الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون (102)} [آل عمران]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فهذا شرح مختصر على «الأصول الثلاثة» للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ألقاه الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، في أحد مساجد مدينة الرياض.
وكان
المنهج الذي سُلِك في إخراج هذا الشرح
كما يلي:
1 -
مراجعة النص والتأكد منه.
2 -
تهيئته وتنسيقه ليتناسب مع الطباعة.
3 -
عزو الآيات إلى أماكنها من المصحف.
4 -
تخريج الأحاديث وذلك باختصار، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفي بذلك، وإن كان في غيرهما فإنه يقتصر في الغالب على الكتب الستة، مع ذكر كلام المحدثين في صحة الحديث وضعفه، ولا يستقصى ذلك.
5 -
عزو الأقوال إلى قائليها وأماكنها.
6 -
ضبط المتن على طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، وجعله بين قوسين، بلون أحمر.
7 -
قراءة الشرح على الشيخ لتعديل أو حذف أو إضافة أو إصلاح ما يراه مناسبًا.
وفي الختام نحمد الله جل جلاله أن يسر إتمام خدمة هذا الكتاب، ونسأل الله أن نكون قد وفقنا لهذه الغاية، وبالله التوفيق فهو نعم المعين.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذه الرسالة القيمة المعروفة ب «الأصول الثلاثة» : «اعلم» هذا خطاب لطالب العلم؛ والمعنى: تعلم، واجتهد في العلم.
وقوله: «رحمك الله» هذا من تلطف الشيخ بطلاب العلم بالدعاء لهم، ومن رحمه الله أفلح وسعِد، ونال خير الدنيا والآخرة.
وقوله: «أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل» أي: أربع مسائل يجب علينا معرفتها.
«الأولى: العلم» ، والعلم منه ما هو فرض عين على كل مكلف، ومنه ما هو فرض كفاية.
«وهو: معرفة الله» بأسمائه وصفاته، «ومعرفة نبيه» محمد صلى الله عليه وسلم، «ومعرفة دين الإسلام بالأدلة» .
وهذه المعارف الثلاثة هي: الأصول الثلاثة التي سيتكلم عنها الشيخ إجمالًا وتفصيلًا.
«الثانية: العمل به» ؛ لأن هذا هو المقصود من تعلم العلم، وليس المقصود مجرد تحصيل معلومات في الذهن، وإنما المقصود بالعلم
الشرعي: هو تحقيق الإيمان، والعمل الصالح؛ فالعلم بلا عمل يكون وبالًا على صاحبه، وحجة عليه - نعوذ بالله -.
«الثالثة: الدعوة إليه» فإذا اجتهد الإنسان وحصَّل علمًا، وعمل به فعليه - أيضًا - أن يُعلِّم، ويدعو، ويأمر وينهى، وينفع الآخرين؛ لأنَّ هذه وظيفة الرسل وأتباعهم.
«الرابعة: الصبر على الأذى فيه» ؛ لأن من تصدى لدعوة الناس وأمْرِهم ونهيهم عمَّا تعودوه؛ لابد أن يحصل له منهم أذى بالكلام وبالفعل، فلا بد له من الصبر على ذلك، وهكذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34].
فالصبر هو أساس القيام بالمهمات والأعمال الصالحة.
قال الشيخ: «والدليل» على هذه المسائل «قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر (3)} [العصر]» ، فهذه السورة ثلاث آيات:
الأولى قوله تعالى: «{وَالْعَصْر (1)}» وهذا قسمٌ من الله، والله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه، والعصر هو: الدهر المكون من الليالي والأيام، والشهور والأعوام
(1)
، وهو عمر الإنسان، وهو ميدان العمل.
(1)
جامع البيان (15/ 289).
الآية الثانية: قوله تعالى: «{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر (2)}» هذا هو المقسم عليه، و «ال» هنا للجنس؛ والمعنى: أن كل إنسان في خسارة، والخُسر: ضد الربح، إلا من استثنى الله بقوله:
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر (3)} فمن حقق هذه الأركان الأربعة؛ فاز بالربح العظيم، ونجا من الخسران؛ فحظ الإنسان من الربح بحسب حظه من هذه الخصال الأربعة.
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} والإيمان لا يكون إلا بعلم، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهذا ثمرة العلم والإيمان، فمن رزقه الله العلم والإيمان؛ عمِلَ الصالحات.
{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أي: نصح بعضهم بعضًا، وذكَّر بعضهم بعضًا، والحق: يشمل العلم والإيمان، والعمل الصالح.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر (3)} وأوصى بعضهم بعضًا بالصبر.
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر هما من جملة العمل الصالح، وهو يدخل في الإيمان، فهذه الأمور الأربعة بعضها يدخل في بعض، فعطف الأعمال الصالحة على الإيمان، وعطف التواصي على عمل الصالحات، كلها من عطف الخاص على العام.
فدلت هذه السورة على المسائل الأربع التي ذكرها الشيخ:
1 -
مسألة العلم يدل لها قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} .
2 -
ومسألة العمل يدل لها قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
3 -
ومسألة الدعوة يدل لها قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} .
4 -
ومسألة الصبر يدل لها قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر (3)} .
«قال الشافعي رحمه الله تعالى:» الإمام المعروف محمد بن إدريس أحد الأئمة الأربعة المتبوعين.
«لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم
(1)
». ومراده أنها سورة موجزة مختصرة، إلا أن لها دلالة عظيمة، حيث إنها دلت على أن الناس فريقين: خاسر ورابح، وفيها ذِكر أسباب الربح والفوز والفلاح.
«وقال البخاري رحمه الله تعالى» الإمام محمد بن إسماعيل صاحب الصحيح في كتابه: «الجامع الصحيح» في «كتاب العلم» : «بابٌ: العلمُ قبل القول والعمل. والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد: 19]
(2)
».
قال الشيخ: «فبدأ بالعلم قبل القول والعمل» أي: بدأ الله في الآية بالعلم قبل القول والعمل، وهو: الاستغفار، فأمر الله أولًا: بالعلم بالتوحيد {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} ، ثم أمر ثانيًا: بالاستغفار فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} وهو من العمل.
(1)
ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة ص 482، وابن كثير في تفسيره (1/ 205) بنحوه.
(2)
صحيح البخاري (1/ 24) بنحوه.
يقول الشيخ رحمه الله: «اعلم رحمك الله» هذا من جنس ما قبله. «أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن» ؛ معناه: أن العلم بمسائل الدين فرض على كل مسلم ومسلمة، على الرجال والنساء، فرض عين أو فرض كفاية، قال الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (97)} [النحل].
«الأولى» ؛ أي: المسألة الأولى من المسائل الثلاث؛ أن نعلم «أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملًا» ؛ أي مهملين لا نؤمر ولا نُنهى، ولا نسير على منهج قويم، «بل» إنه سبحانه وتعالى قد «أرسل إلينا رسولًا» بالهدى ودين الحق «فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار» .
هذه المسألة الأولى، ومعناها: الإقرار بتوحيد الربوبية، ومن ربوبيته تعالى إنعامه على عباده، وأعظم نعمه على عباده إرسال الرسل، وإنزال الكتب لتعريف العباد بربهم، وبحقه عليهم.
قال: «والدليل» على هذه المسألة: «قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً (16)} [المزمل]» ، فاستدل على الرسالة بقوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً} أي: أرسل تعالى إلى الناس محمدًا صلى الله عليه وسلم.
{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)} ، وهو: موسى وهارون عليهما السلام {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} ؛ أي: كذَّب فرعونُ موسى وهارون، {فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24)} [النازعات]، قال الله:{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً (16)} أخذه
الله أخذًا وبيلًا؛ أي: شديدًا، بأن أغرقه وجنوده في البحر؛ فالمعنى: فاحذروا أن تكذِّبوا رسولكم فيأخذكم كما أخذ فرعون {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25)} .
والدليل على أن الله خلقنا ورزقنا قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} الآية [الروم: 40].
«الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرَك معه أحد في عبادته؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل» .
وهذه المسألة هي مسألة توحيد العبادة، وهو: إخلاص الدين لله، وإفراد الله بالعبادة، وصرف جميع أنواع العبادة له سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن يُشرك معه في عبادته، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وما دونهما من باب أولى.
«والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن]» . فنهى عن دعاء غيره سبحانه.
فتضمنت المسألة الأولى توحيد الربوبية، وتضمنت
المسألة الثانية توحيد العبادة،
ولا يكون الإنسان مسلمًا حتى يقر بالتوحيدين جميعًا، فلا يكفي الإقرار بتوحيد الربوبية، فقد أقر به المشركون ولم يدخلهم في الإسلام.
المسألة «الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحَّد الله» أن من أطاع الرسول كما في المسألة الأولى، ووحد الله كما في المسألة الثانية «لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب» لا يجوز
له أن يحب أعداء الله، وأن يحتفي بهم، وأن يكرمهم وأن يعظمهم، فلا تجوز موالاة من حاد الله ورسوله من الكفار والفجار، والمحادَّة تطلق على: المعاداة والمخالفة الشديدة، ويُعبَّر عنها بالمشاقَّة، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب (4)} [الحشر].
«والدليل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون (22)} [المجادلة]» . لا تجد قومًا مؤمنين يوالون الكافرين؛ لأنَّ الإيمان يمنع من ذلك، قال الله تعالى:{وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} [المائدة: 81]؛ ولكنهم لا يؤمنون بهذه الثلاثة، فاتخذوهم أولياء، وهذا الكلام يعود إلى الذين قال الله فيهم:} {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُون (80)} [المائدة]، وهنا قال:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، فإذا وجدنا من يواد ويوالي ويعظم الكافرين المحادين لله ورسوله؛ علمنا أنه ليس بمؤمن؛ لأنَّ المؤمنين لا يكونون كذلك، قال الله:{وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ} ، وقال في آية أخرى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون (23)} [التوبة]، {وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان} .
فهؤلاء المؤمنون الصادقون المعادون لأعداء الله؛ هم الذين كتب الله الإيمان في قلوبهم، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} وهؤلاء هم حزب الله، وحزب الله هم المفلحون، وقد ذكر الله هؤلاء في مقابل حزب الشيطان، وهم: الكفار والمنافقون الذين قال الله فيهم: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُون (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون (19)} [المجادلة]، هما حزبان، فعاقبة حزب الشيطان الخسارة، وعاقبة حزب الرحمن الفلاح والفوز، والظفر بالمطلوب والمحبوب والنجاة من المرهوب.
ثم قال الشيخ: «اعلم» أمر بالعلم وفيه توجيه وتنبيه وتعليم، «أرشدك الله لطاعته»؛ أي: وفقك الله وهداك لطاعته، وهذه عادة الشيخ يصدر بعض الدروس بالدعوة لطالب العلم.
«أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله وحده مخلصًا له الدين» .
الحنيفية نسبة إلى الحنيف، والله سبحانه وتعالى وصف إبراهيم عليه السلام بأنه حنيف، قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120]، وجاء في الحديث:«بُعثت بالحنيفية السمحة»
(1)
، قال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين (123)}
(1)
أخرجه أحمد (5/ 266) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وضعفه ابن رجب في «فتح الباري» (1/ 149)، والعراقي في المغني (4/ 234)، وانظر: المقاصد الحسنة (214) فقد ذكر له عدة شواهد.
[النحل]، فالملة الحنيفية ملة إبراهيم هي: عبادة الله وحده لا شريك له، بإخلاص الدين له سبحانه وتعالى.
يقول الشيخ: «وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها» ؛ أمر الله جميع الناس بإخلاص العبادة له، كما قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} إلى قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (22)} [البقرة]، فالله أمر جميع الناس أن يعبدوه وحده لا شريك له، وقال سبحانه في الآية الأخرى:{وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال:{{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقد خلق الله الجن والإنس ليعبدوه وحده لا شريك له «كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون (56)} [الذاريات]».
قال الشيخ: «ومعنى يعبدون: يوحدون» أي يعبدوه سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، والعبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، فإذا دخلها الشرك أفسدها، ولم تكن عبادة، فمن عبد مع الله غيره، فإنه لا يعد عابدًا لله.
قال الشيخ: «وأعظم ما أمر الله به التوحيد» فأوجب الواجبات على الإطلاق هو توحيد الله بالعبادة، وهذا هو معنى «لا إله إلا الله» ، وهي أول واجب على العبد.
وأعظم الذنوب هو الشرك الأكبر، ويختص من بين سائر الذنوب بثلاثة أشياء:
أولًا: أنه لا يُغفر، قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48].
ثانيًا: أنه يحبط جميع الأعمال، فمن عبد مع الله غيره حبطت سائر أعماله، قال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُون (88)} [الأنعام].
ثالثًا: أنه موجب للخلود في النار لمن مات عليه، فمن مات على الشرك الأكبر؛ فهو مخلد في النار، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة (6)} [البينة].
قال الشيخ: «وهو» أي: التوحيد «إفراد الله بالعبادة» .
«وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو دعوة غيره معه» واتخاذ الند له، قال ابن مسعود رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»
(1)
أي: مِثلًا.
«والدليل» على هذا «قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]» . فأمر بعبادته ونهى عن الشرك به، فيجب على كل مسلم أن يجتهد في تحقيق التوحيد، وأن يحذر من الشرك الأكبر، يقول ابن القيم:
والشركُ فاحذره فشركٌ ظاهرٌ
…
ذا القسم ليس بقابلِ الغفرانِ
وهو اتخاذ الند للرحمن أيًا
…
كان من حجر ومن إنسان
(1)
أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86).
يدعوه بل يرجوه ثم يخافه
…
ويحبه كمحبة الديان
(1)
يقول الشيخ رحمه الله: «فإذا قيل لك: ما
الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟
فقل: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم»، هذه هي الأصول التي سميت بها هذه الرسالة «الأصول الثلاثة» ، وهي أصول العلم الشرعي، أو أصول المعرفة الصحيحة.
الأصل الأول: معرفة العبد ربه: بأنه الله الخالق لكل شيء المتفضل على عباده بجميع النعم، المستحق للعبادة.
الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم بما يشتمل عليه من عقائد وأحكام.
الأصل الثالث: معرفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه رسول من عند الله إلى الناس كافة جاء بالهدى ودين الحق.
وهذه الأصول الثلاثة هي التي يُسأل عنها الإنسان في قبره، وهي فتنة القبر؛ كما جاء في حديث البراء الطويل في صفة قبض روح المؤمن والكافر، وأن المؤمن إذا وُضِع في القبر:«يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول ربي الله فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟» قال: «فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء؛ أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة
(1)
الكافية الشافية ص 189.
وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة» قال: «فيأتيه من روحها وطيبها» قال: «ويفسح له في قبره مد بصره» قال: «وإن الكافر إذا وضع في قبره يأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار» قال: «فيأتيه من حرها وسمومها» قال: «ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه»
(1)
.
ويمكن أن يقال عن هذه الأصول الثلاثة: معرفة الرسول والمرسل والرسالة، فالله هو المرسِل، ومحمد رسوله، ودين الإسلام هو الرسالة التي جاء بها.
وقد ذكر الشيخ هذه الأصول مجملة، وسيتكلم عنها بالتفصيل واحدًا واحدًا بطريقة السؤالِ والجوابِ، وطريقةُ السؤال والجواب طريقة تعليمية جيدة ومفيدة.
(1)
رواه أحمد (4/ 287)، وأبو داود (4753)، وصححه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 119، وابن جرير في «تهذيب الآثار» - مسند عمر رضي الله عنه (2/ 491)، من حديث البراء رضي الله عنه مطولًا، وصححه - أيضًا - ابن القيم في «الروح» ص 88.
ثم شرع الشيخ - رحمه الله تعالى - في تفصيل الأصل الأول فقال:
«فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني» ؛ أي خلقني وأنشأني «وربى جميع العالمين بنعمه» فهو المنعم على العباد بكل ما لديهم من النعم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53]،
وهذا المعنى مأخوذ من معنى الرب، فالرب - كما سيأتي - من معناه: المالك والمنعم، والمعبود.
قال: «وهو معبودي ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)}» الشاهد قوله: «رب العالمين» ، {الْحَمْدُ للّهِ} الثناء كله يستحقه هو سبحانه وتعالى، وهو {رَبِّ الْعَالَمِين (2)} .
قال الشيخ: «وكل ما سوى الله عَالَم، وأنا واحد من ذلك العالم» ، وأنا واحد مخلوق من جملة المخلوقات، فالسماوات والأرض وما فيهن عالَم، وقيل: سميت الموجودات عالمًا؛ لأنها علامة على خالقها، ومدبرها سبحانه وتعالى.
«فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟» أي: بأي طريقة عرفت ربك «فقل» عرفته «بآياته ومخلوقاته» .
وأراد الشيخ بقوله: «بآياته ومخلوقاته» الآيات الكونية، والآياتُ الكونية: هي مخلوقاته، والعطف في قوله:«آياته ومخلوقاته» لا يدل على المغايرة في الوصف، فالآيات الكونية مخلوقات.
قال: «ومن آياته الليل والنهار، والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهما» ولا يخفى أن الليل والنهار والشمس والقمر هي آيات ومخلوقات، والسماوات والأرض ومن فيهن هي آيات ومخلوقات، قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 22]، {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِين (20)}
[الذاريات]، {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُون (32)} [الأنبياء]، فهذه الآيات الكونية.
«والدليل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون (37)} [فصلت]» . إذًا، هن مخلوقات، وآيات؛ أي: علامات على خالقها وصانعها ومُحكِم نظامها.
«وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين (54)} [الأعراف]» فهو خالق هذه العوالم، وله الأمر، فهو الذي يدبر هذه العوالم بأمره سبحانه وتعالى.
ومعرفة العباد ربهم بآياته معرفة عقلية؛ لأن من ينظر في هذه الآيات ويتدبرها يدرك أن لها خالقًا، وأن الذي خلقها حكيم وعليم وقدير وعظيم سبحانه وتعالى.
والطريق الثاني لمعرفة الله هو: الوحي الذي بعث الله به رسله، فنعرف ربنا بأسمائه وصفاته بما بيَّن لنا في كتابه، ومنها أنه {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (24)} [الحشر]، هذا تعريف من ربنا لنا بطريق الوحي والشرع، فالله عرَّف عباده بنفسه بآياته الكونية، وهي المخلوقات؛ وبآياته الشرعية، وهي آيات القرآن.
يقول الشيخ رحمه الله: «والرب: هو المعبود» . والرب الخالق لكل شيء المربي لعباده بنعمه هو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى.
«والدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (22)} [البقرة]» . فأمر الله سبحانه وتعالى جميع الناس أن يعبدوه ويتركوا عبادة ما سواه، وهذا هو معنى «لا إله إلا الله» ، وذكر سبحانه وتعالى المعاني المقتضية لعبادته وهي: أنه خالقهم وخالق آبائهم وخالق السماوات والأرض، وهو الذي ينزِّل الغيث ويخرج الأرزاق، ومَن هذا شأنه فهو المستحق للعبادة، فقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} هذا يتضمن إثبات العبادة لله، وقوله:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً} [البقرة: 22] يتضمن نفي إلهية من سوى الله؛ لأنه تعالى لا ند له.
«قال ابن كثير رحمه الله تعالى:» المفسر الشهير في «تفسير القرآن العظيم» «الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة»
(1)
. نعم، خالق السماوات والأرض، الذي جعل {السَّمَاء بِنَاء وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 22] أرزاقًا للعباد، هو الذي يستحق أن يُعبد، هذا موجَب العقل، فمن عبد مع الله غيره؛ فقد ضل عن الصراط المستقيم، وعدل بالله العظيم مَنْ ليس مِثله، والله تعالى لا مِثل له، ومن عبد مع الله غيره؛ فقد جعله ندًا لله، ومثيلًا لله.
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 197) بمعناه.
ثم قال الشيخ: «وأنواع العبادة التي أمر الله بها: مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنه الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى» هذه العبادة بأنواعها كلها لله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون (56)} [الذاريات]، وقال تعالى:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنْ الشَّاكِرِين (66)} [الزمر]، وقال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: لا نعبد غيرك.
والعبادة أنواع كثيرة:
منها أعمال قلبية: مثل: الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشية.
ومنها أعمال ظاهرة: وهي: أعمال الجوارح؛ كالاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر، ومنها: الركوع والسجود والصيام والحج والجهاد، وهناك أنواع أخرى، وإنما ذكر الشيخ هذه على سبيل المثال ولهذا قال:«وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله» فالعبادة محض حقه سبحانه وتعالى.
«والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن]» . السجود والصلاة لله وحده، والمساجد إنما تبنى لعبادته وحده لا شريك له، {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)}؛ أي: لا تعبدوا مع الله غيره، ولا تتوجهوا بطلب الحوائج إلا إليه؛ كما قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ
وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِين (106)} [يونس]، {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين (55)} [الأعراف].
«فمن صرف منها شيئًا لغير الله؛ فهو مشرك كافر» ؛ لأنه أشرك بالله، أي: عبد مع الله غيره، وجعله ندًا لله في عبادته.
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، وقال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين (65)} [الزمر]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُون (88)} [الأنعام]، ف
من صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله؛ فهو مشرك
كافر، وعمله حابط.
وبعد أن ذكر الشيخ أنواع العبادة، ذكر دليل كل واحد منها.
قال: «وفي الحديث: «الدعاء مخ العبادة»
(1)
، والدليل قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين (60)} [غافر]».
والآيات التي فيها الأمر بالدعاء والثناء على الداعين كثيرة، قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي
(1)
رواه الترمذي (3371) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون (186)} [البقرة]، وفي الحديث:«الدعاء مخ العبادة» .
واستدل الشيخ بالآية والحديث على أن الدعاء من العبادة؛ لأنه تعالى قال في نفس الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ، والحديث الثابت لفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«الدعاء هو العبادة»
(1)
.
وقسَّم العلماء الدعاء إلى قسمين
(2)
:
1 -
دعاء المسألة، هو الطلب الصريح؛ كقول العبد: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم اهدني، مثل قوله تعالى:{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم (6)} .
2 -
ودعاء عبادة، وهي: سائر العبادات.
فالصلاة دعاء، والصيام دعاء، والحج دعاء، والذكر كله دعاء؛ أي: دعاء عبادة، وسميت العبادة دعاء؛ لأن العبد طالب للثواب.
قال: «ودليل الخوف قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (175)} [آل عمران]» فأمر الله بالخوف منه، وخوف الله من أجَلِّ أحوال القلوب وأفضلها؛ لأنه يمنع صاحبه من الإقدام على معصية الله.
وفي معنى الخوف: الخشية والرهبة فمعانيها متقاربة، وكلها جاء ذكرها في القرآن، قال تعالى:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} ، وقال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ
(1)
رواه أبو داود (1479)، وصححه الترمذي (2969)، وابن حبان (890) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 258)، وجِلاء الأفهام ص 160.
مُشْفِقُون (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون (58)} [المؤمنون]، وقال تعالى:{فَإيَّايَ فَارْهَبُون (51)} [النحل]، والآيات في ذكر الخوف كثيرة.
و
الخوف من الخلق أنواع:
منه ما هو شرك؛ كالخوف من الأوثان والأموات، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، وأنهم يؤثرون بالنفع والضر، ومنه ما هو معصية؛ كالقعود عن الجهاد خوفًا من العدو وجبنًا، وكترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفًا من أذى الناس.
وأما خوف الإنسان من الأسباب المؤذية؛ كخوفه من العدو أو من السبع أو من غير ذلك من الأمور التي تضره، فهذا خوف طبيعي لا يأثم به ولا يذم.
«ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف]» والرجاء: هو الطمع في الفضل والعفو والرحمة.
وقد جمع الله بين هذين الوصفين - الخوف والرجاء - في قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، والطمع هو: الرجاء.
وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].
فالرجاء: هو طلب المحبوب.
والخوف: هو الحذر من المرهوب والمكروه، فالخوف من الله: خوف من عذابه ومن سخطه.
ومن أنواع العبادة التوكل، وهو: اعتماد القلب على الله، وتفويض الأمور كلها إليه.
«ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (23)} [المائدة] وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]» ، وأثنى على المؤمنين بالتوكل عليه: قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون (2)} [الأنفال].
وهكذا يجب على المؤمن أن يتوكل على الله، ولا يتوكل على سواه.
قال الشيخ: «ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54]»
والإنابة هي: الرجوع إلى الله في كل الأمور، والإقبال عليه سبحانه وتعالى بعبادته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
(1)
.
ودليل الاستعاذة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق (1)} ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1)} .
ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]».
فالاستعانة: طلب العون، قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} بمعنى: أطلب العون منك يا الله.
والاستعاذة: طلب العياذ والعصمة، تقول: أستعيذ بالله، أو: أعوذ بالله، كما قال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق (1)} ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1)} ، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} [النحل: 98]؛ أي قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
والاستغاثة: طلب الغوث، والسين والتاء للطلب.
ومن أنواع العبادة الذبح تقربًا وتعظيمًا، «ودليل الذبح قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام]» وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر (2)} [الكوثر]، فقرن الله بين الصلاة
(1)
رواه أحمد (1/ 293)، والترمذي (2516) - وقال: حسن صحيح -؛ والضياء في «المختارة» (10/ 22 - 25)، وحسنه الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» ص 345.
والذبح، وهما يحصلان من المؤمن في يوم، في مثل يوم الأضحى؛ يصلي صلاة العيد ويذبح القربان، فيحقق الأمرين.
«ومن السنة: «لعن الله من ذبح لغير الله»
(1)
».
والذبح تقربًا إلى الله أنواع:
- الأضحية.
- والهدي في الحج أو العمرة.
- والعقيقة، وكلها من القرابين والأنساك التي جاءت بها الشريعة.
«ودليل النذر قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الإنسان]» . فأثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على الموفين بالنذر، والمراد: نذر الطاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله، فليطعه» ، أما نذر المعصية فلا يجوز الوفاء به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»
(2)
فإذا نذر الإنسان أن يفعل طاعة وجب عليه أن يفي؛ كأن يقول: لله عليَّ أن أصوم يومًا، أو لله عليَّ أن أتصدق بكذا من المال، لكن ينبغي للإنسان أن لا ينذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال:«إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل»
(3)
.
وقد ذم الله الذين يخلفون الوعد؛ فقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين (75) فَلَمَّا آتَاهُم
(1)
رواه مسلم (1978) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6696) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه مسلم (1639) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُّعْرِضُون (76)} [التوبة]، فمن قال: إن شفى الله مريضي تصدقت بكذا، فإذا شُفي مريضه أو حصل له المطلوب بخل، فهذا تلبس بصفة من صفات المنافقين التي ذكرها الله في هذه الآية.
ثم قال الشيخ: «الأصل الثاني» من الأصول الثلاثة التي تجب على العبد معرفتها: «معرفة دين الإسلام بالأدلة» ، والإسلام: هو دين الله الذي بعث به رسله من لدن نوح صلى الله عليه وسلم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين (72)} [يونس]، وقال تعالى في إبراهيم ويعقوب عليهم السلام:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون (132)} [البقرة]، وقال الحواريون أتباع عيسى عليه السلام:{وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُون (52)} [آل عمران].
«وهو» : أي الإسلام «الاستسلام لله بالتوحيد» ؛ أي بعبادته وحده لا شريك له بالتوحيد، «والانقياد له بالطاعة» ، «و» هذا الاستسلام والانقياد لا بد معه من «البراءة من الشرك وأهله» وهذه هي حقيقة الإسلام، الذي هو دين الرسل كلهم.
قال الشيخ: «وهو» أي دين الإسلام «ثلاث مراتب» أي: درجات، وبعضها أكمل من بعض وأعلى من بعض.
المرتبة الأولى: «الإسلام» .
«و» الثانية: «الإيمان» .
«و» الثالثة: «الإحسان» . وهذه المراتب مستفادة من حديث جبريل عليه السلام كما سيأتي.
قال الشيخ: «وكل مرتبة لها أركان» .
فهذه هي أصول الدين الظاهرة، ثم ذكر الدليل على كل ركن من هذه الأركان، فقال:«فدليل الشهادة» ؛ أي: فدليل شهادة أن لا إله إلا الله، «قوله تعالى:{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (18)} [آل عمران]»، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون (25)} [الأنبياء]، وقال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} ، والأدلة على هذا كثيرة.
قال الشيخ: «ومعناها» ؛ أي: شهادة أن لا إله إلا الله: «لا معبود بحق إلا الله» ؛ أي أن كل معبود سوى الله باطل.
فآلهة المشركين معبودة بغير حق، فهي باطلة، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62]، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«قولوا: لا إله إلا الله» ، قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]
(1)
.
(1)
رواه أحمد (1/ 227)، وصححه الترمذي (3232)، وابن حبان (6686)، والحاكم (2/ 432) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ثم بيَّن الشيخ أن «لا إله إلا الله» مركبة من نفي وإثبات، وهما ركنا شهادة أن «لا إله إلا الله» ، فقوله:«لا إله» نفي استحقاق العبادة عن كل ما سوى الله، «(لا إله) نافيًا جميع ما يعبد من دون الله» ، وإثبات في قوله:«(إلا الله) مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه» ، فإذا كان هو الذي له الملك كله، وهو خالق كل شيء؛ فيجب أن يكون هو المعبود وحده.
قال الشيخ: «وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِمَّا تَعْبُدُون (26)} {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين (27)} {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون (28)} [الزخرف]» هذه الآية دلت على أن كلمة التوحيد تتضمن البراءة من المشركين وشركهم، ومثلها قوله تعالى:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين (77)} [الشعراء]، وقوله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4]، فكلمة التوحيد تتضمن البراءة من المشركين وشركهم، وما يعبدون من دون الله.
«و» مما يُفسرها «قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون (64)} [آل عمران]» ، فعُلم أن كلمة التوحيد تتضمن إفراده تعالى بالربوبية والألوهية، فلا يتخذ الناس بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، ولا يعبد الناس أحدًا غير الله، فإذا أعرض الكفار والمكذبون عن هذا الأمر:{فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون (64)} ، مستسلمون لله عابدون له لا نشرك به شيئًا.
قال الشيخ رحمه الله: «ودليل شهادة أن محمدًا رسول الله، قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (128)} [التوبة]» ، يخبر الله سبحانه وتعالى ممتنًا على عباده بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو رجل منهم يعرفون نسبه وسيرته، ويشق عليه الذي يشق عليهم، وهو حريص على هدايتهم حتى أنه كان يتحسر إذا لم يستجيبوا، ولهذا قال الله:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِين (3)} [الشعراء].
وقوله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (128)} ؛ أي: رحيم بالمؤمنين، والله تعالى قد خصهم بقوله:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين (88)} [الحجر].
«ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله» ، أي حقيقة الإقرار والتصديق واليقين بأنه رسول من عند الله إلى جميع الناس، ومقتضى هذه الشهادة:«طاعته فيما أمر» ، قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] في مواضع كثيرة، ويقول تعالى:{وَأَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون (132)} [آل عمران]، ويقول تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون (158)} [الأعراف].
«وتصديقه فيما أخبر» ، فهو أصدق الناس. «واجتناب ما عنه نهى وزجر» .
«وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع» ، فعبادة الله لا بد فيها من شرطين:
- الإخلاص لوجه الله.
- وموافقة أمر الله ورسوله، وهو المقصود بقوله:«وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع» ، فمن عبد الله بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فعمله باطل؛ لأنه عمل مبتدع.
قال الشيخ: «ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة (5)} [البينة]» ، فهذه الثلاثة هي أعظم أركان الإسلام، والكتاب والسنة تجمع بينها في مواضع متعددة؛ كما قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا} ؛ أي: من الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون (11)} [التوبة]، فأعظم هذه الأصول عبادة الله وحده لا شريك له وإخلاص الدين لله، وبعد ذلك إقام الصلاة، فالصلوات الخمس هي عمود الإسلام، وهي أوجب الواجبات بعد التوحيد، والزكاة قرينتها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالصلاة هي حق الله على عباده في كل يوم وليلة، والزكاة حق الله على عباده في أموالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ:«فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم»
(1)
.
(1)
رواه البخاري (1395)، ومسلم (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
أي: فرض عليكم الصيام، والمراد:«صيام شهر رمضان» كما بين ذلك في الآية التي بعدها {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس»
(1)
، وذكر: صيام رمضان، فصيام شهر رمضان هو أحد مباني الإسلام.
هذا هو الركن الخامس من أركان الإسلام ومبانيه العظام؛ فرضه الله على المستطيع من عباده مرة في العمر.
يقول الشيخ رحمه الله: «المرتبة الثانية» : من مراتب الدين، «الإيمان» ، وهي أعلى من التي قبلها؛ لأنها تتعلق باعتقاد القلب.
قال الشيخ: «وهو» أي؛ الإيمان: «بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان
(2)
».
فالإيمان له شعب كثيرة ظاهرة وباطنة، أفضلها كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» ، وهي أصل دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وهي مع شهادة «أن محمدًا رسول الله» ، أصل هذا الدين الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهما جميعًا أصل واحد وبناء واحد، وأدنى هذه الشعب
(1)
رواه البخاري (8)، ومسلم (16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه مسلم (35) بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
إزالة الأذى عن طريق الناس، وهذا يدل على أن الإيمان قول وعمل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
قال الشيخ: «وأركانه» ؛ أي: الإيمان «ستة» ، وهي:«أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
هذا طرف من حديث جبريل، كما سيذكره الشيخ، والمراد من الإيمان هنا: الاعتقاد، والإيمان بهذه الأصول الستة إجمالًا فرض عين على كل مكلف، وأما معرفتها والإيمان بها تفصيلًا، فهو فرض كفاية، ولكن من علم شيئًا من ذلك التفصيل وجب عليه الإيمان به عينًا.
الأصل الأول: الإيمان بالله: ويشمل:
- الإيمان بوجوده.
- والإيمان بربوبيته.
- والإيمان بإلهيته.
- والإيمان بأسمائه وصفاته.
الأصل الثاني: الإيمان بالملائكة: ويشمل:
- الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله عن الملائكة من أسمائهم وصفاتهم وأعمالهم.
وهذا في القرآن كثير، فمنهم الحفظة الكاتبون؛ كما قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين (11)} [الانفطار]، ومنهم الحفظة للعبد من بين يديه ومن خلفه؛ كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} [الرعد: 11]، ومنهم الموكلون بقبض أرواح العالمين؛ كما قال تعالى:{حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُون (61)} [الأنعام]، ومنهم الموكل بإبلاغ الوحي إلى الرسل، كجبريل عليه السلام، كما قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين (194)} [الشعراء].
الأصل الثالث: الإيمان بالكتب: ويتناول الإيمان بكل ما أنزل الله من كتب ما علمنا منها، وما لم نعلم، وقد علمنا أن من كتب الله المنزلة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، وهو: أفضلها، والمصدق لها، والمهيمن عليها.
الأصل الرابع: الإيمان بالرسل: وهو قسمان:
- إيمان مجمل بجميع رسل الله؛ من قص علينا منهم ومن لم يقصص {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء]، فنؤمن بأن الله أرسل رسلًا إلى العباد ليأمروهم بعبادته وحده لا شريك له، وينهوهم عن الشرك به.
- إيمان مفصل بالرسل الذين قصّ الله علينا شيئًا من أخبارهم.
الأصل الخامس: الإيمان باليوم الآخر: وهو يوم القيامة، و
الإيمان باليوم الآخر يشمل كل ما يكون بعد الموت
؛ من عذاب القبر ونعيمه، وما بعد ذلك من البعث والنشور والحشر والعرض والميزان، وآخر ذلك الجنة والنار.
الأصل السادس: الإيمان بالقدر: وهو الإيمان بأن الله قدّر مقادير الخلق، وكتب كل ما سيكون.
والإيمان بالقدر أربع مراتب:
1 -
الإيمان بعلم الله السابق لكل شيء، ومن ذلك علمه بأفعال العباد وطاعتهم ومعاصيهم.
2 -
الإيمان بكتابته للمقادير.
3 -
الإيمان بعموم مشيئته وأنه لا يخرج عن مشيئته شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
4 -
الإيمان بأنه تعالى خالق كل شيء.
ولا يكون الإنسان مؤمنًا بالقدر حتى يؤمن بهذه المراتب.
يقول الشيخ رحمه الله: «المرتبة الثالثة» من مراتب الدين «الإحسان» ، وهو «ركن واحد» .
والإحسان أعلى مرتبة من مراتب الدين، ويشمل الإيمان والإسلام، ولهذا يقول العلماء: كل مؤمن مسلم، ولا عكس، وكل محسن مؤمن، ولا عكس.
والإحسان فسره الشيخ بما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، والإحسان الذي أمر الله به عباده وأثنى على أهله في كتابه نوعان:
الإحسان إلى الخلق بأنواع الإحسان: {وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)} [النساء].
الإحسان في العمل: وهذا هو المقصود هنا، والمراد إتقانه وإيقاعه على أكمل الوجوه، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125].
قال: «وهو» : أي الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه» ، والمعنى: أن تقبل على عبادة الله كأنك تراه.
والعباد لا يرون ربهم في الدنيا، وإنما يرونه يوم القيامة، كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث، ولكن المؤمن الصادق يحسن في عبادته لربه، فيعبده كأنه يراه خائفًا راجيًا مقبلًا خاضعًا لربه متذللًا، ومن كان على هذه الحال؛ فمعلوم أنه سيكون في غاية من الإقبال والصدق في العبادة.
قال: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والعبد لا يرى ربه، ولكن الله يراه، فينبغي للمسلم أن يستحضر إطلاع الله عليه وشهوده له، فيوجب له ذلك تحقيق العبودية، وكمال الإقبال.
قال: «والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُون (128)} [النحل]» ؛ اتقوا ربهم وأحسنوا في تقواهم، وهذه هي: معية الله الخاصة قيدها بالمتقين، ونظير ذلك قوله سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه]، وهذه المعية تقتضي: التأييد والحفظ والنصر.
«وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (220)} [الشعراء]» والمعنى: اعتمد بقلبك وفوض جميع أمورك إلى من يراك وأنت قائم في عبادته، وأنت بين الساجدين ومعهم؛ فإن توكلت عليه فإنه كافيك، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، وهذا ظاهر الدلالة على معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
(1)
.
«وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]» ، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ}؛ أي: حال من أحوالك الدينية والدنيوية {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} ؛ أي: وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك، وهذا أخص من قوله:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} ، وخصها بالذكر؛ لأن تلاوته للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم، {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} هذا هو الشاهد؛ والمعنى: إلا كنا حاضرين وقت شروعكم فيه واستمراركم على العمل به، فراقبوا الله في أعمالكم
(1)
سيأتي في ص 40 مطولًا.
وأدوها على وجه النصيحة والاجتهاد فيها، وإياكم وما يكرهه الله تعالى، فإنه مطلع عليكم عالم بظواهركم وبواطنكم.
وكل هذه الآيات تدل على مقام الإحسان، وأن الله سبحانه وتعالى يرى عبده في جميع أموره، وفي جميع أحواله، فهو حاضر يسمع كلام العبد ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُون (69)} [القصص]، فإذا استحضر العبد ذلك كان من أسباب إقباله على ربه، وصدقه في عبادته، وتكميله لها، ولكن بسبب الغفلة والذهول عن هذا الأمر يؤدي الإنسان العبادة بفتور، والمؤمن يؤمن بأن الله يراه، ولكن فرْقٌ بين الإيمان بهذا الأمر، وبين الشعور به واستحضاره.
وكثير من الناس لا يستحضر هذا الأمر، فهذا مقام عظيم، إنما يحققه الكُمَّل من المؤمنين.
وتقدم أن دين الإسلام ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وقد ذكرها الشيخ، وذكر أركانها ومعناها، وأدلتها من القرآن، ثم قال:«والدليل من السنة حديث جبرائيل المشهور عن عمر رضي الله عنه» ؛ أي: الدليل على ما تقدم كله من السنة النبوية، وإذا أطلق حديث جبريل يراد به هذا الحديث، وقد روى هذا الحديث مسلم عن عمر رضي الله عنه
(1)
، ورواه أيضًا هو والبخاري بلفظ مختلف قليلًا عن أبي هريرة رضي الله عنه
(2)
(1)
رواه مسلم (8).
(2)
رواه البخاري (50)، ومسلم (9).
ظهر علينا من طريق أو من باب بهيئة طيبة وجميلة، ولكنه غير معروف، يقول:«حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه» ؛ يعني: جلس قريبًا منه، فأسند السائل ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويديه على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم مبالغة في القرب، ومبالغة في السؤال، «وقال: يا محمد» خاطبه باسمه؛ لإظهار أنه جاهل لا يعرف حسن الخطاب؛ لأن عادة الأعراب إذا جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: يا محمد! أما الصحابة الذين حسن إسلامهم لا يقولون للرسول: يا محمد، وإنما يقولون: يا رسول الله! أو يا نبي الله! وهذا أشرف ما يدعى به صلى الله عليه وسلم، كما خاطبه الله بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64]، {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41].
«أخبرني عن الإسلام» ؛ أي: ما هو الإسلام؟ «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا» .
«قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه» العادة أن السائل لا يقول: صدقت، بل يقول: جزاك الله خيرًا، أحسن الله إليك، ونحوها، ولكن قوله:«صدقت» يدل على أن عنده خبرًا، وهذا هو محل العجب.
ثم «قال: فأخبرني عن الإيمان» هذا هو السؤال الثاني، ما هو الإيمان؟
«قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» ؛ فسر الإيمان بهذه الأصول الستة، وهذه كما تقدم هي أصول الاعتقاد، فجميع مسائل الاعتقاد ترجع إلى هذه الأصول؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «العقيدة الواسطية»: «اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة - أهل السنة والجماعة -: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
…
»
(1)
.
«قال: صدقت» مثل ما قال في الأول «قال: فأخبرني عن الإحسان» ، ما هو الإحسان؟
«قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، والمراد إحسان العمل وإتقانه بتحقيق المراقبة، وكمال الإخلاص.
«قال فأخبرني عن الساعة؟» متى الساعة؟ أي: القيامة، «قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»؛ أي: علمي وعلمك بها سواء، فإذا كنتَ لا تعلمها، فأنا كذلك لا أعلمها.
«قال: فأخبرني عن أمارتها» ؛ أي: علامات قيامها «قال: أن تلد الأمة ربتها» وفي لفظ «ربها» ، الأمة: هي الأنثى المملوكة تلد ربها أو تلد ربتها، اختلف في معنى ذلك، وأحسن ما قيل: إنه إذا كثر الرقيق فربما ولدت المرأة ابنًا ثم فارقته بسبب الرق، ثم اشتراها ولدها وهو لا يدري أنها أُمُّه، فيصير سيدًا لها، وقيل: إن الأَمَة إذا وطئها سيدها فولدتْ، فولدُ سيدِها سيدٌ لها.
(1)
الواسطية ص 21.
«وأن ترى الحفاة العراة العالة» الحفاة: غير المنتعلين، والعراة: غير المكتسين، والعالة: الفقراء «رِعَاء الشَّاء» الذين من عادتهم رعي الغنم «يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ» ، والمراد: إذا رأيت سكان الصحراء يهبطون إلى القرى، ويبنون فيها المساكن ويتنافسون في طول البنيان، فهذا من علاماتها. وعلامات قيام الساعة كثيرة، كما جاءت الأدلة بذكرها.
«قال: فمضى» ؛ أي: خرج الرجل ومشى قال: «فلبثنا مليًا» ؛ أي: زمنًا، وفي رواية:«فلبثت ثلاثًا»
(1)
، «فقال: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم».
فهذا الحديث العظيم اشتمل على فوائد كثيرة، فقد اشتمل على ذِكر أصول الدين الاعتقادية والعملية، وذكر مقامات الدين ومراتبه، وفيه الدلالة على أن الساعة مما استأثر الله بعلمه، وفيه دليل على بعض علاماتها:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] أي: علاماتها.
(1)
رواه الترمذي (2610) وصححه، والنسائي (8/ 97).
قال: «الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم» من الأصول الثلاثة التي يجب على العبد معرفتها، وهي مدار العلم.
وتقدم ذكر المرسِل: وهو الله تعالى، والرسالة: وهي دين الإسلام، والآن يتحدث الشيخ عن المرسَل أو الرسول، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فمعرفته واجبة.
ثم ذكر الشيخ تعريفًا موجزًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ذكر نسبه قال:«وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش» ؛ ولهذا يُقال له هو وقبيلته: بنو هاشم، وهاشم من قريش، وهو: هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، إلى أن ينتهي نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان.
يقول: «وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام» . إذًا؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»
(1)
.
ثم ذكر الشيخ عُمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال:«وله من العمر: ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيًّا رسولًا» ؛ مضى عليه أربعون وهو لا يعلم شيئًا مما جاءه {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِين (3)} [يوسف]، {قُلْ لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُون (16)} [يونس]، وثلاثة وعشرون سنة كان نبيًّا رسولًا صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر الشيخ ما نُبئ به وأرسل به من القرآن، فيقول رحمه الله:«نبئ ب {اقْرَأ}» أي أنه أوحي إليه فصار نبيًا بنزول أوائل سورة العلق؛ جاءه جبريل عليه السلام وهو يتعبد في غار حراء - فقال: «اقرأ، فقال: ما أنا
(1)
رواه مسلم (2276) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم (3)} »
(1)
، وبهذا صار نبيًا.
«وأرسل ب {الْمُدَّثِّر}» ؛ لأن فيها التنصيص على الأمر بالنذارة.
«وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة» ثم ذكر الشيخ بلد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي مكة؛ البلد الحرام وأفضل بلاد الله، وأحب البلاد إلى الله.
إذًا؛ فالله تعالى اصطفى أفضل الرسل من أفضل البلاد، وأفضل الشعوب وأشرف القبائل صلى الله عليه وسلم.
المدثر هو: الملتحف؛ لأنه جاءه الملك وهو على هذه الحال، وقوله تعالى:{قُمْ فَأَنذِر (2)} أنذر الناس عذاب الله وحذرهم من أسبابه، {وَرَبَّكَ فَكَبِّر (3)}: عظمه بتوحيده وإخلاص الدين له وطاعته، {وَثِيَابَكَ
(1)
رواه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة رضي الله عنها.
فَطَهِّر (4)}؛ أي طهر أعمالك من الشرك والمعاصي، ونزه أخلاقك عن الأخلاق الرذيلة، وقيل: طهِّر ثيابك من النجاسات.
يقول الشيخ: «أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرج به إلى السماء» عشر سنين وهو يدعو إلى التوحيد، ويأمر بالأخلاق والعفاف والصلة والصدقة، ثم أُسريَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به من هناك إلى السماء، وشاهد ما شاهد، ولقي من لقي من الأنبياء «وفرضت عليه الصلوات الخمس» فرضت خمسين ثم لم يزل يطلب من ربه التخفيف حتى صارت خمسًا، «وصلى في مكة ثلاث سنين» بعد ما فرضت عليه الصلوات الخمس «وبعدها؛ أُمر بالهجرة إلى المدينة» ؛ لأنه أُوذي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في مكة، فهاجر بعض أصحابه إلى الحبشة مرتين، ثم أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، بعدما انتشر الإسلام فيها وصارت دار إسلام، وبعد أن وفد إليه الأنصار وبايعوه على أنه إذا أتاهم يحمونه وينصرونه، فهاجر صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضي الله عنه.
قال: «والهجرة» حقيقتها «الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام» .
والهجر في اللغة: الترك، فالانتقال فيه ترك، الانتقال ترك للبلد التي ينتقل منها إلى بلد آخر، وهذه الهجرة الخاصة. أما الهجرة العامة فهي هجر ما نهى الله عنه؛ كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»
(1)
، من كل المعاصي.
(1)
رواه البخاري (10) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
ففي هذه الآية دلالة على أن الملائكة توبخ الذين أسلموا وبقوا مستخفين لا يظهرون دينهم بل يُظهِرون أنهم على دين قومهم من غير ضرورة ولا إكراه ومع قدرتهم على الهجرة، وتنذرهم سوء المصير؛ لأن الأرض واسعة يمكن للمضطهد والمستذل والمظلوم أن يتحول إلى نواحي أرض الله الواسعة ليجد مكانًا يراغم فيه الأعداء، واستثنى من الوعيد المستضعفين، فقال:{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} الذين {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98)} ، «و» كذلك من الأدلة «قوله تعالى:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُون (56)} [العنكبوت]». وهذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيها على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، وأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم.
«قال البغوي رحمه الله تعالى» المفسر المعروف، حسين بن مسعود صاحب تفسير «معالم التنزيل»:«سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان»
(1)
، فإذا كان الإنسان
(1)
معالم التنزيل (2/ 272) بمعناه.
في بلد الشرك والكفر، وهو لا يستطيع أن يظهر دينه وجب عليه أن يهاجر ويفارق أرض المشركين وأرض الكفار.
(1)
»، فإذا طلعت الشمس من مغربها أُغلق باب التوبة، فلا يمكن لأحد أن يتوب؛ لا الكافر من كفره، ولا العاصي من معصيته، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن مَنْ عليها، فذاك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158]»
(2)
.
وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة، «فلما استقر بالمدينة أُمِر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة والصوم والحج والجهاد والأذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام»؛ لأنه في مكة أول ما فرض عليه من أركان الإسلام العملية: الصلوات الخمس، وفي المدينة أُمر ببقية شرائع الإسلام، وبعضهم يقول: إن الزكاة فرضت في مكة، ولكن تفاصيل أحكامها كان في المدينة، وفُرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، فصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات فقط.
(1)
مسند أحمد (4/ 99)، وأبو داود (2479) من حديث معاوية رضي الله عنه، وصححه الألباني في «إرواء الغليل» (5/ 33).
(2)
رواه البخاري (4635) - واللفظ له -، ومسلم (157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفرض الحج في السنة التاسعة من الهجرة على الصحيح، وأُمر بالأذان للصلاة ولم يكن مشروعًا قبل ذلك، وشُرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد فسُيَّرت السرايا والجيوش من المدينة لغزو الكفار وحربهم؛ لأن الدولة النبوية تكونت في المدينة.
يقول الشيخ: «أخذ على هذا عشر سنين» وهو في المدينة، «وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه» ، في ربيع الأول من السنة العاشرة؛ بل على التاريخ المعروف تكون في السنة الحادية عشرة، فتم له عشر سنين في المدينة لأنه قدم في ربيع الأول وتوفي في ربيع الأول، فهذه عشر سنين.
يقول الشيخ: «ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، والخير الذي دل عليه: التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه: الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه» وقد توفي صلى الله عليه وسلم، ولكن دين الله باق محفوظ؛ لأن الله قد ضمن حفظه، ولما مات وفُجع الناس بموته صلوات الله وسلامه عليه، وطاشت العقول، جاء أبو بكر رضي الله عنه وخطب الناس وبين لهم أنه بشر، وأنه سيموت، وقال:«من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» ، وتلا عليهم:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}
(1)
الآية [آل عمران: 144]، وقوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُون (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون (31)} [الزمر].
(1)
رواه البخاري (3667 - 3688).
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]. فهو رسول الله إلى جميع الناس، إلى اليهود والنصارى والوثنيين وسائر البشر، إلى العرب والعجم، ومن قال: إنه رسول إلى العرب دون غيرهم؛ فهو كافر لم يشهد أن محمدًا رسول الله، كما يزعم بعض النصارى ويقول: صحيح أن محمدًا رسول، لكنه رسول إلى العرب. ومن يظن هذا من المسلمين أو يعتقده، فهو مرتد عن الإسلام.
فكل من خرج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وفي نار جهنم إن مات على ذلك كما في الحديث الصحيح؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»
(1)
؛ وذلك لأن دين اليهود والنصارى الذي يتدينون به الآن دين باطل.
يقول الشيخ: «وأكمل الله به الدين» أكمل الله برسالته صلى الله عليه وسلم الدين، فقد جاء بالشريعة الخالدة الكاملة.
(1)
رواه مسلم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا الدين محفوظ باقٍ ببقاء أهله أن تقوم الساعة، في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك»
(1)
، «والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُون (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون (31)} [الزمر]».
بعد ما ذكر الأصول الثلاثة أتبع ذلك بذكر أصل من أصول الإيمان، وهو: الإيمان بالبعث بعد الموت، وهذا هو الذي كفَر به أعداء الرسل الأولون والآخرون، قال تعالى:{فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيب (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد (3)} [ق]، وقد أمر الله نبيه أن يقسم بربه على وقوع البعث، قال تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقال تعالى:{وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِين (53)} [يونس].
(1)
رواه البخاري (3641)، واللفظ له، ومسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه.
فالإيمان بالبعث أصل من أصول الإيمان ويُعبر عنه باليوم الآخر، والآيات في ذكر البعث كثيرة جدًا، قال تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه]، فالله خلق الناس من تراب ثم يعيدهم في التراب ثم يخرجهم تارة أخرى، وقال تعالى:{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون (25)} [الأعراف]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح]، وقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِير (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِير (44)} [ق]، وقال تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون (16)} [المؤمنون].
يقول الشيخ: «ومن كذَّب بالبعث كفر» حتى لو آمن بالله؛ لأنه أنكر أصلًا من أصول الإيمان، والتكذيب بالبعث يتضمن تكذيب الرسل كلهم «والدليل قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (7)} [التغابن]». إذًا؛ إنكار البعث هو من عقائد أهل الكفر، كما في هذه الآيات.
والبعث: المراد به إخراج الناس من قبورهم {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت (4)} [الانفطار].
والبعث له غاية، وهو: الحساب والجزاء، فالناس بعد البعث محاسبون ومجزيون على أعمالهم، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)} [الزلزلة]، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون (15)} [الجاثية].
ويوم القيامة له أسماء كثيرة، منها:
يوم القيامة، ويُقال له الساعة، ويوم النشور، ويوم الحساب، ويوم الدين، قال تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين (18)} [الانفطار].
فهذه الحياة الدنيا ليست كما يظنها الكافرون دائمة، وأنها أجيال تنقرض وتذهب، وأجيال تظهر وتنشأ إلى ما لا نهاية؛ لا، الأمر ليس كذلك؛ فهذه الدنيا لها عمر، ولها نهاية وأجل، وأجلها هو: قيام القيامة الذي استأثر الله بعلمه، وكتمه عن خلقه فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
ثم إذا قامت القيامة وبُعث الناس من قبورهم، جمع الله الأولين والآخرين، {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِين (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُوم (50)} الآيات [الواقعة].
واليهود والنصارى يؤمنون بالبعث، لكن ليس على الوجه الذي دلت عليه نصوص القرآن والسنة، وإذا آمنوا به وآمنوا بالجنة والنار، فلهم عقائد في البعث وفي الجنة والنار باطلة، ولو آمنوا به إيمانًا صحيحًا لكانوا كفارًا بتكذيبهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالكفر: يكون باعتقاد الشخص عقيدة واحدة من عقائد الكفر أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فالمشركون كفروا بأشياء كثيرة: بالشرك وبتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وبجحد اليوم الآخر، فعندهم أنواع من الكفر.
ولا يجازى الإنسان على العمل السيئ بأكثر مما عمله، وإنما يجزى بمثل عمله قال تعالى:{مَنْ جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُون (160)} [الأنعام]، وهذا من كمال عدل الله وفضله وإحسانه، واستدل الشيخ لذلك بقوله تعالى:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا} ، أما المحسنون فقال الله تعالى:{وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم]، فهم يجزون بأفضل مما عملوا، وبأكثر من أعمالهم، والحسنى «فعلى» بمعنى: الأحسن، كما قال سبحانه وتعالى:{وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون (33) لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِين (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون (35)} [الزمر]، هذا الشاهد:{بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون (35)} .
يقول الشيخ رحمه الله: «وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين» بعد ما ذكر الشيخ من أصول الإيمان البعث والحساب والجزاء؛ ذكر أصلًا آخر من أصول الإيمان وهو الإيمان بالرسل.
فالله أرسل الرسل لقطع العذر وإقامة الحجة، حتى لا يقول قائل:{لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [طه: 134]، فهم مرسلون ليبشروا من أطاعهم بوعد الله وثوابه وكرامته، وينذروا من عصاهم بالعقاب.
«و» هؤلاء الرسل «أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم» بعث الله نوحًا إلى قومه، وهم أهل الأرض إذ ذاك لما حدث فيهم الشرك،
فأقام فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو يدعوهم، ثم أوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، قال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون (36)} [هود]، وقال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيل (40)} [هود].
وآخر هؤلاء الرسل هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، خُتمت به النبوة والرسالة فلا نبي بعده، وهو نبي الساعة؛ لأنه بُعث بين يدي الساعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»
(1)
.
يقول الشيخ: «والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]» فذكر الله في هذه الآية أول الرسل وآخرهم {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو آخرهم، {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} وهو أولهم، فجمع الله في هذه الآية بين طرفي سلسلة الرسل.
(1)
رواه أحمد (2/ 50) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وفي إسناده كلام وله شاهد مرسل، انظر: إرواء الغليل (5/ 109).
دين الرسل كلهم واحد هو الإسلام، فكل رسول بعثه الله إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة الطاغوت، ويدل لذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، فهذا يدل على أن دعوة الرسل واحدة، ودينهم واحد هو: الإسلام، لكن الشرائع وكيفية العبادات تتنوع وتختلف، وهناك عبادات في الشرائع الماضية موجودة في هذه الشريعة، فهي مشتركة، كالصلاة والزكاة والصيام، بل والحج، كما دلت على ذلك النصوص.
وإرسال الرسل رحمة من الله للبشر، ولولا ذلك لتخبَّطوا في الظلمات ولَمَا اهتدوا إلى الطريق القويم، ولكن رسل الله جاءت تترا واحد بعد واحد؛ أرسل الله نوحًا ثم هودًا ثم صالحًا، وكان آخرهم خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم؛ أرسله الله إلى الناس أجمعين، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
قال الشيخ: «وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله» وهذا هو أول واجب على العبد، فالكفر بالطاغوت البراءة من كل ما يُعبد من دون الله، والإيمان بالله هو: الإيمان بربوبيته وإلهيته.
ثم نقل الشيخ تفسير ابن القيم لمعنى الطاغوت فقال:
«قال ابن القيم رحمه الله تعالى» : - وهو الإمام المعروف بالعلم والتحقيق والاجتهاد، وصاحب المؤلفات الكثيرة - يقول: «الطاغوت ما
تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع»
(1)
؛ أي أن كل من غلا فيه الإنسان وتجاوز به الحد، فرفعه عن منزلته فهذا هو الطغيان والغلو.
يقول: «من معبود أو متبوع أو مطاع» فمن عبد غير الله، فقد تجاوز به الحد، فإن المخلوق عبد لا يرتفع إلى منزلة الإلهية «أو متبوع»؛ أي: إمام له أتباع، فمن اتخذ له إمامًا وتجاوز به الحد بأن جعله بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه معصوم؛ فهذا المتبوع إذا كان راضيًا بما يفعله هؤلاء الأتباع؛ فهو طاغوت.
وكذلك من له سلطان على الناس إذا غلا فيه الناس حتى جعلوا طاعته لازمة كطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تجاوز الإنسان بهذا المطاع حده.
يقول الشيخ: «والطواغيت كثيرة» هناك كمٌّ هائل يُعبد من دون الله «ورؤوسهم خمسة» ؛ أي: كبارهم ورؤسائهم «إبليس لعنه الله» هذا هو طاغوت الطواغيت، إبليس اللعين، وينبغي أن تقول: اللعين ولا تقول: لعنه الله؛ لأننا لم نتعبد بالدعاء عليه، إنما تُعبدنا بالاستعاذة بالله من شره في مواضع كثيرة: في افتتاح الصلاة، وقبل تلاوة القرآن، وعند دخول الخلاء، وعند دخول المسجد والخروج منه، وفي مواضع كثيرة ذكرتها النصوص.
«ومن عُبد وهو راضٍ» احترازًا من الأنبياء والملائكة، فإن بعض المشركين يعبدهم، ولكنهم غير راضين بذلك، بل يتبرءون من عابديهم
(1)
إعلام الموقعين (1/ 50).
«ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه» ؛ أيُّ طغيان فوق هذا الطغيان أن يدعو الناس إلى أن يعبدوه؟! ومن أطاعه فقد تجاوز به الحد «ومن ادعى شيئًا من علم الغيب» ، فإن ذلك يناقض قوله تعالى:{قُلْ لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: 65]، فمن ادعى أنه يعلم الغيب فهو طاغوت.
«ومن حكم بغير ما أنزل الله» ، فهو طاغوت، وقد يكون كافرًا، وقد لا يكون كافرًا، لكنه طاغوت؛ لأنه تجاوز بهذا الحكم حده، ومن أطاعه في ذلك ووافقه في ذلك؛ فقد غلا فيه وتجاوز به حده.
ثم ذكر الشيخ الدليل على وجوب الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، يقول:«والدليل قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]» .
يقول الشيخ: «وهذا معنى: لا إله إلا الله» ؛ أي: أن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، هو: معنى لا إله إلا الله.
قال الشيخ: «وفي الحديث: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» »
(1)
، هذا طرف من حديث معاذ الطويل الذي رواه الترمذي وغيره، قال: قلت يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال:«لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه» - إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: - «ألا أُخبرك برأس الأمر كله، وعموده وذروة سنامه؟» قلت: بلى
(1)
رواه أحمد (5/ 231)، والترمذي (2616) وقال: حسن صحيح.
يا رسول الله، قال:«رأس الأمر الإسلام» ؛ أي: رأس الأمر وأوله وأعلاه هو الإسلام، الذي هو: معنى لا إله إلا الله.
قال: «وعموده الصلاة» التي هي: أوجب الواجبات على المسلمين بعد التوحيد.
قال: «وذروة سنامه الجهاد» ؛ أي: أعلاه، فإذا كانت سوق الجهاد قائمة، وراية الجهاد مرفوعة، فهذا عنوان العز - عز الإسلام وأهله -، ومتى ترك الناس الجهاد - كما هو الواقع - ذلوا وهانوا.
«والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم» .
تمَّ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
* * *