انعقد الإجماع على أنَّ الخليفة يجوز له الاستخلافُ وتركُه، وعلى انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحلِّ والعقد لإنسانٍ إذا لم يستخلفْهُ الخليفة، وعلى جوازِ جعلِ الخليفة الأمرَ شورى بين جماعةٍ

(1)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 15).

(2)

الأحكام السلطانية (ص: 30).

(3)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 205).

ص: 61

كما فعل عمر رضي الله عنه بالستة»

(1)

.

وقال ابن حجر: «وقال النووي وغيره أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادِها بعقد أهل الحلِّ والعقد»

(2)

.

تنبيهان:

التنبيه الأول: المراد بطريقة الاختيار اختيارُ أهل الحلِّ والعقد لا عموم الناس:

قال ابن نجيم الحنفي: «وتنعقد بيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء المجتهدين والرؤساء لما عرف»

(3)

.

وقال الدسوقي المالكي: «لأن العلماء هم أهلُ الحلِّ والعقد»

(4)

.

وتقدَّم نقل كلام أبي العباس القرطبي والماوردي والنووي وابن حجر وأبي زرعة العراقي

(5)

.

وقال أبو يعلى: «فأمّا انعقادُها باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلَّا بجمهور أهل الحلِّ والعقد، قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: «الإمام الذي يَجتمع قولُ أهل الحلِّ والعقد عليه كلّهم» ، يقول: هذا إمامٌ، وظاهرُ هذا أنها تنعقد

(1)

طرح التثريب (8/ 74).

(2)

فتح الباري (13/ 208)، وبنحوه قال العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (24/ 279)، والشوكاني في نيل الأوطار (6/ 62).

(3)

البحر الرائق (6/ 299).

(4)

حاشيته على الشرح الكبير (4/ 348).

(5)

تقدم ص: (60 - 62).

ص: 62

بجماعتهم»

(1)

.

وقال ابن مفلح الحفيد الحنبلي: «ولا بد من بيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء ووجوه الناس»

(2)

.

وقال الحجاوي الحنبلي: «نصبُ الإمام الأعظم فرضُ كفاية، ويثبتُ بإجماع المسلمين عليه؛ كإمامة أبي بكر من بيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء ووجوه الناس»

(3)

.

التنبيه الثاني: المراد بأهل الحل والعقد هم العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس:

قال ابن نجيم - وهو حنفي -: «وتنعقد بيعة أهل الحل والعقد من العلماء المجتهدين والرؤساء لما عرف»

(4)

.

وقال الدسوقي المالكي في مناسبة أخرى: «لأنَّ العلماء هم أهل الحل والعقد»

(5)

.

وقال النووي: «والسادس وهو الأصحُّ أنَّ المعتبرَ بيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسَّر حضورُهم، ولا يُشترط اتفاقُ أهل الحلِّ والعقد في سائر البلاد والأصقاع، بل إذا وصَلَهم خبر أهل البلاد البعيدة لزِمَهُم الموافقة والمتابعة، وعلى هذا لا يتعيَّن للاعتبار عددٌ بل لا يُعتبر العدد حتى لو تعلَّق الحلُّ والعقد بواحدٍ مطاع كفَتْ بيعتُه لانعقادِ الإمامة»

(6)

.

(1)

الأحكام السلطانية (ص: 23).

(2)

المبدع في شرح المقنع (8/ 146).

(3)

الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (4/ 292).

(4)

البحر الرائق (6/ 299).

(5)

حاشيته على الشرح الكبير (4/ 348).

(6)

روضة الطالبين (10/ 43).

ص: 63

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الإمامة عندهم تثبتُ بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإنَّ المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إمامًا»

(1)

.

وقال ابن مفلح الحفيد الحنبلي: «ولا بد من بيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء ووجوه الناس»

(2)

.

وقال الحجاوي الحنبلي: «نصب الإمام الأعظم فرضُ كفاية ويثبتُ بإجماعِ المسلمين عليه كإمامة أبي بكر من بيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء ووجوه الناس»

(3)

.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «فتحصل الإمامة بأمور:

أولًا: بالنصِّ عليه، أي: بأن ينصَّ عليه الإمام الذي قبله، وهذا هو العهد كما حصل من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما.

ثانيا: باجتماع أهل الحلِّ والعقد عليه، يعني وجَهاء البلاد، وشرفاء البلاد، وأعيان البلاد، يجتمعون على هذا الرجل المعين، وينصبونه إمامًا»

(4)

.

(1)

منهاج السنة النبوية (1/ 527).

(2)

المبدع (8/ 146).

(3)

الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (4/ 292).

(4)

الشرح الممتع (14/ 396).

ص: 64

أما الطريقة الثانية: القهر والغلبة:

وهو أخذ الحكم والولاية بالقوة، فمَن فعلَ ذلك واستتبَّ له الأمر فهو حاكمٌ شرعي؛ له الحقوقُ التي للحاكم الذي أخذها بالاختيار ولا فرقَ بينهما، ويدلُّ على ذلك ما يلي:

الدليل الأول:

كل ما تقدَّم من النصوص والإجماعات في الأمر بالسمع والطاعة للحاكم المسلم، والصبر على أذاه وظلمه، فلم يشترط أن يكون أخذَ الحكمَ بالاختيار دون القهر والغلبة، فهي عامة تشملُ حتى مَنْ أخذها بالقهر والغلبة، ومن أراد إخراج ولايةِ مَنْ أخذَها بالقهر والغلبة من عموم الأدلة السابقة، فيلزمهُ الدليل المخصوص، فإذا لم يوجد دليل المخصوص - وهو كذلك - دخلت هذه الصورة في العموم.

الدليل الثاني: آثار الصحابة:

قال عبد الله بن دينار: «شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك، كتب إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سُنة الله وسُنة رسوله ما استطعت، وإنَّ بَنيَّ قد أقرُّوا بمثل ذلك»

(1)

.

وعن زيد بن أسلم أنَّ ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أمير إلَّا صلَّى خلفَهُ، وأدَّى إليه زكاة ماله

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (7203).

(2)

أخرجه ابن سعد (4/ 111)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 304).

ص: 65

وعن سيف المازني قال: «كان ابن عمر يقول: لا أقاتلُ في الفتنة، وأصليِّ وراءَ مَنْ غلَب»

(1)

.

وصلَّى ابن عمر خلف الحجاج، وكان متغلبًا نائبًا لعبد الملك بن مروان، بل إنه حجَّ معه، وقد خطبَ الحجاج بعرفة وصلى بالناس، فعن سالم بن عبد الله:

«إنَّ عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج أن يأتم بعبد الله بن عمر في الحج، فلما كان يوم عرفة جاء ابن عمر رضي الله عنهما، وأنا معه حين زاغَتِ الشمسُ أو زالت، فصاحَ عند فسطاطه أين هذا؟ فخرج إليه فقال ابن عمر: الرواح، فقال: الآن؟ قال: نعم، قال: أنظِرني أفيض عليَّ ماء، فنزل ابن عمر رضي الله عنهما حتى خرج، فسار بيني وبين أبي، فقلت: إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم، فاقصر الخطبة، وعجِّل الوقوف، فقال ابن عمر: صدق»

(2)

.

تنبيه:

يلبّس كثير من أهل الباطل، فيزعم أنَّ الانتخابات التي تحصل في الدول المسمَّاة بالديمقراطية هي صورة من صور الولاية بالاختيار.

وهذا غير صحيح؛ لأن الاختيار الشرعي راجع إلى أهل الحل والعقد لا عامة المسلمين، وفي الدول الديمقراطية يرجع إلى عامة الشعب سُنِّيهم وبدعيِّهم

(1)

أخرجه ابن سعد (4/ 111)، الإسناد إلى سيف المازني صحيح كما قاله الألباني في الإرواء (2/ 304)، وأما سيف: فهو مجهولٌ جهالة حال لكن يُصحَّحُ الأثر لأنَّ معناه صحيح بالشاهد السابق واللاحق، وقد احتجَّ به الإمام أحمد كما في الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص: 23) مما يدل على ثبوته عنده.

(2)

أخرجه البخاري (1663).

ص: 66

ومسلمِهم وكافرِهم، فهو رجوعٌ إلى الكثرة لا إلى الأعلم والأفهَم والأوجَه الذين هم أهلُ الحلِّ والعقد.

واستدلَّ هؤلاء بأن عمر لما جعل الأمر في الستة انحصر الأمر في اثنين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، فأخذ عبد الرحمن بن عوف يسأل الناس في المدينة، ثم قال:«ما رأيتهم يعدلونَ بعثمان أحدًا» فبايع عثمان.

قال المسور بن مخرمة وهو يحكي قصة بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه: فلما اجتمعوا تشهَّد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد؛ يا عليُّ إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرَهُم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلًا، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله، والخليفتين من بعده، فبايعه عبدالرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون

(1)

.

وجه الشاهد عندهم أنه قدَّم عثمان على علي بأن رأى الناس لا يقدِّمون على عثمان أحدًا؛ فأرجع الأمر إلى الناس.

وهذا الأثر حجَّة عليهم لا لهم من أوجه:

الوجه الأول: أن عمرَ جعلَ الأمر في ستة، وهذا يخالف مبدأ الديمقراطية؛ لأنه يكون في الناس كلِّهم لا ستة.

الوجه الثاني: أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه لم يسأل الشعب كلَّهم، بل سألَ أهل المدينة ومَن جاء فيها من الأجناد والجيش، وعلى مبدأ الديمقراطية يرجع إلى جميع الشعب - كما تقدم -.

(1)

أخرجه البخاري (7207).

ص: 67

الوجه الثالث: أن عبد الرحمن بن عوف لم يسأل الناس ابتداءً، وإنَّما لما احتاج للترجيح بينهما، وعلى مبدأ الديمقراطية يسأل الناس ابتداء.

الوجه الرابع: أن عبد الرحمن بن عوف لم يجعل قرار الشعب مُلزِمًا له بل هو الذي اختاره ورجَّح به، وعلى مبدأ الديمقراطية ما اختاره الشعب مُلزِمٌ للحاكم.

الدليل الثالث: الإجماع:

أجمع أهلُ السُّنة على صحَّة إمامة المتغلِّب، ودونكَ بعض من حكى الإجماع:

1 -

الإمام أحمد، قال:«ومَن خرَج على إمامٍ من أئمة المسلمين، وقد كانوا اجتمعوا عليه، وأقرُّوا بالخلافة بأيِّ وجهٍ كان بالرضا أو الغلبة = فقد شقَّ هذا الخارجُ عصا المسلمين، وخالفَ الآثارَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنْ ماتَ الخارج عليه مات ميتة جاهلية» ، ولا يحلُّ قتال السلطان، ولا الخروجُ عليه لأحدٍ من الناس، فمَن فعلَ ذلك فهو مبتدعٌ على غيرِ السنة»

(1)

.

2 -

الإمام علي بن المديني، قال:«السنة اللازمة التي مَنْ تركَ منها خصلةً لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها» ، ثم قال:«ومَن خرجَ على إمامٍ من أئمة المسلمين، وقد اجتمعَ عليه الناس، فأقرُّوا له بالخلافة بأيِّ وجهٍ كانت برضا كانت أو بغلبة = فقد شقَّ هذا الخارج عليه العصا وخالفَ الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن مات الخارجُ عليه مات ميتةً جاهلية، ولا يحلُّ قتال السلطان ولا الخروجُ عليه لأحدٍ من الناس فمَن عملَ ذلك فهو مبتدعٌ على غير السنة»

(2)

.

(1)

أصول السنة (ص: 45)، الأصل فيما يذكر في كتب العقائد أنها مسائل مجمَعٌ عليها، والعلماء المؤلِّفون في العقائد يشيرون لهذا لا سيما أنهم يبدِّعون المخالف.

(2)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 185).

ص: 68

3 -

ابن بطال، قال:«أهلُ السُّنة مُجمعون على أنَّ المتغلب يقوم مقامَ الإمام العدلِ فى إقامة الحدود وجهاد العدو، وإقامةِ الجمعات والأعياد وإنكاح مَنْ لا ولي لها»

(1)

.

4 -

ابن حجر، نقل كلام ابن بطَّال وأقرَّه فقال:«قال ابن بطال في الحديث حجَّة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وأنَّ طاعته خيرٌ من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقنِ الدماء وتسكينِ الدَّهماء»

(2)

.

5 -

ابن قدامة، قال في اللمعة:«السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين - بَرِّهم وفاجرِهم - ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله، ومَن وليَ الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبَهُم بسيفهِ حتى صار الخليفة، وسُمِّي أميرَ المؤمنين = وجبتْ طاعته وحَرُمَتْ مخالفتهُ والخروجُ عليه وشَقُّ عصا المسلمين»

(3)

.

6 -

قال ابن أبي زيد القيرواني: «والسمع والطاعة لأئمة المسلمين وكلِّ مَنْ وليَ أمرَ المسلمين عن رضا أو عن غلبة، واشتدت وطأته من بَرٍّ أو فاجر، فلا يُخرَجُ عليه، جارَ أو عدَل» ، ثم قال:«وكلُّ ما قدَّمنا ذكرهُ فهو قولُ أهلِ السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيناه، وكلُّه قولُ مالكٍ؛ فمنهُ منصوصٌ من قوله، ومنه معلومٌ من مذهبه»

(4)

.

(1)

شرحه على صحيح البخاري (1/ 125).

(2)

فتح الباري (13/ 7).

(3)

لمعة الاعتقاد (ص: 40)، فهو يقرر في اللمعة اعتقادَ السلف المجمَع عليه والذي ما عداه بدعة وضلالة.

(4)

الجامع (ص: 116).

ص: 69

7 -

الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، قال في الدرر السنية:«الأئمة مُجمعون من كلِّ مذهب، على أنَّ من تغلَّب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا»

(1)

.

8 -

قال الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: «وأهل العلم مع هذه الحوادث متَّفقون على طاعة مَنْ تغلَّب عليهم في المعروف، يرون نفوذَ أحكامه وصحَّة إمامته؛ لا يختلفُ في ذلك اثنان، ويرونَ المنعَ من الخروج عليهم بالسيف، وتفريقِ الأمة، وإن كان الأئمة ظلَمةً فَسقة، ما لم يروا كفرًا بواحًا؛ ونصوصُهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وأمثالهم ونظرائهم»

(2)

.

وقد نصَّ على هذا جمعٌ من الأئمة أيضًا كالإمام مالك، قال الشاطبي:«وما قرَّرهُ هو أصلُ مذهب مالك، قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة؟ قال: لا، قيل له: فإن كانوا أئمة جَور؟ فقال: قد بايعَ ابنُ عمر لعبد الملك بن مروان، وبالسيف أخذَ المُلك، أخبرني بذلك مالكٌ عنه أنه كتبَ إليه وأمرَ له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه، قال يحيى: والبيعة خيرٌ من الفرقة»

(3)

.

وقال الشافعي: «كلُّ مَنْ غَلبَ على الخلافة بالسيف حتى يُسمَّى خليفة، ويجتمعَ الناسُ عليه = فهو خليفة»

(4)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فمتى صار قادرًا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره، فهو ذو سلطانٍ مُطاع

»

(5)

.

(1)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 5).

(2)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 29).

(3)

الاعتصام (3/ 33).

(4)

آداب الشافعي ومناقبه للإمام ابن أبي حاتم (ص: 222).

(5)

منهاج السنة النبوية (1/ 529).

ص: 70

‌الفصل الثاني

كشف شبهات

تثار في أصل الإمامة

والولاية

ص: 71

كشف شبهات

تثار في أصل الإمامة والولاية

أثار كثيرٌ من أهل الباطل كثيرًا من الشُّبهات على أصلِ الإمامة عند أهل السنة والجماعة، لأسبابٍ وأغراض متعدِّدة، وتابعهُم بعضُ الجهَلة اغترارًا بحُسن دعواهم وباطلهم، قال الله سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].

لاسيما وقد أظهر كثير من هؤلاء باطلَهم باسم الحرية والحقوق، فخدعوا العامة من الناس، وما علموا أن حقيقة هذه الحرية والحقوق المدَّعاة إفسادٌ للدنيا وهلاكٌ للدين، فإنَّ الشريعة ما شَرعت السمعَ والطاعة للإمام والسلطان إلَّا لمصالح العباد، فهي تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى.

قال ابن عبدالبر: «لأن في منازعته والخروج عليه استبدالَ الأمن بالخوف، ولأنَّ ذلك يحمل على هِراقِ الدماء وشَنِّ الغارات والفساد في الأرض، وذلك أعظَمُ من الصبر على جَورهِ وفسقه، والأصولُ تشهد، والعقلُ والدينُ أنَّ أعظم المكروهَين أَولاهما بالترك»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرونَ الخروجَ على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم؛ كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد في القتال

(1)

التمهيد (23/ 279).

ص: 73

والفتنة أعظَمُ من الفساد الحاصل بظُلمهم بدون قتالٍ ولا فتنةٍ؛ فيدفع أعظَمُ الفسادين بالتزام أدناهما، ولعلَّه لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلَّا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظَمُ من الفساد الذي أزالته، والله تعالى لم يأمر بقتال كلِّ ظالمٍ وكلِّ باغٍ كيفما كان، ولا أمرَ بقتالِ الباغين ابتداء»

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم: «فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكَرُ منه وأبغَضُ إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغُ إنكاره؛ وان كان الله يبغضه ويمقُتُ أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساسُ كلِّ شرٍّ وفتنةٍ إلى آخر الدهر»

(2)

.

وبعد هذا سأذكر ما وقفتُ عليه من شبهات تُذكَر في أصل السَّمع والطاعة، وأُجيبُ عليها - بحول الله وقوته -، وليس ترتيب هذه الشبهات مقصودًا، بل أذكُرها ثم كشْفَها بحسب ما اتفق لي.

(1)

منهاج السنة النبوية (3/ 391).

(2)

إعلام الموقعين (3/ 12).

ص: 74

كشف شبهات

فيما يسمع ويطاع فيه للحاكم

الشبهة الأولى:

أنه لا سمع ولا طاعة للحاكم إلَّا في المعروف، والمعروف ما كان واجبًا ومستحبًّا، أو عُرف أنه محمود ومطلوب من أمور الدنيا استدلالًا بحديث «إنما الطاعة في المعروف»

(1)

، وما عدا هذا المعروف لا يُسمع ولا يطاع له.

وكشفُ هذه الشبهة - بحول الله وقوته - ببيان أنَّ المعروف ما ليس محرَّمًا ومعصيةً، ويتبيَّن هذا بوجوه:

الوجه الأول: أنَّ الأدلة يفسِّر بعضُها بعضًا، وقد بيَّنتِ الأدلة وجوبَ السمع والطاعة، ولم تستثن إلَّا المعصية، والاستثناء معيار العموم، فدلَّ هذا على أنَّ السمع والطاعة في كل شيء إلَّا المستثنى، ومن ذلك قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«على المرء المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحبَّ وكرهَ إلَّا أن يُؤمَر بمعصيةِ الله؛ فإنْ أُمر بمعصية الله فلا سمعَ ولا طاعة»

(2)

، هذا الحديث يدلُّ على أنه يُسمع له في كلِّ شيء إلَّا ما حرَّم الله، وهذا هو المعروف المراد في حديث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه المتقدم.

الوجه الثاني: مناسبة الحديث تدلُّ على أنَّ الذي لا يُطاع فيه الأمير هو ما كان في معصية الله، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الكلام لأناس أرسلَهم وجعلَ لهم

(1)

أخرجه البخاري (4340)، ومسلم (1840) من حديث علي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (7144)، ومسلم (1839).

ص: 75

أميرًا، فأمرهم الأمير بمعصية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّما الطاعة في المعروف» .

قال علي رضي الله عنه: «إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعثَ جيشًا، وأمَّرَ عليهم رجلًا فأوقدَ نارًا، وقال: «اُدخلُوها» ، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنَّما فررنا منها، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها:«لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة» ، وقال للآخرين:«لا طاعةَ في معصية، إنَّما الطاعة في المعروف»

(1)

.

الوجه الثالث: سياق الحديث جعلَ المقابل للمعروف المعصية، فدلَّ هذا على أنَّ كلَّ ما ليس معصية فهو معروف فقال:«لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف» ، وقد نصَّ العيني وأبو العباس القرطبي أن المراد بالمعروف ما ليس معصية.

قال العيني: «قوله: «إنما الطاعة في المعروف» يعني تجبُ الطاعة في المعروف لا في المعصية وقد مرَّ»

(2)

.

وقال القرطبي: «قوله: «إنّما الطاعة في المعروف» ؛ إنّما هذه للتحقيق والحصر؛ فكأنَّهُ قال: لا تكون الطّاعة إلا في المعروف، ويعنى بالمعروف هنا: ما ليس بمنكَرٍ، ولا معصية، فتدخلُ فيه الطاعات الواجبة، والمندوب إليها، والأمور الجائزة شرعًا»

(3)

.

وقال ابن عبدالبر: «وكلُّ إمام يقيم الجمعة والعيد، ويجاهدُ العدو ويقيم الحدود على أهل العداء، وينصفُ الناس من مظالمهم بعضهم لبعض، وتسكن له الدَّهماء وتأمَنُ به السُّبل = فواجبٌ طاعته في كلِّ ما يأمر به من الصلاح أو من المباح»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه (ص: 75).

(2)

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (24/ 225).

(3)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 41).

(4)

التمهيد (23/ 279).

ص: 76

وقال المباركفوري: «قوله: «السمع» الأولى الأمر بإجابة أقوالهم «والطاعة» لأوامرهم وأفعالهم «على المرء المسلم» : أي حقٌّ وواجب عليه، «فيما أحبَّ وكَرِهَ»: أي فيما وافقَ غرَضَهُ أو خالَفه، «ما لم يؤمر»: أي المسلم من قبل الامام، «بمعصية»: أي بمعصية الله، «فإن أُمِرَ»: بضمِّ الهمزة، «فلا سمعَ عليه ولا طاعة»: تجبُ؛ بل يحرُم إذْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وفيه أنَّ الامام إذا أمر بمندوبٍ أو مباحٍ وجَب»

(1)

.

الوجه الرابع: إنه لو قيل إنَّ المراد بالمعروف الواجب والمستحب، وما عُرِفَ أنه معروف من أمور الدنيا؛ لَما كان لولي الأمر مزية على غيره، وهذا يخالفُ الأدلة الخاصة الآمرة بالسمع والطاعة له.

الوجه الخامس: أن كتب الاعتقاد ذكرت السمعَ والطاعة للحاكم، ولم تستثنِ إلَّا المعصية كما تقدَّم نقلُ كلامهم، فدل هذا على أنه عامٌّ في كل ما ليس معصية، وهذا يعدُّ إجماعًا من أهل السنة.

وقال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في تفسير سورة النساء عند قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} : «إنَّ طاعة ولاة الأمور واجبة، حتى وإن لم يأمر الله بذلك الشيء المعين الذي أمروا به، وهنا لا بد من التقسيم فنقول: ما أمر به ولاة الأمور على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما أمر الله به.

القسم الثاني: ما نهى الله عنه.

القسم الثالث: ما لم يرِدْ به أمرٌ ولا نهي.

(1)

تحفة الأحوذي (5/ 298).

ص: 77

ثم قال: وأما القسم الثالث، أن يأمر ولاة الأمور بما لم يتعلَّق به أمر ولا نهي، فهنا معترك القول، فالمتمردون على ولاة الأمور يقولون: لا سمع ولا طاعة، هاتِ دليلًا على أنَّ هذا واجب، والمؤمنون يقولون: سمعًا وطاعة؛ لأننا لو لم نُطِعْهُم إلَّا في أمرٍ وردَ فيه الشرع بعينهِ لكانت الطاعة ليست لهم، بل للأمر الشرعي، فمثلًا لو قال إنسان: أنا لا أخضع للتنظيم، فلو سدَّ المرور هذا الطريق وقال للناس: سيروا في الجهة الأخرى، فقال: أنا لا أخضع لهذا الأمر، ثم جاء ليجادل ويقول: أين الدليل؟ هل قال الله تعالى: إذا قال لك المرور: لا تمش في هذا الخطِّ فلا تمش؟

الجواب: لم يقل، لكن على سبيل العموم، قال الله:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} ؛ فيجب أن تمتثل، فإذا قال: ليس في هذا مصلحة، فلماذا أمتثل؟ قلنا: لو جعلنا المصلحة مربوطةً برأي كلِّ واحد من الناس ما عملنا بمصلحةٍ قط؛ لأنَّ أهواء الناس متباينة مختلفة، فالرأي لوليِّ الأمر قبل كلِّ شيء، فإذا كان عندك رأي ترى فيه مصلحةً، وجب عليك - من باب النصيحة - أن ترفعه لولي الأمر، وتقول: نحن نمتثل أمركَ سمعًا وطاعةً لله عز وجل قبل كل شيء، ولكن نرى أنَّ المصلحة في كذا كذا، وحينئذ تكون ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»

(1)

.

الشبهة الثانية:

أن المراد من تحكيم أفراد أحكام الله من قطع يد السارق ورجم الزاني المحصن وهكذا

العدلُ؛ فمتى ما وجد العدلُ وجِدَ حكمُ الله، ولسنا ملزمين

(1)

تفسير سورة النساء (1/ 451)، وله كلام نحوه في شرح رياض الصالحين (2/ 278).

ص: 78

أن نُحكِّم أفراد أحكام الله ويدل لذلك ما يلي:

1 -

أن الأحكام الشرعية شُرعت بالتدرُّج ولم تُشرع مرة واحدة.

2 -

أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه تركَ بعضَ الأحكام كقطع يد السارق في المجاعة، وتركَ سهمَ المؤلَّفةِ قلوبهم من الزكاة لمَّا قوِيَ الإسلام.

3 -

أنَّ الله أمرَ اليهود أن يحكِّموا التوراة لأن المراد العدل لا ذات أفراد حكم الله، قال تعالى:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43].

وكشف هذه الشبهة من أوجه ستة:

الوجه الأول: أنه حيث كان شرعُ الله كان العدلُ لأنه لا حُكمَ أحسَنُ من حكمهِ ولا عدلَ أكملُ من عدلهِ.

قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

الوجه الثاني: أن الله أمرنا بتحكيم شرعه المنزَّل في كتابه، وشرعهُ المنزَّل هو تفاصيلُ الأحكام فقال:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].

ثم قال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50].

الوجه الثالث: أن الله جعل المحكِّم لغير كتابه كافرًا.

ص: 79

قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

الوجه الرابع: أنه لا يتنافى مع تحكيم الشريعة وجعله أصلًا أن يُتركَ بعضُ شرعِ الله لعارض؛ كقطع يد السارق لضرورة عرضت له؛ وهذه شبهةٌ يُدرأ بالحد، أو ترك سهمِ المؤلَّفة قلوبهم في الزكاة؛ لقوَّة الإسلام وعدم الحاجة لذلك. كما نقل فعل هذا عن عمر.

الوجه الخامس: إرادة تحكيم الشريعة لا ينافي التدريج في تطبيقها وتهيئة الناس لها؛ بأن يعلموا أن تحكيم الشريعة دينُ الله وأنه خيرٌ لهم.

الوجه السادس: ليس المراد بقوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43] أن تحكيم التوراة كافٍ، لأنَّ المراد العدل كما قال؛ بل المراد ذمُّهم لتركِ تحكيم التوراة في رجم الزاني مع عِلْمهم أنه موجود عندهم في كتابهم وهو حكمُ الله عندهم.

قال ابن الجوزي: «قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} قال المفسرون: هذا تعجيبٌ من الله عز وجل لنبيِّه من تحكيم اليهود إيَّاه بعد عِلْمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إليه فيه، وتقريعٌ لليهود إذ يتحاكمون إلى من يجحدون نبوته، ويتركون حكمَ التوراة التي يعتقدون صحَّتها.

قوله تعالى: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} ، فيه قولان: أحدهما: حكم الله بالرجم، وفيه تحاكموا، قاله الحسن، والثاني: حكمه بالقَود، وفيه تحاكموا، قاله قتادة.

قوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} فيه قولان: أحدهما: من بعد حكم الله في التوراة، والثاني: من بعد تحكيمك»

(1)

.

(1)

زاد المسير في علم التفسير (1/ 550).

ص: 80

وقال ابن كثير في تفسيره: «ثم قال تعالى منكِرًا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدِهم الزائغة، في تركهِم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدًا، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدَم لزومه لهم فقال:

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43].

ثم مدحَ التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال:

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]؛ أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} ؛ أي: وكذلك الربانيون منهم - وهم العباد العلماء - والأحبار - وهم العلماء - {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} ؛ أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أُمروا أن يُظهِروه ويعملوا به {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} ؛ أي: لا تخافوا منهم وخافوني».

ويؤكد هذا أنَّ التوراة حُرِّفت فكيف يُزعَم أنَّ ما فيها بعد التحريف هو عدل.

وبعد هذا يتبين أن القول بأن التحكيم بالعدل المزعوم - ولو خالف شرعَ الله - هو شرعُ الله = قولٌ باطلٌ لا دليل عليه، ثم الزعم بأنَّ الديمقراطية عدلٌ = هو زعمٌ باطل؛ لأنها قائمة على تحكيم الأكثرية، ويترتبُ على هذا ضياعُ حقِّ الأقلية وإهدارُ قدراتِ الأكفياء؛ لأنَّ العبرة بالأكثر لا بالأميَز؛ ففي دول الديمقراطية يسودُ التجار والأكثر قبلية واتباعًا بحسب حال كلِّ دولة.

ص: 81

شبهات في حال الحاكم

الشبهة الثالثة:

أنه جاء في حديث تقييد السمع والطاعة لمن قاد بكتاب الله، ففي صحيح مسلم قالت أم الحصين: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ مجدَّع يقودكُم بكتاب الله، فاسمَعوا له وأطيعوا»

(1)

.

فمفهومُ هذا الحديث: أنه إذا لم يَقُدِ الناس بكتاب الله وبتحكيم الشريعة فلا يُسمع ولا يطاع له.

والجواب على هذه الشبهة أن يقال: إنَّ قائل هذه الشبهة له حالان:

الحال الأولى:

أنه لا يكفِّر بالحكم بغير ما أنزل الله وإنما يقول هو مسلم لكن لا يُسمَع ولا يطاع له؛ لدلالة هذا الحديث، والجواب على هذا من أوجه:

الوجه الأول: على فرض دلالة الحديث على عدم السمعِ والطاعة لمن لم يحكمُ بكتاب الله؛ فإنَّ دلالته على عدمِ طاعة مَنْ لم يحكُم بكتاب الله دلالة مفهوم، وهذا المفهوم مخالف لمنطوقاتٍ كثيرة في السمع والطاعة للحاكم العاصي في غير معصية الله، والمنطوقُ عند التعارض مقدَّمٌ على المفهوم عند أهل العلم.

الوجه الثاني: إنَّ قوله: «ما قادوكم بكتاب الله» قد يُراد به ما جوَّزهُ شرع الله، ويُقابله ما هو محرَّمٌ مما لم يجوِّزهُ شرعُ الله؛ فلا يُطاع الحاكم في معصية الله، وهذا مثل حديث عائشة في قصة بريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان من شرطٍ ليس في

(1)

أخرجه مسلم (1298).

ص: 82

كتابِ الله فهو باطل»

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما إذا كان المشروط مما لم يحرِّمه الله، فلم يخالف كتابَ الله وشرطه، حتى يقال: كتابُ الله أحقُّ، وشرطُ الله أوثق، فيكون المعنى: مَنْ اشترطَ أمرًا ليس في حكم الله ولا في كتابه، بواسطةٍ وبغير واسطة = فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروطُ مما يباح فِعلُه بدون الشرط، حتى يصحَّ اشتراطه ويجب بالشرط، ولمَّا لم يكن في كتاب الله أنَّ الولاء لغير المعتق أبدًا كان هذا المشروط - وهو ثبوت الولاء لغير المعتق - شرطًا ليس في كتاب الله»

(2)

.

وقال الإمام ابن القيم: «فالصواب الضابط الشرعيُّ الذي دلَّ عليه النصُّ أنَّ كلَّ شرطٍ خالفَ حكمَ الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالفهُ حكمهُ فهو لازم»

(3)

.

وقد فَهِمَ الحديثَ بمعنى عدم طاعة الحاكم في معصية الله الأثرم

(4)

والسنديُ فقال: «وفي قوله: «يقودكُم بكتاب الله» إشارة إلى أنه لا طاعةَ له فيما يُخالف حكمَ الله تعالى»

(5)

.

الوجه الثالث: إن قوله: «يقودكم بكتاب الله» خرجَ مخرجَ الغالب؛ وما خرجَ مخرجَ الغالب فلا مفهومَ له

(6)

، فإنَّ الغالبَ على حكَّام المسلمين قرونًا

(1)

أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504).

(2)

القواعد النورانية (ص: 284).

(3)

إعلام الموقعين (3/ 302).

(4)

ناسخ الحديث ومنسوخه (3/ 302).

(5)

حاشية السندي على سنن النسائي (ص: 252).

(6)

قال الآمدي في كتابه الإحكام في أصول الأحكام (3/ 100): اتفق القائلون بالمفهوم على أنَّ كلَّ خطاب خصَّصَ محلَّ النطق بالذكر لخروجه مخرجَ الأعمِّ بالأغلب = لا مفهوم له. اهـ، ونقل المرداوي كلام الآمدي فقال:«قال الآمدي: ولا خرج مخرج الغالب اتفاقًا» . التحبير شرح التحرير (6/ 2895).

ص: 83

طويلة من بعثةِ رسول الله إلى القرن السابق أنهم يحكمونَ بكتاب الله، فلم يُترك الحكم بكتاب الله من أكثر الحكَّام إلَّا هذين القرنين.

الحال الثانية:

أنه يكفِّر بالحكم بغير من أنزل الله. فهذا استدلالُه بالحديث اعتضادًا لا اعتمادًا؛ لأنه تقرَّر عنده أنَّ عدم تحكيم الشرع - بلا اعتقاد - كفرٌ أكبر بأدلة توهَّمها، فيُردُّ عليه ببيان عدم صحة هذا المذهب، وأنه مخالف لما أجمع عليه أهل السنة، كما حكاه غير واحد من أهل العلم كالشيخ عبد العزيز ابن باز والألباني رحمهما الله.

قال العلامة ابن باز رحمه الله: «أمَّا مَنْ حكم بغير ما أنزل الله لهوًى أو لحظٍّ عاجل وهو يعلَمُ أنه عاصٍ لله ولرسوله وأنه فعلَ منكرًا عظيمًا وأن الواجب عليه الحكم بشرع الله = فإنه لا يكفر بذلك الكفرَ الأكبر لكنه قد أتى منكَرًا عظيمًا ومعصيةً كبيرةً وكفرًا أصغر كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أهل العلم، وقد ارتكبَ بذلك كفرًا دون كفر وظلمًا دون ظلم وفسقًا دون فسق؛ وليس هو الكفر الأكبر؛ وهذا قول أهل السنة والجماعة»

(1)

.

وسئل شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز: «هل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يرى تكفير الحكام على الإطلاق؟» .

الجواب: «يرى تكفير من استحلَّ الحكم بغير ما أنزل الله؛ فإنه يكون بذلك كافرًا» .

هذه أقوال أهل العلم جميعًا: «من استحلَّ الحكمَ بغير ما أنزل الله كفَر، أمَّا

(1)

مجموع فتاوى ابن باز (5/ 355).

ص: 84

مَنْ فعلَهُ لشُبهةٍ أو لأسبابٍ أخرى لا يستحلُّه، يكونُ كفرًا دون كفر»

(1)

.

وقرر هذا الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله في شريط الدمعة البازية فيمن يضع القوانين الوضعية بدل الحكم الشرعي.

ولسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز مقال قال فيه: «اطلعت على الجواب المفيد القيِّم الذي تفضَّل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني

- وفَّقه الله - المنشور في جريدة (الشرق الأوسط) وصحيفة (المسلمون) الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير مَنْ حكمَ بغير ما أنزل الله من غير تفصيل، فألفَيتُها كلمةً قيِّمة قد أصاب فيها الحق، وسلك فيها سبيلَ المؤمنين، وأوضحَ

- وفَّقه الله - أنه لا يجوزُ لأحدٍ من الناس أن يكفِّر مَنْ حكم بغير ما أنزل الله بمجرَّد الفعل من دون أن يعلم أنه استحلَّ ذلك بقلبه، واحتجَّ بما جاء في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من سلف الأمة، ولا شكَّ أنَّ ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى:

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] = هو الصواب.

وقد أوضحَ - وفَّقه الله - أنَّ الكفر كفران؛ أكبر وأصغر، كما أنَّ الظُّلمَ ظلمان، وهكذا الفسق فسقان أكبر وأصغر، فمن استَحلَّ الحكمَ بغير ما أنزل الله أو الزنى أو الربا أو غيرهما من المحرَّمات المجمَعِ على تحريمها فقد كفرَ كفرًا أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرًا أصغرَ وظُلمه ظلمًا أصغر،

(1)

مجموع الفتاوى (28/ 271).

ص: 85

وهكذا فِسقُه»

(1)

.

وقال العلامة ابن عثيمين: «أما فيما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله: فهو كما في الكتاب العزيز ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كفر، وظلم، وفسق؛ على حسب الأسباب التي بُنيَ عليها هذا الحكم، فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعًا لهواه مع علمهِ بأنَّ الحق فيما قضى الله به: فهذا لا يكفر لكنه بين فاسقٍ وظالم، وأما إذا كان يَشْرَع حكمًا عامًّا تمشي عليه الأمة، يرى أنَّ ذلك من المصلحة، وقد لُبِّس عليه فيه: فلا يكفر أيضًا؛ لأن كثيرًا من الحكام عندهم جهلٌ في علم الشريعة، ويتَّصل بهم مَنْ لا يعرفُ الحكم الشرعي، وهم يرونه عالمًا كبيرًا فيحصلُ بذلك المخالفة، وإذا كان يعلم الشرعَ ولكنه حكَم بهذا، أو شَرَع هذا، وجعله دستورًا يمشي الناس عليه؛ يَعتقدُ أنه ظالم في ذلك، وأنَّ الحقَّ فيما جاء به الكتاب والسنة: فإننا لا نستطيع أن نكفِّر هذا، وإنما نكفِّر: من يرى أنَّ حكمَ غير الله أولى أن يكون الناسُ عليه، أو مثلُ حكم الله عز وجل = فإن هذا كافر»

(2)

.

وأخيرًا على فرض القول بصحة تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله فإنه لا يصحُّ تكفير أعيانِ الحكَّام لأمرين:

الأمر الأول:

إنَّ التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله تكفيرٌ بمسألة خلافية، ومن المتقرِّر شرعًا أنه لا يصحُّ تكفيرُ الأعيان بما اختلف وتنازع فيه أهلُ العلم؛ لأنه يُعتبر تأويلًا يمنعُ تكفيرَ المعين.

(1)

مجموع فتاوى ابن باز (9/ 124).

(2)

انظر: الحكم بغير ما أنزل الله، للشيخ بندر المحياني العتيبي (ص: 112).

ص: 86

قال الإمام محمد بن عبدالوهاب: «أركانُ الإسلام خمسة، أوَّلها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقرَّ بها وتركَها تهاونًا، فنحن وإنْ قاتلناه على فعلها، فلا نكفِّره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفرِ التاركِ لها كسلًا من غير جحود، ولا نكفِّر إلَّا ما أجمعَ عليه العلماء كلُّهم، وهو الشهادتان»

(1)

.

وقال النووي في كتابه (رياض الصالحين) في تفسير (بواحًا): «أي ظاهرًا لا يحتملُ تأويلًا» .

وتنازُعُ أهل العلم تأويلٌ يمنع التكفير؛ لأنَّ للمكفِّر أن يأخذَ قولَ العلماء الآخرين بما أنَّ الخلاف سائغٌ بين أهل السُّنة؛ وهم من أهل السنة.

وقد نصَّ على أن الكفر لا يكون في المتنازَع فيه الشيخ محمد بن صالح العثيمين في مواضع من اللقاء المفتوح.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في (شرح القواعد المثلى): «وكثيرٌ من الناس اليوم ممَّن ينتسبون إلى الدِّين وإلى الغيرة في دين الله عز وجل تجدهم يكفّرون من لم يكفّره الله عز وجل ورسوله، بل - مع الأسف - إنَّ بعض الناس صاروا يناقشون في ولاة أمورهم، ويحاولون أن يُطلقوا عليهم الكفر، لمجرَّد أنهم فعلوا شيئًا يعتقد هؤلاء أنه حرام، وقد يكون من المسائل الخلافية، وقد يكون هذا الحاكم معذورًا بجهله، لأنَّ الحاكم يجالسه صاحبُ الخير وصاحبُ الشَّر، ولكلِّ حاكمٍ بطانتان، إمَّا بطانة خير، وإمَّا بطانة شرّ، فبعض الحكَّام - مثلًا - يأتيه بعض أهل الخير ويقولون: هذا حرام، ولا يجوز أن تفعله، ويأتيه آخرون، ويقولون: هذا حلال ولك أن تفعله!

(1)

الدرر السنية (1/ 102).

ص: 87

ولنضرب مثلًا في البنوك، الآن نحن لا نشكُّ بأن البنوك واقعة في الربا الذي «لعنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم آكلَهُ، ومُوكِلَه، وشاهدَيه، وكاتبه»

(1)

، وأنه يجب إغلاقها واستبدالُ هذه المعاملات بالمعاملات الحلال، حتى يقوم أولًا دينُنا ثم اقتصادنا ثانيًا

فالتعجيلُ في تكفير الحكام المسلمين في مثل هذه الأمور خطأ عظيم، ولا بد أن نصبر، فقد يمكن أن يكون الحاكم معذورًا! فإذا قامت عليه الحجَّة وقال: نعم هذا هو الشرع، وأنَّ هذا الربا حرام، لكن أرى أنه لا يصلح هذه الأمة في الوقت الحاضر إلَّا هذا الربا! حينئذ يكون كافرًا لأنه اعتقد أنَّ دين الله في هذا الوقت غير صالح للعصر، أما أن يشبَّه عليه ويقال: هذا حلال، يعني: الفقهاء قالوا كذا! ولأن الله قال كذا! فهذا قد يكون معذورًا، لأنَّ كثيرًا من الحكَّام المسلمين الآن يجهلون الأحكام الشرعية، أو كثيرًا من الأحكام الشرعية، فأنا ضربتُ هذا المثل حتى يتبين أن الأمر خطير، وأن التكفير يجب أن يعرف الإنسان شروطه قبل كل شيء»

(2)

.

ومثله التفسيق لا يكون فيما تنازعَ فيه علماء السنة، فمن رأى أن علَّة جريان الربا في الأصناف الأربعة الطعم والكيل أو الوزن، فليس له أن يفسِّق العامي المقلِّد لعالم معتبر في التعليل بالادِّخار زيادةً على الطعم والكيل أو الوزن إذا تبادل على وجهِ الزيادة فيما هو مطعومٌ غير مدَّخر.

ومما يؤكد هذا أن الحدود تُدرأ بالشبهات، فالتكفير من باب أولى يُدرأ عن المعين بشُبهة الخلاف.

(1)

أخرجه مسلم (1598) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(2)

(ص: 356).

ص: 88

الأمر الثاني:

قد يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله مضطرًّا

(1)

؛ لأنه لو حكم بما أنزل الله لقامَ عليه قومهُ بالتآمر مع دول الغرب الكافرة لا سيما إذا كانت هذه الدولة من الدول المستعمرة سابقًا.

قال الإمام ابن تيمية: «كذلك النجاشي هو وإن كان ملكَ النصارى فلم يُطِعهُ قومهُ في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفرٌ منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه، فصلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلَّى فصفَّهم صفوفًا وصلَّى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، وقال: «إنَّ أخًا لكم صالحًا من أهل الحبشة مات»

(2)

.

وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخلَ فيها لعجزهِ عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حجَّ البيت، بل قد روي أنه لم يكن يصلي الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم. ونحن نعلم قطعًا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن.

والله قد فرضَ على نبيِّه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلَّا بما أنزل الله إليه، وحذَّره أن يفتنوه عن بعض ما أنزلَ الله إليه، وهذا مثلُ الحكم في الزنى للمحصَن بحدِّ الرجم، وفي الدِّيات بالعدل والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع؛ النفس بالنفس، والعين بالعين، وغير ذلك.

(1)

هذا ليس تبريرًا للحاكم، فإنَّ الواجب على الحاكم أن يتقي الله وأن يجتهد في الحكم بما أنزل الله، وإنَّما المراد الردُّ على غلاة التكفيرالذين لايراعون ما تراعيه الشريعة.

(2)

أخرجه البخاري (1372)، ومسلم (951) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 89

والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإنَّ قومه لا يقرُّونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولَّى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا؛ بل وإمامًا، وفي نفسه أمورٌ من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلِّف الله نفسًا إلَّا وسعها.

وعمر بن عبد العزيز عُودي وأُوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سُمَّ على ذلك»

(1)

.

الشبهة الرابعة:

قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا سمع ولا طاعة للحاكم الفاسق إلَّا في الواجب والمستحب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والإمامُ العدل تجبُ طاعته فيما لم يُعلَم أنه معصية، وغيرُ العدل تجبُ طاعته فيما عُلِمَ أنه طاعة كالجهاد»

(2)

.

وجواب هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا يخالف النصوصَ المتقدمة في السمع والطاعة للحاكم مطلقًا في غير معصية الله ولو كان فاسقًا وظالمًا، بل وهذا مقتضى العموم في قوله تعالى:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، فإن (أولي) نكرة أضيفت إلى معرفة، فأفادت العموم في كل حاكم بما أنه مسلم، سواءٌ كان فاسقًا أو عدلًا؛ وقد تقدَّم.

(1)

منهاج السنة النبوية (5/ 112).

(2)

مجموع الفتاوى (29/ 196).

ص: 90

ويؤكد ذلك ما في صحيح مسلم عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا نبيَّ الله أرأيتَ إنْ قامتْ علينا أمراء يسألونا حقَّهم ويمنعونا حقَّنا فما تأمرنا؟، فأعرضَ عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجَذبهُ الأشعثُ بن قيس وقال: اسمَعوا وأطيعوا فإنَّما عليهم ما حُملوا وعليكم ما حُمِّلتم»

(1)

.

الوجه الثاني: أن ظاهر كلام ابن تيمية هذا يخالفُ كلامَ بقية أهل السنة في كتب العقائد في السمع والطاعة للحاكم في غير معصية الله، وقولهم مقدَّم على قوله.

الوجه الثالث: أن ظاهر كلام شيخ الإسلام هذا يعارضُ كلامه الكثير في السمع والطاعة للحاكم الفاسق في غير معصية الله؛ فقال: ويقولون - أي أهل السنة -: «إنه يُعاوَن على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، ويُطاع في طاعة الله دون معصيته»

(2)

.

وقال: «ولكن عليَّ أن أطيع الله ورسوله، وأطيعَ أولي الأمر إذا أمروني بطاعة الله، فإذا أمروني بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. هكذا دلَّ عليه الكتاب والسُّنة، واتفق عليه أئمة الأمة.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

(1)

سبق تخريجه (ص: 36).

(2)

منهاج السنة النبوية (1/ 556).

ص: 91

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الله، إنَّما الطاعة في المعروف»

(1)

، وأن أصبر على جَور الأئمة وأن لا أخرجَ عليهم في فتنة»

(2)

.

وقال: «وتقرَّر في غير هذا الموضع ما قد أمر به صلى الله عليه وسلم من طاعة الأمراء في غير معصية الله؛ ومناصحتهم والصبر عليهم في حكمهم وقسمهم»

(3)

.

وقال: «عُلِمَ أنه قتالُ فتنةٍ فلا تجبُ طاعة الإمام فيه؛ إذْ طاعتهُ إنما تجب في

ما لم يعلم المأمورُ أنه معصية بالنص»

(4)

.

الوجه الرابع: أن كلامه يُحمل على عدم طاعة الحاكم غير العدل في أخذ حقوق الناس إلا بعد التأكد أنه ليس ظلمًا، أما العدل فالأصل صدقهُ وبراءة ذمته، فيُطاع؛ وهو معنى كلامه في أوائل (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية)؛ قال:«قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور؛ عليهم أن يؤدُّوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك؛ إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»

(5)

.

(1)

سبق تخريجه (ص: 75).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 249).

(3)

مجموع الفتاوى (35/ 20).

(4)

مجموع الفتاوى (4/ 443).

(5)

ص: 6.

ص: 92

وبعد هذه الأوجه الأربع إنْ تعلَّق رجل بكلام عالم محتمل أو صريح في الخطأ دون النصوص الشرعية وأقوال علماء السنة الآخرين، بل وأقوال العالم نفسه في مواضع أخرى = يدلُّ على أن هذا الرجل صاحب هوى.

الشبهة الخامسة:

أنه لا تصح البيعة لأكثر من حاكم للمسلمين بالنص والإجماع، فبهذا يتبين أن هؤلاء الحكام الموجودين اليوم ليسوا حكَّامًا شرعيين.

قال ابن حزم: «واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقتٍ واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين ولا في مكان واحد»

(1)

.

وقال النووي: «واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يُعقد لخليفتين في عصرٍ واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد: قال أصحابنا: لا يجوز عقدُها لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عَقدُها لاثنين في صقع واحد وهذا مُجمَعٌ عليه.

قال: فإنْ بعُدَ ما بين الإمامين وتخللت بينهما شسوع، فللاحتمال فيه مجال؛ قال: وهو خارج من القواطع، وحكى المازري هذا القولَ عن بعض المتأخرين من أهل الأصل، وأراد به إمامَ الحرمين، وهو قولٌ فاسد مخالفٌ لما عليه السلف والخلف، ولظواهر إطلاق الأحاديث والله أعلم»

(2)

.

وقال القرطبي: «فأما إقامة إمامين أو ثلاثةٍ في عصرٍ واحد وبلدٍ واحد =

(1)

مراتب الإجماع (ص: 124).

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 232).

ص: 93

فلا يجوز إجماعًا؛ لما ذكرنا»

(1)

.

وأصلُ ذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا بُويعَ لخليفتين فاقتلوا الآخرَ منهما»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة هو أن هذا الإجماع محمول على أحد أمرين:

الأمر الأول: إذا كان المسلمون في ولاية واحدة، فلا يُبايع لأكثر من خليفة بخلاف إذا تعددت الولايات، فإنَّ لكل ولاية حُكمَها، وقد أشار لهذا ابن تيمية لما قال: «وأما أئمة الفقهاء فمذهبُهم أنَّ كلًّا منهما ينفُذ حكمه في أهل ولايته كما ينفُذ حكمُ الإمام الواحد.

وأما جواز العقد لهما ابتداءً، فهذا لا يُفعل مع اتفاق الأمة، وأمَّا مع تفرقتها فلم يعقد كل من الطائفتين لإمامين»

(3)

.

الأمر الثاني: أن المراد بالحديث والإجماعات ما كان في حال الاختيار بخلاف حال الاضطرار، فتكون شبيهةً بمسألة ثبوت الولاية بالتغلب والقهر، فإنَّ الأصل أن لا تكون للمسلمين إلَّا دولةٌ واحدة؛ وتعدُّدُ الولايات والدول حالةُ اضطرارٍ لها حكمُها، وسواء كان الجواب الأول أو الثاني، فإن ثبوت الولاية للإمامين في الدولتين فأكثر درجَ عليه المسلمون من وقت الصحابة، وتقدَّم نقل كلام ابن تيمية.

وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب: «الأئمة مجمعون من كلِّ مذهب، على أنَّ من تغلَّب على بلد أو بلدان = له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما

(1)

تفسير القرطبي (1/ 273).

(2)

أخرجه مسلم (1853).

(3)

نقد مراتب الإجماع (ص: 298).

ص: 94

استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمامٍ واحد، ولا يعرفون أحدًا من العلماء ذكر أن شيئًا من الأحكام، لا يصحُّ إلَّا بالإمام الأعظم»

(1)

.

قال الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين رحمه الله: «وقوله: «الإمام» هو ولي الأمر الأعلى في الدولة، ولا يشترط أن يكون إمامًا عامًّا للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«اسمَعوا وأطيعوا ولو تأمَّرَ عليكم عبدٌ حبشي»

(2)

، فإذا تأمر إنسانٌ على جهةٍ ما، صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذًا، وأمره مطاعًا، ومن عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه والأمة الإسلامية بدأت تتفرق، فابنُ الزبير في الحجاز، وبنو مروان في الشام، والمختار بن عبيد وغيره في العراق، فتفرقت الأمة، وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له الخلافة العامة؛ وبهذا نعرف ضلالَ ناشئةٍ نشأت تقول: إنه لا إمامَ للمسلمين اليوم، فلا بيعة لأحد!! نسأل الله العافية، ولا أدري أيريد هؤلاء أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟! أم يريدون أن يقال: كلُّ إنسان أمير نفسه؟!

هؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة فإنهم يموتون ميتة جاهلية - والعياذ بالله -؛ لأن عمل المسلمين منذ أزمنة متطاولة على أن من استولى على ناحيةٍ من النواحي، وصار له الكلمة العليا فيها، فهو إمام فيها»

(3)

.

(1)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 5).

(2)

أخرجه البخاري (7142) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(3)

الشرح الممتع (8/ 9).

ص: 95

الشبهة السادسة:

أن السمع والطاعة والبيعة إنما تكون للحاكم العام على جميع بلاد المسلمين، أما إذا تعدَّدت الدويلات والحكام، فلا سمعَ ولا طاعة ولا بيعة. واستدلَّ بما أخرج الحاكم والطبراني عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«تسمَعُ للأميرِ الأعظَم وإنْ ضربَ ظهرك وأخذَ مالك»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة من ثلاث جهات

(2)

:

الجهة الأولى: أن النصوص العامة في السمع والطاعة للحاكم لم تفرِّق بين أن تكون دول المسلمين دولة واحدة أو أكثر، فبدلالة العموم يُسمع ويطاع للحكام في الولايات والدول المتعددة.

الجهة الثانية: أنَّ على هذا أهلَ العلم كما يدلُّ عليه هديُهم العمليُّ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما قال: «وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أنَّ كلًّا منهما ينفُذ حكمهُ في أهل ولايته كما ينفُذ حكمُ الإمام الواحد، وأما جوازُ العقد لهما ابتداءً، فهذا لا يُفعل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كل من الطائفتين لإمامين»

(3)

.

(1)

أخرجه الحاكم (4/ 547) والطبراني في الأوسط (2893).

(2)

قد كان العلامة الألباني يقرر أنه لا بيعة إلَّا للحاكم العام لكن يمنع الخروج .. الخ، وكلامهُ كاللفظي مع من يرى البيعة لعموم الحكام، ثم تراجع عن هذا تراجعًا واضحًا، وهنا توثيق تراجعه:http://www.islamancienttube.com/video/2330

(3)

نقد مراتب الإجماع (ص: 298).

ص: 96

وقال شيخنا محمد بن صالح ابن عثيمين: «وقوله: «الإمام» هو ولي الأمر الأعلى في الدولة، ولا يشترط أن يكون إمامًا عامًّا للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«اسمَعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي»

(1)

، فإذا تأمَّر إنسان على جهةٍ ما، صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذًا، وأمره مطاعًا، ومن عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه والأمةُ الإسلامية بدأت تتفرَّق، فابنُ الزبير في الحجاز، وبنو مروان في الشام، والمختار ابن عبيد وغيره في العراق، فتفرقت الأمة، وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له الخلافة العامة؛ وبهذا نعرفُ ضلال ناشئةٍ نشأت تقول: إنه لا إمام للمسلمين اليوم، فلا بيعة لأحد! نسأل الله العافية، ولا أدري أيريد هؤلاء أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟! أم يريدون أن يقال: كلُّ إنسانٍ أميرُ نفسه؟!

هؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة فإنهم يموتون ميتة جاهلية - والعياذ بالله -؛ لأنَّ عمل المسلمين منذ أزمنة متطاولة على أنَّ من استولى على ناحيةٍ من النواحي، وصار له الكلمة العليا فيها، فهو إمامٌ فيها»

(2)

.

الجهة الثالثة: ضَعفُ الحديث الذي فيه (للأمير الأعظم) لأمرين:

الأول: أنَّ في إسناده سلام بن أبي سلام؛ مجهول جهالة حال، قال ابن حجر:«مجهول»

(3)

، وقال الذهبي:«ليس بحجة»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه (ص: 95).

(2)

الشرح الممتع (8/ 9).

(3)

تقريب التهذيب (2706).

(4)

الكاشف (2208).

ص: 97

الثاني: أنَّ أصل الحديث في صحيح مسلم من رواية الثقات بدون هذه الزيادة، مما يدلُّ على ضعف هذه الزيادة.

الجهة الرابعة: أنه لو صحَّ الحديث فهو محمولٌ على الأمير الأعظم في الدولة نفسها؛ لأن لكلِّ دولةٍ من الدول المتعددة أمراء وأميرًا عامًّا عليهم.

الشبهة السابعة:

حاول ابن حزم في كتابه (الفصل) أن يرد أحاديثَ الصبر على جور الحاكم الفاسق وعدمِ الخروج عليه فقال:

«كلُّ هذا لا حجَّة لهم فيه لما قد تقصَّيناه غاية التقصِّي خبرًا خبرًا بأسانيدها ومعانيها في كتابنا الموسوم بـ (الاتصال إلى فهم معرفة الخصال)، ونذكر منه - إن شاء الله - هاهنا جملًا كافية وبالله تعالى نتأيَّد؛ أمَّا أمرهُ صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر، فإنما ذلك بلا شك إذا تولَّى الإمام ذلك بحقٍّ، وهذا ما لا شكَّ فيه أنه فرض علينا الصبر له، وإن امتنع من ذلك، بل من ضرب رقبته إن وجب عليه، فهو فاسق عاص لله تعالى، وإمَّا إن كان ذلك بباطلٍ فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك؛ برهانُ هذا قول الله عز وجل:

{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

وقد علمنا أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالفُ كلام ربِّه تعالى، قال الله عز وجل:

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4].

وقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، فصحَّ أن كلَّ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحيٌ من عند الله عز وجل، ولا اختلافَ فيه ولا تعارض ولا تناقض، فإذا كان هذا كذلك فيقينٌ لا شك فيه يدري كلُّ مسلم

ص: 98

أنَّ أخذَ مال مسلم أو ذميٍّ بغير حقٍّ، وضربَ ظهرهِ بغير حقٍّ إثمٌ وعدوانٌ وحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ دماءكم وأموالَكُم وأعراضَكم حرامٌ عليكم»

(1)

، فإذْ لا شكَّ في هذا، ولا اختلافَ من أحد من المسلمين، فالمسلم مالُه للأخذ ظلمًا وظهرهُ للضَّرب ظلمًا، وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأيِّ وجهٍ أمكَنه معاونٌ لظالمه على الإثم والعدوان، وهذا حرامٌ بنصِّ القرآن، ثم قال: وأما الأحاديث فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رأى منكم منكرا فليغيِّرهُ بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلكَ أضعفُ الإيمان، ليس وراء ذلك من الإيمان شيء»

(2)

.

وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعةَ في معصيةٍ؛ إنَّما الطاعة في المعروف»

(3)

، «وعلى أحدكم السَّمع والطاعة ما لم يُؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة»

(4)

، وإنه عليه السلام قال:«مَنْ قُتل دون مالهِ فهو شهيد، والمقتول دون دينه شهيد، والمقتول دون مظلمة شهيد» ، وقال عليه السلام:«لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المنكر، أو ليعُمنَّكُم الله بعذاب من عنده» .

فكان ظاهر هذه الأخبار معارضًا للآخر، فصحَّ أنَّ إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى لا يمكن غير ذلك، فوجبَ النظر في أيِّهما هو الناسخ، فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهيُ عن القتال موافقةً لمعهود الأصل، ولما كانت الحال فيه في أول الإسلام بلا شك، وكانت هذه الأحاديث الأُخر واردةً بشريعة

(1)

أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه (ص: 57).

(3)

سبق تخريجه (ص: 75).

(4)

سبق تخريجه (ص: 75).

ص: 99

زائدةٍ وهي القتال هذا ما لا شكَّ فيه = فقد صحَّ نسخُ معنى تلك الحاديث ورفعُ حكمها حين نطقهِ عليه السلام بهذه الأُخَر بلا شك، فمن المحال المحرَّم أن يؤخذَ بالمنسوخ ويتركَ الناسخ، وأن يؤخذَ الشكُّ ويُترك اليقين.

ومَن ادَّعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة، فقد ادَّعى الباطل وقَفا ما لا علمَ له به، فقال على الله ما لم يعلم. وهذا لا يحلُّ ولو كان هذا لما أخلا الله عز وجل هذا الحكمَ عن دليلٍ وبرهان يبيِّن به رجوعَ المنسوخ ناسخًا؛ لقوله تعالى في القرآن:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} .

وبرهانٌ آخر وهو أنَّ الله عز وجل قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ} [الحجرات: 9]، لم يختلف مسلمان في أن هذه الآية التي فيها فرضُ قتالِ الفئة الباغية مُحكَمةٌ غير منسوخة، فصحَّ أنها الحاكمة في تلك الأحاديث، فما كان موافقًا لهذه الآية فهو الناسخ الثابت، وما كان مخالفًا لها فهو المنسوخ المرفوع، وقد ادَّعى قومٌ أن هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص دون السلطان.

قال أبو محمد: «وهذا باطلٌ متيقَّن لأنه قولٌ بلا برهان، وما يعجز مدَّعٍ أن يدَّعي في تلك الأحاديث أنها في قومٍ دون قوم، وفي زمانٍ دون زمان، والدَّعوى دون برهان لا تصحُّ، وتخصيصُ النصوص بالدعوى لا يجوز؛ لأنه قولٌ على الله تعالى بلا علم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ سائلًا سأله عَنْ مَنْ طلبَ ماله بغير حقٍّ فقال عليه السلام: «لا تُعطِه» ، قال: فإنْ قاتلَني؟ قال: «قاتِلْه» ، فإنْ قتلتُه؟ قال:«إلى النار» ، قال: فإنْ قتَلنَي؟ قال: «فأنت في الجنة»

(1)

، أو كلامًا هذا معناه،

(1)

أخرجه مسلم (140) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 100

وصحَّ عنه عليه السلام أنه قال: «المسلمُ أخو المسلم لا يسلبهُ ولا يظلمه»

(1)

.

وقد صحَّ أنه عليه السلام قال في الزكاة: «مَنْ سألهَا على وجهها فلْيُعطَها، ومَن سألَها على غير وجهها فلا يُعطَها»

(2)

، وهذا خبر ثابت رويناه من طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يُبطلُ تأويلَ من تأوَّل أحاديثَ القتال عن المال على اللصوص لا يطلبون الزكاة، وإنما يطلبه السلطان، فاقتصر عليه السلام معها إذا سألَها على غير ما أمرَ به عليه السلام، ولو اجتمع أهلُ الحقِّ ما قاومهم أهلُ الباطل؛ نسأل الله المعونة والتوفيق»

(3)

.

إنَّ ملخص كلامه وحُجَجه ما يلي:

الأول: أن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، قال:«والسماحُ له بأخذ المال وضَربِ الظهر تعاونٌ على الإثم والعدوان» .

الثاني: استدلَّ بعموم الأدلة في أمورٍ؛ منها وجوبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: يجبُ أن يُنكَر على الحاكم ظُلمه.

الثالث: استدلَّ بأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق وقال: إنَّ عدم إنكار المنكر طاعةٌ له في ترك واجب، وهو إنكار المنكر، وإنَّ عدمَ منعهِ من الضرب بغير حقٍّ، وأخذَ المال بغير حقٍّ = من طاعته في معصية الله؛ لأن الواجب منعه.

الرابع: تمسَّك بالنسخ فقال إنَّ الأدلة الناهية عن قتاله والخروج عليه منسوخة بمثل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى

(1)

أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (1454) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 133).

ص: 101

الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ونحوها.

وكشفُ المغالطات في كلام ابن حزم بما يلي:

أما المغالطة الأولى والثانية؛ وهي الاستدلال بالأدلة في إنكار المنكر وعدم التعاون على الإثم والعدوان، فيقال: الجوابُ عليها من أوجه:

الوجه الأول: أنها أدلة عامة؛ والأدلة في الصَّبر على جَور الحاكم خاصة، والخاصُّ مقدَّم على العام.

الوجه الثاني: أنه لو قدّر عدم تخصيصها فإنه يتعينُ عدمُ العمل بها؛ لأن إنكار المنكر إذا ترتَّب عليه منكَرٌ أكبر وجبَ تركُه، وتركُ السمع والطاعة يترتَّب عليه منكر أكبرُ كما تقدَّم نقلُه عن أهل العلم، ودلَّت عليه الحوادثُ والوقائع.

الوجه الثالث: أنَّ أهل السنة مجمعون على السمع والطاعة للحاكم المسلم والصبر على جَوره، والإجماعُ قطعي الدلالة لا يخصَّصُ ولا يُنسخ

(1)

.

ص: 102

الوجه الرابع: كلام الصحابة كثيرٌ في الصَّبر على جَور الحاكم المسلم؛ كعمر ابن الخطاب وأبي مسعود وابن مسعود وابن عباس وغيرهم - وقد تقدَّم - وفهمُ الصحابة مقدَّمٌ على فهم مَنْ بعدهم.

أما المغالطة الثالثة؛ فكَشفُها يتضح بكشف الشبهتين السابقتين ويُزاد عليهما بأن يقال: لا تجوز طاعة المخلوق في معصية الخالق سواء كان حاكمًا أو محكومًا، لكنْ فرقٌ بين فعل المعصية التي يطلبها السلطان، وبين فعل السلطان المعصية في غيره بأن يضربَ ويأخذ المال بغير حق.

قال ابن المنذر: «وهذا يقول عوام أهل العلم إنَّ للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله، إذا أُريد ظلمًا، للأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تخصَّ وقتًا دون وقت، ولا حالًا دون حال؟ إلَّا السلطان، فإنَّ جماعةَ أهل الحديث كالمجمعين على أنَّ من لم يمكنه أن يمنعَ نفسه وماله إلَّا بالخروج على السلطان ومحاربته: أنه لا يحاربه، ولا يخرج عليه، للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها الأمرُ بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم، وترك قتالهم، والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة»

(1)

، وقد نقل كلامَ ابن المنذر هذا الحافظُ ابن حجر، وأقرَّه

(2)

.

أما المغالطة الرابعة؛ وهو ادعاؤه النسخ فيقال من المتقرِّر أصوليًّا أنه لا يُصار إلى النسخ إلَّا بشرطين:

الشرط الأول: عدم إمكان الجمع.

(1)

الإشراف على مذاهب العلماء (7/ 248).

(2)

فتح الباري (5/ 124).

ص: 103

والشرط الثاني: معرفة المتقدِّم من المتأخر

(1)

.

وكلا هذين الشرطين غيرُ موجودٍ في ما ادَّعاه ابن حزم؛ فليس هناك ما يدلُّ على تأخُّر ما ذكَرهُ من أدلة؛ ثم الجمعُ ممكنٌ وهو بما تقدَّم ذِكرهُ من أن الخاصَّ مقدَّم على العام.

والقول بالنسخ لا يُعرف إلَّا عن ابن حزم، ولم أر أحدًا سبقه إليه.

الشبهة الثامنة:

«أنه يُخرج على الحاكم إذا حكمَ بغير ما أنزل الله، أو استعان بالكفار وهكذا

».

وكشف هذه الشبهة اختصارًا أن يقال:

إنَّ التكفير بمثل هذه الأمور - ما عدا الحكم بغير ما أنزل الله - تكفيرٌ بمسائل فيها خلاف بين أهل العلم، ومن القواعد المتقررة أنَّ اختلاف أهل العلم في التكفير بأمر = تأويلٌ يمنع تكفير المعين - وقد تقدَّم نقلُ كلام أهل العلم في هذا -.

ومما يؤكد هذا أنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات، فالتكفير من باب أولى يُدرأ عن المعين بشبهة الخلاف، والله أعلم.

مع التنبه إلى أنَّ التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله لمجرَّد الحكم لم يقُلْ به إلَّا

(1)

انظر: المسودة في أصول الفقه (ص: 142)، والورقات (ص: 23)، وشرح تنقيح الفصول (ص: 293).

ص: 104

الخوارج؛ وهو خلافُ قول أهل السنة كما تقدم من كلام الإمام ابن باز

(1)

.

الشبهة التاسعة:

أن الذي أمر الله بطاعته (أولو الأمر)؛ ولفظُ (أولو) لا مفردَ له؛ فليس مفرده (ولي الأمر)، بل هذا لا يُعرف في اللغة، لذا يكون السمع والطاعة لجماعةٍ لا لفرد؛ وهم أهلُ الشورى أو المجلس التشريعي وهكذا

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أنَّ هذا مخالف للأدلة الشرعية الكثيرة التي علَّقت السمع والطاعة للحاكم المفرد، كحديث عوف بن مالك:«ألَا مَنْ وليَ عليه والٍ، فرآهُ يأتي شيئًا من معصيةِ الله، فليكْرَه ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعة»

(2)

.

وحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمَعوا وأطيعوا، وإن استُعمِلَ عليكم عبدٌ حبشي، كأنَّ رأسَهُ زبيبة»

(3)

.

الوجه الثاني: أنه مخالف لإجماعات أهل السنة، وعقيدتهم التي علَّقت الأمرَ برجلٍ واحد. وتقدَّم نقله

(4)

.

الوجه الثالث: أن المراد (بأولي الأمر) العلماء والأمراء، وهؤلاء جماعة وليسوا واحدًا.

(1)

وقد فصَّلتُ مسألة عدم الكفر بترك الحكم بما أنزل الله في كتابي «تبديد كواشف العنيد» ، وكتابي «البرهان المنير في دحض شبهات أهل التكفير والتفجير» .

(2)

سبق تخريجه (ص: 36).

(3)

سبق تخريجه (ص: 95).

(4)

تقدم (ص: 39).

ص: 105

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «و (أولو الأمر) أصحابُ الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشتركُ فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء»

(1)

.

والتعبير بلفظ (ولي الأمر) وإن لم يكن معروفًا في اللغة إلَّا أنَّ العلماء عبَّروا به؛ ولا مُشاحة في الاصطلاح.

قال النووي: «وفي مراجعة عائشة جوازُ مراجعة ولي الأمر على سبيل العرضِ والمشاورة والإشارة بما يظهرُ أنه مصلحة، وتكون تلك المراجعة بعبارة لطيفة، ومثلُ هذه المراجعة مراجعة عمر رضي الله عنه»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كما يطلب الطالبُ من ولي الأمر أن يرسلَ رسولًا، أو يولي نائبًا، أو يعطي أحدًا»

(3)

.

وقال أيضًا: «لأن نصرَ المسلم واجبٌ على كلِّ مسلم بيده ولسانه، فكيف على ولي الأمر»

(4)

.

الشبهة العاشرة:

لا تُقر البيعة إلا لمن اجتمع عليه الناس كلُّهم، فإنه لما سئل الإمام أحمد عن حديث «مَنْ ماتَ وليس لهُ إمامٌ مات ميتةً جاهلية» ، ما معناه؟ قال أبو عبدالله: «تدري ما الإمام؟ الإمامُ الذي يُجمع المسلمون عليه؛ كلُّهم يقول: هذا إمام،

(1)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص: 53).

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 140).

(3)

الجواب الصحيح (5/ 317).

(4)

الصارم المسلول (1/ 443).

ص: 106

فهذا معناه»

(1)

.

فعلى هذا لا بيعة لهؤلاء الحكام؛ لأنه لم يجتمع الناس كلهم عليهم.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: تقدم تقرير جواز البيعة للحكام إذا تعدَّدت الدول

(2)

، فلو قُدِّر أن كلام الإمام أحمد على خلاف هذا لرُدَّ كلامه، فإنَّ العبرة بالحجَّة والدليل. كيف وكلامه ليس كذلك قطعًا وحاشاه أن يتبنَّى ما يخالفُ معتقد أهل السنة وهو إمامٌ في السنة.

الوجه الثاني: تقدَّم كلامُ الإمام أحمد في صحَّة البيعة للحاكم حتى للمتغلب

(3)

، وأنَّ من خالفَ في ذلك فهو مبتدع، ويدخل في كلامه أهلُ زمانه، ومن المعلوم أنَّ ولايات المسلمين في زمانه متعدِّدة فلم يجتمعوا على حاكمٍ واحد.

قال رحمه الله: «ومَن خرجَ على إمام من أئمة المسلمين، وقد كانوا اجتمعوا عليه، وأقرُّوا بالخلافة بأي وجهٍ كان بالرضا أو الغلبة = فقد شقَّ هذا الخارجُ عصا المسلمين وخالفَ الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنْ ماتَ الخارجُ عليه مات ميتةً جاهلية، ولا يحلُّ قتالُ السلطان، ولا الخروجُ عليه لأحدٍ من الناس، فمَن فعلَ ذلك فهو مبتدع على غير السنة»

(4)

.

(1)

السنة لأبي بكر بن الخلال (1/ 80).

(2)

تقدم (ص: 94).

(3)

تقدم (ص: 39).

(4)

أصول السنة (ص: 45)، وأؤكد أنَّ الأصل فيما يُذكر في كتب العقائد أنها مسائل مجمَعٌ عليها، والعلماء المؤلفون في العقائد يشيرون لهذا لا سيما أنهم يبدِّعون المخالف.

ص: 107

ويؤيد ذلك أن الإمام أحمد تكلَّم في الحسن بن صالح بن حي - كما سيأتي

(1)

- لأنه رأى السيف مع أنَّ الحكام ذاك الزمن متعدِّدون، فلم يجتمع المسلمون كلُّهم على حاكم واحد.

الوجه الثالث: أنه يريد بهذا - والله أعلم - الردَّ على البيعات السِّرية لتولِّي الحكم، فلو اجتمع قومٌ وجعلوا لهم حاكمًا فلا يعدُّ حاكمًا بهذه البيعة، ويدل لذلك أنَّ الإمام أحمد أثبتَ البيعة لمن غلَب، بل وحكى الإجماعَ عليها - كما تقدَّم -

(2)

.

قال أبو يعلى: «وقد أومَأَ أحمد إلى إبطال الإمامة بذلك في رواية أبي الحارث: في الإمام يخرجُ عليه مَنْ يطلب الملك فيفتتن الناس، فيكون مع هذا قومٌ ومع هذا قومٌ؛ مع من تكون الجمعة؟ قال: مع من غلب.

وظاهرُ هذا أن الثاني إذا قهر الأول وغلَبهُ زالت إمامةُ الأول، لأنه قال: الجمعة مع مَنْ غلب. فاعتبر الغلبة»

(3)

.

الوجه الرابع: أنه قد يُراد بكلام الإمام أحمد بيانُ بماذا تنعقد البيعة، وأنها لا ترجع إلى عددٍ معين من أهل الحلِّ والعقد، بل ترجعُ إلى جميعهم، قال الماوردي: «فأما انعقادُها باختيار أهل الحلِّ والعقد، فقد اختلف العلماء في عدد مَنْ تنعقدُ به الإمامة منهم على مذاهبَ شتَّى، فقالت طائفة: لا تنعقد إلَّا بجمهور أهل العقد والحلِّ من كلِّ بلد؛ ليكون الرِّضاءُ به عامًّا، والتسليمُ لإمامته إجماعًا، وهذا مذهبٌ مدفوعٌ ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار مَنْ حضرها ولم ينتظر ببيعته

(1)

ص: 177.

(2)

تقدم (ص: 39، 68).

(3)

الأحكام السلطانية (ص: 22).

ص: 108

قدوم غائبٍ عنها.

وقالت طائفة أخرى: أقلُّ مَنْ تنعقدُ به منهم الإمامة خمسةٌ يجتمعون على عَقدها، أو يعقِدُها أحدُهم برضا الأربعة»

(1)

.

وقال أبو يعلى: «فأمّا انعقادها باختيار أهل الحلِّ والعقد فلا تنعقد إلَّا بجمهور أهل الحلِّ والعقد. قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: «الإمامُ الذي يجتمع قول أهل الحلِّ والعقد عليه كلُّهم» ، يقول: هذا إمام، وظاهر هذا أنها تنعقد بجماعتهم. وروي عنه ما دلَّ على أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد»

(2)

.

الشبهة الحادية عشرة:

أن العلماء ذكروا شروطًا مُجمَعًا عليها للحاكم والسلطان، فمن لم توجد فيه هذه الشروط فلا ولاية له.

وكشفُ هذه الشبهة أن يقال: إنه يرجع إلى هذه الشروط عند الاختيار، أما عند الغلبة والقهر، فلا يُرجع إلى هذه الشروط بما أنه مسلم بالإجماع كما تقدم

(3)

.

الشبهة الثانية عشرة:

أنه لا يشترط أن تكون الإمامة في قريش وأن الأحاديث إنما ذَكرت القرشية إخبارًا لا حُكمًا شرعيًا يرادُ منه حصرُ الولاية في قريش.

(1)

الأحكام السلطانية (ص: 22).

(2)

الأحكام السلطانية (ص: 23).

(3)

تقدم (ص: 65).

ص: 109

وكشف هذه الشبهة بطريقتين:

الطريقة الأولى: ثبت بالأدلة أنَّ الحكم والولاية في قريش من أوجه:

الوجه الأول: الذي قرر أن الأئمة في قريش هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال معاوية رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذا الأمرَ في قريش لا يُعاديهم أحد، إلا كبَّهُ الله على وجهه، ما أقاموا الدين»

(1)

.

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ هذا الأمرُ في قريشٍ ما بقي منهم اثنان»

(2)

.

وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناسُ تبَعٌ لقريشٍ في هذا الشأن، مسلمهُم تبَعٌ لمسلمهِم، وكافرُهم تبعٌ لكافرِهم»

(3)

.

الوجه الثاني: أنَّ كتب الاعتقاد ذكرت أن الأئمة من قريش؛ فهي عقيدة مجمَعٌ عليها عند أهل السنة خلافًا لبعض أهل البدعة.

قال حرب الكرماني وهو يحكي عقيدة السلف: «والخلافة في قريش ما بقيَ من الناس اثنان، ليس لأحدٍ من الناس أن ينازعَهُم فيها، ولا يخرج عليهم، ولا يقرّ لغيرهم بها إلى قيام الساعة»

(4)

.

وقال البربهاري: «والخلافة في قريشٍ إلى أن ينزل عيسى ابن مريم»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (3500).

(2)

أخرجه البخاري (3501).

(3)

أخرجه البخاري (3495)، ومسلم (1818).

(4)

كتاب السنة من مسائل الإمام حرب (رقم: 25).

(5)

شرح السنة (رقم: 22).

ص: 110

الوجه الثالث: أن أهل العلم الذين كتبوا في غير الاعتقاد أجمعوا على هذا الشرط، ولم يخالف فيه إلَّا أهل البدع، ومن أهل العلم هؤلاء:

1 -

القاضي عياض، قال:«هذه الأحاديث - وما في معناها في هذا الباب - حجَّةٌ أن الخلافة لقريش، وهو مذهب كافة المسلمين وجماعتهم، وبهذا احتجَّ أبو بكر وعمر على الأنصار يوم السقيفة، فلم يدفعه أحدٌ عنه، وقد عدَّها الناس في مسائل الإجماع؟؛ إذ لم يُؤثَر عن أحدٍ من السلف فيها خلاف، قولًا ولا عملًا؛ قرنًا بعد قرنٍ إلَّا ذلك، وإنكار ما عداه، ولا اعتبارَ بقول النظَّام ومَن وافقه من الخوارج وأهل البدع: إنها تصحُّ في غير قريش، ولا بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إنَّ غير القرشي من النبط وغيرهم يقدَّم على القرشي، لِهَوان خلعهِ إذا وجب ذلك؛ إذ ليست له عشيرة تمنعه، وهذا كلُّه هُزء من القول ومخالفةٌ لما عليه السلف وجماعة المسلمين»

(1)

.

2 -

النووي، قال:«هذه الأحاديث وأشباهها دليلٌ ظاهر أنَّ الخلافة مختصَّة بقريش لا يجوز عَقدُها لأحدٍ من غيرهم، وعلى هذا انعقدَ الإجماع في زمن الصحابة؛ فكذلك بعدهم، ومَن خالفَ فيه من أهل البدع أو عرَّضَ بخلافٍ من غيرهم فهو محجوجٌ بإجماع الصحابة والتابعين فمَن بعدهم بالأحاديث الصحيحة»

(2)

.

3 -

وأقرَّ ابن حجر الإجماع، فقال بعد أن نقلَ الإجماع عن القاضي، وذكر ما يُوهِمُ نقضَه: «فيحتمل أن يقال لعلَّ الإجماع انعقدَ بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًّا أو تغيَّر اجتهادُ عمر في ذلك والله أعلم.

وأمَّا ما احتجَّ به من لم يعيِّن الخلافة في قريش من تأمير عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب فليس من الإمامة العظمى في شيء بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابة غير القرشي في حياته والله أعلم»

(3)

.

(1)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 214).

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 200).

(3)

فتح الباري (13/ 119).

ص: 111

4 -

المناوي، قال:«فلا يصحُّ عقد الخلافة لغيرهم، وعليه انعقد الإجماعُ في زمن الصحابة ومَن بعدهم؛ وهو حكمٌ مستمرٌّ إلى آخر الدنيا، ومَن خالفَ فيه من أهل البدع فهو محجوجٌ بإجماع الصحابة»

(1)

.

الطريقة الثانية: الردُّ على قولهم: «إنَّ النصوص ذكرت القرشية من باب الإخبار وأنه لا يستفاد منها اشتراط القرشية في الولاية» من أوجه:

الوجه الأول: أنَّ النصوص ظاهرة في توعُّد مَنْ خالفَ هذا، ومثله لا يقال: إنه من باب الإخبار؛ وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لم ينازعهم فيه أحدٌ إلا كبَّهُم الله في النار»

(2)

.

الوجه الثاني: لو قدّر أن النصوصَ ذكرته إخبارًا، فالمرادُ به الطلب كقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]؛ فهذا خبر يُراد به الطلب، كما هو مقرَّر في كتب أصول الفقه.

الوجه الثالث: أنَّ اشتراط القرشية في الولاية عقيدةٌ سلفية، والسلفُ لا يُجمعون على باطل كما تقدَّم نقله عنهم

(3)

.

(1)

فيض القدير (6/ 450)

(2)

سبق تخريجه (ص: 110).

(3)

تقدم (ص: 110).

ص: 112

الوجه الرابع: أنَّ هذا إجماعُ أهل العلم، والإجماعُ حجَّة ولا يكون إلَّا حقًّا وما سواه باطل - وتقدَّم حكاية الإجماعات -

(1)

.

تنبيه:

هذا الشرط يسقط لمن ثبت حكمهُ واستقرَّ بالغلبة بإجماع أهل العلم من أهل السنة، وقد تقدَّم ذِكرُ الإجماعات

(2)

.

الشبهة الثالثة عشرة:

«أنه لا يشترط أن يكون الحاكم والسلطان من قريش» .

واعتُمد في ذلك على أمور:

الأمر الأول: أنَّ اشتراط القرشية في الإمامة لم يكن معروفًا، ولا معلومًا بين الصحابة، لذا نازع فيها الأنصار في حادثة السقيفة وطلبوها وهم ليسوا من قريش، وأيضًا لم يحتجَّ عليهم أبو بكر وعمر بالأدلة في أن الأمر في قريش.

الأمر الثاني: أنه لا إجماع على شرط القرشية لذا شككَّ في هذا الحافظ ابن حجر؛ لما رُوي عن عمر أنه أراد استخلافَ معاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وأيضًا يدلُّ على هذا فعلُ الفقهاء الخارجين في فتنة ابن الأشعث فقد استشكل ابن كثير

(3)

كيف بايع فقهاءُ العراق وخيارُ التابعين فيها ابنَ الأشعث ولم يكن من قريشٍ بل من كندة؟ وفيهم عامر الشعبي وسعيد بن جبير وكثير من قريش!

(1)

تقدم (ص: 111).

(2)

تقدم (ص: 68).

(3)

البداية والنهاية (9/ 58).

ص: 113

الأمر الثالث: أن النصوص الواردة أشبه بالأخبار منها بالأحكام، كما فهم هذا الأنصار، وقد روى ابن أبي شيبة

(1)

عن عائشة قالت: «لو كان زيدٌ حيًّا لاستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وزيد بن حارثة لم يكن من قريش، وقد روى أحمد

(2)

من طريق أبي رافع أن عمر قال: «لو أدركني أحدُ رجلين ثم جعلتُ هذا الأمر له لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح» ، قال أحمد شاكر:

«إسناده صحيح ورواه أحمد

(3)

من طريق شريح بن عبيد وراشد بن سعد وغيرهما أن عمر قال: فإن أدركَني أجَلي وقد توفي أبو عبيدة استخلفتُ معاذَ بن جبل»، قال الحافظ:«رجاله ثقات»

(4)

اهـ.

وهو مرسل إلَّا أنه عن جماعة من علماء التابعين في الشام فيتقوَّى بطرقه.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: لو قدّر أنه لا إجماعَ على هذا الشرط، لكن قد دلَّت الأدلة على ذلك، ولا يشترطُ في العمل بالدليل واعتقاده أن يكون مُجمعًا عليه، فإنَّ الحجَّة في الدليل إذا ثبتَ روايةً ودرايةً؛ قال معاوية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ هذا الأمرَ في قريشٍ لا يُعاديهم أحدٌ، إلَّا كبَّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين»

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 415).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 20).

(3)

مسند أحمد (1/ 18).

(4)

فتح الباري (13/ 119).

(5)

سبق تخريجه (ص: 110).

ص: 114

وقال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ هذا الأمرُ في قريشٍ ما بقيَ منهم اثنان»

(1)

.

وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناسُ تبَعٌ لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبعٌ لمسلمهم، وكافرُهم تبعٌ لكافرهم»

(2)

.

الوجه الثاني: أنَّ اعتقاد الإمامة في قريش دون غيرهم مقرَّرٌ في كتب العقائد عند أهل السنة، فهو أمرٌ عقَديٌّ مجمَعٌ عليه عند أهل السنة خلافًا لبعض أهل البدعة. كما تقدم بيانه

(3)

.

الوجه الثالث: حكى الإجماع على هذا المعتقد جمعٌ من أهل العلم في غير كتب الاعتقاد.

1 -

القاضي عياض قال رحمه الله: «هذه الأحاديث - وما في معناها في هذا الباب - حجَّة أنَّ الخلافة لقريش، وهو مذهب كافة المسلمين وجماعتهم، وبهذا احتجَّ أبو بكر وعمر على الأنصار يوم السقيفة، فلم يدفعه أحدٌ عنه، وقد عدَّها الناس في مسائل الإجماع؟؛ إذ لم يُؤثَر عن أحدٍ من السلف فيها خلاف، قولًا ولا عملًا قرنًا بعد قرن إلَّا ذلك، وإنكار ما عداه، ولا اعتبارَ بقول النظَّام ومن وافَقه من الخوارج وأهل البدع: إنها تصحُّ في غير قريش.

وذكرَ أشياء ثم قال: وهذا كله هزء من القول ومخالفةٌ لما عليه السلف وجماعة المسلمين»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه (ص: 110).

(2)

سبق تخريجه (ص: 110).

(3)

تقدم (ص: 111).

(4)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 214).

ص: 115

2 -

النووي قال رحمه الله: «هذه الأحاديث وأشباهها دليلٌ ظاهر أن الخلافة مختصَّة بقريش لا يجوز عقدُها لأحد من غيرهم؛ وعلى هذا انعقدَ الإجماعُ في زمن الصحابة فكذلك بعدهم، ومَن خالفَ فيه من أهل البدع أو عرَّضَ بخلافٍ من غيرهم فهو محجوجٌ بإجماع الصحابة والتابعين فمَن بعدهم بالأحاديث الصحيحة»

(1)

.

3 -

أقرَّ ابن حجر الإجماع فقال بعد أن نقل الإجماع عن القاضي عياض، وذكر ما يوهِمُ نقضَهُ: «فيحتمل أن يقال لعلَّ الإجماع انعقدَ بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًّا أو تغيَّر اجتهادُ عمر في ذلك والله أعلم.

وأمَّا ما احتجَّ به من لم يعيِّن الخلافة في قريش من تأمير عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب فليس من الإمامة العظمى في شيء بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابةُ غير القرشي في حياته والله أعلم»

(2)

.

4 -

المناوي قال رحمه الله: «فلا يصحُّ عقدُ الخلافة لغيرهم؛ وعليه انعقد الإجماعُ في زمن الصحابة ومَن بعدهم، وهو حكم مستمرٌّ إلى آخر الدنيا، ومَن خالفَ فيه من أهل البدع فهو محجوجٌ بإجماع الصحابة»

(3)

.

وما ذُكر اعتراضًا على هذا الإجماع فهو كالتالي:

الاعتراض الأول: قصة عمر في أنه أراد استخلافَ معاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة؛ وهم ليسوا من قريش.

وقد استدلَّ عليه بروايتين عن عمر رضي الله عنه:

(1)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 200).

(2)

فتح الباري (13/ 119).

(3)

فيض القدير (6/ 450).

ص: 116

الرواية الأولى: أخرج أحمد

(1)

أن عمر قال: «لو أدرَكني أحدُ رجلَين، ثم جعلتُ هذا الأمر إليه لوثقتُ به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح» .

وهذه الرواية لا تصح؛ لأن في الإسناد علي بن زيد بن جدعان؛ ضعَّفه ابن سعد والإمام أحمد وابن معين والرازيان والجوزجاني والنسائي وابن خزيمة وابن عدي والدار قطني وغيرهم

(2)

؛ لذا قال الحافظ في التقريب: «ضعيف» .

وقال الحافظ ابن كثير في مسند الفاروق

(3)

عند ذكرهِ لهذه الرواية: «هذا الإسناد على شرط السنن، ولم يخرجوه، وعلي بن زيد بن جدعان له غرائب وإفرادات» .

إذا عرف ما تقدَّم ذكرهُ عُرفَ أن قول أحمد شاكر في تخريج المسند: «إسناده صحيح»

(4)

، فيه نظر لما تقدَّم من بيان حال علي بن زيد بن جدعان

(5)

.

ثم لو قدّر أن رواية علي بن جدعان صحيحة فإنها مخالفة للأحاديث الأخرى وللإجماع؛ مما يجعلُها من الضعيف الذي أخطأ فيه ابن جدعان؛ لأنه لو قيل بثقة

(1)

أخرجه أحمد (1/ 20).

(2)

انظر: تهذيب التهذيب (7/ 322 - 324).

(3)

ص: 380.

(4)

تخريج المسند (1/ 222).

(5)

وهذا يدلُّ على تساهل أحمد شاكر في التصحيح.

وقد بيَّن تساهلَه في التصحيح العلامة عبد العزيز ابن باز فقال: «من تأمَّل حاشية العلامة أحمد شاكر اتَّضحَ له منها تساهلُه في التصحيح لكثيرٍ من الأسانيد التي فيها بعضُ الضعفاء؛ كابن لهيعة وعلي بن زيد بن جدعان وأمثالهما، والله يغفر له ويشكر له سعيه، ويتجاوز له عما زلَّ به قلمهُ أو أخطأ فيه اجتهادهُ إنه سميع قريب» . مجموع فتاوى ابن باز (26/ 258).

ص: 117

علي بن زيد فلا بدَّ أنَّ عنده أوهامًا جعلَتْ جمعًا من الأئمة يتكلمون فيه؛ فيكون هذا من أوهامه.

وأخيرًا قد حملَ ابن قتيبة تولية سالم على تولية إمامة الناس في الصلاة وقتَ الشورى إلى أن يختاروا خليفة. وقد ذكرَ ما يدلُّ على هذا التوجيه

(1)

.

الرواية الثانية: قول عمر: «فإن أدركني أجلي وقد توفي أبو عبيدة استخلفتُ معاذ بن جبل»

(2)

.

هذا الأثر مما لا يصح أن يُعترضَ به، لأنه لا يصحُّ، وقول الحافظ:«بسند رجاله ثقات» لا يعني أنه صحيح، فإنه لو كان صحيحًا عنده لبين ذلك، ولما اكتفى بقوله:(رجاله ثقات)

(3)

، أما قوله:«وهو مرسل إلَّا أنه عن جماعة من علماء التابعين في الشام فيتقوَّى بطرقه» ، فيقال: إنَّ أكثر هذه المراسيل من

(1)

تأويل مختلف الحديث (ص: 252).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 263).

(3)

قال العلامة الألباني في مقدمة صحيح الترغيب والترهيب (ص: 44): «إنه قد تبين لي بالتتبع والاستقراء أنه كثيرًا ما يكون في السند الذي قيل فيه (رجاله ثقات) من هو مجهول العين أو العدالة، ليس بثقة إلَّا عند بعض المتساهلين في التوثيق كابن حبان والحاكم وغيرهما» .

وهذا الأثر جاء مرسلًا من رواية عدة من التابعين، وهؤلاء التابعون شاميون مثل راشد بن سعد وشريح بن عبيد: أخرجه أحمد (1/ 263)، وشهر بن حوشب: أخرجه أحمد في الفضائل (1287)، وابن سعد في طبقاته (3/ 443)، وجاء من غير مرسل التابعين والشاميين، مثل ثابت بن الحجاج: أخرجه أحمد في الفضائل (1285)، وهذا من الجزيرة كما قاله أبو داود في سؤالات الآجري، ومثل أبي العجفاء السلمي البصري: أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 418)، لكن فيه ضعف، قال البخاري:«فيه نظر» .

ص: 118

مراسيل الشاميين إلَّا اثنين، وأحدهما فيه ضعف، أما الآخر من أوساط التابعين لا من كبارهم.

وهذه المراسيل لا يقوِّي بعضُها بعضًا؛ لأن أكثرها من مرسل الشاميين؛ فمخرجُها واحد، فيحتمل أخذ كلِّهم عن رجل واحدٍ ضعيف، ثم هذا المرسل مخالفٌ لما هو أقوى منه، وهي الأحاديث المتقدِّمة مع الإجماع، والإجماعُ قطعيُّ الدلالة؛ لذلك من ضوابط المرسل حتى يقوِّي بعضُه بعضًا أن لا يخالفَ ما هو أقوى. وهذا يقال في الأحاديث المتصلة فكيف في المرسل فهو من باب أولى، ولما شرح ابنُ رجب كلامَ الشافعي في تقوية المرسل ذكرَ هذا، ومن ذلك أنه قال:«وظاهرُ كلام أحمد أنَّ المرسل عنده من نوع الضعيف، لكنه يأخذ بالحديث إذا كان فيه ضعف، ما لم يجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه خلافُه» .

قال الأثرم: «كان أبو عبد الله ربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده شيء، فيأخذ به إذا لم يجاء خلافُه أثبتَ منه، مثل حديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالحديث المرسل إذا لم يجاء خلافه»

(1)

.

الاعتراض الثاني: ذكر أن عائشة قالت: «لو كان زيدٌ حيًّا لاستخلفهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في موضعين

(2)

، وكلاهما من طريق البهي عن عائشة، وقد تنازعَ العلماء في ثقة البهي وسماعه من عائشة، وأنكرَ سماعه من عائشة عبدُ الرحمن بن مهدي وأحمدُ بن حنبل، وأثبته البخاري

(3)

.

(1)

شرح علل الترمذي (1/ 553).

(2)

(6/ 392)، (7/ 415).

(3)

انظر: تهذيب التهذيب (6/ 90)، والتاريخ الكبير (5/ 56).

ص: 119

أما ثقته فقد ذكر أبو حاتم أنه لا يُحتجُّ به وأنه مضطرب، ووثَّقه ابن سعد.

وما كان كذلك من الآثار فإنه لا يقوى على مخالفة الأحاديث الأصحِّ وحدَها؛ كيف وقد انضمَّ لها الإجماعات؟!. فبهذا يتبين ضعفُه وشذوذُه.

الاعتراض الثالث: استشكال ابن كثير:

استشكل ابن كثير فعلهم وعدَّه زلَّة؛ مما يدل على أنه مقرٌّ بشرط القرشية فقال: «والعجبُ كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة، وليس من قريش وإنَّما هو كندي من اليمن، وقد اجتمعَ الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلَّا في قريش، واحتجَّ عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى إن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين، فأبى الصديق عليهم ذلك، ثم مع هذا كلِّه ضربَ سعد بن عبادة - الذي دعا إلى ذلك أولًا، ثم رجع عنه - كما قررنا ذلك فيما تقدم، فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين، فيعزلونه وهو من صليبة قريش، ويبايعون لرجلٍ كندي بيعةً لم يتفق عليها أهلُ الحلِّ والعقد؟ ولهذا لما كانت هذه زلَّة وفلتةً نشأ بسببها شرٌّ كثير هلكَ فيه خلقٌ كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون»

(1)

.

وقد يقال: إنَّ مبايعتهم له على إمارة القتال لا على الإمارة مطلقًا، ليتفق فعلهم مع الإجماع، ولا يخطَّأُ هؤلاء الفقهاء في هذه المسألة.

الاعتراض الرابع:

القول بأنه لم يكن معروفًا اشتراطُ الإمامة في قريش؛ بدلالة أنهم في سقيفة

(1)

البداية والنهاية (12/ 355).

ص: 120

بني ساعدة، وعند اختلافهم في تولي الأنصار أو المهاجرين، لم يذكروا هذه الأحاديث، فدلَّ على أنها غير معروفة عندهم.

والجواب على هذا من وجهين:

الوجه الأول: إن أبا بكر استدلَّ بأنهم الأمراء، وهذا استدلالٌ بالأحاديث الدالة على ذلك، وليس شرطًا أن يذكر أبو بكر نصَّ نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبمجرَّد ذكرِ ذلك على وجه الاستدلال وفي محلِّ النزاع دليلٌ على أنه يستدلُّ بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما فهمهُ القاضي عياض لما قال: «هذه الأحاديث - وما في معناها فى هذا الباب - حجة أن الخلافة لقريش، وهو مذهب كافة المسلمين وجماعتهم. وبهذا احتجَّ أبو بكر وعمر على الأنصار يوم السقيفة، فلم يدفعه أحد عنه»

(1)

.

وقال ابن الجوزي: «ربما ظنَّ ظانٌّ بالأنصار أنهم شكُّوا في تفضيل أبي بكر؛ وليس كذلك، إنما جرَوا في هذا على عادة العرب: وهي أن لا يسود القبيلة إلَّا رجلٌ منها، ولم يعلموا أنَّ حكم الإسلام على خلاف ذلك، فلما ثبت عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخلافة في قريش»

(2)

أذعَنوا له وبايعوه»

(3)

.

الوجه الثاني: أنه لو كان ما ذكرهُ من اعتراض محتملًا، فإنَّ الأحاديث الصريحة والإجماعات لا تردُّ بهذه الأفهام المحتملة، فإنَّ المنطوق الصريح يقدَّم على المنطوق المحتمل، فكيف إذا كان مفهومًا محتملًا فهو أولى أن يقدَّم عليه المنطوق الصريح.

(1)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 214).

(2)

أخرجه أحمد (4/ 185).

(3)

كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 71).

ص: 121

الاعتراض الخامس:

أن النصوص المذكورة في أنَّ الولاية لقريش أشبَهُ بالأخبار منها بالأحكام، وأنَّ هذا ما فهمه الأنصار.

هذا الاعتراض من العجائب لأوجه:

الوجه الأول: أن ألفاظ الحديث لا تحتمل إلَّا الأحكام والطلب كقوله صلى الله عليه وسلم:

«إنَّ هذا الأمر في قريش، لا يُعاديهم أحدٌ إلَّا كبَّه الله على وجههِ ما أقاموا الدين»

(1)

.

الوجه الثاني: أنَّ الجزم بأن هذا فهمُ الأنصار ليس أولَى من الجزم بأنه قد خفيَ عليهم أو لهم تأويلٌ لا نعلمه - هذا تنزُّلًا - وإلَّا فالتأويل الذي ذُكِرَ باطلٌ بالمرة لما تقدَّم في الوجه الأول.

الوجه الثالث: أنهم جهلوه أو تأوَّلوه بتأويلٍ خطأ، ثم رجعوا بدلالة إجماع أهل السنة بعد.

تنبيه:

بعد هذا قد يظن أن أحاديثَ السَّمع والطاعة للحاكم، ولو كان عبدًا حبشيًّا تعارضُ ما تقدَّم ذكرهُ من أنه لا تصحَّ الإمامة إلا لقريش، وقد أجابَ على هذا ابن رجب فقال: «وولاية العبيد عليهم، وفي صحيح البخاري

(2)

عن أنس عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:«اسمَعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنّ رأسه زبيبةٌ» .

(1)

سبق تخريجه (ص: 110).

(2)

تقدم تخريجه (ص: 95).

ص: 122

وفي صحيح مسلم

(1)

عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: «إنَّ خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني أنْ أسمعَ وأُطيع، ولو كان عبدًا حبشيًّا مجدَّعَ الأطراف» . والأحاديث في المعنى كثيرة جدًّا.

ولا يُنافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش ما بقيَ في النَّاس اثنان»

(2)

، وقوله:«النّاسُ تبعٌ لقريش»

(3)

.

وقوله: «الأئمة من قريش»

(4)

؛ لأنَّ ولاية العبيد قد تكون من جهة إمامٍ قرشي، ويشهدُ لذلك ما خَرَّجَه الحاكم

(5)

من حديث عليٍّ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «الأئمة من قريش أبرارُها أمراءُ أبرارِها، وفجَّارُها أمراء فجَّارِها، ولكلٍّ حقّ، فآتوا كلَّ ذي حقّ حقّه، وإنْ أمَّرت عليكم قريشٌ عبدًا حبشيًّا مجدعًا، فاسمعَوا له وأطيعوا» وإسناده جيد، ولكنَّه روي عن عليٍّ موقوفًا، وقال الدارقطني: هو أشبه.

وقد قيل: «إنّ العبد الحبشيَّ إنَّما ذكر على وجهِ ضربِ المثل وإنْ لم يصحَّ وقوعُه، كما قال: «مَنْ بنى مسجدًا ولو كمفحَصِ قَطاة»

(6)

»

(7)

.

(1)

رقم (648).

(2)

سبق تخريجه (ص: 110).

(3)

سبق تخريجه (ص: 110).

(4)

أخرجه أحمد (3/ 129) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(5)

(4/ 85).

(6)

أخرجه ابن ماجه (738) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

(7)

جامع العلوم والحكم (2/ 119).

ص: 123

وقد يقال إن هذا في حال التغلُّب؛ فإذا تغلَّب الحاكم المسلم ثبتَ الحكم له بما أنه مسلم، ولا يُنظَر لبقية الشروط - كما تقدم -

(1)

.

وقال الكرماني: «فإن قلت: كيف يكون العبدُ واليًا وشرطُ الولاية الحرية؟ قلت: بأن يولِّيه بعضُ الأئمة أو يغلب على البلاد بشوكته»

(2)

.

الشبهة الرابعة عشرة:

روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يدلُّ على أنه يشترط للسمع والطاعة للحاكم أن يحكمَ بكتاب الله، فإذا لم يحكم بكتاب الله فلا سمعَ ولا طاعة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:«على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقٌّ على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوه إذا دعا»

(3)

.

وكشف هذه الشبهة:

إنَّ هذا الأثر لا يصح؛ فإن مصعب بن سعد لم يسمع من علي بن أبي طالب، كما قاله أبو زرعة

(4)

.

ثم لو صحَّ الأثر، لكان مفهومه معارضًا لمنطوقاتٍ كثيرة في السمع والطاعة للحاكم المسلم الفاسق العاصي، فالمنطوقُ مقدَّم على المفهوم؛ وهو محمولٌ على السمع والطاعة في غير معصية الله، كما أفاده ابن بطال

(5)

.

(1)

(تقدم (ص: 65).

(2)

شرح صحيح البخاري (5/ 76)، وانظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 228).

(3)

انظر: السنة للخلال (1/ 109)، وابن أبي شيبة (6/ 418).

(4)

جامع التحصيل (ص: 280).

(5)

شرح البخاري (8/ 215).

ص: 124

الشبهة الخامسة عشرة:

أنه يشترط للحاكم الذي يُسمع ويُطاع له أن يكون عالمًا قال القرطبي:

«أن الأمراء شرطُهم أن يكونوا آمرين بما يقتضيه العلم، وكذلك كان أمراءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ تجبُ طاعتهم. فلو أمروا بما لا يقتضيه العلم حَرُمَتْ طاعتهم»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

1 -

إنه لا دليل على هذا الشرط، ومَن أراد أن يشترطَ شرطًا فيلزمهُ الدليل.

2 -

أن ما تقدم من الأدلة في السمع والطاعة للحاكم المسلم عند التغلب يدلُّ على السمع والطاعة للحاكم المسلم ولو لم يكن عالمًا.

3 -

أن كلام القرطبي فيما يأمر به الحاكم فيشترط أن يكون بمقتضى العلم

- سواء كان عالمًا أو مقلِّدًا - حتى لا يأمر الحاكم بما يخالف شرع الله مما حرَّمه الله؛ لذا كلامُ القرطبي في المأمور نفسه لا في الأمير والحاكم، فقال:«إنَّ الأمراء شرطُهم أن يكونوا آمرين بما يقتضيه العلم» ؛ لذا لو قدِّر أنَّ الحاكمَ عالم، وأمرَ بما يخالفُ العلم بأن أمر بمحرَّمٍ فلا سمعَ ولا طاعة.

الشبهة السادسة عشرة:

أنه لا طاعة لمن عصى الله؛ واستدلوا بما أخرج أحمد أن معاوية كتب إلى عثمان: إنَّ عبادة ابن الصامت قد أفسد عليّ الشام وأهله، فلما جاء عبادة إلى عثمان قال له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّه سَيَلي أمورَكُم بعدي رجالٌ يعرِّفونكم

(1)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 35).

ص: 125

ما تنكرون، وينكرونَ عليكم ما تعرفون، فلا طاعةَ لمن عصى الله تبارك وتعالى، فلا تعتَلُّوا بربِّكُم»

(1)

.

وكشف شبهة الاستدلال بهذا الحديث من أوجه:

الوجه الأول: أنَّ الحديث ضعيف؛ لأنَّ في الإسناد إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في روايته عن غير أهل الشام الذين هم أهل بلده، كما بين ذلك يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وهذا الحديث منها.

فإنه يرويه عن عبد الله بن عثمان بن خيثم وهو من أهل مكة، وأيضًا في الإسناد إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه.

وإسماعيل وأبوه مجهولان جهالة حال، فإسماعيل وثَّقه ابن حبان وأبوه وثَّقه العجلي؛ وهما متساهلان في توثيق التابعين. فبهذا يكون الحديث ضعيفًا، وقد ضعَّفه العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة

(2)

.

الوجه الثاني: أنه مخالف للأدلة المتواترة في الصبر على جَور الحاكم - وقد تقدم ذكرها -

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد (5/ 325).

(2)

رقم (1353)، أما حديث:«سيليكم أمراء بعدي يعرِّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمَن أدركَ ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله» فقد صحَّحه الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة (590)، والمراد بالحديث لا طاعة في المعصية نفسها دون غيرها؛ للأدلة الأخرى، والشريعةُ يفسِّر بعضُها بعضًا، وأيضًا لأجل إجماع أهل السنة كما تقدم.

(3)

تقدم (ص: 37).

ص: 126

الوجه الثالث: أنه مخالف لإجماع أهل السنة ومعتقدهم - كما تقدم نقله

(1)

-.

تنبيه:

قد روى ابن أبي شيبة

(2)

حديث عبادة بلفظ آخر قريب:

«ستكون عليكم أمراء يأمرونكم بما تعرفون، ويعلمون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة» على أنه لا طاعة لمن عصى الله.

وهو حديث ضعيف فيه أكثر من علَّة؛ ففيه جهالة الأعشى بن عبد الرحمن ابن مكمل؛ لم يوثِّقه مُعتبرَ، قال الهيتمي:«لم أعرفه»

(3)

.

وفيه أزهر بن عبد الله الراوي عن عبادة بن الصامت.

قال ابن حجر: «يروي عن عثمان وعبادة بن الصامت. روى عنه الأعشى ابن عبد الرحمن بن مكمل. قال أبو حاتم: لا أدري من هو. وذكره ابن حِبَّان في (الثقات)»

(4)

، فهو بهذا مجهول جهالة حال، فيكون الحديث ضعيفًا.

(1)

تقدم (ص: 39).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 526).

(3)

مجمع الزوائد (5/ 227).

(4)

لسان الميزان (1/ 340).

ص: 127

شبهات في طريقة تولي الحكم

الشبهة السابعة عشرة:

«أنَّ التولي بالغلبة والقهر لا تثبت به الولاية» ، لما يلي:

الأمر الأول: أنه ظلم وجَور، والشريعة لا تقرُّ الظلم والجور. فعلى ذلك لا تقرُّ تولِّي الحكم بطريق القهر والغلبة.

الأمر الثاني: أن الإمامة عقدٌ بين الحاكم والمحكوم، وفي العقد يطالَبُ الطرفان بالقيام بحقوق كلِّ طرف، فإذا أخلَّ أحدهم بما اتفق عليه بطلَ العقد.

وجواب هذه الشبهة بجواب الأمرين:

أما جواب الأمر الأول فمن وجهين:

الوجه الأول: أن طريقة التولي بالغلبة دلَّت عليها الأدلة، وأقوال الصحابة، وإجماع أهل العلم - كما تقدم

(1)

- فهي دينٌ وشرعٌ؛ والشريعة لا تأتي بالظلم

(1)

تقدم (ص: 65).

ص: 128

والجورالغالب، ويوضِّح ذلك الوجه الثاني.

الوجه الثاني: أنه وإن كان في إقرار الحكم بالغلبة والسيف ظلم وجور ومفسدة، لكن به تُدفَعُ مفسدة أكبر؛ ودين الله قائمٌ على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وذلك أنَّ مفسدة الفوضى وذهاب الأمن وسفك الدماء أعظمُ من مفسدة ظلمٍ يأتي من جهة الحاكم، ومن حوله فحسب؛ في مقابل ظلمٍ يأتي من الشعوب كلِّهم، فيأكل القويُّ الضعيف، والكثير القليل وهكذا

وتقدم ذكر هذا

(1)

.

أما جواب الأمر الثاني فسيأتي - إن شاء الله - عند بيان أنَّ عقد الولاية لا يبطل إذا أخلَّ الحاكم بحقوق المحكومين

(2)

.

الشبهة الثامنة عشرة:

أن الإمام مالكًا لا يرى البيعة لمتغلِّب؛ لأن للإمام مالك كلامًا في عدم صحة بيعة المكرَه - ولا يثبت عنه، كما سيأتي إن شاء الله

(3)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أنَّ الإمام مالكًا يرى صحة بيعة المتغلِّب ولو لم يرَ صحة بيعة المكره - تنزُّلًا - وإلَّا لم يصح.

قال الشاطبي: «وما قرره هو أصلُ مذهب مالك: قيل ليحيى بن يحيى:

«البيعة مكروهة؟ قال: لا، قيل له: فإن كانوا أئمة جَور؟ فقال: قد بايعَ ابنُ عمر

(1)

تقدم (ص: 25).

(2)

سيأتي (ص 146).

(3)

سيأتي عدم صحة نسبة هذا القول لمالك (ص: 217).

ص: 129

لعبد الملك بن مروان، وبالسيف أخذ الملك»، أخبرني بذلك مالكٌ عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه، قال يحيى:«والبيعة خيرٌ من الفرقة»

(1)

.

ويؤيد ذلك أنه أقرَّ لأبي جعفر المنصور والمهدي بالخلافة، وكان يسمِّي كلًّا منهما أمير المؤمنين.

قال الذهبي: «وقال موسى بن داود: سمعت مالكًا يقول: قدم علينا أبو جعفر المنصور سنة خمسين ومائة، فقال: يا مالك! كثُرَ شَيبك! قلت: نعم يا أمير المؤمنين، من أتتْ عليه السِّنون، كثُر شَيبه، قال: ما لي أراك تعتمد على قول ابن عمر من بين الصحابة؟ قلت: كان آخرَ من بقي عندنا من الصحابة، فاحتاجَ إليه الناس، فسألوه، فتمسَّكوا بقوله»

(2)

، ونعت الإمام مالك المهدي بأمير المؤمنين أيضًا.

قال الذهبي: «قدم المهديُّ المدينة، فبعث إلى مالك، فأتاه، فقال لهارون وموسى: اسمعا منه. فبعث إليه، فلم يُجبهما، فأعلَما المهدي، فكلَّمه، فقال: يا أمير المؤمنين! العلم يُؤتى أهله. فقال: صدقَ مالك، صيرا إليه»

(3)

.

الوجه الثاني: أن الإمام مالكًا لو كان يرى عدم صحَّة ولاية المتغلب لبيَّن هذا أئمة السنة، فإنهم قد حكوا إجماعات على صحَّة بيعة المتغلب وثبوت الحكم له كما تقدَّم نقل ذلك.

(1)

الاعتصام (3/ 33).

(2)

سير أعلام النبلاء (8/ 112).

(3)

سير أعلام النبلاء (8/ 63).

ص: 130

إذا تقرَّر هذا فلابد أن يوجَّه كلامُ مالك في عدم صحَّة بيعة المكره على غير ولاية المتغلب، وهذا يتَّضح بما يأتي - إن شاء الله -.

الوجه الثالث: أنَّ من المالكية مَنْ حكى إجماعًا على صحَّة بيعة المتغلب كابن أبي زيد القيرواني وابن بطال، فلو كان مالك مخالفًا لبيَّنوا ذلك.

الوجه الرابع: أن كلَّ صورة يمكن معها إثباتُ بيعة المتغلب مع عدم صحة بيعة المُكرَه يصحُّ أن يُحمل عليها كلام الإمام مالك في عدم صحَّة بيعة المكره

- لو ثبت عنه -، فلو أنَّ مدينةً بين دولتين، وقد استقر الحكم لكلِّ حاكم في هاتين الدولتين، فإنَّ إلزام أحد هذين الحاكمين أحدَ أفراد هذه المدينة بالبيعة وهي ليست تحت حُكمهِ وقهرهِ تكون بيعة مكره، فبهذا يجتمعُ إثبات أنَّ الإمام مالكًا يقول ببيعة المتغلِّب مع عدم صحة بيعة المكره.

وهذا مثالٌ من الأمثلة، وقد توجد أمثلة أخرى مثل أن ينتقل رجلٌ إلى دولة حاكمٍ آخر لطلب رزقٍ أو غير ذلك، فيُلزِمهُ هذا الحاكم ويُكرِهُه على أن يبايعه، وفي عُنقه بيعةٌ للحاكم الأول فمثل هذا لا تصحُّ بيعته له لأنها بيعة مُكره.

الشبهة التاسعة عشرة:

أن الصحابة مُجمعون على عدم صحة الولاية للمتغلب، واستدلُّوا على ذلك بأن أبا بكر قال للصحابة: أترضون بمن استخلف عليكم؟ فإني والله ما ألَوتُ من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني استخلفتُ عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا. قالوا: سمعنا وأطعنا. وفي رواية: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. وقال بعضهم: قد علمنا به. فأقروا بذلك جميعًا ورضوا به وبايعوا.

ص: 131

والجواب على هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن الأثر ضعيف، فقد أخرجه الخلال

(1)

، وابن جرير

(2)

، من طريق أبي السفر عن أبي بكر، ولم تثبت روايته عنه، بل ذكر ابن معين

(3)

أنه لم يسمع عليًّا، فأبو بكر من باب أولى.

أما الرواية الثانية فقد أخرجها ابن سعد من طريقين ضعيفين - لا يقوي بعضُهما بعضًا لشدة الضعف: أما الطريق الأولى ففيها الواقدي - وهو متروك كما قاله البخاري - وفيها أبو بكر بن أبي سبرة - وهو يضع الحديث كما قاله ابن عدي -.

أما الطريق الثانية ففيها أكثر من علَّة - وهو عدم سماع عبد الله البهي من أبي بكر - لأنه لم يسمع من عائشة كما قاله أحمد - ثم إنَّ في البهي ضعفًا حتى قال أبو حاتم مضطرب الحديث

(4)

وفي الأثر علل أخرى

(5)

- فكيف يُنفى الخلافُ بين الصحابة اعتمادًا على أثرٍ ضعيف ثم تُترك الآثار الصحيحة عن الصحابة في تصحيح ولاية المتغلب؟!

الوجه الثاني: لا دلالة في هذا الأثر - لو صحَّ - لأن كلام أبي بكر عن حال الولاية بالاختيار، وقد تقدم أن للولاية طرقًا منها الغلبة، فما دلَّ على الاختيار لا

(1)

السنة للخلال (1/ 276).

(2)

تاريخ الطبري (3/ 428).

(3)

تاريخ ابن معين (2/ 195) برواية الدّوري.

(4)

انظر ما تقدم (ص: 120).

(5)

منها أني لم أجد ترجمة لعمرو بن عبد الله بن عنبسة.

ص: 132

ينفي ما دلَّ على الغلبة، والواجبُ العمل بالأدلة كلِّها وألَّا يُضرَبَ بعضُها ببعض، فقد صحَّحت الشريعة الولاية بالاختيار - وهو الأصل، وصحَّحت الولاية بالتغلُّب، كما دلت على ذلك الأدلة وأقوال الصحابة وإجماع أهل السنة - كما تقدم

(1)

-.

الوجه الثالث: ليس في كلام أبي بكر هذا عدم صحة الولاية مطلقًا إلَّا بالرضا حتى يستفاد منه عدم صحَّة ولاية المتولِّي بالقهر والغلبة، وغاية ما في هذا الأثر - لو صحَّ - أنه طلبَ رضاهُم ففِعلُه لهذه الطريقة لا يمنع غيرها.

الوجه الرابع: إنه لو صحَّ عن أبي بكر، فإنَّ حكاية نفي الخلاف بين الصحابة تهوُّر واستهانة بالعقول، وذلك أن ابن عمر صحَّح ولاية المتغلب - كما تقدم

(2)

-، فأقل ما يقال - لو صحَّ الأثر روايةً وصحَّ الاستدلالُ به درايةً -: إنَّ في صحَّة ولاية المتغلِّب قولين للصحابة، مع أنه تقدَّم أنَّ العلماء مُجمعونَ على صحَّة ولاية المتغلب.

الشبهة العشرون:

أن ولاية المتغلب لا تصحُّ قياسًا على عدم صحة البيع ولو كان قليلًا مع عدم التراضي؛ فإنه إذا لم يصحّ البيع ولو قليلًا مع عدم التراضي فالبيعةُ بالولاية أولى ألَّا تصحَّ.

وكشف هذه الشبهة من أوجه ثلاثة:

الوجه الأول: إن الشريعة صحَّحت ولاية المتغلب بالنصِّ والإجماع، بل أجمعَ أهل السنة أن مَنْ خالفَ فهو مبتدع ضالٌّ - كما تقدم (1) - فهذا مقدَّم على ذلك القياس الفاسد.

(1)

تقدم (ص: 65).

(2)

تقدم (ص: 66).

ص: 133

الوجه الثاني: أن هذا الكلام في العقود بصفةٍ عامة، والأصلُ بقاء العموم على عمومهِ ما لم يرِدْ مخصِّص، وقد وردَ المخصِّص في صحَّة ولاية المتغلب - كما سبق إيرادُ الأدلة والإجماع

(1)

-.

الوجه الثالث: أن درءَ المفسدة الكبرى بالصغرى هو عينُ القياس الصحيح، وهذا الذي من أجله صحَّحت الشريعةُ بيعة المتغلِّب مع عدم وجود الرضا؛ بخلاف البيع والشراء ولو في شيء يسير.

الشبهة الحادية والعشرون:

إذا كان الله عز وجل الذي أوجبَ طاعته على العباد لم يرضَ إجبارَهُم ولا إكراهَهُم على طاعته؛ حتى قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، فكيف يُتصوَّرُ جواز عقد الإمامة - التي تقتضي الطاعة للإمام - دون رضا الأمة، وإكراهها على عقدهِ ثم التزامها بمقتضاه تحت الإكراه؟!

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن غاية هذا الاستدلال أنه استدلال بالقياس، والقياسُ إذا خالفَ النصَّ صار قياسًا فاسدًا.

الوجه الثاني: أن العلماء مختلفون في توجيه هذه الآية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، فقيل: إنها خاصَّة بأهل الكتاب لأنه يجوز أخذُ الجزية منهم، كما قال تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

(1)

تقدم (ص: 65).

ص: 134

[التوبة: 29]، دون بقية الكفار، فإنهم يقاتلون على الإسلام، وقيل: إنها منسوخة، فإذا فسد الأصلُ المقيسُ عليه فسدَ الفرع.

قال ابن كثير في تفسيره: «وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء، أن هذه محمولةٌ على أهل الكتاب، ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال، وأنه يجب أن يُدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف، دينِ الإسلام، فإنْ أبى أحدٌ منهم الدخول فيه، ولم ينقَدْ له أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل، وهذا معنى الإكراه، قال الله تعالى:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123].

وفي الصحيح: «عَجِبَ ربُّكَ من قومٍ يُقادون إلى الجنةِ في السلاسل»

(1)

يعني الأسارى الذين يُقدَمُ بهم بلادُ الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال، ثم بعد ذلك يُسلمون، وتصلُح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة».

الوجه الثالث: مقتضى القياس الصحيح أن ولاية المتغلِّب تصحُّ لأنَّ الدين قائمٌ على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.

(1)

أخرجه البخاري (3010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 135

الشبهة الثانية والعشرون:

«أنَّ الانتخابات البرلمانية والوطنية والشعبية طريقةٌ شرعية؛ فهي مبنية على الاختيار»

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أنَّ الانتخابات ليست من الاختيار الشرعي؛ لأنَّ الاختيار الشرعيَّ يرجع إلى اختيار أهل الحلِّ والعقد لا عامة الناس، وفرقٌ بينهما كما تقدم.

الوجه الثاني: أنَّ الانتخابات قائمة ابتداءً وانتهاءً على الأكثرية، والأكثرُ مخالفون للحقِّ كما بيَّن ذلك القرآن:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].

الوجه الثالث: أن الحاكم سيحاول إرضاءَ الشعب؛ ليستمروا في انتخابه واختياره، فبذلك يتنازل عن شرع الله، لأجل الشعب.

الوجه الرابع: أن الحاكم سيجعل شرعَ الله تحتَ اختيار الشعب، فيكون شرعُ الله غيرَ إلزامي، فقد يوافقون عليه وقد يعارضون .. إلى غير ذلك من المفاسد.

تنبيه:

حاول بعضهم التدليس بالاستدلال بفعل عبد الرحمن بن عوف لمَّا سألَ أهل المدينة في المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما.

قال المسور بن مخرمة وهو يحكي قصة بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه: فلما اجتمعوا تشهَّد عبد الرحمن، ثم قال: «أما بعد، يا عليُّ إني قد نظرتُ في أمر الناس، فلم أرَهُم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلًا، فقال: أبايعك

ص: 136

على سنة الله ورسوله، والخليفتين من بعده، فبايعه عبدالرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون»

(1)

.

وسبق الجوابُ عليها في الفصل الأول عند الكلام على تولِّي الحكم بالاختيار.

الشبهة الثالثة والعشرون:

أن طرق تولِّي الخلافة والولاية في الإسلام ليست محصورةً في الطريقتين السابقتين؛ العهد والاختيار من أهل الحلِّ والعقد، بل تدخلُ في ذلك الانتخابات.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إنَّ طريقة تولي الخلافة وسيلةٌ شرعية، والذي جاء عن السلف الصالح هاتان الطريقتان، فإحداثُ طريقةٍ ثالثة غير هاتين الطريقتين بدعةٌ لما تقدَّم تقريرهُ من قاعدة وجود المقتضي وانتفاء المانع في الوسائل.

ثم لو جاز إحداثُ طريقةٍ ثالثة لما جازت طريقةُ الانتخابات؛ لأنها لا تحقِّق عدلًا؛ لما تقدَّم بيانه

(2)

.

الشبهة الرابعة والعشرون:

أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومَن بعدَهُ أخطؤوا لمَّا جعلوا تولية الحكم بالتوريث، وقد يبالغ بعضُهم فلا يُثبت الولايةَ بمثل هذا.

(1)

سبق تخريجه (ص: 67).

(2)

تقدم (ص: 66، 136).

ص: 137

وكشف هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: أن إثباتَ الولاية بالتوارث لأجل درءِ مفسدةٍ أعظمُ مطلوب شرعًا، فإنَّ خالَ المؤمنين معاوية بن أبي سفيان لو جعلها في غير بني أمية ما تحمَّلوا هذا، وجاءت منهم مفاسدُ عظيمة على المسلمين. ومما يؤكِّد ذلك أنهم استرجعوا حكمَ بلاد المسلمين كلِّها بعد انفلاتها منهم، فقد استردَّ ولايةَ بني أمية مروانُ بن الحكم وعلى إثر هذا سقطت ولاية عبد الله بن الزبير رضي الله عنه.

قال ابن خلدون في تاريخه: «والكلّ كانوا في مقاصدهم على حقٍّ، ثمّ اقتضت طبيعةُ الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به، ولم يكن لمعاوية أن يدفعَ عن نفسه وقومه؛ فهو أمر طبيعيّ ساقتهُ العصبيّة بطبيعتها، واستشعرته بنو أميّة.

ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحقّ من أتباعهم فاعْصَوصَبوا عليه واستماتوا دونه، ولو حملهم معاويّة على غير تلك الطّريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقَع في افتراق الكلمة الّتي كان جَمعُها وتأليفُها أهمَّ عليه من أمرٍ ليس وراءه كبيرُ مخالفة.

وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمّد بن أبي بكر: لو كان لي من الأمر شيء لولّيته الخلافة، ولو أراد أن يعهد إليه لفعل، ولكنّه كان يخشى من بني أميّة أهل الحلّ والعقد لما ذكرناه، فلا يقدر أن يحوِّل الأمر عنهم لئلَّا تقع الفرقة.

وهذا كلّه إنّما حمل عليه منازع الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة، فالملكُ إذا حصل وفرضنا أنَّ الواحد انفرد به وصرَفهُ في مذاهب الحقِّ ووجوهه = لم يكن في ذلك نكيرٌ عليه، ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني

ص: 138

إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من الانفراد به، وكانوا ما علمتَ من النّبوة والحقّ، وكذلك عَهِدَ معاوية إلى يزيد خوفًا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أميّة لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عَهِدَ إلى غيره اختلفوا عليه مع أنّ ظنَّهم كان به صالحًا ولا يرتاب أحدٌ في ذلك ولا يُظَنُّ بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهدَ إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسقِ حاشا الله لمعاوية من ذلك»

(1)

.

وقال ابن خلدون أيضًا: «ولا يتّهم الإمام في هذا الأمر، وإن عَهِدَ إلى أبيه أو ابنه؛ لأنّه مأمونٌ على النّظر لهم في حياته؛ فأَولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته؛ خلافًا لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو لمن خصَّص التّهمة بالولد دون الوالد، فإنّه بعيد عن الظنّة في ذلك كلِّه لا سيّما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة، أو توقُّع مفسدة، فتنتفي الظنّة في ذلك رأسًا كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعلُ معاوية مع وِفاقِ النّاس له حجّةً في الباب، والّذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنّما هو مراعاةُ المصلحة في اجتماع النّاس واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلِّ والعقد عليه حينئذٍ من بني أميّة؛ إذ بنو أميّة يومئذٍ لا يرضَونَ سواهم، وهم عصابة قريش وأهلُ الملّة أجمع، وأهلُ الغلب منهم؛ فآثَرهُ بذلك دون غيره ممّن يَظُنّ أنّه أولى بها، وعَدلَ عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتّفاق واجتماع الأهواء الّذي شأنه أهمُّ عند الشّارع.

وإن كان لا يُظَنُّ بمعاوية غير هذا فعدالتهُ وصُحبته مانعةٌ من سوى ذلك، وحضورُ أكابر الصّحابة لذلك وسكوتهم عنه دليلٌ على انتفاء الرَّيب فيه، فليسوا ممّن يأخذهُم في الحقّ هوادةٌ، وليس معاوية ممّن تأخذهُ العزّة في قبول الحقّ؛ فإنّهم

(1)

تاريخ ابن خلدون (1/ 257).

ص: 139

كلّهم أجلُّ من ذلك وعدالتُهم مانعةٌ منه، وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنّما هو محمول على تورّعه من الدّخول في شيء من الأمور مباحًا كان أو محظورًا كما هو معروف عنه، ولم يبقَ في المخالفة لهذا العهد الّذي اتّفق عليه الجمهور إلّا ابن الزّبير؛ وندور المخالف معروف.

ثمّ إنّه وقعَ مثلُ ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الّذين كانوا يتحرّون الحقَّ ويعملون به؛ مثل عبد الملك وسليمان من بني أميّة، والسّفّاح والمنصور والمهديّ والرّشيد من بني العبّاس، وأمثالهم ممّن عرفت عدالتهم وحسنُ رأيهم للمسلمين والنّظر لهم، ولا يُعاب عليهم إيثارُ أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك، فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء؛ فإنّهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينيّا، فعند كلّ أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدّين فقط، وآثروه على غيره، ووكلوا كلَّ من يسمو إلى ذلك إلى وازعه.

وأمّا مَنْ بعدَهُم من لَدُنْ معاوية، فكانت العصبيّة قد أشرفَتْ على غايتها من الملك الوازع الدّينيّ قد ضعف، واحتيجَ إلى الوازع السّلطانيّ والعصبانيّ، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبيّة لردَّتْ ذلك العهد وانتفض أمره سريعًا، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف»

(1)

.

وهكذا يقال فيمن بعده، فلو ولَّاه بغير طريقة الإرث لصارت المفسدة أكبر، والشريعة تنهى عما كانت مفسدته أكبر.

(1)

(1/ 262).

ص: 140

الوجه الثاني: أمَّا مَنْ بالغَ ولم يعتبر الولاية صحيحة، فهو مخطئ قطعًا - لما تقدَّم ذكره، فإن لم يقبل ما سبق ذكرهُ فيقال - تنزُّلًا: إنَّ تولِّي الحكم بالتوريث ولاية تغلُّب، وإذا كان كذلك فهي ولايةٌ صحيحة شرعًا، فيجبُ السمع والطاعة للأدلة المتقدمة، ولإجماع أهل السُّنة على صحة ولاية المتغلِّب.

الشبهة الخامسة والعشرون:

«أن البيعة إنما تلزم مَنْ باشرها دون من لم يباشرها»

وكشف هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: إنَّ اعتقاد البيعة لازِمٌ في عنق كل من بايعه أهلُ الحلِّ والعقد، أو أخذ الحكم بالغلبة والقهر كما تقدم بالأدلة والإجماع

(1)

.

الوجه الثاني: لا يُشترط لصحَّة البيعة أن يبايع كلُّ واحد بنفسه، قال الشوكاني:«وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل مَنْ يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين، فإن هذا الاشتراط في الأمرين مردود بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم وسابقهم»

(2)

، وقد نصَّ على ذلك شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله

(3)

.

وقال الإمام محمد ابن عثيمين رحمه الله: «قد يقول قائل مثلًا: نحن لم نبايع الإمام، فليس كل واحد بايعه.

(1)

تقدم (ص: 60).

(2)

السيل الجرار (1/ 941).

(3)

شريط: «أهداف الحملات الأعلامية ضد حكام علماء الحرمين» .

ص: 141

فيقال: هذه شبهة شيطانية باطلة، هل الصحابة رضي الله عنهم حين بايعوا أبا بكر، هل كلُّ واحدٍ منهم بايعَ حتى العجوز في بيتها، والبائع في سوقه؟ أبدًا؛ المبايعة لأهل الحلِّ والعقد، ومتى بايعوا ثبتت الولاية على كل أهل هذه البلاد شاء أم أبى، ولا أظن أحدًا من المسلمين، بل العقلاء يقول إنه لابد أن يبايع كل إنسان ولو في جحر بيته، ولو عجوزًا أو شيخًا كبيرًا أو صبيًا صغيرًا ما .. قال أحد بهذا»

(1)

.

(1)

شرح رياض الصالحين (6/ 649).

ص: 142

شبهات في عقد الإمامة

الشبهة السادسة والعشرون:

أنَّ الإمامة عقدٌ بين الحاكم والمحكوم، وفي العقد يُطالَبُ الطرفان بالقيام بحقوق كلِّ طرف، فإذا أخلَّ أحدُهم بما اتفق عليه بطل العقد. وهؤلاء فريقان؛ فمنهم مَنْ جعل العقدَ عقدَ ولاية، ومنهم من جَعله عقدَ وكالة، وهما قولان عند الحنابلة، ذكرهما أبو يعلى في كتابه المعتمد في أصول الدين.

قال ابن رجب: «المتصرف تصرُّفًا عامًّا على الناس كلهم من غير ولاية أحدٍ معين وهو الإمام، هل يكون تصرُّفه عليهم بطريق الوكالة لهم أو بطريق الولاية؟.

في ذلك وجهان؛ وخرَّجَ الآمديُّ روايتين بناء على أن خطأه هل هو على عاقلته أو في بيت المال؛ لأنَّا إنْ جعلناه على عاقلته فهو متصرِّف بنفسه، وإنْ جعلناهُ في بيت المال، فهو متصرِّفٌ بوكالتهم لهم وعليهم، فلا يضمن لهم ولا يُهدِر خطأه، فيجب في بيت المال. واختيار القاضي في خلافه أنه متصرف بالوكالة لعمومهم.

وذكر في الأحكام السلطانية روايتين في انعقاد الإمامة بمجرد القهر من غير عقد، وهذا يحسُن أن يكون أصلًا للخلاف في الولاية والوكالة أيضًا، وينبني على هذا الخلاف أيضًا انعزالُه بالعزل؛ ذكَرهُ الآمدي.

فإن قلنا: هو وكيلٌ = فله أن يعزِلَ نفسه، وإن قلنا: هو والٍ = لم ينعزل بالعزل كما أن الرسول ليس له عزلُ نفسه؛ ولا ينعزلُ بموت من بايعَهُ؛ لأنه وكيلٌ عن الجميع لا عن أهل البيعة وحدهم، وهل لهم عزلُه إذا كان بسؤاله فحكمهُ حكمُ عزلِ نفسه، وإن كان بغير سؤاله لم يجز بغير خلاف، هذا ظاهر ما

ص: 143

ذكره القاضي وغيره»

(1)

.

وجواب هذه الشبهة أن يقال:

إن ما حصل من نزاع عند بعض العلماء المتأخرين في نوع العقد بين الحاكم والمحكوم هل هو عقد وكالة أم ولاية؟ لا يعتد به لسببين:

السبب الأول: أنَّ هذا لم يُعرف عند العلماء الأولين، ولم يُلزموا أنفسَهُم بمثلِ هذا؛ ومذهبهم أسلم وأعلم وأحكم. وكل قول في الدين محدثٌ فلا يلتفت إليه.

السبب الثاني: أنه يرِدُ على القول بالوكالة إيراداتٌ مخالفة لإجماع أهل السُّنة؛ وكذلك على القول بالولاية:

أما القول بالوكالة فيلزم عليه أنه يصحَّ للرعية أن يعزلوا الوالي، لأنه يصحُّ للوكيل أن يعزل الموكل، وهذا اللازم باطلٌ؛ لإجماعِ أهل السُّنة على بطلانه - كما سبق -

(2)

، فإذا بطلَ اللازم بطل الملزوم؛ فيبطلُ القول بعقد الوكالة.

أما القول بالولاية فيلزم عليه: أنه لا يصحُّ للحاكم عزلُ نفسه، والأدلة دلت على صحَّة عزل الحاكم لنفسه، كما فعل هذا الحسن بن علي رضي الله عنهما بل ويرِدُ عليه أنه لو أفسدَ في الولاية وساء تصرُّفه جازَ نزعُه وخلعُه من الرعية الذين ولَّوه، وهذا اللازم باطلٌ؛ لإجماع أهل السُّنة على بطلانه - كما سبق -

(3)

، فإذا بطلَ اللازم بطل الملزوم، فيبطلُ القولُ بعقد الولاية.

(1)

القواعد لابن رجب (ص: 113).

(2)

سبق (ص: 44).

(3)

سبق (ص: 44)، ومن ذلك الإجماع على الصبر على جور وظلم الحاكم المسلم (ص: 39).

ص: 144

الشبهة السابعة والعشرون:

أنَّ عقدَ الإمامة أشبهُ بعقد الوكالة، وأن الإمام وكيل أو أَجير، ويدلُّ لذلك قصة دخول أبي مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال:«السلام عليكم أيها الأجير، فقالوا: قل السَّلامُ عليكَ أيها الأمير، فقال السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل: السَّلام عليك أيها الأمير، فقال السَّلام عليك أيها الأجير، فقالوا قل السلام عليك أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلَمُ بما يقول، فقال إنما أنت أجيرٌ استأجركَ ربُّ هذه الغنم لرعايتها؛ فإنْ أنتَ هنأت جرباها، وداويتَ مرضاها، وحبستَ أُولاها على أُخراها: وفَّاكَ سيِّدها أجرَكَ، وإن أنتَ لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أُولاها على أُخراها عاقبكَ سيِّدُها» ، ثم قال هذا المستدل: وهذا يؤكد أنَّ عقد الإمامة في نظر الصحابة رضي الله عنهم هو عقدٌ أشبه بالوكالة، والإمام كالوكيل أو الأجير.

والجواب على هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن هذا الأثر ضعيف؛ فقد أخرجه ابن عساكر

(1)

، ولمَّا ذكرهُ الذهبي في السير

(2)

، وتاريخ الإسلام

(3)

، بين أن في إسناده أبا بكر بن أبي مريم.

وأبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم ضعيف؛ قد ضعَّفه أحمد بن حنبل وابن معين والرازيان كما في تهذيب التهذيب.

الوجه الثاني: القول بأن العقد عقد كالوكالة لا يصح؛ لأنه يلزم على هذا أن

(1)

تاريخ دمشق (27/ 223).

(2)

سير أعلام النبلاء (4/ 13).

(3)

تاريخ الإسلام (2/ 745).

ص: 145

للوكيل حقًّا في عزلهِ وهذا القولُ أجنبيٌّ عن معتقد أهل السنة كما تقدم، ومثلُه يقال في القول: إنه عقد إجارة فإنه لا يصحُّ أيضًا؛ لأنه يلزم منه ما يلزم من الوكالة.

الوجه الثالث: أن قول أبي مسلم الخولاني - إن صحَّ - أيها الأجير.

المراد من باب التقريب والتشبيه أنه أجيرٌ من الله على الرعية؛ لذا قال أبو مسلم: استأجرك ربُّ هذه الغنم لرعايتها؛ فإن أنت هنأت جرباها، وداويتَ مرضاها، وحبستَ أُولاها على أُخراها: وفَّاك سيِّدُها أجرَك، وإنْ أنت لم تهنأ جرباها ولم تداوِ مرضاها؛ ولم تحبس أُولاها على أُخراها عاقبكَ سيِّدها.

وهذا الذي فهمه ابن تيمية أنه أجيرٌ من الله، لا كما ظنَّ المستدلُّ أن نوع العقد الذي بين الحاكم والمحكوم عقدُ إجارة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا ظاهر في الاعتبار: فإنَّ الخلق عباد الله، والولاة نوابُ الله على عباده، وهم وكلاء العباد على نفوسهم؛ بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر؛ ففيهم معنى الولاية والوكالة»

(1)

.

الشبهة الثامنة والعشرون:

أن السمع والطاعة مقايضةٌ بين الحاكم والمحكوم، فإذا قام الحاكم بالحقوق التي عليه قام المحكومون بالحقوق التي عليهم.

وكشفُ هذه الشبهة ببيان عدم صحة هذا لأمرين:

الأمر الأول: أمرت الشريعة بالصبر على جور الحاكم، ومن ذلك إذا قصَّر الحاكم في القيام بحقوق المحكومين، ولم تأمر الشريعة بالصبر على جَور المحكوم،

(1)

السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية (ص: 11).

ص: 146

بل إذا أخطأ أحدٌ من الرعية له أن يؤدِّبهم، بخلاف إذا أخطأ الحاكم وظَلَم، فالرعية مأمورةٌ بالصبر عليه، لما تقدم من الأدلة وإجماع أهل السُّنة

(1)

، وللحِكَم العظيمة، وهي درءُ المفسدة الكبرى بالصغرى.

الأمر الثاني: توعَّدت الشريعة مَنْ تعامل مع الحاكم معاملة مقايضة بوعيدٍ شديد؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلِّمهم الله ولا ينظرُ إليهم ولهم عذابٌ أليم» ، ثم قال:«رجلٌ بايعَ رجلًا لا يبايعهُ إلَّا لدنيا فإن أعطاه ما يريد وفى له وإلَّا لم يفِ له»

(2)

.

قال القرطبي: «يعني: أنَّ الله تعالى كلَّف الولاة العدلَ وحسنَ الرعاية، وكلّف المولَّى عليهم الطاعة وحسن النصيحة. فأراد: أنه إن عصى الأمراءُ الله فيكم، ولم يقوموا بحقوقكم: فلا تعصوا الله أنتم فيهم، وقوموا بحقوقهم، فإن الله مُجازٍ كلَّ واحدٍ من الفريقين بما عمل»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وطاعة ولاة الأمور واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاعَ الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجرهُ على الله، ومَن كان لا يطيعُهم إلَّا لما يأخذه من الولاية والمال؛ فإن أعطَوه أطاعَهُم؛ وإن منعوهُ عَصاهم: فما له في الآخرة من خَلاق»

(4)

.

(1)

تقدم (ص: 37).

(2)

أخرجه البخاري (2672)، ومسلم (108).

(3)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 55).

(4)

مجموع الفتاوى (35/ 16).

ص: 147

الشبهة التاسعة والعشرون:

أن المرجع في اختيار الحاكم إلى الأمة لا إلى أهل الحلِّ والعقد، فلا يصحُّ تقييد الأمر بأهل الحلِّ والعقد دون الأمة.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن العلماء من المذاهب الأربعة متواردون على هذا، ولم أرَ أحدًا من العلماء ذكر عدمَ تعليق الاختيار بأهل الحلِّ والعقد؛ بل في عبارة بعضهم حكاية الإجماع، ومن المتقرِّر شرعًا أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقول قولًا في الشريعة وليس له سلف وإلَّا صار قولُه محدثًا.

وقد سبق نقلُ كلام العلماء في تعليق الأمر بأهل الحلِّ والعقد

(1)

.

الوجه الثاني: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل الأمر في ستةٍ، والشورى فيهم دون عموم الناس وهؤلاء نوعٌ من أهل الحلِّ والعقد، قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: «باجتماع أهل الحلِّ والعقد عليه، يعني وجهاء البلاد، وشرفاء البلاد، وأعيان البلاد، يجتمعون على هذا الرجل المعين، وينصبونه إمامًا، ومن ذلك الصورة المصغَّرة التي اختارها عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فإنَّ عمر لم يعهد إلى شخص معين، ولم يجعل الأمر عامًّا بين المسلمين، ولكنه جعل الأمر بين ستة أشخاص، تخيَّرهم رضي الله عنه، وعلَّل تخيُّره إيَّاهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، فجعل الأمر بينهم، وهذا نوع من اختيار أهل الحلِّ والعقد، ونوعٌ من العهد بالخلافة إلى معيَّن؛ لأن الخليفة لا يخرج عن هذه الدائرة الضيقة، وهم ستة فقط،

(1)

سبق (ص: 60).

ص: 148

يعني لو أن هؤلاء الستة اختاروا رجلًا من غير الستة فإنه لا يصحُّ اختيارهم؛ لأنه خلافُ ما عهِدَ به الخليفة السابق»

(1)

.

الوجه الثالث: لم يكن الخلفاء الراشدون ولا غيرهم يستشيرون الأمة كلَّها، ومن ادعى هذا فعليه بالدليل، فلما عهد أبو بكر لعمر لم يستشر الأمة كلها، ولما جعل عمر رضي الله عنه الأمر في ستةٍ لم يستشر الأمة كلَّها، ولما أراد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يجعل واحدًا من الستة لم يستشر الأمة كلها، ولما تولَّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يستشر الأمة كلها، بل القراء - أي العلماء - أصحابُ مشورة عمر دون الأمة كلِّها.

عن ابن عباس: «وكان القرَّاء أصحابَ مجلس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شُبَّانا»

(2)

.

الوجه الرابع: أن عدم اعتبار أهل الحلِّ والعقد سيُرجع الأمر إلى اعتبار الكثرة، وتقدَّم

(3)

أن الكثرة ليست معتبرة شرعًا ولا عقلًا؛ أما شرعًا فليس هناك دليل بل ذمَّت الشريعة الكثرة: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ، وقال:{فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26].

وأمَّا عقلًا فلا يصح أن يساوى الفاجر بالمتقي ولا الذي تلقَّى الدرجات العُلى في العلم بمن ليس متعلمًا.

(1)

الشرح الممتع (14/ 396).

(2)

أخرجه البخاري (4642).

(3)

تقدم ص: 136.

ص: 149

تنبيه:

كابَر بعضُهم فقال: «إن لفظ: «أهل الحلِّ والعقد» لم يرد في الكتاب والسنة».

فيقال: إنه ولو لم يرد في الكتاب والسنة بهذا اللفظ، لكن وردَ ما يدلُّ عليه كما تقدَّم ذِكرُه

(1)

، وقد أجمع العلماء عليه، وأيضًا فلا مشاحة في الاصطلاح لا سيما وقد تواردَ العلماء عليه، ثم مما يدلُّ على أن هذا المعترض مماحكٌ أنه يستعمل عبارات كثيرة لم ترد في الكتاب والسنة، بل لم يرد معناها؛ فقد كذبَ وزعمَ أنَّ الصحابة سبقوا إلى البرلمانات وأنَّ للثورات سلفًا!.

وهذان الأمران لفظًا ومعنًى محرَّمان في الشريعة، فعجبًا له ماحكَ في الألفاظ وأتى بمعانٍ وألفاظ مخالفة للشرع.

(1)

تقدم ص: 60.

ص: 150

شبهات في الخروج وما يتعلق به

الشبهة الثلاثون:

أن في مسألة الخروج على الحاكم الفاسق خلافًا سائغًا، فلا يصح لأحدٍ أن يشنِّع على مَنْ خالف فيها؛ لأنها مسألة اجتهادية كبقية المسائل الاجتهادية، وهذا القول هو قول الحسين رضي الله عنه فقد خرج على يزيد، وخرج عبد الله بن الزبير على يزيد وابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وخرج جمعٌ من القراء - الفقهاء - على الحجاج.

والجوابُ على هذه الشبهة بطريقين؛ مجمَل ومفصَّل:

أما الجواب المجمل:

إنه قد كان للسلف قولان في الخروج على الحاكم الفاسق، ثم بعد فتنة ابن الأشعث انعقد إجماعُ السلف على عدم الخروج على السلطان؛ لذلك تواردَ أئمة السُّنة على ذكر هذه المسألة في كتب الاعتقاد، وجعلوا مَنْ خالف فيها مبتدعًا

- وقد تقدَّم نقلُ كلامهم -

(1)

، وقد نصَّ جمعٌ من العلماء على أنَّ الإجماع انعقد بعد خلاف

(2)

؛ ودونكَ كلامهم:

الأول: شيخ الإسلام ابن تيمية:

قال رحمه الله: «كان أفاضل المسلمين ينهَون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهَون عام الحرَّة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون

(1)

تقدم (ص: 39).

(2)

الإجماع بعد خلاف حجَّة وإجماع، فإن الأدلة بينت أنَّ الإجماع حجة، ولم تشترط ألا يُسبَق بخلاف، والقول بأنه ليس حجة لم أره منسوبًا لأحد من العلماء الأولين إلَّا رواية عن الإمام أحمد نسَبها إليه أبو يعلى في كتابه العدة في أصول الفقه (4/ 1105)، وجعلها ظاهرَ قوله مستنبطًا ذلك من كلامٍ لأحمد، ولم ينسبه لغيره من الأئمة.

وما اعتمد عليه لا يسلَّم به؛ وقد خالفه أبو الخطاب في التمهيد (3/ 297)، وابن قدامة في الروضة (1/ 428) لم يتابعاه على ذلك ولم ينسباه لأحمد.

والذي يظهر - والله أعلم - أنَّ القول بأنه ليس حجة قولٌ محدث على خلافِ ما عليه السلف الأولون.

ص: 151

عن الخروج في فتنة ابن الأشعث.

ولهذا استقرَّ أمرُ أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جَورالأئمة وتركِ قتالهم»

(1)

.

الثاني: أبو بكر بن مجاهد، ونقله النووي.

الثالث: النووي:

قال النووي: «وأما الخروج عليهم وقتالهم؛ فحرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسَقة ظالِمين، وقد تظاهرت الأحاديث بِمعنَى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجهُ المذكور فِي كتب الفقه لبعض أصحابنا - أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضًا - فغلطٌ من قائله مُخالف للإجماع.

قال العلماء: وسببُ عدم انعزاله وتَحريْم الخروج عليه ما يترتبُ على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثرَ منها في بقائه.

ثُمَّ قال: قال القاضي: «وقد ادَّعى أبو بكر بن مُجاهد فِي هذا الإجماعَ، وقد رَدَّ عليه بعضُهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بنِي أمية، وبقيام جماعةٍ عظيمة من التابعين والصَّدر الأول على الحجَّاج مع ابن الأشعث، وتأول هذا القائل قوله: «ألَّا ننازعَ الأمرَ أهلَه» فِي أئمة العدل».

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 529).

ص: 152

ثُمَّ قال: قال القاضي: «وقيل: إنَّ هذا الخلاف كان أولًا ثُمَّ حصل الإجماعُ على منع الخروجَ عليهم، والله أعلم»

(1)

.

الرابع: ابن حجر:

قال: «وقولهم: «كان يرى السيف» - يعني: الحسن بن صالح - يعنِي: كان يرى الخروجَ بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهبٌ للسلف قديْم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لمَّا رأوه قد أفضى إلى أشدَّ منه ففي وقعة الحرة، ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عظةٌ لمن تدبر»

(2)

.

وبعد هذه النقولات الأربعة فإنه يضاف إليها كلُّ مَنْ حَكى عدَم الخروج على الحاكم الفاسق معتقدًا لأهل السنة، أو أن المخالف مبتدع، فهو يرى أنَّ المسألة إجماعية - وتقدَّم النقل عنهم -

(3)

.

وهذا الجواب المجمل كافٍ في كشف هذه الشبهة وردِّها؛ وما يذكر بعد ذلك تفصيلًا فهو تتمة، وإلا فإن الجواب المجمل كاف، وإنَّ من فوائد الجواب المفصَّل أن يعلم أنه لا خلاف بين الصحابة في حُرمة الخروجِ وإنما حصل الخلافُ عند التابعين ثم انعقد الإجماع.

الجواب المفصل:

أولًا: الجواب المفصل على خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما يكون من أوجه:

(1)

في شرح مسلم (12/ 229).

(2)

تَهذيب التهذيب (2/ 288).

(3)

تقدم (ص: 39).

ص: 153

الوجه الأول:

أنَّ جمعًا من الصحابة خالفوا الحسين بن علي رضي الله عنهما، وفي مقدمهم عمر بن الخطاب، ومنهم ابن مسعود وأبو مسعود البدري وحذيفة وأنس رضي الله عنهم، ودونكَ هذه الآثار:

قال سويد بن غفلة، قال:«قال لي عمر: يا أبا أمية إني لا أدري لعلِّي أن لا ألقاكَ بعد عامي هذا؛ فاسمَع وأطِعْ وإن أُمِّر عليك عبدٌ حبشيٌّ مجدَّع؛ إنْ ضربكَ فاصبرْ، وإنْ حرمكَ فاصبر، وإنْ أراد أمرًا ينتقصُ دينك فقل: سمعٌ وطاعةٌ؛ ودمي دون ديني؛ فلا تفارق الجماعة»

(1)

، وهذا حاكمٌ ظالمٌ وأُمر بالصبر عليه.

عن سماك بن الوليد الحنفي أنه لقي ابنَ عباس بالمدينة فقال: «ما يقولُ في سلطان علينا يظلمونا ويشتمونا ويعتدون علينا في صدقاتنا؛ ألا نمنعهُم؟ قال: لا، أعطِهم يا حنفي

وقال: يا حنفي: الجماعةَ، الجماعة، إنَّما هلكَتِ الأممُ الخالية بتفرُّقها، أما سمعتَ قول الله عز وجل:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}

[آل عمران: 103]»

(2)

.

قال زر بن حبيش: «لمَّا أنكرَ الناس سيرة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فزع الناسُ إلى عبد الله بن مسعود، فقال لهم عبد الله بن مسعود: «اصبروا؛ فإنَّ جَورَ إمامٍ خمسين عامًا خيرٌ من هَرجِ شهر»

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 544) وسنده صحيح.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم (3/ 724) وسنده صحيح.

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 132) وابن عساكر في تاريخه (63/ 241).

قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1441): رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به اهـ.

ص: 154

وثبتَ عن أبي مسعود البدري أنه قال: «اتقوا الله واصبروا حتى يستريحَ بَرٌّ أو يُستراحَ من فاجر؛ وعليكم بالجماعة، فإنَّ الله لا يجمع أمة محمدٍ على ضلالة»

(1)

.

عن نعيم بن أبي هند، أنَّ أبا مسعود خرج من الكوفة ورأسُه يقطر، وهو يريدُ أن يُحرم، فقالوا له:«أوصِنا. فقال: أيها الناس اتَّهموا الرأيَ، فقد رأيتُني أهمُّ أن أضربَ بسيفي في معصيةِ الله ومعصيةِ رسوله، قالوا: أوصِنا. قال: عليكُم بالجماعة؛ فإنَّ الله لم يكن ليجمعَ أمة محمدٍ على ضلالة، قال: قالوا: أوصِنا. فقال: بتقوى الله، والصَّبر حتى يستريحَ برٌّ، أو يُستراحَ من فاجر»

(2)

.

عن زيد بن يثيع أنه قال: «قال حذيفة بن اليمان: أيْ قوم؛ كيف أنتم إذا سُئلتم الحقَّ فأعطيتموهُ ثمَّ مُنعتُم حقَّكم؟، قلنا: مَنْ أدركَ ذلك منا صَبرَ، قال حذيفة: دخلتُموها إذًا وربِّ الكعبة - يعني الجنة -»

(3)

.

وعن الزبير بن عدي قال: «أتينا أنسَ بن مالك، فشكَونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا، فإنَّه لا يأتي عليكم زمانٌ إلَّا الذي بعده شرٌّ منه، حتى

ص: 155

تلقوا ربَّكم، سمعتهُ من نبيِّكم صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: نهانا كُبراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالوا: «لا تسبُّوا أمراءَكُم، ولا تغشُّوهم، ولا تعصُوهم، واتَّقوا الله واصبروا؛ فإنَّ الأمر قريب»

(2)

.

بل قد ثبتَ أنَّ جمعًا من الصحابة أنكروا على الحسين بن علي رضي الله عنهما لما أراد الخروجَ إلى الكوفة، ودونكَ بعضهم:

ثبت عن ابن عباس أنه قال: «استأذَنَني حسينٌ في الخروج، فقلت: لولا أن يُزرِيَ ذلك بي أو بكَ لشبكتُ بيديَّ في رأسك»

(3)

.

ثبت عن عبد الله بن عمرو: «عجَّل حسينٌ قدره، عجَّل حسينٌ قدَره، والله لو أدركتهُ ما كان ليخرجَ إلَّا أن يغلبني»

(4)

.

وقد ذكر ابن سعد عن جمعٍ من الصحابة أنهم أنكروا على الحسين الخروجَ؛ مثل عبدالله بن عمر بن الخطاب وأبي سعيد وأبي واقد الليثي وجابر بن عبدالله وعبدالله بن الزبير والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (7068).

(2)

أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2/ 488)، وجوَّد إسناده الشيخ الألباني في (ظلال الجنة).

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 119).

(4)

قال ابن كثير في البداية والنهاية (11/ 497): «وقال يحيى بن معين: حدثنا أبو عبيدة، ثنا سليم بن حيان، عن سعيد بن مينا، والإسناد صحيح» .

(5)

الطبقات الكبرى (6/ 422)، طبعة الخانجي.

قال ابن سعد: «وغير هؤلاء أيضًا قد حدثني في هذا الحديث بطائفةٍ فكتبتُ جوامع حديثهِم في مقتل الحسين رحمة الله عليه ورضوانه وصلواته» ، وقد اعتمدَ على ابن سعد في هذا الذهبيُّ في السير وابن كثير في البداية والنهاية.

ص: 156

فإذا ثبتَ الخلافُ بين الصحابة - تنزُّلًا -، فالمرجع إلى الأدلة الشرعية، وقد تقدَّمت الأدلة الواضحة في وجوب السمع الطاعة للحاكم المسلم وإن كان فاسقًا وظالمًا في غير معصية الله

(1)

، ولا يصحُّ لأحدٍ أن يردَّ الدليل بحجَّة الخلاف، بل الواجبُ أن يردَّ الخلاف إلى الدليل؛ قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وقد حكى غيرُ واحدٍ إجماعَ أهل العلم على أنَّ الدليل لا يُردُّ إلى الخلاف بل يَردُّ الخلافُ إلى الدليل

(2)

.

الوجه الثاني: من الجواب المفصَّل على خروج الحسين:

أن الحسين بن علي رضي الله عنهما لم يبايع يزيدَ بن معاوية بيعةً شرعية؛ متأوِّلًا أنَّ

(1)

تقدم (ص: 35).

(2)

قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 922): «الاختلاف ليس بحجَّة عند أحدٍ علمتُه من فقهاء الأمة إلَّا مَنْ لا بصرَ له، ولا معرفة عنده، ولا حجَّة في قوله» .

وقال الشاطبي في الموافقات (5/ 93) نقلًا عن الخطابي: «وليس الاختلافُ حجَّةً، وبيان السنة حجَّة على المختلفين من الأولين والآخرين» .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 61): «هذا هو الذي يُمكن أن يُقالَ في أحاديث الوعيد إذا صادفت محلَّ خلاف، إذ العلماء مجمعونَ على الاحتجاج في تحريم الفعل المتوعَّد عليه، سواءٌ كان محلَّ وِفاقٍ أو خلاف، بل أكثر ما يحتاجون إليه الاستدلال بها في موارد الخلاف، ثم قال: إنَّ جنس التحريم إمَّا أن يكون ثابتًا في محلِّ خلاف، أو لا يكون، فإنْ لم يكن ثابتًا في محلِّ خلافٍ قطُّ لزِمَ أن لا يكون حرامًا إلَّا ما أُجمع على تحريمه، فكلَّ ما اختُلفَ في تحريمهِ يكونُ حلالًا؛ وهذا مخالفٌ لإجماع الأمة وهو معلومُ البطلان بالاضطرار من دينِ الإسلام» .

ص: 157

البيعة لا تلزمه، وإنَّما انتهت البيعة التي في عُنقهِ بموت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وأما بيعة ما بعدَه، فلم يرَها مُلزِمةً له، ولما رأى أنَّ عنده قدرةً وقوةً خرج على يزيد لما علِمَ من فسقهِ، وليس في عنقه بيعةٌ له تمنعهُ من الخروج؛ فهو لم يخرج على حاكمٍ بايعَهُ، فلا يُستفاد منه أنَّ مذهبه جوازُ نقضِ البيعة والخروج على حاكمهِ لفسقهِ؛ فخطؤه رضي الله عنه في عدمِ المبايعة ليزيد، وليزيدَ شوكةٌ وقوة، ثم في ظنِّه أن عنده قدرة وليس الأمر كذلك.

قال ابن خلدون في تاريخه: «وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهرَ فسقُ يزيد عند الكافَّة من أهل عصره بعثتْ شيعةُ أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيَهُم فيقوموا بأمره، فرأى الحسينُ أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقهِ لا سيّما مَنْ له القدرة على ذلك؛ وظنَّها من نفسه بأهليّته وشوكته، فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنَّ وزيادة، وأمَّا الشّوكة فغلط رحمه الله فيها؛ لأنّ عصبيّة مضر كانت في قريش، وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة؛ تعرف ذلك لهم قريش وسائرُ النّاس ولا ينكرونه، وإنَّما نسي ذلك أوَّلَ الإسلام لما شغلَ النّاسَ من الذّهولِ بالخوارق وأمرِ الوحي وتردّد الملائكة لنصرة المسلمين، فأغفَلوا أمورَ عوائدِهم، وذهبت عصبيّة الجاهليّة ومنازعها، ونسيت ولم يبق إلَّا العصبيّة الطّبيعيّة في الحماية والدّفاع يُنتفع بها في إقامة الدّين وجهاد المشركين، والدّين فيها محكَّم والعادة معزولة حتّى إذا انقطع أمرُ النّبوة والخوارق المهولة، تراجعَ الحكمُ بعضَ الشّيء للعوائد، فعادت العصبيّة كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضرُ أطوعَ لبني أميّة من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل، فقد تبيَّن لكَ غلطُ الحسين إلَّا أنّه في أمرٍ دنيويٍّ لا يضرُّه الغلط فيه، وأمّا الحكمُ الشّرعيُّ فلم يغلط فيه؛ لأنّه منوطٌ بظنِّه، وكان

ص: 158

ظنُّه القدرة على ذلك، ولقد عذَلَهُ ابن العبّاس وابن الزّبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيره في مسيرهِ إلى الكوفة، وعلموا غلطَهُ في ذلك ولم يرجع عمَّا هو بسبيله لما أراده الله»

(1)

.

الوجه الثالث: من الجواب المفصَّل على خروج الحسين:

أن الحسين بن علي رضي الله عنهما تراجعَ، فكيف يُحتجُّ بفعله، وقد رجع عنه، فإنه خيَّرهم بين أمور ثلاثة؛ إمَّا أن يذهبَ ويبايعَ يزيدَ أو أن يتركوه ليقاتلَ الكفار في الثغور أو أن يرجعَ إلى المدينة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فيقال: إنَّ يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعَهُ عن ولاية العراق، والحسينُ رضي الله عنه كان يظنُّ أنَّ أهل العراق ينصرونه ويوفون له بما كتبوا إليه، فأرسل إليهم ابنُ عمِّه مسلم بن عقيل، فلما قتلوا مسلمًا وغدروا به وبايعوا ابنَ زياد، أراد الرجوعَ فأدركتهُ السَّرية الظالمة، فطلبَ أن يذهبَ إلى يزيد، أو يذهبَ إلى الثغر، أو يرجع إلى بلده، فلم يمكِّنوه من شيء من ذلك حتى يستأسرَ لهم، فامتنع، فقاتلوه حتى قُتل شهيدًا مظلومًا رضي الله عنه، ولما بلغَ ذلك يزيد أظهرَ التوجُّع على ذلك، وظهر البكاء في داره، ولم يسْب له حريمًا أصلًا، بل أكرمَ أهل بيته، وأجازَهُم حتى ردَّهم إلى بلدهم»

(2)

.

وقال: «والحسين رضي الله عنه ما خرجَ يريدُ القتال، ولكن ظنَّ أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافَهم عنه، طلب الرجوعَ إلى وطنه، أو الذهابَ إلى الثغر، أو إتيانَ

(1)

(1/ 269).

(2)

منهاج السنة النبوية (4/ 472).

ص: 159

يزيد، فلم يمكِّنه أولئك الظَّلَمة لا من هذا ولا من هذا ولا من هذا، وطلبوا أن يأخذوه أسيرًا إلى يزيد، فامتنعَ من ذلك وقاتلَ حتى قُتل مظلومًا شهيدًا، لم يكن قصدُه ابتداءً أن يقاتل»

(1)

.

وقال: «وكذلك الحسين رضي الله عنه لم يُقتل إلَّا مظلومًا شهيدًا، تاركًا لطلب الإمارة، طالبًا للرجوع: إمَّا إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى المتولِّي على الناس يزيد. وإذا قال القائل: إنَّ عليًّا والحسين إنَّما تركَا القتالَ في آخر الأمر للعجز، لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة.

قيل له: وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأمراء، وندبَ إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرَونَ أن مقصودَهم الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرَّة وبدَير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما.

لكن إذا لم يُزلِ المنكر إلَّا بما هو أنكرُ منه، صار إزالته على هذا الوجه منكَرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلَّا بمنكر مفسدتهُ أعظمُ من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيلُ ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا»

(2)

.

وقال ابن كثير: «فالتجأ الحسين بن علي وأصحابه إلى مقصبةٍ هنالك، وجعلوها منهم بظهر، وواجهوا أولئك، وطلب منهم الحسين إحدى ثلاث، إمَّا أن يدَعوه يرجعُ من حيث جاء، وإمَّا أن يذهبَ إلى ثغرٍ من الثغور فيقاتل فيه، أو يتركوه حتى يذهب إلى يزيد بن معاوية فيضع يدَهُ في يده، فيحكم فيه بما شاء،

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 42).

(2)

منهاج السنة النبوية (4/ 535).

ص: 160

فأبوا عليه واحدةً منهن، وقالوا: لا بدَّ من قدومك على عبيد الله بن زياد فيرى فيكَ رأيه، فأبى أن يقدمَ عليه أبدًا، وقاتلَهُم دون ذلك، فقتلوه، رحمه الله»

(1)

.

فدلَّ هذا على أنَّ الحسين رضي الله عنه يرى بيعةَ الفاسق كبقية أهلِ السُّنة، فإنه أرادَ بيعة يزيد بن معاوية لكنه قتل.

‌تنبيه:

ضلَّ في قتل الحسين طائفتان

؛ طائفةٌ قالت: قُتلَ بحقٍّ؛ كما يستفاد من كلام ابن العربي المالكي

(2)

، وطائفة قالت: إنَّه الإمام الذي يجبُ أن يُبايع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وصار الناس في قتل الحسين رضي الله عنه ثلاثة أصناف: طرفَين ووسطًا، أحدُ الطرفين يقول: إنه قُتلَ بحقٍّ؛ فإنه أرادَ أن يشقَّ عصا المسلمين، ويفرِّق الجماعة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«مَنْ جاءكم وأمركُم على رجلٍ واحدٍ يريدُ أن يفرِّق جماعتكُم فاقتُلوه»

(3)

، قالوا: والحسينُ جاء وأمرُ المسلمين على رجلٍ واحد، فأراد أن يفرِّقَ جماعتهم، وقال بعضُ هؤلاء: «هو أولُ خارجٍ خرجَ في الإسلام على ولاة الأمر، والطرف

(1)

البداية والنهاية (9/ 242).

(2)

قال في العواصم من القواصم (ص: 232): «وما خرجَ إليه أحدٌ إلَّا بتأويل، ولا قاتلوه إلَّا بما سمعوا من جدِّه المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذِّر من الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة: منها قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّه ستكونُ هناتٌ وهَنات، فمَن أراد أن يفرِّق أمرَ هذه الأمة وهي جميعٌ فاضربوهُ بالسَّيف كائنًا من كان» ، فما خرجَ الناسُ إلَّا بهذا وأمثاله؛ ولو أنَّ عظيمَها وابنَ عظيمها وشريفَها وابنَ شريفها الحسين وسِعَهُ بيتهُ أو ضَيعتُه أو إبله

» اهـ.

(3)

أخرجه مسلم (1852).

ص: 161

الآخر قالوا: بل كان هو الإمام الواجب طاعته، الذي لا يَنفُذ أمرٌ من أمور الإيمان إلَّا به، ولا تُصلَّى جماعة ولا جمعة إلَّا خلف من يولِّيه، ولا يجاهد عدوٌّ إلَّا بإذنه، ونحو ذلك، وأمَّا الوسط فهُم أهلُ السُّنة، الذين لا يقولون لا هذا ولا هذا، بل يقولون: قُتلَ مظلومًا شهيدًا، ولم يكن متولِّيًا لأمر الأمة، والحديثُ المذكور لا يتناوله، فإنه لما بلغهُ ما فُعل بابن عمِّه مسلم بن عقيل تركَ طلبَ الأمر، وطلبَ أن يذهبَ إلى يزيدَ ابنِ عمِّه، أو إلى الثغر، أو إلى بلده، فلم يمكِّنوه، وطلبوا منه أن يستأسِرَ لهم، وهذا لم يكُن واجبًا عليه»

(1)

.

وقال أيضًا: «وأهل السُّنة والجماعة يردُّون غلوَّ هؤلاء وهؤلاء، ويقولون: إنَّ الحسين قُتلَ مظلوما شهيدًا، وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين، وأحاديثُ النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمُر فيها بقتالِ المفارقِ للجماعة لم تتناوله؛ فإنه رضي الله عنه لم يفرِّق الجماعة، ولم يُقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلًا في الجماعة، مُعرِضًا عن تفريق الأمة. ولو كان طالب ذلك أقلُّ الناس لوجبَ إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجبُ إجابةُ الحسين إلى ذلك؟! ولو كان الطالب لهذه الأمور مَنْ هو دون الحسين لم يَجُزْ حبسهُ ولا إمساكُه، فضلًا عن أسرهِ وقتلهِ»

(2)

.

ثانيًا: الجواب على فعل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما:

إنَّ عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما دعا لنفسه الحكم لمَّا انفلت الأمرُ من بني أمية بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية، وقبل ذلك لم يدْعُ لنفسه بالخلافة ولم

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 553).

(2)

منهاج السنة النبوية (4/ 585).

ص: 162

يخرج، بل قد بايعَ يزيد بن معاوية، فلمَّا دعا الناسَ لمبايعته استجابوا له حتى إنَّه حكم جميع بلاد المسلمين إلَّا الشام، وقيل إلَّا الأردن، فهو إذًا لم يخرج على حاكمٍ فاسق فلا يصحَّ نسبةُ هذا المذهب له.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ثم إنَّ ابنَ الزبير لما جرى بينه وبين يزيد ما جرى من الفتنة، واتَّبعه مَنْ اتَّبعه من أهل مكة والحجاز وغيرهما، وكان إظهارهُ طلبَ الأمر لنفسه بعد موت يزيد، فإنه حينئذ تَسمَّى بأمير المؤمنين، وبايَعهُ عامة أهل الأمصار إلَّا أهل الشام. ولهذا إنما تعدُّ ولايته من بعد موت يزيد، وأما في حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولًا، ثم بذلَ المبايعة له، فلم يرضَ يزيدُ إلَّا بأن يأتيه أسيرًا، فجرَتْ بينهما فتنة، وأرسل إليه يزيد من حاصرَهُ بمكة، فمات يزيدُ وهو محصور، فلما مات يزيدُ بايعَ ابنَ الزبير طائفةٌ من أهل الشام والعراق وغيرهم. وتولَّى بعد يزيد ابنُه معاوية بن يزيد، ولم تطُلْ أيامه، بل أقامَ أربعين يومًا أو نحوها، وكان فيه صلاحٌ وزهد، ولم يستخلف أحدًا، فتأمر بعده مروان بن الحكم على الشام، ولم تطُلْ أيامه، ثم تأمَّر بعده ابنه عبد الملك»

(1)

.

وقال ابن كثير: «ثم انبعثَ مسرفُ بن عقبة إلى مكة قاصدًا عبد الله بن الزبير ليقتله بها؛ لأنه فرَّ من بيعة يزيد، فمات يزيد بن معاوية في غضون ذلك، واستفحل أمرُ عبد الله بن الزبير في الخلافة بالحجاز، ثم أخذ العراق ومصر، وبويع بعد يزيد لابنه معاوية بن يزيد، وكان رجلًا صالحًا، فلم تطُلْ مدَّته؛ مكث أربعين يومًا، وقيل: عشرين يومًا. ثم مات رحمه الله، فوثب مروان بن الحكم على الشام فأخذَها، فبقي تسعة أشهر ثم مات، وقام بعده ابنه عبد الملك بن مروان»

(2)

.

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 522).

(2)

البداية والنهاية (9/ 246).

ص: 163

ثالثًا: خروج القراء على الحجاج في فتنة بن الأشعث:

يكتفى بالجواب عليها بالجواب المجمل المتقدِّم، وهو كافٍ؛ ثم يقال: إنَّ مَنْ بقيَ ندِمَ.

ذكرَ أيوبُ السختياني القراءَ الذين خرجوا مع ابن الأشعث فقال: لا أعلَمُ أحدًا منهم قُتل إلَّا قد رُغِبَ له عن مصرعه، ولا نجا فلم يُقتل إلَّا قد ندم على ما كان منه

(1)

.

قال ابن كثير: «ولهذا لما كانت هذه زلَّة وفلتة نشأ بسببها شرٌّ كبير هلكَ فيه خلقٌ كثير؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون»

(2)

.

الشبهة الحادية والثلاثون:

حاول بعضُهم أن ينسبَ القول بجواز الخروج على الحاكم الفاسق إلى أئمة المذاهب الأربعة، فقد نسبَهُ إلى أبي حنيفة معتمدًا على كلام الجصَّاص، وكذلك نَسبَ إلى مالك معتمدًا على نقولاتٍ ذكرَها ابنُ العربي ونسبَ القول بالخروج إلى الشافعي معتمدًا على كلام الزبيدي في شرحه على الإحياء، ونسب إلى الإمام أحمد معتمدًا على رواية أبي الفضل التميمي.

وكشفُ هذه الشبهة بأن يبيَّن بُطلانُ هذه النسبة لكلِّ واحدٍ من هؤلاء الأربعة:

(1)

الطبقات الكبرى (7/ 140).

(2)

البداية والنهاية (12/ 355).

ص: 164

1 -

أما أبو حنيفة:

فقد أنكر عليه السلف قولَهُ بالخروج على السلطان؛ قال الجصَّاص: «وكان مذهبهُ مشهورًا في قتال الظَّلمة وأئمة الجور؛ ولذلك قال الأوزاعي: «احتملْنا أبا حنيفة على كلِّ شيء حتى جاءنا بالسيف - يعني قتال الظلمة - فلم نحتمله» ، وكان من قوله وجوبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول، فإن لم يؤتمر له فبالسيف»

(1)

.

قال رجل لابن المبارك ونحن عنده: «إنَّ أبا حنيفة كان مرجئًا يرى السيف، فلم يُنكر عليه ذلكَ ابنُ المبارك»

(2)

.

وقال عبد الله بن أحمد: «سمعت أبا يوسف، يقول: كان أبو حنيفة يرى السيف، قلت: فأنت؟ قال: معاذ الله»

(3)

.

وقال الأوزاعي: «احتملنا عن أبي حنيفة كذا وعقد بأصبعه، واحتملنا عنه كذا وعقد بأصبعه الثانية، واحتملنا عنه كذا وعقد بأصبعه الثالثة العيوبَ، حتى جاء بالسيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما جاء بالسيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم نقدر أن نحتمله»

(4)

.

وعن أبي إسحاق الفزاري، قال:«كان أبو حنيفة مرجئًا يرى السيف»

(5)

.

(1)

أحكام القرآن (1/ 86).

(2)

السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 182).

(3)

السنة لعبدالله بن أحمد (1/ 182).

(4)

السنة لعبدالله بن أحمد (1/ 185).

(5)

السنة لعبدالله بن أحمد (1/ 207).

ص: 165

وبهذا يتبين أنَّ أبا حنيفة كان يرى هذا الرأي لكن لا ممسكَ في كلامه من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ أبا حنيفة رجع عن هذا القول كما في كتاب الفقه الأكبر.

فقد جاء فيه: «قلت لأبي حنيفة: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعهُ على ذلك ناس، فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمرَ الله تعالى ورسولهُ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا فريضة واجبة؟، فقال: هو كذلك، لكن ما يفسدونَ من ذلك أكثر مما يصلحون من سفك الدماء، واستحلالِ المحارم، وانتهاب الأموال، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، قلت: فنقاتلُ الفئة الباغية بالسيف؟ قال: نعم؛ تأمر وتنهى، فإن قَبل وإلَّا قاتلتَهُ، فتكون مع الفئة العادلة، وإنْ كان الإمام جائرًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا يضرُّكم جَورُ من جار، ولا عَدلُ منَ عدلَ، لكُم أجرُكُم وعليه وِزرُه»

(1)

.

ومما يدلُّ على تراجُعهِ أنَّ الطَّحاوي في عقيدته المشهورة نَسبَ لأبي حنيفة وصاحبَيه عدمَ جوازِ الخروج على الحاكم الفاسق.

الوجه الثاني: أنه لو استقر عليه لكان خطأً أنكَرهُ عليه سلفُ هذه الأمة، فلا يصحُّ الاستدلال بخطأ العالم وزلَّته. وهذا مثلُ خطئه في مسألة الإيمان لمَّا أخرجَ العمل منه.

(1)

الفقه الأكبر (ص: 108).

ص: 166

2 -

أما الإمام مالك:

فلم أرَ أحدًا نسب للإمام مالك القولَ بالخروج إلَّا ابن حزم، وأحد المعاصرين معتمدين على كلامٍ للإمام مالك في مسألتين: عدم صحَّة بيعة المكرَه، وعدم القتال مع الإمام الظالم على فئة بغَتْ عليه.

أما المسألة الأولى: فتقدَّم الكلام عليها

(1)

، وسيأتي عدمُ ثبوتها عنه

(2)

.

وأما المسألة الثانية: فيتَّضحُ المرادُ منه بنقل نصوصهِ ونصوصِ أصحابه.

قال ابن العربي: «قال علماؤنا في رواية سحنون: إنَّما يقاتَلُ مع الإمام العدل سواءٌ كان الأولَ أو الخارجَ عليه؛ فإن لم يكونا عدلَين فأمسِكْ عنهُما إلَّا أن تُرادَ بنفسكَ أو مالكَ أو ظُلمِ المسلمين فادفَعْ ذلك» .

ثم قال: «لا تقاتل إلَّا مع إمامٍ عادل يقدمه أهلُ الحقِّ لأنفسهم، ولا يكون إلَّا قرشيًّا، وغيره لا حكم له، إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي؛ قاله مالك؛ لأنَّ الإمامة لا تكون إلَّا لقرشي» .

وقد روى ابن القاسم، عن مالك:«إذا خرج على الإمام العدل خارجٌ وجبَ الدفعُ عنه، مثل عمر بن عبد العزيز، فأمَّا غيره فدَعْهُ ينتقمُ الله من ظالمٍ بمثلهِ ثم ينتقمُ من كلَيهما، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 5]» .

(1)

سبقت (ص: 129).

(2)

ص: 217.

ص: 167

قال مالك: «إذا بُويعَ للإمام، فقام عليه إخوانه قُوتلوا إذا كان الأولُ عدلًا، فأمَّا هؤلاء فلا بيعةَ لهم إذا كان بُويعَ لهم على الخوف. قال مالك: ولا بدَّ من إمامٍ برٍّ أو فاجر»

(1)

.

قال الدردير: «(فللعدل قتالهم، وإن تأوَّلوا) الخروجَ عليه لشبهةٍ قامت عندهم، ويجبُ على الناس معاونته عليهم، وأمَّا غيرُ العدل فلا تجبُ معاونته، قال مالك رضي الله عنه: دَعْهُ وما يُرادُ منه؛ ينتقم الله من الظالم بظالم، ثم ينتقم من كلَيهما.

كما أنَّه لا يجوز قتالُهم لاحتمال أن يكون خروجُهم عليه لفسقهِ وجَوره، وإن كان لا يجوز لهم الخروج عليه»

(2)

.

هذه النصوص من مالك والمالكية واضحة أنَّ كلام الإمام مالك في عدم المقاتلة مع مَنْ ليس عدلًا تجاه من خرج عليه.

وصرَّحَ أصحابُه بحُرمةِ الخروج؛ وسيأتي المزيد - إن شاء الله -، وليس في كلامه إشكال إلَّا في نقلِ سحنون: إنَّما يقاتل مع الإمام العدل سواءٌ كان الأولَ أو الخارج.

ونقلُ سحنون هذا مخالفٌ لباقي الروايات، ولكلام مالك الآخر لما قال: لابدَّ للناس من إمامٍ برٍّ أو فاجر. على ما سيأتي بيانه - إن شاء الله - فلأجلِ هذا لا يصحُّ لمنصفٍ أن يعوِّلَ على هذا النقل ويدَعَ باقيَ كلامه.

(1)

أحكام القرآن (4/ 153).

(2)

الشرح الكبير للشيخ الدردير (4/ 299).

ص: 168

ومما يدل على أنَّ الإمام مالكًا لا يرى الخروج أمور:

الأمر الأول: قول الإمام مالك: ولابدَّ من إمام برٍّ أو فاجر، فإقرارهُ بإمامة الفاجر يدلُّ أنه لايرى الخروجَ عليه.

الأمر الثاني: طريقة وهَدْيُ الإمام مالك مع حكَّام زمانه الذين عُرفوا بسفكِ الدماء

(1)

كأبي جعفر المنصور؛ فقد كان يعتقد لهم الإمامة بل ويدعوهُ بأمير المؤمنين، ولم يثبتْ أنه دعا للخروج عليهم.

قال الذهبي: «وقال موسى بن داود: سمعتُ مالكًا يقول: قدِمَ علينا أبو جعفر المنصور سنة خمسين ومائة، فقال: يا مالك! كثُرَ شيبُكَ!

قلت: نعم يا أمير المؤمنين، مَنْ أتتْ عليه السِّنونُ، كثُرَ شَيبهُ.

قال: ما لي أراك تعتمدُ على قول ابن عمر من بين الصحابة؟

قلت: كان آخرَ مَنْ بقيَ عندنا من الصحابة، فاحتاجَ إليه الناس، فسألوه، فتمسَّكوا بقوله»

(2)

.

الأمر الثالث: أنَّ مالكًا لو كان يقول بهذا القول لبيَّن ذلك أئمةُ السنة وأنكروه، كما أنكروا على غيره، فعدم إنكارهم عليه يدلُّ على أنه لم يقلْ بهذا القول.

الأمر الرابع: أنَّ أئمة السنة حكَوا الإجماعَ على عدم جواز الخروج؛ وأنه اعتقاد أهل السنة، ولم يذكروا مخالفة الإمام مالك؛ ولو كان مخالفًا لبيَّنوه؛ فإن للإمام مالك وأقواله المنزلةَ العالية والمكانة الرفيعة بينهم.

(1)

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء (ص: 422): «قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه

» اهـ.

(2)

سير أعلام النبلاء (8/ 112).

ص: 169

الأمر الخامس: أنَّ الإمام مالكًا يرى الخارجَ ظالمًا بفعله، لأنه قال:«ينتقمُ الله من ظالمٍ بمثله» ؛ فجعل الخارج ظالمًا.

الأمر السادس: أنَّ جمعًا من أئمة المالكية، وبعضُهم أئمةٌ في السُّنة حكوا الإجماعَ على عدم الخروج، ووجوب السمع والطاعة؛ ونسبوا ذلك لمالك، ولو كان مالكٌ مخالفًا لبيَّنوا ذلك.

قال ابن أبي زيد القيرواني: «والسمعُ والطاعة لأئمة المسلمين وكلِّ مَنْ وليَ أمرَ المسلمين عن رضى أو عن غلَبة، واشتدت وطأتهُ من برٍّ أو فاجرٍ فلا يُخرَجُ عليه، جارَ أو عدلَ.

ثم قال: وكلُّ ما قدَّمنا ذكرَهُ فهو قولُ أهل السُّنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيَّناه، وكلُّه قول مالك؛ فمنه منصوصٌ من قوله ومنه معلومٌ من مذهبه»

(1)

.

وتقدم نقلُ كلام ابن بطال المالكي، وأيضًا نقلُ ابن حجر عنه

(2)

، وقال ابن عبدالبر المالكي:«وأمَّا أهل الحق وهُم أهل السُّنة فقالوا: هذا هو الاختيار أن يكون الإمامُ فاضلًا عدلًا محسنًا، فإن لم يكن فالصبرُ على طاعة الجائرين من الأئمة أولى من الخروج عليه؛ لأنَّ في منازعته والخروج عليه استبدالَ الأمن بالخوف، ولأن ذلك يحملُ على هِراق الدماء، وشنِّ الغارات، والفساد في الأرض، وذلك أعظمُ من الصبر على جَوره وفسقهِ، والأصولُ تشهد والعقلُ والدينُ أنَّ أعظمَ المكروهَين أَولاهُما بالترك»

(3)

.

(1)

الجامع (ص: 116).

(2)

تقدم (ص: 41).

(3)

التمهيد (23/ 279).

ص: 170

3 -

أما الإمام الشافعي:

فقد رأيتُ بعض المعاصرين نسبَ إليه القول بالخروج معتمدًا على نقل الزبيدي والتفتازاني، وسيأتي الجواب عليهما

(1)

، مع أن كلام الزبيدي في الخلع لا في الخروج، ومما يدل على أنَّ الإمام الشافعي لا يرى الخروج أمور أربعة:

الأمر الأول: أن هذا لم يثبت عن الإمام الشافعي، ولم ينقله أحد عنه - سوى من تقدَّم - إلَّا ما سيأتي من كلام ابن حزم

(2)

.

الأمر الثاني: أنَّ من أئمة الشافعية مَنْ حكى الإجماع كالنووي، بل من أئمة السُّنة الشافعية كالمزني حكى إجماعَ السلف على العقيدة التي كتبها؛ فقال فيها:

«والطاعة لأولي الأمر فيما كان عندَ الله عز وجل مرضيًّا، واجتناب ما كان عند الله مسخطًا، وترك الخروج عند تعدِّيهم وجَورهم، والتوبة إلى الله عز وجل كيما يعطف بهم على رعيتهم»

(3)

.

ولو كان الشافعي مخالفًا لبيَّن ذلك ولعرَّفه.

الأمر الثالث: أن الشافعي لو كان يقول بهذا القول لبيَّن ذلك أئمة السُّنة وأنكروه، كما أنكرواعلى غيره، فعدم إنكارهم عليه يدلُّ على أنه لم يقل بهذا القول.

الأمر الرابع: أنَّ أئمة السُّنة حكوا الإجماع على عدم جواز الخروج وأنَّه اعتقادُ أهل السنة، ولم يذكروا مخالفة الإمام الشافعي؛ ولو كان مخالفًا لبيَّنوه، فإنَّ للإمام الشافعي وأقواله المنزلة العالية والمكانة الرفيعة بينهم.

(1)

سيأتي (ص: 182).

(2)

ص: 173.

(3)

شرح السنة (ص: 84).

ص: 171

4 -

أما الإمام أحمد:

فقد رأيتُ بعض المعاصرين نسبَ له القول بالخروج، وهذا من العجائب والغرائب، فكلام هذا الإمام في تقرير السمع والطاعة وعدم الخروج على أئمة الجور كثيرٌ للغاية، بل ونقلَ على ذلك إجماع السلف كما تقدم

(1)

.

والذي نسَبَ للإمام أحمد هذا القول اعتمدَ على نقل أبي الفضل التميمي في العقيدة الملحقة بذيل الطبقات

(2)

، وذلك في قوله عن عقيدة الإمام أحمد: من دعا منهم إلى بدعةٍ فلا تُجيبوه ولا كرامة، وإنْ قدرتُم على خلعهِ فافعلوا.

وهذا النقلُ لا يصحُّ أن يُنسَبَ للإمام أحمد لأربعة أمور:

الأمر الأول: أنه يخالف المشهور المعروفَ عن الإمام أحمد وعن العقيدة التي نقلَها عن السلف، وقد تقدَّم نقلُ بعض ذلك

(3)

.

الأمر الثاني: أنَّ نَقْل أبي الفضل التميمي لا يُعتمَدُ عليه فيما ينقلُه عن الإمام أحمد؛ لأن روايته عن أحمد منقطعة؛ ولأنه ينقلُها عن أحمد بالمعنى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكان من أعظَم المائلين إليهم - أي الأشاعرة - التميميون: أبو الحسن التميمي وابنُه وابنُ ابنهِ ونحوهم؛ وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر بن الباقلاني من المودَّة والصحبة ما هو معروف مشهور. ولهذا اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنَّفه في مناقب الإمام أحمد - لما ذكر اعتقاده - اعتمدَ على ما نقلَه من كلام أبي الفضل

(1)

تقدم (ص: 39).

(2)

(2/ 305).

(3)

تقدم (ص: 39).

ص: 172

عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي. ولهُ في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقادَ أحمد ما فهِمَهُ؛ ولم يذكر فيه ألفاظَه وإنما ذكرَ جملَ الاعتقاد بلفظِ نفسهِ وجعل يقول: وكان أبو عبد الله، وهو بمنزلة من يصنف كتابًا في الفقه على رأي بعض الأئمة، ويذكر مذهبه بحسب ما فهِمَهُ ورآه، وإن كان غيرُه بمذهب ذلك الإمام أعلمَ منه بألفاظه وأفهم لمقاصده»

(1)

.

أما الأمران الباقيان فهما الأمران المشتركان مع الإمام مالك والإمام الشافعي.

الشبهة الثانية والثلاثون:

أنه قد ذهب إلى الخروج جمعٌ كبير من أهل العلم بما يدلُّ على أنَّ إجماع السلف لم يستقرَّ كما عزاه لهم ابن حزم فقال: «وذهبت طوائفُ من أهل السُّنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أنَّ سلَّ السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفعُ المنكر إلَّا بذلك.

قالوا: فإذا كان أهل الحقِّ في عصابةٍ يمكنهم الدفع، ولا ييئسون من الظفر، ففرضٌ عليهم ذلك، وإن كانوا في عددٍ لا يرجون لقلَّتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعةٍ من تركِ التغيير باليد. وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكلُّ من معه من الصحابة، وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكلُّ من كان معهم من الصحابة، وقولُ معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو قولُ عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن ابن علي، وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار، والقائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين، وقولُ كلِّ من أقامَ على الفاسق الحجاج، ومَن والاه من

(1)

مجموع الفتاوى (4/ 167).

ص: 173

الصحابة رضي الله عنهم جميعهم كأنس بن مالك، وكل مَنْ كان ممَّن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعد وحنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله بن الشخير والنضر بن أنس وعطاء ابن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم، ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين، ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان، ومَن خَرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر، ومَن أخرج مع إبراهيم بن عبد الله، وهو الذي تدلُّ عليه أقوالُ الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حيّ وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم، فإنَّ كل من ذكرنا من قديمٍ وحديث إمَّا ناطقٌ بذلك في فتواه، وإمَّا الفاعلُ لذلك بَسلِّ سيفهِ في إنكار ما رآه منكرًا»

(1)

.

وكشفُ هذه الشبهة هو ببيان أنَّ الذين نسب لهم الخروج عامَّته لايصحُّ الاستدلالُ به، فإنه ما بين أن يكون قبل الإجماع فلا إشكال فيه، وتقدَّم الجواب عليه، أو أنهم فعلوا فعلًا ظنَّه ابنُ حزم خروجًا وليس كذلك، أو أخطأ في نسبته، فلا يعوَّل عليه، أو لم يخطئ في نسبته، لكنه مما أخذه السلف على مَنْ نُسِبَ إليه، مع كونه مخالفًا للنصوص.

(1)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 132).

ص: 174

ودونك بعض الأمثلة:

1 -

أخطأ ابن حزم في نسبة الخروجَ إلى علي وكلِّ من معه، وكذلك إلى معاوية وكلِّ من معه، فإن هؤلاء لم يخرجوا على حاكم، وإنَّما حصل الخلافُ بينهم في أمرٍ استغلَّه المندسون بين صفوفهم، ممن كان مريدًا للشرِّ فحصلت الفتنة، فليست صورة المسألة خروجًا ألبته.

2 -

أخطأ ابن حزم في نسبة الخروج إلى طلحة والزبير وعائشة، ففعلُهم ليس خروجًا على حاكم، وإنما خلافُهم بماذا يُبدأ به بعد قتل عثمان، ولم يكن لهم قصد في القتال.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإنَّ عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أنَّ في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبيَّن لها فيما بعد أنَّ تركَ الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبلَّ خمارها.

وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن يومَ الجمل لهؤلاء قصدٌ في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكَّنوا طلبوا قتلة عثمان أهلَ الفتنة، وكان علي غيرَ راضٍ بقتل عثمان ولا معينًا عليه، كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلتُ عثمان ولا مالأتُ على قتله، وهو الصادق البارُّ في يمينه، فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظنَّ طلحة والزبير أنَّ عليًّا حملَ عليهم، فحملوا دفعًا عن أنفسهم، فظنَّ علي أنهم حملوا عليه، فحمل

ص: 175

دفعًا عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة رضي الله عنها راكبة: لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال. هكذا ذكره غيرُ واحد من أهل المعرفة بالأخبار»

(1)

.

3 -

أخطأ ابن حزم في نسبة الخروج إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير - كما تقدم بيانه -

(2)

.

4 -

أخطأ ابن حزم في نسبة الخروج إلى مالك والشافعي - كما تقدم -

(3)

.

5 -

أخطأ ابن حزم في نسبة الخروج إلى أبي حنيفة، فتقدم أنه رجع عنه

(4)

.

6 -

ونسبةُ ابن حزم الخروج إلى الحسن البصري وطلق بن حبيب غريبٌ جدًّا.

فقد ثبت عن أبي التياح أنه قال: شهدتُ الحسن البصري حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهى عن الخروج على الحجاج ويأمر بالكفِّ

(5)

.

وقال بكر المزني: «لما كانت فتنة ابن الأشعث قال طلق: اتَّقوها بالتقوى»

(6)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكان الحسن البصري يقول: إنَّ الحجَّاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإنَّ الله تعالى يقول:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 316).

(2)

تقدم (ص 153، 162).

(3)

تقدم (ص: 167، 171).

(4)

تقدم (ص: 165).

(5)

طبقات ابن سعد (7/ 121).

(6)

السير (2/ 601)، وأخرجه البيهقي في الزهد الكبير (351).

ص: 176

وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى. فقيل له: أجمِلْ لنا التقوى. فقال: أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نورٍ من الله تخافُ عذاب الله. رواه أحمد وابن أبي الدنيا»

(1)

.

7 -

نسبته إلى الحسن بن صالح صحيحة

(2)

، لكن هذا مما أنكره السلف عليه كالثوري وزائدة بن قدامة والإمام أحمد.

وهكذا يقال فيمن نسب إليهم ممن هم بعد التابعين من أهل السنة.

فنخلص من هذا أنه لا يصح الاعتماد على ما نسبه ابن حزم لأهل العلم فيما تقدَّم نقلُه عنه.

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 529).

(2)

قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (2/ 285): «قال يحيى القطان كان الثوري سيِّء الرأي فيه؛ وقال أبو نعيم: دخل الثوري يوم الجمعة فإذا الحسن بن صالح يصلي فقال: نعوذ بالله من خشوع النفاق؛ وأخذ نعلَيه فتحوَّل، وقال أيضًا عن الثوري: ذاك رجل يرى السيف على الأمة، وقال خلَّاد بن زيد الجعفي: جاءني الثوري إلى ها هنا فقال: الحسن بن صالح مع ما سمعَ من العلم وفقه يترك الجمعة. وقال ابن إدريس: ما أنا وابن حي؟!، لا يرى جمعةً ولا جهادًا. وقال بشر بن الحارث: كان زائدة يجلس في المسجد يحذِّر الناس من ابن حي وأصحابه، قال: وكانوا يرون السيف. وقال أبو أسامة عن زائدة: أنَّ ابن حي استصلب منذ زمان وما نجد أحدًا يصلبه. وقال خلف بن تميم: كان زائدة يستتيب من الحسن بن حي. وقال علي بن الجعد: حدثتُ رائدة بحديثٍ عن الحسن فغضب وقال: لا حدثتك أبدًا» اهـ.

قال أبو يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 58): «قال المروذي: وسمعت أبا عبد اللَّه وذكر الحسن بن حي فقال: لا نرضى مذهبه وسفيان أحبُّ إلينا، وقد كان ابن حي قعد عَنِ الجمعة وكان يرى السيف، وقال: قد فتنَ الناس بسكوته وورعه» اهـ.

ص: 177

الشبهة الثالثة والثلاثون:

يردِّد بعضهم أنَّ الخروج مُنع لما يترتب عليه من المفاسد، فعلى هذا إذا تيقَّنا أو غلبَ على ظنِّنا أنَّ مصلحته راجحة، فإنه يجوز.

وكشف هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ النصوص متواترة ومتكاثرة في السمع والطاعة للحاكم المسلم الفاسق، والصبر على جَوره، فلا يجوز أن تُترك هذه النصوص وتُخالفَ لأمثال هذه المصالح المظنونة.

الوجه الثاني: أنَّ العبرة في الشريعة بالنظر إلى الغالب وأما النادر فلا حكم له، والغالبُ أنه يترتب على الخروج فساد أكبر من صلاحه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته»

(1)

.

وقال: «وكلُّ من خرج على إمامٍ ذي سلطان إلَّا كان ما تولَّد على فعلهِ من الشرِّ أعظمَ مما تولَّد من الخير؛ كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء.

وغاية هؤلاء إمَّا أن يَغلبوا وإمَّا أن يُغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة.

(1)

منهاج السنة النبوية (3/ 391).

ص: 178

فإنَّ عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وهُزم أصحابهم فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا؛ والله تعالى لا يأمر بأمرٍ لا يحصلُ به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا»

(1)

.

وهذا كمثل أن يقول قائل: قد حرَّمت الشريعة سفرَ المرأة بلا محرم؛ لسبب وهو أن لا يقع الزنى ومقدماته، وأنا متيقن أو يغلب على ظني أن لا يقع هذا في سفري مع هذه الأجنبية، فيقال: إنَّ هذا السفر محرَّم بالأدلة الواضحة، ثم إنَّ العبرة بالغالب والنادر لا حكم له.

قال الإمام ابن القيم: «الشرائع العامة لم تُبنَ على الصور النادرة»

(2)

.

وبقراءة كتاب مختصر؛ ككتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي تظهر أمثلة تدلُّ على مفاسد الخروج (الثورة)؛ وهذان مثالان:

المثال الأول: وقعة الحرة:

قال السيوطي: «وفي سنة ثلاث وستين بلغه أنَّ أهل المدينة خرجوا عليه وخلعوه، فأرسل إليهم جيشًا كثيفًا وأمرهم بقتالهم، ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير، فجاءوا وكانت وقعة الحرة على باب طيبة، وما أدراك ما وقعة الحرة؟، ذكرَها الحسن مرة فقال: واللهِ ما كاد ينجو منهم أحد، قُتل فيها خلقٌ من الصحابة رضي الله عنهم ومن غيرهم، ونُهبت المدينة، وافتُضَّ فيها ألف عذراء، فإنا لله وإنا إليه

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 527).

(2)

إعلام الموقعين (3/ 217).

ص: 179

راجعون»

(1)

.

المثال الثاني: قتل المنصور جماعة كثيرة من آل البيت:

قال السيوطي: «وفي سنة خمس وأربعين كان خروجُ الأخوَين محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فظفر بهما المنصور فقتلهما وجماعة كثيرة من آل البيت، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان المنصور أول من أوقعَ الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانوا قبلُ شيئًا واحدًا، وآذى المنصور خلقًا من العلماء ممن خرج معهما أو أمرَ بالخروج قتلًا وضربًا وغير ذلك»

(2)

.

تنبيه:

تُطرح هذه الشبهة بأسلوب آخر؛ وهو أنَّ هناك ثورات نجحت؛ فإذن لا تحرم جميع الثورات!، وجلُّ هؤلاء يقيسون النجاح بأمورٍ دنيوية وبعضُها محرمة كالتوسُّع في الحريات والتحاكم للديمقراطية، غير ملتفتين إلى ما تخلفه الثورات من مصائب عظيمة، ثم يقال: إذا كان هناك من نجح فهناك الأكثر والأكثر فشل؛ فلا يصح أن نجعل أمن الناس وأعراضهم ودماءهم مجالًا للتجارب.

الشبهة الرابعة والثلاثون:

قرر بعض المعاصرين جوازَ عزل الحاكم لفسقهِ متمسِّكًا ببعض النقولات عن بعض أهل العلم المتأخرين الذين جاءوا بعد السلف.

(1)

تاريخ الخلفاء (ص: 158).

(2)

تاريخ الخلفاء (ص: 194).

ص: 180

وكشف هذه الشبهة وبيان أنها مردودة من أوجه:

الوجه الأول: ما تقدم

(1)

من الأدلة الدالة على السمع والطاعة للولاة ولو فسقوا في غير معصية الله، فدلَّ على حرمة عزله؛ لأنَّ العزل ينافي السمع والطاعة.

الوجه الثاني: ما تقدم

(2)

من إجماعات أهل السنة على السمع والطاعة للولاة في غير معصية الله ولو فسقوا، وتقريرهم له في كتب الاعتقاد يدلُّ على عدم جواز عزلِ الحاكم لفسقهِ بإجماعهم.

الوجه الثالث: الإجماع.

أجمع العلماء على حُرمة عزلِ الحاكم لفسقه.

قال النووي: «وأجمع أهل السُّنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل - وحكي عن المعتزلة أيضًا - فغلطٌ من قائلهِ مخالفٌ للإجماع»

(3)

.

وأيضًا يدل على الإجماع ما نقلَهُ النوويُّ عن أبي بكر بن مجاهد

(4)

.

وقال ابن الهمام: «واتفقوا في الإمرة والسلطنة على عدم الانعزال بالفسق لأنها مبنيَّة على القهر والغلبة»

(5)

.

ويدلُّ على هذا الإجماع الدليلان السابقان.

(1)

تقدم (ص: 35).

(2)

تقدم (ص: 39).

(3)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 229).

(4)

تقدم (ص: 152).

(5)

فتح القدير (7/ 254).

ص: 181

الشبهة الخامسة والثلاثون:

ذكر بعضهم أنَّ الشافعي يرى عزلَ الحاكم لفسقهِ، وتمسكَ بما نسبه إليه الزبيديُّ من جواز خلعِ الحاكم لفسقه، فقال:«أما الفسقُ فقد اختُلف فيه على قولين، فالذي عليه الجمهور أنه لا ينعزل به؛ لأن ذلك قد تنشأ عنه فتنة أعظَمُ من فسقه، وذهبَ الشافعي في القديم إلى أنه ينعزل»

(1)

.

وبما ذكر التفتازاني عند قول أبي حفص: «ولا ينعزل الإمام بالفسق والجور: أي بالخروج عن طاعة الله تعالى (والجور) أي الظلم على عباد الله تعالى، لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين؛ والسلفُ قد كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجُمَعَ والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروجَ عليهم لأن العصمة ليست بشرطٍ للإمامة ابتداءً؛ فببقاء أولى.

وعن الشافعي أنَّ الإمام ينعزل بالفسق والجور، ثم قال: والمسطور في كتب الشافعية أن القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام. والفرقُ أن في انعزالهِ ووجوب نصب غيره إثارةً للفتنة؛ لما له من شوكة؛ بخلاف القاضي»

(2)

.

وجواب هذه الشبهة: هو بيان أنه لا يصحُّ الاعتماد على هذا الكلام في نسبته للشافعي من أوجه:

الوجه الأول: أنه مذهب الشافعي في القديم لا في الجديد، فدلَّ هذا على أنه رجع عنه، فكيف يُنسب قولٌ لعالم وقد رجع عنه.

(1)

إتحاف السادة المتقين (2/ 233).

(2)

شرح العقائد النسفية (ص: 338).

ص: 182

الوجه الثاني: أن النووي مع سَعةِ اطِّلاعه ومعرفته بمذهب الشافعي والشافعية لم ينسِبْ هذا القول للشافعي، بل نسبَهُ لبعض المتأخرين من الشافعية، وبيَّن أنهم محجوجون بالإجماع السابق. وتقدَّم نقلُ كلامه

(1)

.

الوجه الثالث: لم أر أحدًا نسبَ هذا القول للإمام الشافعي - غير ما سبق - من ابن حزم

(2)

والتفتازاني

(3)

، ومن المعلوم أنَّ الشافعي إمامٌ اعتنى الناسُ بأقوالهِ، فلو كان قولًا له لتناقلوه وبيَّنوه.

الوجه الرابع: أن أئمة السُّنة حكوا إجماعَ السلف على السمع والطاعة للحاكم المسلم ولو فسقَ وجار، وممن حكى ذلك بعضُ الشافعية كما تقدَّم

(4)

، ولم يستثنوا الشافعي ولو في القديم.

فهذه الأوجه الأربعة تُبين عدمَ صحَّة نسبة هذا القول للإمام الشافعي.

الشبهة السادسة والثلاثون:

أنه لا يصحُّ أن يُقتل من لم يبايع حاكمًا معينًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«وأمَّا القتال لمن لم يخرج إلَّا عن طاعة إمام معين فليس في النصوص أمرٌ بذلك»

(5)

فيتركون ليقوموا بالمظاهرات والتشكيك في الولاية وهكذا

(1)

تقدم (ص: 152).

(2)

تقدم (ص: 173).

(3)

تقدم (ص: 182).

(4)

تقدم (ص: 41).

(5)

(4/ 451).

ص: 183

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن كلام الإمام ابن تيمية حق وهو تحديدًا في عدم قتال من لم يبايع حاكمًا معينًا فحسب لكن لابد من معرفة ما يلي:

أولًا أن كلامه على قتالها لا على عدم تأثيمها وأنها عاصية لعدم بيعة حاكمها؛ فلا تلازمَ بين عدم القتال و عدم التأثيم؛ بل هي آثمة لأحاديث وجوب بيعة الحاكم.

قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خلعَ يدًا من طاعة، لقيَ الله يومَ القيامة لا حجَّة له، ومَن ماتَ وليس في عُنقه بيعة، ماتَ ميتةً جاهلية»

(1)

، فلهذا إذا لم تبايع جماعة أو فردٌ سلطانَهُم وحاكمَهُم فهم آثمون.

وعجبًا كيف يبلغ الهوى بصاحبه يُسهِّل ارتكابَ الإثم والمعصية بعدم بيعةِ الحاكم بحجَّة أنه لا يقاتل! إذن فليُسهّل في كلَّ ذنبٍ لا قتلَ فيه؛ كالربا وزنى غير المحصن وهكذا

!!

ثانيًا/ أن عدم قتال من لم يبايع لا يعني يسمح له في دعوة الناس للافتيات على الولاية وهكذا

ثالثًا/ أن عدم قتال من لم يبايع لا يعنى يسمح لهم بالمظاهرات بل يمنعون من ذلك بالقوة.

تنبيه:

ليس لكلام شيخ الإسلام هذا علاقةٌ في تجويز الخروج - كما يظنُّ بعضهم - لما تقدم أنَّ كلامه في عدم قتال من لم يبايع فقط لا أنَّه في عدم قتال مَنْ خرج؛ فقد قرَّر أنه يقاتل

(2)

، ثم إنَّ كلامه كثيرٌ في عدم جواز الخروج على الحاكم الفاسق، وأنه خلافُ منهج أهل السنة

(3)

.

ص: 184

الشبهة السابعة والثلاثون:

أنه لا يصحُّ قتلُ الذين يباشرون الخروجَ على الحاكم من أهل عصرِنا، لأنهم ليسوا خوارج فهم لا يعتقدون عقيدة الخوارج في التكفير بكلِّ كبيرة.

وهذه شبهة يردِّدها بعضُ المعاصرين؛ وهي مبنيَّة على حصول خلْطٍ عند بعضِهم في مفهوم الخارجي.

وكشفُ هذه الشبهة: يكون بمعرفة‌

‌ ضابطِ الخارجيِّ،

وأنه لا يُشترط فيه أن يكفِّر بكلِّ تكبيرة، بل لو كفَّر بغير مكفِّرٍ واحدٍ فهو خارجي.

وهذا يتوافقُ مع حال الخوارج الذي خرجوا على علي رضي الله عنه، فلم يكفِّروا بكلِّ كبيرة، وإنما كفَّروا في أمرٍ واحد غيرِ مكفِّر؛ وهو زعمُهم أنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه تركَ تحكيمَ كتاب الله، وزعمُهم هذا كذبٌ؛ ثمَّ حكمُهم باطل لأنه مبني على كذبٍ؛ فصاروا خوارج لتكفيرهم بغير حق.

وإن كان بعد ذلك تفرَّق الخوارج فِرَقًا وتبنَّوا عقائد أخرى بحسب فرقهم؛ فمنهم مَنْ أنكرَ السُّنة، ومنهم من أنكر الحوض والصراط وهكذا

لكن بدعتُهم في الأصل التكفير بما ليس مكفرًا.

قال ابن قدامة: «الثالث: الخوارج الذين يكفِّرون بالذنب»

(1)

.

وقال أيضًا: «وإذا أظهرَ قومٌ رأيَ الخوارج، مثل تكفير من ارتكب كبيرة»

(2)

.

وقال الزركشي: «الخوارج الذين يكفرون بالذنب»

(3)

.

(1)

المغني (8/ 524).

(2)

المغني (8/ 530).

(3)

شرح الزركشي على مختصر الخرقي (6/ 218).

ص: 185

وقال النووي: «الخوارج صنفٌ من المبتدعة يعتقدون أنَّ من فعل كبيرةً كفرَ وخلد في النار»

(1)

.

وقول ابن قدامة والزركشي بالذنب يدخلُ فيه ولو ذنبًا واحدًا، ومثله كلام النووي لما قال كبيرة.

ومثله ما سيأتي نقله عن ابن تيمية.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا عُرِفَ أصلُ البدع فأصلُ قول الخوارج أنهم يكفرونَ بالذنب، ويعتقدون ذنبًا ما ليس بذنب، ويرون اتِّباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب - وإن كانت متواترة - ويكفِّرون من خالفهم ويستحلُّون منه لارتدادهِ عندهم ما لا يستحلُّونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «يَقتلونَ أهلَ الإسلام ويدَعون أهل الأوثان»

(2)

، ولهذا كفَّروا عثمان وعليًّا وشيعتهما؛ وكفَّروا أهلَ صفين - الطائفتين - في نحو ذلك من المقالات الخبيثة»

(3)

.

وقال أيضًا: «ولهم خاصَّتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمَّتهم: أحدُهما: خروجُهم عن السنة وجعلُهم ما ليس بسيئةٍ سيئةً أو ما ليسَ بحسنةٍ حسنةً، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: اعِدِلْ فإنك لم تعدل؛ حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ويلكَ؛ ومَن يعدل إذا لم أَعدل؟ لقد خِبْتُ وخسرتُ إن لم أعدل»

(4)

.

فقوله: فإنك لم تعدل جعلَ منه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم سفهًا وتركَ عدلٍ، وقوله:

«اعدل» أمرٌ له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح.

(1)

روضة الطالبين (10/ 51).

(2)

أخرجه البخاري (3344) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

مجموع الفتاوى (3/ 355).

(4)

أخرجه البخاري (6163) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 186

ثم قال: الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفِّرون بالذنوب والسيئات؛ ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلالُ دماء المسلمين وأموالهم، وأنَّ دار الإسلام دارُ حرب، ودارهم هي دار الإيمان»

(1)

.

وقال: «فمن جعلهم بمنزلة البغاة المتأوِّلين جعلَ فيهم هذين القولين. والصوابُ أن هؤلاء ليسوا من البغاة المتأولين؛ فإنَّ هؤلاء ليس لهم تأويلٌ سائغٌ أصلًا، وإنما هم من جنس الخوارج المارقين، ومانعي الزكاة، وأهل الطائف والخرمية ونحوهم ممَّن قوتلوا على ما خرجوا عنه من شرائع الإسلام»

(2)

.

وقال: «ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أنَّ قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ كقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين = فهو غالطٌ جاهلٌ بحقيقة شريعة الإسلام وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها. فإنَّ هؤلاء لو ساسوا البلاد التي يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكًا كسائر الملوك؛ وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنَّتهِ شرًّا من خروجِ الخوارج الحرورية، وليس لهم تأويل سائغ؛ فإنَّ التأويل السائغ هو الجائزُ الذي يُقَرُّ صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب، كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الاجتهاد. وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع ولكن لهم تأويلٌ من جنس تأويل مانعي الزكاة والخوارج واليهود والنصارى»

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (19/ 72).

(2)

مجموع الفتاوى (28/ 548).

(3)

مجموع الفتاوى (28/ 486).

ص: 187

تنبيه:

لا تلازم بين مباشرة الخروج عمليًّا، وأن يكون الرجلُ خارجيًّا، فقد يكون الرجلُ خارجيًّا، وإنْ لم يخرج عمليًّا، وهؤلاء الذين سمَّاهم السلف بالقعدية؛ وهم الذين يرونَ رأيَ الخوارج ولا يباشرون الخروج.

قال أبو محمد عبد الله بن محمد الضعيف: قُعَّدُ الخوارج هم أخبثُ الخوارج

(1)

.

وقال الأزهري: «والقَعَديُّ من الخوارج: الذي يرى رأيَ القُعَّد الذين يرون التحكيم حقًّا؛ غير أنهم قعدوا عن الخروج على الناس»

(2)

.

وقال ابن حجر: «والقعدية قومٌ من الخوارج كانوا يقولون بقولهم ولا يرون الخروج، بل يُزيِّنونهُ، وكان عمران داعيةً إلى مذهبه، وهو الذي رثى عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه بتلك الأبيات السائرة»

(3)

.

الشبهة الثامنة والثلاثون:

أنه ليس كلُّ من خرج على حاكم فإنه يكون خارجيًّا؛ لأن منهم من لا يُكفِّر هذا الحاكمَ، ومن ليس خارجيًّا فلا يصح قتاله؟!.

وكشفُ هذه الشبهة أن يقال: إنه ليس كلُّ من خرج على حاكم فإنه يكفِّره لكن ليس القتالُ محصورًا على الخوارج؛ بل إنَّ القتال أيضًا لكلِّ خارجٍ على الحاكم ولو لم يكفِّره؛ لدلالة الأدلة الشرعية على ذلك، ولأنه مفسد في الأرض.

(1)

مسائل الإمام أحمد (ص: 362)، رواية أبي داود.

(2)

تهذيب اللغة (1/ 139).

(3)

هدي الساري (432).

ص: 188

والمباشرون لفعل الخروج على السلطان أقسام؛ منهم من يكفِّره بكبيرة فيكون خارجيًّا، ومنهم من يخرجُ عليه تديُّنًا لفسقه بلا تكفير، فيبدَّع ويضلَّل ويحذَّر منه وليس خارجيًّا، كما فعل ذلك أئمة السنة كسفيان الثوري والإمام أحمد مع الحسن ابن صالح، بل ونقل الإمام أحمد إجماعَ السلف على هذا.

قال الإمام أحمد: «ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقرُّوا له بالخلافة بأيِّ وجهٍ كان بالرضا أو الغلبة، فقد شقَّ هذا الخارجُ عصا المسلمين، وخالفَ الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتةً جاهلية، ولا يحلُّ قتال السلطان، ولا الخروج عليه لأحدٍ من الناس، فمَن فعلَ ذلك فهو مبتدعٌ على غير السنة والطريق»

(1)

.

ومنهم من يخرج لحظٍّ دنيوي، فهؤلاء يقاتَلون؛ لأنهم مفسدون في الأرض، وليس لأنهم خوارج.

قال عرفجة بن شريح الأشجعي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«مَنْ أتاكُم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحد، يريدُ أن يشقَّ عصاكُم، أو يفرِّق جماعتكُم، فاقتلوه»

(2)

.

ودونكَ ما بُيِّن من كلام أهل العلم أنَّ القتال ليس خاصًّا بالخوارج:

قال ابن قدامة: «والخارجون عن قبضة الإمام، أصنافٌ أربعة، ثم قال: الصنفُ الرابع: قومٌ من أهل الحق، يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعَهُ لتأويلٍ سائغ، وفيهم منعةٌ يحتاج في كفِّهم إلى جمعِ الجيش، فهؤلاء البغاة، الذين

(1)

أصول السنة (ص: 45).

(2)

سبق تخريجه (ص: 161).

ص: 189

نذكر في هذا الباب حكمَهُم، وواجبٌ على الناس مَعونةُ إمامهم في قتال البغاة؛ لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأنهم لو تَركوا معونته، لقهرَهُ أهلُ البغي، وظهرَ الفساد في الأرض»

(1)

.

وقال أيضًا: «وإن سَبُّوا الإمامَ أو غيره من أهل العدل، عُزِّروا؛ لأنهم ارتكبوا محرَّمًا لا حدَّ فيه. وإن عرضوا بالسَّب، فهل يُعزَّرون؟ على وجهين.

وقال مالك في الإباضية، وسائر أهل البدع: يُستتابون، فإن تابوا، وإلَّا ضُربت أعناقهم.

قال إسماعيل بن إسحاق: رأى مالك قتلَ الخوارج وأهلِ القدر، من أجل الفساد الداخل في الدين، كقُطَّاع الطريق، فإنْ تابوا، وإلَّا قُتلوا على إفسادهم، لا على كُفرهم

»

(2)

.

وقال النووي: ««فإذا لقيتُموهُم فاقتلُوهم فإنَّ في قتلهِم أجرًا»

(3)

، هذا تصريحٌ بوجوب قتال الخوارج والبغاة وهو إجماعُ العلماء، قال القاضي أجمعَ العلماء على أنَّ الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خرجوا على الإمام وخالفوا رأيَ الجماعة وشقُّوا العصا وجبَ قتالُهم بعدَ إنذارِهم والاعتذارِ إليهم؛ قال الله تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، لكن لا يُجهَز على جريحهم ولا يُتبع منهزمُهم ولا يُقتل أسيرُهم ولا تُباح أموالُهم؛ وما لم يخرجوا عن الطاعة وينتصبوا للحرب لا يُقاتَلون بل يُوعَظون ويُستتابون من بدعتهم وباطلهم؛

(1)

المغني (8/ 523).

(2)

المغني (8/ 530).

(3)

أخرجه البخاري (3611)، ومسلم (1066) من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 190

وهذا كلُّه ما لم يكفروا ببدعتهم»

(1)

، ونقل أبوزرعة العراقي كلام النووي وأقرَّه.

وأفاد شيخُ الإسلام ابن تيمية أنَّ الذين يجب أن يُقاتَلوا وإن كانوا مسلمين - سابقًا أو لا زالوا - ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: المرتدون فقد كانوا مسلمين فكفروا.

الصنف الثاني: أهل البدع كالخوارج.

الصنف الثالث: المفسدون في الأرض؛ ومنهم الخارجون على السلطان يريدون منازعته في الولاية.

قال رحمه الله: «قد يُستدلُّ على أنَّ المفسدَ متى لم ينقطع شرُّه إلَّا بقتلهِ فإنه يُقتل: بما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أتاكُم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحد يريدُ أن يشقَّ عصاكُم أو يفرِّقَ جماعتكُم فاقتلوه»

(2)

، وفي رواية:«سَتكون هناتٌ وهنات، فمَن أرادَ أن يفرِّق أمرَ هذه الأمة وهي جميعٌ فاضربوهُ بالسَّيف كائنًا من كان»

(3)

»

(4)

.

وقال: «ولهذا كان أعدل الطوائف» أهل السنة: أصحاب الحديث، وتجدُ هؤلاء إذا أمروا بقتال مَنْ مرقَ من الإسلام أو ارتدَّ عن بعض شرائعه يأمرونَ أن يُسار فيه بسيرة علي في قتال طلحة والزبير؛ لا يُسبى لهم ذرية ولا يُغنم لهم مال ولا يُجهز لهم على جريحٍ ولا يُقتل لهم أسير، ويتركون ما أمرَ به النبي صلى الله عليه وسلم وسار به

(1)

شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 169).

(2)

سبق تخريجه (ص: 161).

(3)

أخرجه مسلم (1852).

(4)

مجموع الفتاوى (28/ 346).

ص: 191

علي في قتال الخوارج، وما أمر الله به رسوله وسار به الصديق في قتال مانعي الزكاة، فلا يجمعون بين ما فرق الله بينه من المرتدين والمارقين وبين المسلمين المسيئين؛ ويفرقون بين ما جمع الله بينه من الملوك والأئمة المتقاتلين على الملك وإن كان بتأويل. والله سبحانه وتعالى أعلم»

(1)

.

وقال أيضًا: «وهذه النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج قد أدخلَ فيها العلماء لفظًا أو معنًى مَنْ كان في معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين»

(2)

.

وقال أيضًا: «ثمَّ إن أهل المدينة يرون قتال مَنْ خرج عن الشريعة كالحرورية وغيرهم، ويفرَّقون بين هذا وبين القتال في الفتنة؛ وهو مذهب فقهاء الحديث، وهذا هو الموافقُ لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فإنه قد ثبت عنه الحديثُ في الخوارج من عشرة أوجهٍ خرَّجها مسلم في صحيحه وخرَّج البخاري بعضَها.

وقال فيه: «يحقرُ أحدُكم صلاته مع صَلاتهم، وصيامهُ مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآنَ لا يُجاوز حَناجرهم، يمرقونَ من الإسلام كما يمرقُ السَّهم من الرمية؛ أينما لقيتُموهم فاقتلُوهم، فإنَّ في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلَهُم يومَ القيامة» .

وقد ثبت اتفاقُ الصحابة على قتالهم، وقاتَلَهم أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر فيهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمِّنة لقتالهم، وفرحَ بقتلهم وسجدَ لله شكرًا لما رأى أباهم مقتولًا، وهو ذو الثدية؛ بخلافِ ما جرى يوم الجمل وصفين؛

(1)

مجموع الفتاوى (4/ 452).

(2)

مجموع الفتاوى (28/ 476).

ص: 192

فإنَّ عليًّا لم يفرح بذلك، بل ظهر منه من التألم والندم ما ظهر، ولم يُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ بل ذُكر أنه قاتل باجتهاده، فأهلُ المدينة اتبعوا السنة في قتال المارقين من الشريعة وترك القتال في الفتنة، وعلى ذلك أئمة أهل الحديث؛ بخلاف مَنْ سوَّى بين قتال هؤلاء وهؤلاء؛ بل سوَّى بين قتال هؤلاء وقتال الصديق لمانعي الزكاة، فجعل جميع هؤلاء من باب البغاة كما فعل ذلك من فعله من المصنفين في قتال أهل البغي؛ فإن هذا جمع بين ما فرَّق الله بينهما، وأهلُ المدينة والسنة فرَّقوا بين ما فرَّقَ الله بينه واتَّبعوا النصَّ الصحيح والقياس المستقيم العادل»

(1)

.

وقال: «وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام؛ بمنزلةِ مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلَهُم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولهذا افترقت سيرة علي رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة والشام وفي قتاله لأهل النهروان؛ فكانت سيرتُه مع أهل البصرة والشاميين سيرةَ الأخِ مع أخيه ومع الخوارج بخلاف ذلك.

وثبتت النصوصُ عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقرَّ عليه إجماعُ الصحابة من قتال الصديقِ وقتال الخوارج؛ بخلاف الفتنة الواقعة مع أهل الشام والبصرة؛ فإنَّ النصوص دلَّت فيها بما دلت والصحابة والتابعون اختلفوا فيها. على أن من الفقهاء الأئمة مَنْ يرى أنَّ أهل البغي الذين يجبُ قتالهم هم الخارجونَ على الإمام بتأويلٍ سائغ؛ لا الخارجون عن طاعته.

وآخرون يجعلونَ القسمَين بغاة؛ وبين البغاة والتتار فرق بين»

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (20/ 394).

(2)

مجموع الفتاوى (28/ 503).

ص: 193

وقال: «وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وغيره لم يكفِّروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء، وخرجوا عن الطاعة والجماعة، قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنَّ لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقَّكم من الفيء»

(1)

، ثم أرسل إليهم ابنَ عباس فناظَرَهُم فرجعَ نحو نصفهم، ثم قاتل الباقي وغلبهم، ومع هذا لم يسْبِ لهم ذرية، ولا غنمَ لهم مالًا، ولا سارَ فيهم سيرةَ الصحابة في المرتدين؛ كمسيلمة الكذاب وأمثاله، بل كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكرْ أحدٌ على على ذلك، فعُلم اتفاقُ الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام

»

(2)

.

فائدة:

تنازعَ العلماء على قولين في قتلِ الواحد من الخوارج؛ فذهب ابنُ تيمية أنه بمجرَّد اعتقادِه يُقتل ولو لم يباشر الخروج؛ وهو أحد قولي العلماء وبه قال أحمد في رواية، وهو الصواب؛ لأن عمر أراد قتل صبيغ بن عسل لو كان محلوقًا أي خارجيًّا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه يجوزُ قتلُ الواحد منهم؛ كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أينَما لَقيتمُوهم فاقتلُوهم»

(3)

، وقال: «لئنْ أدركتهُم

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 562).

(2)

منهاج السنة النبوية (5/ 241).

(3)

سبق تخريجه (ص: 190).

ص: 194

لأقتلنَّهم قتلَ عاد»

(1)

، وقال عمر لصبيغ بن عسل:«لو وجدتكَ محلوقًا لضربتُ الذي فيه عيناك»

(2)

.

ولأن علي بن أبي طالب طلبَ أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض، فإذا لم يندفع فسادُهم إلَّا بالقتلِ قُتلوا، ولا يجبُ قتلُ كلِّ واحدٍ منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدةٌ راجحة.

ولهذا تركَ النبي صلى الله عليه وسلم قتلَ ذلك الخارجي ابتداءً لئلَّا يتحدَّث الناس أن محمَّدًا يقتل أصحابه

(3)

، ولم يكن إذْ ذاك فيه فسادٌ عام؛ ولهذا ترك علي قتلَهم أولَ ما ظهروا؛ لأنهم كانوا خلقًا كثيرًا وكانوا داخلينَ في الطاعة والجماعة ظاهرًا لم يحاربوا أهل الجماعة، ولم يكن يتبين له أنهم هم»

(4)

.

الشبهة التاسعة والثلاثون:

أن المظاهرات تجوز على ولي الأمر لأنها ليست خروجًا، وإنما إعلامٌ بعدم الرضا على قرار معين.

وكشفُ هذه الشبهة بأن يقال: إنَّ المظاهرات محرَّمة شرعًا لأمور:

(1)

أخرجه البخاري (3344) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 371): «أخرجه ابن الأنباري من وجه آخر عن يزيد بن خصيفة، عن السّائب بن يزيد، عن عمر بسند صحيح، وفيه: فلم يزل صبيغ وضيعًا في قومه بعد أن كان سيّدا فيهم» اهـ.

(3)

أخرجه البخاري (4905)، ومسلم (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(4)

مجموع الفتاوى (28/ 499).

ص: 195

الأمر الأول: أنها مخالفة للأدلة وإجماع السلف الآمرة بالصبر على جَور الحاكم.

الأمر الثاني: أنها مخالفة للطريقة الشرعية في مناصحة الحاكم، وهي مناصحته أمامه - كما تقدم

(1)

-، وما كان كذلك فهو محرَّم.

الأمر الثالث: أنها وسيلة لم يتَّخذها السلفُ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع؛ فتكون بدعة - وقد تقدَّم بيان هذه القاعدة -

(2)

.

الأمر الرابع: أنها وسيلة للفوضى وزعزعة الأمن.

وتفصيل هذا في الرابط أدناه

(3)

.

الشبهة الأربعون:

أنَّ الصحابة قالوا لعمر: «واللهِ لو رأينا منك أمرًا ننكره لقوَّمناك بحدِّ سيوفنا، فهذا يدلُّ على أنَّ الخروج بالسيف جائز» .

وكشفُ هذه الشبهة أن يقال:

إني لم أقف على هذه القصة بسندٍ لا صحيحٍ ولا ضعيف، وإنما الذي رأيتُه ثابتًا هو أنَّ حذيفة قال: «دخلتُ على عمر وهو قاعدٌ على جذع في داره وهو

(1)

تقدم (ص: 40).

(2)

تقدم (ص: 52).

(3)

كتبت فيما سبق رسالة صغيرة في بيان حرمة المظاهرات، ورددت على بعض الشبهات واسمها «كشف شبهات مجوزي المظاهرات» .

http://islamancient.com/play.php?catsmktba=3073

وألقيت أيضًا درسًا صوتيًا بعنوان: المظاهرات في ميزان الشرع».

http://islamancient.com/play.php?catsmktba=922

ص: 196

يحدِّثُ نفسه، فدنوتُ منه، فقلت: ما الذي أهمَّكَ يا أمير المؤمنين، فقال: هكذا بيده - وأشار بها - قال: قلتُ: الذي يهمُّكَ واللهِ لو رأينا منك أمرًا ننكرهُ لقوَّمناك، قال: آللهِ الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمرًا تنكرونه لقوَّمتموه؟، فقلتُ: آللهِ الذي لا إله إلا هو لو رأينا منك أمرًا ننكره لقوَّمناك، قال: ففرح بذلك فرحًا شديدًا، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحابَ محمد من الذي إذا رأى مني أمرًا ينكره قوَّمني»

(1)

.

وليس فيها محلُّ الشاهد وهو التقويم بالسيف، فهو إذن محمولٌ على التقويم بالنصيحة على الطرق الشرعية. وهذا الفهمُ هو الذي تجتمع معه بقية الأدلة.

الشبهة الحادية والأربعون:

أنه يجوز الخروجُ بالسيف؛ لقول ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكنْ نبيٌّ قطُّ إلَّا كان له من أمته حَواريون، وأصحابٌ يتبعون أمره، ويهتدون بسنَّته، ثم يأتي من بعد ذلك أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون يغيِّرون السُّنن، ويُظهرون البدع، فمَن جاهدَهُم بيده، فهو مؤمن، ومَن جاهدَهُم بلسانه، فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقالُ حبَّة خردل»

(2)

.

فقوله: «فمن جاهدهم بيده» يدلُّ على الخروج بالسيف على الأمراء.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 99).

(2)

الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 213).

ص: 197

وكشفُ هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يفسِّر بعضُها بعضًا، فقد تقدَّمت الأدلة والإجماعُ على حرمة الخروج على السلطان

(1)

، فيُحمَل هذا الحديثُ على إنكار ما أتى به السلطان من المحرَّمات؛ مثل آلات الطرب؛ مع مراعاة المصالح والمفاسد.

قال ابن رجب: «وقد يُجاب عن ذلك بأنَّ التغيير باليد لا يستلزم القتال. وقد نصَّ على ذلك أحمد أيضًا في رواية صالح، فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح، وحينئذٍ فجهادُ الأمراء باليد أن يُزيلَ بيده ما فعلوه من المنكرات، مثل أن يُريقَ خمورهم أو يكسرَ آلاتِ الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك، وكلُّ هذا جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي وردَ النهيُ عنه، فإنَّ هذا أكثر ما يُخشى منه أن يُقتلَ الآمرُ وحده»

(2)

.

الوجه الثاني: أن المراد بهذا الحديث الأمم السابقة، فليس المرادُ به شريعتنا، كما قاله ابن الصلاح والنووي.

قال النووي: «على أنَّ هذا الحديث مَسوقٌ فيمن سبقَ من الأمم، وليس في لفظهِ ذكرٌ لهذه الأمة. هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو وهو ظاهر كما قال»

(3)

.

الوجه الثالث: أنه لما رأى الإمام أحمد ظاهرَ هذا الحديث مخالفًا للأحاديث الكثيرة في الصبر على جَور السلطان وظُلمه = ضعَّفَ هذا الحديث، وفعل مثلَه الأثرم.

(1)

تقدم (ص: 35، 39).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 248).

(3)

شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 28).

ص: 198

قال أحمد: «جعفر هذا هو أبو عبد الحميد بن جعفر، والحارث بن فضيل ليس بمحمود الحديث، وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود، ابن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصبروا حتى تلقوني»

(1)

.

وقال الأثرم: «وهذا عن ابن مسعود، وذاك عن ابن مسعود، وهذا أثبتَ الإسنادين، وهو موافقٌ للأحاديث، وذاك مخالف، ثم تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فكثرت عنه، وعن الصحابة والأئمة بعدَهم رضي الله عنهم يأمرون بالكف، ويكرهون الخروج، وينسبون مَنْ خالفهم في ذلك إلى فراق الجماعة، ومذهبِ الحرورية وتركِ السُّنة»

(2)

.

فائدة:

أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبيٍّ بعثهُ الله في أمةٍ قبلي إلَّا كان له من أمته حواريون، وأصحابٌ يأخذون بسُنَّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلفُ من بعدِهم خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدَهُم بيدهِ فهو مؤمن، ومَن جاهدَهُم بلسانهِ فهو مؤمن، ومَن جاهدَهُم بقلبهِ فهو مؤمن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خردل»

(3)

.

لم يضعِّف الإمام أحمد لفظَ مسلم لأنه ليس فيه ذِكرُ لفظ (أمراء) وإنما ضعَّفَ اللفظ الذي ذُكِرَ فيه الأمراء.

(1)

مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 419)، وانظر للاستزادة: السنة لأبي بكر بن الخلال (1/ 142)، وجامع العلوم والحكم (2/ 248).

(2)

ناسخ الحديث ومنسوخه (ص: 257).

(3)

أخرجه مسلم (50).

ص: 199

وصنيعُ ابن رجب في (جامع العلوم والحكم) يوهِمُ أنه يضعِّفُ لفظ مسلم وليس الأمر كذلك - والله أعلم - لأنَّ الحديث بدون لفظ الأمراء لا يخالف بقية الأحاديث.

الشبهة الثانية والأربعون:

أنه يجوز الخروج على الحاكم بالسيف لما أخرج موسى بن عقبة

(1)

قال عمر: «لن يعجز الناس أن يولوا رجلًا منهم، فإن استقامَ اتَّبعوه، وإن جنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليكَ لو قلت: إن تعوَّجَ عزلوه؟ فقال عمر: لا، القتل أنكَلُ لمن بعدَه» .

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: ضعفُ سند القصة فهي مرسلة لأن موسى بن عقبة لم يسمع عمر ولم يدرك زمنه.

الوجه الثاني: أن هذا الأثر من جهة الدراية مخالفٌ للثابت عن عمر في نصيحته لسويد بن غفلة؛ قال سويد بن غفلة: «قال لي عمر: يا أبا أمية؛ إني لا أدري لعلِّي أن لا ألقاكَ بعد عامي؛ هذا فاسمَعْ وأطِعْ وإنْ أمِّر عليك عبدٌ حبشيٌّ مجدَّع؛ إن ضربكَ فاصبر، وإن حرمكَ فاصبر، وإن أراد أمرًا ينتقصُ دينكَ فقل: سمعٌ وطاعةٌ ودمي دون ديني؛ فلا تفارق الجماعة»

(2)

.

(1)

كتاب المغازي (ص: 441).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 544) بإسناد صحيح.

ص: 200

الوجه الثالث: مخالفٌ للأدلة المتواترة في الصبر على جور الحاكم - وقد تقدم ذكرها -

(1)

.

الوجه الرابع: مخالف لإجماع أهل السنة ومعتقدهم - كما تقدم نقله -

(2)

.

الشبهة الثالثة والأربعون:

استدلَّ بعضُهم بما أخرج ابن شبة

(3)

: «أنه قد جاء الأشعث ومعه جماعة من أهل الكوفة إلى عمر يطلبون منه عزلَ سعد بن أبي وقاص أمير الكوفة، وبطل القادسية، وخال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزلَه عمرُ نزولًا عند رغبتهم، مع ثقته بسعد، ثم سألهم فقال: إذا كان الإمام عليكم فجارَ ومنعكُم حقَّكم وأساءَ صحبتكم؛ ما تصنعون به؟ قالوا: إنْ رأينا جَورًا صَبرنا، فقال عمر: لا واللهِ الذي لا إله إلا هو، لا تكونونَ شهداء في الأرض حتى تأخذوهم كأخذِهم إيَّاكم، وتضربوهم في الحقِّ كضربهم إيَّاكم وإلَّا فلا» ، فقالوا في هذا جواز الخروج بالسيف على الحاكم الجائر الظالم.

وكشفُ هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: ضعف سند القصة؛ وذلك أنَّ في إسنادها هارون بن عبد الله الحضرمي؛ لم يوثِّقه إلَّا ابن حبان بذكره في الثقات، وهذا لا يُعتبر توثيقًا لأنَّ ابن حبان متساهل جدًّا في المجاهيل. ولم أرَ أحدًا وثَّقه غيرهُ؛ فهو مجهولٌ جهالة حال.

(1)

تقدم (ص: 37).

(2)

تقدم (ص: 39).

(3)

تاريخ المدينة (3/ 816).

ص: 201

وفي الإسناد عفيف بن معدي كرب؛ فقد ذهبَ أبو حاتم وابن عبد البر والعجلي وغيرهم إلى أنه ليس صحابيًّا، ومن جعله صحابيًّا لم يأتِ ببيِّنة، وإذا لم يثبت أنه صحابي فهو مجهولٌ جهالة حال، وتوثيقُ العجلي لا يُعتمد عليه؛ لأنه في توثيق المجاهيل من التابعين أكثر تساهلًا من ابن حبان.

كما أفاده المعلمي في كتابه (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)؛ إذ قال:

«فابن حبان قد يذكر في (الثقات) من يجد البخاريَّ سمَّاه في (تاريخه) من القدماء وإنْ لم يعرف ما روى وعمَّن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدِّد وربما تعنَّت فيمن وجد في روايته ما استنكر وإن كان الرجل معروفًا مكثرًا؛ والعجليُّ قريبٌ منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد»

(1)

.

وقال في الأنوار الكاشفة: «وتوثيقُ العجلي وجدتُه بالاستقراء، كتوثيق ابن حبان أو أوسَعُ»

(2)

.

الوجه الثاني: أن هذا الأثر من جهة الدراية مخالف للثابت عن عمر - كما تقدم

(3)

- في نصيحته لسويد بن غفلة قال سويد بن غفلة: «قال لي عمر: يا أبا أمية إني لا أدري لعلِّي أن لا ألقاكَ بعد عامي هذا فاسمَعْ وأطِعْ وإن أمرِّ عليك عبدٌ حبشيٌّ مجدَّع؛ إن ضربكَ فاصبر، وإن حرمكَ فاصبر، وإن أراد أمرًا ينتقصُ دينك فقل: سمعٌ وطاعة ودمي دون ديني؛ فلا تفارق الجماعة» .

(1)

(1/ 255).

(2)

(1/ 68).

(3)

تقدم (ص: 154).

ص: 202

الوجه الثالث: أنه مخالف للأدلة المتواترة في الصبر على جَور الحاكم - وقد تقدم ذكرها

(1)

-.

الوجه الرابع: أنه مخالف لإجماع أهل السنة ومعتقدهم - كما تقدم نقله -

(2)

.

الشبهة الرابعة والأربعون:

أنَّ الطعن في الحاكم وولي الأمر، والكلام عليه، والتشهير بأخطائه داخلٌ تحت الاحتساب المطلوب شرعًا، والممدوح أهله.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إنَّ الاحتساب على الحاكم والسلطان مطلبٌ شرعي، لكن بالطرق الشرعية التي تقدَّم ذكرها

(3)

؛ وهي الإنكار عليه أمامه لا وراءه، فلا يصحُّ أن نسعى في فعلِ طاعةٍ بسلوك طريق معصية.

الشبهة الخامسة والأربعون:

أن أحمد بن نصر الخزاعي من أئمة السنة خرج على الواثق؛ لأنه مبتدع؛ وعلى إثرِ خروجهِ قتلَهُ الواثقُ فأثنى عليه أحمد بن حنبل وجمعٌ من الأئمة، فهذا يدلُّ على أنَّ الخروج ليس بدعةً ولا الخارج مبتدعًا.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أنه لم يثبت أنَّ قتل الإمام الكبير أحمد بن نصر الخزاعي كان

(1)

ص: 35.

(2)

تقدم (ص: 39).

(3)

تقدم (ص: 50).

ص: 203

لأجل الخروج؛ فقد روى القصة الخطيب في تاريخه

(1)

من طريق محمد بن يحيى الصولي قال: كان أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي من أهل الحديث، وكان جدُّه من رؤساء نقباء بني العباس، وكان أحمد وسهل بن سلامة - حين كان المأمون بخراسان - بايعا الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن دخل المأمون بغداد فرفق بسهل حتى لبس السواد، وأخذ الأرزاق، ولزم أحمدُ بيته، ثم إنَّ أمره تحرَّك ببغداد في آخر أيام الواثق، واجتمع إليه خلقٌ من الناس يأمرون بالمعروف إلى أن ملكوا بغداد

ثم حكاها.

وفي إسنادها محمد بن يحيى الصولي وهو لم يلْقَ زمن أحمد بن نصر الخزاعي؛ لأنَّ أحمد بن نصر توفي عام (231 هـ)

(2)

، والصولي عام (336 هـ)

(3)

، فبين وفاتهما أكثر

(4)

من مائة سنة، وليس في ترجمة الصولي أنه عمر طويلًا؛ ثم في ترجمته أنه روى عن أبي داود السجستاني؛ وهو في طبقة تلاميذ أحمد بن نصر، فهذا يدلُّ على أنه لم يدركه.

الوجه الثاني: تقدَّم إجماعُ أئمة السنة على تبديع من يخرج على السلطان، وممن حكى هذا الإجماع الإمام أحمد، فيبعد أن يثني عليه؛ لأنه قُتل لفعل بدعةٍ توجبُ تبديعه.

(1)

(5/ 384).

(2)

سير أعلام النبلاء (11/ 169).

(3)

تاريخ بغداد (4/ 202).

(4)

انظر: كتاب «تنبيهات على كتاب ظاهرة الإرجاء» لأخينا الشيخ أنيس المصعبي (ص: 23)، فقد تنبهت لهذا بعد النظر في كتابه النافع.

ص: 204

الوجه الثالث: أن قتله كان لأجل الصبر على القول بأن القرآن كلامُ الله غير مخلوق، وهذا الذي يتناسب مع ثناء الأئمة عليه، قال الذهبي:«قال ابن الجنيد سمعت يحيى بن معين يترحَّم عليه، وقال: ختمَ الله له بالشهادة، وقال: قال المروذي: سمعتُ أحمد بن حنبل ذكرَ أحمد بن نصر فقال: رحمه الله لقد جادَ بنفسه»

(1)

.

الشبهة السادسة والأربعون:

أنَّ الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب أئمة هدى وقد خرجا على الدولة العثمانية، ولو كان الخروج محرمًّا لما فعلاه.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: تقدم أنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب حكى الإجماعَ على حرمة الخروج، فالقول بالخروج يخالف الاعتقاد الذي كان يتبنَّاه ويدعو إليه.

قال في رسالة لأهل القصيم: «وأرى وجوبَ السمع والطاعة لأئمة المسلمين برِّهم وفاجرِهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمعَ عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفةً وجبتْ طاعته، وحَرُمَ الخروج عليه»

(2)

.

وقال: «الأصل الثالث: أنَّ من تمام الاجتماع، السمعَ والطاعة لمن تأمَّر علينا، ولو كان عبدًا حبشيًّا.

(1)

سير أعلام النبلاء (11/ 167، 168).

(2)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 33).

ص: 205

فبيَّن الله هذا بيانًا شافيًا كافيًا، بوجوهٍ من أنواع البيان شرعًا وقدرًا، ثم صار هذا الأصل لا يُعرف عند أكثر من يدَّعي العلم، فكيف العمل به؟!»

(1)

.

الوجه الثاني: أنه لا يقال خرج إلَّا لمن كان تحت حكمِ حاكم، ثم نزعَ يده من طاعته. وهذا خلافُ حال هذين الإمامين؛ فليسا تحت حكم الدولة العثمانية، فإنه ليس هناك ما يُثبت أنَّ دولة آل سعود في الدرعية يومذاك تحت حكم الدولة العثمانية أصلًا حتى يُقال إنهما خرجا عليها.

قال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: «لم يخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة العثمانية فيما أعلم وأعتقد، فلم يكن في نجد رئاسة ولا إمارة للأتراك، بل كانت نجد إمارات صغيرة وقرى متناثرة، وعلى كل بلدة أو قرية

- مهما صغرت - أمير مستقل .. وهي إمارات بينها قتال وحروب ومشاجرات، والشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخرج على دولة الخلافة، وإنما خرجَ على أوضاعٍ فاسدة في بلده، فجاهدَ في الله حقَّ جهاده وصابرَ وثابرَ حتى امتدَّ نورُ هذه الدعوة إلى البلاد الأخرى»

(2)

.

الوجه الثالث: ومما يؤكد أنَّ نجد اليمامة - بصفة عامة - ودولة آل سعود بالدرعية - بصفة خاصةٍ - ليست تحت إمارة الدولة العثمانية ما قاله الدكتور صالح العبود: «لم تشهد نجد على العموم نفوذًا للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها، ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارها حامية تركية في

(1)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 173).

(2)

محاضرة صوتية، بواسطة:«دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» (ص: 237).

ص: 206

الزمان الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية، فمن خلال رسالة تركية عنوانها (قوانين آل عثمان مضامين دفتر الديوان) - يعني قوانين آل عثمان في ما يتضمَّنه دفتر الديوان، ألَّفها يمين علي أفندي الذي كان أمينًا للدفتر الخاقاني سنة (1018 هـ) الموافقة لسنة (1609 م).

من خلال هذه الرسالة يتبيَّن أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري، كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى اثنتين وثلاثين إيالة، منها أربع عشرة إيالة عربية، وبلاد نجد ليست منها ماعدا الإحساء، إن اعتبرناه من نجد»

(1)

.

قال أمين سعيد: «ولقد حاولنا كثيرًا في خلال دراستنا لتاريخ الدولتين الأموية والعباسية، وتاريخ الأيوبيين، والمماليك في مصر، ثم تاريخ العثمانيين الذين جاءوا بعدهم وورثوهم، أن نعثر على اسم والٍ، أو حاكمٍ أرسله هؤلاء، أو أولئك أو أحدهم إلى نجد أو إحدى مقاطعتها الوسطى، أو الشمالية، أو الغربية أو الجنوبية، فلم نقع على شيء، مما يدلُّ على مزيدِ من الإهمال تحمل تبعته هذه الدول

على أنَّ الذي استنتَجْناه في النهاية هو أنهم تركوا أمرَ مقاطعات نجد الوسطى والغربية إلى الأشراف الهاشميين حكَّام الحجاز الذين جَرَوا على أن يشرفوا على قبائلها إشرافا جزئيًّا»

(2)

.

(1)

عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1/ 27)، بواسطة دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 235).

(2)

كتاب تاريخ الدولة السعودية (ص: 23)، بواسطة: دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 236).

ص: 207

الشبهة السابعة والأربعون:

أن القول بحُرمة الخروج كان فيه خلاف بين الصحابة ومن بعدهم ثم انعقد الإجماع، وأصحُّ القولين

(1)

أصوليًّا أنَّ الإجماع بعد الخلاف لا ينعقد، فعلى هذا لا ينعقد هذا الإجماع.

وكشف هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: حُكي خلافٌ بين أهل العلم في صحة الإجماع بعد الخلاف، وإن كان المعروف من كلام العلماء المتقدمين أنهم يجعلونه إجماعًا

(2)

، لكن لا يصحُّ أن يُتذرَّع بهذا على أن من لم يقرَّ بالإجماع على صحة الخروج فهو معذور؛ لأنه فرع عن هذه المسألة الأصولية، وذلك أنَّ إجماعَ أهل السنة الذي لم ينازع فيه أحد منهم، بل وتوارُدُهم على تبديع المخالف بإجماعهم مستثنى من ذكر الخلاف في هذه المسألة، بل قد يقال: إن إجماع أهل السنة في هذه المسألة يدل على صحة القول بأن الإجماع ينعقد بعد خلاف.

الوجه الثاني: أنه لا يسلَّم بوجود خلافٍ بين الصحابة في حكم الخروج على الحاكم الفاسق - كما تقدم

(3)

بالتفصيل - فيكون الإجماعُ منعقدًا قبل حصول الخلاف، وهو إجماع الصحابة.

(1)

لم أر القول بعدم انعقاد الإجماع منقولًا نقلًا صحيحًا عن أحدٍ من العلماء الأولين وإنَّما اشتهر به المتكلمون والمتأخرون، تقدم (ص: 128).

(2)

وأخطأ أبو يعلى لما نسب هذا القول لأحمد في رواية؛ وأول من لم يوافقه تلميذه أبو الخطاب.

(3)

كما تقدم (ص: 151 وما بعدها).

ص: 208

الشبهة الثامنة والأربعون:

أنَّ الخروج لا يسمَّى خروجًا حتى يكون بالسيف، أما الخروجُ بالمظاهرات والأقوال فلا يسمى خروجًا.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن المظاهرات محرَّمة، وهي على أقسام كما تقدم، وأقلُّ أحوالها سوءًا ما كان محرَّمًا، فمن ظاهرَ مكفِّرًا للحاكم بغير مكفر، فهو خارجيٌّ، ومن ظاهرَ لإسقاط الحاكم المسلم تديُّنًا فهو مبتدع، ومن ظاهرَ لإسقاط الحاكم لأجل الدنيا فهو مُفسِدٌ في الأرض يستحقُّ القتل - وكلُّ هذه الأقسام قد سبقَ ذِكرُها في موضع آخر -

(1)

.

ومَن ظاهرَ احتجاجًا على أخطاءٍ في الدولة إنْ كان بدافعٍ دنيوي ففعلُه محرَّم؛ لأنه خالف نصوصَ السمع والطاعة والصبر على جَور الحاكم، وإن كان بدافعٍ دينيٍّ فهو محرَّمٌ وبدعة.

وبمعرفة هذه الأقسام يتبين أن أقلَّ المظاهرات سوءًا ما كان محرَّمًا، فيكفي أن يكون أقلُّها محرَّمًا، ولو لم يُسمَّ خروجًا، فإنَّ المحرَّم يجبُ تركهُ وإنكاره.

(1)

كتبت فيما سبق رسالة صغيرة في بيان حرمة المظاهرات ورددت على بعض الشبهات؛ واسمها: كشف شبهات مجوزي المظاهرات.

http://islamancient.com/play.php?catsmktba=3073

وألقيت أيضًا درسًا صوتيًا بعنوان: المظاهرات في ميزان الشرع.

http://islamancient.com/play.php?catsmktba=922

ص: 209

الوجه الثاني: إن الرجل يكون خارجيًّا بدون إشهار سيف، وإنما بمجرَّد اعتقاده، ولو لم يخرج ويكون من الخوارج القعدية - كما تقدم بيانه

(1)

-، وهؤلاء يستحقون القتل لاعتقادهم عقيدة الخوارج.

الوجه الثالث: أن المظاهرات - وإن سُمِّيت سلمية - محرَّمة أيضًا؛ لما يترتَّبُ عليها من المفاسد، ولما تؤدي إليه من المفاسد؛ فهي تبدأ سلمية ثمَّ يصحبُها التخريبُ، ثم القتال مع المانعين من رجال الأمن وهكذا

الوجه الرابع: أن الكلام في ولي الأمر محرَّم، ولو كان باسم النصيحة، فإنَّ للنصيحة طُرقَها الشرعية - كما تقدم بيان هذه الطرق

(2)

-، وأنَّ مطلق الكلام محرَّم، فإنه يؤدي إلى الخروج العملي، فما من خروجٍ عملي إلَّا وسُبق بكلام مؤدٍّ إليه، وتقدَّم قولُ عبد الله بن عكيم أنه عدَّ ذكرَ مساوي عثمان إعانةً على دمه.

الشبهة التاسعة والأربعون:

أن حديث «مَنْ قُتل دونَ مالهِ فهو شهيد»

(3)

، عامٌ في مقاتلة السلطان وغيره، فيقاتَلُ السلطان إذا أرادَ أخذَ المال كما يُقاتَلُ غيره؛ وممن قرَّر هذا ابنُ حزم فقال بعد ذكر حديث «مَنْ قُتل دونَ مالهِ

»: «وهذا أبو بكر الصديق، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرَيان السلطان في ذلك وغيرَ السلطان سواء»

(4)

.

(1)

تقدم (ص: 188).

(2)

تقدم (ص: 50).

(3)

أخرجه البخاري (2480)، ومسلم (141) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

المحلى بالآثار (12/ 285).

ص: 210

وقبل كشف هذه الشبهة فالمرادُ بأثرِ أبي بكر هو كتابه الذي كتبه في الزكاة

- كما ذكره ابن حزم - ووجه الشاهد منه قول أبي بكر: «فمن سُئلها من المسلمين على وجهها فلْيُعطِها، ومن سُئلَ فوقها فلا يُعطَ»

(1)

.

والمراد بأثر عبد الله بن عمرو؛ ما أخرجه عبد الرزاق

(2)

أن معاوية أرسل إلى عاملٍ له أن يأخذ الوهط، فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو؛ فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل دون ماله مظلومًا فهو شهيد» . فكتب الأمير إلى معاوية أن قد تيسر للقتال، وقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من قُتل دون ماله فهو شهيد» . فكتب معاوية:

«أن خل بينه وبين ماله» .

ووجهُ الدلالة منه أنَّ عبد الله بن عمرو عملَ بعمومه في عامل السلطان.

وبعد أن تبيَّن مُراد ابن حزم بأثر أبي بكر وأثر عبد الله بن عمرو فأبدأ

- بحول الله - بكشف شبهة الاستدلال بأثر عبد الله بن عمرو؛ لأنه أكثر إشكالًا، ثم بأثر أبي بكر.

وكشف الاستدلال بأثر عبد الله بن عمرو من أوجه:

الوجه الأول: أن هذا الأثرمخالفٌ للأدلة العامة والخاصة الآمرة بالصبر على جَور الحاكم وظُلمه، والتي أجمعَ عليها أهل السنة، فهذه مقدمة على فهم عبد الله ابن عمرو.

(1)

أخرجة البخاري (1454).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (10/ 115).

ص: 211

الوجه الثاني: أن هذا الأثر مخالفٌ لأثر عمر.

قال سويد بن غفلة: «قال لي عمر: يا أبا أمية؛ إني لا أدري لعلِّي أن لا ألقاكَ بعد عامي هذا؛ فاسمَعْ وأطِع وإنْ أمِّر عليك عبدٌ حبشيٌّ مجدَّع؛ إنْ ضربكَ فاصبر، وإن حرمكَ فاصبر، وإن أراد أمرًا ينتقصُ دينك فقل: سمعٌ وطاعة ودمي دون ديني، فلا تفارق الجماعة»

(1)

، والفاروقُ خليفة راشد، فقولُه مقدَّم على غيره من غير الخلفاء الراشدين كعبد الله بن عمرو.

الوجه الثالث: أن قول عمر بن الخطاب مقدَّم - أيضًا - على قول عبد الله بن عمرو بن العاص للأدلة الكثيرة العامة والخاصة في الصبر على جَور الحاكم فهي مخصِّصة لحديث «مَنْ قُتل دونَ مالهِ فهو شهيد» فأَخرجت الحاكم من عمومه.

الوجه الرابع: أن العلماء مجمعون على عدم دخول الحاكم في حديث «مَنْ قُتل دونَ ماله

».

فقد ثبتَ عن ابنِ سيرين أنه قال في الخوارج: «ما علمتُ أحدًا كان يتحرَّجُ من قتلِ هؤلاء تأثُّمًا ولا من قتلِ من أراد مالك إلَّا السلطان؛ فإنَّ للسلطان لحقًّا»

(2)

.

وقال ابن المنذر: «والذي عليه أهلُ العلم أنَّ للرجل أن يدفع عمَّا ذكر إذا أُريد ظلمًا بغير تفصيل، إلَّا أنَّ كلَّ من يُحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان؛ للآثار الواردة بالأمر بالصَّبر على جَوره، وترك القيام عليه»

(3)

.

(1)

تقدم (ص: 154).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (10/ 119).

(3)

نقله ابن حجر في فتح الباري (5/ 124)، شرح ابن بطال (6/ 608) مختصرًا، وهو في الإشراف كما تقدم.

ص: 212

فهذا الإجماع يُبين خطأ عبد الله بن عمرو لمَّا عمَّم حديث: «من قُتل دون ماله فهو شهيد» . فإن الإجماع إذا انعقدَ بعد خلافٍ كشف القولَ الراجح من المرجوح.

فكيف يفزعُ منصفٌ لأثر عن صحابي واحد يخالف نصوصًا كثيرة خاصة وعامة، ويخالف فتاوى صحابة أخرين وإجماعات!!

أما الجوابُ على قول أبي بكر: «فمن سُئلها من المسلمين على وجهها فليُعطِها، ومن سُئل فوقَها فلا يُعط» ، فمن وجهين:

الوجه الأول: أنه لا إشكال في قول أبي بكر هذا لأنه في عدم إعطاء ما زادَ على الزكاة اختيارًا بغير حقٍّ للحاكم، وذلك عند سؤاله لما زاد من الزكاة، وليس في قوله رضي الله عنه ردُّ الحاكم بالقوة أو مقاتلتُه إذا أرادَ الزائد من الزكاة بالقوة، فإذًا لا وجه لإيراد ابن حزم له في هذا الصَّدد.

قال ابن حجر: «أي من سُئل زائدًا على ذلك في سنٍّ أو عددٍ فله المنع؛ ونقل الرافعي الاتفاقَ على ترجيحه؛ وقيل معناه فليمنع الساعي وليتولَّ هو إخراجَهُ بنفسه أو بساعٍ آخر، فإن الساعي الذي طلب الزيادة يكون بذلك متعديًا، وشرطُه أن يكون أمينًا، لكنْ محلُّ هذا إذا طلب الزيادة بغير تأويل»

(1)

.

الوجه الثاني: ليكن قوله - جدلًا - دالًّا على مقاتلة مَنْ أراد ما زادَ على الزكاة، فإنَّ قوله هذا عامٌّ والحاكمُ مخصوصٌ من هذا العام لسببين:

السبب الأول: الأدلة الخاصة الآمرة بالصَّبر على جَور الحاكم.

السبب الثاني: إجماعاتُ أهل السُّنة الآمرة بالصَّبر على جَور الحاكم.

(1)

فتح الباري (3/ 319).

ص: 213

الشبهة الخمسون:

أنَّ بعضَ الأدلة جوَّزت الخروجَ عند وجود المعصية من الحاكم؛ لما أخرجَ ابنُ حبان

(1)

عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمَعْ وأطِعْ في عُسرِكَ ويُسركَ ومنشطكَ ومكرهِكَ وأثَرةٍ عليك، وإنْ أكلوا مالك وضربوا ظهركَ إلَّا أن يكونَ معصية» بلفظ «إلَّا أن يكون معصية» ، وفي موضع آخر

(2)

بلفظ: «إلَّا أن تكون معصية لله بواحًا» ، وأخرجه أحمد بلفظ «ما لم يأمروك بإثمٍ بواحًا»

(3)

، فدلَّ هذا الحديث على أنه يخرج على الحاكم إذا كانت عنده معصية ظاهرة.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إنه لا تعارضَ بين ألفاظ حديث عبادة؛ فإنَّ المراد بالكفر المعصية، فلفظُ حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين:«إلَّا أن تروا كفرًا بواحًا»

(4)

، يفسِّر المعصية المذكورة في رواية ابن حبان وأنها الكفر الأكبر، فبهذا تتفق الألفاظ.

فإن قيل: لماذا لا يُحمل حديث «كفرًا بواحًا» على المعصية فيكون الكفر بالمعنى العامِّ فيشمل جميع المعاصي، ومنها ما هو دون الكفر الأكبر؟

فيقال: هذا لا يصحُّ لسببين:

السبب الأول: دلت الأحاديث على السمع والطاعة للحاكم ولو كان ظالمًا، أي عنده معاصٍ ظاهرة، قال ابن مسعود: قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترونَ بعدي

(1)

(10/ 425).

(2)

(10/ 428).

(3)

(5/ 321).

(4)

سبق تخريجه (ص: 35).

ص: 214

أثَرةً وأمورًا تنكرونها» قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدُّوا إليهم حقَّهم، وسَلُوا الله حقَّكم»

(1)

.

وقال عوف بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألَا مَنْ وليَ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصيةِ الله، فليكْرَهْ ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعَنَّ يدًا من طاعة»

(2)

.

السبب الثاني: آثار الصحابة وإجماعات أهل السُّنة التي تقدَّم ذكرها في حُرمة الخروج على الحاكم المسلم ولو كان فاسقًا ظالمًا.

فبهذا يتعيَّن عدمُ حمله على المعصية الظاهرة لا سيما وفي الحديث ذكر «وأثرة علينا» وهو الظلم، ومع ذلك أمرَ بالصبر ولم يجعله مسوِّغًا ومجوِّزًا للخروج مع أنَّ الظلم معصية.

الشبهة الحادية والخمسون:

أن الحكام ينابَذون ويقاوَمون لأجل المعصية؛ قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سيكون أمراءُ تعرفون وتنكرون، فمن نابذَهُم نجا، ومن اعتزَلَهم سَلِمَ، ومن خالَطهُم هلك»

(3)

.

وكشف هذه الشبهة وجوابها من أوجه:

الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف

(4)

، وضعَّفه الألباني روايةً ودرايةً فقال رحمه الله في السلسة الصحيحة:

(1)

سبق تخريجه (ص: 37).

(2)

سبق تخريجه (ص: 36).

(3)

صححه الألباني في صحيح الجامع، وعزاه لابن أبي شيبة والطبراني.

(4)

ضعَّفه العراقي في المغني (1/ 593) والهيثمي في المجمع (9156).

ص: 215

«(تنبيه): ثم وقفتُ على حديث يخالف ظاهرُه حديثَ عوف بن مالك الناهي عن منابذة الأئمة والحكام بالسيف، فرأيتُ أن أبيِّن حاله خشيَة أن يتشبَّث به بعضُ الجهلة من خوارج هذا الزمان، أو ممَّن لا علمَ عنده بهذا العلم الشريف وفقه الحديث، ألا وهو ما أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (11/ 39 - 40) من طريق الهياج بن بسطام عن ليث عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ:

«سيكونُ أمراءُ تعرفونَ وتنكرون، فمَن نابذَهُم نجا، ومن اعتزَلهم سَلِمَ، ومن خالَطَهُم هلك» .

وهذا إسناد ضعيف بمرة؛ ليث - وهو ابن أبي سليم - ضعيف مختلط، والهياج ابن بسطام - وهو الخراساني - متفق على ضعفه؛ بل اتَّهمه ابنُ حبان؛ فقال:

«يروي الموضوعات عن الثقات» ، وبه أعلَّه الهيثمي (5/ 228).

أقول: وهذا الحديث قد عزاه السيوطي لابن أبي شيبة أيضًا؛ يعني في (المصنف)، ولم أره فيه بعد البحث الشديد، فإن صحَّ إسناده عنده أو غيره كان لا بد من تأويل قوله:«نابذهم» أي: بالقول والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لا بالسيف؛ توفيقًا بينه وبين حديث عوف كما تقتضيه الأصول العلمية والقواعد الشرعية، وإن لم يصحَّ نبذناه لشدة ضعف إسناده. والله سبحانه وتعالى أعلم»

(1)

.

ومقتضى العدل والإنصاف: ألَّا يكتفي منصفٌ بكلام الألباني المختصر في صحيح الجامع، ويدع المفصل الموافق لبقية الأدلة وإجماع أهل السنة.

الوجه الثاني: أنه مخالف للأدلة المتواترة في الصَّبر على جَور الحاكم - وقد تقدم ذكرها -

(2)

.

(1)

سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 21).

(2)

تقدم (ص: 37).

ص: 216

الوجه الثالث: أنه مخالف لإجماع أهل السنة ومعتقدهم - كما تقدَّم نقله -

(1)

.

الوجه الرابع: أنه لو صحَّ لكان محمولًا على المنابذة بالقول على وجهٍ شرعي بأن ينكر عليهم أمامهم ليتفق مع باقي الأدلة - كما تقدم نقلُ كلام العلامة الألباني في الوجه الأول -.

قال المناوي: «(سيكون أمراء تعرفون) يعني ترضون بعضَ أقوالهم وأفعالهم لكونه في الجملة مشروعًا (وتنكرون) بعضَها لقُبحهِ شرعًا، (فمن نابذهم) يعني أنكرَ بلسانهِ ما لا يوافقُ الشرع (نجا) من النفاق والمداهنة (ومن اعتزلهم) مُنكِرًا بقلبه (سلم) من العقوبة على ترك المنكر

»

(2)

.

الشبهة الثانية والخمسون:

أنه قد استفتى أهلُ المدينة مالك بن أنس في الخروج مع ذي النفس الزكية فأفتاهُم مالك بالجواز؛ لأن بيعتهم لأبي جعفر المنصور كانت تحت الإكراه، ولا بيعةَ لمكرَه، فلما أفتاهم مالَ الناس مع محمد ذي النفس الزكية وبايعوه، وقاتلوا معه وقد عُذِّبَ مالك لهذا السبب. فإذا كان كذلك فهناك سلفٌ معتبر لمن أراد الخروجَ على الحاكم المتغلب.

(1)

تقدم (ص: 39)

(2)

فيض القدير (4/ 132).

ص: 217

وكشفُ هذه الشبهة من أوجه ثلاثة:

الوجه الأول: أخرج فتوى مالك ابن جرير في تاريخه

(1)

بإسناد فيه سعد بن عبد الحميد، وهو وإنْ كان مقبولًا لكن فيه ضغفٌ مما يتردَّد في قبول تفرُّداته، لذا قال ابن حبان:«كان ممن يروي المناكير عن المشاهير وممن فحُشَ وهمهُ حتى حسنَ التنكيب عن الاحتجاج به»

(2)

، وقال الحافظ في التقريب:«صدوق له أغاليط» .

الوجه الثاني: أنه لو كان مالك مخالفًا في صحَّة بيعة المتغلِّب لبيَّن ذلك أئمَّة السُّنة وجعلوها من شواذِّه لأنه خالفَ في مسألةٍ إجماعية، بل بيَّن ذلك أصحابُه وهم ممن نقلوا إجماعَ العلماء على صحَّة بيعة المتغلِّبين؛ كابن بطال وابن أبي زيد القيرواني وغيرهما وقد تقدَّمت الإشارة لذلك

(3)

.

الوجه الثالث: أنه قد حصل خلافٌ كثير في سبب ضرب مالك، وقد ساق الخلاف القاضي عياض، ولما جاء إلى ذكرِ أنَّ السبب في ضربه أنه أفتى الناس بالقيام مع النفس الزكية لأن بيعة أبي جعفر لا تلزم لأنها على الإكراه = قال القاضي عياض:(وذُكِرَ عنه) بصيغة التمريض. وإليك كلام القاضي عياض.

قال القاضي رضي الله عنه: «قال الطبري اختُلف فيمن ضرب مالكًا وفي السَّبب في ضربهِ وفي خلافةِ مَنْ ضُرب» ، ثم قال:«وذُكِرَ عنه أنه أفتى الناس عند قيام محمد بن عبد الله بن حسن العلوي المسمَّى بالمهدي بأن بيعة أبي جعفر لا تلزم لأنها على الإكراه» .

(1)

(7/ 560).

(2)

المجروحين (1/ 357).

(3)

تقدم (ص: 69).

ص: 218

قال الليث: «إني لأرجو أن يرفع الله مالكًا بكل ما سوَّد درجةً في الجنة» .

وخالف هذا كلَّه ابنُ بكير، فقال: ما ضُرب إلَّا في تقديمه عثمان على علي؛ فسعى به الطالبيون حتى ضُرب.

قيل لابن بكير: «خالفتَ أصحابك؛ هم يقولون ضُرِب في البيعة» .

قال: «أنا أعلم من أصحابي» .

وقال أحمد بن صالح: «إنما ضُربَ مالك في الطلاق قبل النكاح، كان لا يراه ثم رآه» .

قال أبو داود: «ولم يصنع أحمد شيئًا» .

وقال ابن كنانة: «ضُرب في أيمان السلطان أنها لا تلزم، وفي دفع الصدقات إليهم»

(1)

.

إذا تبين هذا فلا يصحُّ الجزمُ بأن مالكًا أفتى بهذا الخروج لأنه لا يرى بيعة المكره، فلا دليلَ على ثبوت قولِ عدم بيعةِ المكره لمالكٍ وأنه سببُ ضربهِ؛ لأنه لا مستندَ صحيح لذلك، وقد تنازعَ الناسُ في سببِ ضربهِ؛ وأيًّا كان فمن المعلوم أنَّ مالكًا يقرُّ بالخلافة لأبي جعفر المنصور والهادي - كما تقدم - فلذا لا يصحُّ أن يرجعَ سببُ الضرب لما يتنافى مع إقراره بالخلافة.

(1)

ترتيب المدارك (2/ 134).

لما انتهيت من ضعف القصة وقفتُ على كلامٍ مؤيد لذلك في كتاب «ضوابط معاملة الحاكم» للدكتور خالد الظفيري - وفقه الله - بواسطة حول الخروج (2/ 22)؛ فاستفدتُ منه النقل من كتاب ترتيب المدارك.

ص: 219

الشبهة الثالثة والخمسون:

أن القول بالخروج على الحاكم قال به العلَّامة المعلمي إذ قال: «كان أبو حنيفة يستحبُّ أو يوجبُ الخروج على خلفاء بني العباس لما ظهر منهم من الظلم، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار، وأبو إسحاق ينكر ذلك، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك فمَن كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شقٌّ لعصا المسلمين وتفريقٌ لكلمتهم وتشتيتٌ لجماعتهم وتمزيقٌ لوحدتهم وشَغلٌ لهم بقتلِ بعضهِم بعضًا، فتهن قوتهم وتَقوى شوكةُ عدوِّهم وتتعطَّل ثغورهم، فيستولي عليها عدوُّهم

هذا والنصوصُ التي يحتج بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة، والمحقِّقون يَجمَعون بين ذلك بأنه إذا غلبَ على الظَّن أنَّ ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخفُّ جدًّا مما يغلب على الظن أنه يندفع به جازَ الخروجُ وإلَّا فلا. وهذا النظرُ قد يختلف فيه المجتهدان»

(1)

.

وهذا هفوة وزلة من العلَّامة المعلمي لا يجوزُ أن يُتابع عليها، وبيانُ ذلك من أوجه:

الوجه الأول: ذكر أن في مسالة الخروج على الحاكم الفاسق الظالم قولين، وهذا خطأ مخالفٌ لإجماع أهل السنة - كما تقدم بيانه -

(2)

.

(1)

التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/ 288).

(2)

تقدم (ص: 39).

ص: 220

الوجه الثاني: نسبة جواز الخروج إلى المحقِّقين بالنظر إلى المصلحة لا تصحُّ، فلا أحسنَ تحقيقًا من السلف وأهل السنة؛ وهم مخالفون لهذا بإجماعهم - كما تقدم -

(1)

.

الوجه الثالث: تقدم ردُّ القول بأن حكم الخروج يدور مع المصلحة.

الوجه الرابع: أنه أجمل ولم يُسمِّ هؤلاء المحققين، فلو سماهم لعرفَ حالهم، وقد يريد بذلك ابنَ حزم ومَن تأثر به، وتقدَّم ردُّ كلام ابن حزم

(2)

، وليُعلَم أنه لا يُعتمد على ابن حزم في مسائل الاعتقاد إلَّا تَبعًا فيما وافقَ فيه أهلَ السنة؛ لأن عنده مخالفات عقدية

(3)

.

الوجه الخامس: لا يصحُّ بحالٍ الاستدلالُ بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها عامة؛ والصبرُ على جَور الحاكم أدلة خاصة، وعليها إجماعُ أهل العلم - وقد تقدم بيان هذا -

(4)

.

وإن نسبة المعلِّمي القولَ بالخروج لأبي حنيفة فيه نظر؛ لأنه رجعَ عنه - كما تقدم -

(5)

، ومَن رجعَ عن قولٍ لم يصحَّ نسبتُه إليه.

(1)

تقدم (ص: 39).

(2)

تقدم (ص: 173).

(3)

قال ابن عبد الهادي - تلميذ ابن تيمية - في طبقات علماء الحديث (3/ 350) عن ابن حزم: «جهمي جلد» .

(4)

تقدم (ص: 37).

(5)

تقدم (ص: 165).

ص: 221

وللعلامة المعلِّمي كلام آخر في كتابه (العبادة) يخالفُ هذا؛ ففيه بيانُ حرمة الخروج مطلقًا لأنه مصاحبٌ لمفسدة أكبر؛ وأنَّ هذا قولُ أهل السنة فقال: «وهذا هو الذي يدلُّ عليه سياقُ تلك الأحاديث، وقد بيَّن في بعضِها أنَّ المراد الطاعة في غير معصية الله تعالى، وقد دلَّت على ذلك الآية السابقة، وبيَّن في بعضِ الأحاديث أنَّ الخروجَ على الأمير لا يجوز؛ إلَّا أن يكونَ كفرًا بواحًا، أو يترك الصلاة، ثم قال: وبالجملة فالنظر في هذه المسألة مبنيٌّ على الأصل الإسلامي المشهور، وهو أنه إذا تعارضت مفسدتان ولم يكن بدٌّ من ارتكاب إحداهما؛ وجبَ ارتكابُ الصغرى لدرء الكبرى.

ومن هنا يُعلم عذرُ أهلِ السنة بعد القرن الأول في حَظرِ الخروجِ على السلطان ما دام مسلمًا، فإن التجارب علَّمتهم أن نتيجة الخروج تكون أعظمَ فسادًا وشرًّا وضرًّا مما كان قبله» اهـ

(1)

.

(1)

كتاب العبادة (ص: 220).

ص: 222

شبهات في أصل السمع والطاعة للحكام

الشبهة الرابعة والخمسون:

أن الداعين والمنادين لعقيدة السمع والطاعة للحكام في هذا الزمن هم غلاةُ الطاعة.

وكشف هذه الشبهة العاطفية من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ هذا كلامٌ مجمل لا يصحُّ التعويل عليه، إذ ما المرادُ بالغلوِّ في الطاعة؟ فهل السمعُ والطاعة في غير معصية الله يعدُّ غلوًّا في الطاعة؟

الوجه الثاني: أن الضابط في الغلوِّ والجفاء هو الشرعُ لا العواطفُ والحماسات، وما يدعو إليه أهل العلم من العلماء وطلاب العلم من أصل السَّمع والطاعة على منهج السلف ليس فيه غلوٌّ ولا جفاء، بل هو المنهج الرباني الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم ذِكرُ الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف على ذلك

(1)

.

الشبهة الخامسة والخمسون:

أنه كما تحرُم إمامة قومٍ في الصلاة وهم كارهون، كذلك يحرُم تولِّي الإمامة والحكم على قومٍ وهم كارهون.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: على القول بصحة القياس؛ فإن المشهور في كتب المذاهب الأربعة أنَّ إمامة الصلاة لقومٍ كارهين مكروهٌ لا محرَّم، فإذا كان هذا حكم

(1)

تقدم (ص: 33).

ص: 223

الأصل فالفرعُ - وهي الإمامة العامة - من باب أولى؛ أن تكون مكروهةً لا محرمة.

الوجه الثاني: أن هذا القياس قياسٌ فاسد، وذلك أنَّ المعتبر في الإمامة العظمى اختيار أهل الحلِّ والعقد لا عامَّةِ الناس، وهذا بخلافِ الصلاة، فالمعتبر المصلُّون خلفَهُ أيًّا كانوا، فعلى هذا لا يصحُّ القياس.

الوجه الثالث: أنه لو صحَّ هذا القياس تنزُّلًا، فإنه لا يصحُّ أن يظنَّ أنَّ تجاوبَ بعضِ العامة في كُرهِ حاكمٍ لأجل تحريض الثوريين أن هؤلاء العامة يكونون الأغلبية؛ بل هؤلاء قلَّة، وأكثرُ العامة على خلافهم.

الوجه الرابع: أنَّ المصلين الكارهين للصلاة خلف إمامٍ يجبُ عليهم عند ائتمامه بهم أن يتابعوه؛ وهكذا يقال في الحاكم المتغلب فإنه يجب السمع والطاعة له وإن كانوا كارهين.

الوجه الخامس: أنه لو تغلب رجلٌ على الحكم والناسُ كارهون له، فإنَّ حكمه صحيح بإجماع أهل السنة - كما تقدم -

(1)

، والواجبُ دعوة الناس للاجتماع عليه لا تحريضُهم، فإنَّ التحريضَ محرَّمٌ كما تقدم

(2)

.

وبعد معرفة بطلانِ هذا القياس، صدق التابعي الجليل محمد بن سيرين لما قال - فيما ثبت عنه -: أول مَنْ قاسَ إبليس، قال: خلقتَني من نارٍ وخلقتَهُ من طين، وإنما عُبِدَت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس

(3)

.

(1)

تقدم (ص: 68).

(2)

تقدم (ص: 46).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 253).

ص: 224

الشبهة السادسة والخمسون:

أن الله قبل أن يأمر بطاعة أولي الأمر قدَّم ذلك ببيان الحقوق على ولاة الأمور فقال:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

ثم قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

فدلَّ هذا على أنَّ وليَّ الأمر لا يُطاع حتى يقومَ بالحقوق التي عليه.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إنه لا شك أنَّ على ولي الأمر حقوقًا يجب عليه أن يأتي بها، وإن لم يأتِ بها فهو آثم، وكذلك على الرعية حقوق وإن لم يأتوا بها فهم آثمون، لكن ليس معنى عدم قيام الراعي والحاكم بحقوقه أنه لا يُسمع ولا يطاع له؛ لأنَّ غاية ما يقال: إنه آثم.

وقد دلَّت الأدلة وإجماع أهل السنة أنَّ الحاكم الظالم الفاسق يجبُ السمعُ والطاعة له في غير معصية الله، ويجب أن يُعتقد في الأعناق بيعة له. فإنَّ الأدلة الشرعية يفسِّر بعضُها بعضًا ويُردُّ ما اشتبه منها لما أحكم.

الشبهة السابعة والخمسون:

أنه من الخطأ أن يستمر الملكُ والرئيسُ ملكًا ورئيسًا، بل المفترضُ أن يكون هناك تداولٌ في السلطة، وألَّا يستمر الملكُ ملكًا والرئيسُ رئيسًا حتى الممات.

ص: 225

وكشف هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: أنه ليس لهذا الاستحسان مستندٌ شرعي، بل هو مخالفٌ للشرع، وهذا يتبين بالوجه الثاني.

الوجه الثاني: درجَ الخلفاء الراشدون ثم ملوك الإسلام، وفي مقدمهم أفضلُ ملوك الإسلام - بالإجماع - وخالُ المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أمه وأبيه - على أنَّ الخلافة والملك مستمرةٌ حتى الممات، وليست تداوليةً كما هي الطريقة الغربية في هذه العصور المتأخرة.

والخيرُ كلُّ الخير في اتباع سبيل المؤمنين لا مشاقتهم قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

الشبهة الثامنة والخمسون:

أنه يفترض أن تكون الدول الإسلامية دولًا دستورية، وهي أن يكون الحاكم صوريًّا أو شبه صوري، ويديرُ الأمورَ في الدولة مجلسُ الشعب المنتخب.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن هذه الطريقة مخالفةٌ للطريقة الشرعية في الولاية والإمامة، بل هي طريقة غربية.

الوجه الثاني: أن هذه الطريقة قائمة على مبدأ الانتخابات، وتقدَّم بطلانُ الانتخابات من أوجه

(1)

.

(1)

تقدم (ص: 66).

ص: 226

الوجه الثالث: أن الولاية والإمامة المبنية على الانتخابات سواءٌ للحاكم العام، أو لما يسمَّى بالمجلس التشريعي، أو مجلس الأمة، أو البرلمانات؛ نتيجتُها إضعافُ الدين الذي من أجله شُرعت الإمامة، وذلك أنه يلزم المجلس التشريعي أن يحقق رغباتٍ عامة الناس.

حتى ينتخب العضو في المرحلة القادمة، وما كان مبنيًّا على تحقيق رضا عامة الناس مؤدٍّ إلى إضعاف الدين؛ لأن أكثر الناس يتبعون أهواءهم وما تشتهيه نفوسُهم الأمَّارة بالسوء، وما كان كذلك فهو مؤدٍّ إلى مخالفة الشريعة؛ لأن الشريعة تصادم أهواء الناس.

قال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41].

وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].

وقال: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26].

الشبهة التاسعة والخمسون:

أنهم يريدون دولةً مدنية لا دولة دينية؛ لأن الدولة الدينية تعني تعطيل الحياة

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن هناك فرقًا بين الدولة الدينية على المبدأ النصراني، والدولة

ص: 227

الدينية على مبدأ المسلمين؛ فإن الدولة الدينية على مبدأ النصرانية تعني تعطيلَ الحياة، وإقصاءَ التطور والتقدم والحضارة، وقد قامت بهذا أوروبا في القرون الوسطى؛ مما جعلَ الشعب الأوروبي يحاربُ الدين ويفزع إلى العَلْمَنة التي حقيقتُها فصلُ الدين عن الحياة.

وهذا خلافُ الدولة الدينية عند المسلمين، فإنها لا تحارب التقدم والتطور ما لم تخالف شيئًا من شرع الله؛ لذا لا تحتاج أن تحارب الدولة بالمعنى الديني كما يحاربه النصارى.

الوجه الثاني: أنَّ المسلم إذا نادى بالدولة المدنية دون الدينية فسيفهم كثيرون أنه يحاربها لأنها قائمة بتعاليم الإسلام وقد حكمته في شؤون الحياة، فهو في حقيقة حاله قد وضع يده مع العلمانيين والليبراليين الذين ينادون بعزل الدين الإسلامي عن الحياة والدولة؛ لذا من الخطأ أن ينادي مسلمٌ بالدولة المدنية ويزداد الخطأ حقًّا إذا كان المنادى بهذا محسوبًا على الخير والتدين.

وبعد هذين الجوابين على هذه الشبهة، فإن للدولة الدينية الإسلامية سماتٍ أذكرُ أهمها:

السمة الأولى: أنها لا تقدم شيئًا على شرع الله، فالدولة محكومة بكتاب الله وشرعه؛ لذا تحكم بما أنزل الله فيما يتعلق بالراعي والرعية، والتعامل مع الآخرين من الدول الكافرة، ولا ينتقل عن هذا إلا لمصلحة راجحة في حدود ما جوَّزتُه الشريعة بقواعدَ وضوابطَ يعرفُها أهل العلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «بل واجبٌ على كل أحد إذا تبين له حكمُ الله ورسوله في أمرٍ أن لا يعدل ولا يتَّبع أحدًا في مخالفة حكم الله ورسوله، فإنَّ الله

ص: 228

فرضَ طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كلِّ أحدٍ في كلِّ حال، فقال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

وقد صنَّف الإمام أحمد كتابًا في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين. فطاعةُ الله ورسوله، وتحليلُ ما أحلَّه الله ورسوله، وتحريمُ ما حرَّمه الله ورسوله، وإيجابُ ما أوجبه الله ورسوله واجبٌ على جميع الثقلَين الإنس والجن؛ واجبٌ على كلِّ أحدٍ في كلِّ حال سرًّا وعلانية»

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم:

«وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

فأقسمَ سبحانه بنفسه أنَّا لا نؤمنُ حتى نحكِّم رسوله في جميع ما شجَر بيننا، وتتسع صدورُنا بحكمه، فلا يبقى منها حرَجٌ، ونسلِّم لحكمه تسليمًا، فلا نعارضُه بعقلٍ ولا رأي ولا هوى ولا غيره، فقد أقسمَ الربُّ سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدِّمون العقل على ما جاء به الرسول؛ وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه، وإن آمنوا بلفظه، وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].

(1)

الفتاوى الكبرى (5/ 96).

ص: 229

وهذا نصٌّ صريحٌ في أنَّ حكم جميع ما تنازعنا فيه مردودٌ إلى الله وحدَه، وهو الحاكمُ فيه على لسان رسوله، فلو قُدِّم حكمُ العقل على حُكمهِ لم يكن هو الحاكمَ بكتابهِ، وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]»

(1)

.

السمة الثانية: الدولة الإسلامية والدينية تقدِّم العلم الشرعي وعلماءه؛ لأنهم مبلِّغون دين الله، لكن لا تراهم حجة، بل أقوالهم وأفعالهم يُحتجُّ لها لا بها، وغاية وظيفة العلماء البلاغ، أما التغيير والسلطة التنفيذية فهي بيد وليِّ الأمر المسلم.

والدولة مطالَبة بالرجوع إلى العلماء وسؤالهم عما جهلوا من شرع الله.

قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وقال: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقوة في الحكم بين الناس ترجعُ إلى العلم بالعدل الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام»

(2)

.

السمة الثالثة: الحاكم والسلطان يُسمع ويُطاع له في غير معصية الله، وإذا أمرَ بمعصيةِ الله فلا تجوزُ طاعته في هذه المعصية، ويحفظ مقداره ومنزلته، ولا يجوز الخروجُ عليه ولا نزعهُ بما أنه مسلم ولو فسقَ وظلم، بل يُصبر على أذاه وظُلمهِ حتى يستريح برٌّ، أو يُستراحَ من فاجر.

(1)

الصواعق المرسلة (3/ 828).

(2)

السياسة الشرعية (ص: 13).

ص: 230

السمة الرابعة: لا تُعارض الدولة الدينية الإسلامية الحضارةَ والاختراعاتِ الحديثة، ما لم تخالف شرعَ الله، أو تُستعمل في معصية الله، فإنَّ الأصل فيها الحلُّ والإباحة.

قال الشيخ سليمان بن سحمان: «والساعة صنعة من الصناعات، التي تدرك بالحذق والفكرة، ليست من البدع، ولا من السحر؛ إذ البدع المذمومة ما كانت في القُرَب الشرعية، وأما العاداتُ والصناعات، فليست من قسيم البدع»

(1)

.

قال الشيخ ابن باز: «أما الأمور الأخرى التي لا تعلُّق لها بالعبادات ولا بأمر الجاهلية، فالأصلُ فيها الحلُّ إلا ما حرَّمه الشرع، كأنواع المآكل والمشارب والصناعات ونحو ذلك؛ لأن الناس أعلَمُ بأمور دنياهم. ويُستثنى من ذلك ما حرَّمه الله ورسوله كلُبسِ الذهب والحرير للذكور، وكتشبُّه الرجالِ بالنساء ونحو ذلك مما نصَّ الشرعُ على النهي عنه فهو مستثنًى من هذه القاعدة»

(2)

.

السمة الخامسة: الدولة الدينية الإسلامية تحفظُ للكفار حقوقهم سواءٌ كانوا ذمِّيين أو معاهدين أو مستأمنين، فلا تسمحُ بظُلمهم ولا قتلهم بلا حقٍّ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ قتلَ مُعاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة»

(3)

، والمراد بالمعاهد في لفظ الشرع من ليس حَربيًّا.

وفي مقابل هذا لا تسمح لهم في نشر كفرهم، والدعوة إلى عقائدهم الكفرية؛ لأن هذا من المنكر الذي يجبُ إنكاره ومنعه.

(1)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 487).

(2)

مجموع فتاواه (2/ 358).

(3)

أخرجه البخاري (3166).

ص: 231

السمة السادسة: الدولة الإسلامية لا تمانع من التعامل مع الكفار وعقد العهود والمواثيق وتبادل التجارة، وتعاملُهم مع الكفار يختلفُ من حيث الجملة بين حال القوة والضعف.

قالت عائشة رضي الله عنها: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعهُ مرهونةٌ عند يهودي بثلاثينَ صاعًا من شعير»

(1)

.

وصالحَ النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش في صلح الحديبية كما في الصحيحين

(2)

.

وقال الله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وقرَّر هذا الفقهاء منهم ابن قدامة في (المغني)

(3)

.

السمة السابعة: لا تقرُّ الدولة المسلمة الديمقراطية؛ لأنها مخالفة للشريعة

(4)

، ولا تقرُّ الدولة المسلمة الخروجَ على حكام المسلمين والثورة عليهم، ولا نشرَ الباطل من الأفكار الإلحادية والبدعية والانحلالية باسم الحرية المنفلتة؛ لأن هذه منكرات، والحاكمُ قائد الدولة الإسلامية مأمورٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(1)

أخرجه البخاري (2916) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري (2698)، ومسلم (1783) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

(3)

(9/ 296).

(4)

وقد أبنتُ هذا في مقال: الديمقراطية ليست من الإسلام في شيء.

http://islamancient.com/mod_standitem86.html

ص: 232

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا القسم الذي ذكرناه من الحكم في حدود الله وحقوقه ومقصوده الأكبر هو الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والصدقة، والأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن العشرة مع الأهل والجيران، ونحو ذلك.

فالواجبُ على وليِّ الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميعَ مَنْ يقدرُ على أمره، ويعاقبَ التاركَ بإجماع المسلمين، فإن كان التاركون طائفةً ممتنعة قوتلوا على تركها بإجماع المسلمين، وكذلك يُقاتَلون على ترك الزكاة والصيام وغيرهما، وعلى استحلال ما كان من المحرَّمات الظاهرة المجمَع عليها؛ كنكاحِ ذواتِ المحارم والفساد في الأرض ونحو ذلك، فكلُّ طائفةٍ ممتنعة عن التزام شريعةٍ من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادُها حتى يكونَ الدينُ كلُّه لله باتفاق العلماء

»

(1)

.

هذه سماتُ الدولة الإسلامية - في الجملة - التي يريدُها الله ونحنُ مأمورون بها.

الشبهة الستون:

أن هناك فرقًا بين الحاكم المسلم السياسي، والحاكم المسلم الشرعي، فمَن تولَّى الحكمَ بالانتخابات، فإنَّ حكمَهُ قابلٌ للإزالة، فهو حاكمٌ سياسي وليست في أعناق الناس بيعةٌ له، بخلافِ الحاكم الشرعي فهو مَنْ تولَّى الحكمَ بالطرق الشرعية.

(1)

السياسة الشرعية (1/ 59).

ص: 233

وكشف هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: أن من أخذَ الحكم بالانتخابات فقد أخذَها بالغلَبة والقهر، لكن ليس بالسَّيف وإنَّما بالكثرة، فهو حاكمٌ متغلِّب يُسمع ويُطاع له؛ كالذي أخذَها بطريقةٍ شرعية - كما تقدَّم بيان هذا -

(1)

.

الوجه الثاني: إنَّ الأدلة والإجماعات بيَّنت اعتقادَ البيعة في أعناقنا لمن تغلَّب، ولم تفرِّق بين طريقةٍ وطريقة، وكذلك لم تشترط أن يكون الحاكم مستمرًّا لا يجدَّد له، ومن ادَّعى هذا لَزِمهُ الدليلُ الشرعي، وإلَّا أصبحت دعوى بلا برهان فلا يُلتفت إليها.

الشبهة الحادية والستون:

أنَّ الصبر على أذى السلطان إذا كان شخصيًّا فلا يلزم بخلاف إذا كان جماعيًّا، واستدل بما أخرج عبد الرزاق

(2)

أن معاوية أرسلَ إلى عاملٍ له أن يأخذَ الوَهْطَ فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو فلبسَ سلاحهُ هو ومواليه وغِلْمَتهُ وقال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ قُتل دون مالهِ مظلومًا فهو شهيد» .

فكتبَ الأميرُ إلى معاوية أن قد تيسَّر للقتال، وقال إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«مَنْ قُتلَ دونَ مالهِ فهو شهيد» فكتبَ معاوية: «أنْ خَلِّ بينهُ وبينَ ماله» .

(1)

تقدم (ص: 68).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (10/ 115).

ص: 234

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن هذا القول مخالفٌ للأدلة الصريحة في أمر الفرد بالصبر على جَور الحاكم؛ قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على المرءِ المسلم السمعُ والطاعة فيما أحبَّ وكرهَ إلَّا أن يؤمرَ بمعصيةِ الله، فإنه أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة»

(1)

.

وقال أنس بن مالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:«اسمَعْ وأطِعْ ولو لحبشيٍّ كأن رأسَهُ زَبيبة»

(2)

.

الوجه الثاني: أن هذا القول مخالفٌ للأدلة العامة الآمرة - بالصبر على جَور الحاكم وظُلمه، ولم تفرِّق بين الفرد والجماعة - والتي أجمع عليها أهل السنة.

الوجه الثالث: أن هذا الأثر مخالفٌ لأثر عمر. قال سويد بن غفلة، قال:

«قال لي عمر: يا أبا أمية إني لا أدري لعلِّي أن لا ألقاكَ بعد عامي هذا؛ فاسمَع وأطِع وإنْ أُمِّرَ عليكَ عبدٌ حبشيٌّ مجدَّع، إنْ ضربكَ فاصبر، وإنْ حرمكَ فاصبر، وإن أرادَ أمرًا ينتقصُ دينكَ فقل: سمعٌ وطاعة ودمي دون ديني؛ فلا تفارق الجماعة»

(3)

.

والفاروقُ خليفة راشد، فقولُه مقدَّم على غيره؛ وهو صريحٌ في صبر الفرد على جَور الحاكم إذا أراد مَاله؛ فهو مبيِّن أن أحاديث الصبر على جَور الحاكم مخصوصةٌ بالسلطان.

(1)

أخرجه البخاري (2955)، ومسلم (1839).

(2)

أخرجه البخاري (693).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 544) بإسناد صحيح.

ص: 235

تنبيه:

لما ضاق أهلُ البدع ذرعًا لأجل صراحة وكثرة نصوصِ السَّمع والطاعة، والصَّبر على جَور الحاكم أصبحوا في أمرٍ مريجٍ تجاهها؛ فمنهم مَنْ حملَها على الفرد دون الجماعة؛ وسيأتي كشفُ هذه الشبهة

(1)

، ومنهم من حملَها على الجماعة دون الفرد؛ وتقدَّم كشفُ هذه الشبهة

(2)

.

الشبهة الثانية والستون:

أنَّ الإمارة تسقط بمظلمة: فقد كتب عمر الفاروق إلى أهل الكوفة: «مَنْ ظلَمهُ أميرهُ فلا إمرةَ له عليه دوني، فكان الرجل يأتي المغيرة بن شعبة فيقول: إمَّا أن تنصفَني من نفسكَ وإلَّا فلا إمرةَ لك علي» .

وكشف هذه الشبهة بأن يقال:

هذا الأثر أخرجه الخلال بإسناد صحيح

(3)

، ومعناه صحيح وهو أنه إذا ظَلمَ أميرُ على بلدة من بلدان المسلمين رجلًا؛ وهذا الأميرُ تحت إمرة الأمير العام، فإنه يقتصُّ منه مظلمته، فإنْ لم يقتصَّ له فيرجعُ إلى الأمير العامِّ ليقتصَّ له، وليس معناه أنه بالمظلمة المحقَّقة أو المتوهَّمة، أو المدَّعاة - ألَّا يكون أميرهُ الذي على بلدته أميرًا عليه، فيبقى المظلومُ أو المدَّعي للمظلمة بلا أمير في تلك البلدة!!.

(1)

سيأتي (ص: 239).

(2)

تقدم (ص: 234).

(3)

(1/ 117).

ص: 236

لو كان كذلك لضاعَتْ مصالحُ الناس، ولادَّعى كلُّ أحدٍ من المفسدين أنه مظلوم، وإنما المرادُ أنه يأخذَ مظلمتهُ من الأمير العام.

ثم لو قُدِّر أن معناه أنه بمجرَّد المظلمة تسقط إمارة الأمير الخاص على بلدته، فإن هذه سياسة رآها الفاروق عمر وهي من حقِّه، فإنَّ الإمارة الخاصة تبعٌ للإمارة العامة، وللأمير العام حقٌّ في عزلِ الأمير الخاصِّ أو تضييق حدود إمارته، وليست هذه السياسة - على فرض التسليم بهذا المعنى - مُلزمةً لكلِّ أميرٍ عام، بل هي ترجع لما يراه الأمير العامُّ مصلحة، والله حسيبُه.

الشبهة الثالثة والستون:

حاول بعضُهم تضعيفَ حديث حذيفة الذي أخرجه مسلم: «تسمَعُ وتطيعُ للأمير وإنْ جلَدَ ظهركَ وأخذَ مالكَ؛ فاسمَعْ وأطِع»

(1)

، رواية ودراية؛ أما الرواية فقد اعتمدوا على كلام الدارقطني في تضعيفه، وقد نقل النووي في شرحه على مسلم كلامَ الدارقطني وخالفه.

فقال النووي: «قال الدارقطني هذا عندي مرسل؛ لأنَّ أبا سلام لم يسمع من حذيفة؛ وهو كما قال الدارقطني، لكن المتن صحيحٌ متصلٌ بالطريق الأول، وإنما أتى مسلمٌ بهذا متابعةً كما ترى، وقد قدَّمنا في الفصول وغيرها أن الحديث المرسل إذا روي من طريقٍ آخر متَّصلًا تبيَّنَّا به صحةَ المرسل وجاز الاحتجاج به، ويصير في المسألة حديثان صحيحان»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (1847).

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 237).

ص: 237

ولو كان البحث مع هؤلاء روايةً لكان الأمرُ سهلًا، لكن أن يضعِّفوهُ درايةً ومعنًى فهذا المستنكر.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: إذا كان الأمر راجعًا إلى التقليد فليس قولُ الدارقطني أَولى من قول مسلم في صحيحه، وتأييدِ النووي له؛ أمَّا إذا رجع إلى الحجَّة والبينة، فللباحث بحجَّته وبيِّنتهِ أن يأخذَ قولَ أحدهم بناءً على ما ظهرَ له، ولاسيَّما وله شاهد.

الوجه الثاني: أنَّ هذا الحديث لم يأتِ بشيء جديد، وإنما هو تفسيرٌ وتفصيل لما جاء في الأدلة من الصَّبر على جَور الحاكم، وقد تقدَّم ذِكرُها وأنَّ هذا مما أجمع عليه أهل السنة، والصَّبر على جَلْدهِ وأخذهِ للمال بغير حقٍّ تدلُّ عليه عمومُ الأدلة المتقدمة مع إجماع أهل السنة؛ فمعناهُ ثابتٌ بدون هذا الحديث، وعلى القول بضعفهِ فإنَّ الأدلة في الصبر على جَور الحاكم، وحُرمةِ الخروج عليه كثيرة.

الوجه الثالث: أنه بهذا التفصيل والتفسير قال عمر بن الخطاب فيما ثبت عنه: قال سويد بن غفلة، قال:«قال لي عمر: يا أبا أمية إني لا أدري لَعلِّي أن لا ألقاكَ بعد عامي هذا؛ فاسمَعْ وأطِعْ وإنْ أُمِّر عليكَ عبدٌ حبشيٌّ مجدَّع؛ إن ضربكَ فاصبرْ، وإن حرمكَ فاصبر، وإن أرادَ أمرًا ينتقصُ دينكَ فقل: سمعٌ وطاعةٌ، ودمي دون ديني؛ فلا تفارق الجماعة»

(1)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 544) بإسناد صحيح.

ص: 238

قال ابن المنذر: «والذي عليه أهلُ العلم أنَّ للرجل أن يدفَع عمَّا ذكر إذا أُريد ظلمًا بغير تفصيل إلَّا أنَّ كلَّ مَنْ يُحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناءِ السُّلطان؛ للآثارِ الواردةِ بالأمر بالصَّبر على جَوره وتركِ القيام عليه»

(1)

، نقله ابن حجر وأقرَّه

(2)

.

الشبهة الرابعة والستون:

حاول بعضُ الحركيين المعاصرين أن يحمل حديث: «تسمَعُ وتطيعُ للأمير وإنْ جلَد ظهركَ وأخذَ مالكَ، فاسمَعْ وأَطِعْ»

(3)

على الفرد بخلاف الجماعة، فإنَّ لهم أن لا يصبروا على ظُلمه.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: عموم الأدلة الأخرى في الصبر على جَور الحاكم، ولم تفرِّق بين فردٍ ولا جماعة، فمَن فرَّق فيلزمهُ الدليل، ولا دليل.

(1)

قال ابن المنذر في كتابه الإشراف على مذاهب العلماء (7/ 248):

"وبهذا يقول عوام أهل العلم إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله، إذا أريد ظلمًا، للأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تخص وقتًا دون وقت، ولا حالًا دون حال؟ إلا السلطان، فإن جماعة أهل الحديث كالمجمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته: أنه لا يحاربه، ولا يخرج عليه، للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم، وترك قتالهم، والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة".

(2)

فتح الباري (5/ 124).

(3)

سبق تخريجه (ص: 38).

ص: 239

الوجه الثاني: أن أدلة كثيرة صرَّحت بصبر الجماعة على جَور الحاكم:

قال أنس: «إنكُم سترونَ بعدي أثَرةً شديدةً، فاصبروا حتَّى تلقوا الله ورسولَهُ صلى الله عليه وسلم على الحوض»

(1)

.

عن أُسيد بن حضير رضي الله عنه، أنَّ رجلًا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملُني كما استعملتَ فلانًا؟.

قال صلى الله عليه وسلم: «ستلقونَ بعدي أثَرةً، فاصبروا حتَّى تلقَوني على الحوض»

(2)

.

قال عبد الله بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترونَ بعدي أثَرةً وأمورًا تُنكِرونها» قالوا: فما تأمرُنا يا رسول الله؟ قال: «أَدُّوا إليهم حقَّهم، وسَلُوا الله حقَّكُم»

(3)

.

قال عبد الله بن زيد قال الرسول الله: «إنكم ستلقونَ بعدي أثَرةً، فاصبروا حتَّى تلقَوني على الحوض»

(4)

.

الوجه الثالث: أنَّ هذا قولٌ منكرٌ لم يُسبقوا إليه؛ بل كلامُ السلف كثيرٌ في كتب الاعتقاد في الصبر على جَور الحاكم؛ ولم يفرِّقوا بين الفرد والجماعة، وقرَّروه إجماعًا من السلف. كما تقدم

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (3793).

(2)

أخرجه البخاري (3792)، ومسلم (1845).

(3)

أخرجه البخاري - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سترونَ بعدي أمورًا تنكرونها» ، صحيح مسلم (باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء، الأول فالأول).

(4)

أخرجه البخاري (4330)، صحيح مسلم (1061).

(5)

تقدم (ص: 39).

ص: 240

الوجه الرابع: مما يؤكد خطأ هذا القول البدعي أنه ليس منضبطًا؛ فليس للجماعة ضابطٌ عندهم، فهل ضَربُ اثنين سببٌ لعدم الصبر أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة؟.

الشبهة الخامسة والستون:

أن الحاكم إذا ترك الشورى يُعزل.

قال ابن عطية في تفسيره: «الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، مَنْ لا يستشيرُ أهلَ العلم والدين فعزلُه واجبٌ؛ هذا ما لا خلاف فيه»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أنه مخالفٌ للأدلة المتواترة في الصبر على جَور الحاكم - وقد تقدَّم ذكرها -

(2)

.

ومنها: قال عبد الله بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترونَ بعدي أثَرةً وأمورًا تنكرونها» قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أَدُّوا إليهم حقَّهم، وسَلُوا الله حقَّكُم»

(3)

.

قال عبد الله بن زيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستلقَونَ بعدي أثَرةً، فاصبروا حتَّى تلقوني على الحوض»

(4)

.

(1)

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 534).

(2)

تقدم (ص: 36).

(3)

سبق تخريجه (ص: 37).

(4)

سبق تخريجه (ص: 37).

ص: 241

الوجه الثاني: أنه مخالفٌ لإجماع أهلِ السنُّة ومعتقدهم - كما تقدَّم نقله -

(1)

.

الوجه الثالث: هذا خطأ من ابن عطية، كما أخطأ في مسائل عقدية أخرى؛ لأنَّ الأدلة وإجماعَ السلف على أنَّ الحاكم لا يُعزَلُ لمعصية، فكيف بالشورى التي اختلف العلماء فيها ما بين الوجوب أو الاستحباب؟!.

فكما لم تُقبل تأويلاتُ ابن عطية للصِّفات لأنها مخالفة لعقيدة السلف، فكذلكَ لا يُقبل هذا منه

(2)

.

ثم إن هذا الخطأ قد استدركه ابن عرفة على ابن عطية فقال: قال ابن عطية: ومن لَا يستشير أهلَ العلم والدين فعزلُه واجبٌ بلا خلاف.

قال ابن عرفة: «هذا غيرُ صحيح، ولم أرَهُ لغيره، والمسألة مذكورةٌ في أصول الدين في باب الإمامة، وفي كتب الحديث، وفي الفقه، وذكروا فيها فعل الإمام، ما هو أشدُّ من ذلك لَا يجب عمَّن له بوجه»

(3)

.

ص: 242

الشبهة السادسة والستون:

أنه قد روي عن بعض السلف جوازُ غيبة الحاكم الظالم، فدلَّ هذا على جَواز الكلام في الحكَّام من ورائهم.

قال ابن عيينة: «ثلاثةٌ ليست لهم غيبة: الإمام الجائر، والفاسق المعلِنُ بفسقهِ، والمبتدعُ الذي يدعو الناس إلى بدعته»

(1)

.

قال الحسن البصري: «ثلاثةٌ ليست لهم حُرمةٌ في الغيبة: فاسقٌ يعلنُ الفسقَ، والأميرُ الجائر، وصاحب البدعة المعلِنُ البدعة»

(2)

.

قال إبراهيم: قال: «ثلاثٌ كانوا لا يعدُّونهنَّ من الغيبة: الإمامُ الجائر، والمبتدع، والفاسقُ المجاهر بفسقه»

(3)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أنه لايسلَّم بصحة هذه الآثار لأنها ضعيفة.

الوجه الثاني: أنه إذا كان في الخروج على السلطان خلافٌ بين التابعين فالكلامُ فيه من باب أَولى، لكنْ لما انعقد الإجماعُ بعد التابعين على حُرمة الخروج على

(1)

شعب الإيمان (9/ 126)؛ في إسناده زكريا بن دلَّوَيه، لم أر من وثَّقه في روايته وضبطه.

(2)

شعب الإيمان (7/ 110) وفي إسناده مندل بن علي وموسى بن عبيدة، وهما ضعيفان. وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «الصمت» (ص: 145)، وفي إسناده شريك النخعي، وهو ضعيف.

(3)

الصمت (ص: 142) وفي إسناده ابن مغراء؛ صدوق، وفي حديثه عن الأعمش كلامٌ أشار إليه ابن المديني وابن عدي كما في «تهذيب الكمال» ، وللأعمش أصحابٌ فلا يحتمل تفرُّد مَنْ في روايتهِ عنه أخطاء.

ص: 243

السلطان الفاسق والظالم تبعَ ذلك حرمةُ الكلام فيه. إلَّا أنَّ هذا لا يصلحُ جوابًا على أثر ابن عيينة لأنه ليس من التابعين؛ ويكفي أنه ضعيف.

الوجه الثالث: أنَّ الصحابة نهوا عن الكلام في السلطان؛ وقولهم حجَّة على التابعين؛ كقول ابن عباس: «إنْ خشيتَ أن يقتُلكَ فلا، فإنْ كنتَ فاعلًا ففيما بينكَ وبينه، ولا تغتبْ إمامكَ» - وقد تقدم -

(1)

.

وروى ابن أبي عاصم في كتاب السنة بسند جيد عن أنس بن مالك قال: نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تسبُّوا أمراءَكُم، ولا تغشُّوهم، ولا تُبغضوهم، واتَّقوا الله واصبروا، فإنَّ الأمرَ قريب»

(2)

.

وقال عبد الله بن عكيم - وهو صحابي على قول - يقول: «لا أُعينُ على دَمِ خليفةٍ أبدًا بعد عثمان» . فقيل له: يا أبا معبد أو أَعنْتَ على دمهِ؟! فيقول: «أني أعدُّ ذكرَ مساويهِ عونًا على دمهِ»

(3)

، وقد تقدَّمت هذه الآثار.

(1)

سبق تخريجه (ص: 51).

(2)

سبق تخريجه (ص: 156).

(3)

سبق تخريجه (ص: 46).

ص: 244

‌الفصل الثالث

استدراكات

على كتاب الإمامة العظمى

ص: 245

استدراكات

على كتاب الإمامة العظمى

إنَّ كتاب الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة للدكتور عبد الله الدميجي

(1)

- ردَّه الله لرشده -، من الكتب التي خالفت منهج أهل السنة في باب الإمامة، وقد اعتمد عليه كثيرٌ ممن عندهم خللٌ في هذا الباب فكتبوا كتبًا ومقالات، وممن اعتمد عليه في مقالاته الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف وسيأتي الردُّ عليه

- إن شاء الله -.

فبما أن الكتابَ مرجعٌ عند من ضلَّ في هذا الأصل كان من الواجب نقدُه، والردُّ عليه وسيكون هذا في عدة استدراكات:

الاستدراك الأول:

حاول أن يجعل خلافًا بين أهل العلم في تولِّي الحاكم بالغلبة فقال: «وهذا الطريقُ لم يُجمع المسلمونَ على اعتباره مما تنعقد الإمامة عن طريقه، بل هم فيه مذهبان:

الأول: قالوا لا تنعقدُ إمامته ولا تجبُ طاعته، لأنه لا تنعقد له الإمامة بالبيعة إلَّا باستكمال الشروط؛ فكذا القهر. وذهب إلى هذا القول الخوارجُ والمعتزلة،

(1)

زرتُ الدكتور عبد الله الدميجي - هداه الله - وناصحته في كتابه الإمامة العظمى، وقد حكَيتُ ما جرى في هذه الزيارة - وأنه وعدَني بالتوبة من كتابه مكتوبًا ولم يوفِ بوعده - في درسٍ مرئي بعنوان (وقفات مع كتاب الإمامة العظمى) وهو موجود بموقع الإسلام العتيق.

ص: 247

ووجهٌ لبعض الشافعية»

(1)

.

وجوابُ كلامه أن يقال: إنَّ ثبوت الولاية بالتغلُّب دلَّت عليه الأدلة الشرعية، وفتاوى الصحابة والإجماع، وخلافُ أهل البدع لا يعتدُّ به، وكذلك بعضُ المتأخرين بعد إجماع الأولين، وإلَّا للزِمَ من هذا أن يُقال: إنَّ في إثبات أسماء الله وصفاته خلافًا؛ لأنه خالفَ بعضُ المتأخرين أو أهلُ البدع؛ وهذا باطل.

الاستدراك الثاني:

أوردَ أثرَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كلماتٌ أصابَ فيهنَّ الحق، قال: يحقُّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقُّ على الناس أن يسمعوا له ويُطيعوا ويُجيبوه إذا دعا

(2)

، تقدَّم الجواب على هذا الأثر من بيان ضعفه وغير ذلك

(3)

.

الاستدراك الثالث:

قال: «وكذلك الحاكم إذا أمرَ بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة له، وإنَّما على الأمة نصحُه وإرشاده، والسعي بكل وسيلةٍ إلى إرجاعه إلى الحقِّ، شريطة ألَّا يكون هناك مفسدةٌ أعظم من مصلحة تقويمهِ، وإلَّا فعلى الرعية الصبر حتى يقضي الله فيه بأمرهِ ويريحَهُم منه»

(4)

.

(1)

الإمامة العظمى (ص: 222).

(2)

ص: 381.

(3)

تقدم (ص: 124).

(4)

ص: 381.

ص: 248

ومثله ما نقله الدميجي عن المودودي لما قال: «والتعاونُ معه في الخير والمعروف، ومنعهُ من إيقاع الخلل في نظامها، وبثِّ الفوضى في أرجائها، والتقاعسِ عن التضحية بالروح والمال والنفس في سبيل حمايتها، والحفاظ عليه»

(1)

.

وجوابُ هذا أن يقال: إنَّ تقريره أن على الأمة السعي بكل وسيلةٍ إلى إرجاع الحاكم إلى الحق = خطأٌ قطعًا، ومخالفٌ للأدلة المتقدمة ولمنهج السلف في أنه تُسلك الطريقة الشرعية في نصحِ الحاكم؛ وهي النصحُ أمامه لا أن يكون الأمر بكلِّ وسيلة، فهذا مخالفٌ للأدلة وإجماع السلف - كما تقدم -

(2)

.

والنقل عن أبي الأعلى المودودي في هذا الأمر خطأ؛ لأنه ليس مرجعًا علميًّا، بل هو غالٍ في الخلافة والإمامة غلوًّا مخالفًا لمنهجِ أهل السنة.

الاستدراك الرابع:

نقل عن أبي الأعلى المودودي قوله: «وألزمَ الحكومة باتّباع القانون الأعلى والتزام الشورى»

(3)

.

وهذا خطأ أيضًا؛ لأن الشورى ليست إلزامية؛ لعدم وجود الدليل الدالِّ على هذا، ولم أرَ أحدًا من العلماء المعتبَرين ذهب إلى إلزام الحاكم بما يُشير به المسلمون.

(1)

ص: 382.

(2)

تقدم (ص: 50).

(3)

ص: 382.

ص: 249

قال الشيخ ابن عثيمين: «قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 160]، هل إذا صدر من المستشارين أمرٌ هل هو مُلزِمٌ أو كاشف للرأي؟ الجواب: أنه كاشف للرأي، وليس بمُلزِم؛ لأنه لو كان مُلزمًا لكانَ الحكم بأيدي جماعة، والحكم بيدِ واحد، لكن يجبُ على المستشير أن يتبع ما يرى أنه أصلح، ولا يجوز أن ينتصرَ لرأيهِ لأنه رأيهُ، بل الواجب عليه - لحقِّ الله ولحقِّ من ولَّاهم الله عليه - أن يتبع ما هو أصلَحُ حتى لو خالفوه، والأصلح في رأيهم يجبُ عليه أن يتَّبع رأيهم، لكنه ليس بمُلزِم. بمعنى أننا لا نقول: إنَّ هؤلاء لهم سلطة على الحاكم، بل الحاكم له السلطة، ولهذا قال هنا:

{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 160]، ولم يقل: إذا أشاروا عليكَ فخُذْ به إذا عزمت، وهو قد يعزمُ على ما أشاروا به، وقد يعزم على غيره»

(1)

.

الاستدراك الخامس:

قال الدكتور الدميجي: «فيؤخَذُ من هذا أن طاعة المخلوقين جميعهم: حاكمهِم ومحكوميهم مقيَّدة بأن تكون بالمعروف، والمعروفُ هو ما عُرفَ من الشارع والعقل السليم حسَنُه أمرًا كان أو نهيًا، والحكَمُ في ذلك هم العلماء الذين يستنبطون الحكم من الكتاب والسنة كما قال تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

إذا لم يكن الإمام عالمًا - مع أنه من شروطه - وكما شملت الآية السابقة {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} العلماء أيضًا، ولأننا أُمرنا عند التنازع بالتَّحاكم إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله، وهذا ما يحملُه علماءُ الشرع ويتعلَّمونه

(1)

تفسير آل عمران المجلد الثاني (نقلًا من موقع الشيخ الإلكتروني).

ص: 250

ويعلمونه، لذلك كلِّه تكون طاعة الحكام تبعًا لطاعة العلماء؛ وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله:«والتحقيقُ أنَّ الأمراء إنَّما يُطاعون إذا أَمروا بمقتضى العلم، فطاعتهُم تبعٌ لطاعة العلماء، فإنَّ الطاعة إنما تكونُ في المعروف وما أوجبه العلم»

(1)

.

في كلامه هذا أنه ليس المراد بالمعروف في حديث «إنَّما الطاعة في المعروف» ما لم يكن معصية، بل ما كان معروفًا بالشرع والحس والعقل، وتقدَّم

(2)

بالأدلة وإجماعات أهل العلم أنَّ المراد بالمعروف ما لم يكن معصية. وكلامُ ابن القيم الذي نقله حقٌّ؛ لأنه بيانُ أن طاعة الأمراء تبعٌ لطاعة العلماء حتى لا يأمر الأمراء بمعصية؛ فقوله: إنَّ طاعة الأمراء تبعٌ للعلماء = أي لا يصحُّ للأمير ينفردَ عن العلماء، بل لابد أن يكون أمرهُ بمقتضى العلم لئلَّا يأمر بمعصية.

وليس معنى هذا أن الأمير لا يأمر بشيء مما يراه مصلحة حتى يأذن العلماء، وإنما المراد أنه إذا أمر لا يأمر بمعصية؛ ومعرفةُ ذلك بالعلم الشرعي؛ إمَّا بالأدلة الشرعية أو بالرجوع إلى أهل العلم.

الاستدراك السادس:

قال: «فهذا الحديث قيَّد الطاعة للإمام الذي يقود بكتاب الله، وبناءً على ذلك، فلا تجوزُ طاعةُ حاكمٍ يحكم بغير ما أنزل الله في حكمه هذا، سواءٌ كان هذا الحكمُ مخرجًا له من الملَّة أولا - كما سبق بيانه - لأنه في كلتا الحالتين عاصٍ لا يأمرُ بالمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»

(3)

.

(1)

ص: 385.

(2)

تقدم (ص: 75).

(3)

ص: 388.

ص: 251

وقال: «وهذا السبب أيضًا كالذي قبله تستوي فيه الصور من الحكم بغير ما أنزل الله المخرجة لفاعلها من الإسلام، وكذلك الصور التي لا تخرجه من الملة، وقد سبقَ بحثُ هذه الصور وتفنيدها» .

ثم قال: «فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنه يُشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيَّته بكتاب الله، أمَّا إذا لم يحكِّم فيهم شرعَ الله فهذا لا سمعَ له ولا طاعة، وهذا يقتضي عزلَهُ، وهذا في صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسِّقة، أما المكفِّرة فهي توجِبُ عزلَهُ ولو بالمقاتلة كما سبق بيانه في السبب الأول؛ والله أعلم»

(1)

.

تقدم بيان معنى الحديث

(2)

الذي ذكر طاعة الحاكم مقيَّدة بالحكم بما أنزل الله؛ كقول أم الحصين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنْ أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع يقودُكم بكتاب الله، فاسمَعوا له وأطيعوا»

(3)

، وأنه لا دلالة فيه على ما أراد.

ثم مقتضى كلامه الأول: أنَّ كلَّ عاصٍ لا يُسمع ولا يُطاع له؛ لأنه لا يأمرُ بالمعروف، وهذا يحتمل أحد أمرين:

الاحتمال الأول: أنَّ كل عاصٍ لا يُسمع ولا يُطاع له؛ وهذا عَينُ قول الخوارج.

الاحتمال الثاني: أنَّ كلَّ عاصٍ لا يأمر إلَّا بمعصية، وهذا يُخالفه الشرع والعقل والواقع.

(1)

ص: 472.

(2)

تقدم (ص: 82).

(3)

أخرجه مسلم (1298).

ص: 252

أما الشرع فقد قال عوف بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألَا مَنْ وليَ عليهِ والٍ فرآهُ يأتي شيئًا من معصيةِ الله فليكْرَه ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنَّ يدًا من طاعة»

(1)

، فجمع في هذا الحديث بين كون الحاكم عاصيًا ووجوبَ السمع والطاعة له، فهذا يدلُّ على أنه لا يلزم أن يأمر بالمعصية دائمًا، أما العقل فليس هناك دليلٌ عقلي يدلُّ على التلازم بين أن يكون الرجل عاصيًّا ولا يأمر إلا بمعصية، أما الواقع فنرى كثيرًا من العصاة يأمرون بطاعة الله.

تنبيه:

ذكر الدكتور عبد الله الدميجي حديث أنس فقال: «ومنها ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمَعوا وأطيعوا وإن استُعمِلَ عليكُم عبدٌ حبشيٌّ كأنَّ رأسَهُ زبيبة، ما أقامَ فيكُم كتابَ الله»

(2)

، ثم قال في الحاشية:«رواه البخاري في ك: الأحكام. ب: السمع والطاعة للإمام ما لم يأمر بمعصية» .

والشاهد من هذا الحديث هو قوله: «ما أقامَ فيكُم كتابَ الله» وهذا ليس موجودًا في البخاري، والعجيبُ أنه عزاهُ برقمه إلى المرجع، وليس موجودًا فيه، على أنَّ غيره قد عزاهُ إلى البخاري؛ كابن الأثير في جامع الأصول، وابن حجر في التلخيص الحبير، وأؤكِّد أن العجيبَ في عزوهِ بالرقم وليس موجودًا في البخاري؛ وعَزْوهُ بالرقم يُوهِمُ أنه وقفَ عليه بنصِّه.

(1)

سبق تخريجه (ص: 36).

(2)

ص: 387.

ص: 253

الاستدراك السابع:

قال الدكتور: «لذلك فَمن أطاعَ العلماءَ والأمراءَ فيما فيه معصيةٌ لله فقد اتَّخذهم أربابًا من دون الله، وهذا شركٌ وعبادة لهم من دون الله» ، ثم قال:«والطاعة في المعصية طاعةٌ للطاغوت، وقد أُمِرنا بالكُفر به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمطاعُ في معصية الله والمطاعُ في اتِّباع غير الهدى ودين الحق سواءٌ كان مقبولًا خبرهُ المخالفُ لكتاب الله أو مطاعًا أمرهُ المخالفُ لأمرِ الله = هو طاغوت»

(1)

.

وجواب هذا أن يقال: «إنَّ جعلَ كلِّ مَنْ أطاعَ غيرَ الله في معصيةٍ متَّخذًا له ربًّا من دونه سبحانه = خطأ قطعًا، وعلى هذا التأصيل لو أطاعَ الابنُ أباهُ في معصيةٍ يكفُر الابنُ ويكونُ الأبُ طاغوتًا» !!.

إن هذا التقرير من الدكتور شنيع، وكان من المتعيِّن عليه أن يردَّ كلام شيخ الإسلام هذا المجمل إلى كلامه الآخر المفصل الذي قسَّم المطيع لغيره في معصية الله قسمين:

القسم الأول: طاعتهم مع اعتقاد إباحة المحرَّم أو تحريم المباح، فهذا كفرٌ وهو اتِّخاذُهم أربابًا من دون الله.

القسم الثاني: طاعتُهم مع غيرِ اعتقاد حُرمة المباح ولا إباحةِ المحرَّم؛ فهذا معصيةٌ وليس كفرًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهؤلاء الذين اتَّخذوا أحبارَهُم ورهبانهم أربابًا، حيث أطاعوهم في تحليل ما حرَّم الله وتحريم ما أحلَّ الله = يكونون على

(1)

ص: 390.

ص: 254

وجهين: (أحدهما): أن يعلموا أنهم بدَّلوا دينَ الله فيتَّبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليلَ ما حرَّم الله وتحريمَ ما أحلَّ الله اتباعًا لرؤسائهم؛ مع عِلْمهِم أنهم خالفوا دينَ الرسل، فهذا كفرٌ.

وقد جعلَهُ الله ورسولُه شركا - وإن لم يكونوا يصلُّون لهم ويسجدون لهم - فكان مَنْ اتَّبع غيره في خلافِ الدين مع عِلْمهِ أنه خلافُ الدين، واعتقدَ ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله = مشركًا مثل هؤلاء.

و (الثاني): أن يكون اعتقادهُم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا لكنَّهم أطاعوهم في معصية الله؛ كما يفعل المسلم ما يفعلُه من المعاصي التي يعتقدُ أنها معاصٍ؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّما الطاعة في المعروف»

(1)

، وقال:«على المسلمِ السمعُ والطاعةُ فيما أحبَّ أو كَرِهَ ما لم يؤمَر بمعصية»

(2)

»

(3)

.

وتأمل أنَّ شيخ الإسلام ضربَ مثلًا بما نحن بصددهِ وهو طاعةُ الحكَّام في معصية الله.

الاستدراك الثامن:

قال الدكتور: «ومع تقرير هذا يجب أن نُنَبِّه إلى أنه ليس متَّفقًا على وجوب الصبر على الأذى الشخصي عند السلف، فقد خالفَ في ذلك ناسٌ منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، عملًا بأدلة أخرى مثل:

(1)

سبق تخريجه (ص: 75).

(2)

أخرجه البخاري (7144)، ومسلم (1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

مجموع الفتاوى (7/ 70).

ص: 255

1 -

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].

2 -

حديث: «من قُتِلَ دون مالهِ فهو شهيد»

(1)

.

وقد سبق كشفُ هذه الشبهة من أوجه

(2)

، والجوابُ على أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (2).

وقد سبقه لعزوه لعبد الله بن عمرو بن العاص ابنُ حزم فقال:

«وهكذا إذا أريد بظلمٍ فمنع من نفسه - سواء أراده الإمام أو غيره - وهذا مكانٌ اختلفَ الناس فيه: فقالت طائفة: إنَّ السلطان في هذا بخلافِ غيره، ولا يحارب السلطان وإن أراد ظلمًا.

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني أنَّ رجالًا سألوا ابن سيرين فقالوا: أتينا الحرورية زمانَ كذا وكذا، لا يسألون عن شيء غير أنهم يقتلون مَنْ لقوا؟.

فقال ابن سيرين: ما علمتُ أنَّ أحدًا كان يتحرَّجُ من قتلِ هؤلاء تأثُّمًا، ولا من قتلِ مَنْ أراد مالَكَ إلَّا السلطان، فإنَّ للسلطان لَحقًّا».

وخالفهم آخرون فقالوا: السلطانُ وغيره سواء، كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى عاملٍ له أن يأخذ الوَهْطَ فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، فلبس سلاحَه هو ومواليه وغِلْمته، وقال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ قُتلَ دونَ مالهِ - مظلومًا - فهو شهيد» .

(1)

(ص: 396)، تقدم (ص: 128).

(2)

تقدم (ص: 211).

ص: 256

ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار، قال: إنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص تيسَّر للقتال دون الوَهْط، ثم قال: مالي لا أقاتلُ دونه وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ قُتلَ دونَ مالهِ فهو شهيد» .

قال ابن جريج: «وأخبرني سليمان الأحول أنَّ ثابتًا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره، قال: لما كان بين عبد الله بن عمرو بن العاص، وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان وتيسَّروا للقتال ركبَ خالد بن العاص - هو ابن هشام بن المغيرة المخزومي - إلى عبد الله بن عمرو فوعَظَهُ، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: أمَا علمتَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قُتلَ على مالهِ فهو شهيد» .

قال أبو محمد رحمه الله: فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص بقيَّة الصحابة، وبحَضرة سائرهم رضي الله عنهم يريدُ قتال عنبسة بن أبي سفيان عاملَ أخيهِ معاوية أمير المؤمنين إذ أمرَهُ بقبض «الوَهْط» ورأى عبدُ الله بن عمرو أنَّ أخْذَهُ منه غيرُ واجب، وما كان معاوية رحمه الله ليأخذَ ظلمًا صراحًا، لكن أرادَ ذلك بوجهٍ تأوَّله بلا شكّ، ورأى عبدُ الله بن عمرو أن ذلك ليس بحقٍّ، ولبسَ السلاح للقتال، ولا مخالفَ له في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم»

(1)

.

الاستدراك التاسع:

نقل الدكتور عن النووي كلامًا بتَرهُ ولم يُكمله، وبسبب بترهِ دلَّ كلامُ النووي أنه يرى عزلَ الحاكم الذي عنده معصية محقَّقة.

(1)

المحلى بالآثار (11/ 335)، وسبق مناقشته مناقشة تفصيلية (ص: 211).

ص: 257

قال الدكتور عبدالله الدميجي: «وقال النووي: «المرادُ بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث لا تُنازعوا ولاة الأمور في ولاياتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محقَّقًا تعلَمونه من قواعد الإسلام»

(1)

.

وإذا أُكملَ النقل عن النووي تبيَّن بترُ الدكتور الدميجي.

قال النووي في شرح مسلم: «إلَّا أن تروا منهُم منكرًا محقَّقًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتُم ذلك، فأنكِروهُ عليهم، وقولوا بالحقِّ حيث ما كنتم، وأمَّا الخروجُ عليهم وقتالُهم فحرامٌ بإجماعِ المسلمين، وإنْ كانوا فسَقةً ظالمين.

وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهلُ السنة أنه لا ينعزلُ السُّلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعضِ أصحابنا أنه ينعزل، وحُكي عن المعتزلة أيضًا = فغلَطٌ من قائلهِ مخالفٌ للإجماع»

(2)

.

قارِنْ كلامَ النووي قبلَ إكماله لما كان مبتورًا بكلامهِ كاملًا بلا بتر. فإنه بعدَ إكمالهِ تبيَّن أنه يتكلَّم عن إنكار المنكر لا الخروج.

الاستدراك العاشر:

نقل الدكتور قول القاضي عياض، ولم يستدركه مع أنه خطأ عقدي

(3)

.

قال الدكتور: «قال القاضي عياض: «أجمعَ العلماء على أنَّ الإمامة لا تنعقدُ لكافر، وعلى أنه لو طرأَ عليه كُفرٌ وتغييرٌ للشرع أو بدعةٌ = خرجَ عن حكم الولاية وسقطتْ طاعته، ووجبَ على المسلمين القيامُ عليه وخلعهُ ونصبُ إمامٍ عادلٍ إن

(1)

(ص: 469).

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 229).

(3)

(ص: 470).

ص: 258

أمكَنهُم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلَّا لطائفةٍ وجبَ عليهم القيامُ بخَلْع الكافر»، ثم قال:«وقد سبقَ ذِكرُ كلامِ القاضي عياض وادِّعاؤه إجماعَ العلماء على عزلِ الإمام «لو ترك إقامةَ الصلاة والدعوة إليها» .

تقدَّم أنَّ هذا الكلام - وهو القول بأنه لا تستمر الولاية لمن يقع في بدعة - مخالفٌ للأدلة وإجماعِ أهل السُّنة

(1)

، وكان الواجب أن يردَّه ويبيِّن مخالفته لإجماع أهل السنة.

وتُعتبر هذه المسألة من شواذِّ القاضي عياض؛ كتأويلهِ بعضَ الصفات كصفة الضحك

(2)

، وصفةِ النزول لله

(3)

، وصفةِ العجب لله

(4)

، وصفة اليد

(5)

، وصفة الدنو

(6)

.

الاستدراك الحادي عشر:

نقل الدكتور خطأ عقديًّا عند السفاقسي، والمرادُ به ابن التين؛ فقال الدميجي:«وقال السفاقسي: «أجمعوا على أن الخليفة إذا دعا إلى كفرٍ أو بدعةٍ يُثار عليه»

(7)

ولم يتعقَّبه، بل ولم يُكمل النقلَ الذي فيه تعقيبُ القسطلاني عليه، فإن الدميجي

(1)

تقدم (ص: 32)، وسيأتي (ص: 260).

(2)

إكمال المعلم (1/ 558).

(3)

إكمال المعلم (3/ 109).

(4)

إكمال المعلم (6/ 543).

(5)

الشفا (1/ 50).

(6)

(الشفا (1/ 205).

(7)

(ص: 470).

ص: 259

نقل كلام السفاقسي ابنِ التين من القسطلاني، ولو أكملَ النقلَ لأوضح أن القسطلاني استدركَ عليه، وكان الواجب على الدميجي أن يتعقَّب ابنَ التين لأنَّ قوله مخالفٌ لإجماعِ أهل السنة وللأدلة المتواترة كما تقدم

(1)

، وهذا هو استدراكُ القسطلاني وقبلَهُ ابن حجر.

قال القسطلاني: «وقول السفاقسي: أجمعوا أن الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة يُقام عليه، تُعقِّبَ بأن المأمون والمعتصم والواثق كلٌّ منهم دعا إلى بدعةِ القولِ بخلق القرآن، وعاقَبوا العلماء بسبب ذلك بالضرب والقتل والحبس وغير ذلك، ولم يُقلْ أحدٌ بوجوب الخروجِ عليهم بسبب ذلك»

(2)

، فكلامُ القسطلاني صريحٌ في مخالفة ابن التين، بل وحكى الإجماع على خلافه.

وقال الحافظ ابن حجر: «ذكرهما ابنُ التين ثم قال: وقد أجمعوا أنه - أي الخليفة - إذا دعا إلى كفرٍ أو بدعةٍ أنه يُقام عليه، واختلفوا إذا غصَب الأموال، وسفكَ الدماء، وانتهكَ؛ هل يُقامُ عليه أو لا؟. انتهى

وما ادَّعاه من الإجماع على القيام فيما إذا دعا الخليفة إلى البدعة مردود

وإلَّا فقد دعا المأمونُ والمعتصمُ والواثقُ إلى بدعةِ القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتلِ والضربِ والحبسِ وأنواعِ الإهانة، ولم يقلْ أحدٌ بوجوبِ الخروجِ عليهم بسبب ذلك»

(3)

.

(1)

تقدم (ص: 37)

(2)

إرشاد الساري (10/ 217).

(3)

فتح الباري (13/ 116).

ص: 260

الاستدراك الثاني عشر:

تكلَّم الدكتور الدميجي على عَزلِ الحاكم لفسقهِ

(1)

، وجعلَ المسألة خلافية بين أهل السنة مع أنه مجمَعٌ عليها كما تقدم، ثم نقلَ نقولات، ثم رجَّح

(2)

جوازَ عزلِ الحاكم لفسقهِ وظلمهِ وبدعته فقال:

«أما الفاسق والظالم والمبتدع: وهو المرتكب للمحظورات والكبائر دون ترك الصلاة؛ لا سيما ظلم الحقوق أو دعوة إلى بدعة = فهذا يُطاعُ في طاعة الله، ويُعصى مع الإنكار عليه في المعصية، ويجوزُ عزلُه إن أمكَنَ بإحدى الطُّرق السلمية السابقة - عدا السيف - بشرط ألَّا يترتَّب على ذلك مفسدةٌ أكبر» .

هذا القول من الدكتور قولٌ بدعيٌّ شاذٌّ مخالفٌ لما عليه أهل السنة كما تقدم

(3)

، بل مخالفٌ للأدلة الشرعية المتواترة؛ وتقدَّم ذِكرُها

(4)

؛ وهو تقريرٌ للخروج، وليس كلامُه في العزل الذي ذكَرهُ بعضُ الفقهاء لأنهم يخصُّونه بأهل الحلِّ والعقد، أمَّا هو فيعمِّمهُ بشرط ألَّا يكون بالسيف.

الاستدراك الثالث عشر:

قوَّى الدكتور الدميجي قوله البدعيَّ - في جواز عَزلِ الحاكم بفسقه - بالنقولاتِ عمَّن لا يُعتدُّ بهم؛ لأنهم خالفوا منهجَ أهل السنة والأدلة المتواترة، فقد نقل عن القرطبي فقال: «ونسبَ القرطبيُّ هذا القولَ للجمهور فقال: «قال الجمهور: إنه

(1)

(ص: 474).

(2)

(ص: 547).

(3)

تقدم (ص: 39).

(4)

تقدم (ص: 35).

ص: 261

تنفسخُ إمامته، ويُخلَعُ بالفسقِ الظاهر المعلوم»

(1)

.

هذا كلامُ أبي عبد الله القرطبي صاحب التفسير؛ وهو لما ذكرَ المسألة ذكرَ أكثرَ من دليلٍ للقائلين بأنَّ ولايته لا تنفسخُ؛ ولم يتعقَّبْهمُ، وتقدَّم بيانُ أن القول بانفساخ الولاية للفسق خلافُ إجماعِ أهل السنة

(2)

.

وكان الواجب على الدكتور أن يحرِّر هذه المسائل ولا يفزعَ إلى من ليسوا عُمدةً في معتقد أهل السنة، ومثله في هذا مثل من أوَّلَ صفاتِ معتمدًا على المتأخِّرين من بعضِ المفسِّرين وشُرَّاح الأحاديث.

الاستدراك الرابع عشر:

لما ذكر الدكتور عزلَ الحاكم بالفسق قال: «ونسبَ الزبيديُّ هذا القولَ إلى الشافعي في القديم، وإليه ذهبَ بعضُ أصحابه، وهو المشهور عن أبي حنيفة»

(3)

.

تقدَّم عدمُ صحَّة النسبة للشافعي من أوجُهٍ

(4)

، وتقدَّم توجيهُ الكلام المنسوبِ لأبي حنيفة وأنَّه رجعَ عنه

(5)

.

(1)

(ص: 474).

(2)

تقدم (ص: 39).

(3)

(ص: 474).

(4)

تقدم (ص: 171).

(5)

تقدم (ص: 165).

ص: 262

الاستدراك الخامس عشر:

دلَّسَ الدكتور في نقله عن النووي إذ استلَّ من كلامه ما يدلُّ على أنَّ في مسألةِ عزلِ الحاكم لفسقهِ خلافًا معتبرًا، ثم لم يأتِ بكلامهِ الآخر الذي يدلُّ على أنَّ المسألة إجماعية، وأنَّ المخالف قال قولًا شاذًّا.

قال الدكتور: «وقال النووي: إنَّ الإمامَ لا ينعزلُ بالفسق على الصحيح»

(1)

.

وعزاهُ إلى روضة الطالبين، وتركَ كلامه في شرح مسلم وقد وقفَ عليه؛ لأنه نقلَ قبل قليل كلام القاضي عياض من شرح النووي على مسلم وهو في الموضع نفسه، بل ومتصل به، قال النووي في شرح مسلم: «وأجمعَ أهلُ السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق؛ وأمَّا الوجهُ المذكور في كتب الفقه لبعضِ أصحابنا أنه ينعزلُ وحُكِيَ عن المعتزلة أيضًا، فغلَطٌ من قائله؛ مخالفٌ للإجماع، قال العلماء: وسببُ عدم انعزالهِ وتحريمِ الخروج عليه ما يترتبُ على ذلك من الفتن، وإراقةِ الدماء، وفسادِ ذات البين، فتكونُ المفسدة في عزلهِ أكثرَ منها في بقائه.

قال القاضي عياض: أجمعَ العلماء على أنَّ الإمامة لا تنعقد لكافر»

(2)

.

فقول النووي في روضة الطالين: «على الصحيح» . لأن هناك من خالفَ من الشافعية المتأخرين؛ وهو يكتب في فقههم، وهذا لايتنافى مع الإجماع السابق لهؤلاء المتأخرين الذي ذكَرهُ في شرحهِ على مسلم.

(1)

(ص: 475).

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 229).

ص: 263

الاستدراك السادس عشر:

قرر الدكتور الدميجي عدمَ جواز مقاتلةِ مَنْ خرجوا على حاكمٍ جائرٍ لمنازعته في ملكهِ فقال: «وعلى هذا فإنه إذا كان الإمام جائرًا، وخرجَ عليه عادلٌ، فلا تجوز مقاتلة العادل، أمَّا إذا كان الإمام عادلًا وخرَج عليه عادلٌ مثله، أو كان جائرًا وخرج عليه جائرٌ مثله، ففي مثل هذه الحالة يكون القتال قتالَ فتنة»

(1)

.

وهذا خطأ كبير، ثم نقل كلامًا عن الحافظ ابن حجر، قال الدكتور:«وهُم أهلُ عدلٍ خرجوا على إمامٍ جائر، أو هُمْ كما قال الحافظ ابن حجر: «قسمٌ خرجوا غضبًا للدِّين من أجل جَور الولاة وتركِ عملهم بالسنة النبوية، فهؤلاء هم أهلُ حقٍّ، ومنهم الحسينُ بن علي وأهلُ المدينة في الحرَّة والقرَّاء الذين خرَجوا على الحجاج» فهؤلاء لا تجوزُ مقاتلتهم على الصحيح، قال الحافظ:«وأمَّا مَنْ خرجَ عن طاعة إمامٍ جائر أرادَ الغلبةَ على مالهِ أو نفسهِ أو أهلهِ فهو معذورٌ ولا يحلُّ قتاله، وله أن يدفعَ عن نفسهِ ومالهِ وأهلهِ بقدرِ طاقته» .

قد أَوْرَدَ على هذا القول ما يدل عليه فقال: «قد أخرج الطبريُّ بسندٍ صحيح عن عبد الله بن الحارث عن رجل من بني نضر عن علي - وذكر الخوارج - فقال: «إنْ خالفوا إمامًا عادلًا فقاتِلوهم، وإن خالفوا إمامًا جائرًا فلا تُقاتلوهم، فإنَّ لهم مقالًا» .

وقال ابن حزم: «وأما الجوَرة من غير قريش فلا يحلُّ أن يُقاتَلَ مع أحدٍ منهم، لأنهم كلُّهم أهلُ منكر إلَّا أن يكون أحدهم أقلَّ جَورًا فيقاتَلُ معه من هو أَجْوَرُ منه»

(2)

.

(1)

(ص: 495).

(2)

(ص: 494).

ص: 264

تقدَّم من كلام ابن تيمية

(1)

أن الذين يقاتلون من المسلمين ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: الذين ارتدوا؛ كما فعل أبو بكر الصديق.

الطائفة الثانية: أهل البدع كالخوارج.

الطائفة الثالثة: المفسدون في الأرض؛ ومنهم الخارجون على السلطان يريدون منازعته في ولايته.

وتقدَّم أن ضابطَ الخارجي أنه من يكفِّر بما ليس مكفرًّا

(2)

، ومما تقدَّم أيضًا يُعلم أنَّ من خرجَ على السلطان لدافعٍ دينيٍّ؛ لأجلِ المعاصي من غير تكفير، فإنَّه مبتدعٌ ضالٌّ بإجماعِ أهل السُّنة، وبمثلِ هذا ضلَّلَ الإمامُ سفيان الثوري والإمامُ أحمد الحسنَ بنَ صالح.

إذا تبيَّن هذا ففي الكلام - الذي قرَّره الدكتور ونقَلهُ عن الحافظ - نظَرٌ من جهات:

الجهة الأولى: تقدم أنَّ فعلَ الحسين بن علي لا يُعدَّ خروجًا

(3)

.

الجهة الثانية: تقدَّم أنه على القول بأنَّ فعل الحسين يعدُّ خروجًا

(4)

، فقد انعقدَ الإجماعُ على خطأ هذا الفعل، ففعلُ أهل المدينة في الحرَّة، وكذلك الذين خرجوا على الحجَّاج خطأ إجماعًا، وعلى هذا أهلُ السنة بعد، لذا لا يُستدلُّ بفعلهم.

(1)

تقدم (ص: 191).

(2)

تقدم (ص: 185).

(3)

تقدم (ص: 157).

(4)

تقدم (ص: 151).

ص: 265

الجهة الثالثة: تقدَّم أنه لا يصحُّ لأحدٍ أن يدفعَ عن مالهِ ونفسهِ تجاهَ الإمامِ الجائر؛ للأدلَّة، ولقولِ عمر، وللإجماع الذي حكَاهْ ابنُ المنذر عن أهل الحديث

(1)

.

الجهة الرابعة: الإسناد الذي ذكره الحافظ عن عليٍّ ضعيف؛ لأن فيه رجلًا مبهمًا لذا لم يحكم الحافظ بصحة السند كلِّه، ثمَّ لو صحَّ فإنَّ المراد بأثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه النهيُ عن القتال، ووصفَ الحافظ ابن حجر في كلامه المتقدِّم الحسين وغيره بأنهم خرَجوا لا يعني أنهم خوارج، بل فعلوا الخروجَ، ولا يلزمُ من فعلِ الرجل للخروج أن يكونَ خارجيًّا؛ لأن الشرطَ في وصفِ الرجل أن يكون خارجيًّا لم ينطبق، والمرادُ بخروجهم دفعُ مظلَمةٍ لا منازعة الحاكم في ملكهِ وحكمهِ، فمثلُ هؤلاء يجبُ على الحاكم أن يسمَع لهم ويردَّ مظلمتهُم؛ بخلافِ مَنْ خرجَ لمنازعته في ملكهِ ولو كان ظالمًا.

قال ابن قدامة: «قومٌ من أهل الحقِّ، يخرجون عن قبضةِ الإمام، ويرومونَ خلعَهُ لتأويلٍ سائغ، وفيهم منعةٌ يحتاجُ في كفِّهم إلى جمعِ الجيش، فهؤلاء البغاة، الذين نذكرُ في هذا الباب حكمَهُم، وواجبٌ على الناس معونةُ إمامهم، في قتال البغاة»

(2)

.

على هذا يكون كلامُ الخليفة الراشد علي بن أبي طالب في قومٍ خرجوا للمطالبة بمظلمتهم، فلا يجوزُ للإمام مقاتلتهم ولا تجوزُ إعانته على ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا قال الفقهاء في البغاة إنَّ الإمام يراسلُهم؛ فإنْ ذكَروا شبهةً بيَّنها، وإن ذكروا مظلمةً أزالَها؛ كما أرسل عليٌّ ابنَ عباس إلى الخوارج فناظَرَهُم حتى رجعَ منهم أربعة آلاف، وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاةَ القدرية والخوارجَ

(1)

تقدم (ص: 211).

(2)

المغني (8/ 526).

ص: 266

فناظَرهُم حتى ظهرَ لهم الحق وأقرُّوا به»

(1)

.

وقال: «ولهذا لما اعتقدت طوائفُ من الفقهاء وجوبَ القتال مع عليٍّ جعلوا ذلك (قاعدة فقهية) فيما إذا خرجت طائفةٌ على الإمام بتأويلٍ سائغٍ وهي عندَهُ راسلَهُم الإمام؛ فإن ذكروا مظلَمة أزالَها عنهم، وإن ذكَروا شبهةً بيَّنها؛ فإن رجَعوا وإلَّا وجبَ قتالُهم عليهِ وعلى المسلمين»

(2)

.

الجهة الخامسة: اعتمد في النقل على ابن حزم؛ وهو ممن زلَّ في هذا الباب، فلا يعتمد عليه كما تقدم

(3)

.

وبعد ما سبق تقريره، فإنه - أيضًا - لا يُعتمد على المتأخرين كالحافظ ابن حجر في أمثالِ هذه المسائل العقدية إذا ثبتَ أنه خالفَ منهجَ السلف؛ كما خالَفهم في بعضِ مسائل الاعتقاد؛ كتأويل بعض الصفات.

الجهة السادسة: أنَّ عموم حديث عرفجة الأشجعي يدلُّ على قتال العادل إذا خرجَ على الحاكم ولو كان فاسقًا؛ فقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمَن أرادَ أن يفرِّقَ أمرَ هذه الأمة وهي جميعٌ، فاضربوهُ بالسَّيف كائنًا من كان» ، وفي رواية «مَنْ أتاكُم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحد، يريدُ أن يشقَّ عصاكُم، أو يفرِّقَ جماعتَكُم، فاقتلوه»

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 240).

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 450)

(3)

تقدم (ص: 175).

(4)

سبق تخريجه (ص: 161).

ص: 267

الاستدراك السابع عشر:

من أشنع ما في كتاب الدكتور عبد الله الدميجي أنه جعلَ مسألة الخروج على الحاكم الفاسق خلافيةً بين أهل السنة، فيترتَّبُ على هذا أنَّ مَنْ يرى الخروجَ يعدُّ قولُه سائغًا، وغايةُ ما في الأمر أنَّ المخالف مخطئ ولا يبدَّع، لأن الخلاف في المسألة سائغ!!.

وهذا خطأ قطعًا مخالفٌ للقرآن والسنة الصحيحة وإجماعِ أهل العلم من أهل السنة، بل وأجمعَ السلف على أنَّ المخالف في هذا يضلَّل ويبدَّع كما في كتب العقائد، وكلُّ هذا سبقَ نقلُه وتقريره

(1)

.

قال الدكتور: «وبناءً على ذلك الاختلاف اختلفوا أيضًا في الخروج على أئمة الجَور وسلاطين الظلم، والذي يظهر لي أنَّ سبب اختلافهم هو اختلافُ أفهامهِم للنصوص الشرعية الناهية عن الخروج، والأخرى المؤيِّدة له، كما أنَّ أحوال أولئك السلاطين غير منضبطة وغير ثابتة، فمنهم القريبُ إلى العدل، ومنهم القريبُ إلى الكفر، ومنهم الغامضُ، ومنهم من يكون في عصرٍ يندرُ فيه الأخيار، ومنهم من يكون بخلاف ذلك، ثم إنَّ من العلماء من ينظر إلى الحسنات ويقتصرُ على نصوصِ الطاعة، ومنهم من يحصرُ نظَرهُ على السيِّئات ويستشهدُ بأحاديثِ الخروج، ومن ناحيةٍ ثالثة ينظُر بعضُ الفقهاء إلى كونِ الخارج مساويًا للمخروج عليه أو أظلمَ منه؛ بينما يرى الآخرون أنه أعدَلُ وأحقُّ»

(2)

.

(1)

تقدم (ص: 33).

(2)

(ص: 502).

ص: 268

وقال: «قد ادَّعى الإجماعَ على ذلك بعضُ العلماء كالنووي في شرحه لصحيح مسلم، وكابن مجاهد البصري الطائي، فيما حكاه عنه ابن حزم، ولكن دعوى الإجماع فيها نظر، لأنَّ هناك من أهل السنة مَنْ خالف»

(1)

.

وهذا خطأ شنيع كما تقدَّم بالإجماعات الكثيرة عن أهل السنة، وبتبديع السَّلف لمن خالفَ في هذه المسألة

(2)

.

فالقولُ بأنَّ المسألة خلافيةً بوَّابة سوءٍ وشرٍّ؛ ويغترُّ به من لا يغترُّ بالقائلين أنَّ الخروج جائز، وهذا التقرير من الدميجي من أفسَد ما في الكتاب.

الاستدراك الثامن عشر:

نقل الدكتور

(3)

كلامَ ابن حزم في نسبة الخروج لعلي بن أبي طالب ومَن معه، ولمعاوية ومَن معه، ولعائشة وطلحة والزبير وآخرين. ولم يستدرك عليه نسبةَ الخروج إلى هؤلاء، وقد سبقَ بيانُ خطأ نسبة الخروجِ إلى هؤلاء

(4)

.

(1)

(ص: 503).

(2)

تقدم (ص: 39).

(3)

(ص: 518).

(4)

تقدم (ص: 175).

ص: 269

الاستدراك التاسع عشر:

نسبَ الدكتور القول بالخروجَ إلى أئمَّة المذاهب الأربعة

(1)

، وقد تقدَّم بيانُ أنَّ أبا حنيفة رجعَ عن هذا، وأنَّ نسبة هذا القول لبقية الأئمة الأربعة لا تصحُّ

(2)

.

الاستدراك العشرون:

نسبَ الدكتور الخروجَ إلى الإمام أحمد بن نصر الخزاعي فقال: «وممن طبَّق الخروجَ فعلًا على السُّلطان المبتدع الواثقِ بالله القائلِ بخلق القرآن = أحمدُ بن نصر الخزاعي»

(3)

، وتقدَّم خطأُ نسبةِ الخروجِ إلى الإمام أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله

(4)

.

(1)

(ص: 534).

(2)

تقدم (ص: 165).

(3)

(ص: 540).

(4)

تقدم (ص: 203).

ص: 270

‌الفصل الرابع

الاستدراكات على مقالين

للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف

ص: 271

الاستدراكات على مقالين

للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف

إنَّ للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف مقالين تكلَّم فيهما عن الإمامة كلامًا مخالفًا لمنهج أهل السنة - كما سيأتي بيانه -، وهو في هذين المقالين متأثِّر بما كتبه الدكتور عبد الله الدميجي في كتابه (الإمامة العظمى).

المقال الأول: مقدمات ومسائل في الإمامة.

المقال الثاني: ضوابط ومسائل في الطاعة لولاة الأمور.

واشتهر الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف بخلَلهِ في هذا الأصل لمَّا كان يدرِّس في أَروِقَة الجامعة، ثم ظهر هذا جليًّا في تغريداته بتويتر.

وهذه الاستدراكات كلُّها على المقال الثاني إلَّا الاستدراك الأول، فهو متعلِّق بالمقال الأول.

الاستدراك الأول:

قال في الحاشية تعليقًا على كلام الإمام علي بن أبي طالب: «لابدَّ للناس من إمارةٍ برَّةٍ كانت أو فاجرة: لكن في مثل هذه الأزمنة لا تكاد تعرف الإمامة الفاجرة فضلًا عن البرَّة» .

وهذا تكفيرٌ لأكثر حكَّام دول العالم الإسلامي إن لم يكن كلهم؛ لأنه لا يكاد يُعرف الإمامة الفاجرة فإذًا لم تبق إلَّا الكافرة، ومما يدلُّ على أنه غالٍ في تكفير الحكومات ما ذكَرهُ في حاشيةِ كتابه (نواقض الإيمان العملية والقولية): «قارِنٍ ما

ص: 273

سبقَ ذكره

بما تراه واقعًا مشاهدًا في مجتمعات المسلمين، عندما (جوَّزت) تلك الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين أوكارَ الربا والزنى والخمر ونحوها من المحرَّمات الظاهرة، ومنحَت التراخيصَ لتلك الموبقات، بل (فرضت) تلك المحرَّمات القطعية، وقامتْ على رعايتها وحمايتها، ليس هذا فحسب، بل و (سوَّغت) تلك الأنظمة موالاة الكفار باسمِ المصالح المشتركة والتعايش السِّلمي»

(1)

.

هذا إقرارٌ منه بكفر الدولة التي توجد بها هذه البنوك الربوية، وتكفيرهُ بمثل هذا تكفيرٌ على طريقةِ الخوارج الذين يكفِّرون بالمعاصي والذنوب، وذلك أنَّه جعلَ المعاصي العملية؛ من السَّماح للمنكرات عمليًّا = لازمًا للاستحلال القلبي ثم كفَّر بهذا، وهذا عَينُ قولِ الخوارج

(2)

كما بيَّنتُ هذا في ردِّي الصَّوتي على مبحث الحاكمية الذي غلا فيه في كتابه (نواقض الإيمان العملية والقولية بعنوان): الحكم بغير ما أنزل الله ومناقشة الدكتور المحمود وآل عبد اللطيف.

الأول:http://islamancient.com/play.php?catsmktba=51

الثاني:http://islamancient.com/play.php?catsmktba=49

الثالث:http://islamancient.com/play.php?catsmktba=50

الاستدراك الثاني:

قال في مقدمة مقالهِ (ضوابط ومسائل في الطاعة لولاة الأمور): «نخلُصُ - من خلال استقراء كلامٍ جميل من العلماء المحققين - إلى أن ثمَّة ضوابط ومسائل مهمة

(1)

نواقض الإيمان القولية والعملية (ص: 328).

(2)

وقد رددتُ على هذا التأصيل الخارجي في كتابي «تبديد كواشف العنيد» ، وكتابي «البرهان المنير في دحض شبهات أهل التكفير والتفجير» .

ص: 274

ينبغي مراعاتها في موضوع طاعة الأئمة والحكام».

هذا الكلام ظَنَّه مؤيِّدًا لمعتقدهِ البدعي في باب الإمامة والولاية؛ لذا وصفَهُ بأنه جميل، ووصفَ العلماء الذين نقلَ عنهم بأنهم محقِّقون وهم كذلك رحمهم الله في غير مسائل الاعتقاد لأنَّ كثيرًا من هؤلاء المتأخرين عندهم أخطاء عقدية، فلا يُعَّولُ عليهم في مسائل العقائد، ومبحثُ الإمامة من مسائل العقائد؛ لذا ذكرَها أهلُ السنة في كتب العقائد كما تقدَّم النقلُ عنهم

(1)

، وقد تقدَّم بيانُ بعضِ الأخطاءِ العقَدية عند بعض هؤلاء

(2)

.

وسأذكرُ عالميَن ممَّن نقلَ عنهم، وبعضَ أخطائهما العقدية؛ ليعلم أنَّ مثل هؤلاء لا يعوَّلُ عليهم في أمثال هذه المسائل العقدية إلَّا تبعًا؛ لما يقرِّره علماءُ السلف الذين هم أئمة في باب الاعتقاد، والذي يُفترض أن يُجمِّل مقالَهُ بكلامهم - وتقدَّم نقلُ شيء من كلامهم -

(3)

، لكن أنَّى له أن يفعل ذلك وكلامُهم مصادمٌ لكلامه واعتقادهِ في هذا الباب المهمِّ بابِ الإمامة، وليعرف حقيقة مخالفتهِ لكلام السلف قارِنْ منهجَهُ البدعيَّ مع كلامِ إمام السنة في زمانه البربهاري إذْ قال:«وإذا رأيتَ الرجلَ يدعو على السُّلطان فاعلَمْ أنه صاحبُ هوى، وإذا سمعتَ الرجلَ يدعو للسلطان بالصَّلاح، فاعلَمْ أنه صاحبُ سُنَّة - إن شاء الله -»

(4)

.

(1)

تقدم (ص: 39).

(2)

تقدم (ص: 259).

(3)

تقدم (ص: 35).

(4)

شرح السنة (116).

ص: 275

والعالمان اللذان أردتُ أن أبيِّن شيئًا من أخطائهم العقدية - ممن نقل عنهم - لئلَّا يُجعلا عمدةً في هذه المسائل هما العز بن عبد السلام وأبو العباس القرطبي:

العالم الأول: العزُّ بن عبد السلام، فقد أخطأَ عدَّة أخطاء عقدية منها:

أوَّلَ صفة الأصابع لله، قال في فتاويه:«معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قلبُ المؤمن بين إصبعين من أصابعِ الرحمن»

(1)

، أنَّ الله مستَولٍ عليه بقدرته وتصريفه كيف يشاء من كفرٍ إلى إيمان، ومن طاعةٍ إلى عصيان، أو عكس ذلك»

(2)

.

أوَّلَ عدة صفات؛ كالرضا والسخط والمحبة والرحمة وغيرها، ولم يُثبت من صفاتِ الله الذاتية إلَّا سبعًا

(3)

.

جعلَ قولَ اللسان وعملَ الأركان من الإيمان المجازي لا الحقيقي

(4)

.

جعل زيادة الإيمان ونقصانه راجعًا إلى متعلَّقه لا إلى ذاته

(5)

.

أنه صوفي يعظِّم الصُّوفية، فقد فضَّلَ العارف على العالم

(6)

، وقال: «الضربُ

الثاني: علوم إلهامية، يكشف بها عمَّا في القلوب، فيرى أحدُهم بعينيه من الغائبات ما لم تجرِ العادةُ بسماع مثله

ومنهم مَنْ يرى الملائكة والشياطين والبلادَ النائية، بل ينظر إلى ما تحت الثَّرى، ومنهم من يرى السماوات وأفلاكَها وكواكبَها وشمسَها

(1)

أخرجه مسلم (2654) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

(ص: 56).

(3)

راجع: الإمام في بيان أدلة الأحكام ص (219 - 226، 231، 233).

(4)

انظر فتاواه (ص: 74).

(5)

انظر فتاواه (ص: 73).

(6)

كما في فتاويه (ص: 138 - 139).

ص: 276

وقمرَها على ما هي عليه، ومنهم من يرى اللوحَ المحفوظ ويقرأ ما فيه، وكذلك يسمعُ أحدُهم صريرَ الأقلامِ وأصواتَ الملائكة والجان، ويفهَمُ أحدُهم منطقَ الطير، فسبحانَ مَنْ أعزَّهم وأدناهم»

(1)

.

وقد تعقَّب ابنُ تيمية العزَّ بن عبد السلام لمَّا أثنى على الأشاعرة، وذمَّ أهل السنة بأن وصفهم بالحشوية ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«وأيضًا فيُقال لهؤلاء الجهمية الكُلَّابية - كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله -»

(2)

، والمراد بأبي محمد العز بن عبدالسلام.

العالم الثاني: أبو العباس القرطبي صاحب كتاب (المفهم)، فقد أوَّل صفة الضحك

(3)

، وأوَّل صفة النزول لله

(4)

، وأوَّل صفة العجب لله

(5)

.

وبعد بيان ما تقدَّم فإنه يتعيَّن لمن أراد أن يكتب في مسألةٍ لها تعلُّق بالاعتقاد أن يرجعَ إلى كلامِ أئمة السنة الأولين، والسَّالكين طريقتهم في الاعتقاد من المتاخرين، ولا مانع أن يعتضدَ بأقوالِ المتأخرين الذين لهم زلَّات عقدية إذا قالوا قولًا صحيحًا؛ اعتضادًا لا اعتمادًا.

(1)

قواعد الأحكام (1/ 140).

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 158).

(3)

المفهم (1/ 424)، (3/ 724).

(4)

المفهم (2/ 386).

(5)

المفهم (5/ 331).

ص: 277

الاستدراك الثالث:

قوله: «أنَّ الطاعة لأصحاب الولايات الشرعية، وهذا أمرٌ بدهي دلَّت عليه الآية الكريمة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

قال الشوكاني: «وأُولو الأمر: هم الأئمةُ والسَّلاطين والقضاة وكلُّ مَنْ كان له ولايةٌ شرعية لا ولاية طاغوتية» .

هذا الكلامُ مجمل؛ لأنه لم يبيِّن مَنْ هم أصحابُ الولايات الشرعية وما ضابطهم؟

فإذا قرأه من غُذِيَ بالأفكار الحركية الثورية أو مَنْ لا يدري في زمنٍ كثُر نقدُ دعاة البدعة للولاة = علمَ أنه لا يُراد بهم الولاة الموجودون؛ لأنهم غيرُ شرعيين - كما ربَّوهم على ذلك تصريحًا أو تلميحًا - لاسيما والدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف لا يرى الحكومات الموجودة مسلمة إن لم يكن كلّها فأكثرها، كما تقدَّم نقله عنه، وإنَّ سلوك طريقة الألفاظ المجملة هي طريقةُ أهل البدع في التلبيس على الناس، قال الإمام أحمد في مقدِّمة الردِّ على الجهمية والزنادقة:«يتكلَّمون بالمتشابه من الكلام ويخدَعون جهَّال الناس بما يشبِّهون عليهم؛ فنعوذ بالله من فتن المضلين»

(1)

.

وقول الشوكاني: «لا ولاية طاغوتية» حق أي لا ولاية كفرية، وتقدَّم في التأصيلات أنه لا ولاية للحاكم الكافر، ويجب خلعهُ عند القدرة.

(1)

الرد على الزنادقة والجهمية (ص: 6).

ص: 278

إذًا المراد عدمُ السَّمع والطاعة للحاكم الكافر، وهذا المراد بقول الدكتور: إنَّ الطاعة لأصحاب الولايات الشرعية، وهذا بدهي. أي للمسلم دونَ الكافر، فلو أنَّ الدكتور أراد البيانَ دون الإجمال لقال: لا طاعة للولاية الكافرة.

الاستدراك الرابع:

قال الدكتور آل عبد اللطيف: «لا طاعة لجهلة الحكام إلَّا فيما يُعلَم أنه سائغ شرعًا» .

هذا العنوان من الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف إمَّا أنه تدليس أو جهلٌ منه، أما وجه التدليس: فهو موهِمٌ أنَّ من لم يكن من الحكام عالمًا فلا يُسمعُ ولا يُطاع له إلَّا فيما عُلِمَ أنه سائغٌ شرعًا، فلا يُسمعُ ولا يُطاع لهم إلَّا في الواجب والمستحب، هذا ما يفهمهُ أكثرُ القراء لهذا المقال؛ لكثرة الجهل في الناس، ولوجود من يُفسِدُهم في هذا الباب، أمثال هذا الدكتور.

أمَّا وجه الجهل: فاعتقادُ الدكتور أنه لا سمَع ولا طاعة للحاكم الجاهل إلَّا فيما عُلِمَ أنه واجبٌ أو مستحب، فإنه قد تقدَّم بيانُ أنَّ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّما الطاعة في المعروف» أي فيما ليس محرَّما ولا معصيةً، وأنه لو قيل: لا يُطاع الحاكم إلَّا فيما عُلِمَ أنه واجبٌ أو مستحبٌ لاستوى الحاكمُ مع غيرهِ من عامة الناس. وقد سبقَ الكلامُ على هذا في كشف الشبهات

(1)

.

(1)

تقدم (ص: 75).

ص: 279

الاستدراك الخامس:

لمَّا ذكر الدكتور العنوان السابق أوردَ كلامَ أبي العباس القرطبي في المفهم: «أنَّ الأمراء شرطُهم أن يكونوا آمرين بما يقتضيه العلم، وكذلك كان أمراءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينئذٍ تجبُ طاعتهم. فلو أمروا بما لا يقتضيه العلم حَرُمَتْ طاعتهم»

(1)

.

تقدَّم بيانُ هذه الشبهة وكشفُها - والحمد لله - وأن هناك فرقًا بين اشتراط العلم في المأمور واشتراطه في الآمر. وليُراجع ما سبق ذكره

(2)

.

الاستدراك السادس:

المراد بكلام أبي العباس القرطبي (بما يقتضيه العلم) ما لم يكن في معصية الله، كما بيَّن ذلك عند حديث «إنما الطاعة في المعروف» وتقدَّم نقل كلامه

(3)

، وأنه مقتضى قولِ أهل السنة، وكلامُ العالم يفسِّر بعضُه بعضًا، وهذا ما لم يبيِّنهُ الدكتور آل عبد اللطيف إمَّا جهلًا أو تلبيسًا، ودافعُ التلبيس التعصُّب إمَّا لحزبٍ بدعيٍّ أو رأيٍ بدعي وهكذا

كلُّ رجلٍ بحسبه.

قال الإمام ابن القيم في (الكافية الشافية):

وتعَرَّ من ثوبَينِ مَنْ يَلْبَسْهُما

يلقَى الرَّدى بمذَمَّةٍ وهَوانِ

ثوبٍ من الجهلِ المركَّبِ فوقَهُ

ثوبُ التعصُّب بِئسَتِ الثَّوبانِ

وتحَلَّ بالإنصافِ أفخَر حلَّةٍ

زِينَتْ بها الأعطافُ والكتفانِ

(1)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 35).

(2)

تقدم (ص: 125).

(3)

تقدم (ص: 76).

ص: 280

الاستدراك السابع:

نقلَ الدكتور كلامًا غير دقيق عن العز بن عبد السلام قال الدكتور: «ويقول العز بن عبدالسلام في هذه المسألة: «ولو أمرَ الإمام أو الحاكم إنسانًا بما يعتقد الآمر حِلَّه والمأمورُ تحريمَه، فهل له فعلُه نظرًا إلى رأيِ الآمر، أو يمتنع فعلُه نظرًا إلى رأيِ المأمور؟؛ فيه خلافٌ - وهذا مختصٌّ فيما لا ينقض حكمَ الآمر به، فإن كان مما يُنقَضُ حكمُه به فلا سمع ولا طاعة - وكذلك لا طاعة لجهَلة الملوك والأمراء إلَّا فيما يعلَمُ المأمور أنه مأذونٌ في الشرع» .

وعدمُ دقَّتهِ من جهتين:

الجهة الأولى: أنه جعل خلافًا في عمل المأمور في مسألةٍ لا يعتقد حلَّها إذا أمرَهُ بها مَنْ يعتقد حلَّها.

وهذه المسالة ليست خلافية، بل إجماعية في عدم جواز عمَلِ المأمور بها؛ لأن عمله بها عملٌ بمعصية الله فيما يعتقد، فلو قال الحاكم: لا تتوضؤوا من أكل لحم الجزور، والمأمورُ يعتقدُ وجوبَ الوضوء، وأن أكلَ لحم الجزور ناقضٌ للوضوء، لما جازَ للمأمور أن يترك ما يعتقدُه لقول هذا الحاكم، ولو فعلَ لخالَفَ إجماعَ أهلِ العلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأمَّا إلزامُ السُّلطان في مسائل النزاع التزامَ قولٍ بلا حجَّةٍ من الكتاب والسنة، فهذا لا يجوزُ باتفاق المسلمين، ولا يفيدُ حكمُ حاكمٍ بصحَّة قولٍ دون قولٍ في مثل ذلك، إلا إذا كان معه حجَّة يجب الرجوعُ إليها، فيكون كلامُه قبل الولاية وبعدها سواء.

ص: 281

وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم. نعم الولاية تمكِّنه من قول حقٍّ ونشرِ علمٍ قد كان يعجز عنه بدونها، وبابُ القدرة والعجز غيرُ باب الاستحقاق وعدمهِ. نعم للحاكم إثباتُ ما قال زيد وعمرو، ثم بعد ذلك إن كان ذلك القولُ مختصًّا به كان مما يحكم فيه الحكام، وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس

»

(1)

.

وقال: «إنَّ ما تنازع فيه العلماء ليس لأحدٍ من القضاة أن يفصلَ النزاعَ فيه بحُكم، وإذا لم يكن لأحدٍ من القضاة أن يقول: حكمتُ بأنَّ هذا القول هو الصحيح، وأنَّ القول الآخر مردودٌ على قائله، بل الحكمُ فيما تنازعَ فيه علماء المسلمين أو أجمَعوا عليه، قولُه في ذلك كقولِ آحاد العلماء إنْ كان عالمًا، وإن كان مقلِّدًا كان بمنزلة العامة المقلِّدين، والمنصبُ والولاية لا يجعل مَنْ ليس عالمًا مجتهدًا، ولو كان الكلامُ في العلم والدين بالولاية والمنصب؛ لكان الخليفة والسلطان أحقَّ بالكلام في العلم والدين، وبأن يستفتيَهُ الناس ويرجعوا إليه فيما أشكلَ عليهم في العلم والدين، فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدَّعي ذلك لنفسه، ولا يُلزِمُ الرعية حكمَهُ في ذلك بقولٍ دونَ قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمَن هو دونَ السُّلطان في الولاية أولى بأن لا يتعدَّى طوره، ولا يقيمَ نفسه في منصب لا يستحقُّ القيامَ فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء الراشدون، فضلًا عمَّن دونهم، فإنهم رضي الله عنهم إنما كانوا يُلزمون الناسَ باتِّباع كتاب ربِّهم وسُنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وكان عمر رضي الله عنه يقول:

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 240).

ص: 282

إنما بعثتُ عمالي - أي نَّوابي - إليكم ليعلِّموكم كتابَ ربكم وسنَّة نبيكم، ويقيموا بينكم فيئكم

(1)

.

بل هذه يتكلَّم فيها من علماء المسلمين من يعلم ما دلت عليه الأدلة الشرعية الكتاب والسنة. فكلُّ مَنْ كان أعلَمَ بالكتاب والسُّنة فهو أولى بالكلام فيها من غيره، وإن لم يكن حاكمًا، والحاكمُ ليس له فيها كلامٌ لكونهِ حاكمًا، بل إنْ كان عنده علمٌ تكلَّم فيها كآحاد العلماء، فهؤلاء حكموا فيما ليس لهم فيه الحكم بالإجماع، وهذا من الحكم الباطل بالإجماع»

(2)

.

الجهة الثانية: بيان عدم دقَّة كلامِ العز بن عبد السلام، وذلك أنه علَّق الجهلَ بالحكام لا بالأمر، وأنبِّه إلى أنَّ قول العز بن عبد السلام:«وهذا مختصُّ فيما لا ينقضُ حكمَ الآمر به، فإن كان مما يُنقَضُ حكمُه به فلا سمع ولا طاعة» أي في هذا المأمور بعينه لا مطلقًا، ولو أرادَ مطلقًا لكان قوله مخالفًا لإجماع أهل السنة

(1)

أخرجه أحمد (1/ 41)، وابن أبي شيبة (6/ 461)، وأخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (3/ 213)، ومن طريقه البلاذري في أنساب الأشراف (3/ 396)، والإسنادُ صحيح إلى الربيع بن زياد الحارثي، والربيع بن زياد الراوي عن عمر اختُلف في صحبته وجزمَ بأنه صحابي ابنُ عبد البر في الا ستيعاب (2/ 488) فقال: له صحبة ولا أقف له على رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ، ولم يرضَ هذا ابنُ حجر لأنه لم يأت بدليلٍ على أنه صحابي فقال في الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 380): قال أبو عمر له صحبة ولا أعرف له رواية؛ كذا قال، وقال أبو أحمد العسكري: أدركَ الأيام النبوية ولم يقدُم المدينة إلَّا في أيام عمر، وذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في التابعين اهـ. لذا الصواب أنه تابعي ولم أقفْ على مَنْ وثَّقه إلَّا ذكر ابن حبان له في الثقات، ولعل رواية الربيع عن عمر مقبولة لأنه من عماله وله أخبار كثيرة عنه. قال ابن حجر في الإصابة (2/ 381): وله مع عمر أخبار كثيرة اهـ.

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 296).

ص: 283

- كما تقدم -

(1)

، وكان موافقًا للخوارج.

وهذا مما لا يريده العزُّ بن عبد السلام - من باب إحسان الظن -، ثمَّ إنَّ هذا اللفظ لم يعلِّق عليه الدكتور آل عبد اللطيف مع أنه موهم، فهل تعمَّد بقاءه ليقوِّيَ قولَهُ البدعيَّ في أصل الإمامة!

تنبيه:

يردِّد كثيرٌ من أهل العلم قاعدة (حكم الحاكم يرفع الخلاف)، ويريدون بالحاكم وليّ الأمر، وهذا غير صحيح، بل مرادُ أهل العلم بهذه القاعدة القاضي إذا ترافع إليه رجلان ليتحاكما عنده في مجلس القضاء لا مطلقًا، ثم يُشترط أن يكون حكمهُ بين الخصمين قولًا بما يسوغُ الخلاف فيه، وإلَّا لو قال بقولٍ غير سائغ لما كان نافذًا، فهذه القاعدة مقيَّدة بثلاثة قيود:

القيد الأول: المراد بالحاكم القاضي.

القيد الثاني: أن هذا عند ترافع الخصمَين إليه لا مطلقًا.

القيد الثالث: أن هذا في المسائل التي يسوغ الخلاف فيها.

وهذا ما يدل عليه كلامُ أهل العلم من المذاهب الأربعة.

قال الغنيمي الميداني الحنفي رحمه الله: «وإذا رفع إلى القاضي (حكم حاكم) مولًى ولو بعد عزلهِ أو موتهِ إذا كان بعد دعوى صحيحة (أمضاه) أي: ألزمَ الحكمَ والعملَ بمقتضاه، سواء وافقَ رأيهُ أو خالفَهُ إذا كان مجتهدًا فيه؛ لأن القضاء متى لاقَى محلًّا مجتهدًا فيه ينفذ ولا يردُّه غيره؛ لأن الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأول

(1)

تقدم (ص: 39).

ص: 284

لتساويهما في الظن»

(1)

.

وقال ابن عابدين رحمه الله: «(قوله إلا إذا حكم حاكم) صورته: علَّقَ عتق عبدهِ بصلاتهِ صلاةً صحيحة، فصلَّى بـ (مدهامّتان) غير مكررة أو مكررة، فترافعا إلى حاكمٍ يرى صحة الصلاة بذلك، فقضى بعتقه، فيكون قضاءً بصحة الصلاة ضمنًا، فتصحُّ اتفاقًا، لأنَّ حكمَ الحاكم في المجتهد فيه يرفعُ الخلاف أفاده (ح)

(2)

»

(3)

.

وفي الشرح الصغير للدردير: «(ورفع) حكم العدل العالم (الخلاف) الواقع بين العلماء. وكذا غير العدل العالم إنْ حكمَ صوابًا - كما يُعلم مما تقدم - فإنه يرفع الخلافَ ولا ينقض، وكذا المحكم.

والمراد: أنه يرتفع الخلافُ في خصوص ما حكم به أخذًا من قوله الآتي (ولا يتعدَّى لمماثل). فإذا حكم بفسخ عقد أو صحَّته، لكونه يرى ذلك لم يُجزْ لقاضٍ غيره يرى خلافَه - ولا لَه - نقضُه.

ولا يجوز لمفتٍ عَلِمَ بحكمه أن يفتيَ بخلافه، وإذا حكمَ حاكمٌ بصحَّة عقدٍ لكونهِ يراه، وحكَم آخرُ بفساد مثله لكونه يراه، صار كلٌّ منهما كالمجمع عليه في خصوص ما وقع الحكم به. ولا يجوزُ لأحدٍ نقضُه ولا له»

(4)

.

وقال خليل بن إسحاق المالكي: «(ورفع) حُكِمَ الحاكم في نازلةٍ فيها أقوالٌ للأئمة بقولٍ منها، فيرفع (الخلاف) أي العملَ والفتوى في عينِ تلك النازلة التي حُكِمَ فيها بغير ما حكَم به فيها.

(1)

كتاب اللباب في شرح الكتاب (4/ 87).

(2)

ومراده برمز (ح) الحلبي المحشي على الدر المختار.

(3)

في حاشيته (1/ 537).

(4)

(4/ 221).

ص: 285

(غ)

(1)

القرافي الخلاف يتقرَّر في مسائل الاجتهاد قبل حكم الحاكم، ويبطلُ الخلاف فيها، ويتعيَّن قولُ واحد بعد حكم الحاكم، وهو ما حكم به الحاكم: ابن الشاط

(2)

هذا يوهِمُ أنَّ الخلاف يَبطُلُ مطلقًا في المسألة التي تعلَّق بها الحكم، وليس كذلك، بل الخلافُ باقٍ على حالهِ إلَّا أنه إن استفتى المخالف في عَينِ تلك المسألة التي حكم فيها، فلا يسوغ له الفتوى فيها بعينها، لأنه قد نفذ الحكم فيها بقول قائل، ومضى العملُ به فيها وإن استفتى في مثلها قبل الحكم فيه أفتى بمذهبه على أصله.

ثم قال القرافي: حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف، ويُرجع المخالفَ عن مذهبه لمذهبِ الحاكم، وتتغيَّر فتياه بعد الحكم عمَّا كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء، فمَن لا يرى وقفَ المشاع إذا حكَمَ حاكمٌ بصحَّة وقفه، ثم رُفعت الواقعة لمن كان يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه، ولا يحلُّ له بعد ذلك أن يفتي ببطلانه»

(3)

.

وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي: «وقد صرَّح الأصحاب بأن حكمَ الحاكم في المسائل الخلافية يرفعُ الخلاف ويصير الأمر متفقًا عليه»

(4)

.

وقال أحمد شهاب الدين الرملي الشافعي: «وقد قال الأصحاب كما نقله الزركشي وغيره: إنَّ حكمَ الحاكم في المسائل الخلافية يرفعُ الخلافَ، ويصير

(1)

المراد به - والله أعلم - «محمد بن أحمد بن غازي الكناسي» من علماء المالكية، له كتاب بعنوان «شفاء العليل في حل مقفل خليل» ، توفي عام (910 هـ).

(2)

(المراد به - والله أعلم - «قاسم بن عبد الله بن الشاط السبتي» من علماء المالكية، توفي عام (723 هـ).

(3)

منح الجليل شرح مختصر خليل (8/ 352).

(4)

تحفة المحتاج (6/ 246).

ص: 286

الأمر متفقًا عليه»

(1)

.

وقال منصور البهوتي الحنبلي: «وقرعته أي القاضي حكم يرفعُ الخلافَ إن كان ثَمَّ خلاف»

(2)

؛ بل بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ وليَّ الأمر كغيره في المسائل الشرعية الاجتهادية، وليس له أن يُلزَم أحدًا بقوله بالإجماع كما تقدَّم نقله

(3)

وقال: «فلو كان الذي حكم به ابن مخلوف هو مذهب مالك أو الأشعري لم يكن له أن يُلزِمَ جميع الناس به، ويُعاقبَ من لم يوافقه عليه بالاتفاق»

(4)

.

وقال: «إنَّ المفتي لو أفتى في المسائل الشرعية - مسائل الأحكام - بما هو أحدُ قولي علماء المسلمين، واستدل على ذلك بالكتاب والسنة، وذكر أن هذا القول هو الذي يدور عليه الكتابُ والسنة دون القول الآخر في أي باب كان ذلكَ في مسائل البيوع والنكاح والطلاق والحج والزيارة وغير ذلك = لم يكن لأحدٍ أن يُلزمه بالقول الآخر بلا حجَّةٍ من كتاب أو سنة، ولا أن يحكم بلزومهِ ولا منعهِ من القول الآخر بالإجماع، فكيف إذا منعّهُ منعًا عامًا، وحكمَ بحبسهِ، فإنَّ هذا من أبطَلِ الأحكام بإجماع المسلمين»

(5)

.

«وسئل رحمه الله عمَّن ولي أمرًا من أمور المسلمين ومذهبُه لا يجوز شركة الأبدان، فهل يجوز له منعُ الناس؟

(1)

فتاواه (3/ 44).

(2)

شرح منتهى الإرادات (3/ 503).

(3)

تقدم (ص: 281).

(4)

مجموع الفتاوى (3// 268).

(5)

مجموع الفتاوى (27/ 301).

ص: 287

فأجاب: ليس له منعُ الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغُ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نصٌّ من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك، لاسيما وأكثرُ العلماء على جواز مثل ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار، وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقضَ حُكمَ غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يُلزم الناس باتِّباعه في مثل هذه المسائل.

ولهذا لما استشار الرشيد مالكًا أن يحملَ الناس على موطَّئه في مثل هذه المسائل منعَهُ من ذلك، وقال: إنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرَّقوا في الأمصار وقد أخذ كلُّ قومٍ من العلم ما بلَغهُم. وصنف رجلٌ كتابًا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمِّه كتاب السَّعة، ولهذا كان بعضُ العلماء يقول: إجماعهُم حجَّة قاطعة، واختلافهُم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرُّني أنَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهُم رجلٌ كان ضالًّا، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا ورجلٌ بقول هذا كان في الأمر سعةٌ، وكذلك قال غيرُ مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحملَ الناسَ على مذهبه.

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إنَّ مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تُنَكر باليد وليس لأحدٍ أن يُلزمَ الناس باتِّباعه فيها، ولكن يتكلَّم فيها بالحجج العلمية، فمن تبيَّن له صحَّة أحد القولين تَبِعَهُ، ومن قلَّد أهلَ القول الآخر فلا إنكارَ عليه، ونظائرُ هذه المسائل كثيرة»

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (30/ 79).

ص: 288

الاستدراك الثامن:

نقل الدكتور في العنوان السابق قولَ ابن تيمية: «والحاكمُ فيما تنازع فيه علماء المسلمين أو أجمعوا عليه قوله في ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالمًا، وإنْ كان مقلِّدًا كان بمنزلةِ العامة المقلدين، والمنصبُ والولاية لا يجعل مَنْ ليس عالمًا مجتهدًا عالمًا» .

هذا الكلام من ابن تيمية حقٌّ، وذلك أنَّ اختيار الحاكم لقول في مسألة مختلَفٍ فيها لا يجعلُها راجحةً لمجرد اختياره، بل هو كغيره من المجتهدين أو المقلدين من هذه الجهة، ومن رجَّح قولًا في مسألة مختلَفٍ فيها لمجرَّد اختيار الحاكم فهو مخطئ، وهو راجعٌ إلى عدم طاعته في معصية الله؛ لأنَّ طاعته فيما لا يعتقده المأمور راجحًا أو من العبادات هو طاعةٌ في معصيةٍ - كما تقدم -

(1)

.

وهذا ليس خاصًّا بالحاكم، كما يدلُّ عليه كلامُ ابن تيمية بل عامٌّ في كلِّ آمرٍ، فتعود هذه النقولات كلُّها إلى أنه لا طاعة للحاكم في معصية الله.

وعَنونَ الدكتور لهذه النقولات بما يورِثُ إيهامًا وتقويةً لمن عنده خلل في باب الإمامة والولاية، وهذا ما لا يصحُّ شرعًا.

الاستدراك التاسع:

ذكر الدكتور أن الطاعة إنما تكون بالمعروف، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا حقٌّ، وأؤكد أن المراد بالمعروف ما لم يكن معصية، فيُطاع في كلِّ ما ليسَ معصية، وأنَّ من أمرَ بمعصيةٍ فلا يُطاع في المعصية لكن يُطاع فيما

(1)

تقدم (ص: 281).

ص: 289

عدا ذلك، وأنَّ ولايته وحُكمَهُ لا تسقط لأنه أمر بمعصية.

ثم نقل عن ابن حجر فقال: «قال الحافظ ابن حجر: ومن بديعِ الجواب قولُ بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لما قال له: أليسَ الله أمرَكُم أن تطيعونا في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فقال له: أليسَ قد نُزِعَتْ عنكم - يعني الطاعة - إذا خالفتُم الحقَّ بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}» .

والمراد بهذا نزعُ الطاعة فيما هو معصية، ويبقى السمعُ والطاعة فيما ليس معصيةً، كما هو معتقد أهل السنة - وقد تقدم -

(1)

.

الاستدراك العاشر:

قال الدكتور آل عبد اللطيف: «وكتب عمر الفاروق إلى أهل الكوفة: «من ظلَمهُ أميرهُ فلا إمرةَ له عليه دوني، فكان الرجل يأتي المغيرةَ بن شعبة فيقول: إمَّا أن تُنصفني من نفسكَ وإلَّا فلا إمرةَ لك عليَّ» .

تقدَّم الكلام على هذا وأنه لادلالة فيه بحال

(2)

.

الاستدراك الحادي عشر:

نقل الدكتور آل عبد اللطيف كلامًا لابن القيم فهِمَهُ على غير مراده فقال:

«وقال الإمام ابن القيم: «فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصَّة بهم، إذ لو كانوا إنما يُطاعون فيما يُخبرون به عن الله ورسوله كانت الطاعةُ لله ورسوله لا لهم؟ قيل:

(1)

تقدم (ص: 35).

(2)

تقدم (ص: 236).

ص: 290

وهذا هو الحقُّ، وطاعتُهم إنَّما هي تبعٌ لا استقلال، ولهذا قرَنَها بطاعة الرسول، ولم يُعد العامل، وأفردَ طاعة الرسول، وأعادَ العامل، لئلَّا يتوهم أنه إنما يُطاع تبعًا، كما يُطاع أولو الأمر تبعًا، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالًا».

إنَّ إيراد الدكتور له في معرض الكلام على الإمام - ولي الأمر العام، وظنَّهُ أنَّ ابن القيم يريد هذا = خطأ فاحش، وذلك أنَّ كلام ابن القيم في ذمِّ التقليد للعلماء، وعند ابن القيم أن العلماء داخلون في قوله تعالى:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، فهو يقول: لا يجوز تقليد العلماء في معرفة شرع الله ومراد الله في مقابل تركِ النصِّ والدليل، فكلامُه على تقليدهم في معرفة حكمٍ شرعي، وهذا يتَّضحُ بنقل كلامه السابق.

قال الإمام ابن القيم: «أن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم، وأعظمها إبطالًا للتقليد، وذلك من وجوه؛ أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثالُ أمره واجتنابُ نهيه.

الثاني: طاعة رسوله، ولا يكون العبد مطيعًا لله ورسوله حتى يكون عالمًا بأمر الله ورسوله، ومَن أقرَّ على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله وإنما هو مقلِّد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيقُ طاعة الله ورسوله ألبتة.

الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم كما صحَّ ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة، وذكرناه نصًّا عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وحينئذ فطاعتهُم في ذلك إن كانت واجبةً بطل التقليد، وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال.

ص: 291

الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، وهذا صريحٌ في إبطال التقليد، والمنع من ردِّ المتنازع فيه إلى رأيٍ أو مذهب أو تقليد.

فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصَّة بهم؛ إذ لو كانوا إنما يطاعون فيما يخبرون به عن الله ورسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم؟.

قيل: وهذا هو الحقُّ، وطاعتهم إنما هي تبعٌ لا استقلال، ولهذا قرَنها بطاعة الرسول ولم يُعِد العامل، وأفردَ طاعة الرسول وأعاد العامل لئلَّا يُتوهَّم أنه إنما يُطاع تبعًا كما يُطاع أولو الأمر تبعًا، وليس كذلك، بل طاعته واجبةٌ استقلالًا، سواء كان ما أمر به، ونهى عنه في القرآن أو لم يكن»

(1)

.

ثم لو قُدِّر جدلًا أنه أراد تقليد الحاكم فيقال: إنَّ كلامه في تقليدهم في معرفة مُراد الله وأحكامه، وتقدَّم أنه لا يصحُّ أن يترك النصُّ والدليل لقول الحاكم، بل هو مثل غيره في هذا الأمر

(2)

.

الاستدراك الثاني عشر:

قال الدكتور آل عبد اللطيف: «وبيَّن شيخ الإسلام في موطن آخر أنَّ أهلَ السُّنة لا يوجِبونَ طاعة الإمام في كلِّ ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلَّا فيما تسوغُ طاعته في الشرعية، فلا يجوّزون طاعته في معصية الله، وإن كان إمامًا عادلًا.

وقال أيضًا: والإمامُ العدل تجب طاعته فيما لم يُعلم أنه معصية، وغيرُ العدل تجب طاعته فيما عُلم أنه طاعة كالجهاد».

(1)

إعلام الموقعين (2/ 169).

(2)

تقدم (ص: 281).

ص: 292

هذا النقل يكثر تناقلُه لمن عندهم ضلالٌ في باب الإمامة لظنِّهم أنه يؤيد مذهبهم البدعي، وقد سبق - بفضل الله - ردُّ استغلالهم لهذا النقل من أوجه

(1)

.

الاستدراك الثالث عشر:

ذكر الدكتور آل عبد اللطيف قاعدة فهِمَها خطأ من كلام ابن تيمية.

يقول الدكتور: «ومما يجدرُ تقريرهُ أيضًا ما حرَّره شيخ الإسلام ابن تيمية من عدم العدول عن نصٍّ شرعي معيَّن إلى نصٍّ عامٍّ في طاعة ولاة الأمور، فإنَّ أكثر الصحابة رضي الله عنهم اعتزلوا القتال الواقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما لأنه قتالُ فتنةٍ فلا تجبُ طاعة الإمام فيه.

يقول شيخ الإسلام: ومَن رأى أنَّ هذا القتال مفسدتهُ أكثر من مصلحته عَلِمَ أنه قتال فتنة، فلا تجبُ طاعة الإمام فيه، إذ طاعته إنما تجب في ما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنصّ، فمَن علم أنه هذا هو قتال الفتنة - الذي تركُه خيرٌ من فعله - لم يجب عليه أن يعدلَ عن نصٍّ معين خالصٍ إلى نصٍّ عام مطلق في طاعة أولي الأمر، ولا سيما وقد أمر الله تعالى عند التنازع بالردِّ إلى الله والرسول».

إنَّ كلام ابن تيمية حقٌّ، ومراده لا يُصار إلى طاعة الحاكم في معصية الله استدلالًا بالنصوص العامة الآمرة بطاعته، فإنها مقيدة في غير معصية الله، فإنَّ قتال الفتنة الذي تغلب مفسدته مصلحته محرَّم ومعصية، فلا يُطاع الحاكم فيه، لأنه محرَّم ومعصية.

(1)

تقدم (ص: 90).

ص: 293

الاستدراك الرابع عشر:

ذكر الدكتور كلام ابن القيم عن الإمام مالك أنه لم يترك الفتيا لأجل منع السلطان، فقال الدكتور: «وقد سلك هذا المسلك أئمةٌ كبار؛ كالإمام مالك بن أنس عندما منعه السلطان من الفتيا بأنَّ يمينَ المكْرَهِ لا تنعقد فلم يمتنع بدعوى طاعة ولاة الأمور.

يقول ابن القيم: فهذا مالكُ بن أنس توصَّل أعداؤه إلى ضرِّه بأن قالوا للسلطان: إنه يُحلُّ عليك أيْمان البيعة بفتواه أنَّ يمين المكْرَه لا تنعقد، وهم يحلفون مكرَهين غيرَ طائعين، فمنعه السلطان، فلم يمتنع لما أخذه الله من الميثاق على مَنْ آتاه الله علمًا أن يبيِّنه للمسترشدين».

إنَّ فعل الإمام مالك حقٌّ لأنه يرى أنَّ امتناعه من الفتيا محرَّم، ولا يجوز السمع والطاعة فيما حرَّم الله، فهذا محمول على تعليم وفتيا لا يقوم بها غيره، فتعيَّنت عليه أو قام بها غيره لكن لا يكفي.

وهكذا بقية النقول، ومن لم يكن حاله كذلك ولم يمتنع فإنه مخطئ، لأنه إذا كان التعليم مستحبًّا فإن الطاعة للحاكم لما منع معينًا من التعليم واجبة، والواجبُ مقدمٌ على المستحب، والحجَّة في الدليل، وهو وجوبُ السمع والطاعة في غير معصية الله.

ثم ينبغي أن يُعلَم أن من لم يمتنع من السلف عن تعليم العلم الشرعي والفتوى والدعوة إلى السُّنة كانوا يرون هذا واجبًا في علم شرعي ينفع الناس، فلا يصحُّ للدكتور آل عبد اللطيف وأصحابه أن يستندوا على هذه الكلمات من السلف في ألَّا يستجيبوا لمنع ولي الأمر لهم من الدروس؛ لأنه - تنزُّلًا - هناك فرق كبير بين

ص: 294

دروسهم ودروس السلف، فإن دروس هؤلاء في الدعوة إلى الاعتقادات البدعية في باب الإمامة والتحزُّب والدعوة إلى الثورة على الحكام تصريحًا أو تلميحًا، حتى ولو كانت دروسهم في الكتب النافعة، فإنهم يدخلون هذه الاعتقادات الباطلة في هذه الدروس، ففعلُ هؤلاء محرَّم يجبُ عليهم أن يتوقفوا عنه، ولو لم ينهَهُم السلطان وإذا نهاهُم زادت الحرمة حُرمةً وإثمًا لاجتماعِ معصيَتين في حقِّهم.

ومما ينبغي أن يُتنبه له أنَّ الدكتور آل عبد اللطيف لجهله أو بغيهِ يكرِّر كلامَ ابن تيمية في عدم السمع والطاعة في المعصية بعدة طرق.

منها: لا طاعة لجهَلَة الحكام إلَّا فيما يُعلم أنه سائغ شرعًا.

ومنها: لا طاعة مطلقة إلَّا للرسل عليهم السلام.

ومنها: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ومنها: عدم العدول عن نصٍّ شرعي معين إلى نصٍّ عام في ولاة الأمور.

وكلُّها راجعة إلى ما هو متفق عليه وهو عدم السمع والطاعة للحاكم في معصية الله، لكن هوَّلَ بهذه العناوين وأوهَم.

والملاحظ أنه يتهرَّب من النصوص والأدلة الواضحة إلى الأدلة المشتبهات والنقول المجملات لأهل العلم ويتتبع زلاتهم.

ص: 295

‌الفصل الخامس

استدراكات على كتاب

«الحرية والطوفان» لحاكم العبيسان

ص: 297

استدراكات على كتاب

«الحرية والطوفان» لحاكم العبيسان

إن كتاب (الحرية والطوفان) من الكتب المخالفة لأهل السنة في أصل السمع والطاعة

(1)

، فاشترك - في الجملة - مع الكتب السرورية في هذه المخالفة، لكن زاد عليهم أمورًا تجعل منهجَه منهجًا قريبا لليبرالية، وذلك لما يلي:

أولًا: غلوُّه في الحرية، فجعل للكفار والمبتدعة حقَّهم في الدعوة إلى باطلهم، وليس للحكام حقُّهم في منعهم من ذلك.

ثانيًا: جعل اختيار الحاكم للأمة؛ لا إلى أهل الحلِّ والعقد.

ثالثًا: نازعَ في شرط القرشية في الإمامة والولاية.

رابعًا: حرَّف الكلم بأن جعلَ الشورى المرادة في الشريعة هي المجالسَ البرلمانية وأمثالها.

خامسًا: غلا في إرادة الأمة والشعب؛ بخلاف السروريين فهُم غلاة في تحكيم الشريعة

إلى غير ذلك.

وفي كتاب (الحرية والطوفان) وكتابه الآخر الذي ألَّفه تدعيمًا له، وهو كتاب (الفرقان بين حقائق الإيمان وأباطيل الشرك والطغيان) مزالقُ وموبقات، وقد استدركتُ عليه واحدًا وثمانين استدراكًا مع إعراضي عن جملةٍ كثيرة من المزالق والمغالطات التي لو ذكرتُها كلَّها لكانت استدراكاتي ما يقارب الضِّعف، والذي

(1)

وللشيخ الكويتي الفاضل الدكتور حمد العثمان رد على هذا الكتاب بعنوان «الغوغائية هي الطوفان» وقدَّم له الشيخ العلامة صالح الفوزان.

ص: 299

أذكرهُ مختصرًا في هذه الاستهلالة: أنَّ الدكتور حاكمًا العبيسان لم يستطع أن ينقلَ عن عالمٍ واحد من علماء الأمة سلفًا له فيما يدَّعيه من الحرية، وهذا ليس غريبًا لأنها أشبه بالليبرالية منها بالإسلامية.

وبعد هذا إليك الاستدراكات على كتاب (الحرية والطوفان):

الاستدراك الأول:

قرر أن إقامة الدولة الإسلامية مرادٌ لذاته، مع قوله إنه مراد لغيره، فجعلها غايةً باعتبار، ووسيلةً باعتبار فقال: «وقد أكَّد القرآن ضرورة الدولة في آيات كثيرة كغايةٍ وهدف، كما في قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

وكذلك أكَّد ضرورة الدولة كوسيلةٍ لغاية أخرى، كما قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]»

(1)

.

القولُ بأنَّ إقامة الدول الإسلامية غايةٌ ومقصدٌ لذاته غلوٌّ لا يدلُّ عليه دليل، بل هو مخالفٌ للأدلة وأقوال علماء الأمة، وقد استدلَّ بوعد الله بالاستخلاف، وهذا لا دلالة فيه ألبتة على أنَّ الاستخلاف غاية، فمن أين استنبط أن الوعد بأمرٍ يعدُّ مرادًا ومقصودًا لذاته؟!

(1)

(ص: 13).

ص: 300

وقد دلت الأدلة على أنَّ إقامة الدولة مرادٌ لغيره، ومن ذلك أنه قال:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} ، ومن الأدلة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في مكة ثلاث عشرة سنة، ولم يُنادِ إلى إقامة دولةٍ بل نادى إلى عبادة الله وحده.

وقد دلَّ على هذا أقوال أهل العلم؛ فكلُّ ما تقدَّم ذِكرهُ في التأصيلات من أقوال أهل العلم في أنَّ الإمامة والولاية مرادةٌ لغيرها يدلُّ على أنَّ الدولة مرادة لغيرها، لأن الدولة لو كانت مرادةً لذاتها لكانت الإمامة كذلك؛ فإنها ركنٌ من أركان الدولة.

الاستدراك الثاني:

استدل بأدلةٍ لا دلالة فيها ألبتة في بيان أن الدولة المسلمة مرادة لذاتها، قال:«وقد عمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم على تحقيق هذه الغاية وهو في مكة، فكان يخرج إلى القبائل في المواسم يبحثُ عمن ينصرهُ لتحقيق هذا الهدف الذي هو أيضًا وسيلة لأهداف أسمى، تتمثل في إقامة الدين والعدل الذي جاء به القرآن، فقد عرضَ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته على بني شيبان، فقال سيِّدهم المثنى بن حارثة: إنما نزلنا في العراق على عهدٍ أخذَهُ كسرى علينا؛ ألَّا نُحدِثَ حدَثًا، ولا نؤوي مُحدثًا؛ وإنى أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهُه الملوك، فإن أحببتَ أن نؤيِّدكَ وننصرَكَ مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتُم بالردِّ إذ أفصحتُم بالصِّدق، وإنَّ دينَ الله لن ينصُرَه إلَّا مَنْ أحاطَهُ من جميع جوانبه»

(1)

.

فقد كان واضحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يدعو لدين ودولة، ولهذا أدركَ بنو شيبان أنَّ الملوك لن ترضى بمثل هذا الأمر الذي جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكد

(1)

دلائل النبوة لأبي نعيم (ص: 282).

ص: 301

ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الأنصار البيعة الثانية بمكة على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره؛ وهي بيعة الحرب.

ففي حديث جابر بن عبدالله: قلنا: يا رسول الله علَامَ نبايعك؟ قال: «تبايعونني على السَّمع والطاعة في النشاطِ والكسَل، والنفقة في العُسرِ واليسْرِ، وعلى الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وأن يقولها لا يبالي في الله لومة لائم، وعلى أن تنصُروني وتمنَعوني - إذا قدمت عليكم - مما تمنعون منهُ أنفسَكُم وأزواجَكُم وأبناءكم» .

وقد أدرك هذا الأنصار فقال سيِّدهم أسعد بن زرارة: إنَّ إخراجَهُ اليوم منازعةُ العرب كافة، وقتلُ خياركم، وأن تعضَّكمُ السيوف»

(1)

.

فقد كان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم السياسي لهم واضحًا، وأنه يهدف إلى إقامة دولة، وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه البيعة لإقامة الدولة والدين معًا، إذ لا يُتصوَّر إقامة الدين لله دون دولة تقوم بهذه المهمة، وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أن يحقق هذا الهدف الرئيسي الذي سيسهِّل مهمة إقامة الدين كلِّه لله

(2)

.

الاستدلال بهذين الدليلين على أن الدولة المسلمة مرادة لذاتها، استدلال بما لا يدلُّ عليه الدليل.

أما وجه الغرابة في الدليل الأول: هو قوله: إنه صلى الله عليه وسلم عرضَ نفسه على بني شيبان، وأنهم أدركوا أنَّ الملوك لن ترضى بهذا، فهذا إذًا يدلُّ على أنه كان يسعى لإيجاد دولة مسلمة، وهذا استدلالٌ ضعيف للغاية من أوجه:

(1)

أخرجه أحمد (3/ 322).

(2)

(ص: 13 - 14).

ص: 302

الوجه الأول: أنه لا يلزم من معرفة بني شيبان عداء الملوك لهم إذا استجابوا لدعوةِ رسولِ الله أن يكون رسولُ الله عرضَ عليهم إيجادَ دولة، وهذا يتَّضحُ بمايلي:

وهو أنه لو قام رجلٌ على منع الخمر وتحريمه، فسيُحاربه الملوك الفاسدون، والسببُ في ذلك أنه يدعو إلى ما يخالفُ ملذَّاتهم وأهواءهم، لا أنها مرادة لذاتها.

ومثل هذا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها تحارب معبوداتهم المحبوبة إليهم أشدَّ من شهواتهم؛ فليس السبب أن الدولة الإسلامية مرادة لذاتها.

الوجه الثاني: أن الأدلة الأخرى بيَّنت أن وظيفة الرسل أجمعين الدعوة إلى عبادة الله وحده، فهي الغاية فقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وما كان محقِّقًا لها فهو وسيلة لها.

الوجه الثالث: أن الأدلة الأخرى بيَّنت ما كان يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ذلك ما قاله طارق بن عبد الله المحاربي: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز وعليه حُلَّة حمراء وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تُفلِحوا» ، ورجلٌ يتبعهُ يرميه بالحجارة وقد أدمَى عُرقوبَيه وكَعبيه وهو يقول: يا أيها الناس لا تُطيعوه فإنَّه كذَّاب فقلت: من هذا؟ قيل: هذا غلامُ بني عبد المطلب، قلت: فمن هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة؟ قال: هذا عبد العزى أبو لهب

(1)

.

فلم يكن يدعوهم إلى إيجاد دولة مسلمة، بل أن يدخلوا الإسلام ويعتنقوا التوحيد.

(1)

صححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان رقم (6528).

ص: 303

الوجه الرابع: أن كفار قريش عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يملِّكوه ورفضَ ولم يلتفت إليهم، ولو كان الملك وإيجاد الدولة المسلمة مرادًا لذاته لقبلَ أن يكون ملكًا عليهم

(1)

.

أما الدليل الثاني من استدلالاته التي لا دلالة فيها على مرادهِ قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «بايعوني على السَّمع والطاعة

» إلى آخر الحديث وإلى آخر ما قال الدكتور حاكم العبيسان.

قد فهم الدكتور حاكم العبيسان خطأ لمَّا ظنَّ أن معنى الدعوة إلى الدولة المسلمة في هذه الفترة: أنه يعني أن الدولة المسلمة مرادة لذاتها؛ لأن غاية ما في هذا الدليل أنه دعا إليها، وهذا حقٌّ يقول به من يقرِّر أنَّ الدولة مرادة لغيرها، كما يقول به من يقول إنَّ الدولة مرادة لذاتها، فإذًا الدعوةُ إلى إقامة الدولة لا يُفيد أنها مرادة لذاتها؛ لمجرد أن الشريعة دعت إليها، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الدِّين كلِّه سواءٌ كان مرادًا لذاته أو لغيره، فلا يصحُّ أن يُستنبط من دعوته لأمر أنه مرادٌ لذاته لمجرَّد دعوته إليه.

إذا تبين هذا يتبيَّن غرابة استدلاله بهذا جدًّا، ثم ضعفُ بقية أدلته وغرابةُ استدلاله بها.

(1)

سيرة ابن هشام (ص: 293)، وحسَّن القصة العلامة لألباني في حاشيته على كتاب فقه السيرة (ص: 116).

ص: 304

الاستدراك الثالث:

قال حاكم العبيسان: «فالعلاقة بين الأمة والإمام تقوم على أساس عقدٍ بين طرفين، تكون الأمة فيه الأصيل، والإمام هو الوكيل عنها في إدارة شئونها»

(1)

.

القول بأن عقدُ الإمامة عقد وكالة يلزمُ عليه ما هو مخالفٌ لإجماع أهل السنة؛ وهو أنَّ للأمة حقًّا في عزلِ الحاكم؛ وقد سبق بيان بطلان هذا القول ولازمه

(2)

.

الاستدراك الرابع:

قال الدكتور حاكم: «كل ذلك يؤكِّد أن عقد الإمامة كغيره من العقود، وهو أشبه بعقد الوكالة، ينوب فيه الإمام عن الأمة، فهي التي تختاره كما أنها هي التي لها الحقُّ في عزله»

(3)

.

تقدم أن جعل العقد وكالةً باطلٌ، ثم ترتيب جواز عزلهِ على ذلك باطلٌ أيضًا = مخالفٌ لإجماع أهل السنة وللأدلة الصريحة، وقد سبق بيان هذا

(4)

.

الاستدراك الخامس:

قال الدكتور حاكم: «وقد دخل عليه أبو مسلَّم الخولاني فسلم عليه فقال: «السلام عليك أيها الأجير! فقيل له: قل الأمير، فقال: بل أنت أجير

» وهذا يؤكِّد أن عقدَ الإمامة في نظر الصحابة رضي الله عنهم هو عقدٌ أشبه بالوكالة، والإمام

(1)

(ص: 21).

(2)

تقدم (ص: 44).

(3)

(ص: 25).

(4)

تقدم (ص: 44).

ص: 305

كالوكيل أو الأجير»

(1)

.

والجواب على هذه الشبهة من أوجه ثلاثة، وقد سبق ذكرها

(2)

.

الاستدراك السادس:

جازفَ الدكتور حاكم العبيسان وادَّعى أنه لا خلاف بين الفقهاء في أن الإمام وكيل عن الأمة فقال: «ثم تأمَّلْ مدى جناية هذا العَيِي الدَّعي على العلم وأهله كيف يخفى عليه بأن كون الإمام وكيلًا عن الأمة هو كلامُ فقهاء أهل السنة قاطبة لا خلاف فيه بينهم، وقد أوردتُ من نصوص الشافعية والحنابلة والمالكية وغيرهم ما يؤكِّد ذلك»

(3)

.

إنَّ نفيَ الخلاف أمرٌ صعب لا يؤخذ إلَّا ممن كان ذا علمٍ واستقراء، وكلا هذين الأمرين لا يُعرَفان عن الدكتور حاكم، فهو قد شغلَ نفسه وأضاعَ وقته في تتبُّع السياسات والدعوة إلى حريةٍ أشبه ما يصحُّ أن تسمَّى ليبرالية، لذا لم يستطع أن ينقلها عن عالمٍ واحد من علماء السنة الماضين الموثوقين فضلًا عن أن ينقلَ الإجماع عليها.

والخلافُ في هذه المسألة معروف عند الحنابلة المتأخرين؛ فقد اختلفوا في عقد الإمامة هل هو عقد ولاية أو وكالة؛ وعلى هذا يكون تصرُّفه عن الرعية، قال ابن رجب: «المتصرِّفُ تصرُّفًا عامًّا على الناس كلِّهم من غير ولاية أحدٍ معيَّن وهو الإمام، هل يكون تصرُّفه عليهم بطريق الوكالة لهم أو بطريق الولاية؟

(1)

(ص: 25).

(2)

تقدم (ص: 145).

(3)

الفرقان بين حقائق الإيمان وأباطيل الشرك والطغيان (ص: 49)

ص: 306

في ذلك وجهان؛ وخرَّج الآمدي روايتين بناءً على أن خطأه هل هو على عاقلته أو في بيت المال؛ لأنَّا إنْ جعلناه على عاقلته فهو متصرِّفٌ بنفسه، وإن جعلناه في بيت المال، فهو متصرِّف بوكالتهم لهم وعليهم، فلا يضمن لهم ولا يهدر خطأه، فيجب في بيت المال. واختيار القاضي في خلافه أنه متصرِّف بالوكالة لعمومهم.

وذكر في الأحكام السلطانية روايتين في انعقاد الإمامة بمجرد القهر من غير عقد، وهذا يحسُن أن يكون أصلًا للخلاف في الولاية والوكالة أيضًا، وينبني على هذا الخلاف أيضًا انعزاله بالعزل؛ ذكرَهُ الآمدي، فإن قلنا: هو وكيل فله أن يعزل نفسه.

وإن قلنا: هو والٍ لم ينعزل بالعزل كما أنَّ الرسول ليس له عزلُ نفسه ولا ينعزلُ بموت مَنْ بايعه؛ لأنه وكيل عن الجميع لا عن أهل البيعة وحدَهم، وهل لهم عزلُه إذا كان بسؤاله فحكمُه حكمُ عزل نفسه، وإن كان بغير سؤاله لم يُجز بغير خلاف، هذا ظاهرُ ما ذكره القاضي وغيره»

(1)

.

فكيف يدَّعي حاكم العبيسان أنه لا خلاف في هذه المسألة؟

وتقدَّم بيان أنه يلزم على القول بأنه عقد ولاية أو وكالة لوازمُ باطلة؛ لذا لسنا مُلزَمين بهذين الأمرين، ثم لم أرَ الأوَّلين عبَّروا بأنه عقدُ وكالة أو ولاية

(2)

.

وما تقدَّم نقله عن الفقهاء إنما هو قولُ المتأخرين دون الأولين، ويلزمُ على قولهم لوازمُ مخالفة لقول أهل السنة - كما تقدم -

(3)

.

(1)

القواعد (ص: 113).

(2)

تقدم (ص: 143).

(3)

تقدم (ص 44).

ص: 307

الاستدراك السابع:

قال حاكم العبيسان: «كما يدلُّ حرصُ معاوية رضي الله عنه على أخذِ البيعة ليزيد على ضرورة عقد البيعة وأهميته، وأن شرعية أيِّ إمام لا تتمُّ إلَّا به، وأنَّ كونه خليفة للمسلمين لا يخوِّله حقَّ فرضِ ابنه على الأمة، وأنَّ عهده إلى ابنه دون عقد البيعة لا قيمة له، ولهذا حرصَ على عقدها لابنه لضرورتها»

(1)

.

هذا الكلام صريح في أنه لا يرى صحَّة الإمامة والولاية للمتغلِّب لما قال: «وأنَّ شرعية أيِّ إمام لا تتمُّ إلَّا به» ، وهذا القول باطلٌ مخالفٌ للنصوص الشرعية، ولإجماع أهل السنة في صحَّة ولاية المتغلب - كما تقدم -

(2)

.

وقوله: بردِّ إمامة وولاية المتغلب هو من أفسَدِ ما دعا له في كتابه؛ فبمجرَّد إثبات صحَّة إمامة وولاية المتغلِّب يسقط كتابه، والفكرة التي من أجلها ألَّفه.

وكفى هذا الكتاب بطلانًا وفسادًا أن يكون قائمًا على مصادمة الأدلة الشرعية وفتاوى الصحابة وإجماع أهل السنة على صحة ولاية المتغلِّب؛ وقد تقدَّم ذكرها

(3)

.

الاستدراك الثامن:

زعم الدكتور - زورًا وبهتانًا وتدليسًا - أنَّ الصحابة مُجمعونَ على عدم صحَّة الولاية للمتغلِّب فقال: «ولا خلافَ بين الصحابة في أنَّه لابدَّ لصحَّة البيعة من رضا الأمة واختيارها دون إكراهٍ أو إجبار؛ ولهذا قال أبو بكر للصحابة: أترضَونَ بمن استُخلفَ عليكم؟ فإني واللهِ ما ألَوتُ من جهدِ الرأي، ولا ولَّيتُ ذا قرابة،

(1)

(ص: 25).

(2)

تقدم (ص: 68).

(3)

تقدم (ص: 65).

ص: 308

وإني استخلفتُ عمرَ بن الخطاب، فاسمَعوا له وأطيعوا. قالوا: سَمِعْنا وأطعنا. وفي رواية: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. وقال بعضُهم: قد عَلمنا به. فأقرُّوا بذلك جميعًا ورضوا به وبايعوا»

(1)

.

وقد سبق كشف هذه الشبهة - بفضل الله - من أوجهٍ أربعة

(2)

، وبها يتبين كذبُ كلامه.

الاستدراك التاسع:

قال الدكتور: «فقد عقد الصحابة رضي الله عنهم البيعة لأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي دون إكراه ولا إجبار، ولا يُتصوَّر بطلانُ عقد البيع في ربعِ دينار عند انعدامِ رضا أحد الطرفين، وصحَّةُ عقدِ الإمامة مع الإكراه، فهذا يصطدم بنظرية العقود في الشريعة الإسلامية التي تشترط لصحَّةِ كلِّ عقدٍ رضا الطرفين، إذ لا عقدَ لمُكْرَه»

(3)

.

تقدَّم - بفضل الله - كشفُ هذه الشبهة من أوجهٍ ثلاثة

(4)

.

الاستدراك العاشر:

قال الدكتور حاكم: «وإذا كان الله عز وجل الذي أوجبَ طاعته على العباد لم يرضَ إجبارَهُم ولا إكراهَهُم على طاعته حتى قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، فكيف يُتصوَّر جوازُ عقد الإمامة - التي تقتضي الطاعة للإمام - دون رضا الأمة،

(1)

(ص: 26).

(2)

تقدم (ص: 131).

(3)

(ص: 27).

(4)

تقدم (ص: 133).

ص: 309

وإكراهها على عقده ثم التزامها بمقتضاه تحت الإكراه؟!»

(1)

.

تقدَّم - بفضل الله - كشفُ هذه الشبهة من أوجهٍ ثلاثة

(2)

.

الاستدراك الحادي عشر:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «ولوضوح هذا المبدأ أفتى مالك رحمه الله فتواه بأنه لا بيعة لمكره» (1).

والجوابُ أن يقال: «تقدَّم بيان أن القول بعدم صحَّة بيعة المكره، لا تتنافى مع صحَّة ولاية المتغلِّب

(3)

، وأيضًا فإنَّ الإمام مالكًا صحَّح ولاية المتغلِّب - كما سبق -

(4)

».

الاستدراك الثاني عشر:

جعل الدكتور حاكم العبيسان الشورى ملزِمةً فقال: «بل جميعُ تصرُّفات الصحابة تؤكِّد أنها واجبةٌ ملزمة»

(5)

.

ليس الإشكال في مبدأ الشورى، بل الإشكالُ في جعلِ الشورى مُلزمةً للحاكم إذا أشاروا عليه بأمرٍ لَزِمهُ الأخذُ به، وهذا ما لم أقفْ على دليلٍ يدلُّ عليه، وأيضًا ما رأيتُ أحدًا من أهل العلم قالَهُ وقرَّره، وقد تقدَّم بيانُ هذا فيما سبق

(6)

.

(1)

(ص: 27).

(2)

تقدم (ص: 133).

(3)

تقدم (ص: 130).

(4)

تقدم (ص: 129).

(5)

(ص: 30).

(6)

تقدم (ص: 249)

ص: 310

الاستدراك الثالث عشر:

قال حاكم العبيسان في الفرقان: «وأجمعت الأمة وأهلُ السُّنة على أنَّ خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة كانت بالشورى والرضا والاختيار»

(1)

.

هذه أيضًا من المسائل التي يبالغ فيها حاكم عبيسان ويجازفُ بحكاية الإجماعات فيها، فقد أثبتَ الماوردي الخلافَ بين العلماء في هذه المسألة، وبين أنَّ عهدَ أبي بكر لعمر مُلزم فقال: «لكن اختلفوا: هل يكونُ ظهورُ الرضا منهم شرطًا في انعقاد بيعته أو لا؟ فذهبَ بعضُ علماء أهل البصرة إلى أنَّ رضا أهلِ الاختيار لبيعتِه شرطٌ في لزومها للأمة؛ لأنها حقٌّ يتعلَّق بهم، فلم تلزمهم إلَّا برضا أهلِ الاختيار منهم.

والصحيح أنَّ بيعته منعقدة وأنَّ الرضا بها غير معتبر؛ لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقَّف على رضا الصحابة؛ ولأن الإمامَ أحقُّ بها، فكان اختيارهُ فيها أمضى، وقوله فيها أنفَذ»

(2)

، فكيف يحكي حاكم العبيسان الإجماعَ عليها، أليس هذا تهوُّرًا ومجازفة؟!

الاستدراك الرابع عشر:

قال الدكتور: «وكلُّ ذلك من عثمان وعلي دليلٌ على أنَّ خلع الخليفة حقٌّ للأمة التي اختارته، وإنَّما رفضَ عثمان ما أراده منه أهلُ الفتنة؛ لأنهم ليسوا كلَّ الأمة، بل لم يوافق الصحابة وعامة المسلمين على خلعِ عثمان نفسه من الخلافة، وخشيَ هو إنْ خلعَ نفسه منها أن يُفضيَ ذلك إلى حدوثِ فتنة عظيمة، وتصبح بذلك سُنَّة كلَّما رأتْ شرذمةٌ رأيًا فرضَتهُ على الأمة بقوة السلاح، فلا تستقيمُ

(1)

ص: 90.

(2)

الأحكام السلطانية (ص: 31).

ص: 311

شئون الدولة ولا تصلحُ شئون الأمة على مثل هذا»

(1)

.

والجواب على هذا من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: ليس في كلام عثمان لا لفظًا ولا مفهومًا ما يدلُّ على أنَّ الذي منعَهُ من خَلْعِ نفسهِ أنَّ أهلَ الفتنة ليسوا كلَّ الأمة أو أكثرها كما توهَّم الدكتور.

الوجه الثاني: تقدَّمت الأدلة والإجماعاتُ في حُرمةِ خَلْعِ الرَّعية للإمام مهما ظلمَ وفسقَ بما أنه مسلم

(2)

، فلا يُترك هذا المتيقَّن إلى ظُنونٍ متوهَّمة، بل أوهامٍ؛ لأنها مخالفةٌ للنصوص والإجماع.

الوجه الثالث: أنَّ الذي منع عثمان رضي الله عنه من التنازل عن الخلافة هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبتَ عند الإمام أحمد: عن عائشة، قالت:«أرسَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبلتْ إحدانا على الأخرى، فكان من آخرِ كلامٍ كلَّمه، أنْ ضرَبَ مَنكبهُ، وقال: «يا عثمان، إنَّ الله عز وجل عسى أن يلبسكَ قميصًا، فإن أرادكَ المنافقونَ على خَلعهِ، فلا تَخلَعهُ حتى تلقاني، يا عثمان، إنَّ الله عسى أن يُلبسكَ قميصًا، فإن أرادكَ المنافقونَ على خَلعهِ، فلا تَخلعهُ حتَّى تلقاني» ثلاثًا، فقلت لها: يا أمَّ المؤمنين، فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيتهُ، واللهِ فما ذكرتُه. قال: فأخبرتُه معاوية بن أبي سفيان، فلم يرضَ بالذي أخبرتُه حتى كتبَ إلى أمِّ المؤمنين أن اكتُبي إليَّ به، فكتبتْ إليهِ به كتابًا»

(3)

.

(1)

(ص: 44).

(2)

تقدم (ص: 181).

(3)

أخرجه أحمد (6/ 86)، وهذا إسنادٌ ظاهره الصحة، وقد اختُلفَ فيه على أوجه، وصحَّح الدارقطني (14/ 88) هذا الوجه، وسند هذا الوجه صحيح.

ص: 312

الاستدراك الخامس عشر:

قال حاكم: «فكذا لها الحقُّ في نقدهِ ومناصحته والاعتراضِ على سياسته، فالحريةُ السياسية إحدى الأسس التي قام عليها الخطاب السياسي»

(1)

.

وهذه دعاوى عاريةٌ من بيِّنة، قال الشاعر:

الدَّعاوى ما لم يُقيموا عليها

بيِّناتٍ أصحابُها أدعياءُ

فقد تقدَّم

(2)

ذِكرُ الأدلة وأقوال السلف في عدم صحَّة مناصحةِ الإمام إلَّا أمامَهُ لا وراءه، وأنَّ الكلام من ورائه باسم النصيحة محرَّمٌ وبدعة، وتقدَّم بيانُ أن سبَّهُ وانتقاصَهُ محرَّم

(3)

، وما ذكرَهُ الدكتور حاكمٌ لا يخرجُ عن أحوالٍ ثلاثة:

الحال الأولى: كلامُ حماسةٍ وعاطفة. ومن المعلوم أنَّ مثل هذا ليس بيِّنةً ولا حجَّة.

الحال الثانية: أنَّ أدلته أدلةٌ خارجَ موردِ النزاع، لأنها في النُّصحِ أمامَهُ؛ وهذا جائزٌ وليس ممنوعًا.

فقد ذكر حديث: «أفضَلُ الجهاد كلمةُ حقٍّ عند سلطان جائر»

(4)

، وحديث:«سيِّدُ الشهداء حمزة، ورجلٌ قامَ إلى إمامٍ جائر فأمرَهُ ونهاه»

(5)

.

(1)

(ص: 45).

(2)

تقدم (ص: 50).

(3)

تقدم (ص: 46).

(4)

أخرجه الترمذي (2174)، وأبو داود (4344)، وابن ماجه (4011)، وأحمد (3/ 19) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(5)

أخرجه الحاكم (3/ 215).

ص: 313

الحال الثالثة: أنَّ أدلته أدلةٌ عامة في إنكار المنكر.

فقد ذكر حديث: «مَنْ رأى منكُم منكرًا

»

(1)

، وحديث:«لتأخذُنَّ على يدِ الظَّالم ولَتَأطُرنَّه على الحقِّ أَطرًا»

(2)

وهكذا.

ومعلوم أن الخاصَّ مقدَّم على العام؛ وسبق كشفُ هذه الشبهة

(3)

.

الاستدراك السادس عشر:

قال الدكتور حاكم: «وقد أرسى القرآنُ مبدأ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ليؤكِّدَ مبدأ الحرية بجميع صُورها، فإذا كان الله عز وجل لا يُكره عبادَهُ على الإيمان به وطاعته، فكيف يُتصوَّر أن يُكرِهَ عبادَهُ على الخضوع والطاعة لغيره من البشر»

(4)

.

تقدَّم في كشف الشبهات الردُّ على الاستدلال بالآية من أوجُهٍ ثلاثة

(5)

ويُزادُ

وجهان في استدلاله بها على هذه الشبهة:

الوجه الأول: إنَّ الآيات القرآنية والأحاديثَ النبوية كثيرة في الأمر بطاعة الوالدين في غير معصية الله، ولو كان الأولادُ كارهين لطاعتهما، ولا يصحُّ لأحدٍ أن ينكر هذا استدلالًا بقوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، فالذي قال:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هو الذي قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

(1)

أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود (4336)، والترمذي (3048)، وابن ماجه (4006)، وأحمد (1/ 391) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

تقدم (ص: 56، 102).

(4)

(ص: 45).

(5)

تقدم (ص: 134).

ص: 314

فبهذا صحَّ أن يُتصوَّر من الشريعة التي جاءت بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الأمرُ بطاعةِ مخلوقٍ وبشرٍ وهما الوالدان، ولم يمتنع هذا التصوُّر إلَّا عند العقول الغالية في الإمامة؛ مثل عقلية الدكتور حاكم.

الوجه الثاني: إذا تبيَّن أن قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} لا ينافي وجوبَ السَّمع والطاعة لبشر، فإنَّ الأدلة المتواترة مع إجماعاتِ أهل السنة دلَّت على وجوب السَّمع والطاعة للحاكم في غير معصية الله.

فإنَّ الواجبَ الإيمانُ بالشريعة كلِّها؛ قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208].

الاستدراك السابع عشر:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «ثم الخلق بعد ذلك بشرٌ لا طاعةَ لأحدٍ على أحدٍ إلَّا بما كان طاعة لله عز وجل»

(1)

.

هذا منقوضٌ بطاعةِ الوالدين، فإنه يجبُ طاعتهما في كلِّ ما ليسَ معصيةً؛ للأدلة الدالة على ذلك؛ وليست طاعتُهما مخصوصةً في طاعةِ الله من الواجباتِ والمستحبات، فهل يا تُرى يُكابر الدكتور، ويقول: لا تجبُ طاعةُ الوالدين في المباحات؟

الاستدراك الثامن عشر:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «ولهذا جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم لتحصرَ الطاعةَ بطاعةِ الله عز وجل واتِّباع رسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعةَ في معصيةِ الله إنَّما

(1)

(ص: 45).

ص: 315

الطاعةُ بالمعروف»، وقال:«لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق» ليؤكد بذلك أن حقَّ السلطة بالطاعة إنما هو منوطٌ بما كان معروفًا أنه طاعة لله»

(1)

.

تقدَّم بيانُ بطلان حصرِ المعروف فيما كان معروفًا شرعًا، أي في الواجبات والمستحبات وأنه عامٌّ حتى في المباحات بدلالة الأدلة الشرعية وإجماع أهل السنة

(2)

.

الاستدراك التاسع عشر:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «ولهذا تجلَّت الحرية في أوضَح صورها في هذه المرحلة، فقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مَنْ كان يُضمر العداوة له صلى الله عليه وسلم ويكيده؛ كالمنافقين في المدينة، وكان يعرفهم ولم يعترَّض لهم، وقد نزل قولُ الله تعالى في شأن زعيمهم عبدالله بن أبي ابن سلول {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، وهذا عزمٌ على إسقاط الدولة الإسلامية وإخراجِ النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، ومع ذلك لم يتعرَّض له النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، بل قال بعد أن بلغه هذا الخبر عن ابن أبي بن سلول وأرادَ بعضُ الصحابه قتله: «لا بلْ نُحْسِنُ صُحبته» ، وقال:«لا يتحدَّث الناسُ أنَّ محمدًا يقتلُ أصحابه»

(3)

.

وقد بلغ الأمر بابن سلول أن انسحبَ بثلث الجيش يوم أحد، وتركَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى القتال؟! وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم معترضًا في قسمة: اعِدِلْ يا محمد فإنك لم تعدِلْ، وإنَّ هذه القسمة ما أُريدَ بها وجهُ الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«ويحكَ مَنْ يعدِلُ إنْ لم أَعدل» ، فأراد الصحابة ضَرْبَهُ فقال صلى الله عليه وسلم: «معاذَ الله أن

(1)

(ص: 45).

(2)

تقدم (ص: 75).

(3)

سبق تخريجه (ص: 195).

ص: 316

يتحدَّثَ الناسُ أني أقتلُ أصحابي»

(1)

.

وقال له رجلٌ يهودي - وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس مع أصحابه -: يا بني عبدِ المطلب إنكُم قومٌ مُطْل. أي: لا تؤدون الحقوق. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد استلف منه مالًا، فأراد عمر رضي الله عنه أن يضربَ اليهودي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّا كنَّا أحوجَ إلى غيرِ هذا منكَ يا عمر، أن تأمرَهُ بحُسْنِ الطَّلب، وتأمرني بحُسْن الأداء»

(2)

، وقد اعترضَ عمرُ على النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقال له: عَلامَ نُعطي الدَّنية في ديننا؟

(3)

.

وكذلك كان الحال في عهد الخلفاء الراشدين، فقد كان المسلمون يعترضون على سياساتهم، وينتقدون ممارساتهم، ولم يتعرض أحدٌ للأذى بسبب هذه المعارضة، مما يدلُّ على رسوخ مبدأ الحرية السياسية. وقد خطب أبو بكر بعد أن أصبح خليفة فقال:«إنْ أحسنتُ فأعينوني، وإن سألتُ فقوموني»

(4)

، ليؤكد مبدأ الحرية السياسية، وحقَّ الأمة في نقد سياسة الإمام وتقويمه»

(5)

.

إنَّ هذه الأسطر من حاكم العبيسان تدلُّ على أنه يخبط خبطَ عشواء في استدلالاته، وأنه لا يعرف العلاقة بين الدليل ومدلوله فيستدل على دعاويه بما لا دلالة فيها لا من قريب ولا من بعيد.

(1)

سبق تخريجه (ص: 186).

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (5/ 222)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1341).

(3)

أخرجه البخاري (2731)، ومسلم (1785) من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه.

(4)

الزهد لأبي داود (ص: 56).

(5)

(ص: 47).

ص: 317

فهو يتكلَّم عن حرية شيطانية، ويزعمُ أن الشريعة جاءت بها، وأنَّى لشريعة الرحمن أن تأتي بما يوسوس به الشيطان.

ففي كلامه هذا أمور عدة:

الأمر الأول: أنه بمقتضى الحرية الحقة - في زعم الدكتور - إذا عرف السلطان من يريد الانقلاب على الحكم والمكيدة له، ولو كانوا جماعة فإنه يتركهم. قال الدكتور حاكم:«فقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مَنْ كان يضمر العداوة له صلى الله عليه وسلم ويكيده كالمنافقين في المدينة، وكان يعرفهم ولم يعترض لهم» ، وهذا غير صحيح من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ اجتماع أقوام على مثل هذا منكر، وإنكارُ المنكر واجبٌ، قال عرفجة الأشجعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فمَن أرادَ أن يفرِّق أمرَ هذه الأمة وهي جميعٌ، فاضربوهُ بالسَّيف كائنًا من كان» ، وفي رواية:«مَنْ أتاكُم وأمرُكُم جميعٌ على رجُلٍ واحدٍ، يريدُ أن يشقَّ عَصاكُم، أو يفرِّقَ جماعتكُم، فاقتلُوه»

(1)

، وكلُّ ما أدَّى إلى منكرٍ ومحرَّمٍ فيجبُ إنكاره.

الوجه الثاني: لا يلزم حتى يتمَّ الإنكار أن يكونَ القتالُ والقتل، فقد يكونُ الفعلُ منكرًا ولا يقاتَلُ عليه، فإن القتال إنما يكون في الحالات الثلاثة السابقة من كلام ابن تيمية.

الأمر الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين، ومنهم عبد الله بن أبي سلول لحكمةٍ عظيمة، وهي ألَّا ينفر الكفار من الدين لظنَّهم أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل

(1)

سبق تخريجه (ص: 161).

ص: 318

أصحابه كما في الحديث نفسه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتله وعلَّل بقوله: «لا يتحدثُ الناسُ أنَّ محمدًا يقتلُ أصحابه»

(1)

.

الأمر الثالث: أنَّ الرجل الذي اعترضَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَر لأنه اتَّهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالظُّلم فهو مستحقٌّ للقتل لأنه أظهرَ الرِّدة باتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعدل، وفي لفظٍ صريحٍ للبخاري «ما عدلت»

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية على قول هذا الرجل «اعِدِلْ يا محمد» : «ومثلُ هذا الكلام لا ريبَ أنه يوجبُ القتل لو قاله اليومَ أحدٌ، وإنَّما لم يقتله النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأنه كان يُظهرُ الإسلام وهو الصلاة التي يقاتَلُ الناس حتى يفعلوها وإنما كان نفاقُه بما يخصُّ النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى، وكان له أن يعفو عنه وكان يعفو عنهم تأليفًا للقلوب لئلَّا يتحدَّثُ الناسُ أنَّ محمدًا يقتلُ أصحابه، وقد جاء ذلك مفسَّرًا في هذه القصة أو في مثلها»

(3)

.

الأمر الرابع: أنَّ الاستدلال بقصَّة اليهودي لا دلالة فيها على الحرية في النقد والمناصحة والاعتراض المزعوم لسببين:

السبب الأول: عدمُ صحة الحديث - فيما يظهر - فإن في إسناده حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، وهو مجهولٌ جهالة حال لم يوثَّق توثيقًا معتبرًا،

وقد قال الذهبي عن الحديث: «ما أنكَرَهُ وأركَّه» اهـ

(4)

، وقال الألباني في الضعيفة:

(1)

سبق تخريجه (ص: 195).

(2)

أخرجه البخاري (4667).

(3)

الصارم المسلول (ص: 228).

(4)

تلخيص المستدرك (3/ 700).

ص: 319

«منكر»

(1)

، خلافًا لمن صححه.

السبب الثاني: هذا الكلام لو كان نصيحة (مع أنه ليس نصيحة وإنما بغي وفتنة) لكان جائزًا، لأنه أمام الحاكم، ومثلُ هذا جائز لأنه أمامه - كما تقدم

(2)

-، فأين هذا من الكلام في الحاكم من ورائه؟.

الأمر الخامس: استدلاله على الحرية السياسية باعتراض عمر في صلح الحديبية، وهذا لا دلالة فيه؛ لأنه اعتراضٌ محرَّم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد بحث مفيد: «أنَّ الاعتراض قد يكون ذنبًا ومعصيةً يُخاف على صاحبه النفاق وإن لم يكن نفاقًا؛ مثل قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} ومثلُ مراجعتهم له في فسخِ الحجِّ إلى العمرة وإبطائهم عن الحلِّ، وكذلك كراهتهم للحلِّ عام الحديبية وكراهتهم للصُّلح، ومراجعة مَنْ راجع منهم؛ فإن مَنْ فعلَ ذلك فقد أذنبَ ذنبًا كان عليه أن يستغفرَ الله منه، كما أنَّ الذين رفعوا أصواتهم فوق صوتهِ أذنبوا ذنبًا تابوا منه وقد قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7].

قال سهل بن حنيف: «اتَّهموا الرأيَ على الدِّين فلقد رأيتُني يومَ أبي جندل ولو أستطيعُ أن أردَّ أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلت»

(3)

.

فهذه أمورٌ صدرت عن شهوة وعجَلة لا عن شكٍّ في الدين - كما صدرَ عن حاطبٍ التجسُّسُ لقريش - مع أنها ذنوبٌ ومعاصٍ يجبُ على صاحبها أن يتوبَ؛

(1)

رقم (1341).

(2)

تقدم (ص: 50).

(3)

أخرجه البخاري (3181)، ومسلم (1785).

ص: 320

وهي بمنزلة عصيان أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم»، ثم قال: «وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام:

إحداهن: ما هو كفرٌ؛ مثل قوله: «إنَّ هذه لقسمةٌ ما أُريدَ بها وجهُ الله» .

الثاني: ما هو ذنبٌ ومعصية يُخافُ على صاحبه أن يحبط عمله؛ مثل رفع الصوت فوق صوته ومثل مراجعة مَنْ راجعَهُ عام الحديبية بعد ثباته على الصلح، ومجادلة مَنْ جادلَهُ يومَ بدرٍ بعد ما تبيَّن له الحقُّ؛ وهذا كلُّه يدخل في المخالفة عن أمره.

الثالث: ما ليس من ذلك بل يُحمد عليه صاحبه أو لا يُحمد؛ كقول عمر:

«ما بالُنا نقصُرُ الصَّلاة وقد أمِنَّا؟»

(1)

، وكقول عائشة: «ألم يقل الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]؟

(2)

»، وكقول حفصة: «ألم يقل الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]؟

(3)

»، وكمراجعة الحباب في منزل بدر

(4)

»

(5)

.

فإذا ثبت أنه محرم فهو ممنوع في الشريعة، فلا دلالة فيه على الحرية السياسية المزعومة، بل فيه دلالة واضحة على خلاف ذلك ونقيضه، ثم - على التسليم به - فهو من النُّصح الجائز لأنه أمامه لا وراءه.

الأمر السادس: ذكر أن المسلمين يعترضون على سياسة الخلفاء الراشدين، ولم يعترض عليهم أحدٌ بأذى.

(1)

صحيح مسلم (686).

(2)

أخرجه البخاري (103).

(3)

صحيح مسلم (2496).

(4)

البيهقي في السنن الكبرى (9/ 144).

(5)

الصارم المسلول (ص: 196).

ص: 321

هذا كلامٌ مجمَل؛ وذلك أنَّ الاعتراض على هؤلاء الخلفاء له صور:

الصورة الأولى: الإنكارُ أمامَهُم، فهذا لا إشكالَ في جوازه إذا كان بحقٍّ، بخلافِ الإنكار من ورائه فلم يثبت شيءٌ من ذلك البتة، والبيِّنة على المدَّعي.

الصورة الثانية: أن يطلب الخلفاء الراشدون النصيحة والتقويم، فهذا حقٌّ، لكن - كما تقدَّم - بالطرق الشرعية بأن يكون أمامهم لا وراءهم

(1)

.

الصورة الثالثة: منازعتهم بالقتال بأن تكون الفرقة مفسدةً باسم الإصلاح في نظرها، فتُقاتَل كما فعل علي بن أبي طالب مع الخوارج.

الصورة الرابعة: قاتل أبو بكر المرتدين، ولم يترك لهم الحرية المدَّعاة في تركِ الزكاة والارتدادِ عن الدِّين، وعلَّلَ قتالهم على ترك الزكاة أنهم تركوها على وجهٍ كُفري.

الاستدراك العشرون:

أثنى الدكتور حاكم العبيسان على الذين ثاروا على عثمان فقال: «وإذا كانت المعارضة الفردية لسياسة الخلفاء هي الأبرز في عهد أبي بكر وعمر، فقد دخل العملُ السياسيُّ والمعارضة السياسية طورًا جديدًا، وأخذا بُعدًا أكثر تنظيمًا في عهد الخليفتين عثمان وعلي، فقد بدأت المعارضة تأخذُ طابعًا جديدًا، حيث ظهرت جماعات منظَّمة معارضة لسياسة عثمان رضي الله عنه، وقد بدأت في البصرة والكوفة ومصر، ثم أصبحت أكثر انتشارًا، واستطاعت أن تستقطب إلى صفوفها بعضَ الصحابة؛ كعمار بن ياسر الذي أرسلَهُ عثمان رضي الله عنه لمعرفة أخبار هذه

(1)

تقدم (ص: 50).

ص: 322

المعارضة في مصر، فانضمَّ إلى صفوفها.

وقد كانت المطالب التي طالبَ بها هؤلاء المعارضون لسياسة عثمان محدَّدةً تتمثل في:

1 -

الإصلاح السياسي باختيار أمراء جُدد للأقاليم، وعزلِ الأمراء الذين يشتكي منهم الناس، والموافقة على عودة قادة المعارضة إلى بلدانهم التي نُفوا منها.

2 -

الإصلاح الاقتصادي بالقسم والعدل وتوزيع الفيء والأموال بالتساوي.

3 -

الإصلاح الإداري باستعمال ذوي الأمانة والقوة من المسلمين في الأعمال الإدارية للدولة، بدلًا من الأقارب، وهو مبدأ تكافؤ الفرص».

ثم قال: «لقد أدركَ الخليفة والصحابة الذين معه مشروعية ما قام به المعارضون من معارضةٍ جماعيةٍ لسياسة السلطة، ولهذا أقرَّهم عثمان على ما فعلوا، ووافق على شروطهم، وكذا أقرَّهم الصحابة الآخرون، ولو كان ما فعلوه منكرًا لما جلس معهم عثمان، ولما أثنى عليهم، ولما استجاب لشروطهم، ولما كان علي رضي الله عنه هو الواسطة، بل لبادر الصحابة والخليفة إلى منع هذا المنكر وإزالته ومجابهته لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده» .

لقد كانت المعارضة في هذا الطور معارضةً سياسيةً سلميةً ترفع شعار الإصلاح السياسي».

ثم قال: «وقد خرجت هذه الحركة السياسية عن خطِّها بعد ذلك، وانحرفت بعد أن رجعت مرة أخرى إلى المدينة بعد اتِّفاقها مع الخليفة على الإصلاح»

(1)

.

(1)

(ص: 49).

ص: 323

هذا الثناء على الثوار الذين ثاروا على عثمان موبقةٌ ما كنت أصدِّقها لولا أني قرأتها، وهذه الثورة ثورةٌ باطلةٌ جائرة؛ فهي على خليفةٍ راشدٍ عادل، فإنها لو كانت على ظالمٍ فاسقٍ لكانت محرَّمة، فكيف على راشدٍ عادل؟!.

فكلُّ ما تقدَّم ذِكرهُ من حُرمة الخروج ووجوب السمع والطاعة، فهو دليلٌ على فساد هذه الثورة على من كان ظالمًا، فكيف بذي النورين الخليفة الراشد؟!، قاتلَ الله الحماسة الفكرية والاعتقادات البدعية كيف تهوي بأصحابها في دركات الضلالات والخيالات.

ولعله تأثَّر في هذا بكلام سيد قطب لما قال: «وأخيرًا ثارت الثائرة على عثمان، واختلط فيها الحقُّ بالباطل، والخير بالشر، ولكن لا بدَّ لمن ينظر إلى الأمور بعين الإسلام، ويستشعر الأمور بروح الإسلام، أن يقرِّر أن تلك الثورة في عمومها كانت فورةً من روح الإسلام»

(1)

.

ولا ينفع الدكتور قوله بعد ذلك: «وقد خرجت هذه الحركة السياسية عن خطَّها بعد ذلك، وانحرفت بعد أن رجعت مرةً أخرى إلى المدينة بعد اتِّفاقها مع الخليفة على الإصلاح» ، فإنَّ هذا مؤكِّدٌ ثناءَهُ على الثورة الأولى على عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه - قبل رجوعها.

الاستدراك الحادي والعشرون:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «وقد قال عثمان رضي الله عنه لمن حاصروه: ما تريدون؟ قالوا: نقتلك أو نعزلك.

(1)

العدالة الاجتماعية (ص: 160).

ص: 324

قال: أفلا نبعثُ إلى الآفاق فنأخذ من كلِّ بلدٍ نفرًا من خيارهم فنحكِّمهم فيما بيني وبينكم؟، فإن كنت منعتكم حقًّا أعطيتكموه

(1)

.

وهذا يؤكِّد مبدأ التحاكم إلى الأمة عند وقوع التنازع بين السلطة وبعض فئات المجتمع»

(2)

.

والجواب على هذا من أوجه:

الوجه الأول: في إسناد الخبر مَنْ لم أجد له ترجمةً؛ مثل مولى سليمان بن يسار عن أبيه. والدكتور لم يذكر حُكمَهُ على القصة، ولو صحَّت لبيَّن ذلك كما بيَّن حكمَهُ على الأحاديث والآثار في أكثر من حديثٍ وخبر. فإذا لم تثبت عنده فكيف يستدلُّ بها على حكمٍ عظيم كهذا؟!.

الوجه الثاني: إنَّ فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه يرجع إلى اجتهاده في فعل الأصلح، فهو من جنس اجتهادات الولاة لفعلِ الأصلح، وليس مُلزمًا لمن بعدُ ولا حكمًا عامًّا، وإنما راجعٌ - لو صحت القصة - لاجتهادِ الإمام ونظرهِ للأصلح.

الاستدراك الثاني والعشرون:

استدلَّ الدكتور حاكم العبيسان بفعل طلحة والزبير وعائشة، فقال:«وكلُّ ذلك يدخل ضمن دائرة العمل السياسي والمعارضة الجماعية المنظمة للسلطة»

(3)

.

(1)

تاريخ المدينة لابن شبة (4/ 1192).

(2)

(ص: 53).

(3)

(ص: 54).

ص: 325

تقدم أنهم ما أرادوا القتال، وأنهم ندموا على فعلهم كما بيَّن ذلك ابن تيمية

(1)

، فكيف يُحتجُّ بفعلٍ ندمَ صاحبهُ على فعلهِ، وقد تقدم (1).

الاستدراك الثالث والعشرون:

قال حاكم عبيسان: «إن قصة التحكيم ذاتها دليلٌ واضحٌ على أنَّ الأمة هي الحكمُ في اختيار مَنْ تختاره للإمامة، كما أنَّ فيما حصلَ بين الحزبين دليل على تجذُّر الحزبية السياسية، ومشروعية الانتماء السياسي، وهو الميل مع طرف دون طرف، بدعوى أنه الأجدر بقيادة الأمة وإدارة شئونها»

(2)

.

في هذا مؤاخذتان:

المؤاخذة الأولى: جعل ما حصل من خلاف بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومن معه = دليلًا على أنَّ اختيار الحاكم راجعٌ للأمة.

وإنَّ القول بأن الحكم والولاية يكون بطريق الاختيار قولٌ حقٌّ لا مِريَة فيه؛ كما تقدَّم ذِكرُ الأدلة على ذلك من السنة والإجماع، لكن هذا الاختيار ليس من الأمة كلِّها، وليس في القصة ما يدلُّ على ذلك؛ بل فيها أن الأمر راجعٌ لأناس محدودين معينين معروفين. وهذا كافٍ في نقضِ أصلٍ عند الكاتب سبقَ بيانُ فساده، وأيضًا ليس في قصة التحكيم أنَّ تولي الولاية بغير طريق الاختيار لا يصحُّ شرعًا؛ فالعمل بالاختيار لا ينفي غيرَهُ من الطُّرق؛ كالتولِّي بالغلبة.

(1)

(تقدم (ص: 175).

(2)

(ص: 55).

ص: 326

المؤاخذة الثانية: استدلاله على تقسم المسلمين في قصة التحكيم إلى صنَفين = على جواز التحزب السياسي.

وهذاالاستدلال استدلال هَوَسٍ وخَرَفٍ؛ وذلك لأسباب أذكُر منها أمرين:

السبب الأول: أنَّ هذا التقسُّم من المسلمين مذمومٌ لا جائزٌ محمود ليستدلَّ به؛ ويدلَّ على أنه مذمومٌ أن أكثر الصحابة اعتزلوه، وأثنى رسول الله على الحسن أنَّ الله سيصلحُ به بين المسلمين فيكونون أمة واحدة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وفي الثاني سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة؛ وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ونحوهم. ولعلَّ أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأي

(1)

؛ ولم يكن في العسكرَين بعد علي أفضلُ من سعد ابن أبي وقاص، وكان من القاعدين»

(2)

.

وقال أيضًا: «فهذا الحديثُ يبيِّن أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ محمد بن مسلمة لا تضرُّه الفتنة، وهو ممن اعتزلَ في القتال فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية، كما اعتزل سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وأكثر السابقين الأولين.

وهذا يدلُّ على أنه ليس هناك قتالٌ واجبٌ ولا مستحب، إذ لو كان كذلك لم يكن تركُ ذلك مما يُمدَحُ به الرجل، بل كان مَنْ فَعَلَ الواجبَ أو المستحب أفضلُ ممَّن ترَكَهُ، ودلَّ ذلك على أنَّ القتال قتال فتنة»

(3)

.

(1)

أي على الاعتزال.

(2)

مجموع الفتاوى (35/ 77).

(3)

منهاج السنة النبوية (1/ 542).

ص: 327

السبب الثاني: الخلاف بين علي ومعاوية كالدولتين المستقلَّتين لا أنه تحزُّبٌ سياسيٌّ في دولة واحدة.

الاستدراك الرابع والعشرون:

ردَّ الدكتور حاكم العبيسان اشتراطَ أن يكونَ الحاكم والسلطان من قريش فقال: «كما تؤكِّد حادثة السَّقيفة أن اشتراط القرشية في الإمامة لم يكن معروفًا ولا معلومًا بين الصحابة، وإلَّا لما نازَعَ فيها الأنصار، ولَما احتجَّ أبو بكر وعمر بمثل هذه الحجج»

(1)

.

ثم قال في الحاشية: «وقد شكَّكَ الحافظ في دعوى الإجماع؛ لما روي عن عمر أنه أراد استخلافَ معاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وقد استشكلَ ابنُ كثير في البداية والنهاية (9/ 58) كيف بايعَ فقهاءُ العراق وخيارُ التابعين فيها ابنَ الأشعث ولم يكن من قريش بل من كندة؟؛ وفيهم عامر الشعبي وسعيد بن جبير وكثيرٌ من قريش! والسببُ هو أنَّ هذه القضية لم تكن ظاهرةً أصلًا في القرن الأول، وإنما ادُّعي عليها الإجماعُ في العصر العباسي بحكم الأمر الواقع، وإلَّا فالنصوصُ الواردة أشبَهُ بالأخبار منها بالأحكام، وهذا ما فهِمَهُ الأنصار.

وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 415) عن عائشة قالت: لو كان زيد حيًّا لاستخلفه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة لم يكن من قريش، وقد روى أحمد في المسند (1/ 20) من طريق أبي رافع أنَّ عمر قال: لو أدركني أحد رجلين ثم جعلت هذا الأمر له لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح.

(1)

(ص: 57).

ص: 328

قال أحمد شاكر: «إسناده صحيح ورواه أحمد (1/ 18) من طريق شريح بن عبيد وراشد بن سعد وغيرهما أن عمر قال: «فإن أدركني أَجَلي وقد توفي أبو عبيدة استخلفتُ معاذَ بن جبل» .

قال الحافظ في الفتح (13/ 119): «رجاله ثقات» ، وهو مرسل إلا أنه عن جماعة من علماء التابعين في الشام فيتقوَّى بطرقه».

قد سبق - بحمد الله - الجوابُ على هذا مطولًا روايةً ودراية

(1)

.

لكن بقي قوله: إنَّ الإجماع ادُّعي بعد العصر العباسي بحكم الأمر الواقع.

هذه أيضًا من عجائبه وغرائبه من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أنَّ الأحاديث جاءت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل العصر الأموي والعباسي؛ فهل يصحُّ أن تردَّ الأحاديث الصحيحة الصريحة بمثل هذه التوهُّمات والتأويلات الهزيلة.

الوجه الثاني: أنَّ هذا طعنٌ في أهل السُّنة والعلماء الذين أظهَروا الإجماعَ في هذه المسألة على أمرٍ دينيٍّ مخطئين بسبب تأثير الواقع، ومن هؤلاء علماءُ السلف لمَّا ذكروا الإجماع على هذه العقيدة كما تقدَّم نقلُ كلامهم

(2)

.

الوجه الثالث: أن الأنصار سلَّموا بهذا في سقيفة بني ساعدة، وأرجعوا الأمر لقريش؛ ولولا أنَّ الوحي جاء بذلك لما سلَّموا به.

(1)

تقدم (ص: 114).

(2)

تقدم (ص: 115).

ص: 329

الاستدراك الخامس والعشرون:

ذكر الدكتور حاكم العبيسان أنه مما يدلُّ على الحرية السياسية فعلُ الخوارج مع علي بن أبي طالب وفعلُه معهم، قال: «لقد خرجوا عن طاعته، وكانوا يطعنون فيه، وهو يخطب على المنبر، فكان لا يتعرَّض لهم، بل قال كلمته المشهورة التي أصبحت قاعدةً راسخة في التعامل مع الطَّوائف المخالفة في الفكر والرأي حيث قال: لهم علينا ثلاث؛ ألَّا نبدأَهُم بقتال ما لم يقاتلونا، وألَّا نمنعَهُم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمَهُ، وألَّا نحرِمَهُم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا

(1)

.

ثم اشترطَ مقابل ذلك عليهم فقال: على أن لا تسفكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلًا، ولا تظلموا ذميًّا.

قالت عائشة رضي الله عنها: فلم قاتلهم إذًا؟ قال عبد الله بن شداد: واللهِ ما بعثَ إليهم حتَّى قطعوا السبيل، وسفكوا الدماء، واستحلُّوا الذِّمة

(2)

. وهذا يؤكِّد مدى الحرية الفكرية والسياسية التي كان يمارسها المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين، فقد تعامَل علي رضي الله عنه مع الخوارج قبل أن يسلُّوا السيف على الأمة»

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 562)، وأبو عبيد في «الأموال» ، وفي إسناده «كثير بن نمير» لم يوثِّقه معتبر، وضعَّف الأثر الألباني في الإرواء (8/ 117).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 87)، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (10/ 568):«تفرد به أحمد وإسناده صحيح، واختاره الضياء - يعني في (المختارة) -» .

(3)

(ص: 58).

ص: 330

الجواب من وجهين:

الوجه الأول: دلت الأدلة على قتل الخارجيِّ لأنه مبتدع خارجيٌّ، فأين الحرية المدَّعاة؟!.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأما قتلُ الواحد المقدور عليه من الخوارج؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتلُ الواحد منهم؛ كالدَّاعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد. فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أينما لقيتُموهُم فاقتلُوهم»

(1)

.

وقال: «لئنْ أدركتُهم لأقتلنَّهُم قتلَ عاد»

(2)

.

وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتُكَ محلوقًا لضربتُ الذي فيه عيناك

(3)

.

ولأنَّ علي بن أبي طالب طلب أن يُقتل عبد الله بن سبأ أوَّل الرافضة حتى هرب منه.

ولأنَّ هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض؛ فإذا لم يندفع فسادهُم إلَّا بالقتل قُتلوا؛ ولا يجب قتلُ كلُّ واحدٍ منهم إذا لم يُظهر هذا القولَ أو كانَ في قتلهِ مفسدة راجحة.

ولهذا تركَ النبي صلى الله عليه وسلم قتلَ ذلك الخارجيِّ ابتداءً «لئلَّا يتحدَّثَ الناسُ أنَّ محمَّدًا يقتلُ أصحابه» ، ولم يكن إذ ذاكَ فيه فسادٌ عام؛ ولهذا ترك عليٌّ قتلَهم أولَ ما ظهروا؛ لأنهم كانوا خلقًا كثيرًا وكانوا داخلين في الطَّاعة والجماعة ظاهرًا لم

(1)

سبق تخريجه (ص: 190).

(2)

سبق تخريجه (ص: 195).

(3)

سبق تخريجه (ص: 195).

ص: 331

يحاربوا أهل الجماعة، ولم يكن يتبيَّن له أنهم هُمْ»

(1)

، وهذا من أوضَحِ ما بُيِّن أن الحرية المزعومة التي يدَّعيها حاكم عبيسان حريةٌ باطلة؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه أرادَ قتل صبيغ بن عسل لمَّا ظنَّه خارجيًّا.

الوجه الثاني: تقدم

(2)

ذكر الأدلة الناهية عن سبِّ السلطان وإشاعة أخطائه مما يدلُّ على أنَّ فعل الخوارج لما سبُّوا عليًّا محرَّم؛ وما كان محرمًّا فيجبُ إنكاره؛ للأدلة الدالة على وجوب إنكارِ المنكر، لكنَّ الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ترك إلزامَهُم بالقوة للمصلحة الراجحة، فلما بدؤوا بالقتال ترجَّحت مصلحةُ قتالهم.

وهذا ما أشار إليه ابن تيمية لما قال: «ولا يجبُ قتلُ كلِّ واحدٍ منهم إذا لم يُظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتلَ ذلك الخارجي ابتداءً لئلَّا يتحدَّث الناسُ أنَّ محمدًا يقتل أصحابه» ، ولم يكن إذ ذاك فيه فسادٌ عام؛ ولهذا تركَ علي قتلَهُم أولَ ما ظهروا؛ لأنهم كانوا خلقًا كثيرًا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرًا لم يحاربوا أهل الجماعة

» (1).

الاستدراك السادس والعشرون:

قرَّر الدكتور حاكم العبيسان أمرًا منكرًا للغاية؛ وهو حرية الاعتقاد، وأنَّ قتال علي ليس لأجل عقائدهم فقال:

«حيث ضمِنَ لمخالفيه في الرأي - مع تطرُّفهم وغلوِّهم - الحرية العقائدية والفكرية والسياسية والحقوق المالية، فلم يقاتلهم إلَّا دفعًا لعدوانهم ومنعًا لفسادهم لا فساد آرائهم وتطرُّفها أو معارضتهم له في الرأي؛ لعلمهِ رضي الله عنه أنَّ

(1)

مجموع الفتاوى (28/ 499).

(2)

تقدم (ص: 46).

ص: 332

الدين الذي جاء بمبدأ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} »

(1)

.

الجواب من أوجه:

الوجه الأول: تقدم توجيه معنى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، وأنه لا مستندَ لدعاة حرية الاعتقاد الكفري والبدعي في الاستدلال بها

(2)

.

الوجه الثاني: تقدَّم بيان أنَّ الأدلة الشرعية وفعلَ عمر مع صبيغ بن عسل = يدلُّ على قتل الخارجي لاعتقاده

(3)

.

الوجه الثالث: أن ترك علي بن أبي طالب لهم ليس لأجلِ الحرية، وإنَّما للمصلحة - كما تقدم -

(4)

.

الوجه الرابع: أن حرية الاعتقاد المدَّعاة تخالف كل نصٍّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو سبب خيرية هذه الأمة، وما خالفَ أمرًا واجبًا مثل هذا فهو ليس من شرع الله ولا تجيزه الشريعة، ويخالف آيات الحدود في شرب الخمر والزنى وهكذا.

الاستدراك السابع والعشرون:

أصرَّ الدكتور حاكم العبيسان في كتابه (الفرقان) على دعوته إلى الحرية المزعومة، وهي أنه يُترك لأهل الأحزاب والبدع حقُّهم في الدعوة إلى ما شاؤوا، وزاد أن

(1)

(ص: 61).

(2)

تقدم (ص: 134).

(3)

تقدم (ص: 194).

(4)

تقدم (ص: 330).

ص: 333

تعلَّق بكلام للإمام الشافعي ظنَّه نافعًا له في تقرير حريته المفرطة فقال: «كلُّ هذا الفجور والقول الزور أشاعَهُ عني - فلان - لأني أدعو إلى (الحرية والتعددية السياسية) في ظل النظام السياسي الإسلامي الذي سمح بوجود غير المسلمين من أهل الكتاب والمجوس، لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ولكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرَّض للمنافقين الذين كانوا مع المسلمين الذين كانوا يشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم كغيرهم ويعترضون عليه فلا يتعرَّض لهم، فمن باب أولى المخالفين في الرأي من المسلمين كما فعلَ علي وعثمان مع الخوارج وأهل الأهواء؛ فما بالُكَ بالأحزاب السياسية التي تلتزم بالنظام العام للدولة في الإسلام، وتتنافس فيما بينها في البرامج السياسية؟، قال الإمام الشافعي في شأن حرمة التعرض للمنافقين إلَّا ببينة» .

ثم نقل كلامًا طويلًا، وما ذكره هذا تقدَّم الجواب عنه

(1)

لكنه زاد بنقل كلام للشافعي طويل خلاصته عدمُ التعرُّض للمنافقين، وأنهم يُعامَلون بالظاهر دون التنقيب عن بطونهم ولا يُلتفت إلى الظنون في التعامل معهم، وهذا الكلام عليه، وذلك أنَّ الشافعي كرَّر أنه ليس له إلَّا الظاهر، فمعنى هذا: مَنْ أظهر نفاقَهُ وكُفره عُومِلَ بالظاهر؛ فقال الشافعي - فيما نقل العبيسان -: «وأنَّ حُكمهُ عليهم في الدنيا إنْ أظهروا الإيمان جُنَّة لهم.

وقال الشافعي أيضًا: وكلّ مَنْ حَقَنَ دمَهُ في الدنيا بما أظهَر مما يعلم جلَّ ثناؤه خلافَهُ من شِرْكهِم لأنه أبان أنه لم يوَلِّ الحكمَ على السرائر غيرَهُ»، ثم قال: قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ المنافقين كاذبون وحقنَ دماءَهُم بالظَّاهر، وتولَّى الله عز وجل منهم السرائر

الخ».

(1)

تقدم (ص: 316، 330).

ص: 334

هذا الكلام من الشافعي صريحٌ في أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعاملهم بالقتل ولا غيره لأنه عاملهم بالظاهر، ومعنى هذا: لو أظهروا خلافَ هذا من الكفر لعامَلَهُم بما أظهروا؛ وهو الكفر.

فكم أتعجَّبُ كيف يستشهد حاكم العبيسان بكلام الشافعي وهو عليه لا له!!، ثم إنَّ الإمام الشافعي أبعدُ ما يكون عن الحرية التي يدَّعيها حاكم العبيسان، فكيف يتوهَّمه سلفًا له؟!، وهذا يتبين بأمور:

الأمر الأول: أنَّ كلام الإمام الشافعي السابق واضحٌ في أنَّ المنافقين لو أظهروا الكفر لعامَلَهُم معاملةَ الكفار لا معاملة المؤمنين في الظاهر.

الأمر الثاني: أن الإمام الشافعي في كتابه الأم يقرِّر قتلَ المرتد، وهو الذي ترك دين الإسلام إلى دين الكفر.

قال: «ثم انتقل عن الإيمان إلى الشرك من بالغي الرجال والنساء استُتيب؛ فإنْ تاب قُبل منه، وإن لم يتُبْ قُتل، قال الله عز وجل: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]»

(1)

.

وهذا التقريرُ من الشافعي يخالفُ الحرية المفرِطة المزعومة التي يدَّعيها حاكم العبيسان.

الأمر الثالث: أنَّ الإمام الشافعي شديدٌ على أهل البدع، ومنهم أهلُ الكلام.

قال الذهبي: «وعن الشافعي: حُكمي في أهل الكلام، حكمُ عمر في صبيغ» .

(1)

الأم (1/ 294).

ص: 335

ثم نقلَ عن الشافعي أنه قال: «حُكمي في أهلِ الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويُحملوا على الإبل، ويُطافَ بهم في العشائر، يُنادى عليهم: هذا جَزاءُ من تركَ الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام» .

ثم قال: «وقال أبو عبد الرحمن الأشعري صاحب الشافعي: قال الشافعي: مذهبي في أهل الكلام تقنيعُ رؤوسهم بالسياط، وتشريدُهم في البلاد.

قلت - أي الذهبي -: لعلَّ هذا متواتر عن الإمام»

(1)

اهـ.

أين هذا من الحرية التي يدَّعيها حاكم العبيسان ويريد أن ينسبها إلى الإمام الشافعي؟!.

وإنه لو كان لحاكم العبيسان عقلٌ وعلمٌ راجحٌ لكَفاهُ في تركِ هذه الحرية المدَّعاة أنه لا يستطيع نقلَها عن عالمٍ معتبر من علماء الإسلام.

الاستدراك الثامن والعشرون:

غلوُّ الدكتور حاكم في الحاكمية فقال: «فمَن لم يثبت هذا الأصلَ الإيماني العظيم - أي توحيد الله المطلق في حاكميته وإفراده بها - لم يسلَمْ له توحيدُ الله في عبادته وطاعته؛ إذ العبادة والطاعة لله لا تُعرف إلَّا عن طريق حُكم الله وشرعه، ولا سبيلَ لالتزام حُكم الله إلَّا بالإقرار والإيمان بأنه وحدَهُ الذي لهُ الحكم والتشريع والأمر، كما له الخلق {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]»

(2)

.

(1)

سير أعلام النبلاء (10/ 29).

(2)

(ص: 63).

ص: 336

غلوُّه هذا هو غلوُّ الخوارج في الحاكمية - كما تقدم

(1)

- في كلام الإمام عبد العزيز ابن باز، وتقدَّمت الإشارة لهذه المسألة، وقد بسطتُها في مواضع

(2)

.

الاستدراك التاسع والعشرون:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «كما أنَّ في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ثلاث إشارات:

الأولى: أنه جاء بلفظ الجمع (أولي الأمر) ولم يقلْ (ولي الأمر)؛ لبيان أنَّ أولي الأمر هُمْ جماعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء والرؤساء وقادة المجتمع، فهؤلاء هم الذين تجبُ طاعتهم إذا اتفقوا على رأيٍ ولم يخالف الكتاب والسنة، فإن اختلفوا وتنازعوا فيما بينهم أو وقعَ نزاعٌ بينهم وبين الأمة وجبَ الردُّ إلى الكتاب والسنة»

(3)

.

تقدَّم الكلام على هذه الشُّبهة الساقطة وأنها مخالفةٌ للأحاديث النبوية وإجماع السلف؛ ولولا أنَّ لكلِّ ساقطةٍ لاقطةً لما أجبَتُ عليها

(4)

.

الاستدراك الثلاثون:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «وبهذا يفقد الحاكم صلاحياتهِ وسلَطَتُه إذا عارضَ حكمَ الله ورسوله»

(5)

.

ص: 337

تقدم الجواب على هذه الشبهة الهزيلة، والتي هي شبهةُ الخوارج والمعتزلة؛ خلافًا للنصوص النبوية وإجماع السلف الصالح

(1)

.

الاستدراك الحادي والثلاثون:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «وقد قيَّدت السنة النبوية الطاعةَ للسُّلطة بثلاثة قيود:

القيد الأول: إقامة الصلاة التي هي عُموم الدِّين وشعارُه، فإذا تركَ الحاكمُ الصلاة والدعوة إليها وإقامتها .. »، ثم قال:«قيل: يا رسول الله أفلا نُنابذُهم السَّيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة»

(2)

، وفي هذا الحديث مشروعية الخروج على السُّلطة عند تركِ إقامة الصلاة، سواءٌ قيل: إنَّ تركَ الصلاة كفرٌ؛ أو قيل: فِسْق»

(3)

.

في هذا الكلام أمران:

الأمر الأول: تقييد الطاعة بالصلاة وإقامتها يفسِّرها حديث عبادة لما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلَّا أن تروا كفرًا بواحًا عندكُم من الله فيه برهان»

(4)

.

فالمراد تركُ الصلاة على وجهٍ كفريٍّ عندنا من الله فيه برهان؛ بدلالة حديث عبادة الذي لم يُجز الخروج إلا عند الكفر البواح.

(1)

تقدم (ص: 39).

(2)

أخرجه مسلم (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.

(3)

(ص: 66).

(4)

سبق تخريجه (ص: 35).

ص: 338

الأمر الثاني: قوله (أو فسق) قد سبق ردُّ القول بالخروج على الحاكم لفسقه بالأدلة المتواترة وإجماع سلف هذه الأمة

(1)

، ومَن قال بالخروج على الحاكم لفسقهِ فقد ابتدعَ وضلَّ كما تقدَّم نقلُ إجماع السلف

(2)

.

الاستدراك الثاني والثلاثون:

قال حاكم العبيسان: «القيد الثاني: إقامة الكتاب والحكم بما فيه لحديث:

«اسمعوا وأطيعوا ولو عبدٌ حبشيٌّ ما أقامَ فيكم كتابَ الله»

(3)

»

(4)

.

سبق الردُّ على الدكتور الدميجي في استدلاله بهذا الحديث من أوجهٍ ثلاثة

(5)

.

الاستدراك الثالث والثلاثون:

ذكر حاكم العبيسان

(6)

أن الذين اعتزلوا الفتنة كابن عمر وسعد بن أبي وقاص لم يُطيعوا علي بن أبي طالب الذي هو وليُّ أمر؛ لأنهم لا يرون أنَّ هذا القتال على حق، فليس أمرًا بالمعروف. هذا ملخَّصُ ما توهَّمه.

وقد تقدَّم تفسيرُ المعروف وأنه الواجبُ والمستحب

(7)

، أما سببُ عدم طاعة هؤلاء الصحابة الكرام للخليفة الراشد علي بن أبي طالب في القتال لأنهم يرونه

(1)

تقدم (ص: 35).

(2)

تقدم (ص: 39).

(3)

بمعناه ما في صحيح مسلم (1838).

(4)

(ص: 67).

(5)

تقدم (ص: 82، 251).

(6)

(ص: 68).

(7)

تقدم (ص: 75).

ص: 339

قتالَ معصية، ولا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق؛ لا لأنه ليس معروفًا؛ أي ليس واجبًا ولا مستحبًّا على تفسير الدكتور للمعروف في حديث «إنَّما الطاعة في المعروف» .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أنه يفرَّقُ بين هذا وهذا، فقتالُ علي للخوارج ثابتٌ بالنصوص الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين.

وأما القتالُ يوم صفين ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة، بل صدَّ عنه أكابرُ الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وعبد الله ابن عمر، وغيرهم.

ولم يكن بعد علي بن أبي طالب في العسكَرين مثل سعد بن أبي وقاص، والأحاديثُ الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه كان يجبُّ الإصلاح بين تينك الطائفتين، لا الاقتتال بينهما.

كما ثبت عنه في صحيح البخاري

(1)

: أنه خطب الناس والجيش معه فقال:

«إنَّ ابني هذا سيِّد، وسيصلحُ الله به بين طائفتَين عظيمتَين من المؤمنين» فأصلَحَ الله بالحسن بين أهل العراق وأهل الشام، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإصلاحَ به من فضائل الحسن، مع أنَّ الحسن نزلَ عن الأمر وسلَّم الأمر إلى معاوية، فلو كان القتال هو المأمور به دون ترك الخلافة ومصالحة معاوية لم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم على ترك ما أمر به، وفعل ما لم يؤمر به ولا مدحه على تركِ الأولى وفعل الأدنى، فعُلِمَ أنَّ الذي فعَلُه الحسنُ هو الذي كان يحبُّه الله ورسوله لا القتال.

(1)

من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

ص: 340

وقد ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضَعُه وأسامة على فخذَيه ويقول:

«اللهم إني أحبُّهما فأحِبَّهما وأَحِبَّ من يحبُّهما»

(1)

.

وقد ظهر أثرُ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بكراهتهما القتال في الفتنة، فإنَّ أسامة امتنع عن القتال مع واحدةٍ من الطائفتين، وكذلك الحسن كان دائمًا يشير على علي بأنه لا يقاتل ولما صار الأمر إليه فعلَ ما كان يشير به على أبيه رضي الله عنهم أجمعين -.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: «تمرقُ مارقةٌ على حين فُرقةٍ من المسلمين تقتلُهم أَولى الطائفتين بالحقِّ»

(2)

.

فهذه المارقة هم الخوارج، وقاتلَهُم علي بن أبي طالب، وهذا يصدِّقه بقية الأحاديث التي فيها الأمرُ بقتال الخوارج، وتبين أنَّ قتلَهُم مما يحبُّه الله ورسوله. وأنَّ الذين قاتلوهم مع عليٍّ أَولى بالحقِّ من معاوية وأصحابه، مع كونهم أَولى بالحق فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال لواحدةٍ من الطائفتين كما أمرَ بقتال الخوارج، بل مدحَ الإصلاحَ بينهما.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من كراهة القتال في الفتن والتحذير منها من الأحاديث الصحيحة ما ليس هذا موضعه كقوله: «ستكون فتنة القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي»

(3)

، وقال: «يوشكُ أن يكونَ خيرَ مال المسلم غنمٌ يتبعُ بها شَعفَ الجبال ومواقعَ القطر، يفرُّ بدينهِ من

(1)

أخرجه البخاري (3747) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (3601)، ومسلم (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 341

الفتن»

(1)

.

فالفتن مثل الحروب التي تكون بين ملوك المسلمين وطوائف المسلمين، مع أنَّ كل واحدةٍ من الطائفتين ملتزمة لشرائع الإسلام مثل ما كان أهلُ الجمل وصفين؛ وإنَّما اقتتلوا لشُبَهٍ وأمورٍ عرضَت»

(2)

.

وقال: «قال حذيفة: ما أحدٌ من الناس تُدرِكهُ الفتنة إلَّا أنا أخافُها عليه إلَّا محمد بن مسلمة، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تضرُّكَ الفتنة»

(3)

.

قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا شعبة عن الأشعث بن سليم، عن أبي بردة، عن ثعلبة بن ضبيعة، قال: دخلنا على حذيفة فقال: إني لأعرف رجلًا لا تضرُّه الفتن شيئًا. قال: فخرَجنا فإذا فسطاطٌ مضروب، فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة، فسألناه عن ذلك، فقال: ما أريدُ أن يشتملَ علي شيءٌ من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت.

فهذا الحديث يبيِّن أنَّ النبي رضي الله عنه أخبر أنَّ محمد بن مسلمة لا تضرُّه الفتنة، وهو ممَّن اعتزلَ في القتال فلم يقاتل لا معَ عليٍّ ولا مع معاوية، كما اعتزل سعد ابن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وأكثر السابقين الأولين.

وهذا يدلُّ على أنه ليس هناك قتالٌ واجبٌ ولا مستحب، إذ لو كان كذلك لم يكن تركُ ذلك مما يُمدَحُ به الرجل، بل كان من فعل الواجب أو المستحب

(1)

أخرجه البخاري (19) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

الفتاوى الكبرى (3/ 560).

(3)

أخرجه أبو داود (4663).

ص: 342

أفضل ممن تركه، ودلَّ ذلك على أنَّ القتال قتالُ فتنة.

كما ثبت في الصحيح عن النبي رضي الله عنه أنه قال: «ستكونُ فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي، والساعي خيرٌ من الموضع»

(1)

، وأمثالُ ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تبين أنَّ تركَ القتال كان خيرًا من فعلهِ من الجانبين، وعلى هذا جمهورُ أئمة أهلِ الحديث والسُّنة؛ وهذا مذهبُ مالك، والثوري وأحمد وغيرهم»

(2)

.

الاستدراك الرابع والثلاثون:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «وكل ذلك يؤكد رسوخ مبدأ المشروعية، وهو أن تكون أوامر السلطة في الدولة الإسلامية لا تتعارضُ مع القانون الأعلى والدستور الأسمى، وهو الكتابُ والسُّنة الذي يخضعُ لحكمهما الأمة والإمام على حدٍّ سواء، ويحتكمان إليها عند الاختلاف والنزاع.

فطاعةُ السلطة واجبةٌ إذا أمرت بالحقِّ والعدل أو الخير والمصلحة، وتفقدُ حقَّ الطاعة إذا أمرتْ بالظُّلم أو الباطل أو الشرِّ أو المفسدة.

ولهذا قال أبو بكر في أول خطبة له: وإن أسأتُ فقوِّموني. وقال عمر: لن يعجز الناسُ أن يولُّوا رجلًا منهم؛ فإن استقام اتَّبعوه، وإن جنفَ - أي مال - قتلوه، فقال طلحة: وما عليكَ لو قلتَ: إن تعرج عزلوه؟ فقال عمر: لا القتل أنكَلُ لمن بعده.

(1)

سبق تخريجه (ص: 341).

(2)

منهاج السنة النبوية (1/ 541).

ص: 343

وقد جاء الأشعث ومعه جماعة من أهل الكوفة إلى عمر يطلبون منه عزلَ سعد بن أبي وقاص أمير الكوفة، وبطل القادسية، وخال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزَلَهُ عمرُ نزولًا عند رغبتهم، مع ثقتهِ بسعد، ثم سألهم فقال: إذا كان الإمام عليكم فجَارَ ومنعكُم حقَّكم وأساءَ صُحبتكم ما تصنعون به؟ قالوا: إنْ رأينا جَورًا صبرنا. فقال عمر: «لا واللهِ الذي لا إله إلا هو، لا تكونون شهداء في الأرض حتى تأخذوهُم كأخذِهم إيَّاكم، وتضربوهم في الحقِّ كضربهم إيَّاكم وإلَّا فلا»

(1)

.

في هذا عدة أمور:

الأمر الأول: خطأ تعريفه للمعروف الذي تجبُ فيه الطاعة، وهو قوله: الخير والحقُّ والعدل. كما سبق بيانه

(2)

وأنه مخالفٌ لمنهج أهل السنة الذين يفسِّرون المعروف بأنه: كل ما ليس معصية؛ فيدخلُ المباحُ في المعروف الذي يجبُ السمع والطاعة للحاكم فيه.

الأمر الثاني: أورد أثرين عن عمر بن الخطاب فيهما تقويمُ الحاكم والسلطان بالسَّيف؛ ولا يصحَّان - كما تقدم -

(3)

.

الأمر الثالث: أورد أثر أبي بكر لما قال: «فقوِّموني» سبقَ الكلام عليه

(4)

، وأنه لا دلالة فيه؛ لأنَّ المراد بالتقويم أي بالنصيحة بالطرق الشرعية لأجل ضعف رواية التقويم بالسَّيف؛ وأيضًا ليتوافق مع بقية الأدلة.

(1)

(ص: 68).

(2)

تقدم (ص: 75).

(3)

تقدم (ص: 200، 201).

(4)

تقدم (ص: 322).

ص: 344

الاستدراك الخامس والثلاثون:

قال الدكتور حاكم: «حق الأمة في خلعها والخروج عليها إذا تجاوزت حدودَ ما أنزل الله، وأظهرتْ كفرًا بواحًا؛ وهو المعصية الظاهرة كما في بعض الروايات. قال النووي: المراد بالكفر هنا المعاصي»

(1)

.

في هذا الكلام أمران:

الأمر الأول: جعلَ المعصية سببًا للخروج والخلع، وتقدَّم حكاية الأدلة، وإجماعاتُ أهل السنة أن الخروج والخلع لا يجوزان لأجل المعصية التي دون الكفر

(2)

.

الأمر الثاني: نقل كلام النووي ليبيِّن أنَّ الكفر البواح شاملٌ للمعصية ثم بعد ذلك فرَّعَ عليه جواز الخروج على السلطان لفسقهِ ومعاصيه، وهذا الذي يقرِّره غريبٌ من جهة فَهْم الحديث ومعتقدِ أهل السنة؛ لما تقدَّم من ذكرِ الأحاديث المتواترة وإجماعات أهل السنة على عدم جواز الخروج لأيِّ معصيةٍ ما لم تكن كفرًا بواحًا

(3)

.

أما من جهة فَهْمِ كلام النووي فقد قرَّر شمولَهُ للمعصية؛ لأنَّ النووي يقرِّر أن الحديث في المناصحة للحاكم لافي الخروج على الحاكم؛ فإنه يخصُّ جوازَ الخروج عليه بالكفر البواح؛ فإنه نقلَ بعدَهُ الإجماعَ على عدم الخروج على الحاكم لأجل الفسق فقال: «ومعناهما (كفرًا ظاهرًا) والمراد بالكفر هنا المعاصي، ومعنى «عندكُم من اللهِ فيه برهان» أي تعلَمونهُ من دين الله تعالى.

(1)

(ص: 69).

(2)

تقدم (ص: 35).

(3)

تقدم (ص: 39).

ص: 345

ومعنى الحديث: لا تُنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلَّا أن تروا منهم منكرًا محقَّقًا تعلَمونهُ من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكِروهُ عليهم وقولوا بالحقِّ حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرامٌ بإجماع المسلمين وإن كانوا فسَقةً ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديثُ بمعنى ما ذكرته، وأجمعَ أهلُ السنة أنه لا ينعزلُ السلطانُ بالفسق»

(1)

.

وحاكم العبيسان يقرِّر أنَّ الحديث في الخروج على الحاكم، ثم يقرِّر الكفرَ البواح بالمعصية، وهذا ما لا يصحُّ لما يلي:

الأمر الأول: أنَّ الأصل في لفظ الكفر أن يُحمل على الكفر إلَّا بدليل، وليس هناك دليل يمنعُ حملَهُ على الكفر بل الأدلة تدلُّ على وجوب حملهِ على الكفر كما تقدَّم بيانها

(2)

.

الأمر الثاني: أن حمله على الكفر يتفقُ مع إجماع أهل السنة، وما كان كذلك فيجب حملُه عليه؛ لأنَّ إجماعَ أهل السنة حقٌّ وما يخالفهُ فهو باطل.

الاستدراك السادس والثلاثون:

قال الدكتور حاكم العبيسان: «قال الداودي: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إنْ قُدِرَ على خلعهِ بغير فتنة ولا ظُلم وجبَ وإلَّا وجبَ الصَّبر»

(3)

.

وهذا الذي نقلَهُ عن الداودي بواسطة (فتح الباري) خطأ من الداودي، ولو أكملَ النقلَ لظهَر أنَّ ابن حجر لم يوافقه فقال: «والصحيحُ المنع إلَّا أن يكفر

(1)

شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 229).

(2)

تقدم (ص: 214).

(3)

(ص: 69).

ص: 346

فيجب الخروج عليه».

وكلام الداودي مخالفٌ للأدلة الكثيرة وإجماعِ أهل السنة كما تقدم

(1)

، وتقدَّم أنَّ بعضَ المتأخرين زلَّ في هذه المسائل فلا يُرجع إليهم، ولا يُعتمد عليهم، مثل خطئهم في مسائل العقائد الأخرى كتأويل الصفات

(2)

.

الاستدراك السابع والثلاثون:

قال الدكتور حاكم: «أما إن كفَر الإمامُ أو غيَّر الشريعة، أو عطَّلها = فيجبُ الخروج عليه بالإجماع.

قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أنه لو طرأَ عليه كفرٌ أو تغييرٌ للشرع أو بدعة؛ خرجَ عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجبَ على المسلمين القيامُ عليه وخلعهُ، ونصبُ إمام عادل إنْ أمكَنهُم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلَّا لطائفةٍ وجبَ عليهم بخلع الكافر، وقال ابن حجر: ينعزلُ بالكُفر إجماعًا، فيجب على كلِّ مسلمٍ القيامُ في ذلك»

(3)

.

هذا الكلام فيه عدة أمور:

الأمر الأول: إنَّ عزْلَ الحاكم بالكفر واجبٌ بالإجماع - وقد تقدَّم

(4)

، بخلافِ البدعة والفسق، فلا يُعزل بها بالإجماع - كما تقدم -

(5)

، والنقلُ عن القاضي عياض

(1)

تقدم (ص: 181).

(2)

تقدم (ص: 275).

(3)

(ص: 69).

(4)

تقدم (ص: 31).

(5)

تقدم (ص: 44، 181).

ص: 347

في الخروج على الحاكم الذي وقعَ في البدعة مما لا يصحُّ الاعتماد عليه - كما تقدم بيانه -

(1)

؛ لأنه مخالف للأدلة وإجماع أهل السنة.

الأمر الثاني: ذكر القاضي عياض: أنه يُخرج عليه إذا غيَّر الشرع.

هذا لفظٌ مجمَل إن أراد أنَّه غيَّرهُ تغييرًا كفريًّا؛ بأن صار الحاكم كافرًا = فصحيح.

وإن أراد بأنَّه غيَّره تغييرًا بدعيًّا بأن صارَ الحاكمُ مبتدعًا لا كافرًا = فكلامه خطأ وزلَّة كما تقدم في الأمر السابق.

الأمر الثالث: قول حاكم العبيسان: «أو غيَّر الشريعة أو عطَّلها فيجبُ الخروج عليه بالإجماع» .

تقدَّم أن التكفير بهذا هو قولُ الخوارج كما قاله الإمام ابن باز

(2)

.

ثم يقال: «على القول بأنَّ التكفير به معتبر؛ إنَّ التكفير بهذا هو مما اختُلف فيه بين أهل العلم؛ والخلافُ يمنع من تكفير الأعيان، والدكتور يكفِّر بهذا، وتقدَّم أن قولَ أهل السنة أنه لا يكون كافرًا

(3)

، وبناءً على رأي الدكتور الخطأ في هذه المسألة أوهمَ أنَّ كلامَ الحافظ في الكافر شامل لهذا.

والواقع أنَّ الإجماع الذي يحكيه الدكتور استنادًا على كلام الحافظ = إجماعٌ مركَّب من عنده، ومن بُنيَّاتِ خياله، أما كلام القاضي عياض فسبقَ توجيههُ وردُّه

(4)

؛ ولو سُلِّم أنَّ الحافظ حكى الإجماعَ لقيل فيه ما قيل في القاضي عياض.

(1)

تقدم (ص: 259).

(2)

تقدم (ص: 84).

(3)

تقدم (ص: 86).

(4)

تقدم (ص: 259).

ص: 348

الاستدراك الثامن والثلاثون:

قال الدكتور حاكم: «وقد كان الصحابي عبادة بن الصامت يحدِّث بهذا الحديث في الشام وينكرُ على معاوية رضي الله عنه أشياء علانية، ويحتجُّ بحديث البيعة هذا، فكتب معاوية إلى عثمان: إنَّ عبادة بن الصامت قد أفسدَ عليَّ الشام وأهله. فلما جاء عبادة إلى عثمان قال له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّه سَيَلي أمورَكُم بعدي رجالٌ يعرِّفونكُم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعةَ لمن عصى الله تبارك وتعالى، فلا تعتلوا بربِّكم» ، وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سيكونُ أمراء تعرفون وتنكرون، فمَن نابذَهم نجا، ومن اعتزلَهم سَلِم، ومن خالطَهُم هلك» ، والمنابذة هنا المقاومة والتصدِّي للانحراف.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتصدون للانحراف وإنْ صدرَ من الخلفاء أو الأمراء، وقد أنكرَ بعضُهم على مروان بن الحكم في يوم العيد، فقال أبو سعيد الخدري يقول:«مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان» .

قال النووي في شرحه: «تطابقَ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتابُ والسنةُ وإجماعُ الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي من الدين .. قال العلماء: ولا يختصُ الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائزٌ لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماعُ المسلمين، فإنَّ غير الولاة في الصَّدر الأول والعصرِ الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إيَّاهم وتركِ توبيخهم على التشاغُل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية»

(1)

.

(1)

(ص: 70).

ص: 349

في هذا عدة أمور:

الأمر الأول: ما ذكره من حديث عبادة بن الصامت مع معاوية وعثمان = حديث ضعيف ولا يصحُّ الاعتماد عليه روايةً ولا درايةً - كما سبق بيانه -

(1)

.

الأمر الثاني: ذكر الدكتور حديث ابن عباس: «سيكون أمراءُ تعرفون وتنكرون، فمَن نابذَهُم نجا، ومَن اعتزلهم سَلِمَ، ومَن خالطَهُم هلك» ، وهو حديثٌ ضعيف ولا يصحُّ الاعتمادُ عليه روايةً ولا درايةً - كما سبق بيانه -

(2)

.

الأمر الثالث: ذكر أنَّ الصحابة يتصدَّرون لإنكار المنكر، وهذا حقٌّ؛ وشواهدُ هذا كثيرة، لكن بالضابط الشرعي، وهو أن يكون إنكارهُ على السُّلطان أمامه لا وراءه كما تقدم

(3)

.

الأمر الرابع: تصحيح العلامة الألباني لحديث: «فلا طاعة لمن عصى الله» ، والمرادُ لا طاعةَ في المعصية نفسها دون غيرها - كما تقدم بيانه -

(4)

لأدلةٍ أخرى؛ والشريعةُ يفسِّر بعضُها بعضًا، ولأجلِ إجماع أهل السنة كما تقدم

(5)

.

الاستدراك التاسع والثلاثون:

قال الدكتور حاكم: «وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبيٍّ بعثَهُ الله في أمةٍ قبلي إلَّا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسُنَّته

(1)

تقدم (ص: 125).

(2)

تقدم (ص: 215).

(3)

تقدم (ص: 50).

(4)

تقدم (ص: 126).

(5)

تقدم (ص: 39).

ص: 350

ويقتدون بأمرهِ، ثمَّ إنها تَخلُفُ من بعدِهم خُلوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون، ومَن جاهدَهُم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدَهُم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهَدهُم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خردل»، وفي رواية:«خوالفُ أمراء يقولونَ ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون» .

قال ابن رجب الحنبلي: وهذا يدلُّ على جهاد الأمراء باليد، وقد استنكر أحمد هذا الحديث

وقد يُجابُ عن ذلك بأنَّ التغيير باليد لا يستلزمُ القتال، وقد نصَّ على ذلك أحمد أيضًا فقال: التغيير باليد وليس بالسيف والسلاح، فحينئذ فجهاد الأمراء باليد

أن يُبطل بيده ما أمروا به من الظُّلم إنْ كان له قدرةٌ على ذلك، وكلُّ ذلك جائز، وليس هو من باب قتالهم ولا الخروج عليهم»

(1)

.

تقدَّم بيان معنى هذا الحديث

(2)

، والردُّ على من أراد أن يستند عليه للخروج على الحاكم المسلم، ولو كان فاسقًا، ثم نقل كلام ابن رجب وهو عليه؛ لأنه يقرر حُرمة الخروج، وهذا مخالفٌ لكلام حاكم العبيسان.

وإن إيراد الدكتور هذا الحديث لبيان جواز الإنكار على السلطان والوالي بغير الطرق الشرعية التي سبق ذكرها = خطأ ظاهر، وذلك أنه على أحد المعاني لهذا الحديث يكونُ المرادُ إبطال ما أَتوا من المعاصي؛ كآلاتِ الملاهي وإراقةِ الخمور وهكذا

إذا كانت هناك قدرةٌ ولم تترتب عليه مفسدة أكبر.

قال ابن رجب: «وقد يُجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نصَّ على ذلك أحمد أيضًا في رواية صالح، فقال: التغيير باليد ليس بالسيف

(1)

(ص: 71).

(2)

تقدم (ص: 198).

ص: 351

والسلاح، وحينئذٍ فجهادُ الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات، مثل أن يُريقَ خمورَهُم أو يكسرَ آلاتِ الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبطلَ بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك، وكل هذا جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي وردَ النهيُ عنه، فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يُقتل الآمرُ وحدَه»

(1)

.

ويقال أيضًا: إنَّ هذا الحديث عامٌّ للحاكم وغيره؛ ويستثنى منه الحاكم للأدلة الخاصَّة في الصَّبر على جَوره، وتقدم ذكر أوجهٍ في توجيه الحديث

(2)

.

وقد تقدم أن الذي ضعَّفه أحمد غير اللفظ الذي أخرجه مسلم؛ والذي ضعَّفه فيه لفظ (أمراء)

(3)

.

الاستدراك الأربعون:

نقل حاكم العبيسان

(4)

كلامًا للشيخ عبد الله ابن الإمام محمد بن عبد الوهاب يقرِّر فيه أنَّ الخروجَ على الحاكم مسألة خلافية، وهو متابعٌ لابن حزم في نسبة هذه الأقوال، وتقدَّم بيانُ عدم صحَّة هذه النسبة لأكثر هؤلاء، وتوجيهُ مَنْ ثبتَ عنه هذا القول، وأنَّ المسألة ليست خلافية بإجماعِ السلف؛ والأدلةُ متكاثرة على عدم جواز الخروج

(5)

.

(1)

جامع العلوم والحكم (2/ 248).

(2)

تقدم (ص: 198).

(3)

تقدم (ص: 199).

(4)

(ص: 72).

(5)

تقدم (ص: 39).

ص: 352

الاستدراك الحادي والأربعون:

قال الدكتور: «قال ابن حزم: «الإمام واجبٌ طاعتهُ ما قادنا بكتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنْ زاغَ عن شيء منهما مُنع من ذلك، وأُقيم عليه الحدُّ والحقُّ، فإن لم يؤمَن أذاهُ إلَّا بخلعه، خُلع وولِّي غيره» .

وقال أيضًا: «والواجبُ إنْ وقعَ شيء من الجور وإن قلَّ أن يكلَّم الإمام في ذلك ويُمنع منه، فإن امتنع وراجعَ الحقَّ وأذعنَ للقود من البشرة أو من الأعضاء، أو لإقامة حد الزنى والقذف والخمر عليه، فلا سبيلَ إلى خلعهِ وهو إمامٌ كما كان لا يحلُّ خلعهُ، فإن امتنع من إنفاذِ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع، وجبَ خلعهُ، وإقامةُ غيرهِ ممن يقومُ بالحق»

(1)

، تقدَّم الردُّ على ابنِ حزمٍ وبيانُ بطلانِ أدلته

(2)

.

الاستدراك الثاني والأربعون:

قال الدكتور: «فلا يمكن قتلُ إنسان لمعارضتهِ للسلطة، أو حتى محاولته الاعتداء على رجال السُّلطة دون القتل، ولهذا لم تعرف الدولة الإسلامية في المرحلة الأولى من الخطاب السياسي الممثِّل لتعاليم الدين المنزَّل أيَّ حادثةِ قتلِ سياسي لمن يعارضُ السلطة، وقد رفضَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعرَّض للمعارضين له داخلَ المدينة، ممن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم يحرِّضون على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة»

(3)

.

(1)

(ص: 72).

(2)

تقدم (ص: 98).

(3)

(ص: 88).

ص: 353

هذا الكلام مجمَلٌ ويحتاجُ إلى تفصيل؛ فإنه لا يلزم من ألَّا يُقتلَ أن يكون فعلُه صوابًا، أو لا يعاقب بما دون القتل. فقد يُعاقبُ تعزيرًا من الإمام أو القاضي بحسب المصلحة، فإذًا لا يُستدل بعدم القتل على صحة الفعل؛ فإذا لم يقتلوا المعارضَ سياسيًّا فليس معناه صحَّة فعلهِ شرعًا.

ثم لابد أن يفرَّق بين هذا وبين مَنْ جاء لتفريقِ الصَّف ومنازعة الحاكم في حكمه، فمثلهُ يقتل - كما تقدم -

(1)

، وهو من المفسدين في الأرض. وحقيقة كلامه هذا أنه تكرار لما مضى لكن مع الإجمال والتعمية.

الاستدراك الثالث والأربعون:

قال الدكتور: «وقد أرسلَ عثمان رضي الله عنه عمارَ بن ياسر إلى أهل مصر لمَّا ظهرت المعارضة فيها، لسياسة عثمان فانضمَّ عمار للمعارضة، فكتبَ أمير مصر ابن أبي السرح إلى عثمان يستأذنه بعقوبة عمار وأصحابه أو قتلهِم، فكتب إليه الخليفة: بئسَ الرأيُ رأيتَ من آذن لك بعقوبة عمّار وأصحابه. وفي رواية: فأحسِنْ صُحبتهم ما صَحبوك، فإذا أرادوا الرحلة فأحسِن جهازهم، وإيَّاك أن يأتيني عنكَ خلافُ ما كتبت به إليك»

(2)

.

ثم قال في حاشية «بئس الرأي رأيت» : [المصدر السابق (تاريخ المدينة لابن شبة) (3/ 1123) بإسناد صحيح]، وقال في حاشية:««فأحسن صحبتهم» : [المصدر السابق (3/ 1123) بإسناد حسن]».

(1)

تقدم (ص: 191).

(2)

(ص: 89).

ص: 354

وفي هذا أمران:

الأمر الأول: قولُ عثمان: «بئسَ الرأيُ رأيتَ

» صحَّحها الدكتور حاكم العبيسان، وليس الأمر كذلك، فإن الإسناد منقطع؛ لأنَّ محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان لم يسمع من عثمان، فروايتهُ مرسلة ضعيفة، قال أبو زرعة:«عن عثمان مرسل»

(1)

.

الأمر الثاني: قول عثمان: فأحسِنْ صُحبتهم ما صحبوك

حسَّن الدكتور إسناده، وليس كذلك بل هو ضعيف لسببين:

السبب الأول: أنَّ صالح بن كيسان لم يدرك زمن عثمان رضي الله عنه، بل ولد بعد وفاة عثمان، فإنَّ وفاته بعد المائة والثلاثين للهجرة أو المائة والأربعين - كما في ترجمته - وهو لم يبلغ من العمر التسعين من عمره، كما قاله الذهبي

(2)

.

السبب الثاني: أنَّ شيخ ابن شبة هو معمر بن بكار السعدي؛ قال ابن حجر في لسان الميزان: «معمر بن بكار السعدي شيخ لمطين صويلح» .

قال العقيلي: «في حديثه وهم، وَلا يتابع على أكثره» . انتهى، وذكره ابن أبي حاتم فلم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابنُ حِبَّان في الثقات وقال:«روى عن إبراهيم ابن سعد، وَغيره»

(3)

.

(1)

جامع التحصيل (ص: 265).

(2)

سير أعلام النبلاء (10/ 63).

(3)

لسان الميزان (6/ 66).

ص: 355

الاستدراك الرابع والأربعون:

قال الدكتور: «وكلُّ ما سبقَ يؤكِّد رسوخَ مبدأ حُرمة النفس الإنسانية، وأنه لا حقَّ للسلطة في الدولة الإسلامية باستحلال قتلِ أو تعذيبِ أحدٍ أو اضطهادِ المعارضةِ السياسية، لمجرَّد معارضتها الحاكم وسياستها أو رفضها لحكمه»

(1)

.

يكرر أنَّ الشريعة لم تأت بقتل المعارضِ للسلطان وحُكمه، فيستنبِطُ من هذا جهلًا أو تدليسًا جوازَ المعارضة للسلطان!!.

والجواب على هذا من أوجه:

الوجه الأول: ليس كلُّ ما لم تحكُم عليه الشريعة بالقتل فيجوزُ فعله؛ بل قد يكون محرمًا بأدلةٍ أخرى.

فإذا كان كذلك فيجبُ إنكاره وإن كان لا يقتل، وهذا من البدهيات شرعًا، فلا قتلَ على الغيبة واللَّعن، ومع ذلك يحرمُ قولهما ويجبُ إنكارهما، وهذا مثل عدم القتل بمعارضة السلطان أو رفض حكمه - وفي المسألة تفصيل - فلا يدل على جوازه باسم الحرية المدَّعاة.

الوجه الثاني: القول بعدم قتل المعارضة السياسية فيه تفصيل؛ فإن كانت المعارضة لإسقاط حكم الحاكم وتفريق الكلمة = فإنه يقتل، قال عرفجة الأشجعي: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«إنه ستكونُ هَناتٌ وهنات، فمَن أراد أن يفرِّقَ أمر هذه الأمة وهي جميعٌ، فاضربوه بالسَّيف كائنًا من كان» . [أخرجه مسلم]

(2)

.

(1)

(ص: 89).

(2)

سبق تخريجه (ص: 191).

ص: 356

أو كان المعارض يتبنَّى عقيدة الخروج على الحاكم المسلم، فإنه يستحقُّ القتل؛ لأنه مبتدع - وتقدَّم تفصيلُ هذه المسائل -

(1)

.

أما إذا كانت المعارضة لعدم بيعة الحاكم أو انتقادِ بعض الأعمال التي يفعلُها الحاكم، فإنَّ هذا الفعل محرَّم ولا يوجبُ القتل.

وإن كانت له مظلمة رُدَّت مظلمته، وإن لم تكن له مظلمة فإنه يؤدَّب، وقد يعفو عنه السلطان أو يدع عقوبته لمصلحةٍ يراها. وهذا الذي كان يفعله عثمان رضي الله عنه فإنه فعل ما رأى المصلحة تقتضيه.

وهذه الحرية يردِّدها حاكم العبيسان مُعرِضًا عن الأدلة المحكَمة الصريحة متشبِّثًا بشبهاتٍ واهيات، ولو كان منصفًا لردَّ المتشابه إلى المحكم.

الاستدراك الخامس والأربعون:

قال الدكتور: «كما له الحقُّ في الانتماء إلى أيِّ حزبٍ أو جماعةٍ شاء، فإذا جاز لغير المسلم الانتماء للأديان الأخرى والتحاكم إلى شرائعها الخاصة ورؤسائها في ظل الشريعة الإسلامية، فالانتماءُ إلى الجماعات الفكرية والسياسية جائزٌ من باب أولى، ولهذا السبب لم يعترض عثمان ولا علي رضي الله عنهما على الانتماء للجماعات السياسية أو الفكرية، كالخوارج إذ لم يرَ علي رضي الله عنه أنَّ له حقًّا في منعهِم من مثل هذا الانتماء، ما لم يخرجوا على الدولة بالقوة، لوضوح مبدأ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .

والمقصود بالجواز والحق هنا الجوازُ والحقُّ القضائي الذي لا تستطيعُ السلطة مصادرته، لا الجواز ديانةً وإفتاءً؛ إذ يحرمُ الانتماء للخوارج وفرقِ أهل البدع، إلَّا

(1)

تقدم (ص: 191).

ص: 357

أنَّ الصحابة لم يروا لهم عليهم سبيلًا في منعهِم من هذا الانتماء لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على عدم التعرُّض للخوارج ما لم يصولوا على الناس بالسيف»

(1)

.

في هذا الكلام المتناقض الواهي عدة أمور:

الأمر الأول: فرقٌ في الشريعة بين أن يجتمعَ أقوامٌ يتعاونوا على البِّر والتقوى تحت حُكمِ الحاكم العام، ولم يمنع ذلك السلطان، ولا يكون بينهم ولاءٌ وبراء على هذا التجمع، فرقٌ بين هذا وبين التجمُّع الحزبي الذي لا يكون تحت حُكمِ الحاكم المسلم العام، بل ينفصلُ عنه ببيعةٍ أو ما في معناها، أو يكون الولاء والبراء على هذا الحزب، أو يكون هذا التحزب للتعاون على الإثم والعدوان من مناطحة السلطان.

هذا النوع الثاني من التجمُّع تجمُّع محرَّم في الشريعة؛ لأنه لا بيعة في الشريعة إلَّا للحاكم العام، والبيعة الخاصة منازعة له، وكذا الحبُّ والبغض لله وفي الله لا في الأحزاب والتجمعات.

وزيادةً على أنه محرَّم فهو بدعة أيضًا؛ لوجود المقتضي لفعله عند السلف ولم يفعلوه، ولا مانع يمنعهُم.

الأمر الثاني: أنَّ الأحزاب السياسية إذا كانت تعمل لمناصحة الحاكم أو إظهارِ عيوبه وأخطائه، فهي أحزاب محرَّمة لما تقدَّم تقريرهُ من وجوب السَّمع والطاعة للحاكم

(2)

، وعدم نشرِ عيوبهِ وأخطائه وهكذا.

(1)

(ص: 93).

(2)

تقدم (ص: 35).

ص: 358

الأمر الثالث: أن محاولة تجويز الانتساب للأحزاب الكافرة؛ لأن الشريعة أقرَّت الكافر على كُفره إذا كان تحت حكمها؛ وهذا مردودٌ من أوجه:

الوجه الأول: أنَّ بقاء الكافر على دينه وهو تحت حُكمِ المسلمين ذليلًا بضوابط معينة = أجازتهُ الشريعة لمصلحة أكبر إذا كان كتابيًّا، وألحقَ بهم العلماء المجوسَ لما وردَ فيهم من دليل؛ وهذا الإقرار من الشريعة والاكتفاء بأخذ الجزية منهم لمصلحةٍ أكبر وهي رجاءُ دخولهِ في الإسلام - لأنهم أقربُ للإسلام من غيرهم -، فإنَّ جماهير أهل العلم على عدمِ إقرار بقاء غيرهم على دينهم وعلى عدم قبول الجزية منهم.

الوجه الثاني: فرَّقتْ الشريعة وسلفُ هذه الأمة بين الكفار وأهل البدع؛ وشددت في أهل البدع ما لم تشدِّد في الكفار؛ لأنه يُغترُّ بهم أكثر من غيرهم، فشدَّدت في الخوارج ما لم تشدِّد في الكفار وهكذا

قال شريك بن عبد الله النخعي: «لئن يكون في كلِّ قبيلة حمار أحبُّ إلي من أن يكون فيها رجلٌ من أصحاب أبي فلان رجل كان مبتدعًا» .

وقال مالك بن أنس: «لا تسلم على أهل الأهواء ولا تجالسهم إلَّا أن تغلظ عليهم، ولا يُعاد مريضُهم، ولا تحدث عنهم الأحاديث» .

وقال سفيان الثوري: «مَنْ أصغى بسمعهِ إلى صاحب بدعةٍ وهو يعلَم أنه صاحبُ بدعةٍ خرجَ من عصمة الله ووُكِلَ إلى نفسه» .

وقال الفضيل بن عياض: «لأن آكلَ عند اليهودي والنصراني أحبُّ إليّ من أن آكلَ عند صاحب بدعة، فإني إذا أكلت عندهما لا يُقتدى بي، وإذا أكلتُ عند صاحب بدعة اقتدى بي الناس، أحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعةٍ حصنٌ

ص: 359

من حديد»

(1)

.

الوجه الثالث: إنَّ مقتضى إنكار المنكر ألَّا تُقرَّ الأحزاب غير الشرعية، فكلُّ دليلٍ يدلُّ على إنكار المنكر كقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وقال:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] = يدلُّ على إنكار هذه التحزُّبات غير الشرعية.

فإذا تُرك إنكارُ منكرٍ لمصلحة أكبر، فلا يدلُّ على عدم إنكار المنكرات، بل تبقى إنكارُ المنكرات على الأصل ما لم تعارضه مصلحةٌ أكبر، فإقرارُ الشريعة لأهل الكتاب والمجوس إذا أعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون لمصلحةٍ = لا يعني ألَّا ينكرَ التحزُّب المخالفُ للشريعة، وهذا بَدهيٌّ لو تحرَّر حاكم العبيسان من قيود الحرية الغالية المزعومة.

الوجه الرابع: أنَّ غاية دليل الدكتور القياس؛ فقاسَ تجويزَ الشريعة انتسابَ الكافر إلى دينهِ على الانتساب للأحزاب، وهذا قياسٌ فاسد؛ لأنه مصادمٌ للدليل، وقد تقدَّم ذِكرُ الدليل على بطلان هذه التجمعات والأحزاب مع الأدلة المعروفة في إقرار الكفار الكتابيين إذا وافقوا على الجزية

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هؤلاء (الكفار من أهل الذمة) يقرُّون على دينهم المبتدع، والمنسوخ، مستسرِّين به، والمسلمُ لا يَقرُّ على مبتدع ولا منسوخ،

(1)

أبو نعيم (8/ 103).

(2)

تقدم (ص: 135).

ص: 360

لا سرًّا ولا علانية، وأما مشابهة الكفار فكمشابهة أهلِ البدع وأشدُّ»

(1)

.

وصدقَ الإمام أحمد لمَّا ذكرَ أن أكثر أخطاء الناس في القياس.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فرضي الله عن أحمد حيث يقول: ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمَل، والقياس، وقال أيضا: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس»

(2)

.

الأمر الرابع: زعم أنَّ عثمان وعليًّا لم يعترضا على الخوارج، ثم قال:«والمقصود بالجواز والحق هنا الجوازُ والحقُّ القضائي الذي لا تستطيع السُّلطة مصادرته، لا الجواز ديانةً وإفتاءً؛ إذ يحرمُ الانتماءُ للخوارج وفرقِ أهل البدع، إلا أنَّ الصحابة لم يروا لهم عليهم سبيلًا في منعهم من هذا الانتماء لقوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}» .

هذا تناقضٌ لأنه إذا كان محرَّمًا فيجبُ إنكاره، فإنَّ هذا أعظم مقصدٍ من مقاصد الولاية؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما تقدم نقله عن العلماء

(3)

- فكيف يكون منكرًا ويتركان إنكاره.

وإنَّما غاية الأمر أنهم تركوا قتالهم لمصلحة؛ وهذا لا يعني أنه لا يجوز إنكاره وردعُهم إذا زالت هذه المصلحة، فلما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عن الإنكار على الأعرابي الذي بالَ في المسجد لمصلحة، فهذا لا يعني أنَّ البول في المسجد لا ينكر إذا زالت المصلحة المانعة من الإنكار.

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 531).

(2)

القواعد النورانية (ص: 255).

(3)

تقدم (ص: 27).

ص: 361

الأمر الخامس: لازمُ هذا التقرير والاستدلال بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ألَّا تُنكَر أماكن الزنى والدعارة والربا، وأن يُسمح نظاميًّا ببناء الكنائس في بلاد المسلمين وكذا الحسينيات الرافضية والمدارس العلمانية واللبرالية وهكذا .. وهذه لوازمُ باطلة، فالدكتور ما بين أن يلتزمها، فيكون مصادمًا للشريعة متابعًا لدعاة الحرية المكذوبة وهم الليبرالية والعلمانية، أو ألَّا يلتزمها فيعود هذا على كلامه بالنقض.

الأمر السادس: تقدَّم الجواب

(1)

على قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وليس فيها حجَّة على السماح بالمحرمات باسم الحرية.

الأمر السابع: أن مذهب عمر جوازُ قتلِ الخارجي؛ لأنه خارجي - كما تقدم نقل هذا عنه، وإقرار ابن تيمية وابن قدامة به

(2)

- ولم يقل عمر لم أقتله لأجل الحرية، لكن الصحابة لم يقاتلوا الخوارج إذا تجمَّعوا وصاروا جماعة حتى يبدؤوا بالسيف، وهذا لا يعني أنه لا ينكر عليهم ولا يناصحون كما فعل ابن عباس لما أرسله علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

الاستدراك السادس والأربعون:

قال الدكتور: «وقد انتهى عصر الخلفاء الراشدين سنة 40 هـ، وبدأ العصر الأموي حيث بدأ تراجعُ الخطاب السياسي الممثِّل لتعاليم الدين المنزل، وبدأ خطاب سياسي يمثل تعاليم الدين المؤول حيث بدأ الاستدلال بالنصوص على غير الوجه الصحيح الذي أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: «أول مَنْ يغير سنَّتي رجلٌ من بني أمية» .

(1)

تقدم (ص: 314).

(2)

تقدم (ص: 194).

ص: 362

وقد بدأت هذه المرحلة بعد عهد الخليفة الراشد عبد الله بن الزبير»

(1)

.

وفي هذا الكلام عدة أمور:

الأمر الأول: أنه ذمَّ خالَ المؤمنين معاوية بن أبي سفيان؛ لأنه جعلَ الحكمَ في ابنه بالإرث وهذا ليس مذمومًا؛ لأن فعله لمصلحة - كما تقدَّم نقلُ كلامِ ابن خلدون

(2)

- ولو كان محبًّا لمعاوية، وعارفًا قدرَهُ ومنزلته؛ لحملَ فعله على المحمَل الحسن، لكنه أبى إلَّا القدح فيه - بقصدٍ أو بغير قصد - وجعل خلافته ابتداء للخطاب السياسي المؤول.

الأمر الثاني: أنه لو ثبت حديث: «أوَّل من يغير سنَّتي رجلٌ من بني أمية» فليس لازمًا أن ينزله على معاوية، فقد تلاه حكَّام وولاة من بني أمية هم أَولى أن ينزل عليهم منه رضي الله عنه لاسيما وهو أفضلُ ملوك الإسلام بالإجماع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «واتفق العلماء على أنَّ معاوية أفضلُ ملوك هذه الأمة»

(3)

، فلماذا الإصرارُ في تنزيل الحديث على معاوية؟

هل كل هذا الغضب عليه لأنه جعلَ الولاية إرثًا لابنه يزيد - مع أنَّ هذا مقتضى المصلحة -، فلما وجد المعارض زلَّة لأحدٍ أهل العلم بأن جعل المراد معاوية طارَ بها فرحًا ونشرًا، بدلَ سترها وإخفائها؛ لئلا يُنال من خال المؤمنين.

(1)

(ص: 107).

(2)

تقدم (ص: 139).

(3)

مجموع الفتاوى (4/ 478).

ص: 363

مع أنَّ كلامَ جمعٍ من العلماء أنَّ المراد بالحديث يزيد - مثل البيهقي - ودافع ابنُ كثير عن هذا القول فقال: «قال البيهقي: ويشبه أن يكونَ هذا الرجلُ هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان»

(1)

.

فهل كلُّ هذا يَخفى على مَنْ تتبَّع كتاب (البداية والنهاية) والتقطَ منه الشُّبهات بالمنقاش؟!

الأمر الثالث: قد طعنَ في الحديث جماعة؛ فقد ضعَّفه ابن كثير فقال: «وهذا منقطعٌ بين أبي العالية وأبي ذر»

(2)

، وقال أيضًا بعد أن ذكره: «وكذا رواه البخاري في (التاريخ)، وأبو يعلى عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، ثم قال البخاري: والحديثُ معلول، ولا يُعرف أنَّ أبا ذر قدِمَ الشام زمن عمر بن الخطاب، قال:

«وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمنَ عمر، فولَّى مكانه أخاه معاوية» .

وقال عباس الدوري: «سألتُ ابنَ معين: أسَمِعَ أبو العالية من أبي ذر؟ قال: لا، إنما يروي عن أبي مسلم عنه، قلت: فمَن أبو مسلم هذا؟ قال: لا أدري» .

وقد أوردَ ابنُ عساكر أحاديثَ في ذمِّ يزيد بن معاوية، كلُّها موضوعة، لا يصحُّ شيء منها، وأجودُ ما وردَ ما ذكرناه؛ على ضعفِ أسانيده وانقطاعِ بعضهِ

- والله أعلم -»

(3)

.

(1)

البداية والنهاية (9/ 234).

(2)

البداية والنهاية (9/ 234).

(3)

البداية والنهاية (11/ 649).

ص: 364

الاستدراك السابع والأربعون:

حاولَ في كتابه الفرقان

(1)

إثبات حديث: «أوَّل مَنْ يغيِّر سُنَّتي رجلٌ من بني أمية» ببحثٍ فيه تدليس - بقصدٍ أو بغير قصد - وتهرَّب من كلام البخاري بحجَّة أنه لم يجزم بعدمِ السماع، وتركَ كلام ابن معين الذي جزمَ بعدم السماع ولم يتعرض له، وأيضًا اعتمدَ توثيق أبي مسلم بناءً على توثيق المعروفين بالتساهل كابن حبان أو من وثَّقه ضمنًا - أي من باب اللازم - كصنيع ابن خزيمة؛ أو توثيق متأخِّر كالذهبي وتركَ - هوًى وبغيًا - تجهيلَ ابن معين وهو إمامُ هذا الفن وفارسٌ من فرسانه.

ومن عدمِ إنصافهِ شكَّك في نقل ابن كثير عن البخاري قوله: «هذا حديث معلول» بحجَّة أنها ليست من عباراتِ البخاري مع إقراره أنها وُجدتْ مرَّةً في كلامه.

فيُقال جوابًا على سفسطته هذه: إذًا لتكن هذه المرة الثانية؛ فما الفرق بين المرة والمرتين؟.

إلى آخر كلامه الركيكِ الذي تفوحُ منه رائحة الهوى.

وعلى كلٍّ الخلافُ في تصحيح الحديث وتضعيفه أمرٌ سهل لكن الإشكال في التدليس والتكلُّف في طريقة التصحيح.

(1)

(ص: 60).

ص: 365

الاستدراك الثامن والأربعون:

ينقل الدكتور آثارًا لعلي بن أبي طالب من كتاب نهج البلاغة

(1)

، وهذا الكتابُ مما لا يُعتمد عليه.

قال الذهبي: «قلت: هو جامع كتاب (نهج البلاغة)، المنسوبة ألفاظُه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيدَ لذلك، وبعضُها باطل، وفيه حقٌّ، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟! وقيل: بل جمعُ أخيه الشريف الرضي»

(2)

، وقال أيضًا: «على بن الحسين العلوي الحسينى الشريف المرتضى المتكلم الرافضى المعتزلي، صاحب التصانيف. حدث عن سهل الديباجي، والمرزباني، وغيرهما.

وولي نقابة العلوية، ومات سنة ست وثلاثين وأربعمائة، عن إحدى وثمانين سنة، وهو المتَّهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قوية في العلوم، ومَن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السبُّ الصُّراح والحطَّ على السَّيدين: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفةٌ بنفَسِ القرشيين الصحابة وبنفَس غيرهم ممن بعدَهم من المتأخرين جزَم بأنَّ الكتاب أكثرهُ باطل»

(3)

.

فهل يصحُّ أن يُستند إلى كتابٍ هذا حالُه؟!؛ لكن الهوى جعلَهُ يعتمد عليه، لأن فيه ما ينصرُ هواه.

(1)

(ص: 109).

(2)

سير أعلام النبلاء (19/ 589).

(3)

ميزان الاعتدال (3/ 124).

ص: 366

الاستدراك التاسع والأربعون:

شكَّك الدكتور في شرعية أن يعهد حاكم إلى مَنْ بعده، وذكر أنَّ عهدَ أبي بكرٍ لعمر كان لمصلحةٍ استدعاها الواقع يومذاك.

قال الدكتور: «فقد كان عهده لعمر من باب الترشيح بعد الاستشارة والرضا، دون إكراهٍ أو إلزام، كما لم تكن بينهما قرابة أو رحم تُثير الشك والشُّبهة في الغاية من هذا الترشيح، كما أنَّ الظروف المحيطة بالدولة الإسلامية الجديدة - التي خرجت للتوِّ من الحروب الداخلية - حروب الردة، وبدأت حروبَها مع الإمبراطوريتين فارس والروم - هي التي اضطرت أبا بكر إلى مثل هذا الإجراء»

(1)

.

وقال: «وإذا كانت نظرية الاستخلاف قد وجدت لها سندًا شرعيًّا مؤوَّلًا حتى أصبحت طريقًا مشروعًا لتوريث الإمامة للأبناء، بدعوى جواز العهد لهم كغيرهم»

(2)

.

وهذا مردودٌ بإجماع أهل العلم على شرعية العهد في الإمامة، وقد سبقَ ذِكرهُ

(3)

.

وأيضًا فإنَّ عمر رضي الله عنه قال: إنْ أَستخلِفْ فقد استخلفَ من هو خيرٌ مني

- يعني أبا بكر الصديق - كما تقدم

(4)

. وعمرُ بن الخطاب يقول هذا مبينًا أن كلَّها مشروعة له؛ الاستخلاف الذي هو العهد أو الترك بلا استخلاف.

(1)

(ص: 110).

(2)

(ص: 122).

(3)

تقدم (ص: 60).

(4)

تقدم (ص: 60).

ص: 367

الاستدراك الخمسون:

عاب الدكتور حاكم على خالِ المؤمنين معاوية بن أبي سفيان أن عَهِدَ لابنه يزيد فقال: «لقد بايع الناسُ يزيد في حياة أبيه رضي الله عنه الذي كان يرى أن جمعَ الناسَ على إمامٍ واحد، ووحدةُ كلمة الأمة وعدمُ عودتها للاقتتال والفتنة - أهمُّ مما سوى ذلك، فكان يقول: «إنِّي خفتُ أن أدع الرَّعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راع» وفاتَهُ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحرصَ على الأمة وأشفقَ، ومع ذلك تركَهُم ليختاروا من بعده من يرتضونه»

(1)

.

تقدم

(2)

نقلُ كلام ابن خلدون في أنه جعلَ فعل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه - من الحسنات لأجل المصلحة العارضة، ثم إنَّ هذا الدكتور متناقضٌ؛ فقد صحَّح فعلَ أبي بكر لما عهد لعمر بن الخطاب لأجل المصلحة، مع أنه لا يرى طريقة العهد شرعيةً، وخطَّأ معاوية مع أن معاوية استخلفَ وعَهِدَ لابنه لأجل المصلحة، وكان المتعيِّن عليه أن يقرَّ لمعاوية فعلَهُ لأجل المصلحة، كما أقرَّه لأبي بكر لأجلِ المصلحة، فليس نفيهُ للمصلحة أولى من ابن خلدون الذي أثبتها. فكيف والذي رأى المصلحة معاوية بن أبي سفيان؟!.

الاستدراك الحادي والخمسون:

قال الدكتور: «حيث تمَّ اختزال معنى الشورى، فأصبحت الشورى قاصرةً على مشاركة الأمة الإمام في الرأي؟ ثم تمَّ اختزالها فإذا الشورى هي استشارةُ

(1)

(ص: 114).

(2)

تقدم (ص: 139).

ص: 368

الإمام أهلَ الحلِّ والعقد دون الالتزام»

(1)

.

قد سبق

(2)

بيانُ أنَّ القول بأنَّ عمل الإمام بالشورى إلزامي خطأ لم أر عليه دليلًا، ولم أر أحدًا من العلماء الأولين قال به، والدكتور لم يذكر له سلفًا من علماء الأمة المعروفين السابقين.

الاستدراك الثاني والخمسون:

قال الدكتور: «حيث تمَّ اختزال معنى الشورى، فأصبحت الشورى قاصرةً على مشاركة الأمة الإمام في الرأي؟ ثم تمَّ اختزالها فإذا الشورى هي استشارةُ الإمام أهل الحلِّ والعقد دون الالتزام» .

والكاتب يردِّد برضا الأمة دون أهل الحلِّ والعقد فقال: «لقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أنَّ الإمامة تكون بعقد البيعة بعد الشورى والرضا من الأمة، كما أجازوا الاستخلافَ بشرطِ الشورى ورضا الأمة بمن اختاره الإمام»

(3)

.

فهو لا يرى أنَّ المرجع في الرضا إلى أهل الحلِّ والعقد، إنما إلى الأمة كلِّها، وقد سبق ردُّ هذا في الشبهات

(4)

.

(1)

(ص: 117).

(2)

تقدم (ص: 249).

(3)

(ص: 119).

(4)

تقدم (ص: 60).

ص: 369

الاستدراك الثالث والخمسون:

قال الدكتور: «كما أجمعوا على أنه لا يسوغُ فيها التوارث، ولا الأخذُ لها بالقوة والقهر، وأنَّ ذلك من الظُّلم المحرَّم شرعًا. قال ابن حزم: «لا خلافَ بين أحدٍ من أهل الإسلام في أنه لا يجوزُ التوارث فيها» »

(1)

.

والجواب على هذا من أوجه:

الوجه الأول: القول بالغلبة والقهر، وكذلك التوارث غيرُ شرعيٍّ في أصله، لكن أجمعَ العلماء على صحة إمامة وولاية مَنْ أخذَها بالقهر، ومن ذلك مَنْ أخذَها بالتوارث وثبتتْ له بالقهر، وقد تقدَّم ذِكرُ الأدلة وإجماعات أهل السنة على هذا

(2)

، ويدلُّ على هذا صنيعُ الصحابة والتابعين الذين بايعوا يزيدَ بن معاوية، وهكذا بايع التابعون عبدَ الملك بن مروان، وبايع أئمة المذاهب الأربعة ولاةَ العباسيين.

الوجه الثاني: أنَّ الإجماع الذي حكاه ابنُ حزم صحيح لكنه بالنَّظر إلى الأصل بلا عارضٍ لمصلحةٍ راجحة، وإلَّا فإن المصلحة إذا اقتضت ذلك كفعلِ معاوية فإنه يجوزُ لهذه المصلحة الراجحة، ثم أُذكّر أنَّ مَنْ استقرَّ له الحكم بالقهر ومنه التوريث، فيجبُ السَّمع والطاعة واعتقاد البيعة له في الأعناق، وهو مثلُ الذي ثبتَ له أخذُ الحكم باختيار أهل الحلِّ والعقد، وهذا بإجماع أهل السنة كما تقدم

(3)

.

(1)

(ص: 119).

(2)

تقدم (ص: 65).

(3)

تقدم (ص: 68).

ص: 370

الاستدراك الرابع والخمسون:

قال الدكتور: «والرواية الثانية: أنه لا يكون إمامًا بالاستيلاء، وأنَّ الإمامة لا تنعقد إلَّا بالبيعة أو الاستخلاف، وقد رجَّحها بعضُ أئمة المذهب»

(1)

.

تقدَّم أن أهل السُّنة - ومنهم الإمام أحمد - حكوا إجماعَ أهل السنة على صحَّة ولاية المتغلب

(2)

، وهو الثابتُ عن الصحابة، وقد أخطأ أبو يعلى في كتابه الأحكام السلطانية لما ظنَّ التولي بالقهر والغلبة أحدَ قولي الإمام أحمد، بل لم يقل إلا به.

كما أخطأ في فهم مسائل عقدية كثيرةٍ عن الإمام أحمد في كتابه (المعتمد في أصول الدين) وكتابه (إبطال التأويلات)، ومن ذلك أنه أنكر الصفات الفعلية في كتابه (إبطال التأويلات)

(3)

، بل وكانت طريقته في هذا الكتاب طريقة أهل البدع المفوِّضة، وفي بعض المواضع لاسيما آخر الكتاب سلكَ طريقة المؤولة.

لذا المعتمد في مثل هذا أن يُرجع إلى اعتقاد أهل السنة الذي نقله أئمة السنة، وأفتى به الصحابة، وكلُّ مَنْ خالفَ بعد ذلك فقولُه شاذٌّ لا يعوَّلُ عليه، كمخالفته لأهل السنة في إثبات صفات الله.

(1)

(ص: 122).

(2)

تقدم (ص: 68).

(3)

(1/ 58).

ص: 371

الاستدراك الخامس والخمسون:

الدكتور حاكم يثني على كلِّ حركةِ خروجٍ ومنازعة للحاكم ولو على مثل عمر بن عبد العزيز؛ فتارةً يثني على عمر بن عبد العزيز لعدلهِ في حُكمهِ وتارةً يُثني على الخارجين عليه لأنَّ الظلم كثُر في زمانهم فقال: «لقد سبق الحسن البصري أن دعا الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز إلى هذه الدعوة»

(1)

.

وناقض هذا بأن قال: «وكلُّ هذه الحوادث تؤكِّد قيامَ الفقهاء بالتصدِّي للظلم - في بداية هذه المرحلة - وقد بلغ الأمر ذروته في حركة آل البيت السِّرية لإسقاط دولة بني أمية، وقد بدأت هذه الدعوة سرًّا سنة (100 هـ)

(2)

، - وهذه السنةُ سنة ولاية عمر بن عبد العزيز - وكذلك أثنى على خروج الدولة العباسية على الأموية، وأيضًا أثنى على الذين خرجوا على الدولة الأموية، فقال: ولم ينظروا إلى الحوادث التي ترتَّب عليها كثيرٌ من الصلاح، فقد خرج ابن الزبير على يزيد وكان عهده خيرًا من عهد يزيد، وخرج العباسيون على بني أمية، وكان عصرهم خيرًا من عصر بني أمية - في الجملة - وقد كان أحمد بن حنبل يفضِّلهم ويقول:«أقاموا الصلاة وأحيوا السُّنة»

(3)

.

ففي هذا أثنى على خروج العباسيين على بني أمية، ثم أشادَ بخروجِ النفس الزكية على العباسيين فقال: «وقد استفتى أهلُ المدينة مالكَ بن أنس في الخروج مع ذي النفس الزكية فأفتاهم مالك بالجواز، لأن بيعتهم لأبي جعفر المنصور

(1)

((ص: 133).

(2)

(3)

(ص: 166).

ص: 372

كانت تحت الإكراه، ولا بيعة لمكرَه، فلما أفتاهم مالَ الناسُ مع محمد ذي النفس الزكية وبايعوه، وقاتلوا معه وقد عُذِّب مالك لهذا السبب»

(1)

.

تقدَّم أن نسبة هذا الكلام لمالك لا تصح

(2)

، لكن المراد بذكرِ هذا بيانُ أنه يدور مع الخروج والثورات حيث دارت.

الاستدراك السادس والخمسون:

قال الدكتور: «وقال ابن عطية الأندلسي المفسر: «الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، مَنْ لا يستشير أهلَ العلم والدِّين فعزلُه واجبٌ، هذا ما لا خلاف فيه» أي بين علماء أهل الأندلس، أو بين فقهاء مذهب مالك»

(3)

.

وكشفُ هذه الشبهة من أوجه ثلاثة - تقدَّم ذكرها -

(4)

.

الاستدراك السابع والخمسون:

قال الدكتور حاكم: «وقد كان لهذه الهزيمة أثرٌ كبير على الفكر السياسي والعقائدي، حيث شاعَ القولُ بالإرجاء والجبر من جهة، ووجوبُ السمع والطاعة للإمام الجائر وإن كان مثل الحجاج من جهة أخرى؛ إذ إنَّ الله هو الذي يسلِّطهم، ولا يمكنُ رفعُ هذا البلاء إلَّا بالدعاء، وهذا هو القضاء الذي يجبُ التسليمُ له والصَّبر عليه؟!

(1)

(ص: 151).

(2)

تقدم (ص: 218).

(3)

(ص: 134).

(4)

تقدم (ص: 241).

ص: 373

وقد كان الحسن البصري رحمه الله هو داعيةَ هذا الفكر، فقد قيل له: ألا تخرجُ فتغيِّر؟ فكان يقول: إنَّ الله إنما يغير بالتوبة ولا يغير بالسيف؟! وإنما كان ذلك منه - فيما يبدو - بعد الهزيمة؛ إذ كان قبل ذلك يرى الخروج على أئمة الجور كما قال عنه يونس: كان الحسن - والله - من رؤوس العلماء في الفتن والدماء.

وقد سئل الحسن عن قتال الحجاج الذي سفكَ الدَّمَ الحرامَ وأخذَ المال الحرام؟ فقال: «أرى ألَّا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبةً من الله فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكُمَ الله وهو خير الحاكمين» .

وقال لأخيه سعيد بن أبي الحسن - وكان مع ابن الأشعث يحرِّض الناس - فقال الحسن: «أيها الناس، إنه واللهِ ما سلَّط الله الحجاجَ عليكم إلَّا عقوبةً، فلا تُعارضوا عقوبةَ الله بالسيف، ولكن عليكم بالسَّكينة والتضرع»

(1)

.

إن هذا الكلام من الدكتور حاكم العبيسان كلامُ مَنْ تلاعبَ به هواه وزُيِّن له سوءُ عمله، قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقال:{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37].

كيف يتجرَّأ على كتابة مثل هذا ونشره؟، صدق الله:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

إنَّ في هذا الكلام الذي يذكره الدكتور حاكم العبيسان عدة موبقات:

الموبقة الأولى: تقريره أنَّ عقيدة السمع والطاعة للحاكم الفاسق عقيدةٌ بدعية نشأت ردَّة فعلٍ لفتنة ابن الأشعث.

(1)

(ص: 143).

ص: 374

وهذا من أقبح الأقوال وأرداها؛ لأن الذي قرَّر عقيدة السمع والطاعة للحاكم الجائر والصَّبر على جَوره = هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتواترة، وتقدَّم ذكر الأحاديث في ذلك

(1)

، وقال الله في القرآن:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .

وذكرَ هذا الصحابة الكرام وفي مقدَّمهم الفاروق عمر بن الخطاب، وتقدَّم نقلُ كلام الصحابة

(2)

.

هذا كله قبل فتنة ابن الأشعث بسنين، بل هذه عقيدة أهل السنة المجمَع عليها، والتي تناقلها أئمة السنة وبدَّعوا مَنْ خالف ذلك، فهل يصحُّ أن يقال: إنَّ الإمام مالكًا والشافعي وأحمد وبقية السلف تبنَّوا هذه العقيدة ردَّة فعلٍ وبدَّعوا مخالفها ردَّة فعل؟!

الموبقة الثانية: جعل الدكتور - بجهله أو بغيهِ - الصَّبر على جَور الحاكم عقيدةَ الجبر البدعية المنكرة في القرآن والسنة!!.

سبحان الله أيُقال لعقيدةٍ دلَّ عليها كتابُ الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامُ الصَّحابةإنها عقيدةٌ بدعية جبرية؟!

الموبقة الثالثة: يتَّهم الإمام الحسن البصري بأنه أوَّل من أتى بعقيدة السَّمع والطاعة للحاكم الفاسق؛ لأنها جاءت بعد فتنة ابن الأشعث، وتناسى كلَّ أحاديث وآثارِ الصحابة في السمع والطاعة للحاكم الجائر.

(1)

تقدم (ص: 35).

(2)

تقدم (ص: 154).

ص: 375

الموبقة الرابعة: وقع الدكتور في تناقضٍ عظيم، فقد ذكرَ أن سببَ تبنِّي الحسن البصري عقيدة الصَّبر على جَور الحاكم المسلم - والتي سمَّاها الدكتور بغيًا أو جهلًا جبرًا - كانت ردَّة فعلٍ بعد فتنة ابن الأشعث - وهي وقعة أصحاب الجماجم والحرَّة - وكلامُ الحسن البصري الذي نقله الدكتور وصحَّحه كان قبل ظفَر الحجاج وغلَبته، بل لعلَّه كان قبل ابتداء خروجهِم عليه؛ لذا كان ينهاهُم بالكلام الذي نقلَه الدكتور وصحَّحه.

الموبقة الخامسة: زعمَ أنَّ الحسن البصري يرى الخروجَ على الحجاج، لكنه تراجعَ بعد الهزيمة، واعتمدَ على قول يونس:«كان الحسن - واللهِ - من رؤوس العلماء في الفتنة والدماء» ، مع أنَّ كلام الحسن واضحٌ أنه قبل الفتنة أو وقتها قبل ظفَر الحجاج، أو أنَّ معنى كلام يونس أنَّ الحسن من رؤوس العلماء في الفتنة أي الذين واجهوا الفتن. وبهذا تستقيم النقولات عنه وتتفق.

ودونكَ أثرين ثابتين في طبقات ابن سعد مذكورَين بعد أثرِ يونس عن الحسن، وهذان الأثران يدلَّان على أنه خرجَ مُكرهًا:

الأثر الأول: روى ابن سعد بإسناد صحيح عن أيوب قال: قيل لابن الأشعث: إنْ سرَّكَ أن يُقتلوا حولكَ كما قُتلوا حولَ جمل عائشة فأخرجِ الحسن. فأرسل إليه فأكرَهَه

(1)

.

الأثر الثاني: روى ابن سعد في طبقاته بإسناد صحيح: قال ابن عون: «استبطَأ الناسُ أيام ابن الأشعث فقالوا له: أخرِج هذا الشيخَ - يعني الحسن - قال ابن عون: فنظرتُ إليه بين الجسرين وعليه عمامةٌ سوداء، قال: فغفلوا عنه، فألقى

(1)

الطبقات الكبرى (7/ 120).

ص: 376

نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم وكادَ يهلكُ يومئذ»

(1)

.

الاستدراك الثامن والخمسون:

قال الدكتور: «وقد استفتى أهلُ المدينة مالك بن أنس في الخروج مع ذي النفس الزكية فأفتاهُم مالك بالجواز؛ لأن بيعتهُم لأبي جعفر المنصور كانت تحت الإكراه، ولا بيعةَ لمكره، فلما أفتاهم مالَ الناسُ مع محمد ذي النفس الزكية وبايعوه، وقاتلوا معه وقد عُذِّبَ مالك لهذا السبب»

(2)

.

تقدَّم - بفضل الله - ردُّ هذا من أوجه ثلاثة

(3)

.

الاستدراك التاسع والخمسون:

قال الدكتور: «وقد أفتى سفيان الثوري بجواز الخروج مع إبراهيم، فسارعَ أهلُ الكوفة فيها» (2).

عزا الدكتور هذا إلى تاريخ بغداد، وبالرجوع إلى تاريخ بغداد

(4)

يتبيَّن عدمُ صحة نسبته لسفيان الثوري، ففي الأثر يقول: «جاءني نعيُ أخي من العراق

- وخرج مع إبراهيم بن عبد الله الطالبي - فقدمتُ الكوفة، فأخبروني أنه قتل وأنه قد استشار سفيان الثوري وأبا حنيفة، فأتيتُ سفيان أُنبئه مصيبتي بأخي، وأخبرتُ أنه استفتاك؟ قال: نعم، قد جاءني فاستفتاني، فقلتُ: ماذا أفتيته؟ قال: قلت: لا آمركَ بالخروج ولا أنهاك، قال: فأتيتُ أبا حنيفة، فقلت له بلغني أنَّ

(1)

الطبقات الكبرى (7/ 120).

(2)

(ص: 151).

(3)

تقدم (ص: 218).

(4)

تاريخ بغداد وذيوله (13/ 384).

ص: 377

أخي أتاك فاستفتاك؟ قال: قد أتاني واستفتاني، قال: قلت: فبم أفتيته؟ قال: أفتيتُه بالخروج، قال: فأقبلتُ عليه فقلت: لا جزاكَ الله خيرًا، قال: هذا رأيي، قال: فحدثتهُ بحديثٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الردِّ لهذا، فقال هذه خرافة - يعني حديث النبي صلى الله عليه وسلم».

إن الإشكال في نسبة الخروج للإمام سفيان الثوري؛ أمَّا أبو حنيفة فتقدَّم بحث أنه تراجع عن قوله بالخروج

(1)

، أمَّا نسبة الدكتور الخروج للثوري فهي نسبةٌ باطلة؛ فلم يأمر به سفيان الثوري كما أنه لم ينهَهُ كما في النصِّ المذكور، ومع ذلك فالأثر باطل؛ لأنَّ في إسناد هذا الأثر يزيد بن يوسف وهو الصنعاني، قال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وضعَّفه أبو داود وابن معين كما في التهذيب.

والعجيبُ أن الدكتور لا يتكلَّم على أسانيد ما يعضدُه مما يوردُه في كتابه إذا كان ضعيفًا، بل يسكت، وإذا كان إسناده صحيحًا بين ذلك، وهذا خلل في الأمانة العلمية؛ فإنَّ أهلَ السنة يذكرون ما لهم وما عليهم.

ومما يدلُّ أيضًا على أنَّ الإمام الثوري على عقيدة أهل السنة في السمع والطاعة أمران:

الأمر الأول: قال الثوري: «يا شعيبُ؛ لا ينفعكَ ما كتبت حتى ترى الصلاةَ خلف كلِّ برٍّ وفاجرٍ، والجهادَ ماضيًا إلى يوم القيامة، والصبرَ تحت لواء السلطانِ جارَ أم عدلَ»

(2)

.

(1)

تقدم (ص: 166).

(2)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 173).

ص: 378

الأمر الثاني: تحذير الثوري من الحسن بن صالح بن حي لأنه كان يرى السيف - كما تقدم -

(1)

.

الاستدراك الستون:

نقل الدكتور

(2)

كلام ابن حزم وفيه نسبة الخروج لأقوامٍ من الصحابة وغيرهم، وقد سبقَ ردُّ كلام ابن حزم

(3)

.

الاستدراك الواحد والستون:

نقل الدكتور

(4)

كلام ابن حجر في التفريق بين الخوارج والبغاة، وتقدَّم الكلامُ عليه في الردِّ على الدكتور الدميجي

(5)

.

الاستدراك الثاني والستون:

ذكر الدكتور (4) كلام أبي بكر الجصاص في نسبة الخروج لأبي حنيفة، وسبقَ بيانُ أنَّ أبا حنيفة رجعَ عن هذا القول

(6)

.

الاستدراك الثالث والستون:

نقل الدكتور (4) كلام ابن العربي في قول مالك: إنَّما يقاتل مع الإمام العدل.

(1)

تقدم (ص: 177).

(2)

(ص: 161).

(3)

تقدم (ص: 173).

(4)

(ص: 162).

(5)

تقدم (ص: 264).

(6)

تقدم (ص: 165).

ص: 379

وتقدم الكلام عليه

(1)

.

الاستدراك الرابع والستون:

قال الدكتور حاكم العبيسان في الفرقان: «ولا خلافَ بين الأئمة وسلفِ الأمة على أنه إن كان الخارجُ عدلًا - كالحسين بن علي وابن الزبير - والإمامُ جائرًا - كيزيد - أنه يحرمُ القتالُ مع الجائر»

(2)

.

هذه مبالغة من حاكم العبيسان، ولا يستغرَبُ من مثلهِ هذه الاندفاعات والحماسات والمبالغات

والردُّ عليه - باختصار - من جهتين:

الجهة الأولى: الأدلة الشرعية:

الدليل الأول: قال عرفجة الأشجعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ستكونُ هَناتٌ وهَنات، فمَن أرادَ أن يفرِّقَ أمرَ هذه الأمة وهي جميعٌ، فاضربوهُ بالسَّيفِ كائنًا مَنْ كان»

(3)

.

الدليل الثاني: قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويعَ لخليفتين فاقتلوا الآخرَ منهما»

(4)

.

(1)

تقدم (ص: 167).

(2)

(ص: 71).

(3)

سبق تخريجه (ص: 191).

(4)

أخرجه مسلم (1853).

ص: 380

الجهة الثانية:

أقوال أهل العلم الناقضة لهذا الإجماع المدَّعى وهذه النقولات؛ إمَّا أنها منصوصةٌ حتى في الحاكم الجائر، أو بألفاظٍ عامة تشمَلُ حتى الجائر؛ لأن الحكمَ لو كان خاصًّا بالعدل لخصَّه هؤلاءِ العلماء، فلما لم يخصُّوه دلَّ على عمومه.

قال النووي: «قال القفال، وسواءٌ كان الامام عادلًا أو جائرًا فإنَّ الخارجَ عليه باغٍ»

(1)

.

وقال الصنعاني: «دلَّت هذه الألفاظ على أنَّ من خرجَ على إمامٍ قد اجتمعت عليه كلمةُ المسلمين؛ والمرادُ أهلُ قُطرٍ كما قلناه، فإنه قد استحقَّ القتل لإدخاله الضَّرر على العباد؛ وظاهرهُ سواءٌ كان جائرًا أو عادلًا، وقد جاء في أحاديث تقييدُ ذلك بما أقاموا الصلاة. وفي لفظ: ما لم تروا كفرًا بواحًا»

(2)

.

وقال ابن قدامة: «قومٌ من أهل الحق، يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعَهُ لتأويلٍ سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفِّهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة، الذين نذكر في هذا الباب حكمَهُم، وواجبٌ على الناس معونة إمامهم، في قتال البغاة؛ لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأنهم لو تَركوا معونته، لقهرهُ أهلُ البغي، وظهرَ الفساد في الأرض»

(3)

.

وقال أيضًا: «فمَن خرجَ على من ثبتتْ إمامتُه بأحد هذه الوجوه باغيًا، وجبَ قتالُه، ولا يجوزُ قتالهم حتى يَبعث إليهم مَنْ يسألهم، ويكشفَ لهم

(1)

المجموع شرح المهذب (19/ 198).

(2)

سبل السلام (2/ 378).

(3)

المغني (8/ 526).

ص: 381

الصواب، إلَّا أن يخاف كَلَبَهُم؛ فلا يمكن ذلك في حقِّهم»

(1)

.

ثم يقال: قد تقدَّم تفصيلُ أنَّ ابن الزبير رضي الله عنه لم يخرج؛ فإنَّ الحكم قد ثبت له

(2)

، وتقدَّم تفصيل أنَّ الحسين بن علي رضي الله عنهما ندم على قتاله ليزيد وأنه قُتل مظلومًا، وأيضًا لم يخرج، وأنكرَ عليه غيرهُ من الصحابة

(3)

.

وسببُ اندفاع حاكم العبيسان على حكاية هذا الإجماع أصلُه الفاسدُ في تقرير جواز خروج الأمةِ على الحاكم الجائر، فتكون إعانةُ الحاكم على قتالِ مَنْ خرج عليه إعانةً على الإثم والعدوان، وقد أجمعَ العلماء على حُرمة إعانته على الإثم والعدوان، ولو وُفِّق العبيسان لعَلِمَ أنَّ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا كلام العلماء على القتال مع الحاكم حتى ولو كان جائرًا إذا خرجَ عليه مَنْ ينازعه في حكمه دليلٌ على عدمِ جَواز الخروج على الحاكم ولو كان جائرًا.

وتقدَّم ذِكْرُ الأدلة والإجماعات على عدم جَواز الخروج على الحاكم المسلم

(4)

.

الاستدراك الخامس والستون:

نقل الدكتور

(5)

كلام الزبيدي في نسبة الخروج إلى الشافعي في القديم. وسبقَ ردُّه وبيانُ خطأ هذه النسبة

(6)

.

(1)

المغني (8/ 527).

(2)

تقدم (ص: 162).

(3)

تقدم (ص: 154).

(4)

تقدم (ص: 39).

(5)

(ص: 162).

(6)

تقدم (ص: 182).

ص: 382

الاستدراك السادس والستون:

قال الدكتور: «ومع شهرة هذه المسألة - أي الخروج على الإمام الجائر ومقاومة طغيان السلطة، والتصدِّي لانحرافها - في الصَّدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباعهم، إلَّا أنَّ فترة الخطاب الفقهي السياسي المؤول شهدت تطورًا فكريًّا جديدًا، هو أكثر تعبيرًا عن الواقع منه عن النصوص، حيث ادَّعى ابنُ مجاهد البصري الأشعري - شيخ الباقلاني - إجماعَ الأمة على حُرمة الخروج على أئمة الجور - ثم نقلَ كلام النووي والقاضي في حكاية الإجماع بعد خلاف، ثم قال - وكما شاعت في كتب الاعتقاد، ثم ما لبثت أن أصبحت أصلًا من أصل العقيدة - ثم نقل كلام ابن تيمية في استقرار رأي السلف على عدم الخروج، ثم نقل كلامًا لابن أبي العز الحنفي في مفاسد الخروج، ثم قال: وهكذا تحوَّلت القضية من قضيةٍ خلافية اجتهادية إلى قضيةٍ إجماعية قطعية.

ومن مسألةٍ فقهية إلى أصلٍ عقائدي يُستدلُّ عليه بمثل هذه الإسرائيليات!؛ وبهذا دخلَ الخطابُ السياسي الفقهي مرحلةً جديدة قام العلماءُ فيها بتأويل النصوص لإضفاء الشرعية على الواقع وترسيخه»

(1)

، ثم بيَّن أن الكوارث التي نزلت بالأمة بسبب عقيدة الصَّبر على جَور الحاكم وحُرمة الخروج.

وفي هذا مغالطات عدة:

المغالطة الأولى: بين أن عقيدة الصبر على جَور الحاكم نتيجة ضغط الواقع، وكأنه لم يقرأ الأدلة الشرعية المتكاثرة في هذا مع أقوال الصحابة، ثم إجماع أهل السنة الذي حكاه جمعٌ كثير.

(1)

(ص: 163).

ص: 383

أليست الأحاديث النبوية وحيًا يجبُ الإيمان بها؟، أليس كلامُ الصحابة كان قبل الفتن وضغط الواقع لاسيما عمر؟، والعجبُ كيف لا يستحي أن يبهتَ هؤلاء العلماء وفيهم - شيخُ الإسلام - بأنهم قرَّروا باطلًا وحكَوا عليه إجماعًا لأجل ضغط الواقع؟!

ألم يعلم أنَّ ابن تيمية ماتَ في السجن لأجل دينهِ الذي يتديَّن به؟ أمثلُ هذا يوصَفُ أنه تكلَّم بعقيدةِ السمع والطاعة لأجل الحكَّام وضغطِ الواقع؟!!

المغالطة الثانية: إنَّ هذه العقيدة أصلٌ من أصول الشريعة؛ لأنَّ أهل البدع اشتهروا بمخالفتها؛ مثل الخوارج ومَن تأثَّر بهم، فقد نازعوا فيها؛ لذا تتابعَ أئمة السنة بإيرادها في كتب العقائد.

ثمَّ إنَّ ذِكْرَ هذه العقيدة في كتب الاعتقاد أو عدم ذكرها ليس مؤثِّرًا كثيرًا ما دام أئمة السنة مجمعين عليها، ومجمعين على تبديع مَنْ خالفَها؛ لكثرة الأدلة والآثار.

المغالطة الثالثة: ذمُّ الاستدلال على هذه العقيدة - وهي عقيدة السمع والطاعة - بالإسرائيليات، وكأن هذه الإسرائيليات هي المعتمد!!.

وقد تقدَّم مرارًا أنَّ المعتمد الأدلة المتكاثرة مع فتاوى الصحابة، ثمَّ إجماع أهل السنة عليها وعلى تبديعِ من خالفَ فيها، فإذا ذُكر شيءٌ من الإسرائيليات اعتضادًا فلا عَيب، فقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«بلِّغوا عنِّي ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»

(1)

.

المغالطة الرابعة: زعَم أنَّ كثيرًا من المفاسد التي حلَّت بالأمة بسبب عقيدة الصَّبر على جَور الحاكم، وهذا عكسُ تقرير الصحابة وعلماء الأمة، فتقدَّم النقلُ

(1)

أخرجه البخاري (3461).

ص: 384

عن أبي مسعود وابن مسعود وكثيرٍ من أئمة السنة أنَّ الصَّبر على جَور الحاكم خيرٌ من مواجهته

(1)

، وأنه من دفعِ مفسدةٍ أكبرَ بمفسدةٍ أصغر.

فهل يصحُّ لعاقلٍ أن تحدِّثه نفسهُ بصحةِ كلام حاكم العبيسان داعيةِ الحرية المفرِطة المخالفِ للنصوصِ الشرعية وكلامِ الصحابة وعلماء الأمة؟!

الاستدراك السابع والستون:

قال الدكتور حاكم عبيسان: «وهكذا تحوَّلت القضية من قضيةٍ خلافيةٍ اجتهادية إلى قضيةٍ إجماعية قطعية؟! ومن مسألة فقهية إلى أصل عقائدي»

(2)

.

هذه محاولة من الدكتور للتهوين من مسألة الخروج على الحاكم، وأنَّى له ذلك من أوجه:

الوجه الأول: لو لم تكن المسألة عقدية فإنها مسألة إجماعيةٌ؛ والنصوصُ متكاثرةٌ عليها وتقدَّم بيان هذا

(3)

.

الوجه الثاني: أنَّ ما يُذكَر في كتب العقائد نوعان: إمَّا أنها من أصول الإيمان الستة وما يتعلَّق بها، أو من المسائل التي اشتهر عن أهل البدع مخالفةُ أهل السُّنة فيها، فذكَرها أهلُ السُّنة في كتب الاعتقاد، فصارت بعد ذلك عقدية لذِكْرها في كتب الاعتقاد، ومثل هذه مسألة الخروج على الحاكم المسلم ولو كان جائرًا.

الوجه الثالث: أنَّ كتب أهل السُّنة تواردت على تقرير حُرمة الخروج على الحاكم المسلم ولو فسقَ وجارَ؛ كأصول السنة للإمام أحمد، والسنة لعبد الله بن

(1)

تقدم (ص 154).

(2)

الحرية والطوفان (ص: 165).

(3)

تقدم (ص: 39).

ص: 385

الإمام أحمد، والسنة لحرب الكرماني، والسنة لابن أبي عاصم، وعقيدة ابن المديني، والرازيين، والشريعة للآجري، والإبانة الكبرى والصغرى لابن بطة، إلى لمعة الاعتقاد لابن قدامة، والواسطية لابن تيمية، وهكذا

وإنَّ تَقصِّي وجمعَ أسماءِ الكتب العقَدية التي ذكرتْ عقيدة السمع والطاعة يحتاجُ لجهدٍ، ويصحُّ أن يكون مؤلَّفًا لكثرتهِ، وبعد هذا يُزهِّد في هذه المسألة العقدية!!

الوجه الرابع: أنه لا أثرَ كبيرٌ يترتب على كون مسألة الخروج عقديةً أو فقهية؛ لأنَّ العلماء مُجمعونَ على أنَّ من خرجَ على حاكمٍ مسلم ولو ظالمًا فإنه مبتدعٌ ضالٌّ، كما تقدَّم نقلُ كلام الإمام أحمد وعلي ابن المديني وغيرهما

(1)

.

الاستدراك الثامن والستون:

قال الدكتور حاكم: «إنَّ الأسباب التي أدَّت إلى شُيوع هذا الخطاب المؤوَّل كثيرة أهمُّها:

1 -

نظَرُ أصحاب هذا الخطاب إلى حوادث التاريخ نظرةً جزئية لا نظرةً كلية، فظنُّوا أن كلَّ خروجٍ لم يترتب عليه سوى الفساد، قال الإمام ابن القيم:

«الإنكارُ على الملوك والخروجُ عليهم أساسُ كلِّ شرٍّ وفتنةٍ إلى آخر الدهر» ، ولم ينظروا إلى الحوادث التي ترتَّب عليها كثير من الصَّلاح، فقد خرجَ ابنُ الزبير على يزيد وكان عهدُه خيرًا من عهد يزيد، وخرجَ العباسيون على بني أمية، وكان عصرُهم خيرًا من عصر بني أمية - في الجملة - وقد كان أحمد بن حنبل يفضِّلهم ويقول:«أقاموا الصلاة وأحيوا السنة» ، وقد أسقطَ صلاحُ الدين دولةَ الفاطميين؛ وكان عصرهُ خيرًا من عهدهم، وظهرَ شيخُ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأقامَ

(1)

تقدم (ص: 39).

ص: 386

دولته مع محمد بن سعود، وكان عصرُهم خيرًا ممن قبلهم

الخ»

(1)

.

في هذا الكلام عدة مغالطات:

المغالطة الأولى: استدراكهُ على ابن القيم، وهذا ما لا يصحُّ لعدة أمور:

الأمر الأول: هذا الكلام من ابن القيم لم ينفرد به، بل هو قول ابن عبد البر وابن تيمية وغيرهم من أهل العلم، فهل كلُّ هؤلاء العلماء الأفذاذ نظرتُهم جزئية ونظرةُ حاكم عبيسان كلية؟!.

الأمر الثاني: لو كانت النظرة الكلية دالَّةً على أنَّ منافعَ الخروج أكثر لما حرَّمتها الشريعة، وتقدَّم ذِكْرُ الأدلة الكثيرة وآثار الصحابة والإجماعات على حُرمة الخروج

(2)

.

الأمر الثالث: قد يكون وراءَ الخروج مصلحةٌ أحيانًا لكنَّها قليلة ونادرة، والعبرةُ في الأحكام الشرعية بالغالب، وقد تقدَّم بيان هذا

(3)

.

الأمر الرابع: زاد العبيسان على جهله وقاحةً في كتابه (الفرقان) بعد إصراره على تخطئة ابن القيم في كلمته السابقة فقال: «ولو صدرت هذه العبارة من غير ابن القيم لحكم هؤلاء الخلوفُ بردَّتهِ وكُفرهِ أو بضلالهِ وبدعتهِ؛ إذْ أساسُ كلِّ شرٍّ وفتنةٍ في الأرض هو الكفرُ بالله وعبادةُ الطاغوت والتحاكُم إليه؛ وليس الخروج على الملوك»

(4)

.

(1)

(ص: 166).

(2)

تقدم (ص: 35).

(3)

تقدم (ص: 178).

(4)

(ص: 68).

ص: 387

يقال لحاكم العبيسان: قد أبعدتَ النُّجعة؛ مما يدلُّ على أنَّ في نفسك شيئًا على ابن القيم، فإنَّ عبارة «أساس كلِّ فتنة» في كلام ابن القيم بمعنى «أوَّل كلِّ فتنةٍ وشرٍّ» ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن باب الفتنة يُكسَر إذا مات عمر.

وبدأت الفتنة في وقت عثمان بأنْ خرجَ عليه البغاة حتى قتلوه، فاستمرت الفتنة في المسلمين.

عن حذيفة، قال: كنَّا جلوسًا عند عمر رضي الله عنه، فقال: أيُّكم يحفظُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة، قلتُ: أنا كما قاله؛ قال: إنكَ عليه أو عليها لجريء، قلت:«فتنةُ الرَّجل في أهلهِ ومالهِ وولدهِ وجارهِ، تكفِّرها الصلاةُ والصومُ والصَّدقة، والأمرُ والنهي» ، قال:«ليسَ هذا أُريد، ولكن الفتنة التي تموجُ كما يموجُ البحر» ، قال: ليسَ عليكَ منها بأسٌ يا أمير المؤمنين، إنَّ بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: أيُكسَر أم يُفتح؟ قال: يُكسَر، قال: إذًا لا يُغلَق أبدًا

(1)

.

ولما كان حاكم عبيسان سيِّء الظنِّ بهؤلاء العلماء أبتْ نفسُه إلَّا التكلُّف في ردِّ كلامهِم والتشغيب عليهم.

المغالطة الثانية: زعمُه أنَّ عبد الله بن الزبير خرجَ على يزيد، وتقدَّم خطأُ هذا الزَّعم.

وكذلك زعمُه أنَّ الإمام محمد بن سعود مع الإمام محمد بن عبد الوهاب خرجا على الدولة العثمانية، وتقدَّم خطأُ هذا.

وكذلك من أخطائه زعمهُ أنَّ صلاح الدين خرج على الفاطميين، وهذا خطأ لأنه لم يخرج

(2)

، ثم جعل العباسين خيرًا من بني أمية في الجملة. وهذا فيه نظر

(1)

أخرجه البخاري (525)، ومسلم (144).

(2)

بل بقي تحت حكمهم حتى موت العاضد. ينظر البداية والنهاية (16/ 451)

ص: 388

لأنه في عهد العباسيين دُعِيَ إلى القول بخلق القرآن وترجمت كتب اليونان، وهذا لم يكن في عهد الأمويين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ثمَّ السُّنة كانت قبل دولة بني العباس أظهرَ منها وأقوى في دولة بني العباس، فإنَّ بني العباس دخلَ في دولتهم كثيرٌ من الشيعة وغيرُهم من أهل البدع»

(1)

.

ويؤيِّد أنَّ الأمويين خيرٌ من العباسيين في الجملة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يأتي زمان إلَّا والذي بعده شَرٌّ منه»

(2)

، وحديث:«خيرُ الناس قرني ثم الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم»

(3)

.

الاستدراك التاسع والستون:

ذكر الدكتور حاكم الأسبابَ التي أدَّت إلى اعتقاد الصَّبر على جَور الحاكم عقيدةً، فكان مما قال:

«خَلْطُهم بين مفهوم الخروج السياسي لمواجهة طغيان السُّلطة دفاعًا عن الأمة ورفعًا للظُّلم عنهم، ومفهوم الخروج العقائدي الذي يستحلُّ أصحابه دماءَ المسلمين وأموالهم ويكفِّرونهم، وهُم الذين جاءت النصوص بذمِّهم»

(4)

.

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 130).

(2)

أخرجه البخاري (7068) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(4)

ص: 389

وهذا الكلام مردود من أوجه:

الوجه الأول: تقدَّم ذِكرُ الفرق بينهما

(1)

، ونقل كلام علماء الإسلام في الفرق بينهما، ثم بيانُ كلام العلماء في أنَّ الخارجَ خروجًا عقديًّا أو خروجًا بلا عقيدة الخوارج = أنه مبتدعٌ ولا فرقَ بينهما في التَّبديع.

الوجه الثاني: تقدم

(2)

حديث: «مَنْ أتاكُم وأمركُم جميعٌ على رجُلٍ واحد، يريدُ أن يشقَّ عَصاكُم، أو يفرِّقَ جماعتكُم، فاقتلُوه» ، فهو دالٌّ على قتال مَنْ خرجَ على السُّلطان خروجًا عمليًّا بلا عقيدةِ الخوارج (سياسيًّا)، وتقدَّم نقل كلام ابن تيمية في قتله لأنه من المفسدين في الأرض

(3)

.

الوجه الثالث: أن الذين خرجوا في الحرة لم يكن معهم اعتقاد الخوارج؛ فلم يكن خروجًا عقديًّا ومع ذلك أنكر عليهم ابن عمر. أخرجه مسلم.

قال نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمرِ الحرَّة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتِكَ لأجلس، أتَيتُكَ لأحدِّثك حديثًا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله؛ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«مَنْ خلعَ يدًا من طاعة، لقيَ الله يومَ القيامة لا حُجَّة له، ومَن ماتَ وليس في عُنقهِ بيعة، ماتَ مِيتةً جاهلية»

(4)

.

(1)

تقدم (ص: 188).

(2)

تقدم (ص: 161).

(3)

تقدم (ص: 191).

(4)

أخرجه مسلم (1851).

ص: 390

وذكر ابنُ كثير وقعة الحرَّة التي كانت لأهل المدينة فقال: «وكان سببُ وقعة الحرة أنَّ وفدًا من أهل المدينة قدموا على يزيد بن معاوية بدمشق، فأكرَمهُم وأحسنَ جائزتهم، وأطلقَ لأميرِهم - وهو عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر - قريبًا من مائة ألف، فلما رجعوا ذكروا لأهليهم عن يزيد ما كان يقع منه من القبائح في شربه الخمر، وما يتبع ذلك من الفواحش التي من أكبرها تركُ الصلاة عن وقتها بسبب السُّكر، فاجتمعوا على خلعهِ، فخلعوه عند المنبر النبوي، فلما بلغه ذلك بعثَ إليهم سريَّة يقدُمها رجل يقال له: مسلم بن عقبة.

وإنَّما يسمِّيه السلف مسرف بن عقبة، فلما ورد المدينة استباحها ثلاثة أيام، فقتل في غبون هذه الأيام بشرًا كثيرًا حتى كاد لا يفلت أحد من أهلها، وزعمَ بعضُ علماء السلف أنه افتضَّ في غبون ذلك ألف بكر - فالله أعلم -.

وقال عبدالله بن وهب عن الإمام مالك: قُتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حمَلة القرآن. حسبتُ أنه قال: وكان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في خلافة يزيد»

(1)

.

الوجه الرابع: أظهر الدكتور نفسه معظِّمًا وعالمًا بالنصوص ووصفَ غيره

- ولازِمُ هذا الوصف أنه لجميع أئمة السنة - أنهم خلَطوا بين النصوص.

وهذا الكلامُ باطلٌ عاطلٌ، وحكايتهُ كافية عن بيان سقوطهِ وهُزاله، ولو قُبل من أحد - تنزُّلًا - فإنه يُقبل من رجل يعظِّم النصوص ويردُّ متشابهها إلى مُحكمَها؛ لا من رجل يضربُ النصوصَ بعضَها ببعض ويتأوَّلها تأويلَ أهل البدع كما اتَّضح في كلامه الكثير الذي رددتُ عليه.

(1)

البداية والنهاية (9/ 245).

ص: 391

الاستدراك السبعون:

قال الدكتور حاكم ذاكرًا أسبابَ اعتقاد عقيدة الصَّبر على جَور الحاكم:

«ومن الأسباب أيضًا شيوعُ روحِ الجبر من جهةٍ والإرجاءِ من جهة، بشيوع المذهب الأشعري الذي يتضمَّن عقيدةَ الجبر: وهو أنَّ الإنسانَ غير فاعل لأفعاله على الحقيقة، بل على سبيل المجاز»

(1)

.

هذه سخافةٌ فاضحة خلاصتُها: أنَّ عقيدة الصَّبر على جَور الحاكم المسلم الظَّالم لم تظهر إلَّا بعد ظهور الأشاعرة، وهذا كذبٌ ودجَل من أوجه:

الوجه الأول: أنَّ هذه العقيدة مأخوذةٌ من القرآن ونصوص نبوية كثيرة تقدَّم ذِكرُ بعضها مما في الصحيحين أو أحدهما

(2)

.

الوجه الثاني: أنَّ كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان ثم أئمة السنة في هذا كثيرٌ وكثير، وقد تقدَّم نقلُ بعضه

(3)

.

قال الزبير بن عدي: أتينا أنسَ بن مالك، فشكَونا إليه ما نلقى من الحجَّاج، فقال:«اصبروا، فإنَّه لا يأتي عليكُم زمانٌ إلَّا الذي بعدَهُ شرٌّ منه، حتى تلقوا ربَّكُم» سمعتُه من نبيكم صلى الله عليه وسلم

(4)

.

فهل كان أنس بن مالك أشعريًّا أو جبريًّا؟!!

(1)

(2)

تقدم (ص: 37).

(3)

تقدم (ص: 154).

(4)

سبق تخريجه (ص: 155).

ص: 392

قاتلَ الله الهوى كيفَ يُردي صاحبه المهالك، ويجعله يهرفُ بما يُضحِكُ عليه الصِّبيان.

الوجه الثالث: ذكَر هذه المسالة أئمةُ السنة قبل خروج الأشاعرة، وحكَوا عليها إجماعَ أهل السنة؛ كالإمام أحمد وابن المديني؛ وقد تقدَّم نقلُ بعضه

(1)

.

وإنَّ من قرأ هذه السخافات والترهات علمَ قدرَ الهوى الذي عند حاكم العبيسان، وعلمَ قدْرَ استخفافهِ بقرائه.

الاستدراك الواحد والسبعون:

قال الدكتور حاكم: «كما طرأ خلافٌ في المرحلة الثانية في هذه القضية؛ وهو: هل تصرُّف الإمام على الأمة بطريق الوكالة أو الولاية؟»

(2)

.

تقدم أنه لا يصحُّ أن يُقال إنَّ تصرُّفَ الإمام على جهة الوكالة؛ لأنه على ذلك يصحُّ عزلهُ؛ لأنَّ للموكِّل عزلَ وكيله. وتقدم بيان خطأ هذا، وأنه مخالفٌ للأدلة وإجماع السلف، وأنه لا يقال في تصرُّفه إنه تصرفُ وكيلٍ أو ولي

(3)

.

الاستدراك الثاني والسبعون:

قال الدكتور: «وكان عمر إذا استعمل رجلًا كتب في عهده: أن اسمَعوا لهُ وأطيعوا ما عدلَ فيكم.

(1)

تقدم (ص: 39).

(2)

(ص: 177).

(3)

تقدم (ص: 143).

ص: 393

وكتب إلى أهل الكوفة (مَنْ ظلَمهُ أميرهُ فلا إمرةَ له عليه دوني، فكان الرجل يأتي للمغيرة بن شعبة - أمير الكوفة - فيقول: إمَّا أن تنصفني من نفسك، وإلَّا فلا إمرةَ لكَ علي)»

(1)

.

قد سبقَ توجيهُ هذا، وبيانُ عدمِ صحة الاستدلال به

(2)

.

الاستدراك الثالث والسبعون:

قال الدكتور: «لقد غابت المفاهيمُ التي تمثِّل مبادئ الخطاب السياسي الشرعي المنزَّل، وشاعَ مفهوم: «اسمَعْ وأَطِعْ وإنْ أخذَ مالكَ وضربَ ظهرك» ، وحُمِّل هذا اللفظ ما لا يحتمل، بل صار بعد ذلك أصلًا من أصول الاعتقاد، بل هو السُّنة والإجماع، ومَن خالفه رُمي بالابتداع؟!، مع أنَّ الحديث يمكن أن يُحملَ على وجوب الطاعة للإمام حتى لو أقامَ الإمامُ الحدَّ على المسلم، أو قضى عليه لخصمه من مالهِ بالحق، ولا يكونُ ذريعةً للخروج عليه، أو ترك طاعته فيما فيه طاعةٌ لله ورسوله، وبهذا المفهوم الجديد اكتملت حلقتا البطان، وفُتح الطريق على مصراعيه للاستبداد السياسي والظلم

»

(3)

.

هذا من الدكتور استنكار لمعنى الحديث مع أنه مُجمَعٌ على معناه عند أهل السنة، بل وذكَر الإجماعَ عليه ابنُ المنذر أيضًا - كما تقدم -

(4)

، وليس في الحديث ذِكرٌ لحكم جديد، وإنما هو تفصيلٌ لما جاء مجملًا في الأحاديث الكثيرة من الصبر

(1)

(ص: 180).

(2)

تقدم (ص: 236).

(3)

(ص: 181).

(4)

تقدم (ص: 238).

ص: 394

على جَور الحاكم الظالم - وتقدَّم بيانُ صحة الحديث روايةً ودراية

(1)

، وقد قال بنحوه عمر بن الخطاب - كما تقدم -

(2)

.

فما أغرَبهُ؟! .. يردُّ الشرعَ المنزَّل الذي دلَّ عليه الكتابُ والسُّنة وأقوالُ الصحابة والإجماع، وقرَّره العلماء في كتب العقائد باسم الغَيرة على الشرع المنزل بدون برهان إلَّا الحماسة، وتسويد الورق بكلامٍ كثيرٍ باطل، وعن الأدلة الشرعية عاطل.

الاستدراك الرابع والسبعون:

قال الدكتور: «لقد كان المنعُ من الخروج حُكمًا معللًا، وأن يأمن الناس وتُقام الحقوق والحدود والجهاد

الخ، فإذا فاتت هذه المقاصد فلا معنى للمنع من إسقاط السلطة - إذا استطاعت الأمة -»

(3)

.

تقدم ردُّ هذا القول عند كشف الشبهات

(4)

.

الاستدراك الخامس والسبعون:

قال الدكتور: «قال العلامة المعلِّمي: «كان أبو حنيفة يستحبُّ أو يوجبُ الخروجَ على خلفاء بني العباس لما ظهر منهم من الظُّلم، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار، وأبو إسحاق يُنكر ذلك، وكان أهلُ العلم مختلفين في ذلك فمن كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شقٌّ لعصا المسلمين وتفريقٌ لكلمتهم وتشتيتٌ لجماعتهم وتمزيقٌ

(1)

تقدم (ص: 237).

(2)

تقدم (ص: 238).

(3)

(ص: 183).

(4)

تقدم (ص: 178).

ص: 395

لوحدتهم وشغلٌ لهم بقتلِ بعضهِم بعضًا، فتهُنْ قوَّتهم وتَقوى شوكةُ عدوِّهم وتتعطَّل ثغورُهم، فيستولي عليها عدوُّهم .. هذا والنصوص التي يحتجُّ بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة، والمحقِّقون يجمعون بين ذلك بأنه إذا غلبَ على الظَّن أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخفُّ جدًّا مما يغلب على الظَّن أنه يندفع به جاز الخروجُ وإلَّا فلا، وهذا النظر قد يختلف فيه المجتهدان»

(1)

.

فرح الدكتور حاكم بهذا النقل عن الشيخ عبد الرحمن المعلمي؛ فَرحَ من وجدَ ما يوافقُ هواه، وهذا ما لا يصحُّ شرعًا، فإنَّ العباد الصادقين مُطالَبون بترك أهوائهم لا البحث عمَّا يوافقها من زلَّات العلماء وهفواتهم، وكلامُ المعلِّمي هذا هفوةٌ وزلَّة، وقد سبقَ بيانُ ذلك من أوجه خمسة، وأنَّ له كلامًا آخر مخالفًا لهذا وافقَ فيه أهلَ السُّنة

(2)

.

الاستدراك السادس والسبعون:

قال الدكتور حاكم: «ودار الجدل حول جَواز الجهاد وإقامة الحقوق والحدود دون الإمام ونائبه - كما يقضي به الخطاب المؤول - فردَّ الشيخ بأنَّ «الأئمة مجمعون في كلِّ مذهب على أنَّ من تغلَّب على بلد أو بلدان له حكمُ الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا؛ لأنَّ الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمامٍ واحد، ولا يُعرف أن أحدًا من العلماء ذكر أنَّ شيئًا من الأحكام لا يصحُّ إلَّا بالإمام الأعظم

»

(3)

.

(1)

(ص: 184).

(2)

تقدم (ص: 220).

(3)

(ص: 250).

ص: 396

تناقضَ الدكتور حاكم العبيسان لمَّا عظَّم دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وجعلَها بعيدةً في باب الولاية عمَّا سمَّاه بالخطاب المؤول، وحقيقة دعوة الإمام دعوة سلفية تقرَّر السمع والطاعة للحاكم المسلم ولو كان فاسقًا، والصبرَ على جَوره وحُرمة الخروج عليه، فأوَّل الدكتور أنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب ممن سبق إلى إنكار الخطاب المسمَّى عنده بالخطاب المؤول، ثم نقلَ كلمة الإمام محمد في أنَّ من تغلَّب فلهُ حكمُ الإمام في كلِّ شيء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، فوقع الدكتور في تناقضَين:

التناقض الأول: أن يؤصِّل تأصيلًا بدعيًّا في إنكار الصَّبر على جَور الحاكم المتغلِّب، والإمامُ محمد بن عبد الوهاب يقرِّر هذا وينقلُ عليه الإجماع، ثمَّ ينقله الدكتور مقرًّا له؛ وهذا مخالفٌ لما أقامَ كتابه عليه.

التناقض الثاني: أنَّ الإمام علَّلَ بأنه لولا هذا - وهو معاملة المتغلب معاملة مَنْ تولَّى بالاختيار - لما استقامت الدنيا، وهذا ما ينكره الدكتور بغيًا أو جهلًا

- كما تقدم -

(1)

.

وبعد أن كتبتُ هذا وقفتُ على كلامٍ للدكتور الفاضل حمد العثمان - وفقه الله وسدَّده - فرأيتُه فهمَ ما فهمتُ من تناقض العبيسان، فقالَ بعد أن نقلَ كلامه في عدم صحّة إمامة المتغلِّب: «والدكتور العبيسان كعادته تناقضَ وردَّ على نفسه بنفسه، فإنه في موضعٍ آخر من كتابه (الطوفان) استدلَّ بكلام الإمام محمد بن عبد الوهاب في ردِّه على الخطاب المؤول حيث نقل عن شيخ الإسلام المجدِّد ابن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال: «الأئمة مجمعون في كلِّ مذهب على أن مَنْ تغلَّب

(1)

تقدم (ص: 308).

ص: 397

على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا» وكفى بالعبيسان رادًّا على نفسه»

(1)

.

ثم عقَّب العبيسان في كتابه (الفرقان) على الشيخ الفاضل حمد العثمان بتعقيبٍ عجيب ذكرَ فيه أنه يوافق الإمام محمد بن عبد الوهاب في تجديد وجوب قيام الأمة بما أمرَها به؛ من إقامةِ فروضِ الكفاية إذا عطَّلها الإمام أو أهمَلَها، وقدرتْ على القيام بها كالجهاد فقال:«فالذي جدَّد فيه الشيخ ووافقتهُ عليه هو وجوبُ قيام الأمة بما أمرَها الله به؛ من إقامة فروض الكفاية إذا عجَز الإمامُ أو عطَّلها وقدرت الأمة على إقامتها كالجهاد وإقامة الحقوق وهي التي عطَّلها الخطاب المؤول إلَّا بإذن الإمام أو نائبه!» ، ثم قال:«وليس كل ما احتجَّ به الشيخ على خصومه أوافقه أنا عليه، وإنما وافقته على وجوب الجهاد وإقامة الحقوق لمن قدر عليها ولا تتعطَّل بحالٍ من الأحوال»

(2)

.

وفي تعقيب العبيسان ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أنه لم يبيِّن في هذا الموضع عدمَ موافقته الإمام محمد بن عبد الوهاب على إمامة المتغلِّب، بل ساقَ الكلام مساق الثناء مما يدلُّ على إقراره.

الأمر الثاني: أن كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب صريحٌ في أن المتغلِّب يقومُ مقامَ الإمام الأعظم بالإجماع، وأنه يكون إمامًا شرعيًّا كالإمام الأعظم، فلذا يُعلَّق الجهاد به فلم يجعل الناس هم الذين يقومون بهذه الأحكام لا من قريب ولا من بعيد كما أرادَ أن يُفهمنا العبيسان لمَّا استدرك عليه، فهذا يؤكِّد أنه

(1)

(ص: 24).

(2)

الفرقان (ص: 23).

ص: 398

تناقضَ، ولو أقرَّ به لكان خيرًا من هذا الجواب الفاضح.

الأمر الثالث: أنه على فرض الاقتناع بجواب العبيسان في تخليص نفسه من التناقض فإنه ممَّا يُقطَعُ به = خطؤه في فهمِ كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب، وخطؤه فيما استنبطه منه. وهذا الأهم.

الاستدراك السابع والسبعون:

قال الدكتور: «وقد ظلَّت هذه الشبهة موجَّهةً لدعوة الشيخ حتى بعد وفاته، وأنَّ ما قام به محرَّم، وأنه خروج عن طاعة الإمام - الخليفة العثماني -، ولهذا نصَّ الفقيه الحنفي المصري ابن عابدين في الحاشية على أنَّ الشيخ وأتباعه خوارج»

(1)

.

إنَّ هناك فرقًا وبونًا شاسعًا بين الذي يوصف بأمرٍ وهو كذلك، ومَن يوصَفُ بأمرٍ كذبًا وبهتانًا، فإنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب بريءٌ من شُبهة الخروج، وكلامهُ وحالهُ يدلُّ على براءته من ذلك - كما تقدم بيانه -

(2)

.

أما الدكتور حاكم وأمثاله فهُم يصرِّحون بتبنِّي هذه الشبهة، وأنها الدِّينُ الحقُّ وما سواها فهو خطابٌ مؤول فلا سواءَ بينهما ألبته، وحاشا الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن يدعوَ إلى ما يدعو إليه هذا الدكتور؛ لأنَّ الإمام مجدِّد سلفي، والدكتور يضربُ بأقوالِ السلف عُرض الحائط.

(1)

(ص: 250).

(2)

تقدم (ص: 205).

ص: 399

الاستدراك الثامن والسبعون:

قال الدكتور: «وإنما أراد إثبات شرعية ما قام به الشيخ محمد ومن معه بجهادِ مَنْ اعترضَ طريقَ دعوتهم، وقال أيضًا: «بأي كتاب أم حجَّةٍ أن الجهاد لا يجبُ إلَّا مع إمام متَّبع؟ هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين، والأدلةُ على بطلان هذا القول أشهرُ من أن تُذكَر، من ذلك عمومُ الأمرِ بالجهاد والترغيبُ فيه والوعيدُ على تركه» ، ثم قال:«وكلُّ مَنْ قامَ بالجهاد في سبيل الله فقد أطاعَ الله وأدَّى ما فرَضَهُ الله، ولا يكونُ الإمامُ إمامًا إلَّا بالجهاد، لا أنه لا يكون جهاد إلَّا بالإمام»

(1)

، وفي الحاشية قال:«ومع هذا فقد صار هذا القولُ الذي تصدَّى عبد الرحمن بن حسن لبيان بطلانهِ أصلًا من أصول السلفية المعاصرة» .

طار الدكتور بهذا الكلام فرحًا، فوجده منفسًا للطعن في السلفية التي وصفَها (بالمعاصرة)، والجوابُ على كلام الدكتور من أوجه:

الوجه الأول: أن الأدلة ظاهرة وواضحة في أنه يجب إذنُ ولي الأمر في الجهاد، وهي كما يلي:

1 -

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّما الإمامُ جُنَّة يقاتَلُ من ورائهِ، ويُتَّقى به، فإنْ أمرَ بتقوى الله تعالى وعدلَ كان له بذلك أجرٌ، وإنْ يأمر بغيرهِ كان عليه منه»

(2)

.

(1)

(ص: 251).

(2)

أخرجه البخاري (2957)، ومسلم (1841).

ص: 400

فهذا خبر بِمعنَى الأمر، وهو نصٌّ فِي المسألة، قال النووي:«(الإمام جُنَّة): أي كالستر؛ لأنه يَمنع العدو من أذى المسلمين، ويَمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتَّقيه الناس، ويخافون سَطوته، ومعنَى يقاتل من ورائه: أي يُقاتل معه الكفار والبغاةُ والخوارج وسائرُ أهل الفساد والظُّلم»

(1)

.

وقال ابن حجر: «لأنه يَمنع العدوَّ من أذى المسلمين، ويكفُّ أذى بعضهِم عن بعضٍ، والمرادُ بالإمام: كلُّ قائمٍ بأمور الناس»

(2)

.

2 -

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله، فما ترى إنْ أدركنِي ذلك؟ قال: تلزمُ جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لَم تكن لَهُمْ جماعةٌ ولا إمام. قال: فاعتزلْ تلكَ الفرقَ كلَّها، ولو أن تعضَّ على أصل شجرة حتَّى يأتيك الموتُ وأنتَ على ذلك»

(3)

.

وجه الدلالة: أنه مأمورٌ بالتزام جماعة المسلمين وإمامهِم وألَّا يفارقهم. فإن قيل: الذي يذهب - الآن - إلى الجهاد هو ينتقل من جماعة مسلمين وإمامهم إلى جماعةِ مسلمين آخرين وإمامهم، فهو إذن ملازمٌ لجماعة المسلمين وإمامهم.

قيل: هذا لا يجوز وهو عينُ الغدرِ الذي نَهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الغادرَ يُنصَبُ لهُ لواءٌ يوم القيامة، يقال: هذا غَدرةُ فلان»

(4)

، وقد استدل به ابن عمر على حُرمة خلع البيعة من يزيد إلى ابن مطيع وابن حنظلة.

(1)

شرح مسلم (12/ 230).

(2)

فتح الباري (6/ 116).

(3)

أخرجه البخاري (3606)، ومسلم (1847).

(4)

أخرجه البخاري (6178)، ومسلم (1735).

ص: 401

ومن الأدلة أيضًا على حرمة مثل هذا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ خلعَ يدًا من طاعة لقيَ الله يومَ القيامة لا حجة له»

(1)

.

3 -

قاعدة: ما لا يتمُّ الواجبُ إلَّا به فهو واجب:

فهذه القاعدة دليلٌ على تعليق أمر الجهاد بولي الأمر وإلَّا لصار الأمر فوضى، ولتنازعَ الناسُ فيما بينهم، بل لعل بعضَهُم يقتلُ بعضًا، فهذا لا يرى الجهاد مناسبًا، والآخر يقاتله لتصوُّره أنه ينكرُ شرعيته، وآخرون يقاتلون طائفة مسلمةً ابتداء لظنِّهم كُفرَهُم وهكذا.

الوجه الثاني: ليس مراد الإمام عبد الرحمن بن حسن إنكار مُطلَق إذنِ وليِّ الأمر في الجهاد بل مُراده شيءٌ غير ما يذكره الدكتور، وهو إيجابُ إذن وليِّ الأمر في جهاد الدفع مع عدم وجود الإمام لذا نصَّ على قوله:«فإذا لم يوجد إمام فلا جهاد» .

ويؤكِّد هذا أن الإمام عبد الرحمن بن حسن جعلَ القول بإذن الإمام في الجهاد قولًا محدثًا ولا يمكن أن يكون هذا في مطلق إيجاب إذن الإمام في الجهاد؛ لأن إيجاب إذن الإمام في الجهاد مشهورٌ في كتب الحنابلة؛ كالمغني وغيره ولا يمكن يخفى عليه رحمه الله فضلًا عن أقوال بقية أهل العلم من المالكية وغيرهم.

ومما يدلُّ على أن مراده ما تقدَّم أن الشيخ عبد الرحمن عاشَ زمنًا بعد سقوط الدولة السعودية الأولى وقبل قيام الدولة السعودية الثانية فهو أدرَك وقتًا ليس للناس فيه إمام.

(1)

أخرجه مسلم (1851).

ص: 402

الوجه الثالث: لنفرضْ أنَّ الإمام عبد الرحمن بن حسن اختارَ هذا القول، وظنَّ أنه لا سلفَ لمن يقول بوجوب الإذن فقد أخطأ في ظنه، وأيضًا الأدلة تدلُّ على أنه يجب أخذُ إذنِ الإمام للجهاد، والعبرة بالأدلة. أمَّا أفراد أهل السنة فليسوا معصومين، بل يخطئون ويصيبون.

الاستدراك التاسع والسبعون:

ينقل الدكتور حاكم كلامًا طويلًا للإمام العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن ويثني عليه؛ مع أن فيه تقرير صحَّة بيعة المتغلِّب، قال الدكتور: «ومما يؤكِّد البَون الشاسع بين الفكر السلفي قبل ظهور الخطاب المبدَّل، والفكر السلفي بعد ظهوره ما جاء في رسالة العلامة السلفي الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ وموقفه من الأمير عبد الله الذي استعان بالدولة العثمانية على الأمير سعود حيث قال:

«وبعدُ تفهمونَ أنه لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، وقد حصل من التفرق والاختلاف والخَوض في الأهواء المضلَّة ما هَدَمَ من الدين أصلَهُ وفرعه، وطمس من الدين أعلامَه الظاهرة وشرعَه، وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها إلى بصَرٍ نافذ عند ورود الشبهات، وعقلٍ راجح عند حلول الشهوات، والقولُ على الله بلا علم والخوضُ في دينه من غير درايةٍ ولا فهم، فوقَ الشرك واتخاذ الأنداد معه، وقد صار لديكم وشاعَ بينكم ما يعزُّ حصرهُ واستقصاؤه، فينبغي للمؤمن الوقوفُ عند كلِّ همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه وإلَّا فحسبه السكوت» .

ثم قال: «وقد عرفتم أنَّ أمر المسلمين لا يصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية ولا تحصل الأركان الإسلامية، ولا تظهر الأحكام القرآنية، إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقةُ عذابٌ وذهابٌ في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قطُّ.

ص: 403

ومَن عرف القواعدَ الشرعية عرفَ ضرورة الناس وحاجتهم في دينهم ودنياهم إلى الجماعة والإمامة، وقد تغلَّبَ مَنْ تغلَّب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطوه حكم الإمامة، ولم ينازعوا كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أُخذت بالقهر والغلبة، وكذلك بعدَهم في عصر الطبقة الثالثة تغلَّب مَنْ تغلَّب وجرت أحكامُ الجماعة والإمامة، ولم يختلف أحدٌ في ذلك، وغالبُ الأئمة بعدَهُم على هذا القبيل وهذا النمط، ومع ذلك فأهلُ العلم والدين يأتمرون بما أمروا به من المعروف، وينتهون عما نهوا عنه من المنكر، ويجاهدون مع كلِّ إمام، كما هو منصوصٌ عليه في عقائد أهل السنة، ولم يقل أحدٌ منهم بجواز قتال المتغلِّب والخروج عليه وتركِ الأمة تموجُ في دمائها وتستبيحُ الأموالَ والحرمات، ويجوسُ العدو الحربي خلالَ ديارهم وينزلُ بحماهم - هذا لا يقولُ بجوازه وإباحته إلَّا مصابٌ في عقله، موتورٌ في دينه وفهمه، وقد قيل:

لا يَصلُحُ الناسُ فوضى لا سَراةَ لهم

ولا سَراةَ إذا جُهَّالهمْ سادوا

(1)

وعلَّق الدكتور في الحاشية عند قول الإمام عبد اللطيف «إلَّا مع الجماعة والإمامة» : «تأمَّل هذا الأصلَ العظيم كيف غابَ عن دُعاة الفكر السلفي المعاصر الذين همَّشوا موضوعَ الإمامة بدعوى أنها من الفروع» .

في هذا أمور عدة:

الأمر الأول: أثنى على هذا الكلام وهو صريحٌ في نقل الإجماع على صحَّة إمامة المتغلِّب، وأنَّ هذا اعتقادُ أهل السنة، وهذا كلُّه يناطحهُ الدكتور بهواه أو جهلهِ، فثناؤهُ على هذا الكلام من العلَّامة عبد اللطيف تناقضٌ وحُجَّة عليه.

(1)

(ص: 312).

ص: 404

الأمر الثاني: تعليقهُ في الحاشية أنَّ السلفيين همَّشوا موضوعَ الإمامة = تعليقُ جاهلٍ أو مبطلٍ أو كلَيهما، وذلك أن السلفيين لم يهمِّشوا الإمامة بل أعطَوها حقَّها بلا إفراطٍ ولا تفريط، فلم يقولوا إنها مقصودةٌ لذاتها كما قال الدكتور غلوًّا، ولا قالوا: عارِضوا الإمام إذا تولَّى غلبةً كما قاله الدكتور جفاءً، بل وسطٌ وعدلٌ في هذا الأصل.

الأمر الثالث: بيَّن العلامة عبد اللطيف أنَّ إثباتَ الإمامة للمتغلِّب مشروعٌ لحكمة حقنِ دماء المسلمين وحفظِ مالهم - كما تقدم

(1)

- خلافًا لما يقرِّره الدكتور من أنَّ إثباتَ إمامة المتغلِّب سببٌ لضعف الأمة وتخلُّفها، وكان مما قال الدكتور:«لقد ظنَّ العلماء أنَّ الصبر على الظلم خيرٌ من مواجهته، دون إدراك خطورة الظُّلم نفسه على المجتمع، وأنه سببُ انهيار الأمم وسقوطها، كما يشهد بذلك الواقع المعاصر للأمم»

(2)

، فهل هذا إلَّا حجَّة عليه.

الاستدراك الثمانون:

قال الدكتور: «لقد تمَّ استدعاء هذا الخطاب والاحتجاجُ به لا في الزمنِ الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «سترونَ بعدي أَثرةً فاصبروا»

(3)

، بل في الزمن الذي قال فيه:«إلَّا أن تروا كُفرًا بواحًا»

(4)

.

(1)

تقدم (ص: 70).

(2)

(ص: 319).

(3)

سبق تخريجه (ص: 37).

(4)

سبق تخريجه (ص: 35).

ص: 405

إنَّ أكثر الأنظمة اليوم ليست هي الأنظمة التي توصفُ بالجَور الذي اختلف العلماء في شأنه، بل هي الأنظمة التي توصَفُ بالكفر الذي أجمع العلماء على وجوب الخروج عليها لمن استطاع، فلا يمكن تنزيلُ كلام السلف على الواقع إلَّا كما لو صحَّ تنزيله على دولة العبيديين في مصر»

(1)

.

هذا نفَسٌ خارجيٌّ معروف، فيه تكفيرٌ للحكومات الإسلامية اليوم، وأنها تعيشُ حالة الكفر البواح، لو اقتصر عليه لكَفاني عَناءَ الردِّ عليه في دعوته إلى الحرية المفرِطةِ والتي منها عدم إنكار المنكر، والسماح بالفساد الشُّبُهاتي والشَّهواني باسم الحرية، مُوهمًا الاستدلالَ بقوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .

وفي دَعواه عدمُ الصَّبر على جَور الحاكم الفاسق؛ وأنَّ هذه عقيدةٌ جبرية بدعية أتى بها الحسن البصري.

وفي دعواه عدم صحة إمامة المتغلِّب، وأنَّ الإمامة لا تصحُّ إلَّا بالاختيار.

وفي دعواه إلى عزلِ الحاكم بفسقه، بل حتى لو تركَ الشورى إلى غير ذلك.

وهذا من بُهْتهِ على السلفية المعاصرة ومحاولة فصلِها عن المنهج الأول والسلف الصالح إلى غير ذلك من شناعاته وجهالاته وبغيه وعدوانه.

ثم ليُعلَم أنَّ كثيرًا من هؤلاء إذا قالوا: (أكثر الحكومات) فهُم يريدونها كلَّها، لكنهم يذكرون هذا تعميةً؛ فكثيرٌ منهم يكفِّر حتى دولةَ التوحيد السعودية فضلًا عن غيرها، لذا لا يذكرون بأنَّ من الحكومات الحالية - كالسعودية - حكومة شرعية.

وعَودًا على كلامه يقال: إنَّ في كلامه هذا تناقضًا بيِّنًا، فإنه فيما تقدَّم لا يرى

(1)

(ص: 315).

ص: 406

عقيدة الصَّبر إلَّا عقيدةً جبرية، والآن يراهُ في ظلِّ الحكومة غير الكافرة. وهذا تناقضٌ فاحشٌ حتى إنك لَتظنُّ أنَّ كاتبَ الكتاب رجلان؛ ولكلٍّ منهما فكرٌ مناقضٌ للآخر.

الاستدراك الواحد والثمانون:

قال الدكتور: «بل إنَّ الأئمة إنما أوجَبوا السمعَ والطاعة للخلفاء - وإنْ وقعَ منهم جَور - إذا كانوا خلفاء وأئمة ليس فوقَهُم سلطة، أمَّا الأنظمة التي جاء بها الاستعمار أو صَنَعها على عَينهِ لتنفِّذ مخطَّطاته، فالطاعة ليست لهم، وإنَّما هي في واقع الأمر للدول الاستعمارية التي توظِّفهم في خدمتها»

(1)

.

في هذا أمور عدة:

الأمر الأول: تناقض الدكتور التناقض الذي سبقت الإشارة إليه، فهو في هذا الكلام يرى عقيدة الصبر على جَور الحاكم، وفيما تقدَّم جعلَها عقيدةً جبرية مبتدَعة ابتدَعَها الحسنُ البصري!!.

الأمر الثاني: اشترطَ السمع والطاعة للحاكم المسلم القويِّ الذي لا يخاف من قوى أعظَمَ كفرية، أو لحاكم لا يسيرُ على مخطَّطات الغرب، وهذا اشتراطٌ باطل لسببين:

السبب الأول: أنَّ أدلة السمع والطاعة لم تفرِّق بين المتغلِّب بنفسه أو بغيره، وكذلك إجماعات أهل السنة.

السبب الثاني: أنَّ الحكمة التي شُرع من أجلها السمع والطاعة تتحقَّق مع وجود هذه الحكومات بهذه الحالة. هذا كلُّه على فرض الموافقة على تشخيص حال الحكومات اليوم بهذا التشخيص الغالي.

(1)

(ص: 316).

ص: 407

‌الفصل السادس

إشارات لكتاب «أسئلة الثورة»

ص: 409

إشارات لكتاب «أسئلة الثورة»

هذا الكتاب منحرفٌ عن معتقد أهل السنة والجماعة، فقد زعمَ مؤلِّفه أنه لا يحتاج إلى تحكيم الشريعة بل المرادُ العدل؛ فكلُّ ما يوصِلُ إليه فهو مطلوب وبه نحكم

(1)

، فقال:«أما تفصيلات العلاقة بين الدين فيجب أن تُعالَج على ضوء الظروف الخاصة لكل بلد» ، ثم قال:«ولعلَّ الكثيرين ممن يتحدثون عن هذا المعنى يتبادر إلى أذهانهم: إقامة الحدود على الزُّناة واللصوص والسحَرة قبل كل شيء، ولكنهم يتجاهلون الظروف الموضوعية والشروط الشرعية لإقامة العدالة الاجتماعية والسياسية، أو على الأقل الحد الأدنى من العدالة التي جاءت هذه الأحكام لكفالتها والقيام عليها» .

ثم قال: «الشريعة؛ ويُقصَدُ بها هنا الأحكامُ التفصيلية؛ والكثيرُ من الأحكام التفصيلية يكون على وجوهٍ عدَّة، أو كما يقال تجري فيها الأحكام الخمسة أو بعضُها، فيكون واجبًا حينًا ومحرَّمًا حينًا آخر أو مكروهًا أو مستحبًّا أو مباحًا، واختيارُ واحدٍ من هذه الأحكام مبنيٌّ على معرفةِ الواقع الذي سنوقع عليه الحكم والمصلحة المترتبة.

ثم قال: «الكثيرون يغرقون في تفاصيل الشريعة في النظر إلى عِلَلها ومقاصِدها ومصالحها وظروفِ تطبيقها وشروطها الموضوعية في الحال والمآل.

إنَّ التطبيق الأمثل للشريعة مرتبطٌ بنظامِ الخلافة الراشدة، وسنرى لاحقًا كيف اجتهدَ الخلفاء في تحقيق هذا المقصد السامي، وبعدهم يلزم الفقهاء الراسخين النظرُ

(1)

وبمثل هذا قال «عبد الله بن يوسف الجديع» في خطبة له بأوروبا، وهي موجودة على تيوب موقع الإسلام العتيق.

ص: 411

في إمكانيات الواقع وتقدير المصالح.

وهذا يؤكد أنَّ تطبيق الشريعة مراعاة القواعد الشرعية والمصالح الظنية التي بُنيتْ عليها تفاصيلُ النصوص، لا أن نتمسك ببعض الأحكام بعيدًا عن عِلَلها ومقاصدها في المصالح الدنيوية، ونأخذها كما نأخذُ نصوصَ العبادات المحضة التي قصد بها مجردُ الامتثال لنهدمَ بتلك النصوص القواعدَ والمقاصدَ التي جاءت بها الشريعة».

ثم قال: «وفي عهد الخلفاء الراشدين قد نرى أمثلةً خالفَ فيها الخليفةُ ما كان عليه من العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل عمر رضي الله عنه في مسائلَ عديدةٍ سوف آتي على شيء منها، وهذا يؤكِّد أنَّ المقصود في تطبيق الشريعة هو مراعاة مقاصدها وقواعدها» .

ثم قال: «إذًا هي معادلةٌ تتغير نتيجتها إذا تغيَّر أحدُ طرفَي المعادلة.

فَهْمَ واقعِ الأفرادِ والشعوب النفسي والفكري، وَقْدرُ ما يتحمَّلون من الشرع، وما يصلحهم ويَصلحُ لهم = هو فِقهٌ دقيقٌ تختلفُ فيه الأنظار، ويتفاوتُ في دركهِ النظار.

والتطبيق العملي مركَّب من معرفة النصوص الأصلية أولًا، ومن معرفةِ الظَّرف التاريخي الذي يُراد التماس حُكمهِ ثانيًا، بما في ذلك معرفة الاستعداد للقبول وردَّات الفعل، وهل تعودُ على المجموع بالضَّرر، أو تُربك مسيرةَ الحياة، أو تُربك مسيرةَ الإصلاحِ المتدرِّج؟.

تُربك مسيرة الحياة بإثارة المشكلات، والتنازع الشديد المؤدِّي إلى انفصام عُروة الجماعة، أو تراجع التنمية والاقتصاد، أو تسلُّط الأعداء.

ص: 412

أو تُربك مسيرة الشريعة ذاتها بالانقلاب عليها وسوء الظَّن بدُعاتها، واعتقاد أنها جزء من الماضي ينبغي هَجره، وعدم محاولته لأنَّ القدر الذي شُوهِدَ منها لم يُراعَ فيه ظروفُ الحال، ولم يُعطَ حقَّه من الفقه كما ينبغي».

ثم قال: «ومنه يُعلم أنَّ الاستطاعة الواردة في الكتاب والسنة لا تعني قدرة الإنسان على فعل الشيء من حيث الإمكان المادي فحسب، بل تعني ما هو أبعدُ من ذلك، وهو تحقيقُ المصلحة ودرءُ المفسدة» ، ثم راحَ يستدلُّ بأن عمرَ تركَ قطعَ يدِ السارقِ في عام المجاعة، وتركَ إعطاءَ المؤلَّفة قلوبهم سَهمَهم من الزكاة وهكذا ..

ثم قال: «فالشريعة من أهمِّ معانيها تحقيقُ العدالة، والحكمُ بين الناس بالقسط، وإقامة الحقوق .. ونصرة الضعيف، وحفظ المال العام، وحمايةُ أعراض الناس وأنفسهم من العدوان والضَّرب أو السجن أو القتل.

وقد تصبح الدولة إسلامية دون أن تعلن عن نفسها أنها كذلك بتحقيق المقاصد العليا للشريعة»

(1)

.

لذا دعا في كتابه لتحكيم الديمقراطية أي أنْ يحكمَ الناسُ دون شريعة ربِّ الناس!!.

وفي الكتاب موبقات أخرى شنيعة ذكرها الشيخ الفاضل د. فهد الفهيد في أوائل كتابه في الرد على كتاب (أسئلة الثورة) فقال: «وقد اطلعتُ على كتاب (أسئلة الثورة) من تأليف د. سلمان العودة، ورأيته اشتملَ على تقرير الثورات والتشجيع عليها، ورأيتُ في كتابه هذا أنواعًا من الجناية على الإسلام وأهله،

(1)

(ص: 109 - 125).

ص: 413

فمن ذلك:

1 -

تقريره التهوين من تطبيق الشريعة، والاكتفاء بالقول (بسيادة الشريعة).

2 -

تحسينهُ النظامَ الديمقراطي، وزعمُه أنَّ الشعب لو اختارَ من خلال هذا النظام غيرَ الإسلام، فالعيبُ ليس في النظام الديمقراطي وإنَّما في الشعب!!

3 -

احتفاؤه بنظرية العقد الاجتماعي لـ «جان جاك روسو» ، وهي نظرية غريبة فاسدة، متضمِّنة لأنواع من الفساد.

4 -

اشتمل كتابه على تأييد العلمانية بلحنٍ من القول، وزعمَ أنها قد تُناسبُ بلدًا ولا تناسب بلدًا آخر، وأن العلمانية المقبولة هي التفريق بين (الحكم) وبين الدولة.

5 -

ادَّعى الكاتب أنَّ مشروع الأمة إنَّما يقومُ بجميع فصائلها، حتى غير المسلمين سيشاركون في نهضة الأمة، وأشارَ الكاتب إلى تقرير حرية الأديان والاعتقادات، ودعا بصراحةٍ ووضوحٍ إلى سيادة القانون (وهو الدستور الذي تتوافق عليه جميع الأطياف في البلد).

6 -

روَّج الكاتب لكتابٍ لأحد اليهود المحرِّضين على الثورات، وتضمَّن الكتابُ بيانَ الوسائل العملية لإحداث الثورات، فكأنه يقول للقراء: ارجعوا لهذا الكتاب حتى تعرفوا الوسائل العملية لثوراتكم!

7 -

أضافَ الكاتب على الضرورات الخمس - المعلومة عند علماء المسلمين - ضروراتٍ جديدةً لم يقُلْ بها أحدٌ من أهل العلم، ثم وجدتُ أنَّ الكاتب في هذا مقلِّد لمحمد الجابري وأمثاله، وهذه الضرورات الجديدة هي (العدالة، والحرية، وحفظ الحقوق، ورعاية الحياة، وحفظ الكرامة الإنسانية، والاجتماع البشري)!

ص: 414

8 -

اعتدى الكاتب على مقام السُّنة النبوية، فزعمَ أنه ليس فيها ذِكْرُ قضية الخلافة والحكم، وأنَّ الحكومة النبوية الأمرُ فيها أقربُ إلى (حكومة لا مركزية)، واعتدى الكاتبُ على مقام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أيضًا.

وذكر الثورةَ على عثمان رضي الله عنه، وذكرَ من أسباب هذه الثورة: طول فترة خلافة عثمان رضي الله عنه، وجعلَ أجملَ ما في القصة أنَّ عثمان اختار أن يكون عبد الله المقتول، فهذا أجملُ ما فيها عنده، ولطولِ خلافته ثاروا عليه!

كما جعل معاوية رضي الله عنه مستغِلًّا للظروف للتمهيد لقيام الدولة الأموية، وطيِّ صفحةِ الخلافة الراشدة.

9 -

ذمَّ الكاتب العلماء السائرين على منهج السلف، ووصفَهُم بأوصافٍ غير لائقة، وذكرَ فقهًا جديدًا وهو (فقه الثورات ومآلاتها).

10 -

وفي مقابل ذمِّه للفقهاء والعلماء ترى الكاتبَ يعتمدُ كثيرًا على مقولاتٍ للفلاسفة الكفَّار، ويروِّج لها، ويمدحها

»

(1)

.

ولا يُستغرب ضلالُ العودة في هذا الكتاب، فقد اعتمدَ فيه كثيرًا على كتاب (الحرية والطوفان) لحاكم العبيسان وكتاب (الدين والدولة وتطبيق الشريعة)

د. محمد الجابري

(2)

.

(1)

الجناية على الإسلام (ص: 10 - 14).

(2)

أفاد هذا الشيخ فهد الفهيد في كتابه «الجناية على الإسلام» وقال معرفًا بالجابري في الحاشية (ص: 159): كاتب مغربي، ولد عام (1936) م، تخصَّص في كلية الآداب بالرباط في الفلسفة والفكر العربي الإسلامي، له العديد من الكتب في تحريف الشريعة بمثل تحريفات الباطنية، وهو ماركسيٌّ في الأصل، وكان قياديًّا في الاتحاد الاشتراكي، ويعتبر من عُتاة العلمانيين، توفي يوم (3) مايو عام (2010 م). اهـ.

ص: 415

‌الخاتمة

ثمَّ إنني أحمدُ الله سبحانه الذي أتمَّ لي الكتابة في هذا الموضوع المهمِّ، والذي أجلَبَ دعاةُ الباطل فيه بَخيلهم ورَجلِهِم لتشويهِ وطَمْسِ عقيدة أهل السنة في الولاية والإمامة.

وإنَّي لأذكِّر بأهمية الردود العلمية على الباطل وأهله، فإنها سبيلٌ عظيم لحفظِ الحق، قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، ولا سيما الردود المكتوبة فإنها أبقى وأيسَرُ للرجوع إليها، وقراءة أهل العلم والفضل لها.

وإنِّي لأرجو من إخواني أهل السنة إذا وقعوا على خطأ أو ملاحظةٍ أو نقصٍ أو غير ذلك أن يُتحفوني بهذا، فالمؤمنُ قويٌّ بإخوانه ضعيفٌ بنفسه؛ قال سبحانه لكَليمهِ موسى عليه السلام:{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35].

أسألُ الله أن يتقبلَ هذا الكتابَ وأن يجعله سببًا لرضاه، وأن يجعلَ له القَبول والنفع بين العباد.

ص: 416

‌المراجع

مجموع الفتاوى: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية - المملكة العربية السعودية.

أضواء البيان: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان - ط (1415 هـ).

الصارم المسلول: الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية.

الشريعة - للآجري: دار الوطن، الرياض - السعودية - ط (1420 هـ).

إعلام الموقعين: دار الكتب العلمية، بيروت - ط (1411 هـ).

مدارج السالكين: دار الكتاب العربي، بيروت - الطبعة الثالثة (1416 هـ).

سنن ابن ماجه: دار إحياء الكتب العربية.

سنن الترمذي: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر (1395 هـ).

سنن أبي داود: المكتبة العصرية، صيدا - بيروت.

مسند أحمد: عالم الكتب، بيروت - ط (1419 هـ).

سنن الدارمي: دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1412 هـ).

المعجم الكبير للطبراني: مكتبة ابن تيمية، القاهرة - الطبعة الثانية.

لمعة الاعتقاد: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية - الطبعة الثانية (1420 هـ).

اقتضاء الصراط المستقيم: دار عالم الكتب، بيروت - لبنان - الطبعة السابعة (1419 هـ).

الفتوى الحموية: دار فخر للتراث - الطبعة الأولى (1411 هـ).

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب - ط (1387 هـ).

منهاج السنة النبوية: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الطبعة الأولى (1406 هـ).

صحيح البخاري: دار طوق النجاة - الطبعة الأولى (1422 هـ).

صحيح مسلم: دار إحياء التراث العربي - بيروت.

الانتصار لأصحاب الحديث: مكتبة أضواء المنار، السعودية - الطبعة الأولى (1417 هـ).

ص: 417

الاستقامة: جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة - الطبعة الأولى (1403 هـ).

جامع العلوم والحكم: مؤسسة الرسالة، بيروت - الطبعة السابعة (1422 هـ).

الأحكام السلطانية للماوردي: دار الحديث، القاهرة.

الفصل في الملل والأهواء والنحل: مكتبة الخانجي، القاهرة.

تفسير القرطبي: دار الكتب المصرية، القاهرة - الطبعة الثانية (1384 هـ).

شرح النووي على صحيح مسلم: دار إحياء التراث العربي، بيروت - الطبعة الثانية (1392 هـ).

الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة: مؤسسة الرسالة، لبنان - الطبعة الأولى (1417 هـ).

تاريخ ابن خلدون: دار الفكر، بيروت - الطبعة الثانية (1408 هـ).

روضة الناظر: مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية (1423 هـ).

البحر المحيط في أصول الفقه: دار الكتبي، الطبعة الأولى (1414 هـ).

لسان العرب: دار صادر، بيروت - الطبعة الثالثة (1414 هـ).

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: مؤسسة قرطبة، مصر - الطبعة الثانية (1414 هـ).

عمدة القاري شرح صحيح البخاري: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1418 هـ).

الطرق الحكمية: مكتبة دار البيان.

السيل الجرار: دار ابن حزم - الطبعة الأولى.

بدائع الصنائع: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية (1406 هـ).

أحكام أهل الذمة: رمادى للنشر، الدمام - الطبعة الأولى (1418 هـ).

إكمال المعلم بفوائد مسلم: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر - الطبعة الأولى (1419 هـ).

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: دار ابن كثير، دمشق - بيروت - الطبعة الثالثة (1426 هـ).

فتح الباري شرح صحيح البخاري - لابن حجر: دار المعرفة، بيروت - ط (1379 هـ).

مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: أشرف على جَمعه وطبعه محمد بن سعد الشويعر.

ص: 418

الأشباه والنظائر - للسيوطي: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى (1411 هـ).

الأشباه والنظائر - للسبكي: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى (1411 هـ).

أصول السنة - للإمام أحمد: دار المنار، الخرج - السعودية - الطبعة الأولى (1411 هـ).

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: دار طيبة، السعودية - الطبعة الثامنة (1423 هـ).

كتاب السنة من مسائل الإمام حرب: وقفية نايف بن مطر الأسلمي، الطبعة الأولى (1433 هـ).

عقيدة السلف وأصحاب الحديث: الطبعة الأولى (1413 هـ).

شرح السنة - للمزني: مكتبة الغرباء الأثرية، السعودية - الطبعة الأولى (1415 هـ).

شرح صحيح البخاري - لابن بطال: مكتبة الرشد، الرياض - الطبعة الثانية (1423 هـ).

فتح القدير: دار الفكر.

التاريخ الكبير: دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد - الدكن.

سلسلة الأحاديث الضعيفة: دار المعارف، الرياض الطبعة الأولى (1412 هـ).

الروح: دار الكتب العلمية - بيروت.

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: السعادة - بجوار محافظة مصر- ط (1394 هـ -1974 م).

السنة - للخلال: دار الراية، الرياض - الطبعة الأولى (1410 هـ).

شرح السنة - للبربهاري: مكتبة الغرباء الأثرية، الطبعة الأولى (1414 هـ).

اعتقاد أهل السنة: دار الريان، الإمارات العربية المتحدة - الطبعة الأولى (1413 هـ).

العقيدة الطحاوية: المكتب الإسلامي، بيروت - الطبعة الثانية (1414 هـ).

السنة - لابن أبي عاصم: المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى (1400 هـ).

الدرر السنية في الأجوبة النجدية: الطبعة السادسة (1417 هـ).

طرح التثريب: الطبعة المصرية القديمة، وصوَّرتها دور عدة، منها:(دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، ودار الفكر العربي).

نيل الأوطار: دار الحديث، مصر - الطبعة الأولى (1413 هـ).

البحر الرائق: دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية.

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: دار الفكر.

ص: 419

المبدع في شرح المقنع: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان - الطبعة الأولى (1418 هـ).

الإقناع في فقه الإمام أحمد: دار المعرفة، بيروت - لبنان.

روضة الطالبين وعمدة المفتين: المكتب الإسلامي - الطبعة الثالثة (1412 هـ).

الشرح الممتع على زاد المستقنع: دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى (1422 - 1428 هـ).

الطبقات الكبرى: دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى (1410 هـ).

إرواء الغليل: المكتب الإسلامي، بيروت - الطبعة الثانية (1405 هـ).

الأحكام السلطانية - لأبي يعلى الفراء: دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الثانية (1421 هـ).

الاعتصام - للشاطبي: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1429 هـ).

آداب الشافعي ومناقبه: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان - الطبعة الأولى (1424 هـ).

تحفة الأحوذي: دار الكتب العلمية، بيروت.

شرح رياض الصالحين - لابن عثيمين: دار الوطن للنشر، الرياض - ط (1426 هـ).

زاد المسير في علم التفسير: دار الكتاب العربي، بيروت - الطبعة الأولى (1422 هـ).

القواعد النورانية الفقهية: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1422 هـ).

حاشية السندي على سنن النسائي: مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب - الطبعة الثانية (1406 هـ).

التحبير شرح التحرير في أصول الفقه: مكتبة الرشد، الرياض - الطبعة الأولى (1421 هـ).

الحكم بغير ما أنزل الله: الطبعة الأولى.

نقد مراتب الإجماع: دار ابن حزم، بيروت - الطبعة الأولى (1419 هـ).

المستدرك على الصحيحين: دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى (1411 هـ).

المعجم الأوسط - للطبراني: دار الحرمين، القاهرة.

الكاشف: دار القبلة للثقافة الإسلامية (مؤسسة علوم القرآن)، جدة - الطبعة الأولى (1413 هـ).

الفصل في الملل والنحل: مكتبة الخانجي، القاهرة.

المستصفى: دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1413 هـ).

الإشراف على مذاهب العلماء: مكتبة مكة الثقافية، رأس الخيمة - الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى (1425 هـ).

ص: 420

المسودة في أصول الفقه: دار الكتاب العربي.

الورقات: د. عبد اللطيف محمد العبد.

شرح تنقيح الفصول: شركة الطباعة الفنية المتحدة، الطبعة الأولى (1393 هـ).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1418 هـ).

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: دار العاصمة، السعودية - الطبعة الثانية (1419 هـ).

الصارم المسلول على شاتم الرسول: الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية.

فيض القدير: المكتبة التجارية الكبرى، مصر - الطبعة الأولى (1356 هـ).

مصنف ابن أبي شيبة - كمال يوسف الحوت: مكتبة الرشد، الرياض - الطبعة الأولى (1409 هـ).

تهذيب التهذيب: مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند - الطبعة الأولى (1326 هـ).

مسند الفاروق - لابن كثير: دار الوفاء، المنصورة - الطبعة الأولى (1411 هـ).

تأويل مختلف الحديث: دار ابن القيم، دار ابن عفان - الطبعة الأولى (1427 هـ).

صحيح الترغيب والترهيب: مكتبة المعارف، الرياض - الطبعة الثالثة (1409 هـ).

فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل: مؤسسة الرسالة، بيروت - الطبعة الأولى (1403 هـ).

الآحاد والمثاني - لابن أبي عاصم: دار الراية، الرياض - الطبعة الأولى (1411 هـ).

شرح علل الترمذي: مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن - الطبعة الأولى (1407 هـ).

التاريخ الكبير: دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد - الدكن.

تهذيب التهذيب: مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند - الطبعة الأولى (1326 هـ).

البداية والنهاية: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى (1418 هـ).

كشف المشكل من حديث الصحيحين: دار الوطن، الرياض.

صحيح البخاري - بشرح الكرماني: دار إحياء التراث العربي، بيروت - الطبعة الثانية (1401 هـ).

جامع التحصيل: عالم الكتب، بيروت - الطبعة الثانية (1407 هـ).

سلسلة الأحاديث الصحيحة: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض - الطبعة الأولى.

مجمع الزوائد: مكتبة القدسي، القاهرة - ط (1414 هـ).

ص: 421

لسان الميزان: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان - الطبعة الثانية (1390 هـ).

العدة في أصول الفقه: تحقيق د/ أحمد بن علي بن سير المباركي، الطبعة الثانية (1410 هـ).

التمهيد في أصول الفقه: دار المدني، الطبعة الأولى (1406 هـ).

سير أعلام النبلاء: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة (1405 هـ).

تاريخ الطبري: دار التراث، بيروت - الطبعة الثانية (1387 هـ).

تاريخ ابن معين: مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة - الطبعة الأولى (1399 هـ).

القواعد - لابن رجب: دار الكتب العلمية.

تاريخ دمشق: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - ط (1415 هـ).

تاريخ الإسلام: دار الغرب الإسلامي - الطبعة الأولى (2003 م).

المجروحين: دار الوعي، حلب - الطبعة الأولى (1396 هـ).

السياسة الشرعية: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1418 هـ).

تفسير ابن أبي حاتم: مكتبة نزار الباز، المملكة العربية السعودية - الطبعة الثالثة (1419 هـ).

تخريج أحاديث الإحياء: دار ابن حزم، بيروت - لبنان - الطبعة الأولى (1426 هـ).

التلخيص الحبير: مؤسسة قرطبة، مصر - الطبعة الأولى (1416 هـ).

جامع معمر بن راشد: المجلس العلمي بباكستان، وتوزيع المكتب الإسلامي ببيروت - الطبعة الثانية (1403 هـ).

جامع بيان العلم وفضله: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1414 هـ).

الموافقات للشاطبي: دار ابن عفان - الطبعة الأولى (1417 هـ).

رفع الملام عن الأئمة الأعلام: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض - المملكة العربية السعودية - ط (1403 هـ).

العواصم من القواصم: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1419 هـ).

ص: 422

أحكام القرآن للجصاص: دار إحياء التراث العربي - بيروت - ط (1405 هـ).

الجامع في السنن والآداب: مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية (1403 هـ).

التفسير من سنن سعيد بن منصور: دار الصميعي، الرياض - الطبعة الأولى (1993 م).

شرح القواعد المثلى - لابن عثيمين: دار التيسير للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى (1426 هـ).

السنة - لعبدالله بن أحمد: دار ابن القيم، الدمام - الطبعة الأولى (1406 هـ).

الفقه الأكبر: مكتبة الفرقان، الإمارات العربية - الطبعة الأولى (1419 هـ).

أحكام القرآن لابن عربي: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان - الطبعة الثالثة (1424 هـ).

الشرح الكبير - للدردير، وحاشية الدسوقي: دار الفكر.

تاريخ الخلفاء - للسيوطي: دار المنهاج - الطبعة الثانية (1434 هـ).

الزهد الكبير للبيهقي: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت - الطبعة الثالثة (1996 م).

طبقات الحنابلة: دار المعرفة، بيروت.

فتح القدير - لابن الهمام: دار الفكر.

إتحاف السادة المتقين: مؤسسة التاريخ العربي - ط (1414 هـ).

المغني لابن قدامة: مكتبة القاهرة.

شرح العقائد النسفية: مكتبة المدينة، كراتشي - باكستان - الطبعة الثانية (1433 هـ).

شرح الزركشي: دار العبيكان - الطبعة الأولى (1413 هـ).

مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود:

مكتبة ابن تيمية، مصر - الطبعة الأولى (1420 هـ).

تهذيب اللغة: دار إحياء التراث العربي، بيروت - الطبعة الأولى (2001 م).

الإصابة في تمييز الصحابة: دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى (1415 هـ).

الإبانة الكبرى - لابن بطة: دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض.

ناسخ الحديث ومنسوخه: تحقيق عبدالله المنصور - الطبعة الأولى (1420 هـ).

المغازي - للإمام موسى بن عقبة: مكتبة دار المنهاج، الطبعة الأولى (1434 هـ).

تاريخ المدينة - لابن شبه: طبع على نفقة السيد/ حبيب محمود أحمد - جدة - ط (1399 هـ).

ص: 423

التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية (1406 هـ).

الأنوار الكاشفة: المطبعة السلفية، ومكتبتها عالم الكتب - بيروت - ط (1406 هـ).

تاريخ بغداد: دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى (1417 هـ).

تنبيهات على كتاب ظاهرة الإرجاء.

دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: دار الوطن، الرياض - المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1412 هـ).

المحلى بالآثار: دار الفكر - بيروت.

مصنف عبد الرزاق: المجلس العلمي - الهند - الطبعة الثانية (1403 هـ).

صحيح ابن حبان: مؤسسة الرسالة، بيروت - الطبعة الأولى (1408 هـ).

ترتيب المدارك وتقريب المسالك: مطبعة فضالة، المحمدية - المغرب - الطبعة الأولى.

طبقات علماء الحديث: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية (1417 هـ).

كتاب العبادة: دار العاصمة، الطبعة الأولى (1432 هـ).

الفتاوى الكبرى - لابن تيمية: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى (1408 هـ).

الصواعق المرسلة: دار العاصمة، الرياض - المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1408 هـ).

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى (1422 هـ).

تفسير ابن عرفة: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان - الطبعة الأولى (2008 م).

شعب الإيمان: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض، بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند - الطبعة الأولى (1423 هـ).

الصمت وآداب اللسان: دار الكتاب العربي، بيروت - الطبعة الأولى (1410 هـ):

الإمامة العظمى للدميجي: دار طيبة، الطبعة الثانية (1409 هـ).

الشفا بتعريف حقوق المصطفى: دار الفكر الطباعة والنشر والتوزيع - ط (1409 هـ).

إرشاد الساري شرح صحيح البخاري: المطبعة الأميرية، مصر - الطبعة السابعة (1323 هـ).

مقال مقدمات في مسائل الإمامة: موقع المسلم

http://www.almoslim.net/node/90213

ص: 424

مقال ضوابط ومسائل في الطاعة لولاة الأمور: موقع المسلم

http://www.almoslim.net/node/90273

نواقض الإيمان القولية والعملية: دار الوطن، الطبعة الأولى (1414 هـ).

فتاوى العز بن عبدالسلام: دار المعرفة - بيروت - الطبعة الأولى (1406 هـ)

الإمام في بيان أدلة الأحكام: دار البشائر الإسلامية، بيروت - الطبعة الأولى (1407 هـ).

قواعد الأحكام في مصالح الأنام: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة (1414 هـ).

الرد على الزنادقة والجهمية: دار الثبات للنشر والتوزيع.

أنساب الأشراف: دار الفكر، بيروت - الطبعة الأولى (1417 هـ).

الاستيعاب في معرفة الأصحاب: دار الجيل، بيروت - الطبعة الأولى (1412 هـ).

اللباب في شرح الكتاب: المكتبة العلمية، بيروت - لبنان.

حاشية ابن عابدين: دار الفكر، بيروت - الطبعة الثانية (1412 هـ).

الشرح الصغير - للدردير: وحاشية الصاوي - دار المعارف.

منح الجليل شرح مختصر خليل: دار الفكر، بيروت - ط (1409 هـ).

تحفة المحتاج في شرح المنهاج: المكتبة التجارية الكبرى بمصر، ط (1357 هـ).

فتاوى الرملي: المكتبة الإسلامية.

دقائق أولي النهى - شرح منتهى الإرادات: عالم الكتب - الطبعة الأولى (1414 هـ).

دلائل النبوة - لأبي نعيم: دار النفائس، بيروت - الطبعة الثانية (1406 هـ).

التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: دار باوزير للنشر والتوزيع، جدة - المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى (1424 هـ).

السيرة النبوية - لابن هشام: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - الطبعة الثانية (1375 هـ).

فقه السيرة: دار القلم، دمشق - الطبعة الأولى (1427 هـ).

الفرقان بين حقائق الإيمان وأباطيل الشرك والطغيان: موقع حاكم العبيسان:

http://www.dr-hakem.com/portals/Files/alfrkan.pdf

ص: 425

الزهد لأبي داود: دار المشكاة للنشر والتوزيع، حلوان - الطبعة الأولى (1414 هـ).

العدالة الاجتماعية: دار الشروق - ط (1415 هـ).

الأم: دار المعرفة، بيروت - ط (1410 هـ).

لسان الميزان: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان - الطبعة الثانية (1390 هـ).

سير أعلام النبلاء: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة (1405 هـ).

ميزان الاعتدال: دار عالم الكتب، بيروت - لبنان - الطبعة السابعة (1419 هـ).

إبطال التأويلات: دار إيلاف الدولية، الكويت.

المجموع شرح المهذب: عالم الكتب، بيروت - الطبعة الأولى (1419 هـ).

سبل السلام: دار الحديث

الجناية على أسئلة الثورة: غراس - الطبعة الأولى (1434 هـ).

أسئلة الثورة: مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت - الطبعة الأولى (2012 م).

تنبيهات على كتاب ظاهرة الإرجاء: في موقع الإسلام العتيق:

http://islamancient.com/ressources/docs/102.pdf

الحرية والطوفان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى (2004 م).

ص: 426