الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الشارح
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ مَنْ يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، ثم أما بعد:
أَوَدُّ قَبل الشروع-بإذن الله تعالى-في شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، أن أُقَدِّم بثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى: أهمية طلب العلم.
لا بد أن نُذَكِّر أنفسنا بِعِظَم الأمانة التي نَصَّبنا أنفسنا لها، واستجبنا فيها لنداء الله تعالى، وهي: حمل العلم وتعليمه.
قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
فهذه الآية الكريمة قد أشارت إلى أمرين:
الأمر الأول: أمانة التحمل في قوله: {ليتفقهوا} .
والأمر الثاني: مسئولية الأداء في قوله: {ولينذروا} .
ولا بد من التحمل والفقه أَوَّلًا قبل الأداء والبلاغ والبيان، ونحن نعلم أن هذا الأمر شريف وعظيم، فالله قد امتن على نبيه بتعليمه ما لم يعلم من قبل، فقال جل وعلا:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
ونحن طلبة العلم إذ نسلك هذا المَسلك فإننا نزداد من هذا العلم ونتزود منه ولا شك، وكلما ازددنا علمًا كلما ازددنا شرفًا ورفعة في الدنيا والآخرة وقربًا من الله تعالى؛ وذلك لابد فيه من شرطين:
الشرط الأول: الإخلاص.
والشرط الثاني: إتباع العلم العمل.
قال جل جلاله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة 11].
(1)
.
وطالب العلم حري أن يكون أخشى الناس لله، وأَتْبَع الخلق لطاعته؛ قال جل وعلا:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، وتأَمَّل قولَه تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]؛ لتتبين الفرق بين مَنْ عَلِم وبَين مَنْ لم يَعلم.
وقد قرن الله جل جلاله شهادته بشهادة الملائكة الذين هم عباده المكرمون وشهادة أهل العلم له جل وعلا بالألوهية؛ فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
والإنسان يجب أن ينظر إلى نفسه قبل سلوك طريق طلب العلم؛ هل حاله بعد
(1)
أخرجه مسلم (817).
أن قطع فيه مراحل كحاله قبل الطلب!
والطالب الذي وَفَّقَه الله وحَصَّل شيئًا من العلم الشرعي؛ عليه أن يَنظر إلى أقرانه الذين كانوا معه في الدراسة أو في بداية الطلب ونشأ بينهم، ولم يُكملوا السَّير فيه؛ ليعلم أن الله قد اختاره دون غيره من أقرانه؛ لسلوك ذلك السبيل العظيم المُوَصِّل إلى الجنة؛ وليضع نُصب عينيه ما رواه أبو داود والترمذي عن كثير بن قيس، قال:«كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل، فقال: يا أبا الدرداء: إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديثٍ بَلغني أنَّك تُحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سلك طريقًا يَطلب فيه علمًا سَلَك الله به طريقًا مِنْ طُرُق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا؛ وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر»
(1)
.
فلا شكَّ أن ميراث المرء يناله في الدنيا أقرب الناس إليه؛ وهذا يدل على أن أهل العلم هم أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي إنما وَرَّث هذا العلم وخَلَّفه؛ وطلاب العلم هم الذين حملوا ميراثه، وهذا فضل عظيم وشرف رفيع.
ففضل العلم معلوم، ومهما بذل طالب العلم مِنْ وقت وجهد فهو في نجاح وفلاح، وهو في طريق عليه أن يلزمه ولا يحيد عنه أبدًا؛ فإن نهايته إلى جنة الله ورضوانه، وقد بَشَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «مَنْ يُرِد الله به خيرًا يُفقهه في الدين، وإنما أنا
(1)
أخرجه أبو داود (3641) والترمذي (2682) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في «المشكاة» (212).
قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يَضُرهم مَنْ خالفهم، حتى يأتي أمر الله»
(2)
، فالله قد أراد بطالب العلم الخير وأراده له.
ولينظر طالب العلم إلى حاله وحال عَوَامِّ الناس وجُهَّالهم؛ ليعلم أنه في منزلة رفيعة وشأن عظيم قد اختاره الله له ويَسَّره وهَيَّأه له، لذا يقول جل جلاله:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
وهذا الشرف الذي جاءت به النصوص لا شك أنه عظيم، وفضل من الله جليل، حقه أن يُرعى، وأن يُحرص على نَيله وتحصيله، وقد قَسَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناس إلى ثلاثة أصناف؛ فقال:«مَثَلُ ما بَعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقيَّة، قَبِلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس؛ فشَربوا وسَقُوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قِيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مَثَلُ مَنْ فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومَثَل مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يَقبل هدى الله الذي أرسلت به»
(1)
؛ فقسم النبيُّ صلى الله عليه وسلم السامعين لهذا العلم والهدى إلى ثلاثة أصناف:
الأول: (الأرض الطيبة)، وهم مَنْ أعطاهم الله ذكاء وزكاء؛ فأعطاهم ذكاء استطاعوا به أن يحفظوا العلم وأن يحصلوه ويدركوا به مسائله. وأعطاهم زكاء حملهم على العمل بالعلم والدعوة إليه وتبليغه.
والثاني: (أجادب، أمسكت الماء)، وهم الذين أُوتوا ذكاء ولم يُؤتوا زكاء؛ فاستطاعوا بذكائهم أن يحفظوا العلم، وأن يدركوا مسائله، لكنهم لم يستفيدوا به في
(1)
أخرجه البخاري (71) ومسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (79) ومسلم (2282) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ذات أنفسهم، وإنما حفظوه ليستفاد منه غيره؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:«نَضَّر الله امرءًا سمع منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه»
(1)
.
والثالث: (قيعان)، وهم مَنْ حرموا الذكاء والزكاء، فلم يُحَصِّلوا العلم وبالتالي لم يعملوا به.
لذلك لا بد أن يحرص طالب العلم على أن يكون من الصنف الأول.
وأما أفضل طريقة لتحصيل العلم والاستفادة منه: هي كما قال ابن القيم: «وللعلم سِتُّ مَرَاتِب:
أولها: حُسْن السُّؤَال.
الثَّانِيَة: حُسْن الإنصات.
الثَّالِثَة: الاستماع.
الرَّابِعَة: حُسْن الفَهم.
الْخَامِسَة: الحِفْظ.
السَّادِسَة: التَّعْلِيم، وَهِي ثَمَرَته، وَهِي الْعَمَل بِهِ ومراعاة حُدُوده.
فَمن النَّاس مَنْ يُحرمه لعدم حُسْن سُؤَاله، إمَّا لأنه لَا يَسأل بِحَال أَوْ يسأل عَنْ شَيْء وَغَيره أهم إليه مِنْهُ؛ كمن يَسْأَل عَنْ فضوله الَّتِي لَا يَضر جَهلُه بهَا ويدع مَالا غِنى لَهُ عَنْ مَعْرفَته. وَهَذِه حَال كثير من الْجُهَّال المُتعلمين.
وَمن النَّاس مَنْ يُحرمه لِسُوء إنصاته؛ فَيكون الْكَلَام والممارات آثرَ عِنْده وَأحبَّ إليه من الإنصات، وَهَذِه آفَة كامنة فِي أكثر النُّفُوس الطالبة للْعلم، وَهِي تمنعهم علمًا
(1)
أخرجه أبو داود (3660) والترمذي (2656) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
كثيرًا»
(1)
.
فإذا طبق طالب العلم هذه المراتب فهو أهل لِنَيْل العِلم.
فأولًا: حُسن الإنصات، وهذا يُستفاد من قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، فليحرص طالب العلم جيدًا على أن يسمع قبل أن يتكلم.
ثانيًا: حُسن السؤال، فعَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ أَصَبْتَ هذا العِلمَ؟ قال: «بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ»
(2)
.
وقالت عائشة رضي الله عنها: «نِعم النساءُ نِساءُ الأنصار؛ لم يَمنعهن الحياء أن يَتفقهن في الدِّين»
(3)
.
وقال مجاهد: «لا يتعلم العلمَ مُستحي ولا مستكبرٌ»
(4)
.
وكما جاء في الحديث: «شِفَاءُ العِيِّ السُّؤال»
(5)
.
ثالثًا: حُسن الفهم، ويستفاد من قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]؛ فلا بد من حسن الفهم ومعرفة المسائل والأقوال والأدلة.
رابعًا: الحفظ والكتابة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَيِّدُوا
(1)
«مفتاح دار السعادة» لابن القيم، بتصرف يسير (1/ 169).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في «فضائل الصحابة» (2/ 970).
(3)
أخرجه البخاري (1/ 38) تعليقًا، ومسلم موصولًا (332).
(4)
أخرجه البخاري (1/ 38) تعليقًا.
(5)
أخرجه أبو داود (336) والدارمي (779) وابن ماجه (572) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (464).
العِلْمَ بِالْكِتَابِ»
(1)
.
وكما روي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال:
العِلمُ صَيدٌ والكِتابةُ قَيدُهُ
…
قَيِّدْ صيودكَ بالحِبالِ الواثِقَه
فَمِنْ الحَماقَةِ أَنْ تَصيدَ غَزالَةً
…
وتَرُدَّها بَينَ الخَلائقِ طالِقه
وكما قال الخليل بن أحمد: «ما سمعت شيئًا إلا كتبتُه، ولا كتبت شيئًا إلا حفظته، ولا حفظت شيئًا إلا انتفعتُ به»
(2)
.
خامسًا: السعي لتعليمه، فإذا أرادت طالب العلم أن يبقى ما تعَلَّمه، فعليه أن يبذله، كما قال عليٌّ رضي الله عنه:«العلم يزكو على الإنفاق»
(3)
.
فالشيخ والمُعَلِّم هو الطالب الأول، وهو أول مُستفيد من العلم الذي يشرحه ويَنشره.
ومن نظر إلى من اشتغل عن العلم بوظيفة ودنيا يرى أنه ينسى العلم سريعًا، ويرجع إلى الحال التي كان عليها قبل الطلب.
سادسًا: العمل به، كما قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه:«هتف العلم بالعمل؛ فإن أجابه، وإلَّا ارتحل»
(4)
.
فإذا حرص طالب العلم على تطبيقه والعمل به، فهذا أدعى لبقائه؛ فقدر العلم ومنزلته وطلبه يرتقي بهها المرتبة.
(1)
أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (11/ 234)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (2026).
(2)
أخرجه الخطيب البغدادي في «تقييد العلم» (ص 114).
(3)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 80)، والخطيبُ البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1/ 182 - 183) برقم (176)، والمزي في «تهذيب الكمال» (24/ 220).
(4)
«اقتضاء العلم العمل» (ص 35).
وضد هذه المراتب الست موانع تصد عن تحصيل العلم وتصرف عن طلبه أو بقائه.
ولا بد لطالب العلم من آداب حتى يتأدب بأخلاق أهل العلم، وأهمها:
أولها: الإخلاص، وهو عزيز، وعلى الإنسان أن يجاهد أن يكون نفسه في تحصيله؛ ليكون كل عمله لوجه الله، وخاصة طلبه للعلم وبذله، والأمر- كما قال عن سفيان الثوري-:«ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ مِنْ نيتي؛ لأنَّها تَنقلب عليَّ» . وعن يوسف بن أسباط، قال: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد»
(1)
.
ويُشترط في العبادات- حتى يَقبلها الله عز وجل، ويُثيب عليها العبد- شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل؛ قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5]، ومعنى الإخلاص هو: أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى؛ قال تعالى: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا} [الإنسان: 9]، وعن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
(2)
.
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
(3)
.
الشرط الثاني: مُوافقة العمل للشرع الذي جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء في الحديث
(1)
انظر: «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (1/ 70).
(2)
أخرجه البخاري (بدء الوحي/ 1).
(3)
أخرجه مسلم برقم (2985).
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»
(1)
.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: «هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: «إنما الأعمال بالنيات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل مَنْ أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء»
(2)
.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: «فإن الله جعل الإخلاص والمتابعة سَبَبَا لقبول الأعمال، فإذا فقد لم تُقبل الأعمال»
(3)
.
فاحرص- يا طالب العلم- على الإخلاص وإصلاح الطوية وترك المعاصي؛ فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله:
شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي
…
فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي
وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ
…
ونورُ الله لا يُهدى لعاصي
فلا يمكن أن يجتمع النور والظلمة معًا.
فليس من الحكمة أن يقوم الغارس ببذر الأرض قبل حرثها وإصلاح بيئتها؛ لذا مَنْ طلب العلم فعليه أن يُصلح نيته ويَعمل على تهذيب نفسه؛ لكي يُحَصِّل العلم ويعود عليه بالنفع.
وليس طالب العلم بمعصوم، ولكن حياة القلب كحياة البدن، فالبدن لا يقوم إلا بالغذاء النافع (الطعام والشراب) وحميته مما يضرُّه، واستفراغ الفاسد منه؛ كالبول
(1)
أخرجه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
«جامع العلوم والحكم» (ص 59).
(3)
«الروح» (ص 135).
والبراز والعرق. وهذا ما يحرص عليه أطباء البدن.
ويقابل إصلاح البدن إصلاح الرُّوح والنفس، وهو ما يقوم به العلم النافع والعمل الصالح.
فالله قد أودع في الإنسان قُوَّتين: قوة في النظر وقوة في الإرادة، والشيطان لا يَدخل على الإنسان إلا منهما؛ أي: من باب الشبهة التي تتسلط على نظره، ومن باب الشهوة في الحرام التي تتسلط على إرادته.
والشبهات المُضللة تُدفع بالعلم النافع، والشهوات المحرمة تدفع بالعمل الصالح.
فالدواء النافع هو في طلب العلم ولزوم الطاعة والحرص عليها.
والأمر ليس هينًا في البداية، ولكنه يحتاج إلى مجاهدة حتى تألفه النفس؛ وساعتها لن تبغي به بديلًا.
فإذا صحت النفس واستقامت على العلم النافع والعمل الصالح لن تبغي به بديلًا.
فهذا سبيل طالب العلم الذي يجب عليه أن يجاهد في مدارسته، وأن يثني الركب في مجالس العلماء من أجل تحصيله.
فإذا انشغل المسلم بطلب العلم فلن يكون عنده وقت لتفكير فاسد في شبهة أو انشغال بشهوة محرمة.
فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«أصدق الأسماء: حارثٌ وهَمَّامٌ»
(1)
؛ لأن الإنسان في فكر دائم وعمل دائب.
(1)
أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (814)، وأحمد في «المسند» (19032)، وأبو داود في «سننه» (4950)، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (1040).
ثم لا بد من استفراغ الفاسد؛ لأن الإنسان من طبعه التقصير، والخطأ يلازمه في كثير من أحواله، فيستفرغ ما دخل على النفوس من أمور لا يرضاها الله تعالى- بالتوبة والاستغفار، فعن أبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ لِيَتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مغْرِبِها»
(1)
. فباب التوبة مفتوح على مدار الوقت، وليس بين العبد وبين ربه واسطة، وهو جل وعلا ينادي على عباده كل ليلة ليسألوه ويستغفروه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَنزل ربُّنا- تبارك وتعالى كُلَّ ليلة إلى السماء الدُّنيا حِين يَبقى ثُلُثُ الليل الآخر يقول: مَنْ يَدعوني، فأستجيبَ له؟ مَنْ يسألني فأعطيَه؟ مَنْ يَستغفرني فأغفرَ له؟»
(2)
.
فالله غفور رحيم؛ يغفر الذنوب، بل يُبدلها حسنات كرمًا منه سبحانه، كما قال:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70].
فطالب العلم بحاجة بعد الإخلاص إلى تطهير النفس وتهيئتها لتَقَبُّل العلم.
والذي يفسد على طلاب العلم أمر التحصيل: أمراض النفوس وعللها التي تحمل على الكسل، ومصاحبة رفقاء السوء، والوقوع في المعاصي.
ولا نجاة لنا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بصلاح النفوس؛ قال تعالى: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89]؛
(1)
أخرجه مسلم (2759).
(2)
أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758).
والقلب لا يكون سليما إلا بالسلامة من الشرك والشبهة والحسد والغل والمعاصي.
ومن حفظ طالب العلم لنفسه وعمله على صلاحها: ألا يصاحب إلا الأخيار الذين يعينونه على الطلب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»
(1)
.
وأما ما يفعله طلاب العلم من الجلوس مع أقرانهم؛ ليتدارسوا مسائل العلم، دون الذهاب إلى مجالس العلماء؛ فهذه آفة يجب التنبه لها؛ لأنهم جميعًا صغار أَغْرار في بداية الطلب؛ فيُضيعون الأوقات، ولا يُحْكِمون ما يتدارسونه، وقد يكون فهم أحدهم أسوأ من فهم الآخر، فلا يزدادون إلا سوء فهم وبُعد عن الطلب الصحيح، وقد يكون هذا سببًا في انحرافهم عن الفهم المستقيم.
وكذلك لا بد أن يكون لطالب العلم أن يكون كسبه طيبًا حلالًا، فإن هذا مما يعينه على الطلب والتحصيل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله تعالى طَيِّبٌ لا يَقبل إلا طيبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجلَ يُطيل السفر، أشعث، أغبر، يَمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومَطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟!»
(2)
.
ثم على طالب العلم بعد حفظ نفسه من فتنة الشبهات والشهوات: أن يحفظ وقته؛ فلا يضيعه فيما لا يفيد، ولا يضيع لحظة بدون فائدة، وليحذر فضول الطعام والشراب والنوم، وليأخذ نفسه بالمجاهدة حتى تألف الطاعة وحفظ الوقت؛ كما قيل:
(1)
أخرجه أحمد في «مسنده» (8398)، والترمذي (2378)، وأبو داود (4833)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (3545)، و «الصَّحيحة» (927).
(2)
أخرجه مسلم (1015).
والنفس كالطفل إن تهمله شَبَّ على
…
حُبِّ الرضاع وإن تَفطمه ينفطم
وجاهد النفس والشيطان واعصهما
…
وإن هما مَحَضَّاك النصح فاتَّهِم
فعليك بتنظيم الوقت، فأول النهار بعد الفجر للحفظ والاستذكار. ووسط النهار للكتابة والتصنيف.
إلى جملة آداب يجدها طالب العلم مبسوطة في كتب أهل العلم التي ذكرت آداب طلب العلم والسبيل إلى تحصيله.
هذا، والعلم يحتاج إلى الصبر وحبس النفس عليه وتحمل المشقة على سبيل تحصيله؛ ليكون ما يطلبه معينًا له على فهم هذا الدين؛ وقد قال ابن القيم عن الصبر:«إنَّه يُورث صاحبه درجة الإمامة؛ سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قَدَّس الله رُوحه- يقول: بِالصَّبر واليقين تُنال الإمامة في الدِّينِ. ثم تلا قوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24]»
(1)
.
فالأمر جِدٌّ لا هزل فيه، على حَدِّ قول الشاعر:
قد هَيَّئوك لأمرٍ لو فَطنت له
…
فأربأ بنفسك أن تَرعى مع الهَمَلِ
وعن إبراهيم بن عيسى، عن عبد الله بن مسعود أنه قال لأصحابه:«كُونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سُرُج الليل، جُدُد القلوب، خُلْقان الثياب؛ تُعرفون في السماء وتَخفون على أهل الأرض»
(2)
.
لذا نجد طالب العلم من أحسن الناس، وقلبه من أطهر القلوب ونفسه من أنقى النفوس؛ لأنه دائمًا متجدد في إيمانه يسمع ويدرس ويذاكر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهناك أنواع لا يَصلحون لحمل العلم:
النوع الأول: مَنْ جعل هذا العلم مطيَّة لدنياه.
النوع الثاني: رجل مُنقاد لشهوته.
النوع الثالث: رجل ذو هِمَّة وَضِيعة.
النوع الرابع: ورجل همه كسب المال وجمعه؛ فهو يريد أن يكون صاحب دنيا؛ كتاجر ونحو ذلك.
فإذا أراد أحد هذه الأصناف أن يطلب العلم؛ فليعلم أنه سيكون في واد والعلم في واد آخر.
وهناك أربعة أصناف ضد أهل العلم؛ يقول ابن القيم رحمه الله: «قال محمدُ بن الفضل: ذهابُ الإسلام على يدي أربعة أصنافٍ من الناس: صنفٍ لا يعملون بما يعلمون. وصنفٍ يَعملون بما لا يعلمون. وصنفٍ لا يتعلَّمون ولا يعملون. وصنفٍ يمنعونَ الناسَ من التعلُّم»
(1)
.
قلتُ- أي: القيم-: الصنفُ الأول: مَنْ له علمٌ بلا عمل؛ فهو أضرُّ شيءٍ على العامَّة، فإنه حجَّةٌ لهم في كلِّ نقيصةٍ ومَبْخَسَة
والصنفُ الثاني: العابدُ الجاهل؛ فإنَّ الناسَ يُحسنون الظنَّ به؛ لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله.
وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعضُ السَّلف في قوله: «احذروا فتنةَ العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإنَّ فتنتهما فتنةٌ لكل مفتون»
(2)
؛ فإنَّ الناسَ إنما يقتدون
(1)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 233)، والبيهقي في «الشُّعب» (4/ 430).
(2)
أخرجه نعيم بن حماد في زوائده على «الزهد» لابن المبارك (75)، وأحمد في «العلل» (3/ 118 - رواية عبد الله)، وابن أبي حاتم في «تقدمة الجرح والتعديل» (88)، وغيرهم عن سفيان الثوري قال: «كان يُقال
…
»، فذكره.
وأخرجه البيهقي في "المدخل"(443) عن الشعبي.
بعلمائهم وعبَّادهم، فإذا كان العلماءُ فَجَرةً والعبَّادُ جَهَلةً عمَّت المصيبةُ بهما وعَظُمَت الفتنةُ على الخاصَّة والعامَّة.
والصنفُ الثالث: الذين لا علمَ لهم ولا عمل؛ وإنما هم كالأنعام السائمة.
والصنفُ الرابع: نُوَّابُ إبليس في الأرض؛ وهم الذين يثبِّطون الناسَ عن طلب العلم والتفقُّه في الدين، فهؤلاء أضرُّ عليهم من شياطين الجنِّ، فإنهم يحُولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه.
فهؤلاء الأربعةُ أصنافٍ الذين ذكرهم- رحمةُ الله عليه- كلُّهم على شفا جُرفٍ هار، وعلى سبيلِ هَلَكة، وما يَلقى العالِمُ الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة إلا على أيديهم، والله يَستعملُ من يشاءُ في سخطه كما يستعملُ مَنْ يحبُّ في مرضاته؛ إنه بعباده خبيرٌ بصير.
ولا ينكشفُ سرُّ الطوائف المنحرفة وطريقتُهم إلا بالعلم؛ فعاد الخيرُ بحذافيره إلى العلم ومُوجَبه، والشرُّ بحذافيره إلى الجهل ومُوجَبه»
(1)
.
وقال عمر رضي الله عنه: «إنَّ أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: منافق يَقرأ القرآن لا يخطئ فيه واوًا ولا ألفًا؛ يجادل الناس أنه أعلم منهم؛ ليضلهم عن الهدى. وزَلَّة عالم. وأئمة مُضلون»
(2)
.
وقال ابن المبارك:
وهلْ أفسدَ الدينَ إلا الملوكُ
…
وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهبانها
فباعُوا النفوسَ ولمْ يربحَوا
…
ولمْ تغلُ في البيعِ أثمانها
لقد وقع القوم في جيفةٍ
…
يَبين لذي اللُّبِّ إنتانُها
(1)
«مفتاح دار السعادة» لابن القيم (1/ 455، 456)، بتصرف واختصار.
(2)
أخرجه الفريابي في «صفة النفاق وذم المنافقين» (ص 71).
لذلك كان هم السلف الصالح هو قيام الدِّين.
فالعبرة بقيام هذا الدين وإرجاع الناس إليه، وليس العبرة بتكثير الأتباع والاغترار بهم؛ لأن الله يقول:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
فلا ينبغي أن نجمع الناس كيفما اتفق، وإنما الواجب أن نعمل أن يهتدي الناس للدين الحق القائم على التمسك بالكتاب والسنة.
وكما يقول عليٌّ رضي الله عنه: «النَّاس ثلاثة: فعالم ربَّانيٌّ. ومتعلِّم على سبيل نجاة. وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق؛ لم يَستضيئوا بنور العلم، ولم يَلجؤوا إلى ركن وثيق
…
»
(1)
.
فالعالم الرباني: هو الذي عَلِم وعمل ودعا وعَلَّم.
والمتعلم على سبيل نجاة: هو الذي في طريق أن يكون في طريق العلماء الرَّبانيين.
وهمج رعاع: هم كَذُباب القُرى، حمقى لا عقول لهم؛ لذا فهم أتباع كل ناعق لا يُميزون بين الحق والباطل.
وبالمجمل فإن طلب العلم لا شك أنه عظيم، ومع ذلك فمسئوليته كبيرة فإذا لم يعطه الطالب حقه من الرعاية تَحَمُّلًا؛ فكيف في المستقبل يكون أهلًا لأدائه؟! إذ فاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء بالذي فيه يَنضح.
فهذه مقدمة أردت أن أُقَدِّم بها بين يدي شرح هذا الكتاب؛ لتكون حافزًا لإخواني على طلب العلم، والمثابرة عليه والجد في تحصيله، والله الموفق والهادي على سواء السبيل.
(1)
أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 79)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (50/ 255).
المقدمة الثانية: مناهج الناس في مسائل العقيدة.
فلابد من إعطاء نبذة عن المناهج التي انقسم إليها الناس عند الخوض في هذه المسائل: فحقيقة الخلاف والنزاع قائم بين منهجين لا ثالث لهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحًا هذه الأقسام: "الْفِرَقِ بَيْنَ الْمِنْهَاجِ النَّبَوِيِّ الْإِيمَانِيِّ الْعِلْمِيِّ الصلاحي وَالْمِنْهَاجِ الصَّابِئِ الْفَلْسَفِيِّ
(1)
وَمَا تَشَعَّبَ عَنْهُ مِنْ الْمِنْهَاجِ الْكَلَامِيِّ
(1)
هناك نوعان من الفلاسفة:
1 -
الفلسفة اليونانية
2 -
الفلسفة الهندية
فالفلسفة اليونانية: قامت على جانب العلم، فهي تنبني على أمور علمية، ويقسمون العلوم إلى ثلاثة أقسام:(علوم إلهية، وعلوم رياضية، وعلوم طبيعية)
فالعلوم الطبيعية: كطبيعة الأرض وطبيعة الإنسان، وتسمى حديثًا:(علوم الفيزياء)، والعلوم الرياضية: كالحساب والهندسة، والعلوم الإلهية هي ما يتعلق بالله تعالى وشريعته،
وهذه القسمة لا إشكال فيها، ولكن الإشكال في أنهم يقولون: إن العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية علوم صادقة، وأما العلوم الإلهية فإنها علوم كاذبة.
وهذا يرجع إلى مبدأين عندهم:
المبدأ الأول:
وهو أن العلم إنما يطلق على المحسوس المشاهد فقط (والذي يسمى اليوم بالعلم التجريبي) وهذا معناه إلغاء (عالم الغيب).
المبدأ الثاني:
أن مصدر العلم هو الإنسان ذاته، وهذا معناه (إبطال الوحي).
هذان هما الأساسان اللذان تقوم عليهما فلسفة اليونان، والتي تأثر بها أهل البدع والضلال.
وإذا تكلم هؤلاء الفلاسفة في الإلهيات فإنما يتكلمون على طريقة الفرضيات، أي على سبيل التوهم، لا على الحقيقة، لأن هذه الأمور ليس لها وجود في الخارج، فإذن هي غير موجودة عندهم.
لأن مراتب الوجود أربعة: الوجود الذهني والوجود العيني والوجود اللفظي والوجود الخطي) فالشيء الموجود في الذهن فقط، وليس له وجود في الخارج يسمى وجوده بالوجود الذهني، وإذا كان هذا الشيء موجودًا في الخارج يسمى وجوده بالوجود العيني، وعندما تتكلم به يسمى وجوده بالوجود اللفظي، وعندما تكتبه يسمى وجوده بالوجود الخطي.
وعند هؤلاء الفلاسفة أنه لا وجود حقيقي لله، والكلام عنه إنما هو في الأذهان فقط، وكل من تأثر بفلاسفة اليونان لن يخرج عن هذا الفكر، ولذلك تجد أن أعظم مسألتين طال الكلام فيهما في العقيدة (صفة الكلام وصفة العلو)، وذلك لتأثر منكري هاتين الصفتين بفلاسفة اليونان.
وأما الفلسفة الهندية: فإنها قامت على العمل بدون العلم، وممن تأثر بهم الصوفية أصحاب البدع ممن لا علم عندهم، ولهذا تجدهم يعظمون المشاهد والقبور، وغير ذلك من الأعمال التي تهدم جناب التوحيد.
وأما أهل السنة فقد جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح.
وَالْعِبَادِيِّ الْمُخَالِفِ لِسَبِيلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام دَعَوْا النَّاسَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعِبَادَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ. فَأَصْلُ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ: هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلُ لِلَّهِ
(1)
".
فالمنهج الأول: المنهاج النبوي الإيماني
وهو منهج الأنبياء والرسل من أولهم إلى أخرهم القائم على العلم والعمل معًا وهذا ما عناه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام دَعَوْا النَّاسَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعِبَادَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ. فَأَصْلُ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ: هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلُ لِلَّهِ".
وهؤلاء هم أهلُ السنَّة الذين اعتنوا بالعلمٌ والعمل معًا.
(1)
مجموع الفتاوى: 2/ 16.
والمنهج الثاني: المنهج الصابئ الفلسفي.
وهذا المنهج مخالف لمنهج الأنبياء والرسل وهو منقسم إلى قسمين: وهو ما عناه شيخ الإسلام بقوله: "وَمَا تَشَعَّبَ عَنْهُ مِنْ الْمِنْهَاجِ الْكَلَامِيِّ وَالْعِبَادِيِّ".
ويفهم منه أن المنهاج الفلسفي منقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المنهج الكلامي. وهم أهل الكلام ومن وافقهم.
وهؤلاء قومٌ اعتنوا بالعلم دونَ العمل وإن كان علمهم لم ينبنِ على الكتابِ والسنَّة:
وهم أهلُ الكلام الذين بنوا علمهم على الرأيِ والقياس وعلى الفلسفة وخلا علمهم من العمل، إذ لا يوجد عندهم منهج عمل.
القسم الثاني: المنهج العبادي. وهؤلاء هم المتصوفة.
وقومٌ اعتنوا بالعمل دون العلم: وهم المتصوفة وأشباههم فهؤلاءِ عملٌ بلا علم.
وهؤلاء وقعوا في مفسدتين:
فالمتكلم لم يبنِ علمه على الكتابِ والسنَّة، ثم إنه تركَ العمل.
والمتصوِّف لم يبنِ عمله على الكتابِ والسنَّة، ثم إنه تركَ العلم فبالتالي ضلوا وأضلوا.
وأما أهل السنَّة فإن منهجهم يقومُ على العلمِ والعمل معاً، وهذا العلمُ والعمل مبنيٌ على كتابِ الله عز وجل وسنَّةِ نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى ما كان عليه السلفُ الصالح.
قال ابن تيمية: "وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: كَانُوا يَقُولُونَ مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى. وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُ: "احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ
مَفْتُونٍ".
فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَشْبَهَ الْيَهُودَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَلْ بِالْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ أَشْبَهَ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .
فَالْأَوَّلُ مِنْ الْغَاوِينَ، وَالثَّانِي مِنْ الضَّالِّينَ. "
(1)
ولذلك كان منهج السلف في التوحيد يقوم على أمرين؛ هما:
1 -
العلم بالله.
2 -
والعمل لله.
فجمعوا بذلك بين التصديق العِلمي والعَمل الحُبِّي، وبذلك تميز منهج أهل السنة والجماعة (السلف) عن المناهج الأخرى.
حيث حققوا كِلا الأمرين؛ من القول التصديقي المعتمد على معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة. والعمل الإرادي، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي وفق ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان كلامهم وعملهم باطنًا وظاهرًا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونًا بالآخر، وهؤلاء هم المسلمون حقًّا؛ الذين سَلِموا من آفات منحرفة المتكلمة والمتصوفة.
فوقعت كل طائفة من هاتين الطائفتين المنحرفتين في مفسدتين:
إحداهما: القول بلا علم إن كان متكلمًا، والعمل بلا علم إن كان متصوفًا.
والمفسدة الثانية: فوت المتكلم العمل، وفوت المتصوف القول والكلام
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى 1/ 196 - 197.
(2)
«مجموع الفتاوى» (2/ 41) بتصرف.
وهو ما وقع من البدع الكلامية والعملية المخالفة للكتاب والسنة.
فالكلاميون: ويدخل فيهم الفلاسفة ومن سار على نهجهم، أو على بعض مناهجهم من المتكلمين، كمتكلمة الفرق من المعتزلة والجهمية والفرق الكلامية التي جاءت بعدها، والتي تسمى بالفرق الصفاتية الكلامية (الكلابية والأشاعرة والماتريدية)، وكذلك من دخل منهم أو معهم في هذا المجال من متكلمة الخوارج ومتكلمة الشيعة الرافضة ومتكلمة القدرية ومتكلمة المرجئة وغيرهم، فكلهم يجمعهم وصف واحد، أعني: وصفهم بأنهم أهل النظر.
غالب نظرهم وقولهم في الثبوت والانتفاء، والوجود والعدم، والقضايا التصديقية؛ فغايتهم مجرد التصديق والعلم والخبر؛ فاعتنوا بجانب علمي لم يَنْبَنِ على الكتاب والسنة؛ لذلك عَطَّلوا أسماء الله تعالى، وعَطَّلوا صفاتِه عز وجل.
وعندما عَرَّفوا التوحيد؛ قالوا: «واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله» . وأهملوا جانب توحيد العبادة: «واحد في ذاته» قالوا: «لا شريكَ له» . و «واحد في صفاته» : «لا نظير له» . و «واحد في أفعاله» : «لا نِدَّ له» . فهذا تقسيمهم للتوحيد
(1)
.
ويُلاحظ أنه قد خلا في هذه الثلاثة من الجانب العملي، فلا يوجد عمل، ثم إذا تحدثوا عن ذات الله تعالى تحدثوا بالتعطيل؛ فقالوا بما قالوا:"ليس في جهة، ولا في عُلو، ولا في مكان، ولا في حيز" ولا إلى غير ذلك؛ فجعلوه والعدم سواء، وإذا تحدثوا عن صفات الله تعالى تحدثوا عن سبع صفات فقط، وإذا تحدثوا عن أفعال الله تعالى وهذا هو الذي سَلِم لهم:«توحيد الربوبية» ؛ فلم يَسلم لهم إلا توحيد الربوبية، ونحن نعلم أن كفار قريش كانوا مُقِرِّين بتوحيد الربوبية:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]؛ فهذا حاصل توحيد هؤلاء.
(1)
انظر: «المِلل والنِّحَل» للشهرستاني (1/ 42)، مؤسسة الحلبي.
وأمَّا الصُّوفيون: فغالب طلبهم وعملهم في المحبة والبغضة، والإرادة والكراهة، والحركات العملية؛ فاعتنوا بجانب العمل، وأهملوا جانب العلم، وكذلك عملهم لم ينبنِ على السنة، وإنَّما انبنى على البدعة؛ إذ غايتهم المحبة والانقياد والعمل والإرادة.
وهكذا إذا جئنا إلى أهل التصوف لم نجد عندهم من حقيقة التوحيد شيء.
أمَّا توحيدُ أهل السُّنَّة فيقوم على هذين الأصلين العظيمين: أن تَعرف اللهَ، وذاك بمعرفة أسمائه وصفاته التي وردت في الكتاب والسُّنَّة. وأن تعبد الله، وهذا باتِّباع شرع الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالسلف وأتباعهم جعلوا من توحيد الأسماء والصفات إحدى الرَّكيزتين التي قام عليها منهجهم المعتمد على نصوص الكتاب والسنة، وذلك لما لهذا التوحيد من أهمية ومنزلة، وهذا ما تشهد له كثرة النصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن.
فلذلك لا بد لصاحب السُّنَّة أن يدرس هذا الباب، وأن يَبني هذه الدراسة على الكتاب والسنة؛ ليعرف الله عز وجل، فلن تكون من أصحاب السنة ولن تكون من أتباع السلف حتى تُعنى بهذا الباب، والعلم بهذا الباب-كما ذكر العلماء- مطلوب لذاته، ليس وسيلة للعمل كما يزعم البعض؛ فكلٌّ من العِلم بالله والعمل لله مطلوب لذاته؛ فقد يكون منه ما هو وسيلة، ومنه ما هو غاية؛ فيجب أن نعلم أنه لا بد من معرفة هذا الباب وتعلمه؛ باعتبار أنه أمر مطلوب لذاته، وإن كان لا يُكتفى به وحده، بل لا بد وأن يجتمع معه عبادة الله عز وجل، وإلا فإن العبد لا يكون مؤمنًا، وبهذا نعلم أن من أهمية هذا الباب أنه أصلٌ عظيمٌ في منهج أهل السنة والجماعة.
المقدمة الثالثة: بيان قاعدة مهمة بين يدي شرح الكتاب:
هناك قاعدة مهمة يجدر التنبه لها لفهم مسائل هذا الباب بل ولفهم جميع مسائل الدين، فإذا كانت الحكمة هي وضع الشيء في موضعه والله يقول:(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)[البقرة: 269].
قال أبو إسماعيل الهروي: "الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه"
(1)
.
وقال ابن القيِّم: "الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
(2)
"
فإن من الحكمة أن تدرك أن هذه القسمة الثنائية للتوحيد يرجع أصلها إلى أن النظر إلى الشريعة يكون من عدة اعتبارات، ومن بين تلك الاعتبارات أننا لو نظرنا للشرع من جهة ما يجب على الإنسان، باعتبار أن هذا الوحي أنزل ليخاطب الإنسان، كما قال تعالى في سورة البقرة:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقوله تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123].
وبما أن الإنسان مركب من (جسد وروح).
وهذا الجسد خلق من تراب؛ قال الله تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]، وقد جعل الله غذاء هذا الجسد وقوامه إنما يكون من الأرض وما يخرج منها، وما يعيش عليها. فهذا هو أصل الجسد أصله من التراب، ويعيش على ما يخرج من التراب.
(1)
((منازل السائرين)) للهروي (ص 78).
(2)
((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 449).
وأما الجزء الثاني من الإنسان فهو (الروح)؛ فقد قال جل وعلا: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، وهذه الروح نحن لا نعلم طبيعتها ولا حقيقتها، قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، ولكن الروح لها غذاء كغذاء البدن، وحياة كحياة البدن، ولكن غذاء الروح هو العلم النافع والعمل الصالح، وإذا لم تتناول الروح هذا الغذاء فإنها سوف تمرض أو تموت، كما أن الجسد إذا لم يتناول غذاءه سيمرض أو يموت.
قال ابن القيم رحمه الله: «ومدار الصحة على حفظ القوة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة
…
فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته، وهو الإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية عن المؤذي الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي، وأنواع المخالفات، وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح»
(1)
.
وحياة القلب والروح وغذاؤهما إنما يكون بما أنزله الله تعالى من دينه وشرعه.
وهذه الروح قد تكلم العلماء في بعض ما يتعلق بها كالعقل، وهل هو هذه المضغة التي تسمى بالقلب والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله»
(2)
، أم هي ما يدور في الدماغ من الأفكار والإرادات ونحوها، أم هو مجموع الأمرين؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لفظ القلب قد يُرَادُ به:
ا-المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت
(1)
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم (1/ 16).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 20 رقم 52) ومسلم (3/ 1219 رقم 1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" متفق عليه
(1)
.
2 -
وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة، واللوزة والجوزة، ونحو ذلك، ومنه، سمي القُليب قُليبًا، لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضًا، ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه:(إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ).
والتحقيق "أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن:
مبدأ الفكر والنظر في الدماغ.
ومبدأ الإرادة في القلب.
والعقل يراد به العلم، ويراد به العمل، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد، فلابد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء.
وكلا القولين له وجه صحيح"
(2)
.
ولو نظرنا إلى طبيعة الإنسان لوجدنا أن الله عز وجل ركب ركَّب في الإنسان:
- قوةً في التفكير والعلم والنظر.
- وقوةً في الإرادة والعمل.
(1)
أخرجه البخاري في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 126 ح 52، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 5/ 50 - 51
(2)
رسالة في العقل والروح 2/ 48 - 49 (مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)
بيان القوة العلمية والقوة العملية في القلب
القلب معناه: الباطن، ومنه سمي البئر قليبًّا؛ لأنه يحتوي على الماء في باطنه.
وهل القلب هو الباطن فقط أم يتعلق به الأفكار التي هي في الدماغ؟
عندما ننظر نجد أنه يقصد به مجموع الأمرين، فعندما زكى ربنا تعالى النبي صلى الله عليه وسلم زكاه بأمرين فقال:{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2].
وعندما زكى النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء زكاهم بقوله: «الرَّاشدين المهديين»
(1)
، فعندما تجمع بين الآية والحديث تجد أنهما متقابلين فنفي الضلال هو الرشد ونفي الغواية هو الهدى.
والرشد يكون في العقل، قال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
وهاتان القوتان (قوة العلم وقوة العمل) جمع بينهما النبي بقوله (أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ"
(2)
لأن معنى (حارث) أي: عامل، ومعنى (همام): مريد.
قال ابن القيم رحمه الله: «وينبغي أن يعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به، وإلا استعملها في ضده، فالإنسان حارث هَمَّام بالطبع، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ"، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: المريد، فإن النفس متحركة بالإرادة، وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها، والإرادة تستلزم مرادًا يكون متصوَّرًا لها، متميزًا عندها، فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده
(1)
أخرجه الترمذي (5/ 44 رقم 2676) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أبو داود (4/ 287 رقم 4950).
تصورت الباطل وطلبته، وأرادته ولا بد"
(1)
.
وتأمل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} ] الحاقة: 40 - 41 - 42 [
وقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} ] الشعراء: 221 - 222 - 223 [.
والسؤال: لماذا جمع بين الشاعر والكاهن في السورتين؟
الجواب: جمع بينهما لأن كلًّا منهما يؤثر على العلم والإرادة، فالشاعر يؤثر على الجانب العملي في القلب، الذي هو الإرادة، فيلهب المشاعر، ويحرك القلوب، وأما الكاهن فإنه يؤثر على الجانب العلمي فيتلاعب بالحقائق العلمية.
والخلاصة: أن الإنسان فيه قوتان: قوة العلم والفكر والنظر، وقوة الإرادة والعمل، ولذلك قال أهل السنة: الإيمان قول وعمل، فيقصدون بالقول: العلم، وقول القلب هو التصديق الذي هو العلم بالله تعالى وشرعه.
والإسلام منهج كامل يحوي جانب العلم وجانب العمل، فإذا صلح القلب الذي هو الباطن فلا بد أن يصلح الظاهر، فما الذي يجعل شخصًا يمر على الأغاني فيحبها ويطرب لها، ويمر عليها آخر فيبغضها ويتضجر منها؟
إن الفرق هو ما اشتمل عليه قلب كل منهما من العلم والعمل.
ومن النصوص الدالة على وجود هاتين القوتين:
قول الله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ««اللهم إني أستهديك لأرشد أموري وأعود بك من شر
(1)
إغاثة اللهفان (1/ 25).
نفسي»»
(1)
،
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ»
(2)
.
وضع خطوطًا تحت {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«اللهم إني أستهديك لأرشد أموري وأعود بك من شر نفسي» »
(3)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ»
(4)
.
ستجد إرشاداً ودليلاً على أن في الإنسان:
قوةً في العلم: فإذاً هو أُلهِم الرشد، وسَلِم من الغواية؛ استقامت عنده قوة العلم.
وقوة في العمل: فإذا هو هُدِي لطريق الحق وعرفه، وسَلِم من الضلال، فعند ذلك تسقيم عنده قوة العمل.
فإذًا قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، دليل على سلامة علمه وفكره واعتقاده، وسلامة عمله وسلوكه.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تزكية أصحابه: «الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ» ، والرشد ضد الغواية، والهدى ضده الضلال، فلذلك كما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، فكان يدعو بهذا الدعاء ««اللهم إني أستهديك لأرشد أموري وأعود بك من شر نفسي» ».
لأنك إذا أُلهمت الرشد استقام وسُدِّد فكرك، وإن سلمت من شر النفس؛ فبالتالي استقام عملك وسلوكك، وبعد ذلك حصلت لك الهداية في الدنيا وفي
(1)
أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم:(898).
(2)
انظر سنن أبي داود برقم (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43)، والإمام أحمد في المسند مُسْنَدُ الشَّامِيِّينَ (17142)، والدارمي (96)، قال الشيخ الالباني في صحيح الجامع الجزء الثاني صفحة (805): صحيح.
(3)
تقدم تخريجه انظر الصفحة رقم (3).
(4)
تقدم تخريجه.
الآخرة؛ لأن الإنسان يُخشى عليه من أمرين: الشهوات والشبهات، فهما جيشان من الباطل الشيطان يغزوك بهما، جيش الشهوات المحرمة، وجيش الشبهات المضللة، فأنت إن نجوت من الشهوات المحرمة ومن الشبهات المضللة؛ فبالتالي تكون قد نلت الخير كله.
فلا بد أن تسقيم عند الإنسان كل من القوَّتين.
فقوة التفكير والعلم: يتم بناؤها على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس على الفلسفة والمنطق، وعلى آراء الرجال.
وقوة العمل والسلوك: ينبغي كذلك أن يكون العمل الذي يطبِّقه العبد ويعمله مبنيًا على نصوص الكتاب والسُنَّة.
فينبغي ألا تغيب هذه المسألة؛ لأنها مسألة أساسية، ما دام العبد قد اختار لنفسه طريق العلم، فعليه أن يدخل من باب السُنَّة، ويتعمق ويقرأ، ويستقرئ هذا المنهج من خلال القرآن، ومن خلال السُنَّة ومن خلال كلام السلف الصالح، وحينها سيجد ينابيع العلم.
وعلى هذا الأساس فما من مسألة من مسائل الدين إلا وهي تخاطب الإنسان في هذين الجانبين وتجد فيها هذه القسمة الثنائية، ومن الأمثلة على ذلك
مسألة الإيمان بالله فإن الإنسان لا يعد مؤمنًا بالله إلا بأمرين هما:
أن يعرف الله.
وأن يعبد الله.
وكذلك الإيمان بالقرآن لا يتم إلا بأمرين هما:
أن يصدق بأخباره.
وأن يتبع أوامره.
وهكذا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتم إلا بأمرين هما:
أن يصدقه بما أخبر.
وأن يتطيعه فيم أمر.
تقسيم آيات القرآن إلى أخبار وأوامر هو من هذا الباب:
المقدمة
متن الكتاب
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تيمية الحَرَّاني رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ:
«الحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إجَابَتُهُمْ أَنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنِّي فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ؛ مِنْ الْكَلَامِ (فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ) وَفِي (الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ) لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَكَثْرَةِ الِاضْطِرَابِ فِيهِمَا. فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إلَيْهِمَا وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِبَادِ: لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاطِرِ وَالْأَقْوَالِ مَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى بَيَانِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ خَاضَ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ تَارَةً وَبِالْبَاطِلِ تَارَاتٍ وَمَا يَعْتَرِي الْقُلُوبَ فِي ذَلِكَ: مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي تُوقِعُهَا فِي أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ».
الشرح
أولًا: سبب التسميةُ
سمِّيَت هذه الرسالة بـ «التَّدْمُرِيَّة» ؛ لأن المصنف رحمه الله ألفها إجابة على سؤال
ورده من أهل (تَدْمُرَ)
(1)
وهي بلدة من بلاد الشام.
ثانيًا: مادة الرسالة ومحتواها:
تُعد هذه الرسالة من أهم المراجع التي أَصَّلت لاعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات والقَدَر.
وبين المصنف أن مادة هذه الرسالة ستتناول بيان أصلين مهمين من أصول الاعتقاد، وهما:
الأصل الأول: التوحيد والصفات.
الأصل الثاني: الشرع والقدر.
ثالثًا: سبب تأليف الكتاب:
بدأ المصنف رحمه الله كتابه ببيان السبب والداعي إلى تصنيف هذا الكتاب، وقد ذكر أن هناك عدة أسباب دعته إلى تأليفه، وهي كما يلي:
1 -
أنه قد سأله بعض الفضلاء ممن تعينت إجابتهم أن يكتب لهم كتابًا في بيان العقيدة الصحيحة وخاصة مسألة (التوحيد والصفات) ومسألة (الشرع والقدر).
2 -
مسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين السابق ذكرهما.
3 -
كثرة الاضطراب في هذين الأصلين، مع شدة الحاجة إليهما لكل أحد.
4 -
أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد لا بد أن يخطر لهم في ذلك ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال.
5 -
وقوع الخلط والتخبط والشبهات في قلوب البعض بسبب كثرة الخائضين في
(1)
هي بلدة من أعمال (حِمْص) بالشام قريبة من (حَلَب). قال ياقوت الحموي في معجم البلدان (2/ 17): «هي مدينة قديمة مشهورة في برّية الشام، بينها وبين حلب خمسة أيام» . وقد سمي هذا الكتاب (العقيدة التدمرية) نسبة إلى هذه البلدة التي كان صاحب السؤال منها.
هذين الأصلين بغير علم ولا هدى.
لهذه الأسباب السابقة صنف شيخ الإسلام كتابه هذا.
الكلام في التوحيد والصفات والشرع والقدر
المتن
الشرح
فقول المصنف: "فَالْكَلَامُ فِي بَابِ (التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ) هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْكَلَامُ فِي (الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ) هُوَ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ الدَّائِرُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا".
بدأ المصنف رحمه الله تعالى هذا الكتاب ببيان الأصلين اللذين يشتمل عليهما هذا الكتاب، وهما:
الأصل الأول: (باب التوحيد والصفات)
الأصل الثاني: (باب الشرع والقدر).
وهذا نوع من أنواع تقسيمات التوحيد
وأهل السنة عندما يقسمون التوحيد يقسمونه إلى قسمين:
- التوحيد العلمي الخبري.
والتوحيد الإرادي الطلبي.
- أو يقولون: توحيد المعرفة والإثبات.
وتوحيد القصد والطلب.
- أو يقولون: التوحيد العلمي.
والتوحيد العملي.
- أو يقولون: توحيد السيادة.
وتوحيد العبادة.
فأكثرهم على هذه القسمة الثنائية.
ومنهم من يقسمه إلى ثلاثة أقسام:
توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية.
وهي تقسيمات وإن اختلفت في عباراتها، فإنها متحدة في مضموناتها.
وقد قال رحمه الله: «إن الحاجة ماسة إلى تحقيق هذين الأصلين» .
فقول المصنف: "فَالْكَلَامُ فِي بَابِ (التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ) " يقابله في التقسيمات الأخرى من حيث التقسيم الثنائي:
التوحيد العلمي الخبري.
أو توحيد المعرفة والإثبات.
أو التوحيد العلمي.
أو توحيد السيادة.
ومن حيث التقسيم الثلاثي:
توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
فقول المصنف: "وَالْكَلَامُ فِي (الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ) " فقوله (الشرع) المقصود به هنا (الاتباع) ويقابله في التقسيمات الأخرى من حيث التقسيم الثنائي:
التوحيد الإرادي الطلبي.
أو توحيد القصد والطلب.
أو التوحيد العملي.
أو توحيد العبادة.
ومن حيث التقسيم الثلاثي:
توحيد الألوهية.
وقول المصنف: "بَابِ (التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ) هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ"
مبحث أقسام الكلام من حيث كونه خبراً أو إنشاءاً،
يتناوله علماء اللغة، والمعاني، والأصول، والكلام، وغيرهم، ويَرِد كثيراً في كتب العقائد.
أما
تعريفه عند أهل اللغة:
الخبر في لغة العرب يطلق ويراد به: النبأ والعلم، ذكر في اللسان: (الخَبَر: النَّبأ، والجمع: أَخْبار، وأَخابير جمع الجمع
…
وخَبَّرَه بكذا وأَخْبَره: نَبَّأه)
(1)
، وقال
(1)
لسان العرب 4/ 227 - مادة "خ ب ر".
ابن فارس: (أما أهل اللغة فلا يقولون في الخبر أكثر من أنه إعلام، تقول: أَخْبَرتُه أُخْبِرُه، والخُبْر هو العلم)
(1)
.
وللفرق بين الاستعمالين اللغوي من جهة والبلاغي والأصولي وغيره من الاستعمالات الأخرى.
قال ابن فارس": أما أهل اللغة فلا يقولون في الخبر أكثر من أنه: إعلام، تقول: أخبرته، أُخْبِره، والخبر هو العلم.
وأهل النظر يقولون: الخبر ما جاز تصديق قائله أو تكذيبه.
وهو إفادة المخاطب أمراً في ماض من زمان، أو مستقبل، أو دائم نحو: قام زيد، ويقوم زيد، وقائم زيد.
ثم يكون واجباً وجائزاً، وممتنعاً؛ فالواجب قولنا: النار محرقة، والجائز قولنا: لقي زيد عمراً، والممتنع قولنا: حَمَلَتْ الجَبَلُ)
(2)
فقد عرف بعدة تعريفات عند الأصوليين والبلاغيين لا تخلو من وجود استدراك عليها
(3)
.
فقيل الخبر: تعريفه: عرف بأنه: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته.
وقيل: الخبر ما يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب؛ فإن كان مطابقاً
(1)
الصاحبي ص 289.
(2)
الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها لأحمد بن فارس ص 133.
(3)
ويرى بعض الباحثين أن الكلام حول مفهوم الخبر والإنشاء قد نشأ مع نشأة الجدل في عصر المأمون حول فتنة القول بخلق القرآن؛ حيث بنى المعتزلة قولهم بخلق القرآن على أساس أن ما تضمنه لا يخرج عن واحد من ثلاثة: أمر، ونهي، وخبر.
وذلك مما ينفي عنه صفة القدم-بزعمهم-" انظر علم المعاني د. عبدالعزيز عتيق ص 43.
للواقع كان قائله صادقاً، وإن كان غير مطابق للواقع كان قائله كاذباً"
(1)
وذكر الشيخ ابن عثيمين في الخبر أنه: "الكلام الدائر بين النفي والإثبات من قبل المتكلم، المقابل بالتصديق أو التكذيب من قبل المخاطب"
(2)
وهذا التعريف يجمع بين بعض التعريفات التي ذكرها العلماء، ولا يرد عليه كثير إشكال، ولو اقتصر على الجزء الثاني لكان أسهل وأضبط، فيقال:
الخبر هو: الكلام الذي يقابل بالتصديق أو بالتكذيب.
وهذا ضابط سهل للمتعلمين، لأنه يضبط الخبر بأخص أوصافه الظاهرة
(3)
وقد ذكر عبد القاهر الجرجاني أن العقلاء "جعلوا من خاص وصفه أنه يحتمل الصدق والكذب"
(4)
وقال ابن وهب: "وليس في صنوف القول وفنونه ما يقع فيه الصدق والكذب غير الخبر والجواب؛ إلا أن "الصدق والكذب" يستعملان في الخبر، ويستعمل مكانهما في الجواب: "الخطأ والصواب"، والمعنى واحد وإن فرق اللفظ بينهما، وكذلك يستعمل في الاعتقاد في موضع "الصدق والكذب": "الحق والباطل"، والمعنى قريب"
(5)
وقول المصنف: "وَالْكَلَامُ فِي (الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ) هُوَ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ"
الطلب هو قسيم الخبر، وقد يعبر عنه أحياناً بالإنشاء، والحديثُ عنه سيتناول ما يلي:
(1)
انظر علم المعاني د. عبدالعزيز عتيق ص 48.
(2)
تقريب التدمرية ص 13.
(3)
المصدر موقع ملتقى أهل التفسير
(4)
دلائل الإعجاز ص 531 و 533.
(5)
البرهان في وجوه البيان [نقد النثر/ 45 [.
أ - تعريفه:
قيل: هو الكلام الذي لا يحتمل الصدق والكذب لذاته.
وعلى حد تعبير البلاغيين: هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل في وقت الطلب.
أو-كما يقولون بعبارة أخرى-: هو ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه"
(1)
.
ب - أمثلة للإنشاء:
1 -
قال أحد الحكماء لابنه: "يا بني تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث".
2 -
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-يوصي رجلاً: "لا تتلكم بما لا يعنيك، ودع الكلام في كثير مما يعنيك حتى تجد له موضعاً"
(2)
ج- ما سبب كون الإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب لذاته؟:
لأنه ليس لمدلول لفظه قبل النطق واقع خارجي يمكن أن يقارن به؛ فإن طابقه قيل: إنه صادق، وإن خالفه قيل: إنه كاذب.
ولمزيد من التوضيح يمكننا النظر إلى المثالين الماضيين في فقرة (ب).
ففي المثال الأول نداء وأمر، وفي المثال الثاني نهي وأمر.
وأنت لا تستطيع أن تقول لمن ينادي شخصاً، ويأمره، وينهاه: إنك صادق أو كاذب؛ لأنه لا يُعلمنا بحصول شيء أو عدم حصوله.
إن من ينادي أو يأمر أو ينهى ليس لندائه، أو أمره، أو نهيه وجود خارجي قبل حصول النداء أو الأمر أو النهي؛ فكيف يحتمل كلامه الصدق أو الكذب، وذلك لا يكون إلا بمطابقة الواقع، أو عدم المطابقة.
وفي مثل هذه الأساليب لا واقع تعرض عليه مدلولاتها وتقارن به.
(1)
انظر علم المعاني ص 80.
(2)
انظر معجم البلاغة العربية د. بدوي طبانة ص 665.
ومثل هذا القول ينطبق على سائر أساليب وأنواع الإنشاء الأخرى من استفهام، وتمنٍّ، وغيرها.
وعدم احتمال الأسلوب الإنشائي للصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى ذات الأسلوب بغض النظر عما يستلزمه.
وإلا فإنه يستلزم خبراً يحتمل الصدق والكذب؛ فقول القائل: (يا بني تعلم) يستلزم خبراً هو: أنا طالب منك التعلم، وقول القائل:(لا تتكلم) يستلزم خبراً هو: أنا طالب منك عدم التكلم، وهكذا
…
ولكن ما تستلزمه الصيغة الإنشائية من الخبر ليس مقصوداً ولا منظوراً إليه.
إنما المقصود والمنظور إليه هو ذات الصيغة الإنشائية.
وبذلك يكون عدم احتمال الإنشاء للصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى ذات الإنشاء"
(1)
.
د- أقسام الإنشاء:
ينقسم الإنشاء إلى قسمين: طلبي وغير الطلبي.
القسم الأول: الإنشاء الطلبي:
وتعريفه هو: الذي يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطلب.
وأنواعه: هو خمسة أنواع:
أولًا: الأمر:
وهو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام نحو قوله - تعالى -: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُوا)[آل عمران: 200].
وللأمر أربع صيغ تنوب كل منها مناب الأخرى في طلب أي فعل من الأفعال على وجه الاستعلاء والإلزام، وهي:
أ - فعل الأمر: كما في المثال الماضي، وكما في قوله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
(1)
انظر البلاغة العربية ص 665، وعلم المعاني ص 74 - 75.
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103].
ب - المضارع المقرون بلام الأمر: كما في قوله-تعالى-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ)[قريش: 3].
ج- اسم فعل الأمر: كما في قوله - تعالى -: (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[المائدة: 105].
د- المصدر النائب عن فعل الأمر كما في قوله-تعالى-: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)[البقرة: 83].
وقوله: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ)[محمد: 4].
ثانيًا: النهي:
وهو طلب الكف عن الفعل، أو الامتناع عنه على وجه الاستعلاء والإلزام.
وللنهي صيغة واحدة وهي المضارع المقرون بـ: لا الناهية الجازمة، نحو قوله -تعالى-:(وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً)[الحجرات: 12].
ثالثًا: الاستفهام:
وهو طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل بأداة خاصة.
وأدوات الاستفهام كثيرة منها الهمزة، وهل، نحو قوله - تعالى -:(أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ)[النازعات: 10].
وقوله: (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)[الرحمن: 60].
رابعًا: التمني:
وهو طلب أمر محبوب لا يرجى حصوله إما لكونه مستحيلاً-والإنسان كثيراً ما يحب المستحيل ويطلبه- ومثاله: كقول الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
…
فأخبره بما فعل المشيب
وإما لكونه ممكناً غير مطموع في نيله، ومثاله: قوله - تعالى -: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ
قَارُونُ) [القصص 79].
خامسًا: النداء:
وهو طلب إقبال المدعو على الداعي بأحد حروف النداء.
وهذه الحروف ينوب كل حرف منها مناب الفعل (أدعو).
وهي: الهمزة، وأي، ويا، وأيا، وهيا، وآ، وآي، و وا، نحو قوله -تعالى-:(يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)[الأحزاب: 13].
هذه هي أنواع الإنشاء الطلبي على سبيل الإجمال، ولها في كتب اللغة والبلاغة وعلم المعاني على وجه التحديد تفصيلات يطول ذكرها.
(1)
القسم الثاني: الإنشاء غير الطلبي:
وتعريفه: هو: ما لا يستدعي مطلوباً.
أساليبه:
وله أساليب وصيغ كثيرة منها:
1 -
صيغ المدح والذم، مثل: نعم وبئس، وحبذا ولا حبذا.
2 -
وصيغ العقود نحو: بعت، واشتريت، ووهبت، وأعتقت.
3 -
القسم: بالواو، أو بالباء، أو بالتاء.
4 -
التعجب، نحو: ما أكرمه، وأكرم به.
5 -
الرجاء بـ: عسى، أو اخلولق، وحرى مثل:(فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ)[المائدة: 52].
ولا يبحث علماء البلاغة في الإنشاء غير الطلبي؛ لأن أكثر صيغه في الأصل أخبار نقلت إلى الإنشاء"
(2)
.
(3)
(1)
انظر الصاحبي ص 134 - 141، وعلم المعاني ص 75 - 129.
(2)
انظر البلاغة العربية ص 480 - 481.
(3)
المصدر: بحث بعنوان: معاني الكلام: الخبر والإنشاء لمحمد بن إبراهيم الحمد في موقع ملتقى أهل التفسير.
وقول المصنف: "الدَّائِرُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَبَيْنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَالْحَضِّ وَالْمَنْعِ،
سيأتي مزيد بيان وتوضيح لهذا الأمر في كلام المصنف بعد قليل لهذه العبارة.
وقول المصنف: "حَتَّى إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ النَّوْعِ الْآخَرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الأيمَانِ، وَكَمَا ذَكَرَهُ الْمُقَسِّمُونَ لِلْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالنَّحْوِ وَالْبَيَانِ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ".
مسألة الخبر والإنشاء وتعريف كل منهما، والفرق بينها تناولها الأصوليون ومن بعدهم البلاغيون بالبحث والجدل الذي لم ينفك عن منهج المتكلمين-وكثير من الأصوليين والبلاغيين منهم-في ضبط الحدود بالجمع والمنع وغيرها مما لا يسلم معه كثير من التعريفات، حتى اضطر بعضهم إلى ترك حد الشيء لعسره، وأظن أن العسر في المنهج الكلامي لا في الأشياء التي يراد تعريفها، والذين قالوا بعدم حد الخبر لضرورته، ربما قال بعضهم ذلك تخلصاً من العسر الذي يشعر بالعقم في المنهج، وإلا فإن المقصود بالتعريف -وخاصة ما كان مفهوماً في الذهن- التوضيح والتقريب والتنبيه، وقد قال الإيجي:"الخبر تصوره ضروري في الأصح، وتعريفاته تنبيهات، فإن التعريف قد لا يراد به إحداث تصور، بل الالتفات إلى تصور حاصل في الذهن، ليتميز من بين تلك التصورات، فيعلم أنه المراد، وكذلك الطلب بأقسامه، فإن كلا يميز بينها ويورد كلا في موضعه، ويجيب عنه بما يطابقه، حتى الصبيان ومن لا يتأتى منه النظر"
(1)
(1)
الفوائد الغياثية: ص 111.
وقول المصنف: "كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الأيمَانِ"
الأيمان" هي جمع يمين وهو القسم، فالفقهاء ذكروا في هذا الكتاب أن الكلام ينقسم إلى خبر وطلب.
لأنهم يقسمون اليمين إلى يمين مكفرة، ويمين غير مكفرة، واليمين المكفرة هي التي تدخلها الكفارة، وغير المكفرة هي التي لا تدخلها الكفارة، فالحلف على المستقبل علي فعل أو ترك، هذا هو الإنشاء، والحلف على أمر واقع هو الخبر.
فاليمين المكفرة: هي الحلف على مستقبل كأن يقول قائل: والله لأفعلن كذا، أو والله لا أفعل كذا؛ فإن حنث بأن حصل خلاف ما حلف عليه وجبت عليه الكفارة، وإن تحقق ما حلف على فعله أو تركه كان بارًا بيمينه ولا كفارة عليه.
أما إذا حلف على أمر واقع فهو اليمين التي لا تدخلها الكفارة، لأنها إن كانت صدقًا فلا موجب للكفارة، وإن كانت كذبًا فالكذب لا تمحوه الكفارة بل لا تمحوه إلا التوبة إلى الله تعالى".
(1)
وقول المصنف: "وَالْخَبَرُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ إبَاحَةٌ".
وقد تقدم بيان ذلك عند التعريف بهما،
فقوله: "وَالْخَبَرُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ" مثال ذلك في نصوص القرآن النصوص الواردة في باب التوحيد والصفات فهي من باب الخبر الدائر بين الإثبات والنفي.
مثال ذلك: سورة الإخلاص فهي من باب الإخبار وفقد تضمنت الأمرين:
الإثبات: في قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ)] الإخلاص: 1 - 2 [
(1)
شرح الرسالة التدمرية لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ص 41 - 42.
والنفي: في قوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)] الإخلاص: 3 [.
فهذا الإثبات والنفي يكون من جانب الله تعالى.
أما من جانب المخلوق فيكون بالتصديق أو التكذيب.
فإذا سأل سائل كيف نتعامل مع أخبار القرآن؟
فيقال له:
أما الأخبار فنصدقها ونؤمن بها. فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفى عنه ما يجب نفيه مما يضاد هذا الحال.
قال في التحفة المهدية: «وقوله في الأول (نفيًا، وإثباتًا) معناه أن منه ما يثبت كإثبات أن الله الخالق الرازق، الموصوف بصفات الكمال، ومنه ما ينفى كنفي الشريك له والمثل والكفؤ"
(1)
وقوله: "وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ إبَاحَةٌ".
والكلام في الشرع الوارد في النصوص فهو دائر بين الأوامر أو النواهي أو الإباحة
ومثال ذلك في الشرع: آيات القرآن الكريم فإنها تنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، وأما الأوامر فنمتثل لها، وإن كان نهيًا ابتعدت عنه.
ومن النصوص في جانب الأمر: قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)] المزمل: 20 [.
وفي جانب النهي: قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)] النساء: 29 [.
وفي جانب الإباحة: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)] البقرة 168 [.
(1)
انظر: التحفة المهدية 1/ 21.
ما يجب على العبد في الصفات والشرع والقدر
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: «وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ مِمَّا يُضَادُّ هَذِهِ الْحَالَ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ فَيُؤْمِنَ بِخَلْقِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعُمُومَ مَشِيئَتِهِ، وَيُثْبِتَ أَمْرَهُ الْمُتَضَمِّنَ بَيَانَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيُؤْمِنَ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ إيمَانًا خَالِيًا مِنْ الزَّلَلِ.
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَدَلَّ عَلَى الْآخَرِ سُورَةُ:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَهُمَا سُورَتَا الْإِخْلَاصِ، وَبِهِمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ».
الشرح
قوله: "وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ" أي بعد أن قرر المصنف رحمه الله هذين الأصلين العظيمين، وبَيَّنَ أن الأصل الأول (التوحيد والصفات) راجعٌ إلى الخبر، وأن الأصل الثاني (الشرع والقدر) راجعٌ إلى الإنشاء.
أراد أن بَيَّنَ ما الذي يجب على المكلف تجاه كل نوع منهما،
فقوله: "فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ مِمَّا يُضَادُّ هَذِهِ الْحَالَ".
فأوضح أنه يجب على العبد في الأصل الأول وهو باب (التوحيد والصفات)
الذي هو الجانب العلمي الخبري أن يؤمن به وأن يثبت ما أثبته الله لنفسه وأن ينفي ما نفاه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأصل دين المسلمين أنهم
…
يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه"
(1)
فقوله: "وَلَا بُدَّ لَهُ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ فَيُؤْمِنَ بِخَلْقِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعُمُومَ مَشِيئَتِهِ، وَيُثْبِتَ أَمْرَهُ الْمُتَضَمِّنَ بَيَانَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيُؤْمِنَ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ إيمَانًا خَالِيًا مِنْ الزَّلَلِ"
وأنه يجب عليه في الأصل الثاني الذي هو باب (الشرع والقدر) والذي هو الجانب العملي أن يؤمن به وأن ينقاد له ويستسلم له في:
1 -
في قدره الذي هو أحكامه الكونية.
2 -
وفي شرعه الذي هو أحكامه الدينية.
وقوله: وَهَذَا يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ"
فيه إشارة إلى أقسام التوحيد وقد تَنَوَّعَت عباراتُ علماء أهل السُّنَّة في التعبير عن أنواع التوحيد، ولكنها مع ذلك التنوع متفقة في المضمون، ولعل السبب في ذلك هو أن تلك التقسيمات مأخوذ من استقراء النصوص، ولم يُنص عليها باللفظ مباشرة، ولذلك فمن العلماء
(2)
مَنْ قَسَّم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، هي:
(1)
الجواب الصحيح (4/ 405).
(2)
انظر: «طريق الهجرتين» (ص. 3)، و «شرح الطحاوية» (ص 76)، و «لوامع الأنوار» للسفاريني (1/ 128)، و «تيسير العزيز الحميد» (ص 17 - 19).
1 -
توحيد الرُّبوبية: وهو إفراد الله بأفعاله كالخلق والرزق.
2 -
توحيد الأسماء والصفات: وقد تقدم ذكر تعريفه.
3 -
توحيد الألوهية: وهو إفراد الله بأفعال العباد التعبدية؛ كالصلاة، والصوم، والدعاء.
ومن العلماء من قَسَّم التوحيد إلى قسمين، وهذا هو الأغلب في كلام أهل العلم المتقدمين؛ لأنهم يَجمعون بين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وذلك بالنظر إلى أنهما يُشكلان بمجموعهما جانب العلم بالله ومعرفته عز وجل؛ فجمعوا بينهما لذلك، بينما توحيد الألوهية يُشكل جانب العمل لله.
وتَقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام راجع إلى اعتبار مُتَعَلَّق التوحيد، وتقسيمه إلى قسمين راجع إلى اعتبار ما يجب على المُوَحِّد.
فمن العلماء من يقول: التوحيد قسمان
(1)
:
القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات:
ويُريد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسُمِّي بتوحيد المعرفة؛ لأن معرفة الله عز وجل إنما تكون بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله.
والإثبات: أي: إثبات ما أثبته اللهُ لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال.
القسم الثاني: توحيد القَصد والطَّلب:
ويُراد به الألوهية، وسُمِّي بتوحيد القصد والطلب؛ لأن العبد يتوجه بقلبه ولسانه وجوارحه بالعبادة لله وحده؛ رغبة ورهبة، ويُقصد بذلك وجه الله وابتغاء مرضاته.
(1)
مِمَّنْ ذكر ذلك ابنُ القيم في كتابه «مدارج السالكين» (3/ 449).
ومن العلماء مَنْ يُقَسِّم التوحيد إلى قِسمين هما
(1)
:
القسم الأول: التوحيد العلمي الخبري:
والمقصود به: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
وسُمِّي بالتوحيد العلمي: لأنَّه يَعتني بجانب معرفة الله، فالعلمي أي:(العلم بالله).
والخبري: لأنَّه يَتوقف على الخبر، أي:(الكتاب والسنة).
القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي:
والمقصود به: توحيد الألوهية، وسُمِّي بالتوحيد الإرادي؛ لأن العبد له في العبادات إرادة، فهو إمَّا أن يقوم بتلك العبادة أو لا يقوم بها، وسمي بالطلبي؛ لأن العبد يطلب بتلك العبادات وجه الله ويقصده عز وجل بذلك.
(1)
مِمَّنْ ذكر ذلك ابنُ القيم في كتابه «مدارج السالكين» (3/ 450)، وابن تيمية في «الصَّفدية» (2/ 228).
ومِن العلماء مَنْ يُقَسِّم التوحيد إلى قسمين؛ فيقول
(1)
:
القسم الأول: التوحيد القولي:
والمراد به: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسُمِّي بالقولي؛ لأنه في مقابل توحيد الألوهية الذي يُشكل الجانب العلمي من التوحيد، وأما هذا الجانب فهو مختص بالجانب القولي العلمي.
القسم الثاني: التوحيد العملي:
والمراد به: توحيد الألوهية، وسُمِّي بالعملي؛ لأنه يشمل كلًّا من عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح التي تشكل بمجموعها جانب العمل من التوحيد.
فالتوحيد له جانبان: جانب تصديقي علمي. وجانب انقيادي عملي.
ومِن العلماء مَنْ يُقَسِّم التوحيد إلى قسمين؛ فيقول:
القسم الأول: توحيد السِّيادة:
ويُعنى بذلك: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسُمِّي بذلك؛ لأن تفرد الله بأفعاله وأسمائه وصفاته يُوجب له القيادة المطلقة والتصرف التام في هذا الكون خلقًا ورزقًا وإحياء وإماتة وتصرُّفًا وتدبيرًا سبحانه وتعالى، فمن واجب الموحد أن يُفرد الله بذلك.
والقسم الثاني: توحيد العبادة:
المراد به: توحيد الألوهية، وتسميته بذلك واضحة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل.
وهذا ما وقفت عليه من تقسيمات العلماء للتوحيد، وهي واحدة من حيث مضمونها، كما سبق إيضاح ذلك من خلال ربطها بالتقسيم الأول، ولذا فإن الاختلاف بينها مُنحصر في الألفاظ فقط، والله أعلم.
قال المصنف: "كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَدَلَّ عَلَى الْآخَرِ سُورَةُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَهُمَا سُورَتَا الْإِخْلَاصِ".
أراد المصنف أن يستدل على صحة هذا التقسيم، وأن القرآن اشتملت سوره على تقسيم التوحيد إلى قسمين:
فبَيَّن المصنف رحمه الله أن سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تشتمل على بيان النوع الأول من أنواع التوحيد وهو التوحيد العلمي الخبري، فإن السورة تقرر وحدانية الله، وتصفه بأنه الصمد الذي يصمد إليه الخلائق في قضاء حوائجهم، وتنزهه جل وعلا عن الولد والوالد، وتقرر أنه لا نظير له ولا ند له تبارك وتعالى.
قال شيخ الإسلام-رحمه الله: "فهذان الاسمان العظيمان "الأحد الصمد" يتضمنان تنزيهه عن كل نقص وعيب، وتنزيهه في صفات الكمال أن لا يكون له مماثل في شيء
(1)
ممن ذكر ذلك شيخُ الإسلام ابنُ تيمية. انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 367).
منها، واسمه الصمد يتضمن إثبات جميع صفات الكمال، فتضمن ذلك إثبات جميع صفات الكمال ونفي جميع صفات النقص، فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله، وتضمنت أيضاً كل ما يجب إثباته من و جهين:
من اسمه الصمد، ومن جهة أن ما نفي عنه من الأصول والفروع والنظراء مستلزم ثبوت صفات الكمال أيضاً؛ فإن كل ما يُمدح به الرب من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتاً، بل وكذلك كل ما يُمدح به شيء من الموجودات من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتاً، وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض والعدم المحض ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون صفة كمال"
(1)
.
وأن سورة الكافرون- والتي سماها المصنف سورة الإخلاص الثانية لأنها تأمر بإخلاص العبادة لله وحده- تشتمل على النوع الثاني من أنواع التوحيد وهو توحيد القصد والطلب وهو توحيد الألوهية والعبادة، بأن لا يقصد العبد إلا ربه، وهذا هو الذي أمره به الله تعالى وطلبه منه، وأمره أن يتبرأ مما يعبده الكافرون بقوله لهم: لا أعبد ما تعبدون، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
والقرآن كله دعوة للتوحيد.
قال ابنُ القيم رحمه الله: «كلُّ سُورة في القرآن هي متضمنة للتوحيد، بل نقول قولًا كليًّا: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه.
فإن القرآن:
1 -
إمَّا خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري.
2 -
وإمَّا دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
(1)
تفسير سورة الإخلاص، ضمن مجموع الفتاوى (17/ 108 - 109).
3 -
وإمَّا أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته.
4 -
وإمَّا خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يُكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
5 -
وإمَّا خبر عن أهل الشرك، وما فُعل بهم في الدنيا من النِّكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم توحيده.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجَزائهم»
(1)
.
وأما عن (العلاقة بين هذه الأقسام للتوحيد)، فأقول:
هذه الأقسام تُشكل بمجموعها جانب الإيمان بالله الذي نُسميه التوحيد، فلا يكمل لأحد توحيده إلا باجتماع أنواع التوحيد الثلاثة، فهي متكافلة متلازمة يكمل بعضها بعضًا، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، وكذلك لا يصح-ولا يقوم-توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أيِّ نوع منها هو خلل في التوحيد كله، (فمعرفة الله لا تكون بدون عبادته، والعبادة لا تكون بدون معرفة الله، فهما متلازمان)
(2)
.
وقد أوضح بعضُ أهل العلم العلاقة بين أنواع التوحيد بقوله: «هي علاقة تلازم وتضمن وشمول» .
فتوحيد الربوبية مُستلزم لتوحيد الألوهية.
وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية.
وتوحيد الأسماء والصفات شامل للنوعين معًا.
(1)
«مدارج السَّالكين» (3/ 449، 450).
(2)
«تحذير أهل الإيمان» (1/ 140)، (ضمن «مجموعة الرسائل المنيرية»).
بيان ذلك: أنَّ مَنْ أقرَّ بتوحيد الربوبية، وعلم أنَّ الله سبحانه هو الرب وحده لا شريك له في ربوبيته لَزمه
(1)
من ذلك الإقرار أن يُفرد الله بالعبادة وحده سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان ربًّا خالقًا مالكًا مدبرًا، وما دام كله لله وحده وجب أن يكون هو المعبود وحده.
ولهذا جَرَت سُنَّة القرآن الكريم على سوق آيات الربوبية مَقرونة بآيات الدعوة إلى توحيد الألوهية، ومن أمثلة ذلك:
وأمَّا توحيد الألوهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأنَّ مَنْ عبد الله ولم يُشرك به شيئًا فهذا يدل ضمنًا على أنه قد اعتقد بأن الله هو ربه ومالكه الذي لا ربَّ غيره.
وهذا أمر يشاهده المُوحد من نفسه، فكونه قد أفرد الله بالعبادة ولم يَصرف شيئًا منها لغير الله، ما هو إلا لإقراره بتوحيد الربوبية، وأنه لا ربَّ ولا مالك ولا متصرف إلا الله وحده.
وأمَّا توحيد الأسماء والصفات فهو شامل للنَّوعين معًا، وذلك لأنه يقوم على إفراد الله تعالى بكلِّ ما له من الأسماء الحسنى والصفات العُلى التي لا تنبغي إلا له سبحانه وتعالى، والتي من جملتها: الرَّب-الخالق-الرازق-الملك، وهذا هو توحيد الربوبية.
ومن جملتها: الله-الغفور-الرحيم-التَّواب، وهذا هو توحيد الألوهية
(2)
(1)
اللازم هنا قد يتخلف، كما هو الحال في كفار قريش؛ فهم يُقرون بتوحيد الربوبية، كما دَلَّت على ذلك النصوص، ولكنهم لم يُحققوا اللازم مِنْ إقرارهم بتوحيد الربوبية.
(2)
انظر: «الكواشف الجلية عن معاني الواسطية» للشيخ عبد العزيز السلمان (ص 421، 422).
وقول المصنف: "وَبِهِمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ"
أولًا: قوله: "فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ" ثبت ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قَرَأَ فِي رَكعَتَي الفَجرِ "قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ")
(1)
ثانيًا: "وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ" ثبت ذلك في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون)
(2)
.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
(3)
وقوله: "وَغَيْرِ ذَلِكَ" يعني بذلك:
ثالثًا: الوتر، ثبت ذلك عن عدد من الصحابة ومن ذلك ما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ: بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
(4)
رابعًا: الركعتان بعد المغرب، وثبت ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(رَمَقتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِشرِينَ مَرَّةً يَقرَأُ فَي الرَّكعَتَينِ بَعدَ المَغرِبِ، وَفِي الرَّكعَتَينِ قَبلَ الفَجرِ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ")
(5)
(1)
رواه مسلم: (1/ 502) رقم: (726)، وابن عمر كما في الترمذي:(2/ 470).
(2)
رواه مسلم: (2/ 886). رقم: (1218) وغيره.
(3)
رواه النسائي (1730) وابن ماجه (1171) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
(4)
رواه أحمد (2715) والترمذي (462) وصححه الألباني في صحيح الترمذي، وأبو داود:(4/ 299)،، وابن ماجه:(1173) وانظر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (97).
(5)
رواه النسائي (992) وقال النووي في "المجموع"(3/ 385): إسناده جيد. وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(3328) والشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند (8/ 89). وأحمد (4763)، ورواه ابن مسعود في الترمادي:(506/ 2)، وابن ماجه (1166)، وانظر صحيح سنن النسائي (1/ 214) رقم (948).
الأصل في الأسماء والصفات وطريقة السلف في إثباتهما
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ (التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ) فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ فَيُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ".
الشرح
هنا انتقل المصنف من الإجمال إلى التفصيل وبدأ يقرر مسائل هذا النوع من التوحيد الذي أطلق عليه مسمى (الأصل الأول) بقوله: "فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ (التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ) ".
ويمكن تناول شرح هذا النص من خلال المسائل الآتية:
المسألة الأولى: أهمية معرفة باب أسماء الله وصفاته.
المسألة الثانية: التعريف بالسلف الصالح وبأهل السنة والجماعة.
المسألة الثالثة: عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات.
المسألة الرابعة: الأسس التي ارتكز عليها معتفد السلف في باب أسماء الله وصفاته
المسألة الخامسة: أهمية التمسك بنصوص الكتاب والسنة.
المسألة السادسة: معنى قوله: "مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ".
المسألة السابعة: معنى قوله: "وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ".
المسألة الثامنة: معنى قوله: "وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ".
المسألة الأولى: أهمية معرفة باب أسماء الله وصفاته.
تتجلى أهمية توحيد الأسماء الحُسنى والصِّفات العُلى في الأمور الآتية:
أولًا: هذا التوحيد شَطر باب الإيمان بالله تعالى:
لا يخفى على المسلم أهمية الإيمان بالله، فهو أول أركان الإيمان، بل هو أعظمها، فما بقية الأركان إلا تَبَع له وفرع عنه، وهو أهم ما خُلق لها الخلق، وأُرسلت به الرسل، وأُنزلت به الكتب، وأُسِّست عليه الملة؛ فالإيمان بالله هو أساس كل خير، ومصدر كل هداية، وسبب كل فلاح، ذلك لأنَّ الإنسان لما كان مخلوقًا مَربوبًا عاد في علمه وعمله إلى خالقه وبارئه؛ فبه يهتدي، وله يعمل، وإليه يصير، فلا غِنى له عنه، وانصرافه إلى غيره هو عين هلاكه وفساده، والإنسان له بالله عن كل شيء عِوض، وليس لكل شيء عن الله عوض؛ فليس للعبد صلاح ولا فلاح إلا بمعرفة ربِّه وعبادته، فإذا حصل له ذلك فهو الغاية المرادة له والتي خُلق من أجلها، فما سوى ذلك إما فضل نافع، أو فُضول غير نافعة، أو فضول ضارة، ولهذا صارت دعوة الرسل لأممهم إلى الإيمان بالله وعبادته؛ فكل رسول يبدأ دعوته بذلك كما يُعلم من تَتبع دعوات الرسل في القرآن.
وملاك السعادة والنجاة والفوز يكون بتحقيق التوحيدين اللذين عليهما يقوم الإيمان بالله تعالى، وبتحقيقهما بَعث الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإليه دَعت الرسل
-صلوات الله وسلامه عليهم-من أولهم إلى آخرهم.
وأحدهما: التوحيد العِلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الكمال لله تعالى، وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل، وتنزيهه عن صفات النقص.
قال الإمامُ ابنُ القَيِّم رحمه الله تعالى: «ولا ريبَ أنَّ العِلم به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أَجَلُّ العلوم وأَفضلها، ونِسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات، وكما أنَّ العلمَ به أَجَلُّ العلوم وأشرفُها، فهو أصلها كلها، كما أنَّ كل موجود فهو مستند في وجوده إلى الملك الحق المبين ومفتقر اليه في تحقق ذاته وأينيته، وكل علم فهو تابع للعلم به مُفتقر في تحقق ذاته إليه، فالعلم به أصل كل علم، كما أنَّه-سبحانه-ربُّ كل شيء ومليكه ومُوجده
…
(1)
.
والتوحيد الثاني: عبادته وحده لا شريك له، وتجريد محبته والإخلاص له وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه، والرضا به ربًّا وإلهًا ووليًّا، وأن لا يَجعل له عدلًا في شيء من الأشياء.
وقد جمع سبحانه وتعالى هذين النوعين في سورتي الإخلاص، وهما سورة:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} المتضمنة للتوحيد العملي الإرادي.
وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} المتضمنة للتوحيد العلمي الخبري.
فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها بيانُ ما يجب لله تعالى من صفات الكمال، وبيان ما يجب تنزيهه عنه من النقائص والأمثال.
(1)
«مفتاح دار السعادة» (1/ 86)، دار الكتب العلمية -بيروت.
وسورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فيها إيجاب عبادته وحده لا شريك له، والتبري من عبادة كل ما سواه.
ولا يتمُّ أحدُ التوحيدين إلا بالآخر، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في سُنَّة الفجر والوتر والمغرب، وقد ورد كذلك في سُنَّة المغرب القراءة بهاتين السورتين
(1)
؛ ليكون فاتحة العمل وخاتمته توحيدًا؛ إذ مبدأ النهار توحيدًا وخاتمته توحيدًا
(2)
.
فالتوحيد المطلوب من العبد شَطره هو توحيد الأسماء والصفات.
ثانيًا: توحيد الأسماء والصِّفات أشرف العلوم وأهمها على الإطلاق:
إنَّ شرف العلم تابع لشرف معلومه؛ لوثوق النفس بأدلة وجوده وبراهينه، ولشدة الحاجة إلى معرفته وعِظم النفع بها.
ولا ريب أن أَجَلَّ مَعلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين، وقَيُّوم السموات والأرضين، الملك الحق المبين، الموصوف بالكمال كله، المنزه عن كل عيب ونقص وعن كل تشبيه وتمثيل في كماله.
(1)
قد ثبت في «صحيح مسلم» (726) عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكعَتَي الفَجرِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}» .
وأخرج الترمذي (462) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في ركعة ركعة» ، وأخرجه الدارمي بنحوه (1630)، وصححه الألباني في «صلاة التراويح» (ص 108).
وأخرج النسائي (922) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رَمَقتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِشرين مَرَّةً يقرأ في الرَّكعَتَينِ بعد المغرب، وفي الرَّكعَتَين قبل الفجرِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وقال النووي في «المجموع» (3/ 385): «إسناده جيد» ، وصححه الشيخ أحمد شاكر في «تحقيق المسند» (8/ 89)، والألباني في «السلسلة الصحيحة» (3328).
(2)
انظر «اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة الجهمية» لابن القيم (ص 35، 36).
فلا ريب أن العلمَ به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أَجَلُّ العلوم وأفضلها، ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات
(1)
.
فإن قيل: فالعلم إنما هو وسيلة إلى العمل ومراد له، والعمل هو الغاية، ومعلوم أنَّ الغاية أشرف من الوسيلة؛ فكيف تُفضل الوسائل على غاياتها؟
قيل: كل مِنْ العلم والعمل ينقسم إلى قسمين؛ منه ما يكون وسيلة، ومنه ما يكون غاية، فليس العلم كله وسيلة مرادة لغيرها، فإنَّ العلم بالله وأسمائه وصفاته هو أشرف العلوم على الإطلاق، وهو مطلوب لنفسه، مراد لذاته؛ قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ، فقد أخبر-سبحانه-أنه خلق السموات والأرض، ونَزَّل الأمر بينهن؛ ليَعلم عباده أنه بكل شي عليم، وعلى كل شي قدير؛ فهذا العلم هو غاية الخلق المطلوبة، وقال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ؛ فالعلم بوحدانيته تعالى وأنه لا إله إلا هو مطلوب لذاته وإن كان لا يُكتفى به وحده، بل لابد معه من عبادته وحده لا شريك له؛ فهما أمران مطلوبان لأنفسهما.
الأمر الأول: أن يُعرف الربُّ تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه.
والأمر الثاني: أن يُعبد بمُوجبها ومُقتضاها.
فكما أنَّ عبادته مطلوبة مرادة لذاتها، فكذلك العلم به ومعرفته أيضًا، فإنَّ العلم من أفضل العبادات
(2)
.
ثالثًا: توحيد الأسماء والصفات هو أصل العلوم الدينية:
كما أن العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأشرفها وأعظمها فهو أصلها كلها، فكل علم هو تابع للعلم به، مفتقر في تحقق ذاته إليه، فالعلم به أصل كل علم ومَنشؤه؛ فمَن عرف الله عَرف ما سواه، ومَن جهل ربَّه فهو لما سواه أجهل؛ قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} ، فتأمل هذه الآية: تجد تحتها معنى شريفًا عظيمًا، وهو: أنَّ مَنْ نسي ربَّه أنساه ذاته ونفسه، فلم يَعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نَسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده؛ لأنَّه خرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربَّه فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل به وتزكو به وتسعد به في معاشها ومعادها؛ قال تعالى:{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ، فغفل عن ذكر ربه؛ فانفرط عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسه وقلبه، بل هو مُشتت القلب مُضيعه، مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلًا.
فالعِلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مُستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد والجهل به أصل شقاوته
(1)
.
رابعًا: معرفة أسماء الله وصفاته أصل عظيم في منهج السلف:
معرفة أسماء الله وصفاته هي الأساس الذي يَنبني عليه عمل العبد، ومن خلالها تتحدد العلاقة التي تربط العبد بربه، وعلى ضوئها يَعبد المسلم ربَّه، ويتقرب إليه.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله تعالى: «وأصلُ الإيمان: قولُ القلب الذي هو التَّصديق. وعمل القلب الذي هو المحبة على سبيل الخضوع؛ إذ لا مُلائمة
(1)
«مفتاح دار السعادة» (1/ 86).
لأرواح العباد أتم من ملاءمة إلهها؛ الذي هو الله الذي لا إله إلا هو».
ولذلك كان منهج السلف يقوم على أمرين؛ هما:
1 -
العلم بالله.
2 -
والعمل لله.
فجمعوا بذلك بين التصديق العِلمي والعَمل الحُبِّي، وبذلك تميز منهج أهل السنة والجماعة (السلف) عن المناهج الأخرى.
وحققوا كِلا الأمرين؛ من القول التصديقي المعتمد على معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة. والعمل الإرادي، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي وفق ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان كلامهم وعملهم باطنًا وظاهرًا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونًا بالآخر، وهؤلاء هم المسلمون حقًّا؛ الذين سَلِموا من آفات منحرفة المتكلمة والمتصوفة.
فوقعت كل طائفة من هاتين الطائفتين المنحرفتين في مفسدتين:
إحداهما: القول بلا علم إن كان متكلمًا، والعمل بلا علم إن كان متصوفًا.
والمفسدة الثانية: فوت المتكلم العمل، وفوت المتصوف القول والكلام
(1)
.
وهو ما وقع من البدع الكلامية والعملية المخالفة للكتاب والسنة.
فالكلاميون: غالب نظرهم وقولهم في الثبوت والانتفاء، والوجود والعدم، والقضايا التصديقية؛ فغايتهم مجرد التصديق والعلم والخبر؛ فاعتنوا بجانب علمي
(1)
«مجموع الفتاوى» (2/ 41) بتصرف.
لم يَنْبَنِ على الكتاب والسنة؛ لذلك عَطَّلوا أسماء الله 5، وعَطَّلوا صفاتِه عز وجل.
وعندما عَرَّفوا التوحيد؛ قالوا: «واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله» . وأهملوا جانب توحيد العبادة: «واحد في ذاته» قالوا: «لا شريكَ له» . و «واحد في صفاته» : «لا نظير له» . و «واحد في أفعاله» : «لا نِدَّ له» . فهذا تقسيمهم للتوحيد
(1)
، ويُلاحظ أنه قد خلا في هذه الثلاثة من الجانب العملي، فلا يوجد عمل، ثم إذا تحدثوا عن ذات الله تعالى تحدثوا بالتعطيل؛ فقالوا بما قالوا:«ليس في جهة، ولا في عُلو، ولا في مكان، ولا في حيز» ولا إلى غير ذلك؛ فجعلوه والعدم سواء، وإذا تحدثوا عن صفات الله تعالى تحدثوا عن سبع صفات فقط، وإذا تحدثوا عن أفعال الله تعالى هذا هو الذي سَلِم لهم:«توحيد الربوبية» ؛ فلم يَسلم لهم إلا توحيد الربوبية، ونحن نعلم أن كفار قريش كانوا مُقِرِّين بتوحيد الربوبية:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]؛ فهذا حاصل توحيد هؤلاء.
وأمَّا الصُّوفيون: فغالب طلبهم وعملهم في المحبة والبغضة، والإرادة والكراهة، والحركات العملية؛ فاعتنوا بجانب العمل، وأهملوا جانب العلم، وكذلك عملهم لم ينبنِ على السنة، وإنَّما انبنى على البدعة؛ إذ غايتهم المحبة والانقياد والعمل والإرادة.
وهكذا إذا جئنا إلى أهل التصوف لم نجد عندهم من حقيقة التوحيد شيء.
أمَّا توحيدُ أهل السُّنَّة فيقوم على هذين الأصلين العظيمين: أن تَعرف اللهَ، وذاك بمعرفة أسمائه وصفاته التي وردت في الكتاب والسُّنَّة. وأن تعبد الله، وهذا باتِّباع شرع الله-عز وجل-على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالسلف وأتباعهم جعلوا من توحيد الأسماء والصفات إحدى الرَّكيزتين التي
(1)
انظر: «المِلل والنِّحَل» للشهرستاني (1/ 42)، مؤسسة الحلبي.
قام عليها منهجهم المعتمد على نصوص الكتاب والسنة، وذلك لما لهذا التوحيد من أهمية ومنزلة، وهذا ما تشهد له كثرة النصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن.
فلذلك لا بد لصاحب السُّنَّة أن يدرس هذا الباب، وأن يَبني هذه الدراسة على الكتاب والسنة؛ ليعرف الله عز وجل، فلن تكون من أصحاب السنة ولن تكون من أتباع السلف حتى تُعنى بهذا الباب، وطبعًا العلم بهذا الباب-كما ذكر العلماء مطلوب لذاته، ليس وسيلة للعمل كما يزعم البعض؛ فكلٌّ من العِلم بالله والعمل لله مطلوب لذاته؛ فقد يكون منه ما هو وسيلة، ومنه ما هو غاية؛ فيجب أن نعلم أنه لا بد من معرفة هذا الباب وتعلمه؛ باعتبار أنه أمر مطلوب لذاته، وإن كان لا يُكتفى به وحده، بل لا بد وأن يجتمع معه عبادة الله عز وجل، وإلا فإن العبد لا يكون مؤمنًا، وبهذا نعلم أن من أهمية هذا الباب أنه أصلٌ عظيمٌ في منهج أهل السنة والجماعة؛ فبالتالي لا بد من الاعتناء به، ولا بد من الاهتمام به، ولا بد من تعلُّمِه، وكذلك لوقوع الاختلاف والافتراق في هذا الباب بين الفِرَق والطوائف لا بد من مزيد جهد وعناية بفهمه وتوضيحه ودراسته وتعلمه وتطبيقه.
والله تعالى ليس له مَثيل حتى يُقاس عليه، وعقول البشر لا يمكن أن تستقلَّ بمعرفة الله تعالى استقلالًا؛ لأنها قاصرة عاجزة، كما قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]؛ فالله تعالى تَعَرَّف إليك! فضلًا منه ومِنَّة عليك عَرَّفك بأسمائه وصفاته، عَرَّفك بأنه العليم، وأنه السميع، وأنه البصير، وأنه القدير، وأنه الغفور، وأنه الرحيم، وأنه الجبَّار، وأنه المتكبر. إلى غير ذلك مِنْ أسماء الله 5 وصفاتِه الواردة في الكتاب والسُّنَّة؛ فمِنَّةٌ عُظمى فتحها الله عليك! بالله عليك كيف تُغلقها على نفسِك؟! بل إن الله رَغَّبك في هذه المعرفة فقال:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقال:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24]، وقال:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] .. إلى غير ذلك من المواطن التي ذُكرت فيها
أسماء الله عز وجل؛ إمَّا جملة وإما تفصيلًا.
فافتح بابَ معرفة الله تعالى! لا تُغلقه على نفسك! لا تحرم هذا القلب من أن يَعرف ربَّه، ويَعرف معبودَه!
خامسًا: العلم بأسماء الله وصفاته يَفتح للعبد باب معرفة الله:
إنَّ محبة الشيء فرع عن الشعور به، وأعرف الخلق بالله أشدهم حُبًّا له، فكل من عرف الله أحبه، والعلم يَفتح هذا الباب العظيم الذي هو سِرُّ الخَلق والأمر
(1)
؛ فمن أعظم أصول الدين: المحبة، بل هي قاعدة العبادة، فكيف يكون حبٌّ في قلب العبد المؤمن وهو لم يعرف الله 5؛ فالله تعالى فتح لنا باب معرفته من هذا الطريق، فإن شأت فادخل وتعَرَّف على أسماء الله وصفاته وأفعاله، وإلا فإنك محروم مِنْ ضِمن مَنْ حُرم مِنْ هذا الخير العظيم؛ فطمأنينة القلب وحياته هي في هذا الأمر العظيم: في معرفة الله عز وجل، ولا سبيل للحصول على هذه المعرفة إلا من باب العلم بأسماء الله وصفاته، فلا تَستقر للعبد قَدَم في معرفة الله إلا بالتعرف على أسمائه وصفاته الواردة في القرآن والسنة؛ فالعلم بأسماء الله وصفاته يَفتح للعبد هذا البابَ العظيمَ، فالله عز وجل لم يجعل السبيل إلى معرفته من طريق الاطلاع على ذاته، فهذا الباب موصود إلى قيام الساعة، كما أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال:«تَعَلَّمُوا أنَّه لن يَرى أحدٌ مِنكم ربَّه عز وجل حتى يَموت»
(2)
.
وكذلك فإنَّ من المحال أن تَستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على وجه التفصيل، فهي عاجزة عن ذلك لكونه من المُغيبات التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من طريق الوحي، والله عز وجل يقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ،
فهذه الآية: تُبين محدودية علم الإنسان.
وقد اقتضت رحمة العزيز الحكيم أن بَعث الرسل به مُعَرِّفين وإليه داعين، وجعل معرفته سبحانه بأسمائه وصفاته، أفعاله هي مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم، فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم والأصل الأول فيها: معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله. ثم يتبع هذا الأصل أصلان عظيمان هما:
1 -
تعريف الناس الطريق الموصلة إلى الله، وهي:«شريعته المتضمنة لأمره ونهيه» .
2 -
تعريفهم مآلهم في الآخرة.
وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول مَبنيان عليه، فأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصلة إليه، وأعرفهم بحال الناس عند القدوم عليه.
سادسًا: أساس العلم الصحيح هو الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته:
على أساس العلم الصحيح بالله وبأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها؛ فهذا التوحيد هو أساس الهداية والإيمان، وهو أصل الدين الذي يقوم عليه، ولذلك فإنه لا يتصور إيمان صحيح ممن لا يعرف ربه، فهذه المعرفة لازمة لانعقاد أصل الإيمان، وهي مهمة جدًّا للمؤمن لشدة حاجته إليها؛ لسلامة قلبه، وصلاح معتقده، واستقامة عمله، فهذه المعرفة لأسماء الله وصفاته وأفعاله تُوجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يَليق به، ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام.
وذلك يتم بتدبر كلام الله تعالى، وما تعَرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نَزَّه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه.
والجدير ذِكره أن معرفة الله نوعان:
النوع الأول: المعرفة الإجمالية:
وهي التي تَلزم العبد المؤمن؛ لينعقد بها أصلُ الإيمان، وهي تتحقق بالقدر الذي يميز العبد به بين ربه وبين سائر الآلهة الباطلة، ويتحقق بها الإيمان المجمل، وتجعله في سلامة من الكفر والشرك المُخرجين من الإيمان، وتُخرجه من حدِّ الجهل بربه وما يجب له.
وهذه المعرفة يتحصل عليها من قراءة سورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرها من الآيات، ومعرفة معانيها.
ولكن هذه المعرفة لا تُوجب قوة الإيمان والرسوخ فيه.
النوع الثاني: المعرفة التفصيلية:
وهذه تكون بمعرفة الأدلة التفصيلية الواردة في هذا الباب، وتعلمها واعتقاد اتصاف الله بها، ومعرفة معانيها، والعمل بمقتضياتها وأحكامها.
وهذه المعرفة هي التي يحصل بها زيادة الإيمان ورسوخه، فكلما ازداد العبد علمًا بالله زاد إيمانه وخشيته ومحبته لربِّه وتَعلقه به؛ قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، كما تجلب للعبد النور والبصيرة التي تُحَصِّنه من الشبهات المضللة والشهوات المحرمة.
«والعلم بالله يُراد به في الأصل نوعان:
أحدهما: العلم به نفسه، أي: بما هو متصف به مِنْ نُعوت الجلال والإكرام، وما دَلَّت عليه أسماؤه الحسنى.
وهذا العلم إذا رَسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لابد أن يعلم أن الله يُثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته.
والنوع الثاني: يُراد بالعلم بالله: العلم بالأحكام الشرعية من الأوامر والنواهي والحلال والحرام.
ولهذا قال بعض السلف: العلماء ثلاثة:
1 -
عالم بالله ليس عالمًا بأمر الله.
2 -
عالم بأمر الله ليس عالمًا بالله.
3 -
عالم بالله وبأمر الله.
فالعالم بالله: الذي يخشى الله. والعالم بأمر الله: الذي يعرف الحلال والحرام»
(1)
.
سابعًا: العلم بأسماء الله وصفاته هو حياة القلوب:
يجب أن نعلم أنَّ معرفة الله تعالى هي حياة قلوبنا؛ فلا حياة للقلوب ولا نعيم ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلا بأن تَعرف ربها ومعبودها وفاطرها، ويكون أحب إليها مما سواه، ولا يمكن أن تنجو وأن تَسعد في الآخرة إلَّا بهذه المعرفة والمحبة.
والإنسان بدون الإيمان بالله لا يمكنه أن ينال معرفة ولا هداية، وبدون اهتدائه إلى ربِّه لا يكون إلا شقيًّا مُعذَّبًا كما هو حال الكافرين.
فالله-تبارك وتعالى-خلق هذا الإنسان ورَكَّبه من الجسد والروح، وشاء أن يكون قَوَام هذا الجسد من هذه الأرض؛ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]، وجعل حياة هذا الجسد من التراب؛ فهو يأكل ويشرب ويكتسي من الأرض وما فيها.
وجعل في هذا الجسد الروح؛ قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا
(1)
«مجموع الفتاوى» (3/ 333) بتصرف بسير.
لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
أمَّا أصل هذه الروح ومادتها فهذا لا علم لنا به: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]؛ فأمرٌ استأثر الله تعالى به في علم الغيب عنده.
لكن الله عز وجل شاء أن يكون قِوام هذه الروح وحياتها في معرفة الله وعبادته؛ قال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]؛ فلا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم لقلبه وعيشه من محبَّة فاطره وبارئه، ودوام ذِكره، والسعي في مرضاته، لذلك فإنَّ مَنْ في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه وإرادة لوجهه وشوق إلى لقائه، فطلبه لهذا الباب وحرصه على معرفته وازدياده من التَّبَصُّر فيه وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبر مقاصده وأعظم مطالبه وأجل غاياته، فهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه، وله خُلق الخلق، ولأجله نزل الوحي، وأُرسلت الرسل، وقامت السموات والأرض، ووُجدت الجنة والنار، ولأجله شُرعت الشرائع، وأُسِّست الملة، ونُصبت القِبلة، وهو قطب رحى الخلق والأمر الذي مدارهما عليه.
وهو بحقٍّ أفضل ما اكتسبته القلوب، وحصَّلته النفوس، وأدركته العقول، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، ولا فرحها بشيء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه
(1)
.
وإذا تأملت أعمال القلوب وجدت-مثلًا-أن كل حبٍّ هو تَبَعٌ لحبِّ الله عز وجل؛ وكذلك الخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والإخلاص، والرغبة، والرهبة .. إلى غير ذلك.
(1)
انظر: «الفتوى الحموية الكبرى» (ص 28، 29).
فلا يمكن أن تتحرك أعمال القلوب في القلب ولا أن تقوم بواجبها ما لم تكن على معرفة بالله عز وجل!
إذًا، كيف تتحقق في القلب أعمال القلوب؟
فمثلًا إذا علمت أن الله هو الخالق، وهو الرازق، وهو المحيي، وهو المُميت، وهو النَّافع، وهو الضَّار، وهو القابض، وهو الباسط. إذا علمت هذا أَثْمَر في قلبك توكلًا على الله عز وجل. هذه المعرفة تُوَلِّدُ التوكل. ممن تخاف ومَن ترجو والرزق بيد الواحد الأحد عز وجل؟! يرزق من يشاء بغير حساب. وكيف ترجو ما في يد الناس؟ أو حتى كيف تحسد فلانًا من الناس: أن أعطاه الله تعالى من فضله؛ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]؛ فالخير بيد الله عز وجل، والله يختص برحمته مَنْ يشاء؛ فكيف لقلبٍ أن يحسد لو كان على إيمان؟! ويحسد مَن؟! كأنما يعترض على حكم الله عز وجل: أن أعطى فلانًا ومنع فلانًا!
فصلاح قلوبنا وحمايتها من تلك الأمراض التي تضرها، وتفسد على الإنسان حياته مِنْ غِلٍّ وحسد وحقد وغِيبة ونميمة. إلى غير ذلك من أمراض-سببها هو: أن الإنسان ما عرف الله تعالى حقَّ المعرفة، ومثلًا الله عز وجل أخبرك بأنه عليم، وأنَّه سميع، وأنه بصير؛ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومُطَّلِع على عملك وعلى فعلك؛ أفَلَا يحملُك هذا على الحياء منه؟!
فيجب أن يحمل هذا العبدَ على خوف الله تعالى، على مراقبته، على خشيته؛ فلو أن النفوس استحضرت هذه المعاني لَمَا أَقْدَمَت على فِعل معصية، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَزني الزَّاني حين يَزني وهو مؤمن، ولا يَشرب الخمرَ حين يَشرب وهو مُؤمنٌ،
ولا يَسرق السارق حين يَسرق وهو مؤمن
…
»، الحديث
(1)
؛ لأنه لو قام الإيمان كما يجب-وكما ينبغي-في نفسِه في تلك اللحظات لَمَا أقدم على فَعلته.
أنت لو لَمَحت أحدًا من الناس وأنت على معصية لربما استحييت منه، ولربما خِفت أن يُفشي سِرَّك! فكيف وأنت أمام عالم الغيب والشَّهادة، المُطَّلِع على جميع أحوالك وعلى جميع أمورك وعلى جميع سكناتك وعلى جميع حركاتك؛ ألا تستحي مِنْ الله عز وجل؟! وكما يذكرون أنَّ رجلًا لقي أعرابية فأرادها على نفسها فأَبَت وقالت: أي ثكلتك أمك، أَمَا لك زاجر من كرم؟ أما لك ناهٍ مِنْ دين؟ قال: قلت: واللهِ إنَّه لا يَرانا إلا الكواكب، قالت: ها بأبي أنت، وأين مُكوكبها»
(2)
؛ فأراد أن يُطمأنها أنَّه لا يراهم أحد إلا هذه الكواكب! فقالت له: «وأين مُكوكبُها؟!» ؛ فذكَّرَته بالله عز وجل في تلك اللحظة؛ فقام عنها، وكان ذلك سببًا في هدايته.
فنحن لو استحضرنا معاني أسماء الله وصفاته لكان هذا سببًا في حياة قلوبنا، ولكنَّ قلوبَنا مُلئت بالغفلة عن الله عز وجل والإعراض عن معرفة أسمائه وصفاته؛ فأصابها ما أصابها من أمراض أثقلت كواهلنا، وأفسدت علينا أمر ديننا، وأفسدت علينا أمر دنيانا، بل إن الواحد منا يقف في الصلاة ويسمع آيات الله سبحانه تُتلى عليه، ومع ذلك قلبه قاسٍ، وأصبح قلبًا متحجرًا مهما ذُكِّر بآية عذاب أو وعيد لا يهتز لها، ولا يتحرك لها شعور في قلبه من ذِكر شيء من آيات الله عز وجل؛ فأصابنا ما أصابنا من أمراض في قلوبنا وفي نفوسنا بسبب أننا غفلنا عن معرفة الله عز وجل.
فليتنا نعودُ إلى أسماء الله وصفاته! ليتنا نتدبر ما جاء فيها من معانٍ، وما تُثمره من ثمرات! أنت إذا أثمرت هذه المعرفة في قلبك التوكل حصلت عِزَّة للمؤمن،
(1)
أخرجه البخاري (2475) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 265) عن العتبي.
وحصلت طمأنينة للنفس، وكذلك إذا حصل حياء وإذا حصل خوف وإذا حصلت خشية-منعك هذا مِنْ أن تقترف معصية؛ لا في السر ولا في العلن. إذا حصلت هذه المعرفة قامت بك محبةٌ لله تعالى وتعظيم وإجلال.
هذه المعرفة وهذه المحبة وهذا التعظيم وهذا الإجلال يحملك على أن تُراقب الله عز وجل في جميع أحوالك، وأن يكون اللهُ تعالى أحبَّ إليك مِنْ كل شيء وأعظم وأكبر وأجَل من كل شيء، لكن للأسف حَرمنا قلوبنا من ذلك، فلربما استحقت وعيدَ الله عز وجل:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]؛ فقست القلوب، والقلوب تقسو، بل وتمرض وتموت، والله تعالى قد قال:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14]؛ فالران: هو الصدأ؛ يعلو على هذه القلوب حتى تصبح هذه القلوب صَدِأَة، هذه القلوب قاسية مُبتعدة عن ذكر الله عز وجل.
فأين النفس المطمئنة التي ستنادى كما قال الله عز وجل: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27]؟!
فمعرفةُ الله عز وجل حياةٌ لقلوبنا، وستثمر لنا من أنواع الإيمان وأنواع العمل ما يكون-بإذن الله تعالى-سببًا في صلاحنا وصلاح أحوالنا وصلاح مَعاشنا وصلاح معادنا؛ لو أننا عرفنا ذلك وعملنا به!
ثامنًا: ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته:
مما يدلل ويؤكد أهمية هذا التوحيد هو ما تُثمره معرفة أسماء الله وصفاته في قلب المؤمن من زيادة في الإيمان ورسوخ في اليقين، وما تَجلبه له من النور والبصيرة التي تحصنه من الشبهات المضللة والشهوات المحرمة.
فهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشيةَ الله لا محالة؛ فلكلِّ اسم من أسماء الله تأثير معين في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه
واستشعر ذلك-تجاوب مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه.
ولكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها؛ فالأسماء الحسنى والصفات العُلى مقتضية لآثارها من العبودية، وهذا مُطَّرِد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فمثلًا: علم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يُثمر له عبودية التوكل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا.
وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه، وأنَّه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يُرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه؛ فيثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح.
ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبِرِّه وإحسانه ورحمته تُوجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعِزِّه تُثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة هي موجباتها.
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العُلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية.
فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها
(1)
.
وبهذا يتبين أنَّ معرفة العبد لأسماء الله وصفاته على الوجه الذي أخبر الله عز وجل به
(1)
«مفتاح دار السعادة» (2/ 90).
في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم-تُوجب على العبد القيام بعبودية الله على الوجه الأكمل، فكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان الحب والإخلاص والتعبد أقوى، وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر؛ إذ كل اسم من أسمائه عز وجل له تَعَبُّد مُختص به؛ علمًا ومعرفة وحالًا.
(علمًا ومعرفة): أي: إنَّ مَنْ عَلِم أنَّ الله مسمى بهذا الاسم، وعرف ما يتضمنه من الصفة، ثم اعتقد ذلك-فهذه عبادة.
و (حالًا) أي: إن لكل اسم من أسماء الله مدلولًا خاصًّا وتأثيرًا معينًا في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك-تجاوب مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه.
وهذه الطريقة مُشتقة من قلب القرآن؛ قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
والدعاء بها يتناول: دعاء المسألة. ودعاء الثناء. ودعاء التعبد.
وهو-سبحانه-يدعو عباده إلى أن يَعرفوه بأسمائه وصفاته، ويُثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظِّهم من عبوديتها
(1)
.
تاسعًا: ضرورة تجنُّب الباطل، وعدم مخالفة طر يق الحق في هذا الباب:
قد وقع الخلاف في هذا الباب، وكَثُر كلام أهل الباطل فيه؛ لما عرفوا من أهميته، فبالتالي ازداد تسلطهم عليه، وأرادوا أن يَحجبوا الناس عن معرفة الله تعالى؛ لأنهم بهذا سيوصدون الباب، وإذا أُوصد الباب لم يمكن الدخول! فَكَثُر الخلاف والافتراق، فكان لا بد مِنْ مَعرفة تَنبني على الكتاب والسنة، وكان لا بد من فهم للحقِّ حتى يُتَّبع، ولا بد من معرفة للباطل حتى يُجتنب.
(1)
«مدارج السالكين» (1/ 420).
فباب الأسماء والصفات من أكثر الأبواب خطورة ومَزلة؛ من جهة كونه محل خلافات شديدة ومعقدة دارت رحاها بين علماء السلف من جهة والفلاسفة وأهل الكلام والمُشبهة من جهة أخرى.
فمن واجب طالب العلم: أن يَتعمق في فهم الحق المَبني على الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {إِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، فالرد إلى الله يكون بالرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته يكون بالرد إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} ، فالله أعلم بنفسه، وهو الذي أخبر بأسمائه وصفاته في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربِّه وأصدقهم خبرًا، وقد قال الله في حقه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
فمن الواجب على المسلم: أن يدرس هذا الباب وأن يتعمق في فهمه وفق ما ورد في الكتاب والسنة، وأن يحذر من التيارات الفلسفية التي أضَرَّت أصحابها، وأدخلتهم في دوامة الانحراف والضياع، فحالت بين قلوبهم وبين معرفة ربهم، فأصبحت قلوبهم مظلمة جاهلة بحقائق الإيمان، فترتب على ذلك إعراضهم عن الله وعن ذكره ومحبته والثناء عليه بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، فانصرفت قُوى حُبِّهم وشوقهم وأنسهم إلى سواه.
ومعلوم: أنه لا يستقر للعبد قَدَمٌ في المعرفة-بل ولا في الإيمان-حتى يؤمن بأسماء وصفات الربِّ جل جلاله، ويَعرفها معرفة تُخرجه عن حدِّ الجهل بربه، فالإيمان بالأسماء والصفات وتَعَرُّفها هو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان وثمرة شجرة الإحسان؛ فمَن جَحدها فقد هدم أساس الإسلام والإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فضلًا عن أن يكون من أهل العرفان.
فينبغي للمؤمن أن يَبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، وأن
تكون معرفته سالمة من داء التعطيل وداء التمثيل اللذين ابتُلي بهما كثير من أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمعرفة الصحيحة هي المُتلقاة من الكتاب والسنة، وما رُوي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذه هي المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة إيمانه وقوة يقينه، وطمأنينة أحواله.
ومما يذكره العلماء في أهمية هذا العلم-الذي هو العلم بأسماء الله وصفاته-بالإضافة إلى كونه شطر باب (الإيمان بالله تعالى): أنه أشرف العلوم؛ فهو أشرف العلوم وأعظمها وأجلها وأكبرها؛ فإذا قلنا: إن شرف العلم تابع لشرف المعلوم، فالمعلوم هنا: هو ما يليق بأسماء الله تعالى من أسمائه وصفاته عز وجل، وما تَعَرَّف به إلى خلقه مما أخبر به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من أسمائه الحسنى وصفاته العُلى؛ فأنت أمام أشرف علم تكتسبُه؛ فلا شك أن العلم شرفٌ لصاحبه، وأشرف علم يكتسبُه العبد المؤمن هو معرفة الله عز وجل؛ لأن شرف العلم تابع لشرف المعلوم.
والمعلوم هنا: هو الله عز وجل وما يليق به من الأسماء والصفات والأفعال؛ فلذلك ينبغي على المؤمن مع حرصه على إكمال توحيده أن يحرص كذلك على نيل هذا الشرف العظيم، وهو أن يكتسب هذا العلم الصحيح بأسماء الله وصفاته، كذلك مما يدل على شرف هذا العلم: أنه أصل العلوم وأساسها، كما يقول العلماء:«مَنْ عرف الله عرف ما سواه، ومَن جهل ربَّه فهو لما سواه أجهل»
(1)
.
وتأمل هذا وخذه من قول الله عز وجل حيث قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس:«يا غلام-أو-يا غُلَيِّم: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تَجده تُجاهك»
(2)
، ونحن نعلم أنَّ حفظ الله
(1)
انظر «مفتاح دار السعادة» (1/ 86).
(2)
أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد في «مسنده» (2669) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال:«حسن صحيح» ، وصححه الألباني في «المشكاة» (5302).
عز وجل بمعرفته وعبادته، فإذا ما العبدُ حَفِظ الله عز وجل فإن الله تعالى تعَهَّد بحفظِه، وتعهد بصلاح أمره؛ فيجب أن نعلم أن هذا العلمَ هو أصلُ العلوم الدينية.
فنسيان العبد لربه عقوبته أن الله عز وجل يُنسيه أمرَ نفسِه وصلاحَ نفسه؛ يقول ابن القيم في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]: «تأمل هذه الآية: تجد تحتها معنى شريفًا عظيمًا، وهو أنَّ مَنْ نَسِي ربَّه أنساه ذاتَه ونفسَه؛ فلم يَعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نَسِيَ ما به صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومَعاده؛ فصار مُعَطَّلًا مُهملًا بمنزلة الأنعام السَّائبة، بل ربُّما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه؛ لبقائها هداها الذي أعطاها إيَّاه خالقُها»
(1)
، وهذا تجده-كذلك-في قوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، قال قتادة:«أضاع أكبر الضَّيعة؛ أضاع نفسه وعسى مع ذلك أن تجده حافظًا لما له، مُضَيِّعًا لدينه»
(2)
.
فإذا أنت علمت هذا الباب أصلحت أساس العلم عندك؛ فعلمك ومعرفتك بالله عز وجل ستنبني عليها جميعُ المعارف؛ لأن هذا أصلُ العلم وأصلُ الدِّين، وإن كنت مضيعًا لهذا الباب ضَيَّعت جميعَ أحوالك وجميع أمورك وجميع مصالحك في دنياك وفي أُخراك.
وتأمل مَنْ كان غافلًا عن الله عز وجل، وعن معرفته، وعن الإيمان بأسمائه وصفاته، ولو نظرنا إلى عينة من أحوال بعض الناس الذين غَفلوا عن الله عز وجل، وغفلت قلوبهم
(1)
«مفتاح دار السعادة» (1/ 86).
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في «محاسبة النفس» (ص 25)، وقال الإمام ابن كثير:«{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}، أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًّا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه» «تفسير ابن كثير» (5/ 154).
عن ذِكر الله عز وجل، وما يُصيبهم من القلق والضياع والحسرة والنَّدامة؛ فمثلًا صاحبُ المُخَدِّرَات-والعياذ بالله-يظن أن طريق سعادته عن طريق هذا الأمر الذي يُهلك صحته، ويهلك عقله، بل ويفسد عليه الضرورات الخمس المعلومة
(1)
؛ فيظل صاحب هذه المخدرات يتعاطى تلك الحقنة-مثلًا-حتى يصل إلى مرحلة هو يعلم-ويجزم-أنها قد تكون أقوى من أن يتحملها هذا الجسم؛ فتكون سببًا في هلاكه، فيُختم له-والعياذ بالله-بخاتمة سوء؛ فتجده قد مات في دورة المياه-دورة الخلاء-أصبحت نهايته في ذلك المكان، وقتل نفسه بيده، وهذا مصداق قول الله تعالى:{فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، فإذا ما اعتنى المسلم بأصل العلم وبأصل الدين-وهو العلم بأسماء الله وصفاته-فإن ذلك سيحرك كوامن الإيمان في النفس، وسيأتي تفصيل ذلك قريبًا؛ فإذا ما ضيع هذا، فإن ذلك يكون سببًا في ضياعه في دنياه وفي أُخراه، فكما يقول ابن القيم:«بل نَسِيَ ما به صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومَعاده»
(2)
، والعياذ بالله.
فخلاصة الأمر: ضرورة معرفة الحق بدليله، وضرورة معرفة الباطل بِشُبهه حتى يُمكن التصدي له.
وهذا الباب-بحمد الله-أُحكم إحكامًا عظيمًا، ومن آية واحدة تستطيع أن تَستخرج عِدَّة قواعد، كما سيأتيك الآن في بعض هذه القواعد؛ انظر قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، و {وَلِلَّهِ} هذه فيها قاعدة. {الْأَسْمَاءُ} فيها قاعدة. {الْحُسْنَى} فيها قاعدة. {فَادْعُوهُ بِهَا} فيها قاعدة. {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
(1)
وهي: (الدِّين والنَّفْس والعقل والعِرض والمال)، وقد جاء الإسلام بحفظها؛ قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «اتفقت الأمة-بل سائر الملل-على أنَّ الشريعة وُضِعَت للمحافظة على هذه الضروريات الخمس
…
، وعِلْمُها عند الأُمَّة كالضَّروري». «الموافقات» (1/ 31).
(2)
تَقَدَّم كلامه قريبًا.
أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] فيها قاعدة. في آية واحدة تستخرج جملة من القواعد وجملة من المعاني، ولو أنَّنا تدبرنا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم سيكون هذا-بإذن الله تعالى-سببًا في أن تلين هذه القلوب:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، ستلين هذه القلوب، وسيكون هذا سببًا في فلاحها وسعادتها.
بل ونحن نشاهد في عصرنا الحاضر كيف أن القلوب مَرضت حتى كثرت العيادات النفسيَّة؟! وتأسف كيف لأمة أن يكون هذا هو حالها، مع أنَّ نَبِيَّها صلى الله عليه وسلم أرشدَها إلى ما فيه دواء هذه النُّفوس، حيث قال:«ما أصابَ عبدًا قط هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا حَزَنٌ .. » ، هذه ثلاثة أحوال تصيب النفس: الهم والغم والحزن، ما الفرق بينها؟ الهم يأتي قبل المكروه؛ فأنت إذا توقعت مكروهًا أصابك الهم؛ تهتم له. والغم يأتي أثناء المكروه؛ أثناء المصيبة. والحزن يأتي بعد وقوع المصيبة. والإنسان دائمًا بين هَمٍّ؛ يعني يتوقعه مستقبلًا، أو أمر قد فاته قد حَزن عليه، أو في غَمٍّ أصابه في ذلك الوقت؛ فيقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو الطبيب لهذه الأمة؛ التي أعرضت هذه الأمة عن طِبِّه وعن دوائه-يقول لنا:«ما أصاب عبدًا قطٌّ هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا حَزن، ثم قال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك؛ أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سَمَّيْتَ به نفسَك .. » -انظر بماذا سأل؟ سأل الله بأسمائه تصديقًا وتطبيقًا لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]- «أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سَمَّيْتَ به نفسَك، أو أنزلته في كتابِك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في عِلم الغيب عندك: أن تَجعل القرآنَ العظيم ربيعَ قلبي
…
» إلى آخر الحديث
(1)
.
انظر كيف أعطى النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقًا لهذه الآية: ومصداقًا لهذه الآية:؛ فسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى. فهل الأمة تُطبق هذا في حالها؟!
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (3712)، وابن حبان في «صحيحه» (972) من حديث ابن مسعود ?، وصححه الألباني في «الصحيحة» (199).
فهذا الدواء! بدلًا عن هذه العيادات النفسية التي في غالب الأحيان تعطيك مسكنات وأدوية حسيَّة قد يكون وبالها عليك أكثر من نفعها لك؛ فلو أنك داومت على هذا الدواء الشافي-بإذن الله تعالى-لأصبحت في غُنية عما يُواجهه الكثير من الناس من حالة اضطراب وقلق نفسي وأمراض نفسية؛ بسببها تجد هذه العيادات وهذه المستشفيات وما أكثرَها، ووالله ما كان مجتمع المسلمين يعرف هذا إلا في حالات من الجنون ونحوه، لكن اليوم يتردد كثير حتى الصِّغار-حتى الصبية-يَترددون على هذه العيادات، مع أننا-بحمد الله تعالى-قد نكون نحن في غنية عن كثير مما يدعو إلى اللجوء إليها، لكننا هجرنا مثل هذا الخير؛ فحُرمنا الخير، ونالنا ما نالنا مِنْ بلاء في هذا الشيء.
فإذًا وجه الاستشهاد من قوله سبحانه وتعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} : أن الله يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويُثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، فالدعاء بها يتناول:
-دعاء المسألة
(1)
: كقولك: ربي ارزقني.
ودعاء الثناء
(2)
: كقولك: سبحان الله.
ودعاء التعبد
(3)
: كالركوع والسجود
(4)
.
المسألة الثانية: التعريف بالسلف الصالح وبأهل السنة والجماعة.
أولاً: التعريف بالسلف:
(1)
دعاء المسألة: ما كان فيه طلب جلب نفع أو دفع مضرة.
(2)
دعاء الثناء: ما كان فيه التمجيد والثناء على الله، وخلا من السؤال.
(3)
دعاء التعبد: الحركات التعبدية؛ كالصلاة، فهي الدعاء.
(4)
«مدارج السالكين» (1/ 420).
أ- معنى السلف لغة:
(السلف: جمع سالف على وزن حارس وحرس، وخادم وخدم، والسالف المتقدم، والسلف
…
الجماعة المتقدمون)
(1)
.
قال ابن فارس: (السين، واللام، والفاء) أصل يدل على تقدم وسبق، من ذلك السلف الذين مضوا، والقوم السلاف: المتقدمون)
(2)
.
ب- المقصود بالسلف الصالح:
(تعددت أقوال العلماء في تحديد ذلك من حيث المدى الزمني:
ا- فمن العلماء من قصر ذلك على، الصحابة -رضوان الله عليهم- فقط.
2 -
ومن العلماء من قال بأنهم هم: الصحابة والتابعون.
3 -
ومن العلماء من قال بأنهم هم: الصحابة والتابعون وتابعو التابعين
(3)
.
والقول الصحيح المشهور الذي عليه جمهور أهل السنة هو أن المقصود بالسلف الصالح هم القرون الثلاثة المفضلة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، حيث قال:"خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، متفق عليه
(4)
، فالسلف الصالح هم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين.
وكل من سلك سبيلهم وسار على نهجهم فهو سلفي نسبة إليهم.
والسلفية: هي المنهج الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة من بعده
(1)
لسان العرب 9/ 158
(2)
معجم مقاييس اللغة 3/ 95 مادة "سلف"
(3)
وسطية أهل السنة بين الفرق د. محمد باكريم ص 92 - 94، وكتاب لزوم الجماعة ص 276 - 277 تأليف جمال بادي.
(4)
أخرجه البخاري 5/ 199، 11/ 460، ومسلم 7/ 184، 185
والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه باق إلى أن يأتي أمر الله، لحديث:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"
(1)
.
فيصح الانتساب إلى هذا المنهج متى التزم الإنسان بشروطه وقواعده، فكل من حافظ على سلامة العقيدة طبقًا لفهم القرون الثلاثة المفضلة فهو ذو نهج سلفي.
ج- قواعد المنهج السلفي:
يمكن حصر ركائز وقواعد المنهج السلفي على سبيل الاختصار في النقاط التالية:
أولاً: ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها.
ثانيًا: التقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث،
وذلك يتم بـ:
أ- الاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه.
ب- الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه
(2)
.
ثالثاً: العمل بذلك والاستقامة عليه اعتقادًا وتفكيرًا وسلوكا وقولاً والبعد عن كل ما يخالفه ويناقضه.
رابعًا: الدعوة إلى ذلك باللسان والبنان.
فمن التزم هذه القواعد في الاعتقاد والعمل فهو على النهج السلفي بإذن الله.
د- الأدلة على وجوب اتباع السلف الصالح ولزوم منهجهم:
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 1523
(2)
بيان فضل السلف على الخلف لابن رجب ص 150 - 152، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/ 9 - 10
أولاً: من القرآن الكريم:
(1)
.
فرضي عز وجل عن السابقين الأولين رضاءً مطلقًا، ورضي عن التابعين لهم بإحسان.
(2)
.
فتوعد الله من اتبع غير سبيلهم بعذاب جهنم، ووعد في الآية السابقة متبعهم بالرضوان.
ثانيًا: الأدلة من السنة:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"
(3)
.
فهذه "الخيرية" التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بها لهذه القرون الثلاثة تدل على تفضيلهم وسبقهم وجلالة قدرهم وسعة علمهم بشرع الله، وشدة تمسكهم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تؤكده الأحاديث التالية.
2 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه ا لأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم
(1)
الآية 100 من سورة التوبة
(2)
الآية 115 من سورة النساء
(3)
أخرجه البخاري 5/ 199، 7/ 6، 11/ 460، وأخرجه مسلم 7/ 184، 185
وأصحابي"
(1)
حديث صحيح مشهور.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"
(2)
.
فحث صلى الله عليه وسلم بأن يتبعوا سنته وسنة من بعده من الخلفاء الراشدين، عند وقوع التفرق والاختلاف.
ثالثًا: من أقوال السلف الصالح وأتباعهم:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا"
(3)
.
وعنه رضي الله عنه قال: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"
(4)
.
وعنه رضي الله عنه قال: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا
(1)
أخرجه أبو داود 4596، 4597، والترمذي 2640، 2641، والإمام أحمد 2/ 332، 3/ 120، 145، 4/ 120، وابن ماجه 3991 - 3993
(2)
أخرجه الإمام أحمد 4/ 126، 127، وأبو داود 4607، والترمذي 2676، والدارمي 1/ 44، وغيرهم
(3)
الزهد لابن المبارك ص 281 ح 815
(4)
جامع بيان العلم وفضله 2/ 87
بالأثر"
(1)
.
وعنه رضي الله عنه قال: " اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم"
(2)
.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا"
(3)
.
وقال مجاهد: "العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"
(4)
.
وقال الأوزاعي: "العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم"، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله
(5)
.
وقال أيضًا: "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم"
(6)
.
وكان الحسن البصري في مجلس فذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفا، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فإنهم ورب الكعبة على الهدى المستقيم"
(7)
.
وقيل لأبي حنيفة رحمه الله: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (ح 115)
(2)
البدع والنهي عنها لابن وضاح ص 13
(3)
جامع بيان العلم 2/ 29
(4)
جامع بيان العلم 2/ 29
(5)
جامع بيان العلم 2/ 29
(6)
الشريعة للآجري ص 58
(7)
جامع بيان العلم 2/ 97
قال: "مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة، فإنها بدعة"
(1)
.
وقال الأوزاعي: "عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريقٍ مستقيم"
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحدة لا شريك له وطاعة رسوله، يدور على ذلك، ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقًا عامًّا إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصارًا مطلقًا عامًّا إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فإن الهدي يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجمعون على خطأ، بل كل ما قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليست مسلما إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم.
ولابد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول، قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة، فلابد أن يكون
(1)
صون المنطق للسيوطي 322
(2)
المدخل إلى السنن للبيهقي رقم 233
قوله- إن كان حقا- مأخوذًا عما جاء به الرسول، موجودًا فيمن قبله، وكل قول قيل في دين الإسلام، مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه، فإنه قول باطل"
(1)
.
ثانيا: التعريف بأهل السنة:
يستعمل العلماء تارة مسمى "أهل السنة والجماعة" بدلاً من عبارة "السلف".
وهذه العبارة وردت في استعمال العلماء لمعنيين هما:
أ- المعنى الأخص:
وهو بعينه مدلول لفظة السلف، فأهل السنة والجماعة هم الصحابة والتابعون وتابعوهم ومن سلك سبيلهم وسار على نهجهم من أئمة الهدى ومن اقتدى بهم من سائر الأمة أجمعين.
فيخرج من هذا المعنى كل طوائف المبتدعة وأهل الأهواء.
فالسنة هنا في مقابل البدعة.
والجماعة هنا في مقابل الفرقة.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}
(2)
قالت: "تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة"
(3)
.
وهذا المعنى هو المقصود في الأحاديث التي وردت في لزوم الجماعة. والنهي عن التفرق.
(1)
منهاج السنة 5/ 262 - 263
(2)
الآية 106 من سورة آل عمران
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 390
وهذا المعنى وإن كان أخص من جهة معناه لكنه هو الأكثر ورودًا واستعمالاً في كلام العلماء.
2 - المعنى الأعم:
والذي يدخل فيه بعض طوائف المبتدعة في حالة موافقة قولهم لقول السلف في مسألة بعينها في مقابلة طائفة بعينها.
وهذا المعنى أقل استعمالاً لتقيده بشروط معينة هي:
1 -
كونه في مسائل اعتقادية معينة.
2 -
كونه في مقابل طوائف معينة.
مثاله: استعمال هذا المسمى في مقابل الرافضة في مسألتي "الخلافة" و"الصحابة".
فيقال هنا: المنتسبون للإسلام قسمان:
1 -
أهل السنة.
2 -
ا لرافضة.
فيدخل هنا مع أهل السنة بعض طوائف المبتدعة كالأشاعرة وغيرهم، وقد أدخلوا هنا لموافقة قولهم لقول السلف في مسألتي " الخلافة" و" الصحابة" لما حصل فيهما النزاع مع الرافضة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلفظ (أهل السنة) يراد به:
1 -
من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة.
2 -
وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت
الصفات لله تعالى ويقول: (إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة) "
(1)
.
وقد عبر شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذين القسمين بتسمية:
أهل القسم الأول: بأهل "السنة العامة" وهو كل ما ليس برافضي
(2)
.
وأهل القسم الثاني: بأهل " السنة الخاصة" أي أهل الحديث.
المسألة الثالثة: عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات.
قرر المصنف عقيدة السلف وطريقتهم في باب (التوحيد والصفات) وهو التوحيد العلمي الخبري، فبين أنهم يثبتون لله تعالى كل ما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه سبحانه وتعالى.
وقد نقل عن غير واحد من أهل السنة هذا المعتقد ومن ذلك:
قول الإمام أبو حنيفة: " لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه"
(3)
قول عبد الرحمن بن قاسم العُتَقي من كبار فقهاء المالكية، صحب مالكاً رحمه الله:((لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن))
(4)
.
(1)
منهاج السنة 2/ 221، ط: جامعة الإمام محمد بن سعود
(2)
قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أنهم (أي الروافض) أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني، فإنما معناه: لست رافضيا .. " مجموع الفتاوى 3/ 356
(3)
ذكره في جلاء العينين (368)، وقال نقله القاضي أبو العلاء في كتاب الاعتقاد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وانظر شرح الطحاوية (ص 427).
(4)
انظر: رياض الجنة بتخريج أصول السنة ص (75) برقم (25)، والصفات أيضاً تؤخذ من السنة الصحيحة، ولعل قول عبد الرحمن بن القاسم جاء على الغالب، والله أعلم.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ((حرامٌ على العقول أن تُمثِّل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحدَّه، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكِّر، وعلى الضمائر أن تعمَّق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم)
(1)
.
وقال سحنون رحمه الله: ((من العلم بالله السكوت عن غير ما وصف به نفسه))
(2)
.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ((ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله بلا حد ولا غاية،
…
ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شُنِّعت))
(3)
.
وقال العلامة البربهاري رحمه الله: «واعلم- رحمك الله- أن الكلام في الرب محدث، وهو بدعة وضلالة، ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه في القرآن، وما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهو- جل ثناؤه- واحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وهو على عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، ولا يخلو من علمه مكان، ولا يقول في صفات الرب: كيف؟ ولم؟ إلا شاكٌّ في الله"
(4)
.
وقال الإمام الخطابي-رحمه الله: ((إن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس كائناً من كان علت درجته أو نزلت
(1)
انظر: ذم التأويل لابن قدامة ص (234 - 235) برقم (34).
(2)
انظر: التمهيد (7/ 146)، ذم التأويل لابن قدامة ص (236) برقم (38).
(3)
انظر: ذم التأويل لابن قدامة ص (234) برقم (33). وانظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد (ص: 116).
(4)
انظر: شرح السنة للبربهاري (ص: 40).
تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال))
(1)
.
وقال أيضاً: ((ومن علم هذا الباب -أعني الأسماء والصفات-ومما يدخل في أحكامه، ويتعلق به من شرائط، أنه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يستعمل فيها القياس، فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر وضع اللغة ومتعارض الكلام))
(2)
.
وقال الإمام السجزي-رحمه الله: ((وقد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفاً، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف
…
ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم)
(3)
.
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: ((
…
ما غاب عن العيون فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله تعالى إلا ما وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم)
(4)
.
وقال الإمام ابن قدامة المقدسي-رحمه الله: ((فإن صفات الله تعالى لا تُثبت ولا تُنفى إلا بالتوقيف))
(5)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وباب الأسماء والصفات يُتَّبَع فيها الألفاظ الشرعية، فلا نطلق إلا ما يرد به الأثر))
(6)
.
وقال أيضاً: ((ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه
(1)
نقلاً عن بيان تلبيس الجهمية (1/ 442).
(2)
شأن الدعاء ص (111).
(3)
الردّ على من أنكر الحرف والصوت ص (121).
(4)
التمهيد (7/ 145).
(5)
ذم التأويل لابن قدامة ص (121).
(6)
قاعدة في المحبة، ضمن جامع الرسائل (2/ 239).
التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، إما بخبره وإما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية، ولهذا يقولون لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
(2)
.
وقال رحمه الله: ((ومعلوم أن الوصف بالنفي كالوصف بالإثبات))
(3)
. أي يحتاج فيهما إلى دليل من الكتاب والسنة.
وقال أيضاً: ((فالأصل في هذا الباب
(4)
، أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله: نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه))
(5)
.
قال ابن عقيل-رحمه الله في الكفاية
(6)
: ((فصل عجيب يخفى على كثير من الأصوليين: وذلك أنه لا يجوز الإغراق في الإثبات مجاوزة لما أثبته الشرع ودلَّ عليه، كذلك لا يجوز الإغراق في النفي ولا الإقدام على نفي شيء عن الله إلا بدليل؛ لأن النفي أيضا لا يؤمن معه إزالة ما وجب له سبحانه، فالنفي يحتاج إلى دليل كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل، كما أن إثبات ما لا يجب له كفر، فنفي ما جُوِّزَ عليه خطأ وفسق، ومثال ذلك: أن يغرق هؤلاء الخطباء والقصاص في نفي النقائص، ثم يدرجون فيها ما وردت به السنن ويقولون ليس بفوق ولا تحت ولا يدرك ولا يعلم
(1)
الآية [180 - 182] من سورة الصافات.
(2)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 248).
(3)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 444).
(4)
وهو باب توحيد الأسماء والصفات.
(5)
التدمرية ص (6 - 7).
(6)
"كفاية المفتي" في عشر مجلدات، ويسمى أيضاً:"الفصول"، معظمه مفقود، وتوجد منه قطعتان مخطوطتان، إحداهما: بدار الكتب المصرية، والأخرى بالمكتبة الظاهرية بدمشق، انظر: مقدمة تحقيق كتاب "الواضح في أصول الفقه"(1/ 19).
ولا يعرف ولا ولا، فربما ساقوا في نفيهم نفي صفة وردت بها السنن))
(1)
.
وعلق عليه شيخ الإسلام رحمه الله: ((وهذا هو الصواب عند السلف والأئمة وجماهير المسلمين أنه لا يجوز النفي إلا بدليل كالإثبات، فكيف ينفى بلا دليل ما دل عليه دليل إما قطعي وإما ظاهري، بل كيف يقال: ما لم يقم دليل قطعي على ثبوته من الصفات يجب نفيه أو يجب القطع بنفيه، ثم يقال في القطعي إنه ليس بقطعي، فهذه المقدمات الفاسدة هي وسائل الجهل والتعطيل وتكذيب المرسلين))
(2)
.
وقال شيخ الإسلام أيضاً: ((فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته))
(3)
.
وقال أيضاً: ((بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه، كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته، ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات، فعليه أن لا ينفى ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته))
(4)
.
وقال أيضاً: ((وأصل دين المسلمين أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتبه وبما وصفته به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ويتبعون في ذلك أقوال رسله، ويجتنبون ما خالف أقوال الرسل، كما قال تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: عما يصفه الكفار المخالفون للرسل، {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} ، لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(5)
،
(1)
نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في بيان تلبيس الجهمية (1/ 79).
(2)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 79).
(3)
التدمرية ص (146).
(4)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 44).
(5)
الآية [180 - 182] من سورة الصافات.
فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل، فأتوا بإثبات مفصَّل ونفي مجمل، فمن نفى عنه ما أثبته لنفسه من الصفات كان معطلاً، ومن جعلها مثل صفات المخلوقين كان ممثلاً، والمعطِّل يعبد عدماً والممثل يعبد صنماً، وقد قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وهو ردٌّ على الممثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، وهو ردٌّ على المعطِّلة))
(1)
.
وقال أيضاً: ((فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني))
(2)
.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((إن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي))
(3)
.
وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي-رحمه الله: ((فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يُعتصم بها في الإثبات والنفي، فنُثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني))
(4)
.
وقال ابن الوزير اليمني-رحمه الله: ((وأيضا فأسماء الله وصفاته توقيفية شرعية وهو
(1)
الجواب الصحيح (4/ 405).
(2)
منهاج السنة النبوية (2/ 554).
(3)
بدائع الفوائد (1/ 147).
(4)
شرح العقيدة الطحاوية (261).
أعز من أن يطلق عليه عبيده الجهلة ما رأوا من ذلك))
(1)
.
وقال الملا علي القاري-رحمه الله: ((حيث إن أوصاف الله تعالى توقيفية))
(2)
.
هذه بعض النقول من بعض الأئمة فيها بيان أن توحيد الأسماء والصفات عموماً وباب الصفات منه، توقيفيٌ لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وهذا شاملٌ للنفي والإثبات، فكما أننا لا نثبت لله عز وجل شيئاً إلا إذا ورد في الكتاب والسنة، فكذلك لا ننفي عن الله عز وجل شيئاً إلا إذا ورد نفيه في الكتاب والسنة.
فكلام هؤلاء الأئمة صريح في أن هذا الباب توقيفي؛ لأنه من باب الغيب الذي لا يُعْلَم إلا بخبر من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، في كتابه عز وجل أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة، والكلام فيه دون توقيف من أعظم الافتراء على الله عز وجل، وهو من الأبواب التي لا يصلح معها النظر العقلي الصِّرف؛ لأن الله عز وجل قرر بأنه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وإذا كان كذلك، كان لابد من اعتماد على النصوص الشرعية.
وقوله: "وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ".
المسألة الرابعة: الأسس التي ارتكز عليها معتفد السلف في باب أسماء الله وصفاته:
ارتكز معتقد أهل السنة في باب أسماء الله وصفاته على ثلاثة أسس رئيسية، هي
(3)
:
الأساس الأول: الإيمان بما ورددت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة من
(1)
إيثار الحق على الخلق ص (308).
(2)
الردّ على القائلين بوحدة الوجود ص (113).
(3)
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 25
أسماء الله وصفاته إثباتًا ونفيًا.
الأساس الثاني: تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين.
الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الله بتلك الصفات.
وهذه الأسس الثلاثة هي التي تفضل وتميز عقيدة أهل السنة في هذا الباب عن عقيدة أهل التعطيل (من الفلاسفة وأهل الكلام) من جهة.
وعن عقيدة أهل التمثيل (من الكرامية والهشامية وغيرهم) من جهة أخرى.
فالأساس الأول: فيه تمييز لعقيدة أهل، السنة عن عقيدة المعطلة، فأهل السنة يجعلون الأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيها عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزونها، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.
(وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء وباب الصفات إطلاقًا، وأما في باب الأخبار فمن السلف من يمنع ذلك، ومنهم من يجيزه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقًّا يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عر وجل وجب رده)
(1)
.
ومجمل القول إن في الأمر ثلاثة أبواب:
ا-باب الأسماء: وهذا يجب الاعتماد فيه على الكتاب والسنة فقط.
2 -
باب الصفات: وهذا كذلك يجب الاعتماد فيه على الكتاب والسنة فقط.
3 -
باب الأخبار: وهذا لا يشترط فيه ورود النص الشرعي، ولكن يشترط أن
(1)
رسالة في العقل والروح 2/ 46 - 47 لابن تيمية (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)
يكون معنى اللفظ المستعمل ليس بسيء.
أما أهل التعطيل: فقد جعلوا "العقل" وحده هو أصل علمهم، فالشبه العقلية هي الأصول الكلية الأولية عندهم، وهي التي تثبت وتنفي، ثم يعرضون الكتاب والسنة على تلك الشبه العقلية، فإن وافقتها قبلت اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن عارضتها ردت تلك النصوص الشرعية وطرحت، وفي هذا يقول قائلهم: (كل ما ورد السمع به ينظر فإن كان العقل مجوزا له وجب التصديق به.
وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول.
وظواهر أحاديث التشبيه-يعني بها أحاديث الصفات-أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل)
(1)
.
فهذا النقل يبين لك مدى تقديم هؤلاء لشبههم العقلية وتعصبهم لها، وكيف أنهم يجعلونها هي الأصول والسمع معروضا عليها، فما أجازته عقولهم قبلوه، وما لم تجزه عقولهم شككوا فيه وانتقصوه، ومن ثم سعوا في تأويله وتحريفه، ومن يلقي نظرةً على كتب الأشاعرة مثلاً يجد أن القوم يقسمون أبواب العقيدة إلى إلهيات-ونبوَّات-وسمعيات، وهم في باب الإلهيات والنبوات لا يقبلون نصوص الكتاب والسنة، ولذلك لن تجد في هذين البابين إلا الشبه العقلية المركبة وفق القواعد المنطقية، ويا عجبا أنأخذ ديننا من كلام الله ورسوله، أم من ملاحدة اليونان وتلاميذهم!
(1)
الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي ص 132 - 133. وقال في كتابه المستصفى 2/ 137 - 138: "كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال، إذ الأدلة العقلية يستعجل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل، فإما أن لا يكون متواترًا فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواترًا فيكون مؤولاً ولا يكون متعارضًا"
وأما باب السمعيات-أي البعث والحشر والجنة والنار والوعد والوعيد-فهم يقبلون فيه النصوص الشرعية، وبالتالي سموا هذا الباب بالسمعيات. في مقابل باب الإلهيات والنبوات، إذ إنهم يعتمدون فيهما على العقليات، وهؤلاء شابهوا حال من قال الله تعالى فيهم:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
(1)
.
وأما الأساس الثاني: وهو تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ففيه تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المعطلة من جهة، وعن عقيدة المشبهة من جهة أخرى.
فأهل السنة: يعتقدون أن ما اتصف الله به من الصفات لا يماثله فيها أحد من خلقه، فالله عز وجل قد أخبرنا بذلك بنص كتابه العزيز حيث قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، فإذا ورد النص بصفة من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة فيجبب الإيمان به والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو مما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المصدق بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يكون معظمًا لله جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه، لتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه، أخذا بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11
(2)
.
قال الإمام إسحاق بن إبراهيم بن راهويه-رحمه الله: ((إنما يكون التشبيه إذا قال يد
(1)
الآية 85 من سورة البقرة
(2)
انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 21 - 22
كيد أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع، فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً، وهو كما قال الله تعالى في كتابه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11])
(1)
.
فحدَّد الإمام إسحاق بن راهويه المعنى الدقيق للتنزيه، واستدلّ على ذلك بالآية: حيث إنها جمعت بين التنزيه والإثبات، فقدمت التنزيه، ثم أثبت الله لنفسه السمع والبصر على قاعدة التنزيه، ليفيد أن ما وصف الله به نفسه لا يكون تشبيهاً ولا تمثيلاً له بشيء من مخلوقاته.
أما أهل التعطيل: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات التي لا وجود لها إلا في أفهامهم الفاسدة، فعقيدة هؤلاء المعطلة جمعت بين التمثيل والتعطيل، وهذا الشر إنما جاء من تنجس قلوبهم وتدنسها بأقذار التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه كاستوائه على عرشه ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال، فإن أول ما يخطر في أذهانهم أن هذه الصفة تشبه صفات الخلق، فيتلطخ القلب بأقذار التشبيه لم يقدر الله حق قدره ولم يعظم الله حق عظمته حيث سبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيكون أولاً نجس القلب بأقذار التشبيه ثم دعاه ذلك إلى أن ينفي صفة الخالق جلَّ وعلا عنه بادعاء أنها تشبه صفات المخلوق، فيكون فيها أولاً مشبهًا، وثانيًا معطلاً ضالاًّ ابتداءً وانتهاءً متهجمًا على رب العالمين ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق
(2)
.
(1)
سنن الترمذي (3/ 50).
(2)
انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 19 - 20
وأما عقيدة أهل التمثيل: فهي تقوم على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة، فشبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا: له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وأمَّا العارفون به، المصدقون لرسله، المقرون بكماله فهم يثبتون لله جميع صفاته، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سيئتين، وهدًى بين ضلالتين.
وأما الأساس الثالث: ففيه تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المشبهة، فأهل السنة يفوضون علم كيفية اتصاف الباري عز وجل بتلك الصفات إلى الله عز وجل، فلا علم للبشر بكيفية ذات الله-تبارك وتعالى (ولا تفسير كنه شيء من صفات ربنا تعالى كأن يقال استوى على هيئة كذا، وكل من تجرأ على شيء من ذلك فقوله من الغلو في الدين والافتراء على الله عز وجل، واعتقاد ما لم يأذن به الله ولا يليق بجلاله وعظمته ولم ينطق به كتاب ولا سنة، ولو كان ذلك مطلوبًا من العباد في الشريعة لبينه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يدع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بينه ووضحه، والعباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما علمهم كما قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}
(1)
فليؤمن العبد بما علمه الله تعالى وليقف معه، وليمسك عما جهله وليكل معناه إلى عالمه)
(2)
.
وأما المشبهة فقد تعمقوا في شأن كيفيات صفات الله وتقولوا على الله بغير علم، فقالوا: له بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا
(1)
الآية 255 من سورة البقرة
(2)
انظر: معارج القبول 1/ 326 - 327
المسألة الخامسة: أهمية التمسك بنصوص الكتاب والسنة.
تقدم في بيان الأساس الأول من الأسس الثلاثة التي قام عليها معتقد السلف في باب الأسماء والصفات وهو: الإيمان بما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته إثباتا ونفيا.
وهذا الأساس لابد فيه من مراعاة ما يلي:
أولاً: إن طلب العلم في المطالب الإلهية إنما يكون عن طريق الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة.
فالذي يجب اعتقاده هو أن معرفة هذا النوع من أنواع التوحيد تتوقف على دراسة الكتاب والسنة، لأن هذا التوحيد يتطلب، أسماء وصفات معينة، وهذه لا سبيل إلى معرفتها والحصول عليها إلا من طريق الكتاب والسنة (فنحن نؤمن بالله تعالى وبما أخبر به عن نفسه سبحانه على ألسنة رسله من أسمائه الحسنى وصفاته العلى بلا تكييف ولا تمثيل، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه مما لا يليق بجلاله وعظمته، فإنه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأبين دليلاً من غيره)
(1)
، ولذلك كان معتقد أهل السنة هو الإيمان بما سمى ووصف الله به نفسه إثباتًا ونفيًا، لأنه لا يسمي الله أعلم بالله من الله، قال تعالى:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه}
(2)
، وقال تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}
(3)
، وقال تعالى:{وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}
(4)
، وقال تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}
(5)
، فالله عز وجل، هو الذي سمى ووصف نفسه بما جاء في نص كلامه الذي هو القرآن.
ولا يسمي ويصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله في
(1)
معارج القبول 1/ 330 - 331
(2)
الآية 140 من سورة البقرة
(3)
الآية 122 من سورة النساء
(4)
الآية 14 من سورة فاطر
(5)
الآية 59 من سورة الفرقان
حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
(1)
، ولقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصلاً على وجه ثلجت به الصدور واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، وفصلت ذلك أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررته أكمل تقرير في أبلغ لفظ، ولذلك كان لزامًا على كل مسلم أن يؤمن بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان.
ثانيًا: تقديم الشرع على العقل، فالأصل في الدين الاتباع والمعقول تبع. فمعتقد أهل السنة في هذا الباب وفي غيره من أبواب العقائد والأحكام أن العقل المجرد ليس له إثبات شيء من العقائد والأحكام، وإنما المرجع في ذلك إلى القرآن والسنة.
فالعقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات فوجب الوقوف في ذلك على النص، لأن العقل يقصر عن إدراك حقيقة المغيبات حتى وإن كانت تلك المغيبات أقرب شيء إليه، فهو قاصر عن أن يحيط علمًا بحقيقة روحه التي بين جنبيه لما أخفى الله أمرها عنه، قال تعالى:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}
(2)
، فإذا كان الإنسان يجهل أمر روحه فكيف يحيط علمًا بذات الله وما يصلح وما لا يصلح لذاته من الأسماء والصفات، والله قد أخفى عن الخلق كيفية ذاته؟!.
(ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله، وما تعبد الناس باعتقاده من ذكر عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والحوض، والميزان، والصراط، وصفة الجنة وصفة النار، وجدناها أمورًا لا ندرك حقائقها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها، فإذا سمعنا شيئا من أمور الذين، وعقلناه، وفهمناه، فلله الحمد في
(1)
الآيتان 3، 4 من سورة النجم
(2)
الآية 85 من سورة الإسراء
ذلك، والشكر ومنه التوفيق، وما لم يمكنَّا إدراكه ولم تبلغه عقولنا آمنا به، وصدقناه، واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته، واكتفينا في ذلك بعلمه، ومشيئته، قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء}
(1)
(2)
.
(واعلم أن فصل ما بيننا وبين المعطلة هو "مسألة العقل"، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعًا للمعقول.
وأما أهل السنة فقالوا: الأصل في الدين الإتباع، والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء)
(3)
.
فالتقرير بأن النقل مقدم على العقل لا ينبغي أن يفهم منه أن أهل السنة ينكرون العقل والتوصل به إلى المعارف والتفكير به في خلق السموات والأرض، وفي الآيات الكونية الكثيرة، فأهل السنة لا ينكرون استعمال العقل، ولكتهم توسطوا في شأن "العقل" بين طائفتين ضلتا في هذا الباب، هما:
أهل الكلام: الذين يجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له، والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن.
فهؤلاء جعلوا عقولهم هي التي تثبت وتنفي والسمع معروضا عليها، فإن وافقها قيل اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن عارضها رُدَّ وطُرِحَ، وهذا من أعظم أسباب الضلال التي دخلت على هذه الأمة.
(1)
الآية 255 من سورة البقرة
(2)
الحجة في بيان المحجة 1/ 321 بتصرف
(3)
المصدر السابق 1/ 320
وأهل التصوف: الذين يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية، والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يكذب صريح العقل.
ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها.
وكلا الطرفين مذموم.
وأما أهل السنة: فيرون أن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاًّ بذلك.
فالعقل غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين.
فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس أو النار.
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها.
وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية.
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه
(1)
.
فائدة: "مسكن العقل":
سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية: أين مسكن العقل في الإنسان؟
فأجاب بقوله: "العقل قائمٌ بنفس الإنسان التي تعقل، وأمَّا البدن فهو متعلق
(1)
مجموع الفتاوى 3/ 338 - 339 بتصرف
بقلبه، قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}
(1)
.
وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم؟
قال: "بلسانٍ سؤولٍ وقلبٍ عقولٍ"، لكن لفظ القلب قد يُرَادُ به:
ا-المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" متفق عليه
(2)
.
2 -
وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة، واللوزة والجوزة، ونحو ذلك، ومنه، سمي القُليب قُليبًا، لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضًا، ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه:(إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ).
والتحقيق "أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن:
مبدأ الفكر والنظر في الدماغ.
ومبدأ الإرادة في القلب.
والعقل يراد به العلم، ويراد به العمل، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد، فلابد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتديء ذلك من الدماغ وآثاره صاعدة
(1)
الآية 46 من سورة الحج
(2)
أخرجه البخاري في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 126 ح 52، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 5/ 50 - 51
إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء.
وكلا القولين له وجه صحيح"
(1)
.
ثالثًا: الإيمان بما دلت عليه نصوص الأسماء والصفات من المعاني والأحكام.
فالسلف يؤمنون بأسماء الله وصفاته، وبما دلت عليه من المعاني والأحكام، أما كيفيتها فيفوضون علمها إلى الله.
وهم برآء مما اتهمهم به المعطلة الذين زعموا أن السلف يؤمنون، بألفاظ نصوص الأسماء والصفات، ويفوضون معانيها.
وهذا الزعم جهل على السلف، فإنهم كانوا أعظم الناس فهما وتدبرًا لآيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة فيما يتعلق بمعرفة الله تعالى، فكانوا يدرون معاني ما يقرأون ويحملون من العلم، ولكنهم لم يكونوا يتكلفون الفهم للغيب المحجوب، فلم يكونوا يخوضون في كيفيات الصفات شأن أهل الكلام والبدع، فإنهم حين خاضوا في ذات الله وصفاته وقعوا في التأويل والتعطيل، وإنما ألجأهم إلى ذلك، الضيق الذي دخل عليهم بسبب التشبيه، فأرادوا الفرار منه فوقعوا في التعطيل،، ولم يقع تعطيل إلا بتشبيه، ولو أنهم نزهوا الله تعالى ابتداء عن مشابهة الخلق، وأثبتوا الصفة مع نفي المماثلة لسلموا ونجوا، ولوافقوا اعتقاد السلف ولبان لهم أن السلف لم يكونوا حملة أسفار لا يدرون ما فيها.
ومن تدبر كلام أئمة السلف المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرًا، وأعلم الناس في هذا الباب، وأن الذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، ولذلك صار أولئك الذين خالفوا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب،
(1)
رسائل في العقل والروح 2/ 48 - 49 (مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)
(2)
الآية 176 من سورة البقرة
(3)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 301
(4)
مجموع الفتاوى 12/ 113 - 114 بتصرف
وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
(2)
.
ومن له اطلاع على أقوال الأسف المدونة في كتب العقيدة والتفسير والحديث عند الحديث عن نصوص الصفات يعلم أن السلف تكلموا في معاني الصفات وبينوها ولم يسكتوا عنها، وهذه الأقوال هي أكبر شاهد على فهم السلف لمعاني الصفات وإيمانهم بها.
رابعًا: رفض التحريف والتعطيل لنصوص الأسماء والصفات.
فالسلف يعتقدون أن الواجب في نصوص القرآن والسنة بما في ذلك نصوص الأسماء والصفات هو إجراؤها على ظاهرها، وذلك بأن تُفهتم وفق ما يقتضيه اللسان العربي، وأن لا يتعرض لها بتحريف أو تعطيل كما فعل المعطلة، الذين تلاعبوا بظواهر النصوص! لمجرد أنها خالفت باطلهم ومناهجهم الفاسدة
(3)
.
فنصوص الصفات ألفاظ شرعية يجب أن تحفظ لها حرمتها، وذلك بأن نفهمها وفق مراد الشارع، فلا نتلاعب بمعانيها لنصرفها عن مراد الشارع.
فمن الأصول الكلية عند السلف أن الألفاظ الشرعية لها حرمتها، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد الله ورسوله بها ليثبت ما أثبته الله ورسوله من المعاني، وينفى ما نفاه الله ورسوله من المعاني
(4)
.
وبحمد الله وفضله نجد أن نصوص الصفات الواردة في القرآن والسنة هي من الوضوح والكثرة بمكان، بحيث يستحيل تأويلها والتلاعب بنصوصها، فلقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصَّلاً على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء،
(2)
الآية 176 من سورة البقرة
(3)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 301
(4)
مجموع الفتاوى 12/ 113 - 114 بتصرف
وحصل به العلم اليقيني، ورفع الشك والريب، فثلجت به الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، فلقد فصلت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الأسماء والصفات والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ.
فالمطلع على نصوص القرآن والسنة الخبير بهما، لا يزيده تحريف المعطلة لتلك النصوص إلا احتقارًا لهم، ويقينًا بفساد معتقدهم وبطلانه.
ولا تروج تحريفات المعطلة إلا على الجاهل بمعرفة تلك النصوص قليل البضاعة فيها، فهذا الصنف! أتي من جهة جهله لا من قلة النصوص الواردة في هذا الباب، والله أعلم.
قال المقريزي رحمه الله-في كلامه على افتراق الناس في نصوص الصفات: (فصار للمسلمين في ذلك خمسة أقوال:
أحدها: اعتقاد ما يفهم مثله من اللغة.
وثانيها: السكوت عنها مطلقا،
وثالثها: السكوت عنها بعد نفي إرادة الظاهر،
ورابعها: حملها على المجاز،
وخامسها: حملها على الاشتراك)
(1)
.
وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم الواسطي الشافعي
(2)
: (وكنت متحيراً في الأقوال
(1)
الخطط المقريزية 3/ 319.
(2)
أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عماد الدين الواسطي، البغدادي، فقيه كان شافعا، قدم دمشق فتتلمذ على ابن تيمية وانتقل إلى المذهب الحنبلي ورد على المبتدعة الذين خالطهم. من كتبه اختصار دلائل النبوة»، و «شرح منازل السائرين وغيرها. الأعلام 1/ 89، الدرر الكامنة 1/ 11، الشذرات 9/ 29.
المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك: من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها، أو الوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل
(1)
.
فمن الواجب على كل مُكَلَّف أن يُجري نصوص القرآن والسُّنَّة على ظاهرها دون تحريف، لا سيما نصوص الصفات، حيث لا مجال للرأي فيها.
المسألة السادسة: معنى قوله: "مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ".
هذه العبارة فيها تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المشبهة.
شرح الفقرة الأولى: قوله: "مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ"
ويمكن توضيح ذلك في النقاط الآتية:
أولًا: تعريفه:
"التكييف"هو: جعل الشيء على حقيقة معينة من غير أن يقيدها بمماثل
(2)
.
ثانيًا: مثال ذلك:
قول الهشامية عن الله: "طوله كعرضه "
(3)
.
أو قولهم: " طوله طول سبعة أشبار بشبر نفسه".
ثالثًا: الفرق بينه وبين التمثيل.
وعلى هذا التعريف يكون هناك فرق بين التكييف والتمثيل.
فالتكييف: ليس فيه تقيد بمماثل.
(1)
النصيحة في صفات الرب جل وعلا ص 9.
(2)
القواعد المثلى ص 27
(3)
مقالات الإسلاميين ص 31
وأما التمثيل فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين.
ولعل الصواب أن التكييف أعم من التمثيل.
فكل تمثيل تكييف، لأن من مثل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كيف تلك الصفة أي جعل لها حقيقة معينة مشاهدة.
وليس كل تكييف تمثيلاً، لأن من التكييف ما ليس فيه تمثيل بصفات المخلوقين، كقولهم: طوله كعرضه.
رابعًا: معنى قول أهل السنة: "من غير تكييف"
أي من غير كيف يعقله البشر، وليس المراد من قولهم:"من غير تكييف" أنهم ينفون الكيف مطلقًا، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف، إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه
(1)
.
فمن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل، لأنه تعالى أخبرنا عن الصفات ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قفوًا لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.
وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" قاعدة ساروا عليها في هذا الباب.
شرح الفقرة الثانية: قوله: "وَلَا تَمْثِيلٍ":
ويمكن توضيح ذلك في النقاط الآتية:
أولًا: تعريفه.
المثيل لغة: هو الند والنظير.
(1)
شرح العقيدة الواسطية ص 21
والتمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق، أنها مثل صفات المخلوقين.
ثانيًا: مثال ذلك:
قول الممثل: له يد كيدي وسمع كسمعي، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
ثالثًا: الفرق بين التمثيل والتشبيه.
التمثيل والتشبيه هنا بمعنى واحد، وإن كان هناك فرق بينهما في أصل اللغة
(1)
.
فالمماثلة: هي مساواة الشيء لغيره من كل وجه.
والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره في أكثر الوجوه.
ولكن التعبير هنا بنفي "التمثيل" أولى لموافقة لفظ القرآن.
في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11 [.
وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} ] النحل الآية: 74 [.
ويخلط كثير من الناس في هذا المقام بين مفهوم (التمثيل) ومفهوم (التشبيه).
فالأول هو الذي نفته النصوص الشرعية، كقوله تعالى: (لَيس كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
بخلاف لفظ (التشبيه) فإنه لفظ مجمل، قد يراد به التمثيل، وقد يراد به ما ليس تمثيلاً، وقد فرّق-تعالى-بينهما في قوله:(وَقَالَ الَذِينَ لا يَعلَمُونَ لَولا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَاًتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَذِينَ مِنْ قَبلِهِم مِّثلَ قَولِهِم تَشَابَهَت قُلُوبُهُمْ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فوصفَ القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل، فإن القلوب ـ وإن اشتركت في هذا القول ـ فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي: ((الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من
(1)
القواعد المثلى ص 27
الناس))، فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة بل بعضها حرام وبعضها حلال"
(1)
فالتشابه، إذا أطلق، يتضمن الموافقة من بعض الوجوه دون بعض، أما المماثلة فهي الموافقة من جميع الوجوه، بحيث يستوي الشيء ومثله في كل جانب ويجوز ويمتنع على أحدهما من الخصائص واللوازم.
فالمحذور شرعاً هو التمثيل، أما (التشبيه (فإن أريد به التمثيل فهو ممتنع، وإن أريد به الموافقة من بعض الوجوه دون بعض فليس في ذلك محذور، وذلك أن جماهير العقلاء يعلمون أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفس ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله-سبحانه وتعالى-إذ هو-سبحانه-ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله"
(2)
.، وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع. وإذا قيل هذا حي عليم قدير، وهذا حي عليم قدير، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير، لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلاً لهذا المسمى من كل وجه، بل هنا ثلاثة أشياء:
أحدها: القدر المشترك الذي تشابها فيه، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما، ولا يوجد كليّاً عامّاً إلا في علم العالم
(3)
(1)
الجواب الصحيح، جـ 3 ص 446.
(2)
درء التعارض، جـ 5 ص 227.
(3)
أي في الذهن وليس في الخارج
الثاني: ما يختص به هذا، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة.
الثالث: ما يختص به ذاك، كما يختص به العبد، من الحياة والعلم والقدرة، فما اختص به الرب-عز وجل-لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب، ولا يستحق شيئاً من صفات الكمال التي يختص بها الرب-عز وجل. وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان، فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه لا محذور فيه".
(1)
رابعًا: معنى التمثيل، الذي نفته النصوص، والفرق بينه وبين التشبيه
(2)
.
• أن الذي ورد ذمه في الكتاب والسنة هو التمثيل وكذلك ما يوافق معناه، كالكفء، والند، والسمي، كما تقدم في النصوص السالفة.
• أن مثل الشيء في لغة العرب: هو نظيره ومكافئه الذي يقوم مقامه، ويسد مسده.
قال ابن فارس: (مثل) الميم والثاء واللام أصل صحيح يدل على: مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا: أي نظيره، والممثل والمثال في معنى واحد)
(3)
.
قال الشاعر:
ليس كمثل الفتي زهير
…
خلق يدانيه في الفضائل
وقال غيره:
(1)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 3/ 440.
(2)
المصدر: قلب أدلة المخالفين في باب الصفات: ص: 648 - 653.
(3)
معجم مقاييس اللغة (5/ 296)، وانظر: القائد إلى تصحيح العقائد للمعلمي (114).
سعد بن زيد إذا أبصرت جمعهم
…
ما إن مثلهم في الناس من أحد
(1)
قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله) [الإسراء: 88 [.
وقال: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد)] الفجر: 6 - 8 [.
أي في القوة والأجسام، وذلك لشدة أبدانهم وقواهم، والله أعلم"
(2)
.
فالتمثيل إذا أطلق يراد به: مشابهة الشيء للشيء ومشاركته له في جميع الصفات الذاتية التي يقوم بها أحدهما مقام الآخر، فلا يكون بمجرد الموافقة في بعض الصفات
(3)
.
خامسًا: ضابط التمثيل المنفي عن الله:
ضابط التمثيل المنفي عن الله: ما تضمن أو استلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين الله تعالى، في ذاته، أو أسمائه، أو صفاته، أو أفعاله، وذلك فيما يجب له تعالى، أو يجوز له، أو يمتنع عليه.
وكذلك ما تضمن أو استلزم ثبوت شيء من خصائص الله تعالى في ذاته، أو أسمائه، أو صفاته، أو أفعاله لشيء من المخلوقات.
وذلك أن كل ما كان مختصاً بالمخلوق فلا بد أن يكون فيه نقص، والله تعالي
(1)
انظر: تفسير الثعالبي (8/ 306)، تفسير البحر المحيط (7/ 488 - 489)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (6/ 113)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 114)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 533)، الصواعق المرسلة (4/ 1368)، فتح القدير للشوكاني (4/ 582)، روح المعاني الألوسي (25/ 18)، القائد للمعلمي (115).
(2)
انظر: تفسير الطبري (24/ 406)، تفسير ابن كثير (8/ 395)، وانظر: القائد للمعلمي
(115 - 116).
(3)
بيان تلبيس الجهمية-ط: القاسم (1/ 477)، وفي طبعة المجمع (3/ 135).
منزه تنزيهاً مطلقاً عن كل نقص، وواجب له كل كمال، ومنزه في كماله عن كل مثال، فامتنع أن يضاف ذلك إلى الله تعالي"
(1)
.
وهذا الحد هو ما أراده أئمة السنة، ممن بين معنى التشبيه بأنه قول المشبه: يد الله كيدي، أو مثل يدي، وسمع الله كسمعي، أو مثل سمعي، كما بين ذلك الإمام إسحاق بن راهويه
(2)
، وأحمد بن حنبل
(3)
، وعثمان بن سعيد الدارمي
(4)
، رحمهم الله، وغيرهم، مما يبين أن المحذور إنما هو في إضافة شيء من خصائص صفة المخلوق إلى صفة الخالق، إذ هذا ما يفه من قولهم عن المشبهة:(يد الله كيدي)، كما يبين أن مفهوم التشبيه عندهم لا يتحقق بمجرد إضافة الصفة الله، بل غالب أقوالهم في نفي التشبيه تتضمن الدلالة على أن إثبات الصفة الله لا يعتبر تشبيها.
وبهذا يتبين أن المحذور: إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر، وقولنا: إثبات الخصائص إنما يراد: إثبات مثل تلك الخاصة، وإلا فإثبات عينها ممتنع مطلقا
(5)
، وسيأتي البيان بأن التمثيل منفي بين الخالق والمخلوق جملة وتفصيلا، سواء كان تمثيلا من كل وجه، أو تمثيلا من وجه دون وجه، لأن لفظ التمثيل قائم على اشتراك المتماثلين في الحقيقة والكيفية.
(1)
انظر: تحريم النظر في كتب الكلام لابن قدامة (79)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 588)، درء تعارض العقل والنقل (4/ 146)(5/ 84، 327)، منهاج السنة النبوية (2/ 529، 595)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (6/ 35 - 36)، التدمرية (39 - 40، 124).
(2)
انظر: جامع الترمذي (3/ 50)، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (153)، فتح الباري (13/ 407).
(3)
انظر: إبطال التأويلات لأبي يعلى (/ 1/ 43 - 45)، المختار في أصول السنة لابن البنا (91)، درء تعارض العقل والنقل (2/ 32)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 476 - 477).
(4)
انظر: نقض الدارمي على المريسي (1/ 435 - 436).
(5)
منهاج السنة النبوية (2/ 596).
- هذا ما يتعلق بمعنى التمثيل المنفي عن الله تعالي.
سادسًا: معنى التشبيه:
وأما لفظ التشبيه فيشار فيه إلى ما يلي:
أولا: أن لفظ (التشبيه) لم يرد نفيه وذمه في الكتاب والسنة، وإنما الوارد نفي التمثيل.
ثانيا: أن لفظ (التشابه) ليس مطابقًا في المعنى للفظ (التماثل) الذي ورد نفيه.
قال أبو هلال العسكري في فروقه اللغوية: "إن الشيء يشبه بالشيء من وجه واحد لا يكون مثله في الحقيقة إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته"
(1)
.
ويقال في اللغة: إن هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا: إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفة له في الحقيقة
(2)
، فالتشبيه في اللغة .. قد يقال بدون التماثل في شيء من الحقيقة، كما يقال للصورة المرسومة في الحائط: إنها تشبه الحيوان، ويقال: هذا يشبه هذا في كذا وكذا، وإن كانت الحقيقتان مختلفتين»
(3)
.
ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد قال في كتابه عن نعيم أهل الجنة: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها)[البقرة: 20].
قال قتادة وعكرمة
(4)
: "يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب"
(5)
، وهذا أحد
(1)
الفروق للعسكري (176)، وانظر: نقد الشعر لقدامة بن جعفر (124)، سر الفصاحة للخفاجي (246).
(2)
انظر: الجواب الصحيح (3/ 445).
(3)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 477).
(4)
عكرمة بن عبد الله، أبو عبد الله البربري، المدني، الحبر، العالم، المفسر، الثقة، مولي ابن عباس، روى عن مولاه، وعائشة، وأبي هريرة، مات سنة (104 هـ). ينظر: طبقات المفسرين للداوودي (1/ 286)، وطبقات المفسرين للأدنه وي (12).
(5)
تفسير الطبري (1/ 391)، تفسير ابن كثير (1/ 205).
التفسيرين في الآية، فقد وصفت الآية ثمر الجنة بمشابهته لثمر الدنيا، وهي مشابهة واشتراك من بعض الوجوه، مع القطع بنفي المماثلة بينهما، بل بينهما تباين عظيم في الكيفية والحقيقة، فالمشابهة ها هنا ثابتة، والمماثلة منفية، مما يدل على ثبوت الفرق بين المشابهة والمماثلة
(1)
.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أقوال الناس في لفظي (التشبيه) و (التمثيل)، وهل هما بمعنى واحد، فقال:
وقد تنازع الناس: هل لفظ (الشبه) و (المثل) بمعنى واحد أو معنيين، على قولين:
أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ (المثل) مطلقا ومقيداً يدل عليه لفظ (الشبه)، وهذا قول طائفة من النظار.
والثاني: أن معناهما مختلف عند الإطلاق لغة، وشرعا، وعقلاً، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس».
ثم بين رحمه الله مبنى هذا الاختلاف في الإطلاق فقال:
"وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه؟ وللناس في ذلك قولان:
فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد.
ومن قال إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه فرق بينهما عند الإطلاق، وهذا قول جمهور الناس.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/ 347)(6/ 113)(13/ 279)، درء تعارض العقل والنقل (6/ 123 - 125).
فإن العقل يعلم أن الأعراض -مثل الألوان-تشتبه في كونها ألواناً، مع أن السواد ليس مثل البياض، وأيضاً فمعلوم في ظاللغة أنه يقال:(هذا يشبه هذا)، و (فيه شبه من هذا) إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفة له في الحقيقة»
(1)
.
وهذا التفريق بين معنى التشبيه والتمثيل قد أقر به جمع من المتكلمين، فقد قرر ابن الهمام الحنفي من الماتريدية أن «المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضيه»
(2)
، وبين أبو المعين النسفي أن الشخصين لو اشتركا في الفقه أو الطب أو غير ذلك من العلوم والصناعات، ولم يكن بينهما في ذلك النوع مساواة ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده، فإنه لا يستجيز أحد من أرباب اللسان أن يقول: فلان مثل فلان في علم كذا، أو صنعة كذا
(3)
.
فتحصل بذلك أن لفظ التشابه والتماثل غير متطابقين في المعنى، بل لفظ التشابه أعم من لفظ التماثل، إذ التشابه يطلق على مطلق مشاركة الشيء للشيء ولو من بعض الوجوه، وأما التماثل فهو مشاركة الشيء للشيء من كل الوجوه، وإن كان قد يطلق لفظ التشبيه ويراد به التمثيل، وكذا العكس، وذلك يعلم بسياق الكلام وقرائنه.
ثالثًا: ومع ذلك يقال: إن مسمى (التشبيه) قد ورد نفيه في كلام جمع من السلف، مثل: عبد الرحمن بن مهدي
(4)
، ويزيد بن هارون
(5)
، وأحمد بن حنبل،
(1)
الجواب الصحيح (3/ 444 - 445).
(2)
المسامرة شرح المسايرة (308)، وانظر: تبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي (1/ 150 - 151).
(3)
انظر: تبصرة الأدلة (1/ 150).
(4)
هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، أبو سعيد العنبري البصري، من كبار حفاظ الحديث، وأئمة السنة، ولد بالبصرة سنة 130 هـ، توفي سنة 198 هـ انظر: طبقات ابن سعد (7/ 297)، تاريخ بغداد (10/ 240)، سير أعلام النبلاء (9/ 192).
(5)
هو يزيد بن هارون بن وادي، ويقال: زاذان بن ثابت السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي، ولد سنة (118 هـ)، وكان أحد الاعلام الحفاظ المشاهير الثقات العلماء بالسنة، وكان عابداً عرف بحسن الصلاة وطولها، وكان يعد من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر مات سنة (206 هـ). انظر: التاريخ الكبير (8/ 368)، طبقات ابن سعد (7/ 314)، تاريخ بغداد (14/ 337)، تذكرة الحفاظ (1/ 317)، تهذيب التهذيب (11/ 321).
وإسحاق بن راهويه، ونعيم بن حماد الخزاعي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم، وقد تقل جمع من الأئمة اتفاق السلف على نفي التشبيه، كما ذكر ذلك الإمام الصابوني، والحافظ عبد الغني المقدسي
(1)
، وابن قدامة المقدسي رحمهم الله-وغيرهم
(2)
، بل إن السلف قد حكموا بكفر من شبه صفات الله بصفات خلقه، وقالوا بردته ووجوب قتله
(3)
.
(1)
هو تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور لمقدسي، أبو محمد الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي، الحافظ الإمام محدث الإسلام، ولد سنة (541 هـ)، كان غزير الحفظ، من أهل الإتقان والتجويد، قيماً بجميع فنون الحديث، وكان كثير العبادة ورعاً متمسكاً بالسنة على قانون السلف، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وكتب ما لا يوصف كثرة، ومن ذلك: الكمال في أسماء الرجال، والمصباح ونهاية المراد في السنن، قال ابن رجب: امتحن الشيخ ودعي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فأبي، فمنع من التحديث وأفتي أصحاب التأويل بإراقة دمه، فسافر إلى مصر، وأقام بها إلى أن مات، وكانت وفاته كل سنة (600 هـ). انظر: العبر في خبر من غبر (4/ 313)، تاريخ الإسلام (42/ 442)، تذكرة الحفاظ (4/ 1372)، شذرات الذهب (4/ 345)، الوافي بالوفيات (3/ 219).
(2)
انظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني (160 - 163)، الاقتصاد في الاعتقاد للحافظ عبد الغني المقدسي (78)، لمعة الاعتقاد لابن قدامة (14)، ذم التأويل له (11، 15، 16).
(3)
انظر في ذلك: نقض الدارمي على المريسي (1/ 218 - 219)، (2/ 909)، أصول السنة لابن أبي زمنين (74)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي-في سياق ما روي في تكفير المشبهة (3/ 528 - 533)، شرح السنة للبغوي (170)، المختار في أصول السنة لابن البنا الحنبلي (91)، الحجة في بيان المحجة (2/ 196)، تحريم النظر في كتب الكلام لابن قدامة (50 - 59)، لمعة الاعتقاد له (7)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 109)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (4/ 153)، بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 172 - 173)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (237)، شرح القواعد المثلى (الكتاب والشرح لابن عثيمين)(213 - 214).
ولذلك يقال: إن نفي مسمى التشبيه عن الله حق، وهو لازم وواجب
(1)
. وإنما وجب نفي مسمى (التشبيه) على ما فيه من إجمال، لأن الإجمال الذي لحق بهذا الاسم لم يكن من جهة لفظ (التشبيه ومسماه، وإنما كان من جهة ما ألحقه به النفاة من معان غير داخلة فيه بأصل الوضع، وقد بين شيخ الإسلام ذلك في موضع آخر حيث قال:«لفظ التشبيه في كلام هؤلاء النفاة المعطلة لفظ مجمل»
(2)
، فبين أن الإجمال الذي في لفظ (التشبيه) إنما هو في عرف خاص خاطئ، فلا يمنع ذلك من نفيه باعتبار معناه الصحيح الذي قصده السلف من نفيهم للتشبيه، ولذا قال شيخ الإسلام بعد كلامه السابق بأسطر في ذكر مذهب أهل السنة:"ينزهونه عن النقص والتعطيل، وعن التشبيه والتمثيل، إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل" ..
رابعًا: وإذا كان نفي مسمى التشبيه لازماً، فإن الألزم من ذلك هو بيان معنى التشبيه الذي ذمه السلف.
وذلك أن التشبيه-وإن كان نفيه صحيحاً-إلا أنه كما تقدم قد دخل عليه من جهة الاصطلاح معان باطلة جعلته من الألفاظ المجملة التي يلزم فيها التفصيل؛ إذ لفظ التشبيه فيه إجمال واشتراك وإيهام، بخلاف لفظ التمثيل الذي دل عليه القرآن، ونفي موجبه عن الله عز وجل»
(3)
.
سابعًا: التفصيل في معنى التشبيه.
لفظ (التشبيه) يطلق في الاصطلاح على عدة معان:
المعنى الأول: التماثل من كل وجه. فهذا المعنى منفي عن الله باتفاق، ولم يقل
(1)
انظر: منهاج السنة النبوية (2/ 526).
(2)
منهاج السنة النبوية (2/ 110).
(3)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 109)، وانظر: درء تعارض العقل والنقل (5/ 183)، منهاج السنة النبوية (2/ 526).
به أحد، حتى الممثلة.
المعنى الثاني: التماثل من وجه دون وجه، وهذا منفي عن الله أيضاً.
وخالف في ذلك الممثلة، ممن وصفهم الأئمة -كالإمام أحمد وغيره -بأنهم يقولون: لله يد كيدي، وسمع كسمعي، وقدم كقدمي.
وهذان الإطلاقان يتضمنان التماثل في الحقيقة والكيفية، بأن يوصف الباري بشيء من خصائص المخلوق، وهما اللذان دل الدليل على نفيهما، فمن قال بأحدهما فقد شبه الله بخلقه.
المعنى الثالث: التشابه من وجه دون وجه، وهو الاشتراك في أصل المعنى، أي في المعنى الكلي الذهني المطلق، وهو ما عرف بمسألة:(القدر المشترك في الصفات).
وهذا النوع من التشبيه غير منفي عن الله بإطلاق، بل هو ثابت، وهو لا يستلزم التمثيل المنفي عن الله ..
والسلف في نفيهم للتشبيه إنما أرادوا نفي التمثيل الذي نفته النصوص، سواء كان تمثيلا من كل وجه، أو من وجه دون وجه، ولم يريدوا المعنى الثالث -والذي هو التشابه من وجه دون وجه-إذ نفي هذا النوع مستلزم النفي الصفات، وهذا ما لم يقصده السلف بحال
(1)
.
فلا يصح نفي التشبيه مطلقة ولو من بعض الوجوه، كما لا يصح إثباته مطلقا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين، كما عليه المسلمون متفقون، كما أن إثباته مطلقا هو جعل الأنداد لرب العالمين لكن من الناس من لا يفهم هذا، ولا يعتقد ان لفظ التشبيه يدل على
(1)
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (4/ 153)، شرح العقيدة الطحاوية (99).
التمثيل المنفي عن الله لفظ التشبيه فيه عموم وخصوص
…
ومن هنا ضل فيه أكثر الناس، إذ ليس له حد محدود.
ومنه ما هو منتف، بالاتفاق بين المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء المقرين بالله، معلوم بضرورة العقل.
ومنه ما هو ثابت بالاتفاق بين المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء المقرين بالصانع.
فلما كان لفظ (التشبيه) يقال على ما يجب انتفاؤه، وعلى ما يجب إثباته، لم يرد الكتاب والسنة به مطلقاً، لا في النفي ولا الإثبات، ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ: المثل والكفو والند والسمي
…
بخلاف لفظ التشبيه، فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه البعيدة، وهذا مما يجب القول به شرعاً وعقلاً بالاتفاق.
ولهذا لما عرف الأئمة ذلك، وعرفوا حقيقة قول الجهمية، وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع ووجوده: كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق والتعطيل، ويمتنعون عن إطلاق لفظهم العليل، لما فهموه من مقصودهم، وإن لم يفهمه أهل التجهيل والتضليل»
(1)
.
ثامنًا: مقصود المخالفين بمعنى التشبيه:
التشبيه في اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل، والمتشابهان هما المتماثلان، وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه
(2)
.
(1)
بيان تلبيس الجهمية -ط (المجمع)(6/ 484 - 419)، وانظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة -د. عبد الرحمن المحمود (3/ 962 - 964).
(2)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 476).
ومقصود المتكلمين بنفي التشبيه:
أن يراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات، ولازم هذا القول أنه لا يقال له حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك
(1)
.
وأصل الخطأ والغلط توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به.
فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشاركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وإن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه
(2)
.
تاسعًا: أقسام التمثيل:
قال ابن القيم: "حقيقة الشرك هو:
1 ـ التشبه بالخالق.
2 ـ التشبيه للمخلوق به.
(1)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 99).
(2)
شرح الطحاوية (ص 104) بتصرف.
هذا هو التشبيه في الحقيقة"
(1)
.
وإذا كان التشبيه هو حقيقة الشرك كما ذكر ابن القيم، فإنه يمكن توضيح صوره بناءً على أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة وذلك على النحو التالي:
أولاً: التمثيل في جانب الربوبية
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومثاله:
1 ـ شرك القدرية القائلين بأن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته.
2 ـ شرك غلاة عباد القبور الذين يعتقدون في أصحاب القبور أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون من دون الله.
ولا شك أن من خصائص الرب التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، -فضلاً عن غيره-شبيهاً لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات
(2)
.
القسم الثاني: التشبه بالخالق، ومن أمثلته:
1 ـ من تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم
(3)
.
(1)
الجواب الكافي (159).
(2)
الجواب الكافي (ص 159 - 160).
(3)
المصدر السابق (ص 161).
ففي الصحيح عنه رضي الله عنه قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته".
ثانياً: التمثيل في جانب الألوهية.
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومن أمثلة ذلك:
السجود لغير الله، والذبح لغير الله، والتوبة لغير الله، والحلف بغير الله.
فمن خصائص الإلهية، العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما:
1 ـ غاية الحب
2 ـ مع غاية الذل
هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه.
فإذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به.
ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً له، فمن حلف بغيره فقد شبهه به
(1)
.
القسم الثاني: التشبه به، ومثاله:
(1)
انظر الجواب الكافي (ص 160 - 161).
من دعا الناس إلى تعليق القلب به خوفاً، ورجاءً، وتوكلاً، والتجاءً، واستعانةً
(1)
، كما يفعله بعض مشايخ طرق الصوفية مع مريديهم.
أقسام التمثيل في باب الأسماء والصفات:
ينقسم التمثيل في باب الأسماء والصفات إلى قسمين:
القسم الأول: تمثيل المخلوق بالخالق.
وهذا ما زعمه النصارى في شأن عيسى عليه السلام إذ أعطوه خصائص الخالق عز وجل وجعلوه إلهاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، وقالوا المسيح ابن الله"
(2)
.
ومن هذا القسم كذلك السبيئة
(3)
من غلاة الروافض: الذين شبهوا علياً رضي الله عنه بالله، وجعلوه إلهاً، وقالوا: أنت الله حتى حرقهم، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له. فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو. قال: من أنا؟ قالوا: أنت الله الذي لا إله إلا هو.
فقال: ويحكم هذا كفر، فارجعوا عنه، وإلا ضربت أعناقكم، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك، فأخرهم ثلاثة أيام -لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام- فلما لم يرجعوا، أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كندة، وقذفهم في تلك النار، وروي عنه أنه قال:
(1)
المصدر السابق (ص 161).
(2)
منهاج السنة (5/ 169).
(3)
السبيئة: نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أظهر الإسلام، وكاد للمسلمين كيداً عظيماً، وهو الذي قال لعلي: أنت الله. انظر: الفرق بين الفرق (ص 233)، والملل والنحل (1/ 174).
لما رأيت الأمر أمراً منكراً
…
أججت ناري ودعوت قنبراً"
(1)
القسم الثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق
وهذا ما زعمه اليهود قاتلهم الله إذ وصفوا الخالق ببعض صفات المخلوقين، كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه العزيز حيث قال:{لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181]، وقال تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فاليهود تصف الرب بصفات النقص التي يتصف بها المخلوق، كما قالوا: إنه بخيل، وإنه فقير، وإنه لما خلق السموات والأرض تعب"
(2)
.
وإنّه رمد وعادته الملائكة وإنّه بكى على طوفان نوح عليه السلام
(3)
.
ويدخل في هذا القسم المشبهة الذين جعلوا ما ورد من صفات الله جل وعلا مماثلاً ومشابهاً لصفات المخلوقين كقولهم له يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري.
عاشرًا: أصل مقالة المشبهة.
وقد وقع في التمثيل والتكييف "المشبهة" الذين بالغوا في إثبات الصفات إلى درجة تشبيه الخالق بالمخلوق.
والتمثيل نزعة يهودية الأصل، "فإن اليهود كثيرا ما يعدلون الخالق بالمخلوق ويمثلونه به حتى يصفوا الله بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي
(1)
منهاج السنة (1/ 307).
(2)
منهاج السنة (5/ 168).
(3)
منهاج السنة (2/ 627).
يجب تنزيهه عنها، وهي من صفات خلقه"
(1)
فقد حكي الله عنهم ذلك في كتابه، كقوله -تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقوله رداً على وصفه سبحانه بالتعب:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ} [ق الآية: 38].
وأول ظهوره في هذه الأمة على يد الرافضة الغلاة. قال البغدادي رحمه الله: "وأول ظهور التشبيه صادر عن أصناف من الروافض الغلاة"
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أول من قال: إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي
(3)
"
(4)
.
ولعل سبب ظهور مقالة التمثيل راجع إلى أمرين:
الأمر الأول: مضاهاة أهل الكتاب -وخاصة اليهود-في مقالاتهم؛ حيث إن الإسرائيليات طافحة بتمثيل الباريء سبحانه بالمخلوقين، كما أن اليهود والنصارى ضاهوا الرومان والإغريق والهنود وغيرهم في عقائدهم. قال -تعالى-:(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة:
(1)
مجموع الفتاوي 10/ 55.
(2)
الفرق بين الفرق 325.
(3)
هشام بن الحكم الكوفي الرافضي، المشبه المعثر، وله نظر وجدل وتواليف كثيرة قال في مختلف الحديث: كان من الغلاة ويقول بالجبر الشديد، وذكر عنه ابن حزم أنه يزعم أن ربه طوله سبعة أشبار بشبر نفسه، ويزعم أن علم الله محدث. مات بعد نكبة البرامكة بمديدة مستتراً وقيل عاش إلى خلافة المأمون. لسان الميزان 6/ 194.
(4)
الفتاوي 3/ 186.
الآية: 30].
فاليهود وقعوا في تمثيل الخالق بالمخلوق، والنصارى وقعوا في تمثيل المخلوق بالخالق. وكذلك جرى في هذه الأمة -كما سيأتي عند ذكر فرق الممثلة - قال صلى الله عليه وسلم:((لتبعن سنن الذين من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب تبعتموهم، قلنا: با رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!))
(1)
.
الأمر الثاني: مقابلة التعطيل بضده، فقد ظهر مذهب التعطيل فقوبل بالتمثيل، وإلى هذا المعني بشير الذهبي رحمه الله-بقوله:(وظهر بخراسان: الجهم بن صفوان، ودعا إلى تعطيل الرب عز وجل وخلق القرآن، وظهر بخراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر، وبالغ في إثبات الصفات حتى جسم)
(2)
.
قال ابن رجب الحنبلي: "وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوما وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال فكلها بدعة وهي من محدثات الأمور المنهي عنها. فمن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال للَّه".
(3)
إلى أن قال رحمه الله: "وينقسم هؤلاء إلى قسمين:
أحدهما: من نفى كثيراً مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده للتشبيه بالمخلوقين كقول المعتزلة لو رؤي لكان جسما لأنه لا يرى إلا في جهة: وقولهم لو كان له كلام يسمع لكان جسما ووافقهم من نفى الاستواء فنفوه لهذه الشبهة: وهذا طريق المعتزلة والجهمية وقد اتفق السلف على تبديعهم
(1)
رواه البخاري: كتاب الاعتصام 8/ 151، ورواه مسلم، كتاب العلم 6.
(2)
تذكرة الحفاظ 159، 160.
(3)
بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص 2
وتضليلهم وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.
والثاني: من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر ورد على أولئك مقالتهم كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم وتابعهم طائفة من المحدثين قديماً وحديثاً. وهو أيضاً مسلك الكرامية فمنهم من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظا وإما معنى. ومنهم من أثبت للَّه صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة.
وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه
(1)
. "
قال ابن رجب الحنبلي: "الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه فما سكت من سكت من كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلا ولا عجزاً ولكن سكتوا عن علم وخشية للَّه. وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم ولكن حباً للكلام وقلة ورع كما قال الحسن وسمع قوما يتجادلون هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول وقل ورعهم فتكلموا. "
(2)
الحادي عشر: فرق المشبهة ومقالاتهم:
التشبيه نوعان:
النوع الأول: تشبيه المخلوق بالخالق: ومعناه إثبات شيء للمخلوق مما يختص
الخالق من الأفعال والحقوق والصفات.
(1)
بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص 3
(2)
بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص 4
النوع الثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق: ومعناه أن يثبت الله -تعالى-في ذاته أو صفاته من الخصائص مثل ما يثبت للمخلوق من ذلك
(1)
.
وقد وقع كلا النوعين في هذه الأمة على درجات متفاوتة بين الكفر والبدعة. ونسوق ها هنا تصنيف عبد القاهر البغدادي رحمه الله-لفرق المشبهة مختصراً: (المشبهة الذين ضلوا بتشبيه ذاته بغيره أصناف مختلفة، وأول ظهور التشبيه صادر عن أصناف من الروافض الغلاة:
• فمنهم «السبئية» : الذين سموا عليا إلها، وشبهوه بذات الله
…
• ومنهم «البيانية» : أتباع بيان بن سمعان
(2)
الذي زعم أن معبوده إنسان من نور على صورة الإنسان في أعضائه، وأنه يفني كله إلأ وجهه.
• ومنهم «المغيرية» أتباع المغيرة بن سعيد العجلي، الذي زعم أن معبوده ذو أعضاء وأن أعضاءه على صور حروف الهجاء.
• ومنهم «المنصورية» ، أتباع أبي منصور العجلي
(3)
، الذي شبه نفسه بربه وزعم أنه صعد إلى السماء
…
• ومنهم «الخطابية» ، الذين قالوا بإلهية الأئمة، وبإلهية أبي الخطاب
(1)
ن فتح رب البرية بتلخيص الحموية 15.
(2)
بيان بن سمعان التيمي النهدي اليمني، ظهر بالعراق في أوائل القرن الثاني الهجري، زعم أن جزءاً إلهياً حل في علي ثم في محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بيان نفسه، فلما ظفر به خالد بن عبد الله القسري قتله. الفرق بين الفرق 237، الملل والنحل 1/ 152، مقالات الإسلاميين 5.
(3)
أبو منصور العجلي، رجل من عبد القيس، عزا نفسه إلى أبي جعفر الباقر أولا، فلما تبرأ منه زعم أنه هو الإمام ودعا الناس إلى نفسه. وزعم أن عليا هو الكسف الساقط، وأنه عرج به إلى السماء، حتى وقف على قصته يوسف بن عمر الثقفي فصلبه. الملل والنحل 1/ 178، مقالات الإسلاميين 9، الفرق بين الفرق 243.
الأسدي
(1)
، ومنهم الذين قالوا بإلهية عبد الله بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر
(2)
.
• ومنهم «الحلولية» ، الذين قالوا بحلول الله في أشخاص الأثمة، وعبدوا الأئمة لأجل ذلك.
• ومنهم «الحلولية الحلمانية» ، المنسوبة إلى أبي حلمان الدمشقي
(3)
الذي زعم أن الإله بحل في كل صورة حسنة، وكان يسجد لكل صورة حسنة.
• ومنهم «المقنعية المبيضة» في دعواهم أن المقنع
(4)
كان إلها، وأنه مصور في كل زمان بصورة مخصوصة.
• ومنهم «العذافرة» ، الذين قالوا بإلهية ابن أبي العذافر المقتول ببغداد.
وهذه الأصناف خارجون عن دين الإسلام وإن انتسبوا في الظاهر إليه
…
وبعد هذا فرق من المشبهة عدهم المتكلمون في فرق الملة لإقرارهم بلزوم أحكام القرآن، وإقرارهم بوجوب أركان شريعة الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج عليهم، وإقرارهم بتحريم المحرمات عليهم، وإن ضلوا وكفروا في بعض
(1)
محمد بن أبي زينب الأسدي، كان يزعم أولا أن الأئمة أنبياء، ثم زعم أنهم آلهة، ثم ادعى الألوهية لنفسه، وخرج في أيام المنصور فقتله عيسي بن موسي والي الكوفة سنة 143 هـ. الملل والنحل 1/ 179، الفرق بين الفرق 247، مقالات الإسلاميين 10.
(2)
عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب. كان فتاكا سيء الحاشية واتهم بالزندقة، طلب الخلافة في أواخر دولة بني أمية سنة 127 هـ بالكوفة. مات سنة 131 هـ. الأعلام 4/ 139، تاريخ ابن خلدون 3/ 121، لسان الميزان 3/ 263.
(3)
أبو حلمان الدمشقي، كان أصله من فارس، ومنشؤه حلب، وأظهر بدعته بدمشق، وكان يقول بحلول الإله في الأشخاص ذوي الصور الحسنة، وكان يقول بالإباحية. الفرق بين الفرق 259.
(4)
اسمه عطاء ويعرف بالمقنع الخراساني مشعوذ مشهور، ادعى الربوبية من طريق التناسخ، وتبعه قوم وقاتلوا في سبيله وكان مشوه الخلقة فاتخذ وجهاً من ذهب تقنع به، واشتهر أمره سنة 161 هـ فثار الناس عليه فاعتصم بقلعة فاحتسي سما فمات بها سنة 163 هـ.
الأعلام 4/ 235، الكامل 6/ 17، وفيات الأعيان 1/ 319.
الأصول العقلية، ومن هذا الصنف:
• «الهشامية» منتسبة إلى هشام بن الحكم الرافضي الذي شبه معبوده بالإنسان، وزعم لأجل ذلك أنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وأنه جسم ذو حد ونهاية، وأنه طويل عريض، عميق، وذو لون وطعم ورائحة.
وقد روي عنه أن معبوده كسبيكة الفضة، وكاللؤلؤة المستديرة، وروي عنه أنه أشار إلى أن جبل أبي قبيس أعظم منه. وروي عنه أنه زعم أن الشعاع من معبوده متصل بما يراه
…
• ومنهم «الهشاميةة، المنسوبة إلى هشام بن سالم الجواليقي
(1)
الذي زعم أن معبوده على صورة الإنسان، وأن نصفه الأعلى مجوف، ونصفه الأسفل مصمت، وأن له شعرة سوداء وقلباً تنبع منه الحكمة.
• ومنهم «اليونسية» المنسوبة إلى يونس بن عبد الرحمن القمي
(2)
الذي زعم أن الله-تعالى-بحمله حملة عرشه، وإن كان هو أقوى منهم كما أن الكركي تحمله رجلاه وهو أقوى من رجليه.
• ومنهم «المشبهة» ، المنسوبة إلى داود الجواربي
(3)
، الذي وصف معبوده بأن
(1)
هشام بن سالم الجواليقي، نسج على منوال هشام بن الحكم في التشبيه، وزعم أن الله نور ساطع يتلألأ وله حواس خمس
…
إلخ تخريفاته وضلالاته. الملل والنحل 1/ 184، مقالات الإسلاميين 209.
(2)
يونس بن عبد الرحمن مولي علي بن يقطين، فقيه إمامي عراقي، من أصحاب موسي بن جعفر، له نحو ثلاثين كتاباً، توفي سنة 208 هـ، الأعلام 8/ 261، ابن النديم 220.
(3)
داود الجواربي مشبه أخذ مفالته عن هشام بن سالم الجواليقي، وزعم أن الله جسم وأنه جثة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم
…
إلخ. وقال ابن حجر: رأس في الرافضة والتجسيم من مرامي جهنم، وقال يزيد بن هارون: الجواربي والمريسي كافران. انظر مقالته في: الملل والنحل 1/ 187، مقالات الإسلاميين 209، لسان الميزان 2/ 427.
له جميع أعضاء الإنسان إلأ الفرج واللحية.
• ومنهم «الإبراهيمية» المنسوبة إلى إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي
(1)
.
• ومنهم «الخابطية» ، من القدرية وهم منسوبون إلى أحمد ابن خابط
(2)
…
شبه عيسى ابن مريم بربه، وزعم أنه الإله الثاني، وأنه هو الذي يحاسب الخلق في القيامة.
• ومنهم «الكرامية» ، في دعواها أن الله-تعالى-جسم له حد ونهاية وأنه محل الحوادث، وأنه مماس لعرشه
…
فهؤلاء مشبهة له-تعالى-بخلقه في ذاته.
فأما المشبهة لصفاته بصفات المخلوقين فأصناف:
• فمنهم الذين شبهوا إرادة الله -تعالى-بإرادة خلقه، وهذا قول المعتزلة البصرية
…
ومنهم الذين شبهوا كلام الله عز وجل-بكلام خلقه
…
• ومنهم «الزرارية، أتباع زرارة بن أعين الرافضي
(3)
في دعواها حدوث جميع صفات الله عز وجل-وأنها من جنس صفاتنا
…
• ومنهم الذين قالوا من الروافض بأن الله -تعالى-لا يعلم الشيء حتى يكون،
(1)
إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، مولاهم، قال فيه الإمام أحمد: كان قدرياً جهمياً معتزلياً كل بلاء فيه، وقال البخاري: جهمي تركهـ ابن المبارك والناس، وقال العجلي: كان قدريا معتزليا رافضياً، توفي سنة 184 هـ. تهذيب التهذيب 1/ 158.
(2)
أحمد بن خابط: معتزلي منتسب إلى النظام، له مقالات شنيعة وغيره، منها قوله: إن للعالم خالقين الله هو القديم، والثاني محدث وهو الكلمة، ومن ضلالاته قوله بالتناسخ، وينفي قدرة الله على زيادة نعيم أهل الجنة أو عذاب أهل النار. الفرق بين الفرق 273، لسان الميزان 1/ 148.
(3)
زرارة بن أعين الشيباني بالولاء، رأس الفرقة الزرارية، من غلاة الشيعة، ونسبتها إليه، كان متكلماً شاعراً، وهو من أهل الكوفة، وكانت وفاته سنة 150 هـ. الأعلام 3/ 43، لسان الميزان 2/ 473، اللباب 1/ 498، خطط المقريزي 2/ 353.
فأوجبوا حدوث علمه كما يجب حدوث علم العالم منا
(1)
ويلاحظ من هذا السياق لفرق المشبهة الملاحظات الآتية:
ا-أن التشبيه نشأ في أحضان الرافضة وترعرع فيها.
2 -
تفاوت هذه الفرق على النحو التالي:
(1)
الغلاة: وهم الذين مثلوا ذات الخالق بذات مخلوق معين، أو زعموا أن الله حاك فيه -سبحانه-وهؤلاء خارجون عن الملة إجماعاً، وغالبا ما يجمعون إلى هذا الكفر كفراً آخر من الزندقة الباطنية كالفرق العشر الأولى.
(ب) المكيفة: وهم الذين يكيفون صورة معبودهم بأوصاف وكيفيات معهودة في الذهن والخارج لكن غير مقيدة بمماثل معين، كالهشاميين.
(ج) ممثلة الأفعال: الذين يمثلون الخالق بالمخلوق، والمخلوق بالخالق في الأفعال كالمعتزلة.
الثاني عشر: براءة أهل السنة من التشبيه.
أهل السنة مبرؤن من تهمة التشبيه التي حاول بعض نفاة الصفات من المتكلمين نبزهم بها. فليس في هذه الفرق المذمومة طائفة من أهل السنة، إلا أن المتكلمين بناء على أصولهم الفاسدة عدوا إثبات الصفات الخبرية تمثيلاً، فوصموا المثبتين لها بوصمة التمثيل، كما صنع الشهرستاني
(2)
في مبحث «المشبهة،
(1)
الفرق بين الفرق 225 - 230، مختصراً. وانظر: مقالات الإسلاميين 1/ 106، 281، والملل والنحل 1/ 103.
(2)
محمد بن عبد الكريم بن أحمد، أبو الفتح، الشهرستاني، كان إمامة في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة، ولد سنة 479 هـ في شهر ستان، وله من المؤلفات:«الملل والنحل» ، و «نهاية الإقدام في علم الكلام، والإرشاد إلى عقائد العبادة وغيرها، وتوفي في بلده سنة 548 هـ. الأعلام 6/ 215، وفيات الأعيان 1/ 482، مفتاح السعادة 1/ 264، آداب اللغة 3/ 99، لسان الميزان 5/ 263، طبقات السبكي 4/ 78.
حيث أدخل في مقالات المشبهة ما هو من صريح مذهب السلف
(1)
"
(2)
الثالث عشر: "كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل".
فكل واحد من فريق التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل.
أولًا: -بيان جمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل:
أما تمثيل المعطلة: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات.
فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم.
وتعطيل المعطلة: في نفيهم لما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات اللائقة به سبحانه.
وبذلك جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولاً، وعطلوا آخرًا.
وامتاز أهل التعطيل عن أهل التمثيل بنفيهم المعاني الصحيحة للصفات.
مثال لجمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل:
نصوص الاستواء، كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
(3)
.
فإن المعطل يقول: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام. فهذا المعطل لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا
(1)
انظر: الملل والنحل 1/ 105، وما بعدها.
(2)
المصدر: مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات ص 79 ـ 82.
(3)
الآية 5 من سورة طه
اللازم الذي جاء به المعطل تابع لهذا المفهوم.
وكان الواجب عليه أن يثبت لله استواء يليق بجلاله ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي هي من لوازم المخلوقات، ويجب نفيها في حق الله.
فأهل التعطيل وقعوا في أربعة محاذير:
الأول: كونهم مثلوا ما فهموه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنوا أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنهم عطلوا النصوص عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله.
الثالث: أنهم بنفي تلك الصفات صاروا معطلين لما يستحقه الرب من صفات الكمال.
الرابع: أنهم وصفوا الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الأموات والجمادات والمعدومات
(1)
.
ثانيًا: -بيان جمع أهل التمثيل بين التعطيل، والتمثيل
(2)
:
أما تعطيل الممثل فمن وجوه ثلاثة:
أحدها: أنه عطل نفس النص الذي أثبت الصفة، حيث صرفه عن مقتضى ما يدل عليه، فإن النص دال على إثبات صفة تليق بالله لا على مشابهة الله لخلقه.
الثاني: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطله عن كماله الواجب، حيث شبه الرب الكامل بالمخلوق الناقص.
الثالث: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطل كل نص يدل على نفي مشابهة الله لخلقه،
(1)
الرسالة التدمرية 79 - 80
(2)
انظر: الفتوى الحموية ص 62 - 63 ط: دار فجر للتراث
مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4].
أما تمثيل أهل التمثيل: فإنهم يقولون: إن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا كان مستويًا على العرش فهو كاستواء الإنسان على السرير، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فامتاز هؤلاء الممثلة بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين، كما امتاز المعطلة بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي.
والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها.
(فقد هدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة المثلى فأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، وتفوا عنه مماثلة المخلوقات، فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين وهديا بين ضلالتين.
فقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف.
بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل.
ولا نقول: ليس له يدان، ولا وجه، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، ولا قدرة، ولا استوى على عرشه.
ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوقين، ووجه كوجوههم وسمع وبصر وحياة
وقدرة واستواء، كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم.
بل نقول: له ذات حقيقة ليست كذوات المخلوقين.
وله صفات حقيقة ليست كصفات المخلوقين.
وكذلك قولنا: في وجهه تبارك وتعالى، ويديه، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستوائه.
ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك، الصفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك من أثبت لله شيئا من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها، فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما، فهكذا سائر الصفات المقدسة، يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يكلف العباد ذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلا)
(1)
.
المسألة السابعة: معنى قوله: "وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ".
هذه العبارة فيها تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة أهل التعطيل، وهذه العبارة يمكن توضيحها من خلال الفقرات الآتية:
الفقرة الأولى: قوله: "وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ"
أولًا: معنى التحريف:
التحريف لغة: التغيير والتبديل والإمالة.
فهو في الأصل مأخوذ من قولهم: حرفت الشيء عن وجهه إذا أملته وغيرتة.
والتحريف شرعًا: الميل بالنصوص عما هي عليه، إما بالطعن فيها، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها.
(1)
الصواعق المرسلة 2/ 425 - 427
أو نقول بعبارة مختصرة: هو العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره
(1)
.
والتحريف في باب الأسماء والصفات: هو تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن مراد الله بها.
ثانيًا: أنواع التحريف:
التحريف نوعان:
النوع الأول: تحريف اللفظ:
وتعريفه: هو العدول باللفظ عن جهته إلى غيرها، وله أربع صور:
ا-الزيادة في اللفظ.
2 -
النقصان في اللفظ.
3 -
تغيير حركة إعرابية.
4 -
تغيير حركة غير إعرابية.
ومن أمثلة تحريف اللفظ:
المثال الأول: تحريف إعراب قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}
(2)
من الرفع إلى النصب، وقال:{وَكَلَّمَ اللَّهُ} أي موسى كلم الله، ولم يكلمه الله، ولما حرفها بعض الجهمية هذا التحريف قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ] الأعراف الآية: 143]، فبهت المحرف.
مثال آخر: إن بعض المعطلة سأل بعض أئمة العربية: هل يمكن أن يقرأ العرش بالرفع في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
(3)
وقصد بهذا التحريف أن يكون
(1)
الصواعق المرسلة 1/ 215
(2)
الآية 164 من سورة النساء
(3)
الآية 5 من سورة طه
الاستواء صفة للمخلوق لا للخالق
(1)
.
النوع الثاني: تحريف المعنى:
وتعريفه: هو صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ
(2)
. أو نقول: تعريفه: هو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما.
وهذا النوع هو الذي جال فيه أهل الكلام من المعطلة وصالوا وتوسعوا وسموه تأويلاً، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد به استعمال في اللغة
(3)
.
ومن أمثلة تحريف المعنى:
كقول المعطلة في معنى استوى: استولى في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
(4)
.
وفي معنى اليد في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان}
(5)
النعمة والقدرة.
وفي معنى المجيء في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ}
(6)
وجاء أمر ربك.
وقد ذكر الله التحريف وذمه حيث ذكره، وهو مأخوذ في الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيه، وهم شيوخ المحرفين وسلفهم، فإنهم حرفوا كثيرًا من ألفاظ التوراة وما غلبوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه، ولهذا وصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأمم.
(1)
الصواعق المرسلة 1/ 218
(2)
الصواعق المنزلة 1/ 201
(3)
مختصر الصواعق 2/ 147
(4)
الآية 5 من سورة طه
(5)
الآية 64 من سورة المائدة
(6)
الآية 22 من سورة الفجر
وقد درج على آثارهم الرافضة، فهم أشبه بهم من القذة بالقذة، وكذلك الجهمية، فإنهم سلكوا في تحريف النصوص مسالك إخوانهم في اليهود
(1)
.
وأصحاب تحريف الألفاظ شر من أصحاب تحريف المعنى من وجه.
وأصحاب تحريف المعنى شر من أصحاب تحريف اللفظ من وجه.
فأصحاب تحريف اللفظ عدلوا باللفظ والمعنى جميعًا عما هما عليه فأفسدوا اللفظ والمعنى، بينما أصحاب تحريف المعنى أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله فكانوا خيرًا من أولئك من هذا الوجه.
فأصحاب تحريف اللفظ لما أرادوا المعنى الباطل حرفوا له لفظًا يصلح له لئلا يتنافر اللفظ والمعنى، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ المحرف فهم منه المعنى المحرف، فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء اللفظ على حاله مما لا سبيل إليه، فبدأوا بتحريف اللفظ ليستقيم لهم حكمهم على المعنى الذي قصدوا
(2)
.
وأما كون أصحاب تحريف المعنى شرا من أصحاب تحريف اللفظ من وجه، فلأن تحريف المعنى هو الأكثر استعمالا عند أصحاب التحريف، ولأنه أسهل رواجا وسوقًا عند الجهلة والعوام من الناس، فيفتتن به من ليس لديه زاد من العلم الصحيح المعتمد على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة.
فالسلف يعتقدون أن الواجب في نصوص القرآن والسنة بما في ذلك نصوص الأسماء والصفات هو إجراؤها على ظاهرها، وذلك بأن تُفهم وَفق ما يقتضيه اللسان العربي، وأن لا يُتعرض لها بتحريف أو تعطيل كما فعل المعطلة، الذين تلاعبوا
(1)
الصواعق المرسلة 1/ 215 - 216
(2)
مختصر الصواعق 2/ 147، 148
بظواهر النصوص لمجرد أنَّها خالفت باطلهم ومناهجهم الفاسدة
(1)
.
فنصوص الصفات ألفاظ شرعية يجب أن تُحفظ لها حُرمتها، وذلك بأن نفهمها وَفق مراد الشارع؛ فلا نتلاعب بمعانيها لنصرفها عن مراد الشارع.
فمن الأصول الكلية عند السلف أن الألفاظ الشرعية لها حرمتها، ومِن تمام العلم أن يُبحث عن مراد الله ورسوله بها ليُثبت ما أثبته الله ورسوله من المعاني، ويُنفى ما نفاه الله ورسوله من المعاني
(2)
.
وبحمد الله وفضله نجد أن نصوص الصفات الواردة في القرآن والسنة هي من الوضوح والكثرة بمكان، بحيث يستحيل تأويلها والتلاعب بنصوصها، فلقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصَّلاً على وجهٍ أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل به العلم اليقيني، ورفع الشك والريب؛ فثلجت به الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، فلقد فَصَّلت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الأسماء والصفات والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقَرَّرت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ.
فالمُطَّلع على نصوص القرآن والسنة الخبير بهما، لا يزيده تحريف المعطلة لتلك النصوص إلا احتقارًا لهم، ويقينًا بفساد معتقدهم وبطلانه.
ولا تَرُوج تحريفات المعطلة إلا على الجاهل بمعرفة تلك النصوص قليل البضاعة فيها، فهذا الصنف أُتِي مِنْ جهة جهله لا مِنْ قِلَّة النصوص الواردة في هذا الباب، والله أعلم.
الفقرة الثانية: قوله: "وَلَا تَعْطِيلٍ".
أولًا: معنى التعطيل:
التعطيل لغة: مأخوذ من "العطل": الذي هو الخلو والفراغ والترك، ومنه قوله تعالى:{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ}
(1)
أي أهملها أهلها وتركوا وردها
(2)
.
والتعطيل في جانب الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وهو المتمثل فيمن ينكر وجود خالق لهذا الكون، وهو قول الدهرية الملاحدة.
القسم الثاني: تعطيل عبادته عز وجل، أي ما يجب له عز وجل على عباده من حقيقة التوحيد وإفراده بالعبادة، وهو المتمثل في أهل الشرك الذين صرفوا شيئا من العبادة لغير الله عز وجل.
القسم الثالث: تعطيل الله سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله
(3)
.
وهذا القسم الثالث هو الذي نقصده هنا.
فالمراد بالتعطيل في باب الأسماء والصفات هو: نفي الأسماء والصفات أو بعضها وسلبها عن الله.
أو نقول: هو نفي الصفات الإلهية، وإنكار قيامها بذات الله تعالى
(4)
.
ثانيًا: طوائف المعطلة.
وقد وقع في التحريف والتعطيل طوائف، يجمعهم أهل العلم تحت مسمى
(1)
الآية 45 من سورة الحج
(2)
شرح الواسطية ص 20
(3)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص 153
(4)
شرح الواسطية ص 20
"المعطلة".
وينقسم المعطلة إلى قسمين رئيسيين هما:
القسم الأول: الفلاسفة.
وهم صنفان:
الصنف الأول: أهل الفلسفة البحتة.
الصنف الثاني: أهل الفلسفة الباطنية، وهي نوعان:
أ-رافضية. ب-صوفية.
والقسم الثاني من المعطلة هم: أهل الكلام.
وهم خمسة أصناف:
ا-الجهمية.
2 -
المعتزلة.
3 -
الكلابية.
4 -
الأشاعرة.
5 -
الماتريدية.
وينقسم التعطيل إلى قسمين:
التعطيل عند طوائف أهل الكلام ينقسم إلى قسمين هما:
أولاً: تعطيل جميع صفات الله عز وجل وهو تعطيل الجهمية والمعتزلة
(1)
.
ثانياً: تعطيل بعض الصفات وإثبات بعضها وهذا قول الكلابية والأشاعرة
(1)
ينظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء (ص: 91) نشر وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية.
والماتريدية وغيرهم، الذين ينكرون بعض الصفات ويؤولونها، ويثبتون بعض الصفات.
وأول من عرف بالتعطيل من هذه الأمة هو الجعد بن درهم، وكل من جاء بعده من المعطلة فهو مقلد له متأس به في كل ما جاء به من التعطيل أو في بعضه
(1)
.
فالمعطِّلة: هم نفاة الصفات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان السلف والأئمة يُسَمُّون نُفاة الصفات: معطلة؛ لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله تعالى، وإن كانوا هم قد لا يعلمون أن قولَهم مستلزمٌ للتعطيل»
(2)
.
فإن قلت: ما الفرق بين التَّعْطِيل والتَّحْرِيف؟
قلنا: التَّحْرِيف في الدليل، والتَّعْطِيل في المدلول فمثلًا:
إذا قال قائل: معنى قول تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، أي: بل قوَّتاه، هذا محرف للدليل ومعطل للمراد الصحيح؛ لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطَّل المعنى المراد، وأثبت معنًى غير المراد.
وإذا قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، لا أدري، أفوِّض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية ولا اليد المحرف إليها اللفظ، نقول: هذا معطِّل، وليس بمحرِّف؛ لأنه لم يغير معنى اللفظ ولم يفسِّره بغير مراده، لكن عطَّل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله"
(3)
.
المسألة الثامنة: معنى قوله: "وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا
(1)
انظر: تسهيل العقيدة الإسلامية للجبرين (ص: 100).
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (5/ 326).
(3)
انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/ 92).
أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ".
وهنا تجدر الإشارة إلى أمور مهمة، وهي:
الأمر الأول: أنَّ معرفة الله ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع، ومقصوده: تكميل الإثبات
(1)
.
(2)
.
الأمر الثاني: أنَّ صفات التنزيه يجمعها معنيان:
الأول: نفي النقائص عنه، وذلك مِنْ لوازم إثبات صفات الكمال.
الثاني: إثبات أنَّه ليس كمثله شييء في صفات الكمال الثابتة له.
الأمر الثالث: الصفات السلبية تُذكر غالبًا في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله؛ كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4].
والثانية: نفي ما ادَّعاه في حقه الكاذبون؛ كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} .
والثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ] الدخان الآية: 38 [.
الأمر الرابع: أنَّ الصفات السلبية إنما تكون كمالًا إذا تضمنت أمورًا وجودية
(1)
.
فلا يُوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورًا وجودية، وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه.
فينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال.
والعدم المحض ليس بشييء، وما ليس بشييء-فهو كما قيل: ليس بشييء؛ فضلًا عن أن يكون مدحًا وكمالًا.
لأنَّ النفي المَحض يُوصف به المعدوم والممتنع؛ والمعدوم والممتنع لا يُوصف بمدح ولا كمال.
ولهذا كان عامة ما يصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح؛ كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ؛ فنفي السِّنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام.
وكذلك قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها؛ بخلاف المخلوق القادر إذا كان يَقدر على الشييء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.
وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} ، فإن نفي العُزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ، فإن نفي مس اللغوب-الذي هو التعب والإعياء-دلَّ على كمال قدرته ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 144).
وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} -إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء، ولم يَنف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يرى مدح؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُؤي، كما أنه لا يحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلًا على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
وإذا تأملت ذلك وجدت كلَّ نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف به نفسه»
(1)
.
ثم إن النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه-فيه إساءة أدب مع الله سبحانه؛ فإنك لو قلت لسلطان: أنت لستَ بزبَّال ولا كسَّاح ولا حَجَّام ولا حائك؛ لأَدَّبَك على هذا الوصف وإن كنت صادقًا.
وإنما تكون مادحًا إذا أجملت النفي؛ فقلت: أنت لستَ مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجَل، فإن أَجملت في النفي أجملت في الأدب
(2)
.
فأهل الكلام المذموم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المُجمل؛ فيقولون: ليس بجسم ولا شَبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض .. إلى آخر تلك السُّلوب الكثيرة التي تَمُجُّها الأسماع، وتأنف مِنْ ذكرها النفوس، والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حقَّ قدره
(3)
.
الأمر الخامس: أن الرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مُفَصَّل ونفي
(1)
«الرسالة التدمرية» (ص 21 - 23).
(2)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 108 - 110).
(3)
«الصفات الإلهية» (ص 202).
مجمل.
والمعطلة ناقضوهم؛ فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل.
فإنَّ الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله: أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه حكيم عزيز، غفور ودود، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليمًا، وتجلى للجبل فجعله دكًّا، وأنه أنزل على عبده الكتاب. إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
وقال في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مَرْيَمَ الآية: 65].
وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا ولا كذا، فلا يَقرب من شيء ولا يَقرب منه شيء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يُشار إليه ولا يتعين، ولا هو مُباين للعالم ولا حالٌّ فيه، ولا داخله ولا خارجه.
إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تَنطبق إلا على المعدوم.
ثم قالوا في الإثبات: هو وجود مُطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية
(1)
.
وبذلك عكسوا منهج القرآن والسنة؛ فأكثروا مِنْ وصف الله تعالى بالأمور السلبية التي لم يَرد بها النص، وأفرطوا في ذلك إفراطًا عجيبًا، بينما أنكر بعضهم جميع الصفات الثبوتية، والبعض الآخر لم يُثبت سوى القليل منها.
ضابط النفي في صفات الله:
(1)
«الصفدية» (1/ 116).
((أن ينفى عن الله تعالى:
أولاً: كل صفة عيب؛ كالعمى، والصمم، والخرس، والنوم، والموت
…
ونحو ذلك.
ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ] النحل الآية: 60]، فإن ثبوت المثل الأعلى له-وهو الوصف الأعلى-يستلزم انتفاء كل صفة عيب.
ثانياً: كل نقصٍ في كماله؛ كنقص حياته، أو علمه، أو قدرته، أو عزّته،
أو حكمته
…
أو نحو ذلك.
ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ] ق الآية: 38 [.
ثالثاً: مماثلة المخلوقين؛ كأن يجعل علمه كعلم المخلوق، أو وجهه كوجه المخلوق، أو استواءه على عرشه كاستواء المخلوق
…
ونحو ذلك.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ] الشورى الآية: 11"
(1)
.
الأمر السادس: للتفريق بين الصفات السلبية التي ورد بها النص والصفات السلبية التي أحدثها المعطلة النفاة-نقول: إن الصفات السلبية التي ورد بها النص متضمنة لثبوت كمال الضد كما تقدم شرح ذلك.
وأمَّا الصفات السلبية التي هي مِنْ نسج المعطلة واختراعهم-فلا تتضمن ثبوت كمال الضد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كل تنزيه مُدح به الرب ففيه إثبات، فلهذا كان قول:(سبحان الله) متضمنًا تنزيه الرب وتعظيمه، ففيه تنزيهه من العيوب والنقائص،
(1)
تقريب التدمرية ص (85 - 86).
وفيه تعظيمه سبحانه وتعالى
(1)
.
فالذين لا يَصفونه إلا بالسُّلوب لم يثبتُوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا.
وكذلك مَنْ شاركهم في بعض ذلك؛ كالذين قالوا: لا يتكلم، ولا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يَستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا مجانب له.
إذ هذه الصفات يمكن أن يُوصف بها المعدوم، وليس هي صفة مُستلزمة صفة ثبوت.
فقولهم: إنه لا يتكلم، أو لا يَنزل، ليس في ذلك صفة مدح، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات
(2)
.
الأمر السابع: إن سلب النقائص والعيوب عن الله نوعان:
النوع الأول: سلب لمتصل.
«وضابطه: نفي كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كنفي الموت المنافي للحياة، والعجز المنافي للقدرة، والسِّنة والنوم المنافي لكمال القيومية، والظلم المنافي للعدل، والإكراه المنافي للاختيار، والذل المنافي للعزة
…
»، إلخ.
النوع الثاني: سلب لمنفصل.
وضابطه: تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد مِنْ خلقه في شييء من خصائصه التي لا تَنبغي إلا له.
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112).
(2)
«الرسالة التدمرية» (ص 23).
وذلك كنفي الشريك له في ربوبيته؛ فإنَّه منفرد بتمام الملك والقوة والتدبير.
وكنفي الشريك له في أُلوهيته، فهو وحده الذي يجب أن يُؤلهه الخلق، ويُفردوه بكل أنواع العبادة والتعظيم.
وكنفي الشريك له في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فليس لغيره من المخلوقين شِركة معه سبحانه في شيء منها.
وكذلك نفي الظَّهير الذي يُظاهره أو يعاونه في خلق شيء أو تدبيره؛ لكمال قدرته وسَعة علمه ونفوذ مشيئته، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة إلا بالله؛ فالشريك والظهير مَنفيان عنه بإطلاق.
وكذلك ينفى عنه سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نَسَبه إليه النصارى عابدو الصُّلبان، والصابئة الذين يقولون: إن الملائكة بنات الله؛ قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ} ] الإسراء الآية: 111 [.
(1)
.
الأمر الثامن: الأدلة السمعية التي وردت في نفي المماثلة تنقسم إلى قسمين:
1 ـ خبر.
2 ـ وطلب.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين-رحمه الله: ((الأدلة السمعية
(2)
تنقسم
إلى قسمين: خبر، وطلب.
ـ فمن الخبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، فالآية: فيها نفي صريح للتمثيل.
وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مَرْيَمَ الآية: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى
الخبر؛ لأنه استفهام بمعنى النفي.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.
ـ وأما الطلب؛ فقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(1)
، أي: نظراء مماثلين.
وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ] النحل الآية: 74])
(2)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "مِنْ غَيْرِ إلْحَادٍ، لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي آيَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الْآيَةَ".
الشرح
أولاً: تعريف الإلحاد.
الإلحاد لغة:
قال ابن فارس: " (لَحَدَ) اللَّامُ وَالْحَاءُ وَالدَّالُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى مَيْلٍ عَنِ اسْتِقَامَةٍ. يُقَالُ: أَلْحَدَ الرَّجُلُ، إِذْ مَالَ عَنْ طَرِيقَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ. وَسُمِّيَ اللَّحْدُ لِأَنَّهُ مَائِلٌ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الْجَدَثِ. يُقَالُ: لَحَدْتُ الْمَيِّتَ وَأَلْحَدْتُ. وَالْمُلْتَحَدُ: الْمَلْجَأُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ
(1)
الآية [22] من سورة البقرة.
(2)
شرح العقيدة الواسطية (1/ 103).
لِأَنَّ اللَّاجِئَ يَمِيلُ إِلَيْهِ"
(1)
.
فالإلحاد مأخوذ من المَيل، كما يدل عليه مادته (ل- ح- د)؛ فمنه: اللحد، وهو الشَّق في جانب القبر الذي قد مال عن الوَسط.
ومنه المُلحد في الدين: المائل عن الحقِّ إلى الباطل؛ قال ابن السِّكِّيت: «الملحد: المائل عن الحقِّ المُدخِلُ فيه ما ليس فيه
(2)
.
وعلى هذا فلفظ الإلحاد في اللغة يعني الميل والعدول عن الاستقامة أو عن الدين أو عن طريق الحق والمنهج الصحيح، وهو معناه في كتاب الله تعالى.
الإلحاد شرعًا:
المعنى الشرعي للفظ الإلحاد لا يخرج عن معناه اللغوي،
وقد رد لفظ (إلحاد) في كتاب الله تعالى في سورة الحج [آية: 25] قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} .
وورد منه الفعل المضارع (يلحدون) كما في قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل- 103].
قال الطبري رحمه الله: «الإلحاد في الدين وهو المعاندة بالعدول عنه والترك له"
(3)
.
وقال الراغب الأصفهاني: «أَلْحَدَ فلانٌ: مال عن الحقّ، والْإِلْحَادُ ضربان: إلحاد إلى الشّرك بالله، وإلحاد إلى الشّرك بالأسباب.
فالأوّل ينافي الإيمان ويبطله، والثاني: يوهن عُراهُ ولا يبطله، ومن هذا النحو قوله:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، وقوله:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ} [الأعراف: 180]، والْإِلْحَادُ في أسمائه على وجهين:
(1)
انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 236).
(2)
«بدائع الفوائد» (1/ 169).
(3)
انظر: تفسير الطبري (17/ 652).
أحدهما: أن يوصف بما لا يصحّ وصفه به.
والثاني: أن يتأوّل أوصافه على ما لا يليق به"
(1)
.
فلفظ الإلحاد يقتضي ميلًا عن طريق الحق إلى طريق الباطل.
ثانيًا: معنى الإلحاد في أسماء الله تعالى:
يقول الإمام ابن القيم: "الإلحاد في أسمائه: هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها"
(2)
.
وفي قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
قال الإمام البغوي: "قال أهل المعاني: الإلحاد في أسماء الله: تسميته بما لم يَتَسَمَّ به، ولم ينطق به كتابُ الله ولا سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم"
(3)
.
وقال ابن حجر: "قال أهل التفسير: مِنْ الإلحاد في أسمائه: تسميته بما لم يَرد في الكتاب أو السنة الصحيحة"
(4)
.
ثالثًا: أنواع الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته:
قال ابن القيم: الإلحاد في أسمائه تعالى أنواع:
أحدها: أن يسمى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلها، وهذا إلحاد حقيقة فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.
(1)
انظر: المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ص: 737).
(2)
انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 169).
(3)
«معالم التنزيل» (3/ 357).
(4)
«فتح الباري» (11/ 221).
قال ابن عباس ومجاهد: «عدلوا بأسماء الله تعالى عما هى عليه، فسموا بها أوثانهم؛ فزادوا ونقصوا، فاشتقوا اللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومَناة من المنَّان»
(1)
.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له (أبًا) وتسمية الفلاسفة له (موجبا بذاته) أو (علة فاعلة بالطبع) ونحو ذلك، وذلك لأنَّ أسماء الله- تعالى- توقيفية، فتسميته تعالى بما لم يُسَم به نفسه ميلٌ بها عما يجب فيها، كما أنَّ هذه الأسماء التي سَموه بها نفسها باطلة يُنزه الله تعالى عنها.
قال ابن حزم: «مَنع تعالى أن يُسَمَّى إلا بأسمائه الحسنى، وأخبر أنَّ مَنْ سَمَّاه بغيرها فقد ألحد»
(2)
.
وفي قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومَن جعله تسبيحًا للاسم يقول: المعنى: إنَّك لا تسم به غير الله، ولا تُلحد في أسمائه، فهذا ما يستحقُّه اسم الله»
(3)
.
فأسماء الله توقيفية، ومخالفة ذلك وتسميته تعالى بما لم يُسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها؛ فالإقدام على فِعل شيء من ذلك هو نوع من الإلحاد في أسماء الله.
وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود إنه فقير وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته.
ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من
(1)
«مدارج السالكين» (1/ 30).
(2)
«المحلى» (1/ 29).
(3)
«مجموع الفتاوى» (6/ 199).
الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد ويقولون لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلًا وشرعًا ولغة وفطرة وهو يقابل إلحاد المشركين فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها فكلاهما ملحد في أسمائه ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب وكل من جحد شيئا عما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر.
وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيرًا، فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئا من التشبيه وتنزيههم خليا من التعطيل لا كمن شبه حتى كأنه يعبد صنما أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدما وأهل السنة وسط في النحل كما أن أهل الإسلام وسط في الملل"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فَطَرِيقَتُهُمْ تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
(1)
انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 169 - 170).
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11 [. فَفِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رَدٌّ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رَدٌّ لِلْإلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ».
الشرح
وفيه هذا النص مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الأسماء والصفات والفرق بينهما.
المسألة الثانية: أن قول أهل السنة في هذا الباب مبني على أصلين هما:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات.
المسألة الأولى: تعريف الأسماء والصفات والفرق بينهما.
ويمكن توضيح هذه المسألة من خلال الجوانب الآتية:
الجانب الأول: أن النصوص جاءت بثلاثة أبواب هي:
"باب الأسماء"
و"باب الصفات"
و"باب الإخبار".
وعليه يجب أن يعلم:
أولًا: أن باب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، فما صح اسما صح صفة وصح خبرا وليس العكس.
وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، فما صح صفة فليس شرطا أن يصح اسما، فقد يصح وقد لا يصح، مع أن الأسماء جميعها مشتقة من صفاته.
أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته،
فالله يخبر عنه بالاسم وبالصفة وبما ليس باسم ولا صفة كألفاظ "الشيء" و"الموجود" و"القائم بنفسه" و"المعلوم"، فإنه يخبر بهذه الألفاظ عنه ولا تدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
الجانب الثاني: كل من باب الأسماء والصفات توقيفيان.
فالأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيهما عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه
وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء والصفات إطلاقاً
(1)
قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم"
(2)
أما باب الإخبار فالسلف لهم فيه قولان:
القول الأول: أن باب الإخبار توقيفي، فإن الله لا يُخْبَرُ عنه إلا بما ورد به النص، وهذا يشمل الأسماء والصفات، وما ليس باسم ولا صفة مما ورد به النص كـ (الشييء) و (الصنع) ونحوها
(1)
-رسالة في العقل والروح لشيخ الإسلام ابن تيمية، مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (2/ 46 - 47).
(2)
منهاج السنة (2/ 523).
وأما مالم يرد به النص فإنهم يمنعون استعماله
(1)
القول الثاني: إن باب الإخبار لا يشترط فيه التوقيف، فما يدخل في الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كـ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه)، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيِّئ، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً، ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيِّئ
(2)
فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حَقًّا يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده
(3)
.
الجاب الثالث:
الألفاظ المجملة وحكم دخولها في باب الصفات وموقف أهل السنة من استعمالها.
يمكن تقسيم الألفاظ المجملة-أي التي لم يرد استعمالها في النصوص-على النحو التالي:
أولاً: ألفاظ ورد استعمالها ابتداءً في بعض كلام السلف.
ومن أمثلة ذلك لفظ (الذات) و (بائن)
وهذه الألفاظ تحمل معاني صحيحة دلت عليها النصوص
وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السنة استعمالها
وهناك من يمنع ذلك بحجة أن باب الإخبار توقيفي كسائر الأبواب
والصواب أنه ما دام المعنى المقصود من ذلك اللفظ يوافق ما دلت عليه النصوص، واستعمل اللفظ لتأكيد ذلك فلا مانع
كقول أهل
(1)
انظر رسالة في العقل والروح (2/ 46 - 47).
(2)
بدائع الفوائد (1/ 161)، مجموع الفتاوى (6/ 142 - 143)
(3)
رسالة في العقل والروح (2/ 46 - 47).
السنة: "إن الله استوى على العرش بذاته"
فلفظة (بذاته) مراد بها أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له.
وكقولهم: "إن الله عالٍ على خلقه بائن منهم"
فلفظة (بائن) يراد بها إثبات العلو حقيقة، والرد على زعم من قال إن الله في كل مكان بذاته
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة"
(1)
وقال أيضاً: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل
ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا
ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه
ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة، وقالوا إنما قابل البدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل"
(2)
فيستفاد من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الألفاظ على أربعة أقسام:
القسم الأول: الألفاظ المأثورة وهي التي وردت بها النصوص
القسم الثاني: الألفاظ المعروفة وهي التي بُيِّنَت معانيها
القسم الثالث: الألفاظ المبتدعة التي تدل على معنى باطل
القسم الرابع: الألفاظ المبتدعة التي تحتمل الحق والباطل
فلفظ (الذات) و (بائن) هي من القسم الثاني
وهذه الألفاظ كما أسلفنا إنما
(1)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 271).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 254).
تستعمل في باب الإخبار ولا تستعمل في باب الأسماء والصفات، ولذلك لما اعترض الخطابي على استعمالها بقوله:"وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له: إنما أُحْوِجْنَا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز رَدُّها. فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود، كما نقول يد لا كالأيدي؟! "
(1)
فرد شيخ الإسلام ابن تيمية على قول الخطابي من وجوه منها: "أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد، كما توهمه هذا الراد عليهم. وهذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل؛ فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شييء من الموصوفات-كما وصف باليد والعلم-صفة معينة يقال لها الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشييء عن غيره من صفته وقدره"
(2)
فأهل السنة لم يثبتوا بهذه الألفاظ صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة، بل بينوا بها ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته من خلقه وثبوت حقيقته"
(3)
ثانياً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف تارة لإثباتها وتارة لنفيها.
ومن أمثلة ذلك: لفظ (الحد) ولفظ (المماسة)، فإطلاق السلف لها ليس من باب الصفات وإنما هو من باب الإخبار، ولهم في حال الإثبات والنفي توجيه ليس هذا محل بسطه
ثالثاً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف وفي كلام خصومهم.
(1)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 442).
(2)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 442 - 443).
(3)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 445).
ومن أمثلة ذلك: لفظة (الجهة)
رابعاً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام الخصوم ولم يرد استعمالها في كلام السلف.
ومن أمثلة ذلك: لفظ (الجسم) و (الحيز) و (واجب الوجود) و (الجوهر) و (العرض)
وأما النوعان الثالث والرابع فالجواب عن ذلك أن نقول الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:
النوع الأول: نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع.
فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق صاحبه المدح، وإن كان ذماً استحق الذم، وإن أثبت شيئا وجب إثباته، وإن نفى شيئا وجب نفيه، لأن كلام الله حق، وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق
وهذا كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص 1 - 4]، وقوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِن} [الحشر 22 - 23]، ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته
وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11]، وقوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]، وقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة 22 - 23]، وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا كله حق.
النوع الثاني: الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع
فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه
يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب، كلفظ (الجسم) و (الحيز) و (الجهة) و (الجوهر) و (العرض)
(1)
. فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه، ويقولون إن القرآن مخلوق، ولم يتكلم الله به، وينفون رؤيته لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم، ثم يقولون: والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته. وكذلك يقولون إن المتكلم لا يكون إلا جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلماً، ويقولون: لو كان فوق العرش لكان جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز، فلا يكون متكلماً فوق العرش وأمثال ذلك
(2)
الموقف من هذا النوع: "إذا كانت هذه الألفاظ مجملة-كما ذُكر-فالمخاطب لهم إما:
1 -
أن يفصل لهم ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت. وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت
2 -
وأما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً. ولكن يلاحظ
أن الإنسان إذا امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى الجهل والانقطاع
وأن الإنسان إذا تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها"
(3)
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 241 - 241)
(2)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 228).
(3)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 229).
ولعل الراجح في المسألة أن الأمر يختلف باختلاف المَصْلَحَةِ
1 -
فإن كان الخصم في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزام الناس بها أمكن أن يقال له: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لَبَّسَ مُلَبِّسٌ منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: إئتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أدَّاه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم
فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام 102]، وقوله:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء 2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"تجيء البقرة وآل عمران"، وأمثال ذلك من الأحاديث.
أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم
ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟ ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث-وكان من أحذقهم بالكلام-ألزمه التجسيم،
وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً
فأجابه الإمام أحمد: بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله
وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يلد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع، ومقصود المتكلم بها مجمل لا يُعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها
فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً
2 -
وأما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لايمكن أن يرد إلى الشريعة
مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدَّعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك.
أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء
فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدعونها إما:
1 -
بألفاظهم
2 -
وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وحينئذ يقال لهم الكلام إما:
أ-أن يكون في الألفاظ.
ب-وإما أن يكون في المعاني.
جـ-وإما أن يكون فيهما.
فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك
فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً
وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ. كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب
وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة
فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منها تلبيس وإيهام، فلابد من الاستفسار والاستفصال؛ أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات.
وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض)، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره
وليس الأمر كذلك: بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك
وأيضاً: فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا
الله
فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة
(1)
.
الجانب الرابع:
أوجه الجمع والفرق بين الأسماء والصفات الإلهية.
يتبين أوجه الجمع والفرق بين الأسماء والصفات في الأوجه التالية:
أولاً: من جهة اللغة:
يتبين الفرق بين الاسم والصفة في اللغة من خلال ستة فروق
(2)
:
1 -
الأسماء لا يلحقها ضمير الغائب فيقال رحيمه، أو عليمه، بل تلحق الصفات فيقال رحمته وعلمه.
2 -
الصفات لا تضاف إلى الأسماء، فيقال: الله رحمة، بل تضاف الأسماء إلى الصفات فيقال: رحمة الله، والله أعلم.
3 -
الأسماء تنعت بالأسماء فيقال: الله الرحمن الرحيم، وأما الصفات فلا تنعت بالصفات فلا يقال: الرحمة العلم ورحمة علم!!.
4 -
الأسماء لا تضاف إلى لفظ (ذو) فيقال ذو رحيم بل تضاف إليها الصفات فيقال ذو الرحمة
(3)
.
5 -
الصفات لا يدخل عليها لفظ (اسم) فيقال اسم رحمة أو اسم علم، بل يدخل على الأسماء فيقال اسم الرحمن واسم العليم.
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 228 - 233).
(2)
هذه الفروق على وجه العموم وقد تكون هناك شذوذات في اللغة أو أوجه لبعضه لكنها خلاف المشهور إذ المقصود وضع فوارق على وجه التقريب والشمول.
(3)
انظر «أسماء الله الحسنى» للأشقر (64).
6 -
الأسماء لا يلحقها لفظ (صفة) فيقال: الرحمن صفة والعليم صفة، بل تلحق الصفات فيقال: الرحمة صفة والعلم صفة.
ثانيا: من جهة مصادر إثباتها.
وهنا تتفق الأسماء والصفات تماماً، لأن جميع الأسماء والصفات الإلهية توقيفية، قال الإمام أحمد
(1)
: «لا يوصف الله تبارك وتعالى بأكثر مما يوصف به نفسه ولا يتعدى القرآن والحديث»
(2)
. قال الخطابي
(3)
(4)
قال شيخ الإسلام: «صفات الله عز وجل-توقيفية فلا يثبت منها ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله»
(5)
.
ثالثًا: تحديد ضابط الأسماء الحسنى.
لعل أنسب تعريف للأسماء الحسنى، هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيها:
(1)
هو الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الدهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي، أحد أئمة الأعلام. ولد في الربيع الأول سنة (164 هـ)، وتوفي ببغداد يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من الربيع الأول سنة (241 هـ). ومن أشهر مؤلفاته المسند انظر:"تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (4/ 412 - 423)، و"طبقات الحنابلة" لأبي يعلى (1/ 4 - 21)، و"مناقب الإمام أحمد" الابن الجوزي، و"السير" (11/ 177 - 358).
(2)
مسائل أبي داود للإمام أحمد (262).
(3)
هو الإمام العلامة الحافظ اللغوي الرحال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن حطاب البستي الخطابي صاحب التصانيف ولد سنة بضع عشرة وثلاث مائة وتوفي ببست في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. انظر: "السير"(17/ 23 - 28)، و"العبر"(2/ 174)، و"وفيات الأعيان"(2/ 214 - 216)، و"طبقات ابن السبكي"(3/ 282 - 290).
(4)
«شأن الدعاء» (111).
(5)
«مجموع الفتاوي» (5/ 26) وانظر «منهاج السنة» (2/ 523) و «مجموع الفتاوي» (6/ 300) و «معالم التنزيل» للبغوي (3/ 307) و «بدائع الفوائد» لابن القيم (1/ 162).
"الأسماء الحسنى المعروفة: هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها"
(1)
.
وهذا التعريف في اعتقادي هو أصلح وأفضل تعريف للأسماء الحسنى وذلك:
أولا: لموافقته للنص الشرعي، ولعل شيخ الإسلام ابن تيمية استقاه من قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: الآية: 180.
فقوله في التعريف: "هي التي يدعى بها" مأخوذ من قوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} .
وقوله: "هي التي وردت في الكتاب والسنة" مأخوذ من قوله: {الأَسْمَاءُ} (فالألف واللام هنا للعهد، فالأسماء بذلك، تكون معهودة ولا معروف في ذلك إلا ما نص الله عليه في كتابه أوسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقوله: (وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها) مأخوذ من قوله تعالى: {الْحُسْنَى} فالحسنى تأنيث الأحسن، والمعنى أن أسماء الله أحسن الأسماء وأكملها، (فما كان مسماه منقسما إلى كمال ونقص وخير وشر لم يدخل اسمه في الأسماء الحسنى)
(3)
.
وبهذا يتضح لك أن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريف الأسماء الحسنى هو مطابق لما ذكره الله في كتابه العزيز. وهذا وحده يكفي في اختيار هذا التعريف.
ثانيا: مما يؤكد صحة هذا التعريف اشتماله على شرطين للاسم هما:
الشرط الأول: ورود النص من القرآن أو السنة بذلك الاسم.
والشرط الثاني: صحة الإطلاق، وذلك أن يقتضي الاسم المدح والثناء بنفسه.
(1)
شرح العقيدة الأصفهانية ص 5
(2)
المحلى لابن حزم 1/ 29
(3)
مدارج السالكين 3/ 415، 416.
وهذان الشرطان يحققان للتعريف مقوماته بأن يكون جامعا لجوانب الشيء ومانعا من دخول غيره فيه.
فالشرط الأول: يؤكد على كون أسماء الله توقيفية، وأنه لا يجوز استعمال القياس فيها.
والشرط الثاني: يؤكد على خاصية باب الأسماء وأنه أخص من باب الصفات وباب الإخبار.
رابعًا: باب الأفعال أوسع من باب الأسماء:
إذا كان الاسم مشتقا من أفعاله القائمة به، فإن كان الفعل ورد مقيدا فإنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدا أن يشتق له منه اسم مطلق، كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى "المضل، الفاتن، الماكر تعالى الله عن قوله، فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعالا مخصوصة معينة فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة، والله أعلم) 2.
قال ابن القيم رحمه الله: (الفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا لم يتسم منها أسماء الفاعل، كأراد، وشاء، وأحدث. ولم يسم "بالمريد" و"الفاعل" و"المتمن" وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه. فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء. وقد أخطأ-أقبح خطأ-من اشتق له من كل فعل اسما، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف فسماه "الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد" ونحو ذلك)
(1)
.
وقال الشيخ حافظ حكمي: (اعلم أنه قد ورد في القرآن أفعال أطلقها الله عز وجل على نفسه على سبيل الجزاء والعدل والمقابلة، وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال،
(1)
مدارج السالكين 3/ 415.
لكن لا يجوز أن يشتق له تعالى منها أسماء ولا تطلق عليه في غير ما سيقت فيه من الآيات، كقوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} النساء: الآية: 142. وقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} الأنفال: الآية: 30. وقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} التوبة: الآية 67.
وقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} البقرة: الآيتان 14 - 15. ونحو ذلك، فلا يجوز أن يطلق على الله تعالى مخادع، ماكر، ناس، مستهزئ، ونحو ذلك مما تعالى الله عنه، ولا يقال: الله يستهزئ ويخادع ويمكر وينسى على سبيل الإطلاق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا)
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: (إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقا، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى، ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه تعالى الماكر، المخادع، المستهزئ، الكائد- فقد فاه بأمر عظيم تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه، وغز قذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال، فاشتق له منها أسماء، وأسماؤه تعالى كالها حسنى فأدخلها في الأسماء الحسنى وقرنها بالرحيم، الودود، الحكيم، الكريم، وهذا جهل عظيم، فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقا، بل تمدح في موضع وتذم في موضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله تعالى مطلقاً، فلا يقال إنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزئ ويكيد، فكذلك بطريق الأولى لا يشتق له منها أسماء ويكفى بها، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى المريد والمتكلم ولا الفاعل ولا الصانع لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم، وإنما يوصف بالأنواع المحمودة منها كالحليم والحكيم والعزيز والفعال لما يريد، فكيف يكون منها الماكر والمخادع والمستهزئ.
(1)
معارج القبول (1/ 76).
ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى الداعي، والآتي، والجائي، والذاهب، والقادم، والرائد، والناسي، والقاسم، والساخط، والغضبان، واللاعن، إلى أضعاف ذلك من التي أطلق تعالى على نفسه أفعالها من القرآن، وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، والمقصود أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق فكيف من الخالق سبحانه وتعالى اهـ
(1)
ومن هنا يتبين لك خطأ ما عده بعضهم ومنهم ابن العربي المالكي في كتابه أحكام القرآن، حيث سماه بالفاعل والزارع، فإن الفاعل والزارع إذا أطلقا بدون متعلق ولا سياق يدل على وصف الكمال فيهما فلا يفيدان مدحا، أما في سياقها من الآيات التي ذكرت فيها فهي صفات كمال ومدح وتوحد كما قال تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء: الآية 104، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} الواقعة: الآيتان 63، 64. الآيات، بخلاف ما إذا عدت مجردة عن متعلقاتها وما سيقت فيه وله، وأكبر مصيبة أن عد في الأسماء الحسنى رابع ثلاثة، وسادس خمسة مصرحا قبل ذلك بقوله: وفي سورة المجادلة اسمان فذكرهما. وهذا خطأ فاحشة، فإن الآية لا تدل على ذلك ولا تقتضيه بوجه، لا منطوقا ولا مفهوما، فإن الله عز وجل قال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ =-هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أنى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ] المجادلة: الآية 7 [. الآية. وأين في هذا سياق رابع ثلاثة، سادس خمسة؟ وكان حقه اللائق بمراده أن يقول: رابع كل ثلاثة في نجواهم وسادس كل خمسة كذلك، فإنه تعالى يعلم أفعالهم ويسمع
(1)
مختصر الصواعق 2/ 34.
أقوالهم كما هو مفهوم صدر الآية، ولكن لا يليق بهذا المعنى إلا سياق الآية والله تعالى أعلم)
(1)
.
أقسام الأسماء بحسب ورودها.
تنقسم الأسماء الحسنى بحسب ورودها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الأسماء المفردة.
القسم الثاني: الأسماء المقترنة.
القسم الثالث: الأسماء المزدوجة.
فالقسم الأول: الأسماء المفردة.
وضابطها: ما يسوغ أن يطلق عليه مفردا.
وهذا يقع في غالب الأسماء.
مثالها: الرحمن، السميع، الرحيم، القدير، الملك
…
وهذا القسم يسوغ أن يُدعى به مفرداً، فتقول: يا عزيز، أو يا حكيم، أو يا غفور، أو يا رحيم.
ومقترنا بغيره، فتقول: يا عزيز يا حكيم، يا جواد يا عظيم.
وهكذا في حال الثناء عليه أو الخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد مثل أن تقول: الله غفور، أو الله رحيم.
أو الجمع، مثل أن تقول: الله غفور رحيم، الله عزيز حكيم.
القسم الثاني: الأسماء المقترنة.
وضابطها: ما يُطلق عليه مقترنا بغيره من الأسماء.
(1)
معارج القبول 1/ 76، 78.
وهذا أيضا يقع في غالب الأسماء.
مثالها: العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، الرحمن الرحيم، السميع البصير.
وهذا القسم يسوغ أن يُدعى به مفردا، فتقول: يا عزيز، أو يا حكيم، أو يا غفور، أو يا رحيم.
ومقترنا بغيره فتقول: يا عزيز يا كريم، أو يا غفور يا رحيم
وهكذا في حال الثناء عليه أو الخبر عنه بما يسوغ لك:
الإفراد مثل أن تقول:
الله عزيز، الله كريم.
أو الجمع:
مثل أن تقول: الله العزيز الحكيم، الله الرحمن الرحيم.
وكما يكون الحسن في أسماء الله باعتبار كل اسم على انفراده فكذلك يكون باعتبار جمعه إلى غيره فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمالٌ فوق كمال.
مثال ذلك: "العزيز الحكيم" فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيرا، فيكون كل منهما دالا على الكمال الخاص الذي يقتضيه وهو: العزة في العزيز؛ والحُكمُ والحكمة في الحكيم.
والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظُلما وجورا وسوء فعل كما قد يكون من أعزّاء المخلوقين. فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ويسيءُ التَّصرف.
وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعزِّ الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته، فإنهما يعتريهما الذُّلُّ
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهناك صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو: الغني الحميد، العفو القدير، الحميد
(1)
القواعد المثلى: ص: 7 ـ 8
المجيد؛ وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغنى صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغِنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه وثناء من حمده وثناء من اجتماعهما، وكذلك العفوُّ القدير، الحميد المجيد، العزيز الحكيم، فتأمله فإنه من أشرف المعارف"
(1)
القسم الثالث: الأسماء المزدوجة:
وضابطها: ما لا يُطلق عليه بمفرده بل مقرونا بمقابله؛ لأن الكمال في اقتران كل اسم منها بما يقابله.
الأسماء المزدوجة يجب أن تجري مجرى الاسم الواحد ولا يُفصل بينها.
مثل: "الأول-الآخر" ودليله: قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} (الحديد: الآية: 3).
ومثل: "الظاهر-الباطنُ" ودليله: قوله تعالى: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (الحديد: الآية: 3) ..
خامسًا: الفرق بين الاسم والصفة؟
الاسم: هو اللفظ الموضوع للشيء للتعيين والتمييز.
وأسماء الله تعالى: هي ما دلَّت على الذات وما قام بها من الصفات.
وأما صفات الله تعالى: فهي ما قام بالذات.
وفي أسماء الله تعالى قاعدة مهمة وهي: (العَلَمِيَّةُ لا تُنافي الوصفية)، أما في أسماء الناس فقد يسمى الرجل شجاعًا، وهو لا يعرف شيئًا عن الشجاعة، فله الاسم دون الصفة، أما أسماء الله تعالى فالعلمية لا تنافي الوصفية، فالله تعالى له الأسماء وله ما اشتملت عليها من الصفات.
قال ابن القيم رحمه الله: ((أسماء الله الحسنى هي أعلامٌ وأوصافٌ، والوصفُ بها
(1)
بدائع الفوائد 1/ 161.
لا ينافي العلمية؛ بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم؛ لأن أوصافهم مشتركة، فَنَافَتْها العلمية المختصة، بخلاف أوصاف الله تعالى))
(1)
.
وقال رحمه الله: ((أسماء الرب تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء نبيه صلى الله عليه وسلم: هي أعلام دالة على معان هي بها أوصاف، فلا تضاد فيها العلميةُ الوصفَ بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين، فهو الله الخالق البارئ المصوِّر القهَّار؛ فهذه أسماء له دالة على معان هي صفاته
…
))
(2)
.
قال شيخ الإسلام: «أسماء الله الحسنى هي التي وردت في الكتاب والسنة والتي يُدعى بها، والتي تقتضي المدح والثناء بنفسها»
(3)
.
وقوله: "تقتضي المدح والثناء بنفسها"، أي: أن أسماءه كلها حسنى، وكلمة (حسنى) تصريفها: حُسنَى على وزن "فُعلَى" تأنيث أفعل التفضيل، فحسنى تأنيث أحسن، ككبرى تأنيث (أكبر)، وصغرى تأنيث أصغر، ولذلك يخطئ من يقول: إنها تأنيث (حسن)، لأن تأنيث (حسن)(حسنة)، ومن أجل ذلك لا يصح أن نقول: إن أسماء الله حسنة، والصَّواب هو أن نقول: إن أسماء الله حسنى كما وصفها الله بذلك.
ومعنى حسنى: المفضلة على الحسنة، أي: البالغة في الحسن غايته.
والمعنى العام للآية: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} : لله أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها.
وقد ورد ذكر الأسماء الحسنى في القرآن في أربعة مواضع:
- قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
(1)
بدائع الفوائد 1/ 162.
(2)
جلاء الأفهام ص 133، 134.
(3)
انظر: شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (ص: 31).
- وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].
- وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8].
- وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى} [الحشر: 24].
وقد ورد في هذه المواضع الأربعة ذكر خاصية متعلقة بالأسماء دون الصفات، وهي أن الأسماء كلها حسنى، وأما الصفات فليست فيها هذه الخاصية، ولذلك فإن الصفات لا يُشتق منها أسماء لله تعالى، فالأسماء أخصُّ من الصفات.
وقولنا في تعريف الصفة: "ما قام بالذات" يخرج من هذا التقييد ما كان من إضافة المُلْك والتشريف، إذ الإضافة إلى الله نوعان:
النوع الأول: إضافة مُلْك وتشريف وضابطها: كل ما يضاف إلى الله ويكون عينًا قائمة بنفسها، أو حالًا في ذلك القائم بنفسه.
ومثال ما يضاف ويكون عينًا قائمة بنفسها قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} .
ومثال ما يكون حالًا في ذلك القائم بنفسه قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] فهذا لا يكون صفة؛ لأن الصفة قائمة بالموصوف.
النوع الثاني: إضافة الصفة إلى الله وضابطها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به وهي المقصودة هنا.
فالله تعالى لا يتصف إلا بما قام به، لا بما يخلقه في غيره، وهذا حقيقة الصفة، فإن كل موصوف لا يوصف إلا بما قام به لا بما هو مباين له، صفة لغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما إضافة الوصف إلى الله فتعريفها: ما كان صفة
قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به"
(1)
.
سادسًا: أقسام الصفات:
تنقسم الصفات باعتبار ورودها في النصوص إلى ثلاثة أقسام:
1 -
الصفات الثبوتية
2 -
الصفات السلبية (أي: المنفية عن الله تعالى).
3 -
صفات من باب الإخبار عن الله تعالى.
القسم الأول: الصفات الثبوتية
تعريفها: أنها هي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والصفات الثبوتية كثيرة جدًّا؛ منها: العلم- والحياة- والعزة- والقدرة- والحكمة- والكبرياء- والقوة- والاستواء- والنزول- والمجيء، وغيرها.
والصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية.
إضافة إلى أن معرفة الله تعالى الأصل فيها صفات الإثبات، وأما السلب فهو تابع ومقصوده تكميل الإثبات، بل كل تنزيه مدح به الرب ففيه إثبات.
أقسام الصفات الثبوتية:
الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الذاتية:
وهي الصفات التي لا تنفكُّ عن الذَّات
(2)
. أو: التي لم يَزل- ولا يزال- الله
(1)
انظر: رسالة العقل والروح مطبوعة ضمن الرسائل المنيرية (2/ 38 - 39).
(2)
«الكواشف الجلية» (429).
متصفًا بها. أو: الملازمة لذات الله تعالى
(1)
.
ومنها: (الوجه- اليدين- العينين
(2)
- الأصابع- القَدَم- العِلم- الحياة- القدرة- العزة- الحكمة).
فهذه الصفات لا تنفك عن الذات، وملازمة لها لا تنفك عنها.
القسم الثاني: الصفات الفعلية:
وهي الصفات التي تنفكُّ عن الذَّات. أو: التي تتعلق بالمشيئة والقدرة
(3)
.
ومنها: (الاستواء- المجيء- الإتيان- النزول- الخلق- الرزق- الإحسان- العدل).
وكِلا النوعين يجتمعان في أنَّهما صفات له تعالى أزلًا وأبدًا، لم يزل متصفًا بهما ماضيًا ومستقبلًا لائقان بجلال ربِّ العالمين
(4)
.
والفرق بين القسمين:
أنَّ الصفات الذاتية لا تنفكُّ عن الذات، أمَّا الصفات الفعلية يمكن أن تنفك عن الذات على معنى: أنَّ الله إذا شاء لم يفعلها.
ولكن مع ذلك فإنَّ كلا النوعين يجتمعان في أنَّهما صفات لله تعالى أزلًا وأبدًا لم يزل- ولا يزال- متصفًا بهما ماضيًا ومستقبلًا لائقان بجلال الله عز وجل
(5)
.
(1)
«التعريفات» للجرجاني (ص 133).
(2)
«مجموع الفتاوى» (6/ 68).
(3)
«التعريفات» للجرجاني (ص 133).
(4)
شرح العقيدة الطحاوية» (127).
(5)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 127).
صفة ذاتية وفعلية معًا:
وهناك صفات يصدق عليها أنها ذاتية وفعلية معًا مثل صفة الكلام، فإنها باعتبار أصلها صفة ذات، وباعتبار تعلقها بالمشيئة صفة فعل.
فالكلام (صفةُ ذاتٍ وفعلٍ)؛ فهو- سبحانه- يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته.
وكلُّ ما كان بعد عدمه- فإنَّما يكون بمشيئة الله وقدرته
(1)
، وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو مِنْ الصفات الاختيارية
(2)
، والصفات الصادرة عن الأفعال موصوف بها في القِدَم، ولم تتغير ذاته من أفعاله، ولم يكتسب عن أفعاله صفات كمال، فهو- سبحانه- لم يزل كريمًا خالقًا.
تقسيم آخر للصفات الثبوتية:
تنقسم الصفات الثبوتية باعتبار لزومها وتعديها إلى قسمين:
1 -
صفات متعدية
(1)
«مجموع الفتاوى» (6/ 219).
(2)
«مجموع الفتاوى» (6/ 244).
2 -
صفات لازمة
وتنقسم الصفات الثبوتية أيضًا من جهة أخرى إلى قسمين:
1 -
صفات لازمة: أي لازمة للذات لا تنفك عنها.
2 -
صفات عارضة: أي متعلقة بالمشيئة.
وتنقسم هذه الصفات اللازمة إلى قسمين:
1 -
صفات ذاتية
2 -
صفات معنوية
وتنقسم الصفات العارضة (وتسمى: الاختيارية) إلى قسمين:
1 -
صفات من باب الأفعال
2 -
صفات من باب الأقوال
3 -
صفات من باب الأحوال
شرح هذا التقسيم السابق:
تنقسم الصفات من جهة تعلقها بمتعلقها إلى قسمين:
1 -
الصفات المتعدية: وهي ما تعدَّت لمفعولها بلا حرف جرٍّ؛ مثل: (خَلَقَ، ورَزَقَ، وهَدَى، وأَضَلَّ)، ونحوها.
2 -
الصفات اللازمة: وهي ما تتعدى لمفعولها بحرف جر؛ كـ (الاستواء والمجيء والإتيان والنزول)، ونحوها.
وإنَّما قسمت كذلك نظرًا للاستعمال القرآني من جهة، ولكونها في اللغة كذلك
(1)
؛ قال ابن القيم: «فأفعاله نوعان: لازمة ومتعدية، كما دلَّت النصوص التي هي أكثر من أن تُحصر على النوعين»
(2)
.
(3)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (6/ 233)، (5/ 518)، «التنبيهات السنية» (ص 69).
(2)
«مختصر الصواعق» (2/ 229).
(3)
«مختصر الصواعق (2/ 254)، بتصرف يسير.
فأثبت أهلُ السنة جميع الصفات؛ الذاتية- منها- والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلًا، وأنَّ الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القِدَم، وإن كانت المفعولات مُحدثة
(1)
.
شرح التقسيم الآخر للصفات الثبوتية:
وتنقسم الصفات الثبوتية من جهة أخرى إلى قسمين:
القسم الأول: الصِّفات اللازمة
وتعريفها: هي الصفات اللازمة للموصوف لا تُفارقه إلا بعدم ذاته.
أو بعبارة أخرى: هي الصفات التي لا تنفكُّ عن الذات
(2)
.
وتنقسم هذه الصفات اللازمة إلى قسمين:
1 -
الصفات الذاتية:
وهي التي لا يُمكن تصور الذات مع تصور عدمها.
ومنها: (الوجه- اليد- الأصبع- العين- القَدَم)
(3)
.
2 -
الصفات المعنوية:
وهي ما يُمكن تصور الذات مع تصور عدمها.
ومنها: (الحياة- العلم- القدرة- العزة- العظمة- الكبرياء- الملك- الحكمة- السمع- البصر). فإنها أمور معنوية.
القسم الثاني: الصفات العارضة
(1)
«مجموع الفتاوى» (6/ 149، 520، 525).
(2)
«درء تعارض العقل والنقل» (3/ 321 - 324).
(3)
ليس المقصود بالذاتية: ما يَلزم الذَّات؛ إذ الجميع لازم الذات.
وتسمى الصفات الاختيارية، وهي الصفات التي يُمكن مفارقتها للذات مع بقاء الذات. أو: الصفات التي تنفكُّ عن الذات. أو: الصفات التي تتعلق بالمشيئة والقدرة.
تقسيم الصفات العارضة (الاختيارية)
1 -
صفات مِنْ باب الأفعال: كـ (الاستواء، والاتيان، والمجيء، والنزول).
2 -
صفات من باب الأقوال والكلمات: (التَّكليم والنداء، والمناجاة، والقول).
3 -
صفات من باب الأحوال: كـ (الفرح، والغضب، والرِّضا، والضحك)
(1)
.
فكلُّ ما كان بعد عدمه، فإنَّما يكون بمشيئة الله وقدرته، وهذا ضابط ما يدخل في الصفات الاختيارية
(2)
. وضابطها: هي الأمور التي يتصف بها الربُّ عز وجل؛ فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته
(3)
.
والصفات الاختيارية أعمُّ من الصفات الفعلية؛ لأنها تشمل بعض الصفات الذاتية التي لها تعلق بالمشيئة؛ مثل: (الكلام، السمع، البصر، الإرادة، المحبة، الرضا، الرحمة، الغضب، السخط).
كما أنها- أي: الصفات الاختيارية- تشمل الصفات الفعلية غير الذاتية.
مثل: (الخلق، الإحسان، العدل)، وهذه فعلية متعدية.
ومثل: (الاستواء، المجيء، الإتيان، النزول)، وهذه فعلية لازمة.
القسم الثاني: الصفات السلبية:
تعريفها: هي ما نفاه الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1)
«درء تعارض العقل والنقل» (4/ 23)، بتصرف.
(2)
«مجموع الفتاوى» (6/ 244)، بتصرف.
(3)
«مجموع الفتاوى» (6/ 217).
والصفات المنفية كلها صفات نقص في حقه، ومن أمثلتها: النوم- الموت- الجهل- النسيان- العجز- التعب - الظلم. فيجب نفيها عن الله عز وجل مع إثبات أن الله موصوف بكمال ضدها.
تقسيم الصفات السلبية:
إن سلب النقائص والعيوب عن الله نوعان:
النوع الأول: سلبٌ لمُتَّصِل:
وضابطه: نفي كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كنفي الموت المنافي للحياة، والعجز المنافي للقدرة، والسِّنة والنوم المنافي لكمال القيومية، والظلم المنافي للعدل، والإكراه المنافي للاختيار، والذل المنافي للعزة
…
، إلخ.
النوع الثاني: سلبٌ لِمُنفصل:
وضابطه: تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد مِنْ خلقه في شيء من خصائصه التي لا تَنبغي إلا له.
وذلك كنفي الشريك له في ربوبيته؛ فإنَّه منفرد بتمام الملك والقوة والتدبير.
وكنفي الشريك له في أُلوهيته، فهو وحده الذي يجب أن يُؤلهه الخلق، ويُفردوه بكل أنواع العبادة والتعظيم.
وكنفي الشريك له في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فليس لغيره من المخلوقين شِركة معه سبحانه في شيء منها.
وكذلك نفي الظَّهير الذي يُظاهره أو يعاونه في خلق شيء أو تدبيره؛ لكمال قدرته وسَعة علمه ونفوذ مشيئته، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة إلا بالله؛ فالشريك والظهير مَنفيان عنه بإطلاق.
وكذلك ينفى عنه سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نَسَبه إليه النصارى عابدو الصُّلبان، والصابئة الذين يقولون: إن الملائكة بنات الله؛ قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ}
(1)
.
تقسيم الأشاعرة للصفات:
قسم الأشاعرة الصفات إلى أربعة أقسام:
1 -
صفات المعاني 2 - الصفات المعنوية
3 -
الصفات السلبية 4 - الصفة النفسية.
ويثبتون من صفات المعاني سبعة منها فقط، وهي:(الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام). ونفوا ما عداها من صفات المعاني كالرأفة والرحمة والحلم، وغيرها.
المسألة الثانية: أن قول أهل السنة في هذا الباب مبني على أصلين هما:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات.
بين المصنف الفرق بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل التعطيل من جهة وعقيدة أهل التمثيل من جهة أخرى.
الجانب الأول: موقف أهل السنة.
(1)
انظر: «شرح القصيدة النونية» للهراس (2/ 56 - 58)، و «الصفات الإلهية- تعريفها، أقسامها» ، للشارح (ص 63، 64)، نشر دار أضواء السلف، الرياض، السعودية، الطبعة: الأولى، 1422 هـ/ 2002 م.
فأهل السنة قولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات"
(1)
.
فيعتقدون أن ما اتصف الله به من الصفات لا يُماثله فيها أحد من خلقه، فالله عز وجل قد أخبرنا بذلك بنصِّ كتابه العزيز حيث قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، فإذا ورد النص بصفة من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة-فيجب الإيمان به والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصفَ بالغٌ من غايات الكمال والشرف والعلو مما يَقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين؛ فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يَسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تُشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المُصَدِّق بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يكون معظِّمًا لله جل وعلا غير مُتنجس بأقذار التشبيه؛ لتكون أرضُ قلبِه طيبةً طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه أخذًا بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11
(2)
.
فمن أصول أهل السنة والجماعة وجوب صيانة توحيد الأسماء والصفات مما يضاده، وعقيدة المسلم من أن يتطرق إليها ما يُناقضها من الاعتقاد الفاسد في ذات الله تعالى وصفاته؛ لأن من الواجب أن يُقَدِّر الله حق قدره، ويُعظِّمَهُ حق تعظيمه، ولا يتأتى ذلك إلا بإثبات صفات الله تعالى كما وردت، وتنزيهه عن التعطيل
والتمثيل، وعدم وصفه بما لم يصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والحذر من الأمور المفضية إلى التشبيه أو التعطيل، من تحريف مفضٍ إلى التعطيل، أو تكييف مفضٍ إلى التمثيل"
(1)
.
ومن تقرير العلماء لهذين الأصلين في باب أسماء الله وصفاته:
• قال الإمام أبو عثمان الصابوني
(2)
رحمه الله: ((وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف، والتشبيه، والتكييف، ومَنَّ عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11])
(3)
.
• وقال الإمام أبو القاسم التيمي الأصبهاني
(4)
رحمه الله: ((وإنما نقول: وجب إثباتها
(5)
؛ لأن الشرع ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، كذلك قال علماء السلف في أخبار الصفات: أمروها كما جاءت))
(6)
.
• وقال الخطيب البغدادي-رحمه الله-مشيراً إلى هذا المعنى الجليل: "أما الكلام في
(1)
مقالة التشبيه (1/ 357).
(2)
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري، أبو عثمان الصابوني، الإمام المفسر المحدث الواعظ، من أئمة أهل السنة في زمانه، له كتاب عقيدة السلف وأصحاب الحديث، توفي سنة 449 هـ.
انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (18/ 40)، شذرات الذهب (3/ 282).
(3)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص (162 - 164).
(4)
إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي، أبو القاسم الأصبهاني، الإمام العلامة الحافظ، الملّقب بقَوَّام السُنَّة، صاحب الترغيب والترهيب، والحجة في بيان المحجة، ودلائل النبوة، توفي سنة 535 هـ.
انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (20/ 80)، الوافي بالوفيات (9/ 211).
(5)
أي: الصفات.
(6)
الحجة في بيان المحجة (2/ 288).
الصفات، فإن ما رُوي منها في السنن الصحاح، مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، وقد نفاها قومٌ فأبطلوا ما أثبته الله، وحقّقها قومٌ من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضروب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي والمقصر عنه
…
"
(1)
.
• وقال الإمام ابن القيم-رحمه الله"فلم يتلوثوا بشيء من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات، فكان مذهبهم وسطاً بين مذهبين، وهدًى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلِّين، والمخيِّلين، والمجهلِّين، والمشبِّهين، كما خرج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، فقالوا نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ ولا تمثيل، بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات"
(2)
.
فقد بيّنوا-رحمهم الله-منهج السلف في الصفات، فذكروا أنه منهج يتميز بالوسطية؛ لجمعه بين الإثبات والتنزيه، إثبات صفات الله عز وجل كما وردت، مع تنزيه الله تعالى عن مماثلة المخلوقين.
الجانب الثاني: مواقف المخالفين.
كل من فريقي التعطيل والتشبيه قد كذَّب بمضمون قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11 [.
فالمشبِّهة: كذَّبوا بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وبكل نصوص تنزيه الله عز وجل عن مماثلة المخلوقين.
(1)
جواب سؤال بعض أهل دمشق عن الصفات ص (64 - 65).
(2)
الصواعق المرسلة (2/ 426)، وانظر:(1/ 229).
والمعطِّلة: كذَّبوا بقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وبكل نصوص إثبات الصفات لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه.
أمَّا أهل التعطيل: فإنَّهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات التي لا وجود لها إلا في أفهامهم الفاسدة.
فعقيدة هؤلاء المعطلة جمعت بين التمثيل والتعطيل، وهذا الشر إنَّما جاء من تنجس قلوبهم وتدنسها بأقذار التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه؛ كاستوائه على عرشه ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال.
فإن أول ما يخطر في أذهانهم أن هذه الصفة تشبه صفات الخلق؛ فيتلطخ القلب بأقذار التشبيه؛ فلم يقدر الله حقَّ قدره، ولم يُعَظِّم الله حقَّ عظمته؛ حيث سبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيكون أولاً نجَّس القلب بأقذار التشبيه، ثم دعاه ذلك إلى أن ينفي صفة الخالق جلَّ وعلا عنه بادِّعاء أنها تشبه صفات المخلوق، فيكون فيها أولاً مشبهًا، وثانيًا معطلاً ضالًّا ابتداءً وانتهاءً متهجمًا على ربِّ العالمين يَنفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق
(1)
.
وأمَّا عقيدة أهل التمثيل: فهي تقوم على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نَعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة؛ فشَبَّهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا: له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
فالمشبهة تعمقوا في شأن كيفيات صفات الله وتَقَوَّلوا على الله بغير علم، فقالوا: له بصرٌ كبصري، ويدٌ كيدي، وقَدَمٌ كقدمي، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
وكل مَنْ تجرأ على شيء من ذلك فقوله من الغُلو في الدين والافتراء على الله
(1)
انظر: «منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات» (ص 19، 20).
عز وجل، واعتقاد ما لم يأذن به الله ولا يليق بجلاله وعظمته ولم ينطق به كتاب ولا سنة، ولو كان ذلك مطلوبًا من العباد في الشريعة لبَيَّنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يَدَع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بَيَّنه ووَضَّحه، والعباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما عَلَّمَهم، كما قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ؛ فليؤمن العبد بما عَلَّمه الله تعالى وليقف معه، وليُمسك عما جهله، وليكل معناه إلى عالمه»
(1)
.
وخلاصة القول: أن عقيدة أهل السنة تتميز عن عقيدة المشبهة، بأن أهل السنة يُفَوِّضون علم كيفية اتصاف الباري عز وجل بتلك الصفات إلى الله عز وجل، فلا عِلم للبشر بكيفية ذات الله تبارك وتعالى، «ولا تفسير كُنه شيء من صفات ربنا تعالى؛ كأن يقال: استوى على هيئة كذا.
فالعارفون به، المُصدقون لرسله، المُقرون بكماله فهم يُثبتون لله جميع صفاته، ويَنفون عنه مشابهة المخلوقات، فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سَيئتين، وهدًى بين ضلالتين.
تفصيل الإثبات وإجمال النفي في رسالة الرسل
المتن
قال المصنف رحمه تعالى: "والله- سبحانه وتعالى بَعَثَ رُسُلَه بإثبات مفصَّل، ونفي مجمل؛ فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَمَ الآية: 65]، قال أهل اللغة:{هل تعلم له سميًّا} ، أي: نظيرًا يستحق مِثْل اسمه، ويقال: مُسامِيًا يُسامِيه. وهذا
(1)
انظر: «معارج القبول» (1/ 326، 327).
معنى ما يروى عن ابن عباس: هل تعلم له مِثْلًا أو شبيهًا. وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ • وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وقال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} ، وقال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ • بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وقال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا • الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} ، وقال تعالى:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ • أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ • أَلَا إِنَّهُمْ مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ • وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ • أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ • مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ • أَفَلَا تَذَكَّرُونَ • أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ • فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ • وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ • سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ • إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} إلى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ • وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ • وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فَسَبَّح نفسَه عما يصفه المفترون المشركون، وسلَّم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحَمِد نفسه؛ إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات.
وأما الإثبات المفصَّل؛ فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته، كقوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية بكمالها] البقرة: الآية 255]، وقوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ • اللَّهُ الصَّمَدُ • لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ • وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ] الإخلاص الآيات: 1 إلى 4 [وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}] التحريم الآية: 2]، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}] الروم الآية: 54]، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}] الشورى الآية: 11]، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}] الجاثية الآية: 37]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}] يونس الآية: 107]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ • ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ • فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}] البروج الآيات: 13 - 14 - 15]، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ • هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}] الحديد الآيات: 3 - 4 [. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}] المائدة الآية: 54]، وقوله:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ] التوبة الآية: 100]، وقوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} ] النساء الآية: 93]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} ] غافر الآية: 10]، وقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} ] البقرة الآية: 210]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ] فصلت الآية: 11] ..
وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ] النساء الآية: 164]، وقوله:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ] مريم الآية: 52]، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ] القصص الآية: 62]، وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ] يس: 82 [.
إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته
بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلى الله عليهم أجمعين».
الشرح
إن الله عز وجل جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات، ويقرر أهل السنة أن النفي والإثبات على حد سواء في وجوب الوقوف فيهما على ما ورد في الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة على طريقة النفي المجمل والإثبات المفصّل لصفات الله عز وجل، فلابد من أن يكون إيماننا بصفات الله عز وجل مبنياً على هذا الأصل؛ لما فيه من كمال تعظيم الله عز وجل، ووصفه بما يليق به من صفات الكمال ونعوت الجلال، وتنزيهه عن النقائص والعيوب.
فالصفات الثُّبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر.
وهي أكثر من الصفات السلبية، إذ معرفة الله قائمة على الصفات الإثبات، وأما الصفات السَّلبية فلا تراد لذاتها، وإنما لأنها تابعة للثبوتية ومكملة لها، وفي الحقيقة أن كلَّ تنزيهٍ مُدِح به الربُّ ففيه إثباتٌ
(1)
.
وهنا تجدر الإشارة إلى أمور مهمة، وهي:
الأمر الأول: أنَّ معرفة الله ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع، ومقصوده: تكميل الإثبات
(2)
.
فالإجمال في النفي أدلُّ على التنزيه فإنه كلّما كثرت صفات الكمال الثبوتية، مع
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112) بتصرف.
(2)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112).
تنوّع دلالاتها، كلّما ظهر من كمال الموصوف بها -وهو الله عز وجل ما هو أكثر وأعظم، وكلّما أُجمل في النفي، كان أدلّ على التنزيه من كل وجه، وأبلغ في تعظيم الموصوف، فإن تفصيلها لغير سبب يقتضيه فيه سخرية وتنقُّص للموصوف
(1)
.
(2)
.
ومقصود أهل السنة والجماعة بأن النفي يكون مجملاً: أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص
(3)
، وذلك بتسليط النفي على ما يُضاد الكمال من النقائص والعيوب في سياق عام مستغرق لأفراده بلا تعيين
(4)
.
ومرادهم من أن النفي يأتي مجملاً، والإثبات مفصلاً، إنما ذلك لو فيما قارنا جانب النفي مع جانب الإثبات، ولا يقال أبداً أن ما ذُكر من أمثلة قد تظهر أنها كثيرة، معارض لهذه القاعدة؛ فإن جانب الإثبات لا يمكن أن يحاط به بحال، وله سبحانه وتعالى من الكمالات التي يحمد عليها ما لم يطلِّع عليه أحد، وما لا يُطلَّع عليه إلا يوم القيامة، كما دل على ذلك الحديث المشهور بسيد الاستغفار، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَا أَصَابَ عَبْداً قَطٌ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمِ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ
(1)
انظر: تقريب التدمرية ص (18 - 19).
(2)
«شرح القصيدة النونية» للهراس (2/ 55).
(3)
انظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس ص (29).
(4)
انظر: القواعد الكلية ص (153).
فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ
…
)) الحديث
(1)
.
والشاهد من الحديث قوله: ((أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ
…
))، دليل على أن أسماء الله عز وجل منها ما هو غير معلوم للبشر، وأسماؤه سبحانه وتعالى مشتقة
من صفاته، فدلَّ على أنَّ له صفات أخرى لم يطلع عليها أحد.
وقوله صلى الله عليه وسلم في سجوده: ((اللَّهُمَ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))
(2)
.
ووجه الشاهد قوله: ((لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))، فإنه لو أحصى ثناءً عليه، لأحصى أسماءه، وبالتالي يحصي صفاته؛ لأنها مشتقة منها.
ومما يدلّ على كثرة الإثبات أيضاً أن ما من نفي ورد في النصوص إلا وهو متضمن لإثبات كمال ضد ذلك الأمر المنفي.
وهذا كله يدلُّ على أن صفاته الثبوتية أكثر مما نعلم ولا يطيق أحدٌ حصرها
ولا عدَّها، وفي ذلك دليل على قلة ما ورد من النفي بجانب الإثبات
(3)
.
طريقة القرآن والسنة الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات
فهذا هو المنهج الذي جاءت به الرسل، ودلَّ عليه القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وسار عليه السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أهل السنة والجماعة، حيث آمنوا بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بأنه الله الواحد الأحد،
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 246) برقم (3712)(ط/ الرسالة)، وابن حبان، انظر: موارد الظمآن رقم (2372)، والحاكم في المستدرك (1/ 509)، والطبراني في الكبير رقم (10352)، وصححه الألباني رحمه الله -كما في السلسلة الصحيحة (1/ 336) رقم (199).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 426 مع النووي)، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (1090).
(3)
انظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس ص (30).
خالق السموات والأرَضين، المستوي على عرشه الكريم، بكل شيءٍ عليم، وعلى كل شيءٍ قدير، عزيز حكيم، غفور رحيم، سميع بصير، يحب تعالى عباده المؤمنين ويرضى عنهم، ويكره الكفر والكافرين ويسخط عليهم، كلَّم موسى تكليماً، وخلق آدم بيده، ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة يستجيب لعباده ويغفر لهم، صفات الكمال كلها له، ولا تنبغي على الوجه اللائق به لأحد سواه، من تدبر الكتاب والسنة، وجدهما يدلان على ذلك غاية الدلالة.
وأما النفي والتنزيه؛ فإنه جاء على طريق الإجمال، فقال عزَّ من قائل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وقال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مَرْيَمَ الآية: 65]، وقال تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4]، وقال تبارك وتعالى:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ] النحل الآية: 74]، ونحوها من الآيات الدالة على نفي ما لا يليق بالله عز وجل على وجه الإجمال، فنفى المماثلة مطلقاً، والمشابهة مطلقاً، والمساماة مطلقاً، ولم ينف المماثلة في شيء معيَّن، كأن يقول: لا سمي له في علمه، أو في قدرته، أو في استوائه، أو لا مثل له في رضاه، ومحبته، ونحو ذلك.
أما التفصيل في النفي، فهو: أن ينزه الله عن كل واحد من هذه العيوب والنقائص بخصوصه
(1)
.
وهو قليل، بالنسبة للإثبات، ولا يأتي إلا لسبب معيَّن، وهو إنما يراد به إثبات كمال ضدّ ما نُفِيَ عن الله عز وجل؛ لأن النفي المحض ليس فيه مدح، ولا يدل على كمال المنفي عنه ذلك الأمر، إلا إذا تضمن إثبات ضده.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في بيان هذه القاعدة وتوضيحها: ((واعلم أن الصفات الثبوتية التي وصف الله بها نفسه كلها صفات كمال، والغالب فيها
(1)
انظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس ص (29).
التفصيل؛ لأنه كلما كثر الإخبار عنها وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف به، وعُلِم ما لم يكن معلوماً من قبل، ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات التي نفاها عن نفسه.
وأما الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه، فكلها صفات نقص، ولا تليق به تعالى، كالعجز، واللّغوب، والظلم، ومماثلة المخلوقين، والغالب فيها الإجمال؛ لأن ذلك أبلغ في تعظيم الموصوف، وأكمل في التنزيه، فإن تفصيلها لغير سبب يقتضيه المقام فيه سخرية وتنقص بالموصوف.
ولهذا جاء النفي المفصّل في تنزيه الله تعالى عما نسبه إليه المشركون من الولد والصاحبة، فقال تعالى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآيات: 3 - 4].، فهذا النفي اقتضاه المقام، وهو قليل جداً))
(1)
.
الأمر الثاني: أنَّ صفات التنزيه يجمعها معنيان:
الأول: نفي النقائص عنه، وذلك مِنْ لوازم إثبات صفات الكمال.
الثاني: إثبات أنَّه ليس كمثله شييء في صفات الكمال الثابتة له.
الأمر الثالث: الصفات السلبية تُذكر غالبًا في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله
؛ كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4].
و
الثانية: نفي ما ادَّعاه في حقه الكاذبون
(1)
تقريب التدمرية ص (17)، وانظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين رحمه الله (1/ 143 - 144).
و
الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين
؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ] الدخان الآية: 38 [.
الأمر الرابع: أنَّ الصفات السلبية إنما تكون كمالًا إذا تضمنت أمورًا وجودية
(1)
.
فلا يُوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورًا وجودية، وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه.
فينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال.
والعدم المحض ليس بشييء، وما ليس بشييء-فهو كما قيل: ليس بشييء؛ فضلًا عن أن يكون مدحًا وكمالًا.
لأنَّ النفي المَحض يُوصف به المعدوم والممتنع؛ والمعدوم والممتنع لا يُوصف بمدح ولا كمال.
ولهذا كان عامة ما يصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح؛ كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ؛ فنفي السِّنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام.
وكذلك قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها؛ بخلاف المخلوق القادر إذا كان يَقدر على الشييء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.
وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} ، فإن نفي العُزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 144).
وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ، فإن نفي مس اللغوب-الذي هو التعب والإعياء-دلَّ على كمال قدرته ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.
وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} -إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء، ولم يَنف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يرى مدح؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُؤي، كما أنه لا يحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلًا على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
وإذا تأملت ذلك وجدت كلَّ نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف به نفسه»
(1)
.
ثم إن النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه-فيه إساءة أدب مع الله سبحانه؛ فإنك لو قلت لسلطان: أنت لستَ بزبَّال ولا كسَّاح ولا حَجَّام ولا حائك؛ لأَدَّبَك على هذا الوصف وإن كنت صادقًا.
وإنما تكون مادحًا إذا أجملت النفي؛ فقلت: أنت لستَ مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجَل، فإن أَجملت في النفي أجملت في الأدب
(2)
.
فأهل الكلام المذموم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المُجمل؛ فيقولون: ليس بجسم ولا شَبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض .. إلى آخر تلك السُّلوب الكثيرة التي تَمُجُّها الأسماع، وتأنف مِنْ ذكرها
النفوس، والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حقَّ قدره
(1)
.
الأمر الخامس: أن الرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مُفَصَّل ونفي مجمل.
والمعطلة ناقضوهم؛ فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل.
وقد جاء التنصيص على هذه القاعدة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم رحمه الله، ومن بعدهما.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((من أبلغ العلوم الضرورية: أنّ الطريقة التي بعث الله بها أنبياءه ورسله، وأنزل بها كتبه، مشتملة على الإثبات المفصّل، والنفي المجمل))
(2)
.
وقال في موضع آخر: ((فالله سبحانه بعث الرسل بما يقتضي الكمال من إثبات أسمائه وصفاته على وجه التفصيل، والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل، فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها، منزه عن النقص بكل وجه ممتنع، وأن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال، فأما صفات النقص فهو منزه عنها مطلقاً، وأما صفات الكمال فلا يماثله، بل ولا يقاربه فيها شيء من
(1)
«الصفات الإلهية» (ص 202).
(2)
الفتاوى الكبرى (6/ 337)، وانظر: منهاج السنة النبوية (2/ 156 - 157، 185، 562)، مجموع الفتاوى (2/ 478 - 479، 6/ 37، 66، 515، 11/ 480، 20/ 111، 126)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 163، 6/ 348)، الصفدية (1/ 116)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 863)، النبوات (2/ 643)، التسعينية (1/ 171)، الجواب الصحيح (4/ 406)، التدمرية ص (8)، الكيلانية، ضمن مجموع الفتاوى (12/ 432)، الصواعق المرسلة (3/ 1009)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 69)، توضيح المقاصد (1/ 148، 2/ 436)، شرح القصيدة النونية (2/ 287 - 288)، الرد على القائلين بوحدة الوجود ص (42)، التحفة المهدية ص (36)، شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/ 145 - 146).
الأشياء))
(1)
.
فإنَّ الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله: أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه حكيم عزيز، غفور ودود، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليمًا، وتجلى للجبل فجعله دكًّا، وأنه أنزل على عبده الكتاب. إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
وقال في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مَرْيَمَ الآية: 65].
وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا ولا كذا، فلا يَقرب من شيء ولا يَقرب منه شيء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يُشار إليه ولا يتعين، ولا هو مُباين للعالم ولا حالٌّ فيه، ولا داخله ولا خارجه.
إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تَنطبق إلا على المعدوم.
ثم قالوا في الإثبات: هو وجود مُطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية
(2)
.
وبذلك عكسوا منهج القرآن والسنة؛ فأكثروا مِنْ وصف الله تعالى بالأمور السلبية التي لم يَرد بها النص، وأفرطوا في ذلك إفراطًا عجيبًا، بينما أنكر بعضهم جميع الصفات الثبوتية، والبعض الآخر لم يُثبت سوى القليل منها.
فأهل السنة والجماعة حينما استنبطوا هذه القاعدة وطبقوها، خالفوا بذلك منهج المعطِّلة في الصفات، حيث جاءوا بعكس طريقة الأنبياء، فنجدهم يجملون في
(1)
منهاج السنة النبوية (2/ 156 - 157).
(2)
«الصفدية» (1/ 116).
الإثبات ويفصِّلون في النفي، زعماً منهم أن ذلك أعظم وأبلغ في التنزيه، وأحوط في تفادي تشبيه الله عز وجل بخلقه، وبتطبيقهم لطريقتهم هذه، حصل عكس مرادهم، فوقعوا في شر من الذي فروا منه، فأساءوا الأدب مع مليكهم، وجردوه من كماله الذي وصف به نفسه، فشبهوه بالناقصات من مخلوقاته، بل نفيهم لصفاته أوقعهم في تشبيهه بالمعدومات والممتنعات، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
فالمعطِّلة النفاة إذا تكلموا في النفي، وصفوه سبحانه وتعالى بالسُّلوب على وجه التفصيل؛ فيقولون مثلاً: ليس بكذا، ولا بكذا
…
يقولون: ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع، ولا افتراق، ولا يتبعض، ولا يتجزأ، ولا يقرُب من شيء، ولا يقرُب منه شيء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ونحو ذلك، ولا يُشار إليه، ولا هو مباين للعالم، ولا داخله، ولا خارجه
…
إلى أمثال هذه العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم بل الممتنع.
وإذا أرادوا الإثبات: أثبتوا شيئاً مجملاً يجمعون فيه بين النقيضين، ويُقدرون وجوداً مطلقاً لا حقيقة له إلا في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان، فبعضهم يصفونه بالسُّلوب والإضافات دون صفات الإثبات، وبعضهم يثبت له الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات، وبعضهم يثبت له الأسماء وعدداً محدوداً من الصفات
(1)
.
(1)
انظر: مقالات الإسلاميين ص (155 - 156)، منهاج السنة النبوية (2/ 187، 562)، الصفدية (1/ 116)، مجموع الفتاوى (6/ 66، 516، 11/ 483 - 484، 20/ 111 - 112، 126)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 163)، النبوات (2/ 643)، الفتاوى الكبرى (6/ 337 - 338)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 863)، التدمرية ص (12 - 19)، التسعينية (1/ 172 - 174)، الكيلانية، ضمن مجموع الفتاوى (12/ 432)، الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الإسلام من بدع الجهمية والصوفية، ضمن مجموع الفتاوى (2/ 198)، الصواعق المرسلة (3/ 1009)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 69 - 70)، توضيح المقاصد (1/ 148، 2/ 436)، شرح القصيدة النونية (2/ 287 - 288).
وحقيقة حالهم كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: ((وهؤلاء جميعاً
(1)
، يفرون من شيء، فيقعون في نظيره وفي شر منه، مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات، ولو أمعنوا النظر لسوَّوا بين المتماثلات، وفرَّقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أُنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد
(2)
، ولكنهم من أهل المجهولات المُشَبَّهَة بالمعقولات، يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات))
(3)
.
الأمر السادس: ضابط النفي في صفات الله:
((أن ينفى عن الله تعالى:
أولاً: كل صفة عيب؛ كالعمى، والصمم، والخرس، والنوم، والموت
…
ونحو ذلك.
ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ] النحل الآية: 60]، فإن ثبوت المثل الأعلى له-وهو الوصف الأعلى-يستلزم انتفاء كل صفة عيب.
ثانياً: كل نقصٍ في كماله؛ كنقص حياته، أو علمه، أو قدرته، أو عزّته،
أو حكمته
…
أو نحو ذلك.
(1)
أي المعطلة بمختلف أصنافهم من غالية، وفلاسفة، وجهمية، ومعتزلة، وصفاتية، ومن اتبعهم.
(2)
يشير إلى قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الآية [6] من سورة سبأ.
(3)
التدمرية ص (19)، وانظر: رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية لنصر المنجبي، ضمن مجموع الفتاوى (2/ 478)، توضيح المقاصد (1/ 148).
ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ] ق الآية: 38 [.
ثالثاً: مماثلة المخلوقين؛ كأن يجعل علمه كعلم المخلوق، أو وجهه كوجه المخلوق، أو استواءه على عرشه كاستواء المخلوق
…
ونحو ذلك.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11 ["
(1)
.
الأمر السابع: للتفريق بين الصفات السلبية التي ورد بها النص والصفات السلبية التي أحدثها المعطلة النفاة
-نقول: إن الصفات السلبية التي ورد بها النص متضمنة لثبوت كمال الضد كما تقدم شرح ذلك.
وأمَّا الصفات السلبية التي هي مِنْ نسج المعطلة واختراعهم-فلا تتضمن ثبوت كمال الضد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كل تنزيه مُدح به الرب ففيه إثبات، فلهذا كان قول:(سبحان الله) متضمنًا تنزيه الرب وتعظيمه، ففيه تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيه تعظيمه سبحانه وتعالى
(2)
.
فالذين لا يَصفونه إلا بالسُّلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا.
وكذلك مَنْ شاركهم في بعض ذلك؛ كالذين قالوا: لا يتكلم، ولا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يَستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا مجانب له.
إذ هذه الصفات يمكن أن يُوصف بها المعدوم، وليس هي صفةمُستلزمة صفة
(1)
تقريب التدمرية ص (85 - 86).
(2)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112).
ثبوت.
فقولهم: إنه لا يتكلم، أو لا يَنزل، ليس في ذلك صفة مدح، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات
(1)
.
فالنفي البدعي فلا يثبت كمالًا لله تعالى، فهو كقول الشاعر:
قُبَيِّلَةٌ لا يَغدرون بذمة
…
ولا يظلمون الناس حبة خردل
فالشاعر لا يريد مدحهم، وإنما يريد أن يبين أنهم من المهانة والمذلة بحيث لا يستطيعون الغدر، ولا يَقدرون على ظلم أحد لضعفهم وهوانهم.
الأمر الثامن: إن سلب النقائص والعيوب عن الله نوعان:
النوع الأول: سلب لمتصل.
«وضابطه: نفي كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كنفي الموت المنافي للحياة، والعجز المنافي للقدرة، والسِّنة والنوم المنافي لكمال القيومية، والظلم المنافي للعدل، والإكراه المنافي للاختيار، والذل المنافي للعزة
…
»، إلخ.
النوع الثاني: سلب لمنفصل.
وضابطه: تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد مِنْ خلقه في شييء من خصائصه التي لا تَنبغي إلا له.
وذلك كنفي الشريك له في ربوبيته؛ فإنَّه منفرد بتمام الملك والقوة والتدبير.
وكنفي الشريك له في أُلوهيته، فهو وحده الذي يجب أن يُؤلهه الخلق، ويُفردوه بكل أنواع العبادة والتعظيم.
(1)
«الرسالة التدمرية» (ص 23).
وكنفي الشريك له في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فليس لغيره من المخلوقين شِركة معه سبحانه في شيء منها.
وكذلك نفي الظَّهير الذي يُظاهره أو يعاونه في خلق شيء أو تدبيره؛ لكمال قدرته وسَعة علمه ونفوذ مشيئته، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة إلا بالله؛ فالشريك والظهير مَنفيان عنه بإطلاق.
وكذلك ينفى عنه سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نَسَبه إليه النصارى عابدو الصُّلبان، والصابئة الذين يقولون: إن الملائكة بنات الله؛ قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ} ] الإسراء الآية: 111 [.
(1)
.
الأمر التاسع: الأدلة السمعية التي وردت في نفي المماثلة تنقسم إلى قسمين:
1 ـ خبر.
2 ـ وطلب.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين-رحمه الله: ((الأدلة السمعية
(2)
تنقسم
إلى قسمين: خبر، وطلب.
ـ فمن الخبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، فالآية: فيها نفي صريح للتمثيل.
وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مَرْيَمَ الآية: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر؛ لأنه استفهام بمعنى النفي.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.
ـ وأما الطلب؛ فقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(1)
، أي: نظراء مماثلين.
وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ] النحل الآية: 74])
(2)
.
الأمر العاشر: استخدام السلف لهذه الطريقة
وممن جاء عنهم من السلف الإشارة إلى هذه القاعدة إمام أهل السنة والجماعة، أحمد بن حنبل رحمه الله.
فقد قال رحمه الله: (({لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، في ذاته كما وصف به نفسه، قد أجمل الله تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحدَّ لنفسه صفةً ليس يشبهه شيء، فنعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة، إلا بما وصف به نفسه))
(3)
.
فهذا نص من الإمام أحمد -إمام أهل السنة والجماعة-، يستدل فيه بآية الشورى، بأن الله عز وجل أجمل في نفي صفات النقص عنه، وأما الإثبات فكثيرٌ، غير معلوم لنا بكامله، لكن لا نثبت منه إلا ما أثبته الله لنفسه.
وقد سبق إيراد بعض كلام شيخ الإسلام، والإحالة إلى المواضع التي تكلم فيها عن هذه القاعدة، فلا داعي لإعادته هنا، وقد أشار إليها أيضا جملة من الأئمة بعده، كالإمام ابن القيم، وابن أبي العز، والملا علي بن سلطان القاري، وغيرهم من المعاصرين، -رحم الله أمواتهم وحفظ أحياءهم-.
الأمر الحادي عشر: دلالة العقل السليم على هذه القاعدة
(1)
الآية [22] من سورة البقرة.
(2)
شرح العقيدة الواسطية (1/ 103).
(3)
نقل هذا القول عنه: أبو يعلى كما في إبطال التأويلات (1/ 43، 45)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/ 431)، درء تعارض العقل والنقل (2/ 31).
ونقله أيضاً ابن القيم مع اختلاف طفيف، انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية ص (212).
وهذه الطريقة التي سلكها السلف الصالح، في التنزيه المجمل، والإثبات المفصّل -كما أن القرآن الكريم جاء بها، والسنة النبوية الصحيحة دلت عليها- فإن العقل الصريح يشهد بصحتها، وسلامتها، وأن ضدها مما سلكه النفاة للصفات، طريقة منكرة وفيها انتقاص أعظم من الذي فروا منه لخالقهم سبحانه وتعالى، وذلك أنه من المعلوم بالفطرة السليمة والعقول المستقيمة أن النفي المفصّل مسبة وإساءة أدب، حتى في حق المخلوق الذي له شأن بين الناس، فلو قلت مثلاً لسلطان في سياق المدح: أنت لست بزبال، ولا كَسَّاح
(1)
، ولا حَجَّام، ولا حائك
…
إلخ، من ذكر الأوصاف التي لا تليق بالسلطان؛ لأدبك على هذا الوصف، ولما اعتبره مدحاً أبداً، وأنت ترى أنك صادق في وصفك هذا.
وإنما تكون مادحاً له على الوجه الذي يرضاه من هو في مقامه، إذا أجملت في النفي، فقلت: أنت لست مثل أحدٍ من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف، ونحو ذلك من الإجمال المناسب للمقام، فإذا أجملت في النفي، أجملت في الأدب
(2)
.
هذا مما دلَّ عليه العقل، ومما يدلُّ عليه أيضاً: أن النفي المحض الذي يصفه به المبطلون من المعطِّلة النفاة، ليس فيه مدح، إنما المدح في نفي شيء يتضمن إثبات كمال ضده، وهذا موضوع القاعدة السادسة بإذن الله وسيأتي هناك تفصيله، ولعل في ما ذكر كفاية في الإشارة إلى دلالة العقل السليم على صحة هذه القاعدة.
الأمر الثاني عشر: فوائد الالتزام بالقاعدة.
أما فوائد الالتزام بهذه القاعدة فعديدة، منها:
1 ـ الالتزام بقاعدة النفي المجمل، والإثبات المفصّل، فيه من التعظيم لله عز وجل،
(1)
الكَسَّاح: الكنَّاس، مأخوذ من الفعل: كَسَح، إذا كَنَس. انظر: المعجم الوسيط (2/ 786).
(2)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/ 70)، الرد على القائلين بوحدة الوجود ص (44).
ووصفه بما يليق به من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وتنزيهه عن النقائص والعيوب من كل وجه.
2 ـ الالتزام بهذه القاعدة، فيه اتباع لطريق الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-، حيث جاءوا بالنفي المجمل، والإثبات المفصّل، وفي اتباع طريقهم، والالتزام بهيدهم الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، وضمان السلامة من الزيغ والضلال في العلم والعمل.
3 ـ الإجمال في النفي له دلالة على غاية الأدب مع الله عز وجل في تنزيهه عن النقائص والعيوب على وجه الإجمال، وذلك أبلغ في تعظيمه سبحانه وتعالى، وأكمل في تنزيهه، عكس التفصيل في النفي لغير سبب يقتضيه المقام، فإنه دليل على سوء الأدب مع الله عز وجل، وغاية التنقص لجنابه العظيم تبارك وتعالى.
4 ـ تطبيق هذه القاعدة الموافقة لنصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة، والفطر السليمة، والعقول المستقيمة، وأقوال الأئمة من سلف هذه الأمة، فيه مخالفة لطريقة المعطِّلة النفاة، الذين جاءوا بعكس هذه القاعدة، ففصَّلوا في النفي، وأجملوا في الإثبات، زاعمين أن ذلك أبلغ في التنزيه، فوقعوا في نقيض قصدهم، من وصف الله عز وجل بالنقائص والعيوب، وتعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله التي لا تنبغي لأحد سواه.
الفرق والطوائف التي زاغت عن سبيل المرسلين
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما مَنْ زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أُوتوا الكتاب، ومَن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية، والقرامطة الباطنية، ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلًا يستلزم نفي الذات".
الشرح
لما ذكر المصنف رحمه الله تعالى طريقة السلف في إثبات الصفات شرع هنا في بيان طريقة مخالفي الرسل، وهم المعطلة على اختلاف درجاتهم، فقال:"وأمَّا مَنْ زاغ وحاد عن سبيلهم" يعني: عن سبيل السلف الصالح "من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب" قدم الكفار والمشركين على أهل الكتاب؛ لأن الفلاسفة كانوا أسبق من اليهود والنصارى، فدخل قول الفلاسفة على اليهود عن طريق رجل يهودي يسمى (فيلون)؛ هو الذي أدخل التعطيل على اليهود، ولذلك لما ذكر العلماء الجعد بن درهم قالوا: إنه أخذ مقالة التعطيل عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت اليهودي ابن أخت لبيد بن الأعصم، وهو اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، واليهود أخذوها عن فلاسفة اليونان.
قوله: "ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية، والقرامطة الباطنية، ونحوهم فإنهم على ضد ذلك".
"الصابئة":
ويمكن الحديث عن الصابئة من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن لفظ الصابئة جاء في القرآن في موضعين:
الموضع الأول: وفي موضع مدح.
لأن أوائل الفلاسفة كانوا يقرُّون بوجود الله تعالى، وإنما عُرِف القول بقدم العالم وإنكار وجود الله من عهد أرسطو، فأرسطو هو الذي كان ينكر وجود الله سبحانه وتعالى.
فالصابئة الذين أثني الله عليهم في القرآن، كانوا أناساً يعبدون الله تعالى على غير شريعة، أي على غير اتباع نبيٍّ بعينه، فهذا قسْمٌ من هؤلاء، وقد ذكرهم الله سبحانه وتعالى فيمن ذكر من الأصناف الأخرى كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فكانوا يتعبَّدون لله تعالى على غير شريعة بعينها، وهذا الذي قيل في هذا الصنف من الصابئة: قوم يعبدون الله تعالى على غير شريعة بعينها، فهؤلاء صنف قد دخلوا في هذا الحال الذي هو حال مدح.
الموضع الثاني: في موضع ذم.
وذمُّوا في مواضع: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]، هذه ستة أصناف كما يقول عنها ابن عباس:"الأديان ستة خمسة للشيطان، وواحد للرحمن"
(1)
، فهذا مقام ذمِّ لهؤلاء.
(1)
انظر كتاب الدر المنثور للسيوطي الجزء السادس، صفحة (16).
فإذًا لفظ الصابئة يطلق أحيانًا ويراد به، الصنف منهم الذين عبدوا الله تعالى على غير شريعة بعينها، وصنف مذموم وهم الذين كانوا على دين النمرود.
الأمر الثاني: حال الصنفين.
أما الصنف الأول: الصابئة الموحدين.
الذين كانوا يتعبدون الله على غير شريعة فقد انتهى هذا الصنف، فلا يكون ولا يعقل أن يكون لهؤلاء وجود أو أمر يُمدحون عليه بعد بعثت النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت عامة لكل الخلق، ولا يسع أحد أن يخرج عنها.
أما الصنف الثاني: الصابئة المشركين.
فهم بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين، ونعرف أن إبراهيم عليه السلام دعا النمرود ودعا قومه إلى الإسلام، وكانوا -أي هؤلاء-يبنون الهياكل، ويعبدون الكواكب.
فكان لهؤلاء خطَّان: خط فلسفي، وخط وثني يتخذ من الهياكل أماكن للعبادة، فهناك هيكل للقمر، وهيكل للشمس، وهيكل للزهرة، وهيكل
…
هكذا للكواكب، كانوا يعبدون تلك الكواكب. وهم بَقَايَا أَهْلِ دِينِ نمرود والكنعانيين الَّذِينَ صَنَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي سِحْرِهِمْ وهو الرازي الذي نسب إليه أنه صنف كتابًا في ذلك، وهو كتاب مشهور ومعروف إلى يومنا هذا، واسمه: السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم، حيث صنف مصنفه على مذهب هؤلاء المشركين عباد الهياكل والكواكب.
الأمر الثالث: أن حران
(1)
كانت مركز الصابئة.
فإن حران كانت دار الصابئة المشركين
(2)
، وفيها خلق كثير من الصابئة
(1)
"حَرّان": بتشديد الراء، بلدة في الجزيرة بين الشام والعراق، وهي مدينة قديمة "بين الرها والرقة، وقيل إن هاران عم ابراهيم الخليل عليه السلام عمرها، فسميت باسمه وقيل "هاران" ثم إنها عربت فقيل "حران" (معجم البلدان 2/ 235، معجم ما استعجم 1/ 435، الأنساب 4/ 96. "
(2)
الرد على المنطقيين ص 287
والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين المشركين، وكانت الصابئة إلا قليلاً منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم هم الفلاسفة وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل
(1)
وكان بها هيكل "العلة الأولى" هيكل "العقل الأول" هيكل "النفس الكلية" هيكل "زحل" هيكل "المشترى" هيكل "المريخ" هيكل "الشمس" وكذلك "الزهرة" و"عطارد" و"القمر". وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم، ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين حتى جاء الإسلام. ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت، ولذا لما قدم الفارابي حران في أثناء المائة الرابعة دخل عليهم، وتعلم منهم، وأخذ عنهم ما أخذ من الفلسفة.
(2)
الأمرالرابع: عقيدة الصابئة في باب صفات الله تعالى.
ومذهب النفاة من هؤلاء الذين هم فلاسفتهم: أنه ليس له إلاَّ صفات سلبية أو إضافية أو مركَّبة منهما، ويقصد بهؤلاء الذين تلقَّى عنهم الجعد وأخذ منهم الجعد، فقد كانوا أصحاب فلسفة صابئة، وفلاسفة الصابئة كان قولهم في هذه المسائل: عدم إثبات صفات الله تعالى، إذ أنه كما أسلفنا الفلاسفة عمومًا لا يرون أن هناك وجودًا لله تعالى على الحقيقة.
وبالتالي يدور كلامهم بين صفات سلبية أو إضافية.
فالسلبية مثل قولهم: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا مباين، ولا، ولا
…
وتأتي اللاأت اللامتناهية، هذا جانب.
والإضافية مثل قولهم عنه: واجب الوجود، هي عبارات في حقيقتها لا تدل على أنه له صفة ثابتة، وهي عبارات يثبتونها، المقصد منها أنه ليس لله عز وجل صفات
(1)
الفتوى الحموية الكبرى ص 48 ـ 49
(2)
الرد على المنطقيين ص 287 ـ 288
والإضافات عندهم هي أمر لا يتعلق بالذات، لأنهم في حقيقتهم لا يريدون إثبات ذاته، بل أمر خارج عن الذات كما يقولون: واجب الوجود.
فإذا قلت لهم: ما واجب الوجود؟ قال قائلهم: "واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه، ولا قسمة له لا في الكَمِّ، ولا في الكيف، ولا في المعقول، ولا في اللامعقول، ولا في الهيلولي، ولا في الصورة، ولا، ولا، ولا
…
" عبارات منتهاها أنه في الذهن دون الخارج، أنه موجود وجودًا ذهنيًا في الخيال لا حقيقة له، فهذا كلامهم يقول لك: "واحد بسيط"، وهذه عبارات فلسفية، لابد لفهمها أن تنظر إلى تفسير معنى الواحد عندهم، فهم لا يقصدون بالواحد الوحدانية، وهكذا معنى البسيط عندهم؟
إذًا قولهم "واحد بسيط" معناه: أن وجوده وجوداً مطلقاً أي وجود ذهني، فلو فسرت هذا في عباراتهم لوجدت أن معنى الواحد عندهم: هو الوجود المطلق الذي هو في الخيال لا في الحقيقة.
وهذا هو السِتَار الذي استطاع به هؤلاء أن ينشروا كتبهم، ويبثوا مقالاتهم لأن كل حرف، وكل كلمة تحتاج إلى قاموس لا يستطيع فهمه إلا من تربى على أيديهم، فلا يمكن أن يأتيك الواحد منهم ويقول لك مباشرة: إن وجود الله تعالى وجود ذهني لا حقيقة له في الخارج، هذه المسألة لا يمكن أن يقولها صراحة لكن يغلِّفها بغلاف فلسفي وعبارات فلسفية، حتى إذا قرأتها لم تفهم منها حرفًا، فمعنى "واحد بسيط لا تكثر فيه"؟! وما معنى "الوجود"؟! وما معنى "لا قسمة له لا في الكَمِّ ولا في الكيف؟! ولا في المعقول ولا في اللامعقول؟! ولا في المتناهي ولا في اللامتناهي؟! ولا في الهيلولي ولا في الصورة"؟!
كل هذا الكلام بحاجة إلى قاموس يوضح معنى كل عبارة وماذا تعني.
فإذًا هذا هو أصل كلام هؤلاء، ومن يدرس طريقة الفلسفة، وحبذا لو يقرأ كتاب
ابن تيمية [الرد على المنطقيين] فقد أشار إلى شيء من تاريخ الفلاسفة، ومن أقوالهم، ومقالاتهم، ومن ضمنهم هؤلاء فلاسفة حران.
الأمر الخامس: تأثير الصابئة على فرق المعطلة.
قال ابن تيمية: "قيل إن أرسطو بدل طريقة الصابئة الذين كانوا قبله والذين كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر الذين أثنى عليهم القرآن فهذا الكلام المنقول عنه يوافق ذلك وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة من الجهمية وغيرهم اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم فغيروا فطرة الله تعالى وبدلوا كتاب الله والله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها وبعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشريعة المنزلة وهؤلاء بدلوا وغيروا فطرة الله وشرعته خلقه وأمره"
(1)
كان تأثير الصابئة على فرق المعطلة على مستويين:
المستوى الأول: على مستوى الأفراد.
وكان تأثير الصابئة قد ظهر على شكل أفراد يتلقون قول الصانئة ويعملون على نشره، ومن هؤلاء:
الجعد بن درهم:
فالجعد بن درهم فيما قيل من أهل "حران" كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أهل حران)
(2)
(1)
بيان تلبيس الجهمية 2/ 470
(2)
منهاج السنة 2/ 192
وقال ابن عساكر: (وقيل إنه كان من أهل حران)
(1)
وقال الذهبي: (وأصله من حران)
(2)
فالجعد بن درهم حراني المولد والنشأة، وكان يسكن الجزيرة الفراتية في أول أمره، وعمل في تلك الفترة معلماً ومؤدباً لمروان بن محمد لما كان والياً على الجزيرة أيام هشام بن عبد الملك
(3)
ثم انتقل بعد ذلك إلى دمشق وسكن فيها
(4)
ثم هرب من دمشق إلى الكوفة
(5)
.
وإذا كان الجعد قد نشأ بحران وتعلم فيها، فيكون الجعد قد أخذ مقالته عن هؤلاء الصابئة الفلاسفة الذين يقولون: إنه ليس للرب إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما.
(6)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قال الإمام أحمد: وكان يقال إنه [أي الجعد] من أهل حران، وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة، بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب)
(7)
ذكر العلماء جملة من الأفكار المنحرفة التي كان الجعد كان ينادي بها ويظهرها ويدعو إليها. ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
(1)
مختصر تاريخ دمشق 6/ 50
(2)
تاريخ الإسلام وفيات 101 ـ 120، 7/ 337 ـ 338
(3)
مختصر تاريخ دمشق 6/ 50 تاج العروس 2/ 321
(4)
مختصر تاريخ دمشق 6/ 50 والبداية 9/ 350
(5)
مختصر تاريخ دمشق 6/ 50 والبداية 9/ 350
(6)
الفتوى الحموية الكبرى ص 49
(7)
درء تعارض العقل والنقل 1/ 313
1 -
إنكاره لصفات الخالق، ولا شك أن جحود صفاته مستلزم لجحود ذاته
(1)
فأراد الجعد بذلك هدم الأصل الأول من أصلي الدين الذي هو "الإيمان بالله"
فالجعد وأمثاله لا يؤمنون بوجود حقيقي لله تعالى، ويجعلون وجود الله أمرًا مقدرًا في الذهن والخيال لا حقيقة له في الخارج، فلذلك هم لا يصفونه بصفة ثبوتية، ويقتصرون على وصفه بالصفات السلبية أو الإضافية أو المركبة منهما.
والجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام، وقد كان أسبق من الجهم ابن صفوان، ولكن الجهم كان له في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي وكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه ولذلك اشتهر نسبة هذه المقالة إليه
(2)
فقيل مقالة الجهمية، ولم يقل مقالة الجعدية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهاتان الصفتان -أي كلامه ورضاه الذي يتضمن محبته ومشيئته-هما اللتان أنكرهما الجعد بن درهم أول الجهمية، لما زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، إذ لا محبة له ولا رضا؛ ولم يكلم موسى تكليما)
(3)
2 -
إنكاره أن الله يتكلم حقيقة، وهذا إنكار لحقيقة الرسالة.
(4)
فالصابئة المتفلسفة شيوخ الجعد لا يثبتون وجود الله على الحقيقة فضلاً أن يثبتوا له صفة الكلام، ولذلك هم يقولون: (إن الله ليس له كلام في الحقيقة، وإن كلام الله اسم لما يفيض على قلب النبي من "العقل الفعال" أو غيره. و"ملائكة الله" اسم لما يتشكل في نفسه من الصور النورانية ولهذا يقول هؤلاء إن خاصية النبي
(1)
مجموع الفتاوى 12/ 351.
(2)
لوامع الأنوار البهية 1/ 163، 164 "بتصرف"
(3)
الاستقامة 1/ 215.
(4)
مجموع الفتاوى 12/ 350
التخييل
(1)
، وإن ما جاء به النبي ليس كلامًا لله على الحقيقة، وإنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق ولا أوضح به الحقائق
(2)
.
3 -
إنكاره محبة الله لأحد من عباده، وبالتالي أنكر أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وهو يريد بذلك الطعن في نبي الله إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، ولا غرابة في ذلك فأئمة الجعد هم الصابئة المشركون عباد الكواكب، وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام إمام الحنفاء، وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلاً.
(3)
بل إن هؤلاء يقولون إن الله لا يُحِبُ ولا يُحَبُ، فلا يحب الرب عبده، ولا يحب العبد ربه.
وهدفهم هو التعطيل والجحود، لأن إنكار محبة العبد ربه هو في الحقيقة إنكار لكونه إلها معبوداً.
كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه رباً خالقاً.
فصار إنكار المحبة مستلزماً لإنكار كونه رب العالمين، ولكونه إله العالمين. وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود
(4)
ولذا أطلق إمام المعطلة الجعد بن درهم القول بأن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً.
(5)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان الجعد بن درهم من أهل حران، وكان فيهم بقايا من الصابئين والفلاسفة -خصوم إبراهيم الخليل عليه السلام-فلهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم، موافقة لفرعون ونمرود، بناءً على أصل هؤلاء النفاة، وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام، ولا يقوم به محبة لغيره، فقتله المسلمون، ثم انتشرت
(1)
مجموع الفتاوى 12/ 351، 352.
(2)
ذم الكلام ص 306.
(3)
مجموع الفتاوى 10/ 67، 69.
(4)
مجموع الفتاوى 10/ 73، منهاج السنة 5/ 322.
(5)
مجموع الفتاوى 10/ 71.
مقالته فيمن ضل من هذا الوجه. والمحبة متضمنة للإرادة، ومسألة الكلام والإرادة ضل فيهما طوائف).
(1)
وقال رحمه الله: (وكان أول من أنكر المحبة الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال:«ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولا اتخذ إبراهيم خليلاً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً» ثم نزل فذبحه. فإن الخلة من توابع المحبة، فمن كان من أصله أن الله لا يُحِبُ ولا يُحَبُ، لم يكن للخلة عنده معنى.
(2)
4 -
من بدع الجعد معارضته للنصوص بالعقليات، وهو أول من أحدث هذه البدعة، وفتح باباً من أبواب الشر على المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي رضي الله عنه، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لا يدَّعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص. ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين، كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم، .... وأولهم الجعد بن درهم)
(3)
فأول ما ظهر علم الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى، من جهة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد، كأبي الهذيل العلاف وأمثاله.
(4)
(1)
درء تعارض العقل والنقل 7/ 175، 176، وانظر منهاج السنة 3/ 165، 166.
(2)
منهاج السنة 5/ 321، 322، وانظر كتاب: مدارج السالكين 1/ 92.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 244.
(4)
منهاج السنة 8/ 5.
فالجعد هو مشعل نار هذه الفتنة، وعلم الكلام جر على المسلمين الكثير من البلايا والمحن والفتن التي لا نزال إلى يومنا هذا نعاني منها.
5 -
من بدع الجعد إنكاره للقدر.
فقد ذكره البغدادي في عداد القدرية حيث قال: (ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر والاستطاعة من معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم).
(1)
وذكر أن الحمارية من القدرية قد تأثروا ببعض أفكار الجعد في هذه المسألة فقال: (وأخذوا من جعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري قوله بأن النظر الذي يوجب المعرفة تكون تلك المعرفة فعلاً لا فاعل لها.)
(2)
الجهم بن صفوان
فالجهم كان تلميذا للجعد بن درهم، ومن خاصته بحيث لم يشتهر بين تلاميذ الجعد سواه.
قال البخاري: «قال قتيبة بن سعيد: بلغني أن جهماً كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم»
(3)
، فالجعد إذا هو الشيخ الأساسي للجهم بن صفوان.
وذكر بعض المؤرخين أن الجهم لقي الجعد في الكوفة، بعد ما هرب الجعد من بني أمية، حيث نص ابن كثير أن الجعد «أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فطلبته بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا
(1)
الفرق بين الفرق ص 18 - 19.
(2)
الفرق بين الفرق ص 278 - 279.
(3)
خلق أفعال العباد للبخاري (ص 8)، وذكره كذلك السمعاني في الأنساب (1/ 468).
القول منه»
(1)
.
(2)
.
وبين شيخ الإسلام أن «
…
أصل قولهم هذا مأخوذ من المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلاً»
(3)
.
وذكر في موضع آخر أن إسناد جهم في مقالاته متلقي من الصابئة الفلاسفة، والمشركين البراهمة، واليهود السحرة
(4)
.
الفارابي:
فأَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ دَخَلَ حَرَّانَ وَأَخَذَ عَنْ فَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ تَمَامَ فَلْسَفَتِهِ"
والفارابي هو أول من ترجم كتب أرسطو، وأرسطو هو أول الفلاسفة القائلين بقدم العالم، فقد أخذ الفارابي كتب أرسطو وترجمها إلى العربية، وحاول أن يصبغها بصبغة الإسلام.
فالفارابي معروف تاريخه أنه من الفلاسفة الزنادقة، وكما يقول ابن كثير:"إن كان مات على ما كان عليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" فهو أول من ترجم كتب أرسطو وصبغها بصبغة إسلامية، وابن سينا عيال على الفارابي في هذه المسألة،
(1)
البداية والنهاية (9/ 405).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (12/ 119).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (10/ 97).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 51).
فأول من ترجم كتب هذا الملحد من ملاحدة اليونان الذي كان ينكر وجود الله تعالى؟ وهو أول من قال بقدم العالم، وأراد بهذا أن يخضع الإسلام للفلسفة.
فالفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وهذا يشير إلى استمرار هذه المدرسة حتى إلى عهد الفارابي، فالفارابي كان متأخرا، ومع ذلك ما زال في حران من يدعو إلى تلك الفلسفات.
المستوى الثاني: مستوى انتشار أفكار الصابئة
قال ابن تيمية: "وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبلها وبعدها اجتلبت كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل أرسطو وذويه، ظهر في ذلك الزمان الخرمية، وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين، وبعض دين المجوس، كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل والنفس، وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة، وكسوا ذلك عبارات وتصرفوا فيه وأخرجوه إلى المسلمين، وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان، وهم كانوا يميلون كثيرا إلى طريقة الصابئة المبدلين، وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا، وذكر ابن سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم، وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها، قال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة لكونهم كانوا يرونها، وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر، وظهر بذلك تصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى" قال فمن"، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع" فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال: "فمن الناس إلا أولئك" ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى.
والنبوة كل ما ظهر نورها انطفت البدع، وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورا فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره، كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والتشيع، ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة، ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية، ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم.
وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين، وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين، فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان، مع ما أظهروه من التشيع، وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلا وكفرا، كفرهم من جنس كفر فرعون بل شر منه"
(1)
.
قوله: "والمتفلسفة":
أولًا: التعريف بكلمة فلسفة والمقصود بهم.
1 - التعريف بكلمة فلسفة
"الفلسفة، اسم جنس لمن يُحِبُ الحكمة ويُؤثِرُها.
وأصل كلمة "فلسفة": هي كلمة يونانية مكونة من جزأين (فيلو) بمعنى: محب أو بيت، و (سوفيا) بمعنى: الحكمة، فالفلسفة معناها: محبة الحكمة، أو بيت
(1)
بيان تلبيس الجهمية 2/ 478.
الحكمة، والفلاسفة: هم الحكماء أو محبو الحكمة، هذا هو المعنى العربي للفلسفة.
2 - المقصود بهم هنا.
المعنى الأعم:
وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه، ففي الأمور الشرعية قد عرف الفلاسفة بمخالفة الرسل، وأنهم يأخذون دينهم من عقولهم.
المعنى الأخص:
وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المَشَّاؤُون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها. وهي التي يعرفها، بل لا يعرفُ سواها، المتأخرون من المتكلمين"
(1)
.
فعندما تُطلق كلمة فلاسفة، فالمراد نوع من الفلاسفة، وهم الفلاسفة المشَّائين، -وسموا بذلك؛ لأن أرسطو كان يُعَلِّمهم وهو يمشي-.
والفلاسفة كانوا في الأصل على نوعين:
النوع الأول: الفلاسفة المتألهة.
فهناك نوع يسمى الفلاسفة المتألهة: وهم يعبدون الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ذكر محمد بن يوسف العامري-وهو من المصنفين في مذاهبهم-أن قدماءهم دخلوا الشام وأخذوا عن أتباع الأنبياء داود وسليمان وأن فيثاغورس معلم سقراط أخذ عن لقمان الحكيم وسقراط هو
(1)
إغاثة اللهفان 2/ 257).
معلم أفلاطن وأفلاطن معلم أرسطو".
(1)
النوع الثاني: الفلاسفة الدهريين.
فمن الفلاسفة نوع يسمى الفلاسفة الدهريين، وهم الذين ينكرون وجود الله تعالى، وهؤلاء هم الذين غلب عليهم إطلاق الفلاسفة، وأول مَنْ أنكر وجود الله وزعم قِدَم العالم هو أرسطو؛ فهو زعيم هؤلاء الفلاسفة،
قال ابن تيمية: "واتباع أرسطو من الأولين أشهرهم ثلاثة برقلس والإسكندر الإفرديوسي وثامسطيوس صاحب الشروح والترجمة وإذا قال الرازي في كتبه: "اتفقت الفلاسفة" فهم هؤلاء وإلا فالفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات وفي الهيئة أيضا وقد ذكروا أنه أول من قال منهم بقدم العالم أرسطو"
(2)
وكان أرسطو يسمى: المعلم الأول، والفارابي هو الذي أدخل هذه الفلسفة على المسلمين، وكان يسمى المعلم الثاني، وكان قد جلب هذه الفلسفة من بلد (حران)، ومعلوم أن الجعد بن درهم كان من أهل (حران)، وحران: هي مكان الفلاسفة الصابئة.
ثانيًا: عقائدهم في الإلهيات.
أما الفلاسفة فإن إيمانهم بالله تبارك وتعالى لا يكاد يتعدى الإيمان بوجوده المطلق، -أي بوجوده في الذهن والخيال دون الحقيقة-، وأما ما عدا ذلك فلا يكادون يتفقون على شيء، فالمباحث العقدية عندهم من أسخف وأفسد ما قالوا به.
(1)
الرد على المنطقيين 1/ 334/ 337.
(2)
الرد على المنطقيين 1/ 334/ 337.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة، وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلاً عن أن تكون قضايا صادقة"
(1)
.
ويتجلى فساد معتقد الفلاسفة في الله أكثر عندما نعرض لك بعض أقوالهم في ذات الله وصفاته.
فالفلاسفة يطلقون على الله مسمى (واجب الوجود)، وتوحيد واجب الوجود عندهم يكفي مجرد تصوره للعلم الضروري بفساده.
فالتوحيد عندهم يقتضي تجريده من كل صفات الكمال اللازمة له، فهو ليس له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام، ولا غير ذلك من الصفات، ويقولون بدلاً من ذلك:(إنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعالم ومعلوم وعلم)، وجعلوا كل ذلك أموراً عدمية.
ودفعهم إلى ذلك زعمهم أن تعدد الصفات موجب للتركيب في حق الله، وفساد هذا القول جلي واضح.
فالله وصف نفسه بالصفات، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك في الكتاب والسنة نقلاً.
كما أن العقل يشهد بفساد قولهم، فإن تعدد الصفات لم تقل لغة ولا شرع ولا عقل سليم إنه يوجب تركيب الموصوف إلا عند الفلاسفة
(2)
.
ومن شنيع كلامهم كذلك زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات، فهو عندهم لا يعرف عين موسى، ولا عيسى، ولا محمداً عليهم الصلاة والسلام، فضلاً عن الوقائع التي قصها القرآن وغيرها من أمور المخلوقات. وفساد هذا القول واضح
(1)
الرد على المنطقيين (ص 114).
(2)
انظر الرد على المنطقيين ص 314.
جلي في النقل والعقل.
أما النقل فالله يقول: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام 59]. وكذا العقل أيضاً شاهد بفساد هذا المعتقد، فكيف يجهل الله أموراً سيرها بأمره وأجراها بقدره وأخبر عنها في كتابه
(1)
.
ومن شنيع قولهم ما قالوه في قدرة الله من أنه فاعل بالطبع لا بالاختيار لأن الفاعل بالطبع يتحد فعله، والفاعل بالاختيار يتنوع فعله، وما دروا أنهم بهذا جعلوا الإنسان الفاعل بالاختيار أكمل من الله الفاعل بالطبع على حد زعمهم. وهذا القول مردود بقول الله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَار} [القصص 68]. ومردود بالعقل لأن الله هو أكمل الفاعلين فكيف يُشبَّه فعله بفعل الجماد.
والفلاسفة يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نَعْتَ، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئاً.
ولا شك أن الذي كان عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون من هذا، فعباد الأصنام كانوا يثبتون رباً خالقاً عالماً قادراً حياً، وإن كانوا يشركون معه في العبادة.
ففساد أقوال الفلاسفة في الله لا يضاهيه فساد، وسنعرض لأقوالهم في أسماء الله وصفاته فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل.
ثالثًا: عقائدهم في الملائكة.
(1)
انظر الرد على المنطقيين ص 461.
"وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم. وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبيُّ بزعمهم في نفسه من أشكال نُورانِية، هي العقول عندهم، وهي مجرَّدات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السموات ولا تحتها، ولا هي أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبِّر شيئاً، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس ولا حركة البتة، ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تُصَفُّ عند ربها، ولا تصلي، ولا لها تصرف في أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة.
وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هي القوى الخَيِّرة الفاضلة التي في العبد، والشياطين هي القوى الشريرة الرَّديئة، هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل.
رابعًا: عقائدهم في الكتب.
وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئاً، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرب إليهم ممن ينتسب للمسلمين يقول: الكتب المنزلة فَيْضٌ فاضَ من العقل الفَعَّال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعاني، وتشكلت في نفسه بحيث توهم أصواتاً تخاطبه، وربما قَوِيَ الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه، وربما قوي ذلك حتى يُخَيِّلها لبعض الحاضرين، فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج.
خامسًا: عقائدهم في الرسل.
وأما الرسل والأنبياء فللنبوة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبيُّ:
أحدها: قوة الحدس، بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة.
الثانية: قوة التخيل والتخييل، بحيث يتخيل في نفسه أشكالاً نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيلها إلى غيره.
الثالثة: قوة التأثير بالتصرف في هيولي العالم. وهذا يكون عنده بتجرد النفس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات، من العقول والنفوس المجردة.
وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب؛ ولهذا طلبَ النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين، وابن هود، وأضرابهم. والنبوة عند هؤلاء صنعةٌ من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هي سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة. والنبوة: فلسفة العامة.
سادسًا: عقائدهم في اليوم الآخر.
وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه.
فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى.
فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير من دين هؤلاء.
وحَسبُكَ جهلاً بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلاناً، وضلالاً وعمى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول"
(1)
.
سابعًا: المبادئ الفلسفية جميعها تقوم على أصلين.
(1)
إغاثة اللهفان (2/ 261 - 262).
والذي ينبغي معرفته أن الفلاسفة لا يؤمنون بوجود الله حقيقة، ولا يؤمنون بوحي ولا نبوة ولا رسالة، وينكرون كل غيب، فالمبادئ الفلسفية جميعها تقوم على أصلين هما:
الأصل الأول: أن الأصل في العلوم هو عقل الإنسان، فهو عندهم مصدر العلم.
الأصل الثاني: أن العلوم محصورة في الأمور المحسوسة المشاهدة فقط.
فتحت الأصل الأول أبطلوا الوحي، وتحت الأصل الثاني أبطلوا الأمور الغيبية بما فيها الإيمان بالله واليوم الآخر.
وقد تسلط الفلاسفة على المسائل الاعتقادية وزعموا أنها مجرد أوهام وخيالات لا حقيقة لها ولا وجود لها في الخارج، فلا الله موجود حقيقة، ولا نبوة ولا نبي على التحقيق، ولا ملائكة، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور.
ثامنًا: أصنافهم.
وهم ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: أهل فلسفة محضة كالفارابي والكندي وابن رشد الحفيد
(1)
.
القسم الثاني: أهل فلسفة باطنية وتنقسم إلى قسمين:
الأول: فلسفة باطنية إسماعيلية قرمطية كابن سينا وإخوان الصفا
(2)
.
الثاني: فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض.
وقوله: "والجهمية"
أولًا: مصطلح الجهمية.
(1)
-منهاج السنة 2/ 523، 524.
(2)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
مصطلح الجهمية: يطلق عند العلماء ويراد به أحد الأمرين:
الأمر الأول: الإطلاق الخاص فالمقصود به: الجهمية الفرقة بعينها أي أتباع الجهم بن صفوان.
الأمر الثاني: أو الإطلاق العام والمقصود به: الجهمية المقالة ويشمل ذلك مع الجهمية غيرهم من الفرق الذين شاركوا الجهمية في مقالة تعطيل الصفات كالمعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية وغيرهم.
ثانيًا: درجات الجهمية.
قال ابن تيمية: "الجهمية على ثلاث درجات:
فشرها الغالية: الذين ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى، قالوا: هو مجاز فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا تكلم ولا يتكلم، وكذلك وصف العلماء حقيقة قولهم كما ذكره الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية:
قال: فعند ذلك تبيّن للناس أنهم لا يثبتون شيئًا، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق.
فقلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق، هو مجهول لا يعرف بصفة؟
قالوا: نعم. قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا، إنَّما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون.
فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى.
قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم، لأنَّ الكلام لا يكون إلّا بجارحة والجوارح عن الله منتفية، وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد النَّاس تعظيمًا لله، ولا يعلم أنهم
إنَّما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب "الإبانة" باب الرد على الزنادقة الجهمية، في نفيهم علم الله وقدرته، قال الله عز وجل:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، وقال سبحانه وتعالى:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ} وقال سبحانه: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه، وقال سبحانه:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ} وذكر تعالى القوة، فقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وقال: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وقال سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} .
وزعمت الجهمية والقدرية أن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير، فمنعهم خوف السيف من إظهار نفي ذلك، فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا: لا علم ولا قدرة لله، فقد قالوا: إنه ليس بعالم ولا قادر، ووجب ذلك عليهم.
قال: وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأنَّ الزنادقة قال كثير منهم: ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك، فاتت بمعناه، وقالت: إن الله عز وجل عالم قادر حي سميع بصير من طريق التّسمية، من غير أن تثبت له علمًا أو قدرة أو سمعًا أو بصرًا.
وكذلك قال في كتاب "المقالات": الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيرين، الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا: إن الله -جل ثناؤه وتقدست أسماؤه-لا صفات له، وإنه لا علم له، ولا قدرة له، ولا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا عزة له، ولا جلال له، ولا عظمة له، ولا كبرياء له، وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه.
"قال": وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة، الذين يزعمون أن للعالم
صانعًا لم يزل، ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قدير، وعبروا عنه بأنَّ قالوا نقول: عين لم يزل، ولم يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات، لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره، فأظهروا معناه فنفوا أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر، ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به، غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك.
"قال": وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الإيادي، كان ينتحل قولهم، فزعم أن الباري عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة.
وهذا القول الذي هو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة هو قول القرامطة الباطنية، ومن سبقهم من إخوانهم الصابئة الفلاسفة.
والدرجة الثَّانية من التجهم: هو تجهم المعتزلة ونحوهم الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة، لكن ينفون صفاته، وهم -أيضًا-لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيرًا منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون.
وأمَّا الدرجة الثالثة: فهم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، لكن فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية، أو غير الخبرية، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث، كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه وطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار -أيضًا- في الجملة، لكن مع نفي لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري
وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعًا عظيمًا فيما يثبتونه من الصفات وأعظم من منازعتهم سائر أهل الإثبات فيما ينفون.
وأمَّا "المتأخرون" فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر، وقدموهم على أهل السنة والإثبات، وخالفوا أوليهم، ومنهم من يتقارب نفيه وإثباته، وأكثر النَّاس يقولون: إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه من النفي والإثبات. "
(1)
وعليه يعلم أن لفظ الجهمية يطلق أحيانًا على وجه أخصّ، وأحيانًا يطلق على وجه أعمّ، فمثلاً ابن كثير يكتب في الرد على الجهمية، وهو لا يعني الفرقة بعينها أتباع الجهم، وإنما يريد كذلك المعتزلة، ويريد كذلك الكلابية، وأحيانًا يريد معهم الأشاعرة، والماتريدية.
وقوله: "والقرامطة الباطنية"
أصل تسميتهم:
والقرامطة من الباطنية وهم ينتسبون إلى حمدان بن الأشعث الذي كان يلقب بقرمط لقرمطة في خطه أو خَطْوِه.
(2)
أصل نشأتهم:
القرامطة تدعي النسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وكانت بداية ظهورهم
(1)
التسعينية 1/ 264 - 279
(2)
انظر الفرق بين الفرق (281، 293)، المنتظم لابن الجوزي (5/ 110، 111).
في عام (278) هـ، في عهد الخليفة العباسي المعتضد أحمد بن الموفق طلحة
(1)
.
وقد ملك القرامطة الأحساء والبحرين وعمان وبلاد الشام وحاولوا ملك مصر ففشلوا، واستمرت دولتهم حتى سنة (466) هـ حيث قضى عليها عبيد الله بن علي محمد عبد القيسي بمساعدة ملك شاه السلجوقي
(2)
.
وأما تسميتهم بالباطنية فلأنهم ادعوا أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن، تجري مجرى اللب من القشر، وكان ظاهرهم التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وحقيقتهم الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية.
أصول معتقداتهم:
يمكن النظر لأصول معتقداهم بعدة اعتبارات.
الاعتبار الأول: الأصل الخرمي.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن شر طوائف المجوس الذين لا يقرون بصانع ولا معاد ولا حلال ولا حرام، الخرمية أصحاب بابك الخرمي، وعلى مذهبهم طوائف القرامطة والإسماعيلية والنصيرية والدرزية، وسائر العبيدية الذين يسمون أنفسهم الفاطمية، وهم من أكفر الكفار، وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم، ولا بشريعة من الشرائع. "
(3)
قال ابن تيمية: "وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبلها وبعدها اجتلبت كتب
(1)
((الكامل في التاريخ)) لـ/ ابن الأثير (6/ 363).
(2)
انظر ((وجاء دور المجوس)) (1/ 70، 71) لـ/ عبد الله محمد الغريب. "علمًا بأن القضاء على القرامطة من الناحية العقائدية، فقد اختلطت بفرق باطنية كالنصيرية والدرزية ولا تزال بعض هذه الأفكار موجودة إلى الآن في بعض البلاد.
(3)
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم - 2/ 247
اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل أرسطو وذويه، ظهر في ذلك الزمان الخرمية، وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين، وبعض دين المجوس، كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل والنفس، وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة، وكسوا ذلك عبارات وتصرفوا فيه وأخرجوه إلى المسلمين، وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان، وهم كانوا يميلون كثيرا إلى طريقة الصابئة المبدلين، وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا، وذكر ابن سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم، وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها، قال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة لكونهم كانوا يرونها، وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر" إلى أن قال: "لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم.
وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين، وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين، فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان، مع ما أظهروه من التشيع، وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلا وكفرا، كفرهم من جنس كفر فرعون بل شر منه"
(1)
.
الاعتبار الثاني: الاعتبار الرافضي الشيعي
فالقرامطة كانوا ينتسبون إلى التشيع فكانوا يلبسون لباسه، فقد كان التشيع لم يزل يتطور بتطرفه وتشيعه، حتى صار ملجأً لكل من يريد أن يحارب الإسلام والمسلمين، فقد دخل في الرافضة أهل الزندقة والإلحاد من "النصيرية" و "الإسماعيلية" وأمثالهم من الملاحدة "القرامطة" وغيرهم ممن كان بخراسان
(1)
بيان تلبيس الجهمية 2/ 478.
والعراق والشام وغير ذلك.
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكانت «محنة الإمام أحمد» سنة عشرين ومائتين، وفيها شرعت القرامطة الباطنية يظهرون قولهم، فإن كتب الفلاسفة قد عربت وعرف الناس أقوالهم فلما رأت الفلاسفة أن القول المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته هو هذا القول الذي يقوله المتكلمون الجهمية ومن اتبعهم، ورأوا أن هذا القول الذي يقولونه فاسد من جهة العقل؛ طمعوا في تغيير الملة. فمنهم من أظهر إنكار الصانع، وأظهر الكفر الصريح، وقاتلوا المسلمين، وأخذوا الحجر الأسود، كما فعلته قرامطة البحرين.)
(2)
الاعتبار الثالث: الاعتبار الفلسفي.
قولهم في الإلهيات يشاركون فيه قول الثنوية من جهة وقول الفلاسفة من جهة أخرى، فالقرامطة، فلم يُثبتوا له اسمًا ولا صفة، كما سيأتي بيانه عند الكلام عن عقيدتهم في الإلهيات.
ويقول أبو حامد الغزالي معلقًا على مذهبهم في المعاد: " فهذا مذهبهم في المعاد وهو بعينه مذهب الفلاسفة وإنما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة فكل واحد نصر مذهبهم طمعا في أموالهم وخلعهم واستظهارا باتباعهم لما كان قد ألفه في مذهبه فصار أكثر مذهبهم موافقا للثنوية والفلاسفة"
(3)
وقال أيضًا في التعليق على مذهبهم في النبوات: "وهذه المذاهب مستخرجة من
(1)
مجموع الفتاوى 28/ 528.
(2)
مجموع الفتاوى 5/ 558.
(3)
فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي - ص 44
مذاهب الفلاسفة في النبوات مع تحريف وتغيير
(1)
.
فصار أكثر مذهبهم موافقا للثنوية والفلاسفة في الباطن وللروافض والشيعة في الظاهر وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة عن نفوس الخلق حتى تبطل به الرغبة والرهبة ثم ما أوهموه وهذوا به لا يفهم في نفسه ولا يؤثر في ترغيب وترهيب
(2)
.
معتقداتهم:
كان القرامطة يجمعون بين الانحراف العقدي والدعوة للانحلال الخلقي
ففي الجانب العقدي
قال شيخ الإسلام مبينا كفر القرامطة: "وأما هؤلاء القرامطة فإنهم في الباطن كافرون بجميع كتب والرسل، ويخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به، لا يظهرونه كما يظهر أهل الكتاب دينهم"
ثم يقول شيخ الإسلام بعد عرضه لعقائدهم: "فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى"
(3)
وقال أيضا: "فهؤلاء القرامطة في الباطن والحقيقة أنهم أكفر من اليهود والنصارى وأما في الظاهر فيدعون الإسلام.
(4)
"
وكان غاية القرامطة الباطنية والمعطلة الدهرية أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه.
(5)
.
(1)
المصدر: فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي - ص 40
(2)
فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي - ص 44
(3)
((مجموع الفتاوى)) (35/ 141).
(4)
((مجموع الفتاوى)) (35/ 142).
(5)
((مجموع الفتاوى)) 6/ 48. «بتصرف»
ومعتقدهم في الإلهيات:
تارة يقولون بقول الثنوية: أنهم قائلون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني واسم العلة السابق واسم المعلول التالي وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه وقد يسمى الأول عقلا والثاني نفسا ويزعمون أن الأول هو التام بالفعل والثاني بالإضافة إليه ناقص لأنه معلوله"
(1)
وتارة يقولون بقول الفلاسفة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا لأن في الإثبات تشبيهاً بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات)
(2)
فالقرامطة، لم يُثبتوا له اسمًا ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه؛ إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
وَلِهَذَا كَانَتْ " الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ " مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَعِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ؛ إذْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ فِي إلَهِهِمْ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ أَوْ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا.
ومعتقدهم في النبوات: المنقول عنهم قريب من مذهب الفلاسفة وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة التالي قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات كما قد يتفق ذلك
(1)
التنبيه والرد على أهل البدع لأبي الحسين محمد الملطي
(2)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
لبعض النفوس الزكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحا بعينه أو مدرجا تحت مثال يناسبه مناسبة ما فتفتقر فيه إلى التعبير إلا أن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة فلذلك يدرك النبي الكليات العقلية عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية كما ينطبع مثال المحسوسات في القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجرام السفلية.
وزعموا أن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه ورمز إليه لا أنه شخص متجسم متركب عن جسم لطيف أو كثيف يناسب المكان حتى ينتقل من علو إلى أسفل. وأما القرآن فهو عندهم تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه من العقل الذي هو المراد باسم جبريل، ويسمى كلام الله تعالى مجازا فإنه مركب من جهته وإنما الفائض عليه من الله بواسطة جبريل بسيط لا تركيب فيه وهو باطن لا ظهور له، وكلام النبي وعبارته عنه ظاهر لا بطون له وزعموا أن هذه القوة القدسية الفائضة على النبي لا تستكمل في أول حلولها كما لا تستكمل النطفة الحالة في الرحم إلا بعد تسعة أشهر فكذلك هذه القوة كمالها في أن تنتقل من الرسول الناطق إلى الأساس الصامت وهكذا تنتقل إلى أشخاص بعضهم بعد بعض فيكمل في السابع
…
وهذه المذاهب مستخرجة من مذاهب الفلاسفة في النبوات مع تحريف وتغيير
(1)
.
ومعتقدهم في اليوم الآخر: أنهم كلهم أنكروا القيامة، وقالوا: هذا النظام، وتعاقب الليل والنهار، وتولد الحيوانات لا ينقضي أبدا. وأولوا القيامة بأنها رمز إلى خروج الإمام، ولم يثبتوا الحشر ولا النشر ولا الجنة ولا النار
(2)
(1)
المصدر: فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي - ص 40
(2)
القرامطة لابن الجوزي - ص 60.
قال الملطي: "وزعموا أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور أن من مات بلى جسده ولحق روحه بالنور الذي تولد منه حتى يرجع كما كان"
(1)
وفي جانب العبادات
آل الأمر القرامطة الباطنية إلى تأويل جملة الشريعة حتى ما يتعلق منها بالأحكام الشرعية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وجعل ذلك كله من قبيل الباطن المخالف للظاهر.
"فإنهم يدعون أن للقرآن والإسلام باطنًا يخالف الظاهر؛ فيقولون: الصلاة المأمور بها ليست هذه الصلاة، أو هذه الصلاة إنما يؤمر بها العامة، وأما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا. والصيام: كتمان أسرارنا. والحج: السفر إلى زيارة شيوخنا المقدسين
ويقولون: إن الجنة للخاصة: هي التمتع في الدنيا باللذات، والنار هي التزام الشرائع والدخول تحت أثقالها".
(2)
قال الملطي: " يزعمون أن الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الفرائض نافلة لا فرض وإنما هو شكر للمنعم وأن الرب لا يحتاج إلى عبادة خلقه وإنما ذلك شكرهم فمن شاء فعل ومن شاء لم يفعل والاختيار في ذلك إليهم"
(3)
وفي الجانب الخلقي:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما القول بالإباحة وحل المحرمات -أو بعضها-للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول، فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة، ولهذا يُضرب بهم المثل
(1)
التنبيه والرد على أهل البدع لأبي الحسين محمد الملطي
(2)
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية -2/ 203
(3)
التنبيه والرد على أهل البدع لأبي الحسين محمد الملطي
فيقال: فلان يستحل دمي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع"
(1)
شبهة غلاة القرامطة ومن شابههم
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فغاليتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم - بزعمهم - إذا وصفوه بالإثبات شبّهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبّهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بدائه العقول، وحرّفوا ما أنزل الله تعالى من الكتاب، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقعوا في شرٍّ مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات.
وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بدّ له من موجد، واجب بذاته، غني عما سواه، قديم، أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم. فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلًا عن الوجوب أو الوجود أو القدم.
وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات، دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
وقد عُلم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم، مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدًا للعلوم الضروريات".
(1)
انظر: منهاج السنة (2/ 622 - 625).
الشرح
قبل الشروع في بيان كلام المصنف يحسن إعطاء نبذة عن الأمور الآتية:
الأمر الأول: نبذة عن المدارس الفلسفية اليونانية.
وقد مرت الفلسفة اليونانية في مسارها الفكري بثلاث مراحل أساسية:
1) طور النشأة أو مايسمى بفلسفة ما قبل سقراط.
2) طور النضج والازدهار ويمتد هذا الطور من سقراط حتى أرسطو.
3) طور الجمود والانحطاط وقد ظهر هذا الطور بعد أرسطو وأفلاطون وامتد حتى بداية ما يسمونه العصور الوسطى.
(1)
فالفلاسفة القدماء لم يكونوا على درجة واحدة في معتقداتهم فهم مدارس متعددة من أشهرها:
أولًا: المدرسة الطبيعية أو الكوسمولوجية
(2)
ثانيًا: المدرسة الفيتاغورية
(3)
ثالثًا: المدرسة السفسطائية أو مدرسة الشكاك.
(4)
(1)
د. محمد عبد الرحمن مرحبا: من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات بيروت، باريس، ط 2، 1981، ص: 85؛
(2)
وهم مجموعة من الحكماء الطبيعيين الذين بحثوا عن العلة الحقيقية للوجود الذي أرجعوه إلى أصل مادي، وكان ذلك في القرن السابع والسادس قبل الميلاد. انظر: د. نجيب بلدي: دروس في تاريخ الفلسفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1، 1987، ص:13.
(3)
تنسب المدرسة الفيتاغورية إلى العالم الرياضي اليوناني الكبير فيتاغورس الذي يعد أول من استعمل كلمة فيلسوف، وكانت بمعنى حب الحكمة، وتتسم الفيتاغورية بأنها مذهب ديني عميق الرؤية والشعور، كما أنها مدرسة علمية تعنى بالرياضيات والطب والموسيقا والفلك.
(4)
ظهرت المدرسة السفسطائية في القرن الخامس قبل الميلاد ومن أهم الفلاسفة السفسطائيين نذكر جورجياس وكاليكيس وبروتاغوراس. وقد سبب هذا التيار الفلسفي القائم على الشك والتلاعب اللفظي وتضييع الحقيقة وعدم الاعتراف بها.
رابعًا: المدرسة السقراطية.
(1)
خامسًا: المدرسة المثالية الأفلاطونية.
(2)
سادسًا: مدرسة أرسطو المادية.
(3)
سابعًا: المدرسة الرواقية.
(4)
(1)
يعد سقراط (486 - 399 م) أب الفلاسفة اليونانيين، وقد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. ويعني هذا أن الحكماء الطبيعيين ناقشوا كثيرا من القضايا التي تتعلق بالكون وأصل الوجود وعلته الحقيقية التي كانت وراء انبثاق هذا العالم وهذا الوجود الكوني. وعندما ظهر سقراط غير مجرى الفلسفة فحصرها في أمور الأرض وقضايا الإنسان والذات البشرية فاهتم بالأخلاق والسياسة. والهدف من الفلسفة لدى سقراط هو تحقيق الحكمة وخدمة الحقيقة لذاتها.
(2)
جاء أفلاطون بعد سقراط ليقدم تصورا فلسفيا عقلانيا مجردا ولكنه تصور مثالي؛ لأنه أعطى الأولوية للفكر والعقل والمثال بينما المحسوس لا وجود له في فلسفته المفارقة لكل ماهو نسبي وغير حقيقي. ولأفلاطون نسق فلسفي متكامل يضم تصورات متماسكة حول الوجود والمعرفة والقيم.
ففلسفة أفلاطون فلسفة مثالية مفارقة للمادة والحس، تعتبر عالم المثل العالم الأصل بينما العالم المادي هو عالم زائف ومشوه وغير حقيقي. انظر: أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، دار القلم، بيروت، لبنان، بدون تاريخ للطبعة؛
(3)
يعد أرسطو فيلسوفا موسوعيا شاملا، وقد وضع المنطق الصوري الذي كان له تأثير كبير على كثير من الفلاسفة إلى أن حل محله المنطق الرمزي مع برتراند راسل ووايتهاد.
يذهب أرسطو إلى أن العالم الحقيقي هو العالم الواقعي المادي، أما العالم المثالي فهو غير موجود. وأن الحقيقة لا توجد سوى في العالم الذي نعيش فيه، وعد أرسطو فيلسوفا ماديا اكتشف العلل الأربع: العلة الفاعلة والعلة الغائية والعلة الصورية الشكلية والعلة المادية. فإذا أخذنا الطاولة مثالا لهذه العلل الأربع، فالنجار يحيل على العلة الفاعلة والصانعة، أما الخشب فيشكل ماهية الطاولة وعلتها المادية، أما صورة الطاولة فهي العلة الصورية الشكلية، في حين تتمظهر العلة الغائية في الهدف من استعمال الطاولة التي تسعفنا في الأكل والشرب.
(4)
تعد الفلسفة عند الرواقيين مدخلا أساسيا للدخول إلى المنطق والأخلاق والطبيعة. وقد كان المنطق الرواقي مختلفا عن المنطق الأرسطي الصوري، وقد أثر منطقهم على الكثير من الفلاسفة والعلماء.
وتعتمد المدرسة الرواقية التي ظهرت بعد فلسفة أرسطو على إرساء فن الفضيلة ومحاولة اصطناعها في الحياة العملية، ولم تعد الفلسفة تبحث عن الحقيقة في ذاتها، بل أصبحت معيارا خارجيا تتجه إلى ربط الفلسفة بالمقوم الأخلاقي، وركز الكثيرون دراساتهم الفلسفية على خاصية الأخلاق كما فعل سنيكا الذي قال:" إن الفلسفة هي البحث عن الفضيلة نفسها، وبهذا تتحقق السعادة التي تمثلت في الزهد في اللذات ومزاولة التقشف والحرمان"د. توفيق الطويل: الفلسفة في مسارها التاريخي، دار المعارف القاهرة، مصرط 1، 1977، ص: 14
ثامنًا: المدرسة الأبيقورية.
(1)
تاسعًا: المدرسة الإسكندرية.
(2)
الأمر الثاني: العلاقة بين الفلاسفة القدماء وبين الفلاسفة الذين يزعمون أنهم انتسبوا إلى الإسلام.
المدارس السابق ذكرها يمكن تقسيمها فكريًا إلى ثلاث مدارس رئيسة هي:
أولًا: المدرسة السوفسطائية:
والسوفسطائية أو مدرسة الشكاك ومن أبرز
(1)
تنسب الفلسفة الأبيقورية إلى أبيقور (341 - 270 ق. م)، وتتميز فلسفته بصبغة أخلاقية عملية، وترتبط هذه الفلسفة باللذة والسعادة الحسية. وتسعى الفلسفة في منظور هذه المدرسة إلى الحصول على السعادة باستعمال العقل التي هي غاية الفلسفة يخدمها المنطق وعلم الطبيعة. أي إن المنطق هو الذي يسلم الإنسان إلى اليقين الذي به يطمئن العقل والذي بدوره يؤدي إلى تحقيق السعادةد. توفيق الطويل: الفلسفة في مسارها التاريخي، دار المعارف القاهرة، مصرط 1، 1977، ص: 14
(2)
وقد انتعشت هذه المدرسة في القرون الميلادية الأولى وامتزجت بالحضارة الشرقية مع امتداد الفكر الديني والوثني وانتشار الأفكار الأسطورية والخرافية والنزعات الصوفية.
ومن وتميزات هذه المدرسة التوفيق بين آراء أفلاطون المثالية وأرسطو المادية، والتشبع بالمعتقدات الدينية المسيحية واليهودية والأفكار الوثنية من زرادشتية ومانوية وبوذية، والفصل بين العلم والفلسفة بعد ظهور فكرة التخصص المعرفي.، والاهتمام بالتصوف و التجليات العرفانية والغنوصية والانشغال بالسحر والتنجيم والغيبيات والإيمان بالخوارقد. محمد عبد الرحمن مرحبا: نفس المرجع، ص: 228
مشاهيرهم جورجياس وبروتاغورايس.
وعرف عن المغالطين أنهم يتقصدون استعمال الكلمات المتقاربة في اللفظ والمشتركة في المعنى والغامضة في الدلالة الذين أطلق عليهم المغالطين في ذلك الوقت والذين كانوا يميلون في جدالهم إلى الإبهام في الألفاظ والإيهام في المعاني.
من أهم السفسطائيين أيضاً، وربما على الإطلاق، سقراط الذي شاركهم الاهتمام بالإنسان وحده وبالمجادلة عن الآراء ثم خالفهم في أنه جعل قيمة الأشياء مطلقة وقد جعل جداله محاذياً للمنطق فامتاز عنهم في الجدل بأنه جعل رد السؤال بسؤال من جنسه ليثير التفكير عند السائل ثم مزج الجد في الجدال بشيء من التهكم. كما أن كثيرًا من الفلاسفة المعاصرين تبنوا أو تأثروا بهذا المذهب ولعل أهمهم كان فريدريك نيتشة وديكارت وغيرهم. وطور السفسطائيون من أسلوبهم في التعامل بالمنطق فكانوا يميلون إلى المنطق الممزوج بالخيال أحياناً.
ثانيًا: المدرسة الإشراقية:
التي نادى بها أفلاطون، الذي كان يرى بأنّ المعارف بالخصوص الإلهية منها، لا تتأتى عن طريق الاستدلال العقلي فحسب، بل لابد وأن يوجد إلى جانب ذلك سير وسلوك وتهذيب أخلاقي يبعث إشراقات وإفاضات للمعارف الإلهية على القلب.
والمَدرسة الإشراقيَّة: مدرسة ترى أن المعرفة تتمّ عن طريق ظهور الأنوار العقليّة ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النُّفوس عند تحرّرها.
والإشراقية هو مذهب فلسفي، وهو كلمة مشتقة من «الإشراق» وهي في اللغة الإضاءة والإنارة.
(1)
واصطلاحا عرّفه البعض بأنه «ظهور الأنوار الإلهية في قلب الإنسان الصوفي
(1)
انظر: المعجم الفلسفي. موسوعة شبكة المعرفة الريفية.
(العارف) "
(1)
.
فيما عرفه آخرون بأنه «معرفة الله من طريق الكشف أو نتيجة لانبعاث نور من العالم غير المحسوس إلى الذهن".
(2)
ثالثًا: المدرسة المشائيّة:
وتتمثل بفلسفة أرسطو طاليس حيث كان يعتمد على الأسلوب الاستدلالي وسميّت فلسفته بهذا الاسم، لأنه كان يسير من المقدمات إلى النتيجة على حد قولهم.
وقد تشعب الفلاسفة الذين ينتسبون إلى المسلمين على غرار ذلك إلى:
1 -
فلاسفة مشائين: وأبرز علماء المدرسة المشائية بين المسلمين هم: يعقوب بن إسحاق الكندي، وأبي نصر الفارابي، وأبي علي بن سينا، ونصير الدين الطوسي، والميرداماد، وابن رشد الأندلسي، وابن باجة الأندلسي.
(3)
ولكن هؤلاء لم يكونوا جميعهم يوافقونهم في كل شيء وفي هذا يقول ابن تيمية في ذكر هذا الصنف: " وعلى طريقهم:
1) مشى أبو البركات صاحب "المعتبر" لكن لم يقلدهم تقليد غيره بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله.
(1)
انظر: علاء الدين، بكري "الإشراقية". الموسوعة العربية. هئية الموسوعة العربية سورية- دمشق.
(2)
البعلبكي، منير (1991). "الإشراق". موسوعة المورد. موسوعة شبكة المعرفة الريفية.
(3)
انظر: باب المدرسة المشائية، كتاب علم الفلسفة، 2010، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. قال ابن تيمية:"مذهب الفلاسفة الذين نصره الفارابي وابن سينا وأمثالها كالسهروردي المقتول على الزندقة وكأبي بكر بن الصائغ وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائين اتباع أرسطو صاحب المنطق وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب "مقاصد الفلاسفة" وعليه رد في "التهافت" وهو الذي يذكره الرازي في "الملخص" و"المباحث المشرقية" ويذكره الأمدى في "دقائق الحقائق" و "رموز الكنوز" وغير ذلك. " الرد على المنطقيين 1/ 334/ 337
2) وكذلك الرازي والأمدى يعترضان عليهم في كثير مما يذكرونه بحسب ما يسنح لهم.
3) وابن سينا أيضا قد يخالف الأولين في بعض ما ذكروه ولهذا ذكر في كتابه المسمى ب "الشفاء" أن الحق الذي ثبت عنده ذكره في "الحكمة المشرقية".
4) والسهروردي ذكر ما ثبت عنده في "حكمة الاشراق"
5) والرازي في "المباحث المشرقية. "
والمقصود هنا أن نظار المسلمين ما زالوا يصنفون في الرد عليهم في المنطق وغير المنطق ويبينون خطاهم فيما ذكروه في الحد والقياس جميعًا، كما يبينون خطأهم في الإلهيات وغيرها ولم يكن أحد من نظار المسلمين يلتفت إلى طريقتهم بل المعتزلة والأشعرية والكرامية والشيعة وسائر طوائف النظر كانوا يعيبونها ويثبتون فسادها وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره"
(1)
.
2 -
وفلاسفة إشراقيين: ويطلق اسم الإشراقيين بالأخصّ على السّهرورديّ وأتباعه
(2)
، ففي أواسط القرن السادس الهجري، شرح شهاب الدين السهروردي
(3)
أفكار أفلاطون بعد أن هواها ودافع عنها، وبذلك أسس الفلسفة الإشراقية في البلاد الإسلامية ونقد الفلسفة المشائيّة.
(1)
الرد على المنطقيين 1/ 334/ 337.
(2)
انظر: معجم المعاني الجامع تعريف ومعنى المدرسة الإشراقيّة.
(3)
شهاب الدين السهروردي: «550 ـ 587 هـ» صاحب مدرسة الإشراق، وله مصنفات منها: التلويحات اللوحية والعرشية، والألواح العمادية وهياكل النور.
نشر أفكاره في حلب مما ألب الناس عليه واتهموه بالكفر مما دعى صلاح الدين الأيوبي أن يأمر ابنه الملك الظاهر بقتله فقتله في قلعة حلب وفي شهر رجب.
3 -
وفلاسفة سفسطائيين: وقد كان هذا التيار الفلسفي يقوم على الشك والتلاعب اللفظي وتضييع الحقائق وعدم الاعتراف بها، فالسفسطة في المعجم الوسيط تعني من أتى بالحكمة المموّهة ..
والذي يهمنا في هذا االمقام هم هؤلاء
وذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية إن السفسطة أربعة أنواع.
النوع الأول: قول المتجاهلة اللا أدرية، أصحاب الجهل البسيط والكفر البسيط، ويقولون لا نحكم بهذا ولا نحكم بهذا.
النوع الثاني: قول أهل التكذيب والجحود والنفي، والذين يجزمون بنفي الحقائق والعلم بها.
النوع الثالث: الذين يجعلون الحقائق تتبع العقائد، فمن اعتقد ثبوت شيء كان في حقه ثابتًا، ومن نفاه كان في حقه منتفيًا، ولا يجعلون للحقائق أمرًا هي عليه في أنفسها.
النوع الرابع: من يقول: الحقائق موجودة لكن لا سبيل إلى العلم بها، إما لكون العالم في السيلان فلا يمكن العلم بحقيقته، وإما لغير ذلك
وهذه الأنواع الأربعة موجودة في هؤلاء الملاحدة الذين ينتسبون للإسلام:
فمنهم: الواقفة المتجاهلة الذين يقولون: لا نثبت ولا ننفي.
ومنهم: المكذبة الذين ينفون.
ومنهم: من يجعل الحقائق تتبع العقائد، كما يحكى عن طائفة تصوب كل واحد من القائلين للأقوال المتناقضة، وكما يقوله من يقوله من أصحاب وحدة الوجود-ابن عربي ونحوه-بأن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيب فيها حتى قال:
عقد الخلائق في الإله عقائد .... وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
وأما الرابع فهو منتهى قول أئمة الجهمية، وهو الحيرة والشك لتكافؤ الأدلة عند بعضهم، أو لعدم الدليل المرشد عند بعضهم؛ وهذا عند أصحاب وحدة الوجود هو أعلى العلم بالله تعالى"
(1)
.
الأمر الثالث: بيان مقولات غلاة المعطلة.
لما ذكر المصنف رحمه الله أسماء الفرق الضالة في باب تعطيل الصفات.
وأنهم ينقسمون إلى قسمين رئيسيين هما:
القسم الأول: الفلاسفة.
وهم صنفان:
الصنف الأول: أهل الفلسفة البحتة؛ كابن سينا، ومن على شاكلته.
الصنف الثاني: أهل الفلسفة الباطنية، وهي نوعان:
أ-رافضية: ومنهم القرامطة والإسماعيلية.
ب- صوفية: ومنهم فرق الاتحادية؛ كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض.
القسم الثاني من المعطلة هم: أهل الكلام.
وهم خمسة أصناف:
ا-الجهمية.
2 -
المعتزلة.
3 -
الكلابية.
4 -
الأشاعرة.
(1)
الرسالة الصفدية - قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة ص 70، 71.
5 -
الماتريدية.
شرع في بيان مقولاتهم وبدأ ببيان القسم الأول من أقسام المعطلة (غلاة المعطلة):
غلاة المعطلة ليسوا على درجة واحدة في تعطليهم فهم على أربع درجات، وقد أشار المصنف في هذا النص إلى درجتين هما:
الدرجة الأولى: المتجاهلة الواقفة:
قال المصنف: "فغاليتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم - بزعمهم - إذا وصفوه بالإثبات شبّهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبّهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين".
فهؤلاء هم الذين يقولون: لا نُثبت ولا نَنفي، وهذه الدرجة للقرامطة الباطنية المتفلسفة
(1)
، فهؤلاء يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير
(1)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
(2)
-مجموع الفتاوى 3/ 7 - 8.
ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا: لأن في الإثبات تشبيهًا بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات»
(1)
.
وقد رد المصنف على أصحاب هذا القول فقال: "وهذا ممتنع في بدائه العقول، وحرّفوا ما أنزل الله تعالى من الكتاب، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقعوا في شرٍّ مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات".
لأنهم إن فروا من تشبيهه بالموجودات، وفروا من تشبيهه بالمعدومات بأن زعموا أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين فإنهم بقولهم هذا وقعوا في شر مما فروا منه لأنهم بهذا القول شبههوه بالممتنعات.
وقوله: "وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بدّ له من موجد، واجب بذاته، غني عما سواه، قديم، أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم. فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلًا عن الوجوب أو الوجود أو القدم".
وهنا يستخدم المصنف تعبيرات هؤلاء الفلاسفة ومصطلحاتهم إذ يطلقون مسمى "واجب الوجود" على الله عز وجل بحسب تعبيراتهم، وهم كذلك يقسمون الكون إلى قسمين هما: واجب الوجود ويعنون به الخالق، وممكن الوجوب ويعنون به المخلوق.
وعلى هذا التقسيم لابد لكل واحد منهما من وجود يخصه ويميزه عن غيره.
والفطر السليمة تقر "بأن الوجود لا بدّ له من موجد، واجب بذاته، غني عما
(1)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
سواه، قديم، أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم". وهؤلاء النفاة عطلوا ذلك كله بل ووصفوه بالممتنعات، وسلبوا عنه صفة الوجود والوجوب والقدم.
الدرجة الثانية: درجة المكذبة النفاة:
وهذه الدرجة هي التي عناها المصنف بقوله: "وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات، دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق".
وهي الدرجة عليها غُلاة الجهمية وطائفة من الفلاسفة
(1)
، وهو كذلك قول ابن سينا وأمثاله
(2)
.
فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون له إلا وجودًا مطلقًا لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان
(3)
، فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات
(4)
.
وقد رد المصنف على أصحاب هذه الدرجة من درجات التعطيل فقال: "وقد عُلم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم، مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدًا للعلوم الضروريات".
(1)
-مجموع الفتاوى 3/ 7 - 8.
(2)
-الصفدية 1/ 299، 300.
(3)
-مجموع الفتاوى 3/ 7، شرح الأصفهانية ص 51، 52.
(4)
-مجموع الفتاوى 3/ 8.
فمن المعلوم أن مراتب وجود الشيء أربعة
المرتبة الأولى: مرتبة في الأعيان والمراد. بها وجوده العيني.
والمرتبة الثانية: مرتبة في الأذهان، والمراد. بها وجوده الذهني.
والمرتبة الثالثة: مرتبة في اللسان، والمراد بها وجوده اللفظي.
والمرتبة الرابعة: مرتبة في الخط، والمراد بها وجوده الرسمي. "
(1)
.
فهذا الذي ذكره أصحاب هذه الدرجة من المعطلة هم في الحقيقة لم يخرجوا وجوده عن الوجود الذهني المقدر في الذهن، ولم يجعلوا له وجودًا حقيقيًا.
وقوله: "وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم، مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدًا للعلوم الضروريات".
قال ابن تيمية: "وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الذَّاتَ الْمَوْصُوفَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الصِّفَاتِ أَصْلًا وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَاتٍ خَالِيَةٍ عَنْ الصِّفَاتِ. فَدَعْوَى الْمُدَّعِي وُجُودُ حَيٍّ عَلِيمٍ قَدِيرٍ بَصِيرٍ بِلَا حَيَاةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ؛ كَدَعْوَى قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَحَيَاةٍ لَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا بَلْ دَعْوَى شَيْءٍ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ قَدِيمٍ أَوْ مُحْدَثٍ عَرِيَ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ.
(2)
"
وبقى درجتان لم يذكرهما المصنف هنا وهما:
الدرجة الثالثة: المتجاهلة اللا أدرية:
وهم الذين يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين،
(1)
انظر: مختصر الصواعق 2/ 304، 305.
(2)
مجموع الفتاوى 3/ 335.
لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه
(1)
.
الدرجة الرابعة: أصحاب وحدة الوجود:
وهم الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام وفي ذلك يقول ابن عربي:
ألا كل قول في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
يعم به أسماع كل مكون
…
فمنه إليه بدؤه وختامه
(2)
فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: {أنا ربُّكم الأعلى} [النازعات: 24]{وما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 28] وبين القول الذي يسمعه موسى {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]. بل يقولون: إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون، يصرحون بأن أقوالهم هي قوله)
(3)
.
وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين وابن الفارض،
(1)
-الصفدية 1/ 96، 98.
(2)
-الفتوحات المكية 4/ 141 ط: دار صادر، بيروت.
(3)
-بغية المرتاد ص 349.
والعفيف التلمساني.
وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوي الآخر ويفتقر إليه، وفي هذا يقول ابن عربي:
فيعبدني وأعبده
…
ويحمدني وأحمده
(1)
ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت
(2)
فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد والكمال فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم أيضا وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضين.
(3)
وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.
ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى
(1)
-فصوص الحكم 1/ 83.
(2)
-بغية المرتاد ص 397، 398.
(3)
-بغية المرتاد ص 408.
نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:
"عين ما ترى ذات لا ترى
…
وذات لا ترى عين ما ترى".
وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود.
(1)
وفي هذا يقول ابن عربي:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً
…
وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً
…
وكنت إماماً في المعارف سيداً
فمن قال بالإشفاع كان مشركاً
…
ومن قال بالإفراد كان موحداً
فإياك والتشبيه إن كنت ثانياً
…
وإياك والتنزيه إن كنت مفرداً
فما أنت هو بل أنت هو وتراه
…
في عين الأمور مسرحا ومقيداً
(2)
كلام غلاة المعطلة المتقدم ذكره يدور على أحد أصلين:
1 -
الأصل الأول:
النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه، بأن جعلوا الحق لا وجود له، ولا حقيقة له في الخارج أصلاً وإنما هو أمر مطلق في الأذهان. وهذا الذي عليه المكذبة النفاة، والمتجاهلة الواقفة، والمتجاهلة اللا أدرية.
(1)
-بغية المرتاد ص 473.
(2)
-بغية المرتاد ص 527.
2 -
الأصل الثاني:
أن يجعلوا الحق عين وجود المخلوقات، فلا يكون للمخلوقات خالق غيرها أصلاً، ولا يكون رب كل شيء ولا مليكه. وهذا الذي عليه حال أهل وحدة الوجود الاتحادية في أحد حاليهم فهذا حقيقة قول القوم وإن كان بعضهم لا يشعر بذلك.
ولذلك كان الغلاة من القرامطة والباطنية والفلاسفة والاتحادية نسخة للجهمية الذين تكلم فيهم السلف والأئمة، مع كون أولئك كانوا أقرب إلى الإسلام. فقد كان كلام الجهمية يدور أيضاً على هذين الأصلين فهم يظهرون للناس والعامة أن الله بذاته موجود في كل مكان، أو يعتقدون ذلك.
وعند التحقيق يصفونه بالسلب الذي يستوجب عدمه كقولهم: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ومحايث، ولا متصل به ولا منفصل عنه، وأشباه هذه السلوب.
مذهب المعتزلة في نفي الصفات
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتّبعهم فأثبتوا له الأسماء دون ما تضمنته من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمّنه من الصفات.
والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات".
الشرح
بعد أن فرغ المصنف من الكلام عن القسم الأول والثاني من المعطلة وهم غلاة المعطلة الذين هم (الفلاسفة سواء كانوا أهل فلسفة بحتة أم فلسفة الباطنية سواء كانت رافضية كالقرامطة أو صوفية كالاتحادية، ويضاف معهم الجهمية) فهؤلاء جميعهم يجمعهم وصف غلاة المعطلة.
شرع هنا في بيان القسم الثالث من المعطلة وهم أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم فقال: "وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتّبعهم".
والكلام على هذا القسم يكون في الأمور الآتية:
الأمر الأول: الفرق بين الفلاسفة وأهل الكلام:
الوجه الأول:
• أن الفلاسفة يعمِّمون قولهم في كل غيب، فيتكلمون بهذا الزعم في مسائل الإيمان بالله وفي مسائل الإيمان باليوم الآخر، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى الأمور العملية.
• أما أهل الكلام فيطلقون هذه العبارات في أبواب دون أبواب، فهم دونهم في هذا الأمر، فهم يعمِّمون مثل هذه الأقوال في مسائل الصفات دون مسائل الإيمان باليوم الآخر، مع ما عند الجهمية والمعتزلة من خلل في بعض مسائل المعاد كمسائل عذاب القبر، وكذلك الشفاعة وفناء الجنة والنار وغيرها من المسائل التي تتعلق باليوم الآخر.
فإطلاقهم بمثل هذه العبارات خاص في باب الصفات فخصوا بالذكر باب الصفات دون غيره من الأبواب.
الوجه الثاني: من الفروق بين مسلك الفلاسفة ومسلك أهل الكلام: هو أن
الطريقة اختلفت.
• فالفلاسفة يقولون: إن ما جاء به الرسول وهم وخيال.
• أما أهل الكلام فيقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني، ولم يبين تلك المعاني ولا دل الناس عليها ولكن ترك ذلك امتحاناً لعقولهم.
فلم يقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دَلَّهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم إتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة، والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك"
(1)
.
الأمر الثاني: الفرق بين الجهمية وبين باقي فرق أهل الكلام.
حيث يلاحظ أن شيخ الإسلام هنا ضم الجهمية إلى غلاة المعطلة وفصل قولهم عن قول المعتزلة ومن تبعهم
والسبب في ذلك يعود إلى أن الغلاة من القرامطة والباطنية والفلاسفة والاتحادية نسخة للجهمية الذين تكلم فيهم السلف والأئمة، مع كون أولئك كانوا أقرب إلى الإسلام. فقد كان كلام الجهمية يدور أيضاً على هذين الأصلين فهم يظهرون للناس والعامة أن الله بذاته موجود في كل مكان، أو يعتقدون ذلك.
وعند التحقيق يصفونه بالسلب الذي يستوجب عدمه كقولهم: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ومحايث، ولا متصل به ولا منفصل عنه،
(1)
مجموع الفتاوى 3/ 19.
وأشباه هذه السلوب.
فكلام أول الجهمية وآخرهم يدور على هذين الأصلين:
1 -
إما النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه.
2 -
وإما الإثبات الذي يقتضي أنه هو المخلوقات. أو جزء منها أو صفة لها.
وكثير منهم يجمع بين هذا النفي وهذا الإثبات المتناقضين، وإذا حوقق في ذلك قال: ذاك السلب مقتضى نظري. وهذا الإثبات مقتضى شهودي وذوقي. ومعلوم أن العقل والذوق إذا تناقضا لزم بطلانهما أو بطلان أحدهما.
(1)
وهذا حال الجهمية دائماً يترددون بين هذا النفي العام المطلق، وهذا الإثبات العام المطلق، وهم في كليهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي أمروا بعبادته.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والجهمية نفاة الصفات تارة يقولون بما يستلزم الحلول والاتحاد، أو يصرحون بذلك. وتارة بما يستلزم الجحود والتعطيل، فنفاتهم لا يعبدون شيئاً، ومثبتتهم يعبدون كل شيء.)
(3)
ولا ريب أن هؤلاء المعطلة بصنيعهم هذا قد أعرضوا عن أسمائه وصفاته وآياته وصاروا جهالاً به، كافرين به، غافلين عن ذكره، موتى القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته، وهذا هو غاية القرامطة الباطنية والمعطلة الدهرية أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه.
(4)
.
(1)
-بغية المرتاد ص 410، 411.
(2)
-نقض تأسيس الجهمية 2/ 467.
(3)
-مجموع الفتاوى 6/ 39.
(4)
-مجموع الفتاوى 6/ 48. «بتصرف»
وأما بقية أهل الكلام فقد شاركوا الفلاسفة في بعض أصولهم، وأخذوا عنهم القواعد المنطقية والمناهج الكلامية، وتأثروا بها إلى درجة كبيرة.
وسلكوا في تقرير مسائل الاعتقاد المسلك العقلاني على حد زعمهم، وهم وإن كانوا يخالفون الفلاسفة في قولهم إن هذه الحقائق مجرد وهم وخيال، إلا أنهم شاركوهم في تشويه كثير من الحقائق الغيبية، فلا تجد في كتب أهل الكلام على اختلاف طوائفهم تقريراً لمسائل الاعتقاد كما جاءت بها النصوص الصحيحة، فبدل أن تسمع أو تقرأ "قال الله" أو "قال رسوله صلى الله عليه وسلم" أو "قال الصحابة"، فإنك لا تجد في كتبهم إلا "قال الفضلاء"، "قال العقلاء"، "قال الحكماء"، ويعنون بهم فلاسفة اليونان من الوثنيين، فكيف جاز لهم ترك كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ بكلام من لا يعرف الله ولا يؤمن برسوله؟!
والمطَّلِع على كتب أهل الكلام يدرك عِظَم الضرر الذي جَنَتْهُ على الأمة المسلمة، إذ تسببت تلك الكتب في حجب الناس عن المعرفة الصحيحة لله ورسوله ولدينه، وجُعِلَ بدل ذلك مقالات التعطيل والتجهيل والتخييل.
الأمر الثالث: أهل الكلام ليسوا صنفاً واحداً بل هم عدة أصناف، وهم:
1 ـ الجهمية، 2 ـ المعتزلة، 3 ـ الكلابية، 4 ـ الأشاعرة، 5 ـ الماتريدية.
وهذه الأصناف الخمسة كل له قوله ورأيه بحسب الشبه العقلية التي استند إليها.
أولاً: الجهمية.
فأما الجهمية فهم أتباع جهم بن صفوان الذي أخذ عن الجعد ابن درهم مقالة التعطيل عندما التقى به بالكوفة
(1)
، وقد نشر الجهم مقالة التعطيل وامتاز عن شيخه الجعد بمزية المغالاة في النفي وكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه نظراً لما كان عليه من
(1)
مختصر تاريخ دمشق (6/ 50)، والبداية (9/ 350).
سلاطة اللسان وكثرة الجدال والمراء.
من أشهر معتقداتهم:
1 ـ إنكارهم لجميع الأسماء والصفات كما سيأتي تفصيله.
2 ـ أنهم في باب الإيمان مرجئة، يقولون: إن الإيمان يكفي فيه مجرد المعرفة القلبية، وهذا شر أقوال المرجئة.
3 ـ أنهم في باب القدر جبرية، ينكرون قدرة العبد واختياره في فعله.
4 ـ ينكرون رؤية الخلق لله يوم القيامة.
5 ـ يقولون إن القرآن مخلوق.
6 ـ يقولون بفناء الجنة والنار.
إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة التي قال بها الجهمية.
ثانياً: المعتزلة.
وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وهم فرق كثيرة يجمعها ما يسمونه بأصولهم الخمسة وهي:
1 ـ التوحيد، 2 ـ العدل، 3 ـ الوعد والوعيد، 4 ـ المنزلة بين المنزلتين، 5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والاعتزال في حقيقته يحمل خليطاً من الآراء الباطلة التي كانت موجودة في ذلك العصر، فقد جمع المعتزلة بين أفكار الجهمية، والقدرية، والخوارج، والرافضة.
فقد شاركوا الجهمية في بعض أصولهم، فوافقوهم في إنكار الصفات، فزعموا أن ذات الله لا تقوم بها صفة ولا فعل، كما سيأتي تفصيله. وقالوا بإنكار رؤية الله يوم القيامة وقالوا إن القرآن مخلوق إلى غير ذلك.
كما شاركوا القدرية في إنكارهم لقدرة الله في أفعال العباد، وأخذوا عنهم القول بأن العباد يخلقون أفعالهم.
كما شاركوا الخوارج في مسألة الإيمان، وقالوا بقولهم إن الإيمان قول، واعتقاد، وعمل، لا يزيد ولا ينقص، وأنه إذا ذهب بعضه زال كلّه.
وبناءً على ذلك شاركوهم في مسألة مرتكب الكبيرة، فالمعتزلة وإن قالوا بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، لكنهم وافقوا الخوارج في قولهم بأن مرتكب الكبيرة في الآخرة خالد مخلد في النار.
وأخذوا كذلك عن الخوارج رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما أنهم شاركوا الروافض في الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من كلام واصل بن عطاء في أهل صفين قوله:"إن كليهما فاسق لا بعين" وقوله عن علي ومعاوية رضي الله عنهما: "لو أن كليهما جاء عندي يشهد على حزمة بقل ما قبلت شهادتهما"، وأواخر المعتزلة كانوا أقرب إلى التشيع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة بذلك (يعني مسائل الصفات والقدر)، فأما متأخروهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك، فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم، والمعتزلة شيوخ هؤلاء إلى ما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبيه أبي جعفر الطوسي، والملقب بالمرتضى ونحوهم هو من كلام المعتزلة، وصار حينئذ في المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع إما تسوية علي بالخليفتين، وإما تفضيله عليهما، وإما الطعن في عثمان، وإن كانت المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر.
وقدماء المعتزلة كعمرو بن عبيد وذويه كانوا منحرفين عن علي حتى كانوا
يقولون: لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم نقبلها، لأنه قد فسق أحدهما لا بعينه. فهذا الذي عليه متأخرو الشيعة والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم"
(1)
.
كما أخذوا عن الشيعة الرافضة أكثر آرائهم الخاصة بالإمامة.
وعلى هذا فأفكار المعتزلة إنما هي خليط من آراء الفرق المخالفة في عصرهم.
وأفكار المعتزلة يحملها اليوم كل من: الرافضة الإمامية، والزيدية، والإباضية، وكذلك من يسمون بالعقلانيين.
فالمعتزلة ومعهم النجارية والضرارية والرافضة الإمامية والزيدية والإباضية وغيرهم. وهؤلاء مشتركون مع الجهمية والفلاسفة في نفي الصفات
(2)
وإن كان بين الفلاسفة والمعتزلة نوع فرق
(3)
وهذا هو المقصود بقول المصنف: "من المعتزلة ومن اتّبعهم"
فهذه الآراء للمعتزلة حملها عنهم الزيدية والرافضة الإمامية
(4)
والإباضية. وابن تومرت
(5)
، وابن حزم.
(6)
ووافق المعتزلة في بعض أقوالهم كل من:
النجارية:
(1)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 54 - 55).
(2)
-مجموع الفتاوى 13/ 131.
(3)
-مجموع الفتاوى 6/ 51.
(4)
-لم يكن في قدماء الرافضة من يقول بنفي الصفات بل كان الغلو في التجسيم مشهوراً عن شيوخهم هشام بن الحكم وأمثاله، شرح الأصفهانية ص 68.
(5)
-كان أبو عبد الله محمد بن تومرت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات، شرح الأصفهانية ص 23.
(6)
-درء تعارض العقل والنقل 5/ 249، 250.
وهم أتباع حسين بن محمد بن عبد الله النجار المتوفى سنة (220 هجرية) تقريباً
وكان يزعم أن الله سبحانه لم يزل جواداً بنفي البخل عنه، وأنه لم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام، وأن كلام الله سبحانه محدث مخلوق، وكان يقول بقول المعتزلة في التوحيد، إلا في باب الإرادة والجود، وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء.
(1)
الضرارية:
وهم أتباع ضرار بن عمرو الغطفاني المتوفى سنة (190 هجرية) تقريباً وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر أنه ليس بجاهل ولا عاجز وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه)
(2)
فكل من النجارية والضرارية يحملون النصوص الثبوتية على المعاني السلبية، كما قال البغدادي عنهم:(من غير إثبات معنى أو فائدة سوى نفي الوصف بنقيض تلك الأوصاف عنه)
(3)
وكان الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية هم خصوم أهل السنة زمن فتنة القول بخلق القرآن.
(4)
ثالثاً: متكلمة الصفاتية
(الكلابية
-الأشاعرة -الماتريدية).
1 ـ أما الكلابية:
(1)
-مقالات الإسلاميين 1/ 341 - 342، وانظر الفرق بين الفرق ص 207، والملل والنحل 1/ 89، 90.
(2)
-مقالات الإسلاميين 1/ 339.
(3)
-الفرق بين الفرق ص 215.
(4)
-مجموع الفتاوى 14/ 351، 352.
فهم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان
(1)
(ت 243 هـ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين:
فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله
(2)
"
(3)
.
وهو قول وقدماء الأشاعرة كأبي الحسن الطبري والباقلاني وابن فورك، وأبي جعفر السمناني ومن تأثر بهم من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني والتميميين وغيرهم.
(4)
فهؤلاء يجمعهم أنهم نفاة الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة، وهؤلاء
(1)
مجموع الفتاوى (5/ 555).
(2)
-قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان الحارث المحاسبي يوافقه -أي يوافق ابن كلاب -ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإن أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك، كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقى بعض كلام الحارث؛ فذكروا أن الحارث رحمه الله تاب من ذلك. وكان له من العلم والفضل والزهد والكلام في الحقائق ما هو مشهور وحكى عنه أبوبكر الكلاباذي صاحب (مقالات الصوفية): (أنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت)، وهذا يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب). مجموع الفتاوى 6/ 521، 522.
(3)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 1).
(4)
-مجموع الفتاوى 5/ 411، 6/ 52، 53، 4/ 147، شرح الأصفهانية ص 78
يسموْن الصفاتية لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافاً للمعتزلة، لكنهم لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته.
(1)
فأصلهم الذي أصلوه في هذا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته
(2)
لا فعل ولا غير فعل.
(3)
فهذا النهج الذي أحدثه ابن كلاب هو ما صار يعرف فيما بعد بمنهج متكلمة الصفاتية لأن ابن كلاب كان في طريقته يميل إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن كان في طريقته نوع من البدعة، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله، ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته.
وقد كانت له جهود في الرد على الجهمية
(4)
ولكنه ناظرهم بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولاً هم واضعوها من امتناع تكلمه تعالى بالحروف، وامتناع قيام الصفات الاختيارية بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك.
(5)
فأصبح بعد ذلك قدوة وإماماً لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها، لكن شاركوهم في بعض أصولهم الفاسدة التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول".
(6)
فابن كلاب أحدث مذهباً جديداً، فيه ما يوافق السلف وفيه ما يوافق المعتزلة
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 520.
(2)
-مجموع الفتاوى 6/ 524.
(3)
-مجموع الفتاوى 6/ 522.
(4)
مجموع الفتاوى (12/ 366).
(5)
مجموع الفتاوى (12/ 376).
(6)
مجموع الفتاوى (12/ 366).
والجهمية. وبذلك يكون قد أسس مدرسة ثالثة وهي مدرسة «الصفاتية» التي اشتهرت بمذهب الإثبات، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية.
(1)
2 -
الأشاعرة.
وقد سار على هذا النهج الكلابي القلانسي، والأشعري، والمحاسبي، وغيرهم، وهؤلاء هم سلف الأشعري والأشاعرة القدماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي سليمان الدمشقي، وأبي حاتم البستي"
(2)
فابن كلاب هو إمام الأشعرية الأول، وكان أكثر مخالفة للجهمية، وأقرب إلى السلف من الأشعري
(3)
.
ولكن هذا النهج الكلابي ابتعد شيئاً فشيئاً عن منهج السلف، وأصبح يقرب أكثر فأكثر إلى نهج المعتزلة وذلك على يد وارثيه من الأشاعرة.
فابن كلاب كما أسلفنا كان أقرب إلى السلف من أبي الحسن الأشعري، وأبو الحسن الأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي الجويني وأتباعه
(4)
.
ولهذا يوجد في كلام الرازي والغزالي ونحوهما من الفلسفة مالا يوجد في كلام أبي المعالي الجويني وذويه، ويوجد في كلام الرازي والغزالي والجويني من مذهب
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 206).
(2)
منهاج السنة (2/ 327).
(3)
مجموع الفتاوى (12/ 202، 203).
(4)
مجموع الفتاوى (12/ 203).
النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه، ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقته.
ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة. وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل إلى هذا المآل والسعيد من لزم السنة
(1)
.
وقد تلاشت الكلابية كفرقة، لكن أفكارها حملت بواسطة الأشاعرة، فقد احتفظ الأشعري وقدماء أصحابه بأفكار الكلابية ونشروها، وبذلك اندرست المدرسة الكلابية الأقدم تاريخاً والأسبق ظهوراً في الأشعرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكلابية هم مشايخ الأشعرية، فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب، وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمناً وطريقة. وقد جمع أبو بكر بن فورك (ت 406 هـ) كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول"
(2)
.
فالكلابية أسبق في الظهور من الأشاعرة و
الماتريدية،
فقد نشأت الكلابية في منتصف القرن الثالث، وهي أول الفرق الكلامية بعد الجهمية والمعتزلة، فقد توفي ابن كلاب سنة (243 هـ).
3 ـ الماتريدية:
تُعَدُّ الماتريدية شقيقة الأشعرية، وذلك لما بينهما من الائتلاف والاتفاق حتى لكأنهما فرقة واحدة، ويصعب التفريق بينهما. ولذلك يصرح كل من الأشاعرة
(1)
بغية المرتاد (ص 451).
(2)
الاستقامة (1/ 105).
والماتريدية بأن كلًا من أبى الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي هما إماما أهل السنة على حد تعبيرهم
(1)
.
والماتريدية تنسب إلى أبي منصور محمد بن محمد بن محمود بن محمد الماتريدي المتوفى سنة (333 هـ)
(2)
كان معدودًا في فقهاء الحنفية، وكان صاحب جدل وكلام ولم يكن له دراية بالسنن والآثار
(3)
، وقد نهج منهجًا كلاميًّا في تقرير العقيدة يشابه إلى حد كبير منهج متأخري الأشاعرة، وعداده في أهل الكلام من الصفاتية من أمثال ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما. وقد تابع الماتريدي ابن كلاب في مسائل متعددة من مسائل الصفات وما يتعلق بها
(4)
.
ومن المعلوم أن الأحناف وأهل المشرق عمومًا كانوا من أسبق الناس تأثرًا بعلم الكلام، فقد كانت بداية الجهم من تلك الجهات، وفي هذا يقول الإمام أحمد في معرض كلامه عن الجهم: «وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة
…
»
(5)
.
فبشر بن غياث المريسي (228 هـ) والقاضي أحمد بن أبي دؤاد (240 هـ) وغيرهما كانوا من الأحناف، فلا غرابة أن يكون الماتريدي الحنفي من أولئك الذين ناصروا علم الكلام وسعوا في تأسيسه وتقعيده، إلى أن أصبح علمًا من أعلامه وصاحب إحدى مدارس الكلام التي صارت فيما بعد تعرف باسمه.
(1)
مفتاح السعادة (2/ 151، 152) تأليف: طاش كبرى زاده
(2)
انظر ترجمته في كتاب: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات (1/ 209) للدكتور شمس الدين الأفغاني.
(3)
العقيدة السلفية في كلام رب البرية (ص 279) تأليف: عبد الله بن يوسف الجديع.
(4)
مجموع الفتاوى (7/ 433)، كتاب الإيمان (ص 414)، منهاج السنة (2/ 362).
(5)
الرد على الجهمية (ص 103 - 105).
فالماتريدي لا يبعد كثيرًا عن أبي الحسن الأشعري (في طوره الثاني) فهو خصم لَدُود للمعتزلة، إلا أنه كان متأثرًا بالمنهج الكلامي على طريقة ابن كلاب من الاعتماد على المناهج الكلامية في تقرير المسائل الاعتقادية شأنه في ذلك شأن أبي الحسن الأشعري، فكلاهما يعتبر امتدادًا لمدرسة ابن كلاب التي عرفت كمدرسة ثالثة بعد أن كان الخلاف دائرًا بين أهل السنة والجماعة من جهة، والجهمية والمعتزلة من جهة أخرى، فجاء ابن كلاب وأحدث منهجًا ثالثًا حاول فيه التلفيق بين النصوص الشرعية والمناهج الكلامية كما سبق الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن الكلابية.
فالمذهب الكلابي كان له وجوده في العراق والري وخراسان وكان له انتشار في بلاد ما وراء النهر التي كانت تغص بمختلف الطوائف والفرق
(1)
.
ولم تتعرض الماتريدية للتطور الذي حصل على العقيدة الأشعرية والذي سبق بيانه في الحديث عن الأشعرية فالماتريدية بقيت على ما كانت عليه.
وقول المصنف: "فأثبتوا له الأسماء دون ما تضمنته من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمّنه من الصفات.
والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات".
ويمكن توضيح هذا النص من خلال الأمور الآتية"
الأمر الأول: أقسام الناس في قيام الصفات بالذات.
(1)
انظر: «أحسن التقاسيم» للمقدسي (ص 323).
والخلاف في هذه المسألة على أربعة أقوال:
1 -
قول المعتزلة ومن وافقهم: أن الله لا يقوم به صفة ولا أمر يتعلق بمشيئته واختياره وهو قولهم: (لا تحله الأعراض ولا الحوادث).
2 -
قول الكلابية ومن وافقهم: التفريق بين الصفات والأفعال الاختيارية فأثبتوا الصفات، ومنعوا أن يقوم به أمر يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا غير فعل.
3 -
قول الكرامية ومن وافقهم: يثبتون الصفات ويثبتون أن الله تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأنه يصير موصوفا بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
4 -
قول أهل السنة والجماعة: أثبتوا الصفات والأفعال الاختيارية وأن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة. وهذا هو الصحيح.
(1)
الأمر الثاني: قول المعتزلة في باب الصفات.
فالمعتزلة تجمع على غاية واحدة وهي نفي إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها. ولكنهم سلكوا طريقين في موقفهم من الصفات.
الطريق الأول: الذي عليه أغلبيتهم وهو نفيها صراحة فقالوا: إن الله عالم بذاته لا بعلم وهكذا في باقي الصفات.
والطريق الثاني: الذي عليه بعضهم وهو إثباتها اسماً ونفيها فعلاً فقالوا: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته وهكذا بقية الصفات، فكان مجتمعاً مع الرأي الأول في الغاية
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 520، 525، 149.
وهي نفي الصفات.
وهناك آراء أخرى للمعتزلة لكنها تجتمع في الغاية مع الرأيين الأولين، وهو التخلص من إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها.
(1)
والمقصود بنفي الصفات عندهم: هو نفي إثباتها حقيقة في الذات ومتميزة عنها، وذلك أنهم يجعلونها عين الذات فالله عالم بذاته بدون علم أو عالم بعلم وعلمه ذاته.
(2)
فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه فقالوا حينئذ إن القرآن مخلوق، وإنه ليس لله مشيئة قائمة به، ولا حب ولا بغض ونحو ذلك.
وردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به.
(3)
الأمر الثالث: الفرق بين المعتزلة من جهة وبين قول الكلابية وقدماء الأشاعرة من جهة أخرى في مسألة قيام الصفات بالذات:
أن المعتزلة تقول: (لا تحله الأعراض والحوادث) فالمعتزلة لا يريدون [بالأعراض] الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات. ولا يريدون [بالحوادث] المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل ونحو ذلك -مما يريده الناس بلفظ الحوادث-بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم،
(1)
-المصدر السابق ص 101.
(2)
-المعتزلة وأصولهم الخمسة ص 100.
(3)
-مجموع الفتاوى 6/ 147، 148، 359.
ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
ولكن ابن كلاب ومن وافقه خالفوا المعتزلة في قولهم: "لا تقوم به الأعراض" وقالوا: "تقوم به الصفات ولكن لا تسمى أعراضاً".
ووافقوا المعتزلة على ما أرادوا بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته.
(1)
ففرقوا بين الأعراض -أي الصفات-والحوادث-أي الأمور المتعلقة بالمشيئة.
(2)
فالكلابية ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله
(3)
، ويقولون: "لو قامت به لكان محلاً للحوادث. والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به.
(4)
ولتوضيح أقوالهم نقول: إن المضافات إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة لا تخلو من ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إضافة الصفة إلى الموصوف
كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء مِنْ علمه}
(5)
وقوله: {إن الله هو الرَّزَّاق ذو القوَّة}
(6)
فهذا القسم يثبته الكلابية ولا يخالفون فيه أهل السنة، وينكره المعتزلة.
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 520، 521.
(2)
-مجموع الفتاوى 6/ 525.
(3)
-الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، أو التي تنفك عن الذات: كالاستواء، والنزول، والضحك، والإتيان، والمجيء، والغضب والفرح. مجموع الفتاوى 6/ 68، 5/ 410.
(4)
-مجموع الفتاوى 6/ 69، وانظر الرد على هذه الشبهة 6/ 105.
(5)
-الآية 255 من سورة البقرة.
(6)
-الآية 58 من سورة الذاريات.
والقسم الثاني: إضافة المخلوق.
كقوله تعالى: {ناقة الله وسقياها}
(1)
وقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين}
(2)
وهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق.
والقسم الثالث: -وهو محل الكلام هنا-ما فيه معنى الصفة والفعل.
كقوله تعالى: {وكلَّم الله موسى تكليما}
(3)
وقوله تعالى: {إن الله يحكم ما يريد}
(4)
وقوله تعالى: {فَبَاءُوا بغضب على غضب}
(5)
فهذا القسم الثالث لا يثبته الكلابية ومن وافقهم على زعم أن الحوادث لا تحل بذاته. فهو على هذا يلحق عندهم بأحد القسمين قبله فيكون:
1 -
إما قديماً قائماً به.
2 -
وإما مخلوقاً منفصلاً عنه.
ويمتنع عندهم أن يقوم به نعت أو حال أو فعل ليس بقديم ويسمون هذه المسألة: ((مسألة حلول الحوادث بذاته))
(6)
وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول والإتيان، وغيرها. وبالتالي هم يؤولون النصوص الواردة في ذلك على أحد الوجوه التالية:
(1)
-إرجاعها إلى الصفات الذاتية واعتبارها منها، فيجعلون جميع تلك الصفات قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه وإتيانه، وفرحه، وغضبه، ورضاه، ونحو
(1)
-الآية 13 من سورة الشمس.
(2)
-الآية 26 من سورة الحج.
(3)
-الآية 164 من سورة النساء.
(4)
-الآية 1 من سورة المائدة.
(5)
-الآية 90 من سورة البقرة.
(6)
-مجموع الفتاوى 6/ 144، 147.
ذلك: قديم أزلي
(1)
وهذه الصفات جميعها صفات ذاتية لله، وإنها قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته واختياره.
(2)
(2)
-وإما أن يجعلوها من باب «النسب» و «الإضافة» المحضة بمعنى أن الله خلق العرش بصفة تحت فصار مستوياً عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائياً إليهم ونحو ذلك. وأن التكليم إسماع المخاطب فقط.
(3)
فهذه الأمور من صفات الفعل منفصلة عن الله بائنة وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به. ولهذا يقول كثير منهم: "إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات.
(4)
(3)
-أو يجعلوها «أفعالاً محضة» في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة.
(5)
مثل قولهم في الاستواء إنه فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم بالله فعل اختياري.
(6)
وكقولهم في النزول إنه يخلق أعراضاً في بعض المخلوقات يسميها نزولاً.
(7)
ونفاة الصفات الاختيارية يثبتون الصفات التي يسمونها عقلية وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. واختلفوا في صفة البقاء.
ويثبتون في الجملة الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعين ولكن إثباتهم لها
(1)
-مجموع الفتاوى 5/ 412.
(2)
-مجموع الفتاوى 5/ 410.
(3)
-مجموع الفتاوى 6/ 149.
(4)
-مجموع الفتاوى 5/ 411، 412.
(5)
-مجموع الفتاوى 6/ 149.
(6)
-مجموع الفتاوى 5/ 437، الأسماء والصفات للبيهقي ص 517.
(7)
-مجموع الفتاوى 5/ 386.
مقتصر على بعض الصفات القرآنية، على أن بعضهم إثباته لها من باب التفويض.
وأما الصفات الخبرية الواردة في السنة كاليمين، والقبضة، والقدم، والأصابع فأغلب هؤلاء يتأولها.
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه: كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله تعالى. وعماد المذهب عندهم: إثبات كل صفة في القرآن.
وأما الصفات التي في الحديث فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها.
(2)
الأمر الثالث: أن متأخري الأشاعرة مالوا إلى أقوال المعتزلة.
فالأشعرية المتأخرة مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه
(3)
.
فهؤلاء يثبتون الذات ولكن لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها.
فقدماء الأشاعرة كانوا يثبتون الصفات الخبرية بالجملة، كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسن الباهلي والقاضي أبي بكر
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 52، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 1034، 1036.
(2)
-مجموع الفتاوى 4/ 147، 148.
(3)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 97).
الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء
(1)
.
لكن المتأخرين من أتباع أبي الحسن الأشعري كأبي المعالي الجويني وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما.
ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله تعالى.
وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه. فهؤلاء يقولون: تأويلها بما يقتضي نفيها تأويل باطل، فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة
(2)
.
وهذا الاضطراب في العقيدة الأشعرية بين المتقدمين والمتأخرين سببه ميل الأشاعرة بأشعريتهم إلى الاعتزال أكثر فأكثر بل إنهم خلطوا معها الفلسفة.
قول الأشعرية في الصفات:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالأشعرية وافق بعضهم المعتزلة في الصفات الخبرية، وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية، وأما الصفات القرآنية فلهم قولان:
فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقر ببعضها؛ وفيهم تجهم من جهة أخرى.
فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم.
(1)
مجموع الفتاوى (4/ 147، 148).
(2)
منهاج السنة (2/ 223، 224).
وابن الباقلاني أكثر إثباتًا بعد الأشعري، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن.
وأما الجويني ومن سلك طريقته فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين
(1)
.
فما إن جاء أبوبكر الباقلاني (ت 403 هـ)، فتصدى للإمامة في تلك الطريقة وهذبها ووضع لها المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وجعل هذه القواعد تبعًا للعقائد الإيمانية من حيث وجوب الإيمان بها
(2)
وأسهم إلى حد كبير في تنظير المذهب الأشعري الكلامي وتنظيمه مما أدى إلى تشابه منهجي بين المذهب الأشعري والمذهب المعتزلي فقد كان الأشعري يجعل النص هو الأساس والعقل عنده تابع، أما الباقلاني فالعقيدة كلها بجميع مسائلها تدخل في نطاق العقل
(3)
، ويعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري
(4)
.
ثم جاء بعده إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) فاستخدم الأقيسة المنطقية في تأييد هذه العقيدة، وخالف الباقلاني في كثير من القواعد التي وضعها. وإن كان الجويني قد استفاد أكثر مادته الكلامية من كلام الباقلاني، لكنه مزج أشعريته بشيء من الاعتزال استمده من كلام أبي هاشم الجبائي المعتزلي على مختارات له، وبذلك خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة.
وأما كلام أبي الحسن الأشعري فلم يكن يستمد منه، وإنما ينقل كلامه مما
(1)
منهاج السنة (2/ 223، 224).
(2)
مقدمة ابن خلدون (ص 465)، ط: مصطفى محمد.
(3)
مقدمة التمهيد للباقلاني (ص 15)، بتحقيق الخضيري وأبو ريدة.
(4)
نشأة الأشعرية وتطورها (ص 320).
يحكيه عنه الناس
(1)
وعلى طريقة الجويني اعتمد المتأخرون من الأشاعرة، كالغزالي (ت 505 هـ) وابن الخطيب الرازي (ت 606 هـ) وخلطوا مع المادة الاعتزالية التي أدخلها الجويني مادة فلسفية، وبذلك ازدادت الأشعرية بعدًا وانحرافًا.
فالغزالي مادته الكلامية من كلام شيخه الجويني في "الإرشاد" و"الشامل" ونحوهما مضمومًا إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني. ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا، ولهذا يقال: أبو حامد أمرضه "الشفا"، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك.
وأما الرازي فمادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة اعتزالية قوية من كلام أبي الحسين البصري (ت 436 هـ)، وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني ونحوهما
(2)
.
السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه، مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات، ولو أمعنوا النظر لسوّوا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط
(1)
بغية المرتاد (ص 448، 451)، بتصرف.
(2)
بغية المرتاد (ص 448)، بتصرف.
العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبَّهة بالمعقولات، يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات.
وذلك أنه قد عُلم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَث لا بد له من محدِث، والممكن لا بد له من واجب، كما قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم.
وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو مُحْدَث ممكن، يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى «الوجود» أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصّه ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الاضافة والتقييد والتخصيص ولا في غيره، فلا يقول عاقل- إذا قيل: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود- إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى «الشيء» ، و «الوجود» ، لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود، فوجود كلّ منهما يخصه لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما.
ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمّى صفاته بأسماء، فكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمّى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص،
ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، لا اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سمّى الله نفسه حيًّا، فقال:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ] البقرة: الآية: 255 [. وسمّى بعض عباده حيًا، فقال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} وليس هذا الحيّ مثل هذا الحي، لأن قوله {الْحَيُّ} اسم لله مختص به، وقوله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أُطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطق مسمّى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركا بين المسميين، وعند الاختصاص يقيّد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق.
ولا بدّ من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يُفهم منها ما دلّ عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دلّ عليه بالإضافة والاختصاص، المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وكذلك سمّى الله نفسه عليمًا حليمًا، وسمّى بعض عباده عليمًا، فقال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} يعني إسحق، وسمّى آخر حليمًا، فقال:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} يعني إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم.
وسمّى نفسه سميعًا بصيرًا، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وسمّى بعض خلقه سميعًا بصيرًا فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير.
وسمّى نفسه بالرءوف الرحيم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} وسمّى
بعض عباده بالرءوف الرحيم فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم.
وسمى نفسه بالملك، فقال:{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} وسمّى بعض عباده بالملك، فقال:{وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} وليس الملك كالملك.
وسمى نفسه بالمؤمن، فقال:{الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} وسمّى بعض عباده بالمؤمن، فقال:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ} وليس المؤمن كالمؤمن. وسمّى نفسه بالعزيز، فقال:{الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} ، وسمّى بعض عباده بالعزيز، فقال:{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} وليس العزيز كالعزيز.
وسمّى نفسه الجبار المتكبر، وسمّى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر.
ونظائر هذا متعددة.
وكذلك سمّى صفاته بأسماء، وسمّى صفات عباده بنظير ذلك، فقال:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} ، وقال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، وقال:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، وقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} .
وسمّى صفة المخلوق علمًا وقوة، فقال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، وقال:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، وقال:{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ، وقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ، وقال:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، وقال: {وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي: بقوة، وقال {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} أي: ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة.
وكذلك وصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة، فقال:{لِمَنْ شَاءَ مِنكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ • وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وقال:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً • وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} .
وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة، فقال:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . ووصف نفسه بالمحبة، ووصف عبده بالمحبة، فقال:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ] المائدة الآية: 54]، وقال:{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ..
ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ] التوبة الآية: 100 [.
ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه.
وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} ، وليس المقت مثل المقت.
وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} ، وقال:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا • وَأَكِيدُ كَيْدًا} ، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد.
ووصف نفسه بالعمل، فقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ] يس. الآية: 71]، ووصف عبده بالعمل فقال:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
] السجدة الآية: 17]، وليس العمل كالعمل.
ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، في قوله:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ] مريم الآية: 52]، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} ] القصص الآية: 62]، وقوله:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} ] الأعراف الآية: 22 [ووصف عبده بالمناداة والمناجاة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}] الحجرات الآية: 4]، وقال:{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} ] المجادلة الآية: 12]، وقال:{إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ] المجادلة الآية: 9]، وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة.
ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ] النساء الآية: 164]، وقوله:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ] الأعراف الآية: 143]، وقوله:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} ] البقرة الآية: 253]، ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} ] يوسف الآية: 54]، وليس التكليم كالتكليم.
ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة، فقال:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} ] التحريم الآية: 3 [وليس الإنباء كالإنباء.
ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال:{الرَّحْمَنُ • عَلَّمَ الْقُرْآنَ • خَلَقَ الإِنسَانَ • عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ] الرحمن الآيات: 1 إلى 4]، وقال:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} ] المائدة الآية: 4]، وقال:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ] آل عمران الآية: 164]، وليس التعليم كالتعليم. وهكذا وصف نفسه بالغضب، في قوله:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} ] الفتح الآية: 6]، ووصف عبده بالغضب في قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ
أَسِفًا}] الأعراف الآية: 150]، وليس الغضب كالغضب.
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر في سبع آيات من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ] الزخرف الآية: 13]، وقوله:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} ] المؤمنون الآية: 28]، وقوله:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ] هود الآية: 44 [وليس الاستواء كالاستواء.
ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} ] المائدة الآية: 64]، ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ] الإسراء الآية: 29]، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم. ونظائر هذا كثيرة.
فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى-كان معطلاً جاحداً ممثلاً له بالمعدومات والجمادات.
ومَن قال: له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضاء كرضائي، أو يَدَان كيداي، أو استواء كاستوائي-كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات، بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل".
الشرح
المصنف يتكلم هنا عن مسألة القدر المشترك، وهذه المسألة لها تشعباتها وتفرعاتها ومصطلحاتها، وأحاول هنا شرح تلك المسألة وجوانبها فأقول:
التوطئة:
تعد مسألة القدر المشترك من أهم مسائل باب الأسماء والصفات وأدقها، ولها تعلقها بعدة مسائل في هذا الباب، وبفهمها تزول إشكالات كثيرة كانت سببًا لغلط كثير من المخالفين في هذا الباب، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية لأهمية ذلك في الكثير من كتبه ومن ذلك قوله:«وهذا الموضع من فهمه جيداً، وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام»
(1)
، «فإنه مقام زلت فيه أقدام، وظلت فيه أحلام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم»
(2)
.
(3)
.
وفي هذه التوطئة لهذه المسألة يجدر التنبيه إلى أن علماء أهل السنة قرروا الحقائق الآتية:
أولاً: أن القدر المشترك يراد به: ما تشترك فيه الموجودات من: معاني، ذهنية، كلية، مطلقة
فما من مسميين إلا وبينهما:
• قدر مشترك.
• وقدر مميز.
(1)
التدمرية، ص:(128).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم-ت: الفقي، ص:(464).
(3)
شرح حديث النزول، ص:(112)، وضمن مجموع الفتاوي (5/ 351)، وانظر: المرجع السابق (5/ 330 - 331)، منهاج السنة النبوية (2/ 118)، بدائع الفوائد (1/ 173). (2/ 314).
ثانياً: أن نعلم أن المعنى العام لا يقتضي تماثلاً من كل وجه.
وذلك أن لكل ماهيتين:
• معنى عاماً اشتركا فيه.
• ومعنى خاصاً افترقا فيه.
• فالمعنى العام: الذي اشتركا فيه هو (القدر المشترك) الذي لا يقتضي تماثلا من كل وجه.
• والمعنى الخاص: وحين تكون الخصائص والإضافات تتمايز هاتان الماهيتان وهو (القدر المميز).
ثالثاً: أن الكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان.
فليس في الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى"
(1)
.
فالمقصود بالقدر المشترك هو المعنى العام الكلي المقدر في الذهن.
ومثال ذلك: لفظ أو مسمى "الوجود" فهذا اللفظ يطلق على الخالق والمخلوق فيقال الله موجود والمخلوق موجود.
ولكن هذا الإطلاق أو هذا القدر المشترك هو في الوجود الذهني فقط لا في الوجود العياني أو الخارجي.
يقول ابن قدامة رحمه الله: " والرجل له وجود في:
• الأعيان،
• والأذهان،
(1)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 183)
• واللسان.
• فوجوده في الأعيان لا عموم له إذ ليس في الوجود رجل مطلق بل إما زيد وإما عمرو.
• وأما وجوده في اللسان فلفظة (الرجل) قد وضعت للدلالة عليه.
• وأما الذي في الأذهان من معنى الرجل فيسمى كليا، فإن العقل يأخذ من مشاهدة زيد: حقيقة الإنسان وحقيقة الرجل، فإن رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى، وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو الحارث كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا
…
"
(1)
.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والقدر المشترك كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه .. "
(2)
.
رابعاً: "أن من قال: إنه يوجد في الخارج كليا، فقد غلط.
فإن الكلي لا يكون كليا قط إلا في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا شيء معين، إذا تصور منع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، ولكن العقل يأخذ القدر المشترك الكلي بين المعينات، فيكون كليا مشتركا في الأذهان"
(3)
.
خامساً: "ما كان لازما لهذا المعنى العام كان لازما للموصوف به، وهذا لا محذور فيه، بل هو حق.
ومثاله الذي يوضحه:
(1)
روضة الناظر لابن قدامة: 2/ 5 - 6، ت: النملة.
(2)
التدمرية: 125 - 129.
(3)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 308)
• إذا كان الخالق (موجودا) والمخلوق (موجودا).
• أو هذا (قائم بنفسه)، وهذا (قائم بنفسه).
• أو قيل: هذا (حي عليم رحيم)، وقيل:(هذا حي عليم رحيم).
كان القدر العام الكلي المتفق هو: مسمى (الوجود) و (القيام بالنفس) و (الحياة) و (العلم) و (الرحمة) أو مسمى أنه (موجود)(قائم بنفسه)(حي)(عالم)(رحيم).
وهذا المعنى العام ليس من لوازمه ما ينفى عن الله، بل لوازمه كلها صفات كمال يوصف الله بها.
o وإنما يكون لوازمه صفة نقص إذا قيّد بالعبد فقيل: وجود العبد وعلم العبد ورحمة العبد، فالنقص يلزمه إذا كان مقيدا مختصا بالعبد، والله منزه عما يختص به العبد.
o وأما إذا:
- اتصف الرب به.
- أو أُخذ مطلقا غير مختص بالعبد.
ففي هذين الحالين لا يلزمه شيء من النقائص أصلا، فتبين أن إثبات القدر العام المتفق عليه لا محذور فيه أصلا
(1)
".
خامساً: أن المقصود بالقدر المميز: أن بين الموجودين في الوجود الخارجي قدر مميز وفارق بينهما، وعليه فإن لله وجوداً يختص به وللمخلوق وجود يختص به.
(1)
الصفدية (2/ 9).
• فأما وجود الله فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، فلا يجوز أن يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها.
• وهكذا الشأن في وجود المخلوق العياني فلا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته ولا مشابهة في شيء من خصائصه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع، فهو سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له.
بل إن المخلوق لا يشارك مخلوقا في شيء من صفاته، فكيف يكون للخالق شريك في ذلك، لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته، والله تعالى لا مثل له أصلا.
• وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والآفات فهي ليست من لوازم ما يختص به، ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا، بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة، والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب "
(1)
.
سادساً: أنه "ليس في الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى"
(2)
.
سابعاً: مسألة القدر المشترك لا تختص باب الأسماء والصفات وحده بل هي مسألة أعم وهذا ما يوضحه كلام الإمام ابن القيم حيث يقول:
"فأحظى الناس بالحق وأسعدهم به الذي يقع على الخصائص المميزة الفارقة ويلغي القدر المشترك فيحكم بالقدر الفارق على القدر المشترك ويفصله به.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 83 - 85) بتصرف.
(2)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 183)
وأبعدهم عن الحق والهدى من عكس هذا السير وسلك ضد هذه الطريق فألغى الخصائص الفارقة وأخذ القدر المشترك وحكم به على القدر الفارق.
وأضل منه من أخذ خصائص كل من النوعين فأعطاها للنوع الآخر.
فهذان طريقا أهل الضلالة اللتان يرجع إليهما جميع شعب ضلالهم وباطلهم.
مثال ذلك: أن أعداء الرسل المكذبين لهم الجاحدين لما جاءوا به من الحق لما أرادوا تلبيس الحق الذي جاءوا به بالباطل أخذوا بينه وبين الباطل قدرا مشتركا ثم ألغوا القدر الفارق وما اختص به أحد النوعين فقالوا هذا الرسول شاعر وكاهن ومجنون وطالب ملك ورياسة وصيت في العالم؛ فأخذوا قدرا مشتركا بين الشعر وبين كلامه الذي جاء به من الترغيب والترهيب وحسن التعبير عن المعاني باللفظ الذي يروق المسامع ويهز القلوب ويحرك النفوس.
فقالوا: هو شاعر وهذا شعر وضربوا عن الخصائص الفارقة صفحا.
وقالوا: هو كاهن لأن الكاهن كان عندهم معروفا بالإخبار عن الأمور الغائبة التي لا يخبر بها غيره وكذلك هذا المدعي لذلك مثله.
وقالوا: مجنون لأن المجنون يقول ويفعل خلاف ما اعتاده الناس.
وقالوا: ساحر لأن الساحر يأخذ بالقلوب والعيون ويحبب تارة وينفر أخرى؛ ولهذا قال لهم الوليد بن المغيرة وقد سألوه ماذا يقولون للناس في أمر محمد، ففكر وقدر ورأى أن أقرب ما يقولون هو ساحر لأنه يفرق بين المرء وزوجه، ومحمد يفعل ذلك فإن المرأة إذا أسلمت دون زوجها أو أسلم زوجها دونها وقعت الفرقة بينهما والعداوة.
وكذلك قولهم عن القرآن: أساطير الأولين أخذوا قدرا مشتركا بينهما وهو جنس الإخبار عما أخبر عنه الأولون.
وهكذا قولهم: هو طالب ملك ورياسة وصيت.
والمقصود أن كل مبطل فإنه يتوصل إلى باطله بهذه الطريق، ثم يلبس ما يدعو إليه خصائص الحق وما ينفر عنه خصائص الباطل، وهذا شأن الساحر فكلامه يخرج الحق في صورة الباطل فينفر عنه، والباطل في صورة الحق فيرغب فيه"
(1)
.
ثامنًا: أن وجه خطأ الذين ضلوا في هذا الباب أن "هؤلاء أخذوا قدرا مشتركا بين ما أثبته الله لنفسه من الصفات والأفعال وبين ما للمخلوقين من ذلك
وحكموا بذلك القدر المشترك على خصائص الرب سبحانه، ثم ألغوا حكم تلك الخصائص واعتبارها، ثم جعلوا حكمها حكم خصائص المخلوقين.
فأخطأوا من أربعة أوجه مثاله:
• أنهم أخذوا قدرا مشتركا بين اليد القديمة والحادثة.
• ثم حكموا بما فهموه من ذلك القدر المشترك على القديمة.
• ثم ألغوا القدر الفارق بين اليد واليد.
• ثم جعلوا خصائص أحدهما هي خصائص الأخرى واعتبر هذا منهم في كل صفة يريدون نفيها"
(2)
.
تاسعًا: أن الصواب والحق في هذه المسألة يوضحه: إنك إذا أخذت لوازم المشترك والمميز وميزت هذا من هذا صح نظرك ومناظرتك،
وزال عنك اللبس والتلبيس، وذلك أن الصفة يلزمها لوازم من حيث هي هي فهذه اللوازم يجب إثباتها ولا يصح نفيها إذ نفيها ملزوم كنفي الصفة.
مثاله: الفعل والإدراك للحياة فإن كل حي فعال مدرك؛
وإدراك المسموعات
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة 4/ 1216 - 1218
(2)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة 4/ 1216 - 1218
بصفة السمع، وإدراك المبصرات بصفة البصر، وكشف المعلومات بصفة العلم؛ والتمييز لهذه الصفات فهذه اللوازم ينتفي رفعها عن الصفة فإنها ذاتية لها ولا يرتفع إلا برفع الصفة، ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة للقديم مثل كونها واجبة قديمة عامة التعلق فإن صفة العلم واجبة لله قديمة غير حادثة متعلقة بكل معلوم على التفصيل.
وهذه اللوازم منتفية عن العلم الذي هو صفة للمخلوق، ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة له مثل كونها ممكنة حادثة بعد أن لم تكن مخلوقة غير صالحة للعموم مفارقة له.
فهذه اللوازم يستحيل إضافتها إلى القديم.
واجعل هذا التفصيل ميزانا لك في جميع الصفات والأفعال واعتصم به في نفي التشبيه والتمثيل؛ وفي بطلان النفي والتعطيل.
مثاله: واعتبره في العلو والاستواء تجد هذه الصفة يلزمها كون العالي فوق السافل في القديم والمحدث فهذا اللازم حق لا يجوز نفيه. (وهذا مايسمى القدر المشترك).
ويلزمها كون السافل حاويا للأعلى محيطا به حاملا له، والأعلى مفتقر إليه، وهذا في بعض المخلوقات لا في كلها، بل بعضها لا يفتقر فيه الأعلى إلى الأسفل، ولا يحويه الأسفل ولا يحيط به ولا يحمله، كالسماء مع الأرض. (وهذا ما يسمى القدر المميز للمحدث الذي هو المخلوق).
فالرب تعالى أجل شأنا وأعظم أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله للسافل، وفقر السافل إليه، وغناه سبحانه عنه، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله العرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه،
وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق. (وهذا مسمى بالقدر المميز للخالق).
وأصحاب التلبيس واللبس لا يميزون هذا التمييز ولا يفصلون هذا التفصيل، ولو ميزوا وفصلوا لهدوا إلى سواء السبيل وعلموا مطابقة العقل الصريح للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل وضلوا عن سواء السبيل. "
(1)
عاشرًا: اصطلاحات هذه المسألة تختلف مسمياتها بحسب الفنون
فالقدر المشترك يراد به: ما تشترك فيه الموجودات من: معاني، ذهنية، كلية، مطلقة ولا بد من تفصيل المراد بهذه الألفاظ (مشترك، معني، ذهني، كلي، مطلق) وبيان محترزاتها:
فأما (المشترك): فإنه اللفظ الموضوع لمعان متعددة
(2)
.
والمراد بالاشتراك هنا ما يسميه النحاة: (اسم جنس)، ويسمي معانيه المنطقيون:(كليات)، كما يسميه المناطقة أيضا:(المتواطئ المشكك)، وهو اللفظ المفرد الدال على أعيان متعددة، بمعني عام مشترك بين تلك الأفراد لا على السواء، بل على التفاوت والتفاضل «لكن هذا التفاضل في الأسماء المشتكة لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركاً كلياً، فلا بد في الأسماء المشككة من معني كلي مشترك، وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن
(3)
. - وقريب من هذا قولنا: (كلي) فإن (المشترك)
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة 4/ 1216 - 1218
(2)
انظر: التعريفات للجرجاني (274).
(3)
مجموع الفتاوي (9/ 145). وانظر: مجموع الفتاوي (5/ 105، 328)(9/ 147)، الصفدية (2/ 6)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 325)، بيان تلبيس الجهمية (2/ 378)، منهاج السنة النبوية (2/ 586).
وإنما أطلق على هذه المسألة: (القدر المشترك) -مع أنها من قبيل المتواطئ المشكك كما تقدم-لأن الكلام بعد هذا الإطلاق يوضح المراد به، وهو القول بأن الاشتراك كان في (معان) ذهنية، فليس الاشتراك هنا في مجرد اللفظ الذي لا يكون معه أدنى علاقة في المعنى بين المشتركين. على أن شيخ الإسلام قد بين في بعض مناظراته صحة التعبير بالاشتراك عن الأشياء المتواطئة باعتبار القدر المميز بينها، انظر: مناظرة في الحمد والشكر ضمن مجموع الفتاوي (11/ 141 - 142)، وعلى العموم فإذا فهم المعني تجوز في التعبير عنه بالمصطلحات المقاربة.
أحد أنواع (الكلي)، واللفظ الكلي هو: «ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه
(1)
.
- وقولنا: (معني) بين، ويخرج به أمران:
1 -
أن يكون الاشتراك باللفظ فحسب، فيكون من باب المشترك اللفظي (كما يقول بذلك بعض المعطلة).
مثل قولهم: إن تسمية الله (سميعاً) وتسمية المخلوق (سميعاً) هو مشترك لفظي، بل منهم من زعم أن لفظ (الوجود) مقول بذلك الاشتراك اللفظي، من جنس تسمية المبتاع (مشتريا) وتسمية الكوكب المعروف (المشتري)، فلا يكون هناك أدني علاقة في المعنى بين هذين الأمرين
(2)
.
2 -
أن يكون الاشتراك في الحقيقة (الكيفية)، كما يقول به بعض الممثلة.
وقولنا (الذهني): أي إن هذا المعنى المشترك غير موجود في الخارج، وإنما هو معنى يفهم في الذهن، والذهن يفهمه مطلقة، أي غير مختص بواحد من الأشياء المعينة، بل يفهم منه الذهن قدرة يوجد في الأشياء المتباينة (وهذا معنى القول بأنه:
(1)
شرح حديث النزول ضمن مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/ 343)، وانظر: معيار العلم في المنطق للغزالي (45)، المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ضمن مجموع: المصطلح الفلسفي عند العرب للأعسم (318)، التعريفات للجرجاني (239)، الكليات للكفوي (745).
(2)
انظر قولهم بالاشتراك اللفظي في الصفات مع الرد عليه في: مجموع الفتاوي (5/ 210)، شرح حديث النزول ضمن مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/ 331 - 332)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 324 - 325)، بيان تلبيس الجهمية (2/ 378)، منهاج السنة النبوية (2/ 518).
مطلق
(1)
، وإنما الذي يكون في الخارج هو القدر المختص المعين، المقيد)
(2)
.
وعليه فإن ذلك القدر المشترك الكلي لا يكون ثابتاً بعينه في الأمور المتعينة في الوجود الخارجي
(3)
، فالاشتراك إنما يكون في الوجود الذهني، وأما الوجود الخارجي فلا اشتراك فيه، بل كل موجود فله ما يخصه من حقيقته مما لا يشركه فيه غيره، بل ليس بين موجودين في الخارج شيء بعينه اشتركا فيه، ولكن تشابها، ففي هذا نظير ما في هذا، كما أن هذا نظير هذا، وكل منهما متميز بذاته وصفاته عما سواه، فكيف الخالق سبحانه وتعالي
(4)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «المعاني لا تكون مطلقة وعامة إلا في الأذهان، لا في الأعيان، فلا يكون موجود وجوداً مطلقاً أو عاماً إلا في الذهن، ولا يكون مطلق أو عام إلا في الذهن، ولا يكون إنسان أو حيوان مطلق وعام إلا في الذهن، وإلا فلا تكون الموجودات في أنفسها إلا معينة مخصوصة متميزة عن غيرها)
(5)
.
فالذهن يفهم من (السميع) قدراً مطلقاً، وهو (مطلق السمع)، ولا يوجد في الخارج شيء يسمى:(سمعاً) بهذا الإطلاق، بل لا يوجد إلا مضافاً معيناً (سمع الله) أو (سمع المخلوق)، فهذا اللفظ المشترك المطلق يتناول الاثنين، لكن هذا المشترك
(1)
قال يوسف ابن الجوزي: «المطلق: ما دل على شيء غير معين باعتبار حقيقة شاملة لجنسه، الإيضاح لقوانين الاصطلاح (19)، وانظر: التعريفات للجرجاني (280).
(2)
انظر: التدمرية (128)، مجموع الفتاوي (9/ 147)، اقتضاء الصراط المستقيم-ت: الفقي (464)، بيان تلبيس الجهمية (2/ 379)، منهاج السنة النبوية: 2/ 119 - 120، 526)، الرد على الشاذلي في حزبه (219).
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية (2/ 119).
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم -ت: الفقي (464)، وانظر: درء تعارض العقل والنقل (5/ 84).
(5)
شرح حديث النزول ضمن مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/ 330)، وانظر: مجموع الفتاوي (9/ 60).
لا وجود له في الخارج عقلا، ولا لفظه موجود في الكلام سمعاً، بل موجود مطلق يتناولهما جميعاً، لا يختص بخالق ولا مخلوق، ولا يوجد في الخارج، ولا هو موجود في كلام الله ورسوله
(1)
.
وبهذا يتبين معنى القدر المشترك بين الأشياء، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور: هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته، وصفاته، وأفعاله»
(2)
.
فهذه بعض النقاط العامة في هذه مسألة القدر المشترك، ولكل جانب منها تفاصيل سيتم توضيحها وبسطها في الجوانب الآتية.
الجوانب التفصيلية لمسألة القدر المشترك
قد تم مراعاة أن تعرض المسألة في جوانبها الثلاث وهي:
* الجانب الاصطلاحي.
* والجانب اللغوي.
* والجانب الشرعي.
وذلك لتعلق المسألة بهذه الجوانب جميعها، فقد ألبست المسألة هذه الأبواب جميعها، فتارة تناقش وتعرض في جانبها الاصطلاحي، وتارة أخرى في جانبها اللغوي، وتارة ثالثة في جانبها الشرعي، وتارة رابعة تعرض من جميع هذه الجوانب كلها.
(1)
الرد على الشاذلي في حزبيه لشيخ الإسلام -ت: العمران (220).
(2)
التدمرية، ص:(128)، وانظر: بيان تلبيس الجهمية-ط: القاسم (1/ 315)، و ط (المجمع)(6/ 489)، جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية (131 - 133).
وجعلت البداية للحديث عن الجانب الاصطلاحي لأنه الجانب الأكثر استعمالاً في الكلام عن هذه المسألة أثناء عرضها ومناقشتها، ثم يأتي الجانب اللغوي، ويليه الجانب الشرعي الذي لا يمكن فيه أن يتصور ويفهم إلا مع الجانبين السابقين، وأرجو أن أكون قد وفقت في شرح جوانب المسألة، فبعض المسائل دقيقة فيحتاج الأمر فيها إلى شيء من البسط والشرح والتفصيل وتسليط الضوء على أكثر من جانب وبشكل مستقل بغية الوصول إلى الهدف والغاية.
الجانب الأول: الجانب الاصطلاحي للمسألة.
يجد الباحث في هذه المسألة الحاجة إلى استحضار عدد من المصطلحات العقلية المستعملة في هذه المسألة والتي ترتبط في النقاش الدائر فيها فلابد من تصورها قبل الخوض في تفاصيل النزاع الواقع فيها ومن تلك المصطلحات:
أولاً: مراتب وجود الشيء.
ثانياً: القدر المشترك والقدر المميز.
ثالثاً: الكليات الخمس.
وسأتكلم عن هذه المصلحات مع ربطها بموضوع هذه القاعدة لتقريب فهمها.
أولاً: مراتب وجود الشيء.
لكل شيء أربع مراتب:
• وجود في الأعيان.
• ووجود في الأذهان.
• ووجود في اللسان.
• ووجود في البنان.
وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: "الشيء له أربعة مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة في الأعيان والمراد. بها وجوده العيني.
والمرتبة الثانية: مرتبة في الأذهان، والمراد. بها وجوده الذهني.
والمرتبة الثالثة: مرتبة في اللسان، والمراد بها وجوده اللفظي.
والمرتبة الرابعة: مرتبة في الخط، والمراد بها وجوده الرسمي. "
(2)
.
وهذا التقسيم الإحاطة به مفيدة لأنه يرد كثيراً في هذه المسألة حيث يفرق بين الوجود الذهني والوجود العياني أو الخارجي، ومن ذلك على سبيل المثال:
• قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان، فليس في الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى"
(3)
.
ويلاحظ في هذا النص استعمال مصطلح "الكليات" وهذا يقودنا لشرح هذا المصطلح كما سيأتي.
• وقوله أيضاً: "وبينّا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن، فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك"
(4)
قال ابن تيمية رحمه الله: "قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا: وُجُودٌ فِي " الْأَعْيَانِ "
وَوُجُودٌ فِي
(1)
مجموع القتاوى 2/ 157.
(2)
انظر: مختصر الصواعق 2/ 304، 305، ومجموع الفتاوى 6/ 61.
(3)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 183)
(4)
الرسالة التدمرية (1/ 125 - 131)
" الْأَذْهَانِ " وَوُجُودٌ فِي " اللِّسَانِ " وَوُجُودٌ فِي "الْبَنَانِ " وَهُوَ: الْعَيْنِيُّ وَالْعِلْمِيُّ وَاللَّفْظِيُّ وَالرَّسْمِيُّ.
ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ: إنَّ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ وَالْعِلْمِيَّ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْأُمَمِ؛ بِخِلَافِ اللَّفْظِيِّ وَالرَّسْمِيِّ فَإِنَّ اللُّغَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ. وَهَذَا قَدْ يَذْكُرُهُ بَعْضُهُمْ فِي " كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى " أَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ دُونَ الْحُرُوفِ الَّتِي تَخْتَلِفُ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ أَنَّ كُتُبَهُ إنَّمَا اخْتَلَفَتْ لِاخْتِلَافِ لَفْظِهَا فَقَطْ؛ فَكَلَامُهُ بِالْعِبْرِيَّةِ هُوَ التَّوْرَاةُ وَبِالْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ " الْمَعْنَى الْقَدِيمَ " يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا؛ فَهَذِهِ صِفَاتٌ عَارِضَةٌ لَهُ؛ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ. وَيَذْكُرُ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ مُطْلَقًا فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " فِي مَسَائِلِ اللُّغَاتِ وَيَذْكُرُهُ بَعْضُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى وَأَسْمَاءِ اللَّهِ"الْحُسْنَى كَأَبِي حَامِدٍ.
قُلْت: وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَلْفَاظَ اللُّغَاتِ (مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَالتَّنُّورِ وَكَمَا يُوجَدُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَّحِدَةِ فِي اللُّغَاتِ. وَمِنْهَا: مُتَنَوِّعٌ كَأَكْثَرِ اللُّغَاتِ وَاخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ لَا تَضَادَّ؛ كَاخْتِلَافِ الِاسْمَيْنِ لِلْمُسَمَّى الْوَاحِدِ. وَكَذَلِكَ مَعَانِي اللُّغَاتِ؛ فَإِنَّ " الْمَعْنَى الْوَاحِدَ " الَّذِي تَعْلَمُهُ الْأُمَمُ؛ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ كُلُّ أُمَّةٍ بِلِسَانِهَا؛ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاحِدًا بِالنَّوْعِ فِي الْأُمَمِ؛ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ كَمَا يَخْتَلِفُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ يَكُونُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَنَوِّعًا فِي الْأُمَمِ مِثْلَ: أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدُهُمْ بِنَعْتِ وَيُعَبِّرَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّعْتِ وَتَعْلَمُهُ الْأُمَّةُ الْأُخْرَى بِنَعْتِ آخَرَ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّعْتِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُعَبَّرِ بِهَا عَنْ الْأَشْيَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى عِلْمِهَا فِي الْجُمْلَةِ " فَتُكْرِي وَخَدَّايَ وَنَسَتْ شَكَّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ مَعْنَاهَا مُطَابِقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَعْنَى اسْمِ" "اللَّهِ؛ وَكَذَلِكَ " بيغنير وَبِهَشِمِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا إذَا تَأَمَّلْت الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُتَرْجَمُ بِهَا الْقُرْآنُ - مِنْ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا - تَجِدْ بَيْنَ الْمَعَانِي نَوْعَ
فَرْقٍ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً فِي الْأَصْلِ كَمَا أَنَّ اللُّغَتَيْنِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الصَّوْتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتَا فِي تَأْلِيفِهِ؛ وَقَدْ تَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهَا أَكْثَرَ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ " الْمُتَكَافِئَةِ " - الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ - كَالصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ؛ وَكَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالْمَوْرِ وَالْحَرَكَةِ وَالصِّرَاطِ وَالطَّرِيقِ.
وَتَخْتَلِفُ اللُّغَتَانِ أَيْضًا فِي قَدْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَعُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ؛ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَنَوْعِهِ وَتَخْتَلِفُ أَيْضًا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ النَّاطِقَانِ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ بِاللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ يَتَصَوَّرُ أَحَدُهُمَا مِنْهُ مَا لَمْ يَتَصَوَّرْ الْآخَرُ حَقِيقَتَهُ وَكَمِّيَّتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ؛ فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ لَا يَتَّحِدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي قَلْبِ النَّاطِقِينَ؛ بَلْ وَلَا فِي قَلْبِ النَّاطِقِ الْوَاحِدِ فِي الْوَقْتَيْنِ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ يَجِبُ اتِّحَادُهُ فِي اللُّغَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ مَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فِيهِ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ؛ لَكِنَّ الِاخْتِلَافَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ لَا تَضَادَّ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ سَوَاءٌ فَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا لَوْ عَبَّرْنَا عَنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِالْعِبْرِيَّةِ وَعَنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ بَلْ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ تَنَوُّعُ مَعَانِي الْكُتُبِ وَاخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ أَعْظَمَ مِنْ اخْتِلَافِ حُرُوفِهَا؛ لِمَا بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعِبْرِيَّةِ مِنْ التَّفَاوُتِ؛ وَكَذَلِكَ مَعَانِي الْبَقَرَةِ لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي آل عِمْرَانَ. وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الْأَمْرِ هُوَ الْخَبَرُ. وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُخْتَلِفَاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةٍ مَا كَمَا أَنَّ اللُّغَاتِ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةٍ مَا فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا وَاحِدَةٌ مَعَ تَنَوُّعِهَا: فَكَذَلِكَ اللُّغَاتُ سَوَاءٌ بَلْ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي أَشَدُّ. أَمَّا دَعْوَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا صِفَةً حَقِيقِيَّةً وَالْأُخْرَى وَضْعِيَّةً: فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا مَوْضِعٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي " الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ " وَ " فِي أُصُولِ الدِّينِ " وَ " الْفِقْهِ " وَفِي مَعْرِفَةِ " تَرْجَمَةِ اللُّغَاتِ ". وَأَيْضًا: لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِأَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ وَاللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاطِقِينَ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَاوُتٌ
أَصْلًا فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فَإِنَّ اللُّغَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَقَدْ يَحْصُلُ أَصْلُ الْمَقْصُودِ بِالتَّرْجَمَةِ فَكَذَلِكَ الْمَعَانِي: فَإِنَّ التَّرْجَمَةَ تَكُونُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَلِهَذَا سَمَّى الْمُسْلِمُونَ ابْنَ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُتَرْجِمُ اللَّفْظَ. "
(1)
ثانياً: الكليات الخمس.
الكليات في المنطق الصوري: هي الحقائق المجردة التي لا تقع تحت حكم الحواس، وتدرك بالعقل.
هي خمس:
• (النوع): كالإنسان،
• و (الجنس): كالحيوان.
• و (الفصل): كالنطق للإنسان.
• و (الخاصة: (كالضاحك للإنسان.
• (العامة (: كالماشي للإنسان أيضا.
ويقال لها باليونانية إيساغوجي.
الكليات الخمس المشتركة في الخارج هي خمس كليات: الجنس، والنوع، والفصل، والعرض الخاص، والعرض العام.
والكلي ينقسم إلى:
- (ذاتي)
- و (عرضي).
(1)
مجموع الفتاوى: 6/ 61 - 65.
• فـ (الذاتي): محمول يقوم به الموضوع في ماهيته. وهو أقسام ثلاثة: (نوع) و (جنس) و (فصل).
• أما (العرضي): فهو محمول لا تتقوّم به ماهية الموضوع. أو هو محمول خارجٌ عن الموضوع. وهو قسمان: (عرض خاص) و (عرض عام)
وهذه الكليات يطلق عليها مسمى القدر المشترك أي أن بينها قدر مشترك في الذهن لا في الخارج.
أما عن تعريفاتها وأمثلتها:
الأول: (النوع).
وتعريفه: هو الكلي الذي كانت أفراده متفقة في الحقيقة، وكان هو تمام حقيقة أفراده.
مثاله: (الإنسان) الذي أفراده: (زيد، وعمرو، وخالد) وغيرهم فإن حقيقتهم واحدة والاختلافات الموجودة بينهم في الطول والقصر، واللون، وغيرهما إنما هي اختلافات عارضية، لا ذاتية، فذات الطويل، وذات القصير، وذات الأبيض اللون، وذات الأسود كلها (إنسان) لا اختلاف فيها.
الثاني: (الجنس).
تعريفه: هو الكلي الذي كانت أفراده مختلفة في حقايقها وكان جزءً لحقيقة أفراده.
مثاله: (الحيوان) الذي أفراده (الإنسان، والفرس، والبقر) وغيرها فإن حقائقهم مختلفة، فحقيقة (الإنسان) غير حقائق بقية الحيوانات، وكذلك حقيقة (الفرس) غير حقائق بقية الحيوانات، وهكذا غيرهما، إلاّ أن الحيوانية جزء لجميع هذه الحقائق المختلفة.
الثالث: (الفصل).
تعريفه: هو الكلي الذي كانت أفراده متفقة في الحقيقة، وكان هو جزء حقيقة أفراده.
مثاله: (الناطق) الذي هو جزء حقيقة (الإنسان) والإنسان أفراده متفقة في الحقيقة.
الرابع: (العرض الخاص).
تعريفه: هو الكلي الذي كان مختصاً بحقيقة واحدة وخارجاً عن الحقيقة.
مثاله: (الضاحك) الذي هو كلي مختص بحقيقة الإنسان ـ إذ ليس غير الإنسان ضاحكاً ـ مع أنه ليس داخلاً في حقيقة الإنسان وجزءاً لذاته.
الخامس: (العرض العام).
تعريفه: هو الكلي الذي كان غير مختص بحقيقة واحدة وكان خارجاً عن الحقيقة.
مثاله: الماشي (الذي) هو كلي يشمل (الإنسان) و (الفرس) و (البقر) وغيرها مع أن حقائقها مختلفة، وهو ليس داخلاً في حقيقتها، ولا جزءاً لذاتها.
وهذه الكليات تجتمع بأنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان. قال ابن تيمية: "ومن قال: إنه يوجد في الخارج كليا، فقد غلط، فإن الكلي لا يكون كليا قط إلا في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا شيء معين، إذا تصور منع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، ولكن العقل يأخذ القدر المشترك الكلي بين المعينات، فيكون كليا مشتركا في الأذهان"
(1)
.
(1)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 308)
ثالثاً: الفرق بين القدر المشترك والقدر المميز.
فما من موجودين إلا بينهما قدر مشترك، وقدر مميز.
وتارة يعبر عن القدر المشترك:
o بـ "القدر المشترك"
(1)
.
o بـ " الاسم المطلق"
(2)
o أو " الاسم العام"
(3)
.
o بـ "القدر المطلق"
(4)
.
o وبـ "القدر المشترك المطلق"
o أو "القدر المطلق المشترك".
o أو " القدر المشترك الكلي المطلق"
(5)
o وبـ "القدر العام الكلي".
o وبـ "المعنى العام الكلي"
(6)
.
o أو "المعنى العام"
(7)
.
o أو " المعنى المشترك الكلي"
(8)
.
o أو "المعنى العام الكلي الشامل"
(9)
o وبـ "الكلي المطلق".
o وبـ "الجامع"
(10)
.
o وبـ "المتفق"
(11)
.
وأما القدر المميز فتارة يعبر عنه:
o بـ "القدر المميز".
o وبـ " الفارق".
أما القدر المشترك:
(1)
التدمرية (120 - 128)، مجموع الفتاوي (2/ 12).
(2)
كما في التدمرية (21) وكذا في: نفس المرجع (126)، وشرح حديث النزول ضمن مجموع الفتاوي (5/ 331، 350)، ومجموع الفتاوي (9/ 145، 147)، ومنهاج السنة النبوية (2/ 118)، واقتضاء الصراط المستقيم ت: الفقي (464)، والرد على الشاذلي في حزبيه ت: العمران ص: (216).
(3)
التدمرية ص: (20)، و: الصفدية (2/ 6) ومنهاج السنة النبوية (2/ 119).
(4)
درء التعارض (5/ 84).
(5)
درء التعارض (5/ 80).
(6)
بيان تلبيس الجهمية ط: المجمع (6/ 482).
(7)
التدمرية ص: (128)، ومنهاج السنة النبوية (8/ 31)، والرد على الشاذلي في حزبيه ت: العمران (219) وكقوله في الصفدية (2/ 9).
(8)
شرح الطحاوية ص: (526).
(9)
مجموع الفتاوي (5/ 342).
(10)
مجموع الفتاوي 2/ 63.
(11)
الصفدية 2/ 9.
القدر المشترك هو: مسمى الاسم المطلق، وهذا المسمى هو معنى كلي لا يوجد إلا في الأذهان.
فإنه ما من موجودين إلا ولا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان، وأنّ كلا منهما له حقيقة هي ذاته ونفسه وماهيته، حتى لو كان الموجودان مختلفين اختلافا ظاهرا كالسواد والبياض فلا بد أن يشتركا في مسمى الوجود والحقيقة ونحو ذلك، بل وفيما هو أخص من ذلك مثل كون كل منهما لونا وعرضا وقائما بغيره ونحو ذلك وهما مع هذا مختلفان.
وإذا كان بين كل موجودين جامع وفارق، فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، فلا يجوز أن يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها، ولا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته ولا مشابهة في شيء من خصائصه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع، فهو سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له.
وإذا أُخذ القدر المطلق الذي يتفق فيه الخالق والمخلوق، مثل مسمى الوجود والحقيقة والعالم والقادر ونحو ذلك، فهذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، والمخلوق لا يشارك مخلوقا في شيء من صفاته، فكيف يكون للخالق شريك في ذلك، لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته، والله تعالى لا مثل له أصلا.
والقدر المشترك المطلق كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك لا يلزمه شيء من صفات النقص الممتنعة على الله تعالى، فما وجب للقدر المطلق المشترك لا نقص فيه ولا عيب، وما نفي عنه فلا كمال فيه، وما جاز له فلا محذور في جوازه.
وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والآفات فهي ليست من
لوازم ما يختص به، ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا، بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة، والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب، وهذه معاني شريفة بسطت في غير هذا الموضع"
(1)
.
فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف قائم بنفسه، وهذا المطلق الكلي هو الذي من خلاله نفهم ما خوطبنا به"
(2)
.
(3)
.
وكل واحد من هذين المشتركين له المعنى المطلق في الذهن لكل واحد منهما حصة هما ممتازتان عن بعضهما "
(4)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكليات الخمسة: كليات الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام، والقول فيها واحد، فليس فيها ما يوجد في الخارج كليا مطلقا، ولا تكون كلية مطلقة إلا في الأذهان لا في الأعيان.
وما يدعى فيها من عموم وكلية أو من تركيب كتركيب النوع من الجنس والفصل، هي أمور عقلية ذهنية لا وجود لها في الخارج، فليس في الخارج شيء يعم هذا وهذا، ولا في الخارج إنسان مركب من هذا وهذا، بل الإنسان موصوف بهذا
(1)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 83 - 85).
(2)
انظر مجموع الفتاوي 2/ 62 - 63، منهاج السنة 2/ 596 - 598. وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 1082 - 1083، التدمرية 39 - 40، وشرحها للبراك 101 - 137.
(3)
التدمرية: 128.
(4)
انظر: منهاج السنة: 2/ 589.
وهذا بصفة يوجد نظيرها في كل إنسان، وبصفة يوجد نظيرها في كل حيوان، وبصفة يوجد نظيرها في كل نام.
وأما نفس الصفة التي قامت به، ونفس الموصوف الذي قامت به الصفة، فلا اشتراك فيه أصلا ولا عموم، ولا هو مركب من عام وخاص.
رابعاً: أقسام المشترك.
يقسم المنطقيون المشترك إلى قسمين (لفظي ومعنوي):
• المشترك اللفظي: وهو: اللفظ المفرد الدال على أعيان متعددة، بمعاني تختلف اختلافا لا تشابه فيه، فلا يكون بين تلك الأعيان اتفاق وتشابه في المعنى البتة.
وذلك كلفظ (العين) التي تقال على: الباصرة، وعلى ينبوع الماء، وعلى قرص الشمس.
• المشترك المعنوي: وهو: اللفظ المفرد الدال على أعيان متعددة، بمعني عام مشترك بين تلك الأفراد (سواء كان ذلك المعنى في تلك الأفراد على السوية، أو على التفاوت).
وينقسم المشترك المعنوي إلى قسمين (متواطئ ومشكك):
أ - المتواطئ: وهو: اللفظ المفرد الدال على اعيان متعددة، بمعني عام مشترك بين تلك الأفراد على السواء.
كالإنسان، فهو يتضمن معنى (الإنسانية)، وهذا المعنى يصدق على جميع أفراد الإنسان على السوية.
ب-المشكك: وهو: اللفظ المفرد الدال على اعبان متعددة، بمعني عام مشترك بين تلك الأفراد لا على السواء، بل على التفاوت.
فيكون وجوده في بعض تلك الأفراد أولى، أو أقدم، أو أشد من البعض الآخر.
كالموجود، فإنه يتضمن معنى (الوجود)، وهذا المعنى هو في واجب الوجود أولي وأقدم وأشد مما هو في ممكن الوجود
(1)
.
وقد أشار شيخ الإسلام إلى أن هناك من جعل المشكك نوعا من المتواطئ -لا قسيماً له كما سلف-ثم قال: «وبالجملة فالنزاع في هذا لفظي، فالمتواطئة العامة تتناول المشككة، وأما المتواطئة التي تتساوي معانيها فهي قسيم المشككة، وإذا جعلت المتواطئة نوعين: متواطئة عامة، وخاصة -كما جعل الإمكان نوعين: عاما وخاصاً -زال اللبس
(2)
، فكان مقصوده بالمتواطئ العام ما سمي في التقسيم السابق ب (المشترك المعنوي).
الجانب الثاني: الجانب اللغوي للمسألة
(3)
.
ويمكن توضيح المسألة في جانبها اللغوي من خلال النقاط الآتية:
أولاً: أن فهم المراد من نصوص الكتاب والسنة بأن تجري على لغة العرب ووفق لسانها.
فالألفاظ جارية على لغة العرب-كما يقول الشاطبي رحمه الله
(4)
-فحتى نفهم المراد من نصوص الكتاب والسنة فلا بد أن تجري على لغة العرب ووفق لسانها،
(1)
انظر: معيار العلم في المنطق للغزالي (52، 53)، الإيضاح لقوانين الاصطلاح ليوسف ابن الجوزي (14، 15)، المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي-ضمن مجموع: المصطلح الفلسفي عند العرب للأعسم (317)، التعريفات للجرجاني (274، 276)، الكليات للكفوي (118، 846)، المعجم الفلسفي لجميل صليبا (1/ 87).
(2)
(منهاج السنة: 2/ 586)، وانظر: مجموع الفتاوي (5/ 328 - 332)، التدمرية، ص:(130).
(3)
المصدر: القدر المشترك في معاني الصفات بين أهل السنة ومخالفيهم ص: 79 - 91.
(4)
انظر: الموافقات: 2/ 127.
وليس لأحد أن يسخر اللغة وفق هواه وعلى ما جرى به اعتقاده، فاللغة حاكمة ليس لأحد أن يطوعها لأمر بغير أساليب أهلها
(1)
.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: " إنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها " .. ثم ذكر وجوها لاتساع لسانها وضروبه المتنوعة في دلالتها على المعاني". ثم قال: " وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به معرفة واضحة عندها ومستنكرا عند غيرها ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه"
(2)
.
وقال بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: 794 هـ: ("وقد روى عبد الرزاق في " تفسيره ": حدثنا الثوري عن ابن عباس، " أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام): قسم تعرفه العرب في كلامها، وقسم لا يعذر أحد بجهالته؛ يقول من الحلال والحرام، وقسم يعلمه العلماء خاصة، وقسم لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فهو كاذب). وهذا تقسيم صحيح.
فأما الذي تعرفه العرب، فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم، وذلك شأن اللغة والإعراب. فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها، ومسميات أسمائها"
(3)
ثانيا: أن فهم النصوص يعتمد على معنى سياق الكلام.
وهذه الدلالة هي من الأهمية بمكان، إذ يتضح من خلالها فهم الكلام الوارد وتنزيله على معانيه الصحيحة، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: " كلام العربي على الإطلاق
(1)
انظر: بيان تلبيس الجهمية: 1/ 492.
(2)
الرسالة للشافعي: ص 51 - 53، ت: أحمد شاكر.
(3)
البرهان في علوم القرآن: 2/ 307.
لابد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلا صار ضحكة وهزءة. "
(1)
ودلالة السياق دلالة معتبرة عند أهل السنة استخدموها في توضيح النصوص على معانيها المناسبة لها.
ويقصد بالسياق هنا هو المعنى الذي جرت فيه الألفاظ محتفة بقرائنها التي تؤكد دلالة هذا المعنى وتستبعد ما سواه، ويسمي بعض الباحثين السياق بأنه:" الموقف الكلامي بجميع عناصره "
(2)
.
فالسياق إذن يعرف من خلال الكلام سابقه ولاحقه وما احتف به من قرائن سواء كانت واضحة في النص أم كانت خارجة عنه كأسباب النزول.
يقول السيوطي رحمه الله وهو يذكر مصادر المفسر وأنه يبدأ بالقرآن ثم السنة " فإن لم يجده في السنة رجع إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله.
(3)
وقد يطول الكلام عن السياق، والمقصود هنا بيان أن النصوص حتى تفهم فلا بد من اعتبار سياقاتها، ولذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن الدلالة في كل موضع
(1)
الموافقات: 3/ 419 - 420.
(2)
انظر: علم الدلالة دراسة نظرية وتطبيقية: ص 171، د/ فريد عوض حيدر، وانظر: دلالة السياق لردة الله الطلحي: ص 46، وقد لخص الطلحي مفهوم السياق من خلال تراث العرب ويقصد به السياق عند علماء الشرع وعلماء اللغة بأنه يرجع إلى ثلاثة أمور:
1 -
السياق هو الغرض.
2 -
السياق هو الظروف والمواقف التي ورد فيها النص.
3 -
السياق هو السياق اللغوي المعروف الآن وهو ما يمثله الكلام في موضع النظر والتحليل.
انظر: دلالة السياق: 50 - 51.
(3)
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تعليق: د. مصطفى البغا: 1/ 1197.
بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية "
(1)
.
وعند ذكر بعض النصوص فإنه قد يظهر فيها أنها من نصوص الصفات وقد لا يثبت من خلالها صفة كقوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)(البقرة: 115)، وكقوله:(فأتى الله بنيانهم بين القواعد)(النحل: 26)، فالأولى تعني وجه الله أي قبلته، فأضيفت إلى الله تعالى للتخصيص والتشريف، والثاني المقصود به إتيان أمره المتمثل في عقوبته، وقد يستدل بعض النفاة بمثل آية (فأتى الله بنيانهم)
…
على نفي صفة الإتيان الله تعالى حقيقة الواردة في قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) جاعلاً من معنى الآية الأولى معنى للآية الثانية من أن الإتيان لله تعالى إنما هو إتيان أمره"
(2)
.
ومن خلال دلالة السياق يتبين لنا أثر فهم هذه الدلالة في إثبات صفات الله تعالى وأن لا يجعل ما لا يدل على صفة من النصوص دليلا على نفي الصفة المثبتة من النصوص الأخرى.
وما سبق هو إشارة للمقصود وتبيان لأهمية هذه الدلالة"
(3)
.
ثالثاً: أقسام الألفاظ من حيث دلالتها على المعنى.
أولاً: الألفاظ المختلفة.
الألفاظ عند اختلافها في اللفظ فهي على نوعين من حيث دلالتهما على المعاني:
(1)
مجموع الفتاوي لابن تيمية: 6/ 12. وانظر: الرسالة المدنية لابن تيمية: ص: 31، ت: الوليد الفريان. انظر: الصواعق المرسلة: 714.
(2)
انظر: نقض الدارمي، ومجموع الفتاوي لابن تيمية: 2/ 429، و 3/ 193، ومختصر الصواعق لابن الموصلي: 1/ 29.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 6/ 15 - 23، لتبيان أمثلة توضح دلالة السياق وأثرها في فهم النص، وانظر كذلك: الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية للشجيري: 91 - 95.
• -الألفاظ المترادفة: وهي الألفاظ المختلفة الدالة على معنى يندرج تحت واحد، أي أن الأسماء المترادفة اختلفت ألفاظها واتفقت معانيها كـ:
• الخمر.
• والراح.
• والعقار.
(1)
• -المتباينة أو المتزايلة: وهي الألفاظ المختلفة الدالة على معان مختلفة بالحد والحقيقة كـ:
• الفرس
• والذهب
• والثياب
(2)
.
ثانياً: الألفاظ المتفقة في اللفظ والرسم.
الألفاظ عند اتفاقها في اللفظ والرسم فهي على ثلاثة أنواع من حيث دلالتها على المعاني:
النوع الأول: المشترك اللفظي (بكسر الراء):
وهو اللفظ الواحد المتفق الذي يطلق على أشياء مختلفة بالحد والحقيقة إطلاقا متساوية.
كـ "العين" تطلق على:
• آلة البصر.
(1)
انظر: معيار العلم للغزالي: ص: 81 ت: سليمان دنيا.
(2)
انظر: معيار العلم للغزالي: ص: 81 ت: سليمان دنيا.
• وينبوع الماء.
• وقرص الشمس.
وهذه مختلفة الحدود والحقائق"
(1)
.
وعند ابن تيمية رحمه الله فإن الأسماء المشتركة هي الأسماء المتفقة اللفظ التي يكون معناها متباينا وهي مشتركة اشتراكا لفظيا كلفظ "سهيل" المقول على "الكوكب" وعلى "الرجل"
(2)
.
النوع الثاني: المتواطئة:
وهي الألفاظ الكلية التي يكون حصول معناها وصدقها على أفرادها الخارجية والذهنية على السوية كدلالة اسم الإنسان على أفراده الخارجيين
(3)
، وهذه الأسماء المتواطئة هي جمهور الأسماء الموجودة وهي أسماء الأجناس اللغوية، وهو الاسم المطلق على الشيء وما أشبهه سواء كان اسم عين أو اسم صفة جامدا أو مشتقا
…
كلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة
(4)
.
النوع الثالث: المشككة:
وهي الألفاظ الكلية التي لم يشأ صدقها على أفرادها، بل حصولها في بعضها أولى أو أشد من بعضها الآخر كدلالة اسم النور على نور الشمس ونور السراج فإنه في الشمس أشد منه وأقوى من نور السراج
(5)
.
وسمي المشكك مشككا لأن الناظر فيه يتردد ويتشكك هل هو من المتباين أو من المتواطئ، فإذا نظر إلى التفاوت ظن أنه من المتباين وإذا نظر إلى الاتفاق في
(1)
انظر: معيار العلم للغزالي: ص: 52، والمعجم الفلسفي لصليبا: 2/ 376.
(2)
انظر: مجموع الفتاوي لابن تيمية: 20/ 234.
(3)
انظر: معيار العلم: ص: 81، التعريفات للجرجاني: ص: 257، والمعجم الفلسفي: 2/ 334.
(4)
مجموع الفتاوي لابن تيمية: 3/ 123، 129، 20/ 243.
(5)
انظر: التعريفات للجرجاني: ص: 276، المعجم الفلسفي: 2/ 378.
المعنى جعله من المتواطئ، فالإنسان باعتبار أفراد الإنسان يعد متواطئا، والضوء باعتبار التفاضل والتفاوت فيه يعد مشككا "
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالمتواطئة العامة تتناول المشككة، وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة، وإذ جعلت المتواطئة نوعين: متواطئا عاما وخاصا، كما جعل الإمكان نوعين: عاما وخاصا، زال اللبس
(2)
.
الجانب الثالث: الجانب الشرعي للمسألة.
مسألة القدر المشترك لها تعلق بأكثر من مسألة شرعية، وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية:" فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ من جنس واحد، ومن فهم الأمر على ما هو عليه، تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا".
(3)
والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا ما المسائل المتعلقة بهذه المسألة، وما الأقوال الواردة في كل مسألة؟
ودونك الجواب على ذلك:
المسألة الأولى: مواقف الناس من نصوص الأسماء والصفات هل هي على الحقيقة أم على المجاز.
فنصوص الأسماء والصفات التي أطلقت على الله تعالى وعلى خلقه، وقد وقف الناس منها مواقف
(4)
:
(1)
انظر: شرح التدمرية للشيخ البراك: 365.
(2)
منهاج السنة: 2/ 585.
(3)
منهاج السنة النبوية (2/ 585 - 592).
(4)
مجموع الفتاوى لابن تيمية: 8/ 146، والرد على المنطقيين 1/ 162 - 163، وانظر: مقالات الإسلاميين: ص: 372، والصواعق المرسلة: 4/ 1511، ودلالة الأسماء الحسنى على التنزيه: 82 - 83.
• فطائفة قالت: إن هذه الأسماء والصفات هي مجاز في حق الخالق، حقيقة في حق المخلوق.
وهذا قول غلاة المعطلة من فلاسفة باطنيين وجهمية وغيرهم، وقولهم هذا يعني أن هذه الأسماء والصفات المتواطئة هي أتم وأكمل عند المخلوق منفية عن الخالق سبحانه وهي بالنسبة له جل جلاله مجرد تمثيل وتقريب لما هو حقيقة في العبد.
• وطائفة قالت: هي حقيقة في الخالق، مجاز في المخلوق.
وهذا قول أبي العباس الناشئ
(1)
ومن وافقه " وهو قول باطل فإنه يلزمهم صحة نفي هذه الأسماء عن المخلوق مع أنها حقيقة فيه، ويلزمهم التناقض أيضا، فإنهم إن أثبتوا للرب تعالى حقائقها المفهومة منها امتنع أن تكون مجازا في المخلوق، لأن المعنى الذي كانت به حقيقة في الغائب موجود في الشاهد وإن كان غير مماثل، وإن أثبتوها على غير حقائقها المفهومة، وجعلوا معناها ما تأولوها قلبوا الحقائق وعكسوا اللغة وجعلوا المجاز حقيقة، والحقيقة مجازا
(2)
.
• وطائفة ثالثة قالت: إن هذه الأسماء والصفات هي حقيقة في الخالق والمخلوق.
وهذا القول هو قول جمهور الطوائف.
وعلاقة هذه المسألة بمسألة القدر المشترك أنه إذا تأملنا في قول الطائفة الثالثة وهو القول الصواب، نجد أن القائلين اختلفوا في كيفية الجمع بين قولهم هذا بإطلاقه
(1)
أبو العباس عبد الله بن محمد المعتزلي، كان متكلما، وعالماً في عدة فنون، كان به ولع بمناقضة الأقوال وإحداث أقوال خاصة به. توفي عام 293 هـ. انظر: الأعلام: 4/ 118.
(2)
دلالة الأسماء الحسنى على التنزيه: ص: 83.
وبين انتفاء تماثل الحقيقتين:
o فمنهم من قال هذه الأسماء والصفات مقولة على الله تعالى وعلى خلقه من باب الاشتراك اللفظي.
o وقال آخرون إنها من باب التواطؤ.
o وثالثهم رأى أنها من باب الألفاظ المشككة.
فكان الجمع على ثلاثة أقوال
(1)
:
القول الأول: أن هذه الأسماء والصفات مقولة على الخالق والمخلوق من باب الاشتراك اللفظي، ولا يعرف هذا القول عن طائفة كبيرة ولا نظار مشهورين كما يقوله ابن تيمية ولكنه عرف عن بعض المتأخرين
(2)
كأمثال الشهرستاني
(3)
والرازي
(4)
والآمدي
(5)
، وقول هؤلاء مبني على اختلاف الحقيقة بين الخالق
(1)
انظر: الصواعق المرسلة: 4/ 1512.
(2)
انظر: مجموع الفتاوي لابن تيمية: 20/ 241، وانظر: منهاج السنة: 2/ 581 - 584.
(3)
أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد، عالم متكلم على منهج الأشاعرة، ندم في آخر عمره على طريقته التي سار عليها وله في ذلك شعر، من أبرز مصنفاته: نهاية الأقدام، والملل والنحل-توفي رحمه الله عام 549 هـ. انظر: السير: 20/ 286.
(4)
أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن التميمي الرازي المعروف بابن خطيب الري، من أكابر أئمة الأشاعرة وممن كان له أثر واضح على المذهب، وهو من الأذكياء الذين أضاعوا أعمارهم في ضلالات الفلسفة والكلام، ووضح هذا في تخبطه فتارة يقول بقول الأشاعرة، وأخرى بقول الفلاسفة وثالثة يظهر فيها تأثره بالمعتزلة، صنف كثيرا في علوم متفرقة حتى صنف كتابا في السحر والنجوم، ومن أشهر كتبه: مفاتيح الغيب في التفسير والمطالب العالية والمباحث المشرقية وأساس التقديس وهو الكتاب الذي رد عليه شيخ الإسلام في بيان التلبيس، وله محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين وغيرها، قال عنه الذهبي:" وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة "، توفي عام 606 هـ. انظر: السير: 21/ 500، طبقات الشافعية: 8/ 81، الوافي بالوفيات: 4/ 248، وللاستزادة عن منهج الرازي انظر رسالة: فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية، تأليف: محمد صالح الزركان، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود: 2/ 651 - 678.
(5)
أبو الحسن علي بن أبي محمد بن سالم (سيف الدين) الآمدي، امتحن في مصر أثناء تدريسه بها حيث نسب إليه فساد عقيدته لغلوه في الفلسفة، وذكر الذهبي عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله " يغلب على الآمدي الحيرة والوقف ". توفي عام 631 هـ. انظر: السير: 22/ 364، وشذرات الذهب: 5/ 144.
والمخلوق فلا يمكن أن تكون هذه الأسماء والصفات إلا من باب الاشتراك اللفظي-عندهم-وقولهم هذا يستلزم التعطيل الكلي بنفي الصفات أو التعطيل الجزئي بنفي المعنى وهو التفويض المعروف"
(1)
.
القول الثاني: أنها مقولة على الله تعالى وعلى عباده من باب التواطؤ، وهو ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله، وقال: "وإذا لم تكن أسماؤه متواطئة لم يفهم العباد من أسمائه شيئا أصلا إلا أن يعرفوا ما يخص ذاته، وهم لم يعرفوا ما يخص ذاته فلم يعرفوا شيئاً
(2)
.
القول الثالث: أنها مقولة على الله تعالى وعلى العبد بطريق التشكيك، وقالوا لأن هذه الأسماء والصفات في حق الخالق هي أتم وأكمل منها في حق المخلوق.
والراجح: ولا إشكال هنا كبير بين القولين الثاني والثالث، إذا عرفنا أن المشكك نوع خاص من المتواطئ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في سياق ذكر الخلاف في المشككة هل هي نوع من المتواطئ أم لا، قال: "والراجح الذي عليه المحققون أن المشككة ليست خارجة عن جنس المتواطئة، إذ واضع اللغة إنما وضع اللغة بإزاء
(1)
انظر: رسالة صفة النزول الإلهي ورد الشبهات حولها، لعبد القادر الغامدي: 359 - 360، وانظر كذلك: التوضيحات الأثرية لمتن الرسالة التدمرية لفخر الدين بن الزبير المحسي: ص: 87 - 88.
(2)
انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية: 5/ 210.
القدر المشترك وإن كانت نوعا مختصا من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ، ولذلك كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم بل لفظ المتواطئ يتناول ذلك كله، فهي إذا قسم المتواطئ الخاص الذي هو قسم من أقسام المتواطئ العام "
(1)
.
ومع هذا فإننا لو قلنا إنها تطلق على الله تعالى وعلى خلقه من باب التشكيك فإن معاني الصفات في حق الله تعالى أولى منها في العبد، وهي حقيقة فيهما
(2)
.
بعد هذا، بقي معنا أن نقول إن هذه الأسماء والصفات المقولة على الله تعالى وعلى عباده هي من قبيل الألفاظ المتواطئة أي أن هذه الأسماء اتفقت ألفاظها وانطبقت على أفرادها في الخارج بالسوية، ولقائل أن يقول كيف يمكن أن تنطبق هذه الألفاظ وقد أطلقناها على أفرادها وهم هنا الخالق سبحانه والعبد المخلوق-بالسوية-وقد علمنا انتفاء تماثل الحقيقتين هاتين؟؟
فنقول إن الذي يوضح هذه بجلاء هو إثبات القدر المشترك ويتضح بما يلي:
أولا: أن هذه الألفاظ هي موضوعة للقدر المشترك وهو المسمى الكلي العام، فبهذا تكون متواطئة بالمعنى العام أي أنها متساوية الأفراد في المعنى الكلي العام، وإذا جاءت الخصائص فإنها لا تدخل في هذا المسمى العام. يقول ابن قدامة رحمه الله: " والرجل له وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان، فوجوده في الأعيان لا عموم له إذ ليس في الوجود رجل مطلق بل إما زيد وإما عمرو، وأما وجوده في اللسان فلفظة (الرجل) قد وضعت للدلالة عليها. وأما الذي في الأذهان من معنى الرجل فيسمى
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية: 11/ 144، 2/ 427، 8/ 145 - 147، 5/ 105، وانظر: التدمرية: 130، منهاج السنة: 2/ 586، وانظر بيان تلبيس الجهمية: 2/ 378 - 379، الصواعق المرسلة: 4/ 1513.
(2)
انظر: بيان التلبيس: 2/ 378.
كليا، فإن العقل يأخذ من مشاهدة زيد: حقيقة الإنسان وحقيقة الرجل، فإن رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى، وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو الحارث كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا
…
"
(1)
.
وبهذا نعلم أن لكل ماهيتين معنى عاماً اشتركا فيه ومعنى خاصاً افترقا فيه، فالمعنى العام الذي اشتركا فيه هو القدر المشترك الذي لا يقتضي تماثلا من كل وجه، وحين تكون الخصائص والإضافات تتمايز هاتان الماهيتان وهو القدر المميز.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله وهو يحاور ابن المرحل
(2)
الشافعي: " المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر، وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فقد يطلق عليها باعتبار ما تمتاز كل ماهية عن الأخرى، فيكون مشتركا كالاشتراك اللفظي، وقد يكون مطلقا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين فيكون لفظا متواطئة
…
"
(3)
.
المسألة الثانية: الأسماء المتواطئة إما أن تستعمل مطلقة وعامة وإما أن تستعمل مقيدة خاصة
(4)
.
o ففي حال استعمالها مطلقة لا تدل إلا على القدر المشترك، إذ أن هذا الإطلاق لا يكون تصوره إلا في الذهن ولا يمكن وجوده في الخارج كليا مطلقا، " ومعنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدها
(1)
روضة الناظر لابن قدامة: 2/ 5 - 6، ت: النملة.
(2)
محمد بن الشيخ زيد عمر بن المرحل، من كبار فقهاء الشافعية، توفي عام 738 هـ. انظر: طبقات الشافعية: 9/ 253.
(3)
مجموع الفتاوى لابن تيمية: 11/ 83.
(4)
انظر: دلالة الأسماء الحسنى على التنزيه: 85 - 87.
الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته "
(1)
.
o وفي حال استعمالها مقيدة بإضافة تعريف فإنها تدخلها الخصائص، فإذا كان العلم هو معنى مطلقا فإننا نخصه بعلم البشر إن أضفناه لزيد ونجعل له من الخصائص ما يليق بعلم البشر وكذا الأمر عندما نقيد العلم ونضيفه إلى الله تعالى فإنه سيكون على ما يليق به سبحانه. فإذا إذا استعملت هذه الألفاظ خاصة معينة دلت على ما يختص به المسمى لم تدل على ما يشركه فيه غيره في الخارج، فإن ما يختص به المسمى لا شركة فيه بينه وبين غيره
(2)
.
ونشير هنا إلى نقطة مهمة أشار إليها شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: " فإذا قيل: علم زيد، ونزول زيد، واستواء زيد، ونحو ذلك لم يدل هذا إلا على ما يختص به زيد من علم ونزول واستواء ونحو ذلك، لم يدل على ما يشركه فيه غيره، لكن لما علمنا أن زيدا نظير عمرو، علمنا أن علمه نظير علمه، ونزوله نظير نزوله .. فهذا علمناه من جهة القياس والمعقول والاعتبار لا من جهة دلالة اللفظ فإذا كان هذا في صفات المخلوق فذلك في صفات الخالق أولى، فإذا قيل: علم الله، وكلام الله، ونزوله
…
ونحو ذلك على ما يشركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى، ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك كما دل في زيد وعمرو، لأنا هناك علمنا التماثل من جهة الاعتبار والقياس لكون زيد مثل عمرو، وهنا نعلم أن الله لا مثل له ولا كفؤ ولا ند، فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره، ولا كلامه مثل كلام غيره، ولا نزوله مثل نزول غيره
…
ولهذا كان مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات
…
"
(3)
.
(1)
التدمرية: 3/ 77.
(2)
شرح حديث النزول: 79 - 80.
(3)
شرح حديث النزول: 79 - 80. وانظر: التدمرية: 21 - 31، 46 - 47، 96 - 97.
المسألة الثالثة: أن إثبات القدر المشترك فيه رد على المشبهة والمعطلة.
فمما سبق يتبين أن إثبات القدر المشترك لازم لإثبات الصفات، وأنه من خلاله عرفنا الله عز وجل وعرفنا بنفسه سبحانه، وليس ثمة محذور يخشى من إثباته لأمور
(1)
.
1 -
معرفتنا بحقيقة القدر المشترك المعرفة التامة تعطينا التصور الصحيح للعلاقة في هذه الأسماء المتواطئة بين الخالق والمخلوق، وأن القدر المشترك هو اشتراك في معنى اللفظ العام
(2)
، وهو يطلق على الله تعالى وعلى العبد بإطلاق كلي وأما الاشتراك بينهما في الخارج فلا يكون بكلي أبداً بل لا بد من وقوعه في الخارج متميزا متعينا، وهذا القدر المشترك لا يقتضي أبدا الاشتراك فيما يختص به أحدهما، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"والقدر المشترك كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه .. "
(3)
.
2 -
لا يلزم من إثبات القدر المشترك الوقوع في التشبيه الممتنع شرعا وعقلا فإن اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعية والعقلية وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه فلا يجوز أن يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى
(4)
.
3 -
إثبات القدر المشترك من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من
(1)
دلالة الأسماء الحسنى على التنزيه: 85 - 86 (بتصرف).
(2)
يمكن إطلاق لفظ المشترك المعنوي على المتواطئ في مقابل لفظ (المشترك اللفظي)، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام رحمه الله ويفهم من كلامه، انظر: مجموع الفتاوي له: 20/ 239.
(3)
التدمرية: 125 - 129.
(4)
التدمرية: 125 - 129.
مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود، ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة؛ لأن رفع القدر المشترك ألزمهم تعطيل وجود كل موجود"
(1)
.
هذه أهم النقاط المتعلقة بإثبات القدر المشترك وأنه لا يوجد ما يمنع من إثباته، وتلك أهم المسائل المتعلقة بدلالات الألفاظ على هذه المسألة ذكرناها-هنا-ليتم بها الحديث عن طريقة أهل السنة في إثباتهم للقدر المشترك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى الوجود، لزم التشبيه والتركيب، فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات.
وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود، لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة، مثل وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتًا في الأعيان، وهذا كله من نوع الاشتباه.
ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينهما من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف"
(2)
.
المسألة الرابعة: مسألة الحال.
وهذا الموضع منشأ زلل كثير من المنطقيين في الكليات، وكثير من المتكلمين في مسألة الحال. وبسبب ذلك غلط من غلط من هؤلاء وهؤلاء في الإلهيات فيما يتعلق
(1)
التدمرية: 125 - 129.
(2)
الرسالة التدمرية (1/ 108 - 109).
بهذا، فإن المتكلمين أيضا رأوا أن الأشياء تتفق بصفات وتختلف بصفات، والمشترك غير المميز، فصاروا حزبين:
الحزب الأول: أثبت هذه الأمور في الخارج، لكنه قال: لا موجودة ولا معدومة، لأنها لو كانت موجودة لكانت أعيانا موجودة أو صفات للأعيان، ولو كانت كذلك لم يكن فيها اشتراك وعموم، فإن صفة الموصوف الموجودة لا يشركه فيها غيره.
الحزب الثاني: وآخرون علموا أن كل موجود مختص بصفة فقالوا: لا عموم ولا اشتراك إلا في الألفاظ دون المعاني.
والتحقيق: أن هذه الأمور العامة المشترك فيها هي ثابتة في الأذهان، وهي معاني الألفاظ العامة، فعمومها بمنزلة عموم الألفاظ، فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق المعنى، والمعنى عام، وعموم اللفظ يطابق عموم المعنى، وعموم الخط يطابق عموم اللفظ.
المسألة الخامسة: هل العموم يكون في عوارض المعاني.
وقد اتفق الناس على أن العموم يكون من عوارض الألفاظ، وتنازعوا هل يكون من عوارض المعاني؟
القول الأول: فقيل: يكون أيضا من عوارض المعاني، كقولهم مطر عام، وعدل عام، وخصب عام.
القول الثاني: وقيل: بل ذلك مجاز؛ لأن المطر الذي حل بهذه البقعة ليس هو المطر الذي حل بهذه البقعة، وكذلك الخصب والعدل.
والتحقيق: أن معنى المطر القائم بقلب المتكلم عام كعموم اللفظ سواء، بل اللفظ دليل على ذلك المعنى، فكيف يكون اللفظ عاما دون معناه الذي هو المقصود بالبيان!
فأما المعاني الخارجية فليس فيها شيء بعينه عام، وإنما العموم للنوع: كعموم الحيوانية للحيوان، والإنسانية للإنسان.
فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ من جنس واحد، ومن فهم الأمر على ما هو عليه، تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا".
(1)
المسألة السادسة: إذا خوطبنا بوصف ما غاب عنا لم نفهم ما قيل لنا إلا بمعرفة المشهود لنا.
قال ابن تيمية: " فإذا أخبرنا الله تعالى عن الأمور الغائبة فلابد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة، والاشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا ونحو ذلك، وإذا تقدر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع منه وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط.
ومثل هذه المعاني تسير وفق ترتيب نستطيع من خلاله إدراكها:
فأولا: لابد من إدراك المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيا: أن يعقل معانيها الكلية.
وثالثا: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاثة لابد منها في كل خطاب.
(1)
منهاج السنة النبوية (2/ 585 - 592).
وخلاصة الأمر أن الإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد مع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد"
(1)
.
فنحن نعلم أن الله سبحانه لما خلق الخلق جعله على قسمين: غيب وشهادة، فأما عالم الشهادة، فهو مدرك لرؤيته أو لرؤية نظيره، «والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره»
(2)
.
ومن الغيب: الله سبحانه وتعالى، ومنه ما هو مخلوق كالملائكة والجنة والنار، وما بعد الموت، وعلى هذا جرى تفسير بعض السلف، قال الربيع بن أنس رحمه الله:(الذين يؤمنون بالغيب)(البقرة: 3)، آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا كله غيب
(3)
.
وعن قتادة
(4)
رحمه الله قال في قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب) قال: «آمنوا بالجنة والنار والبعث بعد الموت وبيوم القيامة، وكل هذا غيب
(5)
.
وقال عطاء بن أبي رباح
(6)
رحمه الله: «من آمن بالله فقد آمن بالغيب»
(7)
،
فلما كان
(1)
انظر: شرح حديث النزول، 104 - 206. والتدمرية، 42 - 46 و 97. ومجموع الفتاوى: 13/ 289 - 290 وشرح الطحاوية: 64 - 68، بتصرف يسير.
(2)
التدمرية: 56.
(3)
تفسير ابن جرير: 1/ 139.
(4)
أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي، إمام حافظ مفسر كان ضريراً، وكان من أوعية العلم وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ، جالس الحسن ثنتي عشرة سنة، يصلي معه الصبح ثلاث سنين توفي رحمه الله عام 118 هـ. انظر: السير: 1/ 153.
(5)
تفسير ابن جرير: 1/ 134.
(6)
أبو محمد عطاء بن رباح المكي، العالم الجليل، مفتي مكة، سيد التابعين علما وعملا، وإتقانه أخذ عنه أبو حنيفة وأدرك مئتين من الصحابة، توفي رحمه الله عام 114 هـ. انظر: السير: 5/ 78، وفيات الأعيان: 3/ 261.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 67.
الله تعالى غيبا عنا لم نحط به ولم ندركه، وقد ذكر لنا سبحانه، كثيرا من أسمائه وصفاته لنتعبد بها فإنا نعتبر الغائب بالمشاهد وإن كنا نؤمن أن ما أخبرنا الله تعالي به عن نفسه سبحانه لم يدرك العباد مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه
(1)
.
ويتبين هذا بأن في معارفنا أموراً لم تخرج من أذهاننا، وإنما هي باقية فيها بالمعنى الكلي لها، وإذا خوطبنا بوصف ما غاب عنا لم نفهم ما قيل لنا إلا بمعرفة المشهود لنا، فلولا أننا رأينا الناس وأدركنا الأمور الحسية كالجوع والعطش لم نفهم ما يقال لنا في هذه الأمور، لولا أننا رأيناها وأدركناها ووقع لنا ما يشابهها، وكل خطاب يحمل معان لا يمكن فهمها إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينهما قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى وإلا فلا يحصل للخطاب مقصود البتة «لأن القصد بالإخبار والوصف تعريف المخاطبين، والمخاطبون لا يعرفون الخصوصيات التي هي خصوص ذات الله وصفاته، فلو أخبروا بذلك وحده مجرداً لم يعرفوا شيئا، بل ربما أنكروا ذلك، فإذا خوطبوا بالمعاني المشتركة وأزيل مفسدة الاشتراك بما يقطع التماثل بقي المخاطبون أحد رجلين
…
»
(2)
.
ومن هنا قرر شيخ الإسلام رحمه الله أنه لابد فيما شهدناه وما غاب عنا من قدر مشترك هو مسمى اللفظ المتواطئ، فبهذه الموافقة والمشاركة المشابهة والمواطأة نفهم الغائب ونثبته، وهذه خاصة العقل، ولولا ذلك لم نعلم ما نحسه ولم نعلم أمورا عامة ولا أمورا غائبة عن إحساسنا الباطن والظاهر، ولهذا من لم يحس الشيء ولا نظيره لم يعرف حقيقته.
(1)
انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية: 5/ 251 - 252.
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية: 2/ 68.
المسألة السابعة: التفاوت والتمايز أولى أن يكون بين صفات الخالق سبحانه وصفات خلقه.
وفي ذكر القدر المشترك بين صفات الله سبحانه وصفات خلقه إنما نذكرها من باب قياس الأولى
(1)
، حتى لا يكون هناك تشبيه له سبحانه بخلقه، ويمكن أن ينطبق هنا ما قرره الإمام أحمد رحمه الله عندما قال:«اعلم أن الشيئين إذا اجتمعا في اسم يجمعهما فكان أحدهما أعلى من الآخر، ثم جرى عليهما اسم مدح فكان أعلاهما أولى بالمدح، وأغلب عليه، وإن جرى عليه اسم ذم فأدناهما أولى به»
(2)
مع-بداهة العلم-أن الله تعالى وتقدس أن يجري عليه اسم ذم سبحانه، فكما مر معنا - التفاوت بين حقائق المسميات المشتركة بين خلقه مع وجود قدر مشترك علمنا منه تلك الأسماء ومعانيها.
- فإن التفاوت والتمايز أولى أن يكون بين صفات الخالق سبحانه وصفات خلقه، ذلك أن: «الله تعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله سبحانه لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل ولا في قياس شمول
(3)
تستوي أفراده، ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى وهو: أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزه عن مماثلة المخلوق مع المماثلة في الاسم، فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة
(1)
قياس الأولى: هو أن يكون الغائب أولى بالحكم من الشاهد. انظر: الدرء: 1/ 29، والمذكرة في أصول الفقه للشنقيطي: 339 - 342، طبعة المجمع.
(2)
الرد على الجهمية والزنادقة: ص: 122.
(3)
قياس الشمول هو: قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر وهو محل عناية المناطقة. انظر: معيار العلم: 98، التعريفات:181.
وأما قياس التمثيل فهو حمل فرع على أصل حكم بجامع بينهما وهو محل عناية الفقهاء. انظر: المذكرة للشنقيطي: 418.
المخلوق وإن حصلت موافقته في الاسم»
(1)
.
والله سبحانه أخبر أنه لا مثل له ولا كفؤ ولا نظير فإن «اسم الله (الصمد) يتضمن صفات الكمال، والاسم (الأحد) يتضمن نفي المثل
(2)
.
وقد علم أن أهل السنة والجماعة أثبتوا لله تعالى الصفات مع نفي مماثلتها الصفات خلقه، فهو سبحانه ذو الجلال وذو الكمال، المتصف بالكمال المطلق، المنزه عن النقص مطلقا.
قال أبو يوسف
(3)
(4)
المسألة الثامنة: القدر المشترك أو ما يسمى المعنى العام ليس من لوازمه ما ينفى عن الله، بل لوازمه كلها صفات كمال يوصف الله بها.
قال ابن تيمية: "أن يقال هب أنه حصل بين المسميين قدر مشترك هو ما اتفقا فيه، وهو المعنى العام الكلي، لكن هذا المعنى العام الكلي لا يكون كليا إلا في الذهن لا في الخارج، لكن ما كان لازما لهذا المعنى العام كان لازما للموصوف به، وهذا لا محذور فيه، بل هو حق، فإذا كان الخالق موجودا والمخلوق موجودا، أو
(1)
التدمرية: 50.
(2)
شرح حديث النزول: 78.
(3)
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي، إمام مجتهد من أخص أصحاب أبي حنيفة، وأحد تلاميذه البارزين، صحبة سبع عشرة سنة، كان الرشيد يبالغ في إجلاله، توفي عام 182 هـ. انظر: السير: 8/ 535، وفيات الأعيان: 6/ 378.
(4)
التوحيد لابن منده: 3/ 306.
هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه، أو قيل: هذا حي عليم رحيم، وقيل: هذا حي عليم رحيم، كان القدر العام الكلي المتفق هو مسمى الوجود والقيام بالنفس والحياة والعلم والرحمة أو مسمى أنه موجود قائم بنفسه حي عالم رحيم.
وهذا المعنى العام ليس من لوازمه ما ينفى عن الله، بل لوازمه كلها صفات كمال يوصف الله بها، وإنما يكون لوازمه صفة نقص إذا قيّد بالعبد فقيل: وجود العبد وعلم العبد ورحمة العبد، فالنقص يلزمه إذا كان مقيدا مختصا بالعبد، والله منزه عما يختص به العبد.
وأما إذا اتصف الرب به أو أُخذ مطلقا غير مختص بالعبد ففي هذين الحالين لا يلزمه شيء من النقائص أصلا، فتبين أن إثبات القدر العام المتفق عليه لا محذور فيه أصلا
(1)
".
المسألة التاسعة: الأسماء والصفات
تنقسم إلى قسمين:
قسم يختص به الله.
وقسم يوصف به الله ويوصف به العبد.
• وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن الأسماء والصفات نوعان:
• فنوع يختص بالله تعالى مثل الإله، ورب العالمين، ونحو ذلك، فهذا لا يثبت للعبد بحال.
• ونوع يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم، فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا.
ثم بين رحمه الله أن هذا النوع الثاني لا يلزم منه التماثل، وبين ذلك بأمور:
(1)
الصفدية (2/ 9).
1 -
أن ما يختص به الرب سبحانه، فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه، ليس للعبد فيه نصيب.
2 -
وما يختص بالعيد كعلمه وقدرته وحياته، فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته، وحياته، فإنه لا اشتراك فيه.
3 -
المطلق الكلي، وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة، فهذا المطلق ما كان واجباً له كان واجبا فيها، وما كان جائزاً عليه كان جائزاً عليها، وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما، فالواجب أن يقال: هذه صفة كمال حيث كانت، ويجوز أن تقارن هذه في كل محل، وأما الممتنع عليهما فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف قائم بنفسه، وهذا المطلق الكلي وهو الذي من خلاله نفهم ما خوطبنا به"
(1)
.
فعلم من هذا القدر المشترك أن وجوده الذهني على الإطلاق، وأما إذا خرج وأضيف فإنه يدخله الخصائص، فظاهر ما أضيف لله مختص به على ما يليق به سبحانه، وظاهر ما أضيف للمخلوق مختص به لائق به
(2)
.
• ومما يزيد الأمر وضوحا أن الحس والواقع يشهد بأن تماثل الأسماء لا يقتضي التشابه، والأمثلة كثيرة جدا، ومنها: للإنسان يد وللحيوان يد، فلا هذه تشبه هذه ولا تلك تشبه تلك، وإنما بينهما فارق ملموس، وهذا إنما علمناه بالمشاهدة، فإذا تصورنا هذا الفارق بين المخلوقات، فإن الفارق بين الخالق والمخلوق من باب أولى.
ومما يجدر التنبيه له أن إثبات الصفات الله تعالى لا تقتضي بالضرورة مشابهتها
(1)
انظر: مجموع الفتاوى: 2/ 62 - 63، منهاج السنة: 2/ 596 - 598، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة: 1082 - 1083، التدمرية: 39 - 40.
(2)
شرح الطحاوية: 61 - 63 بتصرف. وانظر: دعوة التوحيد للهراس 17 - 18.
للعبد، وهذا هو الذي جعل النافين للصفات يصلون لهذا، ذلك أنهم ظنوا أن ما وصف الله به نفسه من جنس ما توصف به أجسام العباد، فيرون ذلك مستلزما للجمع بين النقيضين، وذلك مثل إنكارهم لنزول الله تعالى؛ لأنهم رأوا فيه جمعا بين كونه فوق العرش ومع نزوله، وهذا ممتنع في مثل أجسامهم
(1)
.
المسألة العاشرة: أن بين المخلوقات قدراً مميزاً، فالخالق أولى بذلك.
إذا تأملنا في مخلوقات الله تعالى نجد أن هناك مخلوقات لم يستطع العباد أن يدركوا كنهها مع قربها منهم، ومن أوضح ما يدل على ذلك: الروح
(2)
، فإنها مخلوقة، ولم يدرك العبد كنهها، بل إنها تختلف عن البدن، مع أن كليهما ملاصق للإنسان، فالروح تتكلم وتسمع وتبصر وتنزل وتصعد؛ كما ثبت بالنصوص الصحيحة والمنقولات الصريحة، ومع ذلك فليست صفاتها وأفعالها كصفات البدن وأفعاله، فإذا لم يجز أن يقال: إن صفات الروح وأفعالها مثل صفات الجسم الذي هو الجسد وهي مقرونة به، وهما جميعا الإنسان، فإذا لم يكن روح الإنسان مماثلا للجسم الذي هو بدنه، فكيف يجوز أن يجعل الرب تبارك وتعالى وصفاته وأفعاله مثل الجسم وصفاته وأفعاله
(3)
، وأهل القول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه سبحانه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها
(4)
.
(1)
انظر: شرح حديث النزول 395 - 396.
(2)
ضرب شيخ الإسلام رحمه الله لتقرير هذه المسألة ثلاثة أمثال: مثالان ذكرهما في كتاب (التدمرية) وهما الروح والجنة، ومثال ثالث وهو الملائكة ذكره في مجموع الفتاوى: 5/ 211، والأمر منطبق على الغيبيات عموما، ويتضح منها -كالجن مثلا -لتقرير هذه المسألة.
(3)
انظر: شرح حديث النزول: 118 - 119، 396
(4)
انظر: التدمرية، 50 - 57.
مناظرة مع الأشعري
المتن
قال المصنف رحمه الله: "يتبين هذا بأصلين شريفين، ومثلين مضروبين- ولله المثل الأعلى- وبخاتمة جامعة.
فصل:
فأما الأصلان: فأحدهما- أن يقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض.
فإن كان المخاطب ممن يقرّ بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة. ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازا، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات.
قيل له: لا فرق بين ما نفيتَه وبين ما أثبتَّه، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل.
وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به. قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به.
وإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام.
قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة
المخلوق. قيل لك: وهذا غضب المخلوق.
وكذلك يُلْزَم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عن الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك ما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه. قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
فهذا المُفرِّق بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يُبَيِّنْ للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات. فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك.
فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك.
قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان:
أحدهما: أن يقال: عدم الدليل المعيَّن لا يستلزم عدم المدلول المعيَّن، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت. والسمع قد دل عليه، ولم يعارض، ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالمُ عن المعارِض المقاوم.
الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتَّ به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة،
وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته- وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة- تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأَوْلَى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة".
الشرح
لما ذكر المصنف جوانب التأصيل والتقرير لمسائل إثبات الصفات شرع هنا في بيان جوانب الردود على أهل التعطيل على اعتبار أن المعطلة هم درجات في تعطيلهم لأسماء الله وصفاته:
فمنهم من ينفي جميع أسماء الله وصفاته وهم الجهمية.
ومنهم من يثبت الأسماء وينفي جميع الصفات وهم المعتزلة ومن وافقهم.
ومنهم من يثبت بعض الصفات وينفي بعضها على تفاوت في مقدار ذلك وهم الكلابية والأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم.
وفي كلام المصنف هنا مسائل:
المسألة الأولى: موقف الصفاتية-وهم الكلابية والأشاعرة والماتريدية-من صفات الله.
فالمصنف بدأ بالرد على متأخري الأشاعرة وعلى الماتريدية، من خلال الأصل الأول الذي عقده لهذا الغرض وهو "القول في بعض الصفات كالقول في بعض".
فقول المصنف: "فإن كان المخاطب ممن يقرّ بأن الله حي بحياة، عليم بعلم،
قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة. ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازا، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات". يعني به تحديدًا قول الأشاعرة المتأخرين ومعهم الماتريدية، ولمعرفة موقف الأشاعرة والماتريدية من صفات الله يحسن إعطاء نبذة مختصرة عن عقيدتهم في صفات الله:
فالأشاعرة ينقسمون إلى متقدمين ومتأخرين
أما قدماء الأشاعرة ومعهم الكلابية ومن وافقهم فهؤلاء: يتلخص قولهم في النقاط الآتية:
أولاً: يثبتون الصفات التي يسمونها عقلية وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. واختلفوا في صفة البقاء.
ثانياً: ويثبتون في الجملة الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعين ولكن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية، على أن بعضهم إثباته لها من باب التفويض.
ثالثاً: أما الصفات الخبرية الواردة في السنة كاليمين، والقبضة، والقدم، والأصابع فأغلب هؤلاء يتأولها.
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه: كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله تعالى. وعماد المذهب
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 52، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 1034، 1036.
عندهم: إثبات كل صفة في القرآن.
وأما الصفات التي في الحديث فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها.
(1)
أما المتأخرين من الأشاعرة ومعهم الماتريدية:
فالمعروف عن متأخري الأشاعرة والماتريدية من أهل الكلام تقسيمهم الصفات إلى أربعة أقسام:
1 -
صفات المعاني. 2 - الصفات المعنوية
3 -
الصفات السلبية. 4 - الصفة النفسية
القسم الأول: صفات المعاني.
وضابطها في اصطلاحهم هي: ما دل على معنى وجودي قائم بالذات ولم يقر هؤلاء إلا بسبع منها هي، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. ونفوا ما عداها من صفات المعاني كالرأفة والرحمة والحلم
(2)
وهي القدر الذي عند هؤلاء من الإثبات، أما الأقسام الثلاثة الباقية ليس فيها إثبات على الحقيقة
القسم الثاني: الصفات المعنوية وضابطها:
هي الأحكام الثابتة للموصوف بها معللة بعلل قائمة بالموصوف وهي كونه (حياً، عليماً، قديراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً) وهذا العد لا وجه له لأنه في الحقيقة تكرار لصفات المعاني المتقدم ذكرها
ثم إن من عدها من هؤلاء عدوها بناءً على ما يسمونه الحالة المعنوية التي
(1)
-مجموع الفتاوى 4/ 147، 148.
(2)
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص 5)
يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة
(1)
والتحقيق أن هذا خرافة وخيال. وأن العقل الصحيح لا يجعل بين الشييء ونقيضه واسطة البتة فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعاً، وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعاً ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء
(2)
القسم الثالث: الصفات السلبية:
وضابطها عندهم: ما دل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من غير أن يدل على معنى وجودي قائم بالذات
والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمساً لا سادس لها
(3)
وهي عندهم: القِدَمُ، البقاء، والمخالفة للحوادث، والوحدانية، والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الاستغناء عن المخصص والمحل
(4)
وعلى ضابطهم الذي ذكروه فإن هذه الخمس لا تتضمن معنى وجودياً. وإنما تتضمن أمراً سلبياً فعلى سبيل المثال: القدم: المقصود بها نفي الحدوث
والبقاء: المقصود بها نفي الفناء
والوحدانية: المقصود بها نفي النظير المساوي له
والقيام بالنفس: عدم افتقاره للمحل وعدم افتقاره للمخصص: أي الموجد
القسم الرابع: الصفة النفسية وضابطها
هي: كل صفة إثبات لنفس لازمة ما
(1)
تحفة المريد (ص 77)
(2)
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص 10)
(3)
يرى بعضهم أنها ليست منحصرة في هذه الخمسة، إلا أن ما عداها راجع إليها ولو بالالتزام، أو أن هذه مهماتها. انظر تحفة المريد (ص 54).
(4)
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص 8).
بقيت النفس غير معللة بعلل قائمة بالموصوف
وهي عندهم صفة واحدة هي: الوجود. وهي عندهم لا تدل على شيء زائد على الذات
يقول شارح جوهرة التوحيد: "واعلم أن الوجود صفة نفسية وإنما نسبت للنفس أي الذات، لأنها لا تتعقل إلا بها فلا تتعقل نفس إلا بوجودها، والمراد بالصفة النفسية: صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها
فقولنا: "صفة" كالجنس
وقولنا: "ثبوتية" يخرج السلبية كالقدم والبقاء.
وقولنا: "يدل الوصف بها على نفس الذات" معناه أنها لا تدل على شييء زائد على الذات
وقولنا: "دون معنى زائد عليها" تفسير مراد لقولنا (على نفس الذات) ويخرج بذلك المعاني لأنها لا تدل على معنى زائد على الذات، وكذلك (المعنوية) فإنها تستلزم المعاني فهي تدل على معنى زائد على الذات لاستلزامها المعاني"
(1)
وبهذا يعلم أنه ليس عند هؤلاء من الإثبات إلا الصفات السبع التي يسمونها صفات المعاني وهي، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام وما عداها من الصفات الثبوتية لا يثبتونها ولهم في نصوصها أحد طريقين إما التأويل أو التفويض وفي هذا يقول قائلهم:
وكل نص أوهم التشبيها
…
أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورم تنزيها
(2)
فنصوص الصفات التي وردت في إثبات ما عدا الصفات السبع التي يثبتونها،
(1)
تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد (ص 54)
(2)
المصدر السابق (ص 91)
يسمونها نصوصاً موهمة للتشبيه، فهم يصرفونها عن ظاهرها، ولكنهم تارة يعينون المراد كقولهم استوى: استولى، واليد: بمعنى النعمة والقدرة؛ وتارة يفوضون فلا يحددون المعنى المراد ويكلون علم ذلك إلى الله عز وجل. ولكنهم يتفقون على نفي الصفة لأن ناظمهم يقول: "ورم تنزيهاً" وشارح الجوهرة يقول: "أو فوض" أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم إليه تعالى
(1)
.
فهم بذلك متفقون على نفي تلك الصفات، ويخيرون في تحديد المعنى المراد أو السكوت عن ذلك
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية- موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:
أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد
والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية" وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات. ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي"
(2)
وقال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان: "اعلم أن المتكلمين قسموا صفاته جلا وعلا إلى ستة أقسام:
(1)
تحفة المريد (ص 91).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 249).
1 ـ صفة نفسية
2 ـ صفة سلبية
3 ـ صفة معنى
4 ـ صفة معنوية
5 ـ صفة فعلية
6 ـ صفة جامعة مثل العلو والعظمة مثلاً.
والصفة الإضافية هي تتداخل مع الفعلية
لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية، فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة
وتتفرد الفعلية في نحو الإستواء وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى موجود قبل كل شييء، وأنه فوق كل شييء، لأن القَبْلِيَّةَ والفوقيَّةَ من الصفات الإضافية وليستا من صفات الأفعال"
(1)
.
احتج الأشاعرة في إثباتهم للصفات السبع بأن العقل قد أثبت هذه الصفات ودل عليها كما يلي:
القدرة: دل عليها الفعل الحادث: والفعل هنا مصدر بمعنى المفعول، والمقصود وجود المخلوقات.
والإرادة: دل عليها التخصص: أي تميز كل شيء بميزة تخصه من صفة أو وقت أو مكان دليل على إرادة الله لذلك.
العلم: دل عليه الإحكام والإتقان في المخلوقات، فهذا لا يكون إلا بكمال
(1)
أضواء البيان 2/ 306.
العلم.
الحياة: لأن القدرة والإرادة والعلم لا تقوم إلا بالحي فهي مستلزمة للحياة.
السمع والبصر والكلام: لأن الحي لا يخلو من السمع والبصر.
والكلام أو ضدها من الصمم والعمى والخرص، وهذه الأضداد نقائص يتنزه الله عنها فوجب إثبات الكمال له.
وبهذه الدلالات العقلية أثبت الأشاعرة تلك الصفات"
(1)
.
المسألة الثانية: استعمال هذا الرد على جميع نفاة الصفات.
والرد عليهم من وجوه:
الوجه الأول: قول المصنف: "قيل له: لا فرق بين ما نفيتَه وبين ما أثبتَّه، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر".
هذا الرد استعمله علماء أهل السنة باعتباره أحد الأدلة في الرد على من أنكر إثبات الصفات، فهو من أقوى ما يرد به على نفاة الصفات جميعها: كالمعتزلة والجهمية، ومن أحكم ما يرد به على نفاة بعض الصفات: كالأشاعرة والماتريدية، من أجل ذلك جعلها شيخ الإسلام ابن تيمية الأصل الأول الذي بنى عليه جوابه لمن سأله أن يجمع له مضمون القول في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر؛ فيقول رحمه الله: "ويتبين هذا بأصلين شريفين، ومثلين مضروبين - ولله المثل الأعلى-، وبخاتمة جامعة؛ فأما الأصلان:
فأحدهما أن يقال: "القول في بعض الصفات كالقول في بعض"
(2)
.
فصفات الله تعالى: هي نعوت الكمال القائمة بالذات: كالعلم والحكمة والسمع
(1)
أصول الدين للبغدادي 105، شرح الجوهرة 1/ 359.
(2)
التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 31).
والبصر
(1)
.
وأسماء الله تعالى تتضمن صفات له سبحانه: فأسماء الله تعالى هي كل ما دلَّ على ذات الله مع صفات الكمال القائمة به: مثل القادر، العليم، الحكيم، السميع، البصير، فإن هذه الأسماء دلت على ذات الله، وعلى ما قام بها من العلم والحكمة والسمع والبصر
(2)
.
فلا فرق في إثبات صفات الله تعالى؛ إذ الأصل في إثباتها هو الكتاب والسنة، فما أثبته الله تعالى في كتابه وصفًا له سبحانه أثبتناه، وكذا ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعليه فإن أهل السنة والجماعة يسوقون الكلام في صفات الله تعالى سوقًا واحدًا، فلا يفرقون بين إثبات صفة السمع والبصر لله تعالى وسائر الصفات الأخرى؛ لأنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون للهما أثبته لنفسه مما ورد في الكتاب السنة الصحيحة من الأسماء والصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل.
فهذا الرد لا يقتصر فيه على متأخري الأشاعرة، فهو يستدل به في الرد على المخالفين من نفاة صفات الله تعالى جميعًا، أو نفاة بعضها.
ولهذا قال المصنف: "فهذا المُفرِّق بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته.
فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يُبَيِّنْ للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 116 - فتوى رقم 8942).
(2)
المرجع السابق.
كصفات المحدثات. فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك".
فبهذا نرد على عدة طوائف:
أ-فالذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها، كالذين يثبتون لله الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، ويجعلونها صفات حقيقية، ثم ينازعون في محبة الله ورضاه، وغضبه وكراهيته، ويجعلون ذلك مجازاً، أو يفسرونه بالإرادة، أو يفسرونه بالنعم والعقوبات.
فيقال لهؤلاء: لا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن كنتم تقولون: حياته وعلمه كحياة المخلوقين وعلمهم، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته كذلك. وإن قلتم له حياة وعلم وإرادة تليق به ولا تشبه حياة المخلوقين وعلمهم وإرادتهم، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته وغضبه كذلك.
وإن قلتم: إن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فكذلك يقال: الإرادة ميل النفس إلى جلب مصلحة أو دفع مضرة، فإن قلتم: هذه إرادة مخلوق، قلنا: هذا غضب مخلوق.
ب-الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، فيقولون حي بلا حياة، عليم بلا علم
…
الخ.
فهؤلاء يقال لهم: لا فرق بين إثبات الأسماء، وإثبات الصفات، فإنك إن قلت إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي التشبيه أو التجسيم لأنا لا نجد متصفاً بالصفات إلا وهو جسم، قلنا: وكذلك في الأسماء، إذ لا نجد ما هو مسمى بحي وعليم وقدير إلا ما هو جسم، فانف أسماء الله، فإن قالوا: هذه الأسماء تليق بكماله وجلاله، قلنا: وكذلك صفاته.
ج-الذين ينفون الأسماء والصفات، فإنهم بزعمهم ينفون ذلك حتى لا يشبهوا الله بالموجودات.
فيقال لهم: نفيتم علمه وحياته كما نفيتم أنه عليم حي خشية أن تشبهوه بالموجودات، ولكن يلزم قولكم هذا تشبيه الله بالمعدومات.
وهذا الرد قد استعمله أئمة قبل شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده.
فمن المتقدمين:
قال الإمام يحيى ابن أبي الخير العِمراني شيخ الشافعيين باليمن المتوفى عام: (558 هـ):
"ويقال للأشعري: قد أقررتَ بأن لله سمعًا وبصرًا وعلمًا وقدرة وحياة وكلامًا، لتنفي عنه ضد هذه الصفات.
فلما كان السمع الذي أثبتّه لله هو السمع المعهود في لغة العرب، وهو إدراك المسموعات، وكذلك ضده المنفي عنه هو المعهود في كلام العرب وهو الصمم، وكذلك البصر الذي أثبتَّه لله هو المعهود في كلام العرب وهو إدراك المبصرات، والعلم هو إدراك المعلومات.
وجب أن يكون الكلام لله هو الكلام المعهود في كلام العرب، وهو ما كان بحرف وصوت، كما أن ضده المنفي عنه وهو الخرس المعهود عندهم.
فأما إثبات كلام لا يفهم ولا يعلم فمحال، ولا يلزم على ما قلنا إذا أثبتنا لله كلامًا بحرف وصوت أن يثبت له آلة الكلام؛ لأنه لا يتأتى الكلام بذلك إلا من له آلة الكلام؛ لأنا قد أثبتنا نحن والأشعري لله السمع والبصر والقدرة، وإن لم نصفه بأن له آلة ذلك، وعلى أن الله سبحانه قد أخبر أن السموات والأرض {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وأخبر أن جهنم تقول:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، وأخبر أن الجوارح تنطق يوم القيامة بالشهادة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذراع المشوية أخبرته أنها مسمومة، وشيء
من هذا كله لا يوصف بأن له آلة الكلام، فبطل قوله بذلك"
(1)
.
ومن التأخرين:
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في معرض رده على المتأخرين من الأشاعرة:
"وسنبين لك أن جميع الصفات على تقسيمهم لها جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وهم في بعض ذلك يقرون بأن الخالق موصوف بها، وأنها جاء في القرآن أيضا وصف المخلوق بها، ولكن وصف الخالق مناف لوصف المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق، ويلزمهم ضرورة فيما أنكروا مثل ما أقروا به؛ لأن الكل من باب واحد، لأن جميع صفات الله جل وعلا من باب واحد؛ لأن المتصف بها لا يشبهه شيء من الحوادث.
فمن ذلك: الصفات السبع، المعروفة عندهم بصفات المعاني وهي: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.
فقد قال تعالى في وصف نفسه بالقدرة: (الله على كل شيء قدير)
وقال في وصف الحادث بها: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) فأثبت لنفسه قدرة حقيقية لائقة بجلاله وكماله، وأثبت لبعض الحوادث قدرة مناسبة لحالهم من الضعف والافتقار والحدوث الفناء، وبين قدرته، وقدرة مخلوقه من المنافاة ما بين ذاته وذات مخلوقه.
وقال في وصف نفسه بالإرادة:) فعال لما يريد)، (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)، (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها: (تريدون عرض الدنيا) الآية، (إن يريدون إلا فرارا)، (يريدون ليطفئوا نور الله (، ونحو ذلك من الآيات.
(1)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 568 - 569).
فله جل وعلا إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق إرادة أيضا مناسبة لحاله، وبين إرادة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالعلم: (والله بكل شيء عليم)، (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه) الآية (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين).
وقال في وصف الحادث به: (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم)، وقال:(وإنه لذو علم لما علمناه)، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا علم حقيقي لائق بكماله وجلاله، وللمخلوق علم مناسب لحاله، وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالحياة: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، (هو الحي لا إله إلا هو) الآية، (وتوكل على الحي الذي لا يموت) الآية، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا)، (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت).
فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله، وللمخلوق أيضا حياة مناسبة لحاله؛ وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالسمع والبصر: (ليس كمثله شيء وهو السميع
البصير)، (إن الله سميع بصير)، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بهما:) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا)، (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) الآية، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان يليقان بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر مناسبان لحاله، وبين سمع الخالق وبصره، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالكلام (وكلم الله موسى تكليما)، (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)، (فأجره حتى يسمع كلام الله)، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق به: (فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين)، (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم) الآية، (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا)، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا كلام حقيقي يليق بكماله وجلاله؛ وللمخلوق كلام أيضا مناسب لحاله، وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وهذه الصفات السبع المذكورة يثبتها كثير ممن يقول بنفي غيرها من صفات المعاني.
والمعتزلة ينفونها ويثبتون أحكامها فيقولون: هو تعالى حي قادر، مريد عليم، سميع بصير، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته، ولا إرادة قائمة بذاته، هكذا فرارا منهم من تعدد القديم!!
ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل؛ لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل فإذا عدم السواد عن جرم مثلا استحال أن تقول هو أسود، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات، استحال أن تقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك، ولم يقم بها علم ولا قدرة، قال في " مراقي السعود ":
وعند فقد الوصف لا يشتق
…
وأعوز المعتزلي الحق
وأما الصفات المعنوية عندهم: فهي الأوصاف المشتقة من صفات المعاني السبع المذكورة، وهي كونه تعالى: قادرا، مريدا، عالما حيا، سميعا بصيرا، متكلما.
والتحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بالمعاني، وعد المتكلمين لها صفات زائدة على صفات المعاني مبني على ما يسمونه الحال المعنوية، زاعمين أنها أمر ثبوتي ليس بموجود، ولا معدوم؛ والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الذي يسمونه الحال المعنوية لا أصل له، وإنما هو مطلق تخييلات يتخيلونها؛ لأن العقل الصحيح حاكم حكما لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين البتة، فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان، ولا واسطة بينهما البتة، فكل ما هو غير موجود، فإنه معدوم قطعا، وكل ما هو غير معدوم، فإنه موجود قطعا، وهذا مما لا شك فيه كما ترى.
وقد بينا في اتصاف الخالق والمخلوق بالمعاني المذكورة منافاة صفة الخالق للمخلوق، وبه تعلم مثله في الاتصاف بالمعنوية المذكورة لو فرضنا أنها صفات زائدة على صفات المعاني، مع أن التحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بها.
وأما الصفات السلبية عندهم: فهي خمس، وهي عندهم: القدم، والبقاء،
والوحدانية، والمخالفة للخلق، والغنى المطلق، المعروف عندهم بالقيام بالنفس.
وضابط الصفة السلبية عندهم: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلا، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله.
أما الصفة التي تدل على معنى وجودي: فهي المعروفة عندهم بصفة المعنى، فالقدم مثلا عندهم لا معنى له بالمطابقة، إلا سلب العدم السابق، فإن قيل: القدرة مثلا تدل على سلب العجز، والعلم يدل على سلب الجهل، والحياة تدل على سلب الموت، فلم لا يسمون هذه المعاني سلبية أيضا؟
فالجواب: أن القدرة مثلا تدل بالمطابقة على معنى وجودي قائم بالذات، وهو الصفة التي يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة، وإنما سلبت العجز بواسطة مقدمة عقلية، وهي أن العقل يحكم بأن قيام المعنى الوجودي بالذات يلزمه نفي ضده عنها لاستحالة اجتماع الضدين عقلا، وهكذا في باقي المعاني.
أما القدم عندهم مثلا: فإنه لا يدل على شيء زائد على ما دل عليه الوجود، إلا سلب العدم السابق، وهكذا في باقي السلبيات، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن القدم، والبقاء اللذين يصف المتكلمون بهما الله تعالى زاعمين، أنه وصف بهما نفسه في قوله تعالى:(هو الأول والآخر) الآية.
جاء في القرآن الكريم وصف الحادث بهما أيضا،
قال في وصف الحادث بالقدم: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)، وقال:(قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم)، وقال:) أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون)، وقال في وصف الحادث بالبقاء:) وجعلنا ذريته هم الباقين)، وقال:(ما عندكم ينفد وما عند الله باق)، وكذلك وصف الحادث بالأولية والآخرية
المذكورتين في الآية، قال:(ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين).
ووصف نفسه بأنه واحد، قال:) وإلهكم إله واحد).
وقال في وصف الحادث بذلك:) يسقى بماء واحد).
وقال في وصف نفسه بالغنى:) والله هو الغني الحميد)، (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد).
وقال في وصف الحادث بالغنى: (ومن كان غنيا فليستعفف)، (إن يكونوا فقراء يغنهم الله) الآية.
فهو جل وعلا موصوف بتلك الصفات حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، والحادث موصوف بها أيضا على الوجه المناسب لحدوثه وفنائه، وعجزه وافتقاره، وبين صفات الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين الخالق والمخلوق، كما بيناه في صفات المعاني.
وأما الصفة النفسية عندهم، فهي واحدة، وهي: الوجود، وقد علمت ما في إطلاقها على الله، ومنهم من جعل الوجود عين الذات فلم يعده صفة، كأبي الحسن الأشعري، وعلى كل حال، فلا يخفى أن الخالق موجود، والمخلوق موجود، ووجود الخالق ينافي وجود المخلوق، كما بينا.
ومنهم من زعم أن القدم والبقاء صفتان نفسيتان، زاعما أنهما طرفا الوجود الذي هو صفة نفسية في زعمهم.
وأما الصفات الفعلية، فإن وصف الخالق والمخلوق بها كثير في القرآن، ومعلوم أن فعل الخالق مناف لفعل المخلوق كمنافاة ذاته لذاته، فمن ذلك:
وصفه جل وعلا نفسه بأنه يرزق خلقه، قال:) إن الله هو الرزاق)
الآية، (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين)، وقال:) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) الآية.
وقال في وصف الحادث بذلك: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منها) الآية، وقال:) وعلى المولود له رزقهن) الآية.
ووصف نفسه بالعمل، فقال:) أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما) الآية.
وقال في وصف الحادث به:) إنما تجزون ما كنتم تعملون).
ووصف نفسه بتعليم خلقه فقال:) الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان).
وقال في وصف الحادث به: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الآية.
وجمع المثالين في قوله تعالى: (تعلمونهن مما علمكم الله).
ووصف نفسه بأنه ينبئ.
ووصف المخلوق بذلك، وجمع المثالين في قوله تعالى:(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير).
ووصف نفسه بالإيتاء، فقال:(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك)، وقال:) يؤتي الحكمة من يشاء)، وقال:) ويؤت كل ذي فضل فضله)، وقال:(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وقال في وصف الحادث بذلك:) وآتيتم إحداهن قنطارا)، (وآتوا اليتامى أموالهم)، (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة)، وأمثال هذا كثيرة جدا في القرآن العظيم.
ومعلوم أن ما وصف به الله من هذه الأفعال فهو ثابت له حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله؛ وما وصف به المخلوق منها فهو ثابت له أيضا، على الوجه المناسب لحاله، وبين وصف الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وأما الصفات الجامعة، كالعظم والكبر والعلو، والملك والتكبر والجبروت، ونحو ذلك. فإنها أيضا يكثر جداً وصف الخالق والمخلوق بها في القرآن الكريم.
ومعلوم أن ما وصف به الخالق منها مناف لما وصف به المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق.
قال في وصف نفسه جل وعلا بالعلو والعظم والكبر: (ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم)، (إن الله كان عليا كبيرا)، (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال).
وقال في وصف الحادث بالعظم: (فكان كل فرق كالطود العظيم)، (إنكم لتقولون قولا عظيما)، (ولها عرش عظيم)، (عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بالكبر:) لهم مغفرة وأجر كبير)، وقال:) إن قتلهم كان خطئا كبيرا)، وقال: (إلا تفعلوه تكن فتنة في
الأرض وفساد كبير)، وقال:(وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)، وقال:(وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين).
وقال في وصف الحادث بالعلو:) ورفعناه مكانا عليا)، (وجعلنا لهم لسان صدق عليا)، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالملك: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس)، (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس)، وقال:(في مقعد صدق عند مليك مقتدر).
وقال في وصف الحادث به: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان)، (وقال الملك ائتوني به)، (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا)، (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه)، (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء)، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالعزة:) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم)، (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم)، (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب).
وقال في وصف الحادث بالعزة:) قالت امرأة العزيز)، (فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب).
وقال في وصف نفسه جل وعلا بأنه جبار متكبر: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر).
وقال في وصف الحادث بهما:) كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار)،
(أليس في جهنم مثوى للمتكبرين)، (وإذا بطشتم بطشتم جبارين)، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالقوة:) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)، (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
وقال في وصف الحادث بها: (وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة)، (ويزدكم قوة إلى قوتكم)، (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة) الآية إلى غير ذلك من الآيات.
وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثيرة في القرآن، ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله، وجلاله. وإن ما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث، ولا إشكال في شيء من ذلك، وكذلك الصفات التي اختلف فيها المتكلمون؛ هل هي من صفات المعاني أو من صفات الأفعال، وإن كان الحق الذي لا يخفى على من أنار الله بصيرته أنها صفات معان أثبتها الله-جل وعلا-لنفسه، كالرأفة والرحمة.
قال في وصفه -جل وعلا-بهما:) فإن ربكم لرءوف رحيم)،
وقال في وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بهما:) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)،
وقال في وصف نفسه بالحلم: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم).
وقال في وصف الحادث به:) فبشرناه بغلام حليم)، (إن إبراهيم لأواه حليم).
وقال في وصف نفسه بالمغفرة:) إن الله غفور رحيم)،) لهم مغفرة وأجر عظيم)، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بها: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)، (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) الآية، (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)، ونحو ذلك من الآيات.
ووصف نفسه جل وعلا بالرضى ووصف الحادث به أيضا فقال: (رضي الله عنهم ورضوا عنه).
ووصف نفسه جل وعلا بالمحبة، ووصف الحادث بها، فقال:) فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)، (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).
ووصف نفسه بأنه يغضب إن انتهكت حرماته فقال: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه) الآية، (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه) الآية.
وقال في وصف الحادث بالغضب (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا)؛ وأمثال هذا كثير جدا.
والمقصود عندنا ذكر أمثلة كثيرة من ذلك، مع إيضاح أن كل ما اتصف به جل وعلا من تلك الصفات بالغ من غايات الكمال والعلو والشرف ما يقطع علائق جميع
أوهام المشابهة بين صفاته جل وعلا، وبين صفات خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا"
(1)
.
المسألة الثالثة: الرد على شبهة من زعم أن إثبات ما أثبته من الصفات هو أن العقل دل عليه.
وقد بين المصنف هذه الشبهة ورد عليها
أولًا: عرض الشبهة.
فقال المصنف: "فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك".
وفي هذا النص مسائل:
المسألة الأولى: أقسام الصفات باعتبار أدلتها.
تنقسم الصفات من حيث أدلة ثبوتها إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الشرعية العقلية وضابطها: هي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي والدليل العقلي، والفطرة السليمة.
وهي أكثر صفات الرب تعالى، بل أغلب الصفات الثبوتية يشترك فيها الدليلان السمعي والعقلي
(2)
وإن كان الأصل في ثبوتها الدليل الشرعي.
ومنها: العلم، السمع، البصر، العلو، القدرة، الإرادة، الخلق، الحياة.
وسميت "شرعية عقلية" شرعية: لأن الشرع دل عليها أو أرشد إليها.
(1)
أضواء البيان: 2/ 20 ـ 22.
(2)
الصفات الإلهية في الكتاب والسنة في ضوء الإثبات والتنزيه ص 207
وعقلية: لأنها تعلم صحتها بالعقل ولا يقال إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر
فإذا أخبر الله بالشييء، ودل عليه بالدلالات العقلية صار مدلولا عليه بخبره، ومدلولا عليه بدليل العقل الذي يعلم به، فيصير ثابتاً بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى الدلالة الشرعية
(1)
القسم الثاني: الصفات الخبرية وتسمى النقلية والسمعية وضابطها: هي التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السمع والخبر عن الله أو عن رسوله الأمين عليه الصلاة والتسليم
(2)
.
ومنها: الوجه - اليد - العين - الرضا - الفرح - الغضب - القَدَم - الاستواء - النزول - المجيء - الضحك
وهي تنقسم إلى قسمين:
1 -
صفات ذاتية مثل: الوجه - اليد - العين - القَدَم
2 -
صفات فعلية مثل: النزول - الاستواء - الغضب - الفرح - الضحك
المسألة الثانية: شبهة المعطلة.
فهذه الشبهة هي عند جميع المعطلة الذين اعتمدوا على عقولهم فقط فيما يثبتون وفيما ينفون، فأهل التعطيل جعلوا أقوال البشر أو ما يسمونه "العقل" وحده هو أصل علمهم، فالشبه العقلية هي الأصول الكلية الأولية عندهم، وهي التي تثبت وتنفي، ثم يعرضون الكتاب والسنة على تلك الشبه العقلية، فإن وافقتها قبلت اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن عارضتها ردت تلك النصوص الشرعية وطرحت، وفي هذا يقول قائلهم: (كل ما ورد السمع به ينظر فإن كان العقل مجوزا له وجب التصديق به،
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 71، 72
(2)
الصفات الإلهية ص 207.
وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول. وظواهر أحاديث التشبيه -يعني بها أحاديث الصفات-أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل)
(1)
.
وقال: "كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال، إذ الأدلة العقلية يستعجل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل، فإما أن لا يكون متواترًا فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواترًا فيكون مؤولاً ولا يكون متعارضًا"
(2)
فهذا النقل يبين لك مدى تقديم هؤلاء لشبههم العقلية وتعصبهم لها، وكيف أنهم يجعلونها هي الأصول والسمع معروض عليها، فما أجازته عقولهم قبلوه، وما لم تجزه عقولهم شككوا فيه وانتقصوه، ومن ثم سعوا في تأويله وتحريفه، ومن يلقي نظرةً على كتب الأشاعرة مثلاً يجد أن القوم يقسمون أبواب العقيدة إلى إلهيات- ونبوَّات- وسمعيات، وهم في باب الإلهيات والنبوات لا يقبلون نصوص الكتاب والسنة، ولذلك لن تجد في هذين البابين إلا الشبه العقلية المركبة وفق القواعد المنطقية، ويا عجبا أنأخذ ديننا من كلام الله ورسوله، أم من ملاحدة اليونان وتلاميذهم!
وأما باب السمعيات-أي البعث والحشر والجنة والنار والوعد والوعيد-فهم يقبلون فيه النصوص الشرعية، وبالتالي سموا هذا الباب بالسمعيات. في مقابل باب الإلهيات والنبوات، إذ إنهم يعتمدون فيهما على العقليات، وهؤلاء شابهوا حال من
(1)
الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي ص 132 - 133.
(2)
المستصفى 2/ 137 - 138
المسألة الثالثة: الرد على شبهة الاعتماد على العقل وحده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفًا على أن يقوم عليه دليل عقلي على تلك الصفة بعينها فإنه مما يعلم بالضطرار من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم (وقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته) ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنا بالرسول ولا متلقيًا عنه الأخبار بشأن الربوبية ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به فإن ما أخبر به لا يقتدي به بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به وإلا فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره وبين عدم الرسول وعدم إخباره وكان ما يذكره من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده"
(1)
وشبهة الاعتماد على العقل في أثبات الصفات هي شبهة مردودة يردها النص الشرعي قولًا ومعنى
فمن حيث النص: فلو كان الحق فيما يزعم هؤلاء فالنصوص تقول شيئاً، وهم يقولون شيئاً آخر، فالحق واحد لا يتعدد، فإما أن يكون الحق في صف هذه النصوص، وإما أن يكون الحق في صف هؤلاء، فأنت اجمع واعقد مقارنة، اجمع
(1)
شرح الأصفهانية ص 12.
النصوص واقرأها، ثم انظر في قول هؤلاء، هل تجد في قول هؤلاء ما يدل عليه النصُّ ويؤكده؟ أم أن قولهم على خلاف ما يقول النصُّ؟
فإذًا بعد ذلك، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فإما أن يكون الكتاب والسُنَّة وسلف الأمة على الخطأ وحاشا أن يكون الأمر كذلك، وإما أن يكون هؤلاء على الخطأ، وهذا الأمر من أوضح وأبين ما يكون، فإنهم على الخطأ البيِّن، إذا كان الأمر في مثل هذه المقارنة.
فإذًا كيف يُعقل أن الحق يكون على خلاف ما جاء في النصوص، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، هل نقول بعد ذلك إن للشريعة ظاهراً وباطناً؟، ونزعم كما زعم الباطنية من الرافضة والصوفية، أو أن للنصوص شريعة وحقيقة.
ويرد بعض الناس النصوص لأن عقله لم يستطع أن يستوعب ذلك النص، ومعلوم أنا مأمورون بأن نسلم ونصدق، فأحياناً قد لا يصل الإنسان إلى فهم النص، أو معرفة معنى النص، أو أن هناك في النص أمراً متعلقاً بالكيفية، وهذا لا تبلغه عقول البشر.
فالواجب على الإنسان أن يُسلم ويصدق بهذا الجانب، فالنصوص لم تأتي بما ترده العقول، ولم تأتي بما يصادم العقل، لكن أحياناً لا تبلغ العقول مبلغ فهم هذا النص، فهذا يأتي من حالين:
إما حال المعنى أو حال الكيف،
فحال المعنى فقد يكون بسبب ما يسمى الاشتباه النسبي، بمعنى: أن النص قد يتضح لك ويخفى علي أو العكس، يتضح لي ويخفى عليك، فالمعنى قد لا يبلغه عقلك أو فهمك، وهذا وقع حتى لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فالصحابة رضوان الله عليهم لما سمعوا قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، جاءوا يبكون ويقولون للنبي:"وأينا لم يظلم نفسه" ففهموا من الظلم ظلم النفس، فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى الحق، وقال:«ألم تسمعوا لقول العبد الصالح يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم»
(1)
، فأفهمهم بأن المراد من الظلم هنا هو الشرك؛ لأن الظلم على ثلاثة أنواع:
ظلم النفس، وظلم الغير، والظلم بمعنى الشرك.
وهذا عدي بن حاتم عربي قُح، عندما سمع قول الله عز وجل:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، جاء بحبلين بعقالين أحدهما أسود والثاني أبيض ووضعهما تحت وسادته وأخذ ينظر إليهما، يريد أن يتبين إليه الأبيض من الأسود، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن قفاك لعريض ألم يقل من الفجر))
(2)
، فبين له أن المعنى هنا بياض النهار وسواد الليل.
فيقع التباس وعدم قدرة على الفهم من جهة المعنى.
أو أن الأمر متعلق بالكيفية كقوله: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» فنحن لا نعلم كيف نزوله، ولا كيف استوائه فلا نعلم هذه الكيفيات فبعض الأمورٌ أحياناً لا تبلغها عقولنا، فما جاء النص بما يصادم العقل، لكن قد يأتي النص بما لم
(1)
انظر صحيح البخاري كِتَابُ الإِيمَانِ، بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ برقم (15)، ومسلم كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَإِخْلَاصِهِ (124)، والترمذي (3067)، والإمام أحمد في المسند مسند المكثرين من الصحابة (3589).
(2)
انظر صحيح البخاري كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، برقم (1916)، ومسلم كِتَاب الصِّيَامِ، بَابُ بَيَانِ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الصَّوْمِ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ
…
برقم (1090)، والترمذي (2970)، والنسائي (2169)، والإمام أحمد في المسند أَوَّلُ مُسْنَدِ الْكُوفِيِّينَ (19375).
يبلغه العقل، وما لم يصل إليه عقل الإنسان، إما معنىً من جهة قصور فهمنا أو حقيقة من جهة أن هذا الأمر غيبٌ من الغيوب.
فهذه النصوص نقابلها بالتسليم والتصديق، وإذا كان الأمر متعلقاً بالمعنى سألنا من كان فيها أفقه وأعلم وأعرف، فبالتالي سيبين لك ما هو المعنى المراد من هذا النص، وإن كان أمراً متعلقاً بالكيفية فليس لك إلا القبول والتسليم، فهذه النصوص التي ذكرها من نزول الله عز وجل وكذلك من قوله ((من آتاني يمشي أتيته هرولة)) ونحو ذلك فهذه النصوص بعضها متعلق بالكيف وبعضها متعلق بالمعنى.
فما كان متعلقاً بالكيف فليس لك إليه سبيل؛ لأنه محجوبٌ عنا، والله تعالى قد قال:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فليس لك أن تتخوض أو تخوض في شأن الكيف ولا سبيل لك إليها.
فلا سبيل لك إلى هذه الكيفيات، فمثلاً الروح بين جنبيك وأقرب شيء إليك ومع ذلك لا سبيل إلى معرفة كنهها وكيفيتها مع أنها مخلوقة وبين جنبي الإنسان، فإذاً علينا التسليم والتصديق والتفويض، فالتفويض هنا متعلقٌ بالكيف.
قال العلامة ابن خلدون: «واتبعْ ما أمرك الشارع به في اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك، لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك، وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، وأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد، والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك رجلٌ رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن للعقل حد يقف عنده
ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته، فإنه ذرة من ذرات الوجود»
(1)
.
فمنهج طوائف المعطلة يقوم على أن ما أجازته عقولهم قالوا به، فالعقول أجازت سبع صفات إذاً سبع صفات، ما عداها بين خيارين:
إما التحريف الذي يسمونه التأويل.
أو التجهيل الذي يسمونه التفويض، ومضمونه أن كتاب الله تعالى لا يبتدأ به في معرفة الله، فمضمون كلامهم نبذ الكتاب والسنة.
ثانيًا: الرد على شبهتهم.
رد المصنف على شبهة الأشاعرة من وجهين
أما الوجه الأول: فقال المصنف: "قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان:
أحدهما: أن يقال: عدم الدليل المعيَّن لا يستلزم عدم المدلول المعيَّن، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت. والسمع قد دل عليه، ولم يعارض، ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالمُ عن المعارِض المقاوم.
ويمكن شرح هذا النص من خلال الأمور الآتية:
أولًا: توضيح المسألة.
استدل المصنف بقاعدة [انتفاء الدليل المعيَّن لا يستلزم انتفاء المدلول]
(2)
،
(1)
مقدمة ابن خلدون: ص 688، وانظر «الصواعق» 459.
(2)
انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين 2/ 425.
فإنَّ عدم السَبَبِ المعينِ لا يقتضي انتفاء المُسَبِّبِ المعين، لأن المؤثر قد يكون شيئا آخر (الشرح الممتع (1/ 276))
وتُبيِّن القاعدة أنَّ عدم تأثير سببٍ معيَّنٍ لا يمنع من تأثيرِ آخر؛ لأنَّه قد يكون هناك مسبباً غيره، أو نقول: قد يكون المؤثر شيئاً آخر. والقاعدة هنا استخدمت لفظ السبب بمقابلة لفظ المُسبب؛ وقد علل هذا الاستخدام السبكيُّ بقوله: "التجوز بلفظ السبب عن المسبب أولى من العكس؛ لأنَّ السبب المعين يستدعي مسبباً معيناً والمسبب المعين لا يستدعي سبباً معيناً، بل سبباً ما (أي: قد تكون أسباباً عامة متنوعة) ألا ترى أن اللمس يدل على انتقاض الوضوء وانتقاض الوضوء لا يدل على اللمس؟ لجواز أن يكون بمس أو بول أو غيرهما، فلما كان فهم المسبب من السبب أسرع، كان التجوز به في حالة الإطلاق أولى"(الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي (1/ 301).) ". ـ
تطبيقات فقهية على القاعدة:
المثال الأول: إذا زالت النجاسة بأي مزيل كان، صح ذلك، ولا يلزم لإزالة النجاسة الماء، وقد علل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بقوله (الشرح الممتع (1/ 276).):
1 -
أن النجاسة عين خبيثة نجاستها بذاتها، فإذا زالت عاد الشيء إلى طهارته.
2 -
أن إزالة النجاسة ليست من باب المأمور، بل من باب اجتناب المحظور، فإذا حصل بأي سبب كان ثبت الحكم، ولهذا لا يشترط لإزالة النجاسة نية، فلو نزل المطر على الأرض المتنجسة وزالت النجاسة طهرت، ولو توضأ إنسان وقد أصابت ذراعه نجاسة ثم بعد أن فرغ من الوضوء ذكرها فوجدها قد زالت بماء الوضوء فإن يده تطهر.
وقال: لا يُنكر أن الماء مطهر، وأنه أيسر شيء تطهر به الأشياء، لكن إثبات كونه مطهراً، لا يمنع أن يكون غيره مطهراً، لأن لدينا قاعدة وهي: أن عدم السبب المعين لا يقتضي انتفاء المسبب المعين، لأن المؤثر قد يكون شيئاٍ آخر. وهذا الواقع بالنسبة للنجاسة.
المثال الثاني: لو قُتِلَ شخصٌ ما وتبيَّن أنَّه لم يُقتلْ بسكين، فهذا النفي لا يمنع من أن يكون قُتِلَ بأداة أُخرى. وقسْ على هذا.
ولتوضيح هذه القاعدة على وجه العموم: يمكن إجمال ذلك في النقاط الآتية
مسمياتها
تسمى: قاعدة انتفاء الدليل المعيَّن لا يستلزم انتفاء المدلول.
وبعضُ أهلِ العلمِ يعبِّر عن هذه القاعدة بقوله (عدم السبب المعيَّن لا يقتضي انتفاء المسبَّب المعين).
استعمالاتها:
هذه قاعدةٌ جليلةٌ في "الردِّ والمناظرةِ".
وتستخدم في الرد على جميع الطوائف والفرق التي تقدِّسُ (العقل) وتقدمه على (النقل)،
ومضمونها: أن انتفاءَ مسألةٍ ما من دليلٍ معيَّن لا يستلزمُ انتفاءَ المدلول أي المسألةِ، بل إنَّ غاية أمرنا أن ننفي دليل المسألة من هذا الدليل المعين، ثم نثبتها من طرقٍ أخرى.
أمثلتها:
مثالٌ ذلك: لو كان الطريق الرئيس الذي يوصِل إلى مكةَ مغلق الآن، هل معناهُ أنه يمتنع الوصول إلى مكة؟
فالجواب: لا، لأنه يمكن الوصول إليها من طريق آخر.
مثال آخر: لو قال قائلٌ: الأكل من لحم الإبل لا ينقضُ الوضوء لأنَّ الإجماعَ لا يدل عليه، فنقول له: إن لم يثبت انتقاض الوضوء من لحم الإبل بدليل الإجماع فإنَّ (دليل السنة) قد أثبتت انتقاض الوضوء، فانتفاء الدليل المعين-الذي هو الإجماع- لا يستلزم انتفاء المدلول -وهو انتقاض وضوء من أكل رحم إبل عن طريق السنة-
فالخلاصةُ: أنه إذا انتفى أحدُ الدليلين ثبتَ المدلولُ بالدليل الآخر، فلو أبطلَ إثباتُ هذا الإثبات عن طريق العقلِ فإن النقلَ يقبله لأنه ثبت به.
ثانيًا: تقرير المصنف لهذه القاعدة في كتبه.
وقرر المصنف هذه المسألة في مواضع من كتبه، فقال: "فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه،
ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه"
(1)
وأضاف المصنف تفصيلاً مهماً في ذلك، حيث قال:"عدم الدليل المعيّن لا يستلزم عدم المدلول عليه، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه، ثم إذا عدم ذلك، لم يلزم عدم الخالق، فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدالّ عليه، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزماً لعدمه، كالأمور التي تتوفر الهمة على نقلها، إذا لم ينقل، عُلم انتفاؤها"
(2)
.
ثالثًا: وجه الرد بهذه القاعدة على المخالف.
والمقصود أن كثيرًا من المتناظرين قد يجعل عمدته في نفي وجود أمر ما، عدم علمه بالدليل على وجوده، والأصل أن عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم، وعدم الوجدان ليس نفياً للوجود، فكما أن الإثبات يحتاج إلى دليل، فكذلك النفي يحتاج إلى دليل، وإلا فما لم يعلم وجوده بدليل معين، قد يكون معلوماً بأدلة أخرى، فمثلاً: عدم الدليل العقلي على وجود أمر ما، لا يعني عدم وجوده، لأنه قد يكون ثابتاً بالدليل السمعي، أو غيره.
فالدليل يجب فيه الطرد لا العكس، بمعنى أنه يلزم من وجوده الوجود، ولا يلزم من عدمه العدم، أي عدم المدلول عليه، قال تعالى:(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)] يونس: 39 [فهذا نعي على كل من كذب بما قصر عنه علمه.
فمن نفى كثيراً من الغيبيات كالصفات، والقدر، والملائكة، والجن، وأحوال البرزخ، والمعاد، لعدم قيام دليل الحس والمشاهدة، أو دليل العقل-كما يزعم-كان غالطاً، لأنه أخبر عن نفسه، ولا يمنع أن يكون غيره قد قام عنده دليل العقل، أو
(1)
درء تعارض العقل والنقل: 5/ 269.
(2)
الجواب الصحيح 3/ 175، وانظر: 4/ 291
دليل السمع، أو دليل المشاهدة كما وقع ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم في مشاهدة الجن والملائكة وأحوال البرزخ والمعاد
(1)
.
رابعًا: ما يستثنى من هذه القاعدة.
ويستثنى من هذه القاعدة ما إذا كان وجود المدلول مستلزماً لوجود الدليل، وقد علم عدم الدليل، فيقع العلم بعدم المدلول المستلزم لدليله، لأن عدم اللازم دليل على عدم الملزوم،
مثاله: قد ثبت توافر الدواعي على نقل كتاب الله تعالى ودينه، فإنه لا يجوز على الأمة كتمان ما يحتاج الناس إلى نقله، فلما لم ينقل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم نقلاً عاماً، علمنا يقيناً عدم ذلك، نحو سورة زائدة، أو صلاة سادسة ونحو ذلك
(2)
خامسًا: هذه القاعدة من القواعد العقلية ومما يقر به المخالف.
وقد رد الفخر الرازي على النصارى دعواهم إلهية عيسى عليه السلام لظهور الخوارق على يديه، بأن عدم ظهور هذه الخوارق في حق غيره لا يلزم منه عدم إلهية ذلك الغير، بل غاية ما هناك أنه لم يوجد هذا الدليل المعين، وعليه، فيجوز - كما هو لازم قولهم - حلول الله تعالى في كل مخلوق من مخلوقاته، إذ لا دليل على اختصاص عيسى عليه السلام بذلك، لأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول
(3)
.
وأما الوجه الثاني: فقول المصنف:
"الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتَّ به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة،
(1)
انظر: ((مجموعة تفسير ابن تيمية)) (ص: 350 - 351)، و ((الرد على المنطقيين)) (ص: 100)، ((ورفع الملام)) (ص: 73).
(2)
انظر: ((رفع الملام)) (ص: 73، 74).
(3)
انظر: ((مناظرة في الرد على النصارى)) (ص: 26 - 27).
وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته- وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة- تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأَوْلَى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة".
ويمكن توضيح المقصود هنا من خلال معرفة الأمور الآتية:
الأمر الأول: معرفة قول المتأخرين من الأشاعرة في باب الصفات.
من المعلوم-كما تقدم-أن المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية أنهم يقولون بإثبات سبع صفات فقط أو ثمان ونفي ما عداها، فهم بزعمهم لم يثبتوا من الصفات إلا ما أثبته العقل فقط، وأما ما لا مجال للعقل فيه عندهم فتعرضوا له بالتأويل والتعطيل.
فلا يستدل هؤلاء بالسمع في إثبات الصفات، بل عارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات.
وهذا القول لمتأخري الأشاعرة إنما تلقوه عن المعتزلة، لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه، الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع، ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع، بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل.
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة أصحابه في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في
إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات.
(1)
فالصفات الثبوتية عند متأخري الأشاعرة هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.
(2)
وزاد الباقلاني وإمام الحرمين الجويني صفة ثامنة هي الإدراك.
(3)
والصفات الثبوتية عند الماتريدية
(4)
هي ثمان: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين.
(5)
وهم قد خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها، لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم، وأما غيرها من الصفات فإنه لا دليل عليها من العقل عندهم، فلذا قالوا بنفيها.
(6)
وهؤلاء لا يجعلون السمع طريقاً إلى إثبات الصفات ولهم فيما لم يثبتوه طريقان.
1 -
منهم من نفاه.
2 -
ومنهم من توقف فيه فلم يحكم فيه بإثبات ولا نفي ويقولون بأن العقل دلّ على ما أثبتناه ولم يدل على ما توقفنا فيه.
(7)
وعلى حد تقريرهم هذا أوضح المصنف أنه لا فرق بين ما أثبتوه من الصفات
(1)
-درء تعارض العقل والنقل 7/ 97.
(2)
-مجموع الفتاوى 6/ 358، 359.
(3)
-تحفة المريد ص 76، وبعض الأشاعرة توقف فيها والبعض نفاها.
(4)
-انظر إشارات المرام ص 107، 114، جامع المتون 1208، نظم الفرائد ص 24، الماتريدية دراسة وتقويم ص 239.
(5)
-أثبت الماتريدية صفة التكوين وعليه فهي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى. وأما الأشاعرة فقد نفوها. انظر تحفة المريد ص 75.
(6)
-الماتريدية دراسة وتقويم ص 239.
(7)
-شرح الأصفهانية ص 9، مجموع الفتاوى 6/ 359.
وبين ما نفوه.
الأمر الثاني: بيان المقصود بالعلة الغائية في قول المصنف: "لقوة العلة الغائية" من الناحية الاصطلاحية.
المقصود بالعلة الغائية الغاية التي من أجلها وُجد الفعل المختار.
وهو مفهوم فلسفي يوناني ابتكره أرسطوطاليس ثم وصل إلى العالم الإسلامي بواسطة الترجمة.
فقد قسم أرسطوطاليس العلل إلى أربع:
1 -
علة مؤثرة.
2 -
علة مادية.
3 -
علة صورية.
4 -
علة غائية.
والمثال الذي مثّل به هو صنم الرخام؛
فالنحات علته المُؤثرة.
والرخام علته المادية.
وشكل الصنم علته الصورية.
وتخليد ذكرى الشخص الذي نُحت الصنم على صورته علته الغائية.
وفي كتب علم الكلام أمثلة على هذا المنوال كخاتم الفضة وكرسي الخشب إلخ.
الأمر الثالث: الأقوال في تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها.
كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه تعالى، يحبها ويرضاها.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها،
وهذا يكون في المأمورات وفي المخلوقات
(1)
.
فهو "سبحانه حكيم، لا يفعل شيئًا عبثًا ولا بغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى"
(2)
، وقد ذكر ابن القيم بعضها.
(3)
وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال:
القول الأول: قول من نفى الحكمة وأنكر التعليل، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله.
(4)
القول الثاني: إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، ولكن هذه الحكمة مخلوقة، منفصلة عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم
(5)
.
القول الثالث: قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن بجعلها قديمة غير مقارنة للمفعول.
(1)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 35 - 36).
(2)
شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 400) - ط التراث.
(3)
انظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 400 - 434) - التراث.
(4)
انظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 268 وما بعدها)، و ((نهاية الإقدام)) (ص: 297)، و ((محصل أفكار المتقدمين)) للرازي (ص: 205)، ((الفصل)) (3/ 174) - ط دار المعرفة. ((الأحكام)) لابن حزم (8/ 1110 وما بعدها).
(5)
انظر: ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)). لعبد الجبار الهمذاني (6/ 48، 11/ 92 - 93).
القول الرابع: إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، والله تعالى خلق الخلق ليحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقا له.
(1)
القول الخامس: قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن لله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة.
هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ويلاحظ أنها تنتهي إلى قولين:
أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم.
والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة.
وهؤلاء على أقوال:
أشهرها:
1 -
قول المعتزلة الذين يثبتون حكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الرب.
2 -
وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى.
(2)
ويلاحظ أن من نفى الحكمة والتعليل - كالأشاعرة - دفعه ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب والقدرة غير المؤثرة للعبد.
(1)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 39).
(2)
انظر: ((أقوم ما قيل في القضاء والقدر - مجموع الفتاوى)) (8/ 83 - 93، 97 - 98)، ((منهاج السنة)) (1/ 97 - 98) - ط دار العروبة المحققة، و ((الاستغاثة)) (ص: 2/ 27)، ((جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى)) - (17/ 198 - 203)، ((درء التعارض)) (8/ 54)، ((مجموع الفتاوى)) (8/ 377 - 381)، و ((منهاج السنة)) (1/ 94 - 95) - ط دار العروبة المحققة.
ومن إثبات حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن يكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة.
أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر.
الأمر الرابع: توضيح مراد المصنف.
كلام المصنف هنا هو من باب أنه إذا كان من المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه.
وهذا كالمخلوقات، فإنها آية للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها.
فإذا كان دليل المتأخرين من الأشاعرة ومن وافقهم على إثبات تلك الصفات السبع أو الثمان التي أقروا بها هو العقل، فأجاب المصنف بأنه يمكن إثبات الصفات الأخرى التي نفاها هؤلاء بنظير الدليل الذي استدل به هؤلاء على الصفات السبع أو الثمان التي أثبتوها، وذلك من باب طرد الدليل فقال المصنف:"يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتَّ به تلك من العقليات" فكما أثبتم القدرة بالفعل، والتخصيص بالإرادة، والعلم بالإحكام، وبقية الصفات، كالحياة والسمع والبصر؛ لأنها من لوازم الحياة، فكذلك بقية الصفات.
وضرب أمثلة على ذلك
المثال الأول: إثبات "صفة الرحمة"
فإذا كان المخالف يستدل على "أن الفعل الحادث دل على القدرة" فإن طرد الدليل يوجب أن "يقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، كدلالة
التخصيص على المشيئة"
المثال الثاني: إثبات "صفات المحبة والبغض والحكمة"
قال المصنف: "وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته- وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة- تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأَوْلَى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة"
وهذا مبني على قول أهل السنة أن لله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة.
المتن
قال المصنف رحمه الله: «وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات، ويقر بالأسماء كالمعتزلي، الذي يقول: إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة.
قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء وبين إثبات الصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهًا وتجسيمًا، لأنّا لا نجد في الشاهد متصفًا بالصفات إلا ما هو جسم. قيل لك: ولا تجد في الشاهد ما هو مسمى بأنه حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا لجسم فانف الأسماء، بل وكلَّ شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا لجسم.
فكل ما يحتج به من نفى الصفات، يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جوابًا لذلك كان جوابًا لمثبتي الصفات".
الشرح
لما فرغ المصنف رحمه الله من الرد على المتأخرين من الأشاعرة ومن وافقهم ممن يثبت بعض الصفات دون بعض شرع هنا يرد على المعتزلة الذين يثبتون الأسماء بدون ما تضمنته من الصفات.
ويمكن توضيح المقصود بهذا النص من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: قول المعتزلة في صفات الله.
وقد تقدم بيان قول المعتزلة في باب الصفات عند شرح قوله: "فأثبتوا له الأسماء دون ما تضمنته من الصفات"
وأن المعتزلة تجمع على غاية واحدة وهي نفي إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها. ولكنهم سلكوا طريقين في موقفهم من الصفات.
الطريق الأول: الذي عليه أغلبيتهم وهو نفيها صراحة فقالوا: إن الله عالم بذاته لا بعلم وهكذا في باقي الصفات.
والطريق الثاني: الذي عليه بعضهم وهو إثباتها اسماً ونفيها فعلاً فقالوا: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته وهكذا بقية الصفات، فكان مجتمعاً مع الرأي الأول في الغاية وهي نفي الصفات.
وهناك آراء أخرى للمعتزلة لكنها تجتمع في الغاية مع الرأيين الأولين، وهو التخلص من إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها.
(1)
والمقصود بنفي الصفات عندهم: هو نفي إثباتها حقيقة في الذات ومتميزة عنها، وذلك أنهم يجعلونها عين الذات فالله عالم بذاته بدون علم أو عالم بعلم وعلمه
(1)
-المصدر السابق ص 101.
ذاته.
(1)
فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه فقالوا حينئذ إن القرآن مخلوق، وإنه ليس لله مشيئة قائمة به، ولا حب ولا بغض ونحو ذلك.
وردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به.
(2)
فالمعتزلة ومن وافقهم زعموا أن الصفة هي مجرد قول الواصف
(3)
، فزعموا أن إضافة الصفات هي إضافة وصف من غير قيام معنى به
(4)
وهذا باطل، فإن حقيقة الصفة هي ما قام بالموصوف، فإن كل موصوف لا يوصف إلا بما قام به لا بما هو مباين له
(5)
.
الأمر الثاني: الرد على المعتزلة عمومًا في نفيهم لصفات الله.
يجب الوقوف في هذا الباب على ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، فلا نثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته
قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتَجاوز القرآن والحديث"
(6)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله
(1)
-المعتزلة وأصولهم الخمسة ص 100.
(2)
-مجموع الفتاوى 6/ 147، 148، 359.
(3)
- انظر مجموع الفتاوى 6/ 318، 341
(4)
- انظر مجموع الفتاوى 6/ 147، 148
(5)
- انظر مجموع الفتاوى 6/ 318.
(6)
- مجموع الفتاوى 5/ 26.
بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتَجاوز القرآن والحديث"
(1)
وبحمد الله نصوص الكتاب والسنة الواردة في باب صفات الله كثيرة ومتوافرة، ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفات ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: التصريح بالصفة:
كالعزة في قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} .
(2)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت".
(3)
والقوة في قوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [البقرة: الآية: 165].
والرحمة في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام الآية: 133].
واليدين في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة الآية 64].
والبطش في قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج الآية: 12].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إضافة الصفة إلى الموصوف:
كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة الآية: 255].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات الآية 58].
وفي حديث الاستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك"9.
وفي الحديث الآخر "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق"10.
فهذا في الإضافة الاسمية
وأما بصيغة الفعل فكقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}
(1)
- الفتوى الحموية ص 61.
(2)
- الآية 10 من سورة البقرة.
(3)
- أخرجه البخاري 4/ 194، ومسلم 4/ 2086.
] البقرة الآية: 187]، وقوله {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل الآية: 20].
أما الخبر الذي هو جملة اسمية فمثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات الآية: 16]، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران الآية: 189].
وذلك لأن الكلام الذي توصف به الذوات:
1 -
إما جملة.
2 -
أو مفرد.
فالجملة:
إما اسمية: كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات الآية: 16].
أو فعلية: كقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوه} [المزمل الآية: 20].
أما المفرد فلا بد فيه من:
1 ـ إضافة الصفة لفظاً أو معنى كقوله: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة الآية: 255].
وقوله: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} [فصلت الآية: 15 [
2 ـ أو إضافة الموصوف كقوله: {ذُو الْقُوَّة} [الذاريات الآية: 58 ["
(1)
الوجه الثاني: تضمن الاسم للصفة
فمن الأمور المتقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة أن أسماء الله الحسنى متضمنة للصفات، فكل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر
فالعزيز متضمن لصفة العزة وهو مشتق منها
والخالق متضمن لصفة الخلق وهو مشتق منها
(1)
- مجموع الفتاوى 6/ 144، 145.
والرحيم متضمن لصفة الرحمة وهو مشتق منها
فأسماء الله مشتقة من صفاته
وترجع أسماء الله الحسنى من حيث معانيها إلى أحد الأمور التالية:
1 -
إلى صفات معنوية: كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير.
2 -
ما يرجع إلى أفعاله: كالخالق، والرازق، والبارئ، والمصور.
3 -
ما يرجع إلى التنزيه المحض ولا بد من تضمنه ثبوتاً إذ لا كمال في العدم المحض: كالقدوس، والسلام، والأحد.
4 -
ما دل على جملة أوصاف عديدة ولم يختص بصفة معينة بل هو دال على معنى مفرد نحو: المجيد، العظيم، الصمد"
(1)
.
الوجه الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها أي ما فيها معنى الصفة والفعل مثل قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء الآية: 164 [
وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس الآية: 82].
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة الآية: 1].
وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [الحج الآية: 14].
وقوله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء الآية: 93].
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَه} [محمد الآية: 28].
وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة الآية: 119].
وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} [المؤمنون الآية: 118].
(1)
- بدائع الفوائد 1/ 159، 160 (بتصرف)
وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [السجدة الآية: 4].
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} [الأعراف الآية: 54].
وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر الآية: 22].
الأمر الثالث: توضيح ما احتج به المصنف على المعتزلة في إنكارهم للصفات.
فيقال للمعتزلة: لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات،
فإن قالوا: إن إثبات الحياة والعلم ونحوها يقتضي تشبيه الله بالمخلوقين، ويقتضي التجسيم؛ وهذا هو الذي نراه في الواقع المشاهد، أن الذي يوصف بهذه الصفات هو الجسم فقط،
فيقال للمعتزلة: ولن تجد في الواقع المشاهد ما يسمى بالحي والعليم إلا الجسم أيضًا، وأنت تثبت الأسماء لله وتنفي الصفات فيلزمك أن تنفي الأسماء أيضًا خوفًا من التجسيم الذي تزعمه، فكل ما تقول به لكي تنفي الصفات يلزمك أن تقول به في نفي الأسماء.
فقول المصنف: "فكل ما يحتج به من نفى الصفات، يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جوابًا لذلك كان جوابًا لمثبتي الصفات".
هذا الكلام فسره المصنف في موضع آخر فقال: "وهؤلاء نفاة الأسماء من هؤلاء الغالية من الجهمية والباطنية والفلاسفة، وإنما استطالوا على المعتزلة بنفي الصفات، وأخذوا لفظ "التشبيه" بالاشتراك والإجمال، كما أن المعتزلة فعلت كذلك بأهل السنة والجماعة مثبتة الصفات، فلما جعلوا إثبات الصفات من التشبيه الباطل، ألزمهم ذلك بطرد قولهم، فألزموهم بنفي الأسماء الحسنى.
والأمر بالعكس، فإن إثبات الأسماء حق، وهو يستلزم إثبات الصفات، فإن حي بلا حياة، وعالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، كإثبات متحرك بلا حركة، ومتكلم بلا كلام،
ومريد بلا إرادة، ومصل بلا صلاة، ونحو ذلك مما فيه إثبات اسم فاعل ونفي مسمى المصدر اللازم لاسم الفاعل، ومن أثبت الملزوم دون اللازم كان قوله باطلًا.
وكذلك هؤلاء نفاة الصفات أخذوا يقولون: إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم، إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم، والجسم مركب في اصطلاحهم، وإما لأن إثبات العلم والقدرة ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة، وذلك تركيب"
(1)
.
وقال ابن تيمية: "والإنسان قد يعتقد صحة قضية من القضايا وهي فاسدة فيحتاج أن يعتقد لوازمها فتكثر اعتقاداته الفاسدة ومن هذا الباب دخلت القرامطة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم على طوائف المسلمين فإن هؤلاء قالوا للمعتزلة ألستم قد وافقتمونا على نفي الصفات حذرا من التشبيه والتجسيم فقالوا نعم فقالوا وهذا المحذور يلزمكم في إثبات أسماء الله تعالى له فإذا قلتم هو حي عليم قدير كان في هذا تشبيه له بغيره ممن هو حي عليم قدير وكان في هذا من التجسيم كما في إثبات الحياة والعلم والقدرة له لأنه لا يعرف مسمى بهذه الأسماء إلا جسم كما لا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا جسم فأخذوا ينفون أسماء الله الحسنى ويقولون ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير"
(2)
دحض شبه المعتزلة
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: «وإن كان المخاطب من الغلاة، نفاة الأسماء
(1)
الرسالة الصفدية - قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة ص 73، 74.
(2)
الرسالة الصفدية - قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة ص 88.
والصفات، وقال: لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير.
قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيها بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات.
قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودًا معدومًا، أو لا موجودًا ولا معدومًا، ويمتنع أن يوصف باجتماع الوجود والعدم، والحياة والموت، والعلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل".
الشرح
لما فرغ المصنف من الرد على المعتزلة الذين يثبتون الأسماء دون ما تضمنته من الصفات شرع في الرد على الغلاة نفاة الأسماء والصفات جميعها.
ولشرح وتوضيح هذا النص أقول:
الجانب الأول: بيان أصحاب هذا القول، وأصل عقيدتهم في باب الأسماء والصفات.
فقول المصنف: "وإن كان المخاطب من الغلاة، نفاة الأسماء والصفات"
أولًا: أصحاب هذا القول.
تقدم أن المقصود بالغلاة هم الجهمية أتباع الجهم بن صفوان، ومعهم أهل الفلسفة البحتة وأهل الفلسفة الباطنية سواء كانوا قرامطة أو إتحادية.
وتقدم بيان درجات تعطيلهم وأن منهم:
• المكذبة النفاة.
• والمتجاهلة الواقفة.
• والمتجاهلة اللا أدرية.
• والاتحادية.
والمقصود هنا تحديدًا كل من
1 -
المكذبة النفاة، وهي الدرجة عليها غُلاة الجهمية وطائفة من الفلاسفة
(1)
، وهو كذلك قول ابن سينا وأمثاله
(2)
. وهذا ما ذكره المصنف حيث قال: "وقال: لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير".
2 -
والمتجاهلة الواقفة فهؤلاء هم الذين يقولون: لا نُثبت ولا نَنفي، وهذه الدرجة للقرامطة الباطنية المتفلسفة
(3)
. وهذا ما ذكره المصنف بقوله: "فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات".
ثانيًا: أصل عقيدتهم في باب الأسماء والصفات.
أما الصنف الأول: وهم المكذبة النفاة.
فالمكذبة النفاة أصل عقيدتهم هو النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه، بأن جعلوا الحق لا وجود له، ولا حقيقة له في الخارج أصلاً وإنما هو أمر مطلق في الأذهان.
(1)
-مجموع الفتاوى 3/ 7 - 8.
(2)
-الصفدية 1/ 299، 300.
(3)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
فهم يقولون: لا هو موجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير، لأن هذه الأسماء إنما هي من صفات المخلوقات، أو هي مجاز، لأن إثبات هذه الصفات لله تعالى يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير.
ولقد أقدم هؤلاء الغلاة على نفي الأسماء والصفات بمزاعم من أهمها:
أولًا: أن إثبات الصفات يقتضي أن يكون الله جسماً؛ لأن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها.
ثانيًا: إرادة تنزيه الله تعالى.
ثالثًا: أن وصف الله تعالى بتلك الصفات التي ذكرت في كتابه الكريم أو في سنة نبيه العظيم يقتضي مشابهة الله بخلقه، فينبغي نفي كل صفة نسبت إلى الله تعالى وتوجد كذلك في المخلوقات لئلا يؤدي إلى تشبيه الله-بزعمهم-بمخلوقاته التي تحمل اسم تلك الصفات.
لقد عارض الجهمية ومن سار على طريقتهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقدموا آراءهم وما تراه عقولهم على نصوص الكتاب والسنة فلم يقفوا عند حدود فهم العقل ومدى قدرته، بل تجاوزوا ذلك وظنوا أنهم علي شيء، وزخرفوا القول في ذلك، وتحذلقوا وتنطعوا فخرجوا من نور العلم إلى ظلمات الجهل، ومن اليقين إلى الشكوك عقاباً من الله لهم لعدم تلقي النصوص ومدلولاتها بالطمأنينة والتسليم، وترك التكلف في البحث عن أمور هي من المغيبات ولم يخبرنا الله بتفاصيلها و لا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله أن تكون كيفياتها سراً مكتوماً عن العباد وهم يريدون الاطلاع عليها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
إن تنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال، إنه من الإجرام أن ينزه الله عن ما تمدح به:(قل أأنتم أعلم أم الله)
] البقرة: 140. [
فالتنزيه الصحيح إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى كمالها؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالي.
وأي تنزيه في أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يري أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه في كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجيء، إلى آخر تلك الأوصاف التي لا تقال إلا للمعدوم.
وأما الصنف الثاني: فهم المتجاهلة الواقفة:
فهؤلاء هم الذين يقولون: لا نُثبت ولا نَنفي، وهذه الدرجة للقرامطة الباطنية المتفلسفة
(1)
، فهؤلاء يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد،
(1)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
(2)
-مجموع الفتاوى 3/ 7 - 8.
قالوا: لأن في الإثبات تشبيهًا بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات»
(1)
.
وقد رد المصنف على أصحاب هذا القول في بداية الرسالة التدمرية فقال: "وهذا ممتنع في بدائه العقول، وحرّفوا ما أنزل الله تعالى من الكتاب، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقعوا في شرٍّ مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات".
الجانب الثاني: الرد عليهم
تقدم أن المصنف أورد هنا كلا من:
1 -
قول المكذبة النفاة
2 -
وقول المتجاهلة الواقفة.
وأفرد لكل واحد منهم ردًا يتناسب مع قوله.
أما المكذبة النفاة فهم المقصودون بقوله: "وقال: لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير.
قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيها بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
فيقال لهؤلاء النفاة: إذا قلتم: إن الله ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيهًا بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
وخلاصة هذا الاستدلال: أنكم يا أيها النفاة تزعمون أنكم تفرون من التشبيه
(1)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
فقد وقعتم في شر منه وهو التعطيل، لأنكم تنفون عن الله جميع الصفات والأسماء التي أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلم، بزعم أنها ثابتة للمخلوقات، وهذا باطل، وكذلك إن نفيتم عنه الصفات فإنكم تكونون قد شبهتموه أيضًا بالمعدومات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثم إن قولكم ليس بحي ولا عالم ولا قادر نفس سلب هذه الصفات فيه من النقص ما في قولنا: ميت وجاهل وعاجز وزيادة، ولهذا كان نقص الجماد أعظم من نقص الأعمى. فكل محذور في عدم الملكة هو ثابت في السلب العام وزيادة"
(1)
وأما المتجاهلة الواقفة.
فهم المقصودون بقول المصنف:
فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات.
قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودًا معدومًا، أو لا موجودًا ولا معدومًا، ويمتنع أن يوصف باجتماع الوجود والعدم، والحياة والموت، والعلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل".
وخلاصة هذا الاستدلال: أنهم إن فروا من تشبيهه بالموجودات، وفروا من تشبيهه بالمعدومات بأن زعموا أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين فإنهم بقولهم هذا وقعوا في شر مما فروا منه لأنهم بهذا القول شبههوه بالممتنعات.
وخلاصة الرد على هذا الفريق من نفاة الأسماء والصفات عمومًا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن يقال لهؤلاء النفاة أنتم نفيتم هذه الأسماء فرارًا من التشبيه
(1)
الرسالة الصفدية - قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة ص 69.
فإن اقتصرتم على نفي الاثبات شبهتموه بالمعدوم، وإن نفيتم الاثبات والنفي جميعًا فقلتم: ليس بموجود ولا معدوم شبهتموه بالممتنع، فأنتم فررتم من تشبيهه الكامل، فشبهتموه بالحي الناقص، ثم شبهتموه بالمعدوم، ثم شبهتموه بالممتنع، فكنتم شرًا من المستجير من الرمضاء بالنار.
وهذا لازم لكل من نفى شيئًا مما وصف الله به نفسه، لا يفر من محذور إلا وقع فيما هو مثله أو شر منه مع تكذيبه بخبر الله وسلبه صفات كماله الثابتة له"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والمَلَكَة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس بقابل لهما.
قيل لك:
أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب، باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر.
وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية، وقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ • أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فسمى الجماد ميتًا، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم".
(1)
الرسالة الصفدية - قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة ص 69.
الشرح
لما ذكر المصنف الرد على الغلاة نفاة الأسماء والصفات شرع هنا في ذكر اعتراضات أوردوها على الاستدلال، ثم قام بالإجابة عليها.
وقبل الدخول في شرح الاعتراض يجدر التنبيه على ما يلي:
أولًا: شرح المصطلحات الواردة في النص
الألفاظ المتباينة هي ما كثرت معانيها بتكثرها، أي أن معانيها متغايرة.
ولما كان التغاير بين المعاني يقع على أقسام، فإن الألفاظ بحسب معانيها أيضاً تنسب لها تلك الأقسام.
والتغاير على ثلاثة أنواع: التماثل
(1)
، والتخالف
(2)
، والتقابل.
والذي يعنينا في هذا المقام هو المتقابلان:
تعريف التقابل: التقابل هو عدم اجتماع لفظين في شيء واحد في زمان واحد.
(1)
(المثلان) هما المشتركان في حقيقة واحدة بما هما مشتركان، أي لوحظ واعتبر اشتراكهما فيها، كمحمد وخالد اسمين لشخصين مشتركين في الإنسانية بما هما مشتركان فيها، وكالإنسان والفرس باعتبار اشتراكهما في الحيوانية. وإلا فمحمد وخالد من حيث خصوصية ذاتيهما مع قطع النظر عما اشتركا فيه هما متخالفان كما سيأتي. وكذا الإنسان والفرس هما متخالفان بما هما إنسان وفرس.
والاشتراك والتماثل إن كان في حقيقة نوعية بأن يكونا فردين من نوع واحد كمحمد وخالد يخص باسم المثلين أو المتماثلين ولا اسم آخر لهما. وإن كان في الجنس كالإنسان والفرس سمّيا أيضاً (متجانسين) وإن كان في الكم أي في المقدار سمّيا أيضاً (متساويين)، وإن كان في الكيف أي في كيفيتهما وهيئتهما سمّيا أيضاً (متشابهين). والاسم العام للجميع هو (التماثل).
والمثلان أبداً لا يجتمعان ببديهة العقل.
(2)
(المتخالفان) وهما المتغايران من حيث هما متغايران، ولا مانع من اجتماعهما في محل واحد إذا كانا من الصفات، مثل الإنسان والفرس بما هما إنسان وفرس، لا بما هما مشتركان في الحيوانية كما تقدم. كذلك: الماء والهواء، النار والتراب، الشمس والقمر، السماء والأرض.
فنسميها ألفاظا متقابلة.
مثل: موجود ومعدوم، ومسلم وكافر، وماش وقاعد، ومهتم ولا مهتم .. الخ.
أنواع التقابل: التقابل أنواع:
النوع الأول: (تقابل النقيضين) أو السلب والإيجاب، مثل: إنسان ولا إنسان، سواد ولا سواد، منير وغير منير.
والنقيضان: أمران وجودي وعدمي، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، ولا واسطة بينهما.
أو يقال: النقيضان لفظان لا يجتمعان معًا ولا يرتفعان معًا في موضوع واحد في زمن واحد.
النوع الثاني: (تقابل الضدين)، كالحرارة والبرودة، والسواد والبياض، والفضيلة والرذيلة، والتهور والجبن، والخفة والثقل.
وفي كلمة (المتعاقبان على موضوع واحد) يفهم أن الضدين لا بد أن يكونا صفتين، فالذاتان مثل إنسان وفرس لا يسميان بالضدين. وكذا الحيوان والحجر ونحوهما. بل مثل هذه تدخل في المعاني المتخالفة.
وبكلمة «لا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر» يخرج المتضايفان، لأنهما أمران وجوديان أيضاً ولا يتصور اجتماعهما فيه من جهة واحدة، ولكن تعقل أحدهما يتوقف على تعقل الآخر.
النوع الثالث: تقابل الضدين: (تقابل المتضايفين) مثل: الأب والابن، الفوق والتحت، المتقدم والمتأخر، العلة والمعلول، الخالق والمخلوق وأنت إذا لاحظت
هذه الأمثلة تجد:
(أولاً) إنك إذا تعلقت أحد المتقابلين منها لا بد أن تتعقل معه مقابلة الآخر: فإذا تعقلت أن هذا أب أو علة لا بد أن تتعقل معه أن له ابناً أو معلولاً.
(ثانياً) أن شيئًا واحدًا لا يصح أن يكون موضوعاً للمتضايفين من جهة واحدة، فلا يصح أن يكون شخص أباً وابناً لشخص واحد، نعم يكون أباً لشخص وابناً لشخص آخر. وكذا لا يصح أن يكون الشيء فوقاً وتحتاً لنفس ذلك الشيء في وقت واحد. وإنما يكون فوقاً لشيء هو تحت له، وتحتاً لشيء آخر هو فوقه وهكذا.
وعلى هذا البيان يصح تعريف المتضايفين بأنهما: «الوجوديان اللذان يتعقلان معاً ولا يجتمعان في موضوع واحد من جهة واحدة ويجوز أن يرتفعا» .
النوع الرابع: (تقابل الملكة وعدمها) كالبصر والعمى، الزواج والعزوبية، فالبصر ملكة والعمى عدمها. والزواج ملكة والعزوبية عدمها.
ولا يصح أن يحل العمى إلا في موضع يصح فيه البصر، لأن العمى ليس هو عدم البصر مطلقاً، بل عدم البصر الخاص، وهو عدمه فيمن شأنه أن يكون بصيراً. وكذا العزوبة لا تقال إلا في موضع يصح فيه الزواج، لا عدم الزواج مطلقاً، فهما ليسا كالنقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان، بل هما يرتفعان. وإن كان يمتنع اجتماعهما، فالحجر لا يقال فيه أعمى ولا بصير، ولا أعزب ولا متزوج، لأن الحجر ليس من شأنه أن يكون بصيراً، ولا من شأنه أن يكون متزوجاً.
إذن الملكة وعدمها: «أمران وجودي وعدمي لا يجتمعان ويجوز أن يرتفعا في موضع لا تصح فيه الملكة»
(1)
.
ثانيًا: شرح الرد على الاعتراض
(1)
المصدر: المنطق ص 47
وصورة الاعتراض: "فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والمَلَكَة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس بقابل لهما".
أراد المعترض هنا التفريق بين نوعين من المتقابلين وهما:
تقابل (تقابل النقيضين) أو ما يسمى كذلك تقابل السلب والإيجاب وأن هذا النوع -كما تقدم تعريفه- هو تقابل أمرين وجودي وعدمي، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، ولا واسطة بينهما.
وأن هناك (تقابل العدم والملكة): وهما «أمران وجودي وعدمي لا يجتمعان ويجوز أن يرتفعا في موضع لا تصح فيه الملكة»
والفرق بينهما: أن النقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، وأما في تقابل العدم والملكة فهما يرتفعان. وإن كان يمتنع اجتماعهما.
واعترض على هذا الفرق بأنه للتشابه القريب بين تقابل الملكة وعدمها من جهة، وبين تقابل الضدين من جهة أخرى، جعل بعض كتب المنطق لا تعدها ضمن التقابل، إذ نجد تقابل المكلة هي تقابلات أضداد، في حين أن الذين ميزوا تقابل الضدين عن تقابل الملكة عللوا بالقول:
1 -
أن تعقل أحد الضدين لا يجب أن يتوقف على الآخر عكس تقابل الملكة. 2 - كما أن تقابل الملكة وعدمها لا يفترض لهما ثالث عكس الضدين اللذين قد يكون لهما ثالث: فالنعومة والخشونة قد ترتفعا معا بحيث يكون الموضع أملس مثلا .. وهكذا.
واعتراض هؤلاء يتمثل بأنه يمتنع نفي النقيضين عن الشيء الذي يكون قابلًا لهذين النقيضين أن يرتفع عنه أحدهما فيمتنع الآخر، فهذا الجدار لا يصدق عليه أنه
مبصر أو أعمى، أو أنه حي أو ميت، وكلاهما نقيضان، لكنه ليس بقابل لهما أصلًا. فهم عدوا أن التقابل هنا هو من تقابل العدم والملكة.
ورد شيخ الإسلام على هذا الاعتراض بعدة أجوبة:
الوجه الأول: وهو مكون من فقرتين:
الفقرة الأولى: قول المصنف: "قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب، باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر".
يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن التقابل هنا هو من باب تقابل السلب والإبجاب-كما تقدم تعريفه-هو تقابل أمرين وجودي وعدمي، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، ولا واسطة بينهما، ولذلك عبر المصنف بقوله:"فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر" وليس من تقابل العدم والملكة. والفرق بينهما: أن النقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، وأما في تقابل العدم والملكة فهما يرتفعان. وإن كان يمتنع اجتماعهما.
الفقرة الثانية: قول المصنف: "وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ • أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فسمى الجماد ميتًا، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم".
وأما الاعتراض بعدم وصف الجدار بالحياة والموت ونحو ذلك، فيمكن أن يجاب عليه بأن القول بتقابل العدم والملكة هو اصطلاح اصطلحه أهل المنطق، وإلا فكل ما لا حياة فيه يسمى مواتًا.
قال الله تعالى: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون. أموات غير أحياء)] النحل 20، 21]. فسمى الأصنام الجامدات أمواتًا، وتسمى الأرض مواتًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له))
(1)
.
وعليه يمكن أن يقال: كل عين من الأعيان تقبل الحياة، فإن الله قادر على خلق الحياة وتوابعها في كل شيء"
(2)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وقيل لك:
ثانيًا: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدًا منهما. فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك".
الشرح
أي على فرض التسليم للخصم بأن التقابل هنا هو من باب تقابل العدم والملكة فإن الشيء الذي "لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك".
وأعطى المصنف مثالًا على ذلك بالأعمى والجماد ليتضح المعنى فقال: "فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدًا منهما".
والنتيجة التي أراد المصنف الوصول إليها هي أن هؤلاء المعطلة زعموا أنهم
(1)
أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم عن عمر في الحرث والمزارعة (5/ 23).
(2)
الرسالة الصفدية - قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة ص 69.
أرادوا الفرار من تشبيه واجب الوجود-على حد تعبيرهم-"بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك".
أي فروا من تشبيه بصفات الحيوانات ووقعوا في تشبيهه بصفات الجمادات.
وهو هنا يقصد أما المكذبة النفاة فهم المقصودون بقوله سابقًا عنهم: "وقال: لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير".
فهذا الزعم فيه فرار من التشبيه بالمخلوقات ولكنه في الوقت نفسه فيه تشبيه بالجمادات. وهو ما ذكره المصنف سابقًا بقوله: "قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيها بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات".
قال ابن تيمية: "ولما أورد من أورد من الملاحدة نفاة الصفات بأن عدم هذه الصفات إنما يكون نقصاً إذا كان المحل قابلاً لها، وإنما يكون عدم البصر عمى، وعدم الكلام خرساً، وعدم السمع صمماً: إذا كان المحل قابلاً لذلك كالحيوان، فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد، فإنه لا يوصف بهذا ولا بهذا - أجيبوا عن هذا بأن ما لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا أعظم نقصاً مما يقبلهما ويتصف بأحدهما، وإن اتصف بالنقص، فالجماد الذي لا يقبل الحياة والسمع والبصر الكلام أعظم نقصاً من الحيوان الذي يقبل ذلك، وإن كان أعمى أصم أبكم.
فمن نفى الصفات جعله كالأعمى الأصم الأبكم، ومن قال: إنه لا يقبل لا هذا ولا هذا جعله كالجماد الذي هو دون الحيوان الأعمى الأصم الأبكم، وهذا بعينه موجود في الأفعال، فإن الحركة بالذات مستلزمة للحياة وملزومة لها، بخلاف الحركة بالعرض كالحركة القسرية التابعة للقاسر، والحركة الطبيعية التي تطلب بها العين
العود إلى مركزها لخروجها عن المركز، فإن تلك حركة بالعرض.
والعقلاء متفقون على ما كان من الأعيان قابلاً للحركة فهو أشرف مما لا يقبلها، وما كان قابلاً للحركة بالذات فهو أعلى مما لا يقبلها بالعرض، وما كان متحركاً بنفسه كان أكمل من الموات الذي تحركه بغيره. "
(1)
المتن
"وأيضًا: فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعًا من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعًا، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعًا مما نفيت عنه الوجود والعدم. وإذا كان هذا ممتنعًا في صرائح العقول فذلك أعظم امتناعا، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات. وهذا غاية التناقض والفساد".
الشرح
انتقل المصنف من مسألة تشبيهه بالجمادت التي عليها طائفة من غلاة المعطلة من (المكذبة النفاة) إلى مسألة تشبيهه بالممتنعات والتي عليها طائفة منهم وهم (المتجاهلة الواقفة)، وهم المقصودون بقول المصنف سابقًا:"فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات".
وقد سبق النقاش مع هؤلاء أساس أن التقابل هو تقابل النقيضين فقال المصنف هناك "قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودًا معدومًا، أو لا موجودًا ولا معدومًا، ويمتنع أن يوصف باجتماع الوجود والعدم، والحياة والموت، والعلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود
(1)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 341.
والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل".
فقوله: "فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعًا من القابل للوجود والعدم"
أي إذا كان الكلام في حق واجب الوجود الذي هو الله على-حد زعم هؤلاء-بأنه لا يقبل الوجود والعدم فإن هذا القول أعظم امتناعًا من القول بأنه يقبل الوجود والعدم معًا، مع أن كلاهما مستحيل ولكن الأول أعظم استحالة في حق الله.
وقوله: "بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعًا"
أي بل هو أعظم استحالة في العقول من اجتماع الوجود والعدم بأن تقول موجود ومعدوم في نفس الوقت، أو نفيهما فتقول لا موجود ولا معدوم.
وقوله: "فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعًا مما نفيت عنه الوجود والعدم. وإذا كان هذا ممتنعًا في صرائح العقول فذلك أعظم امتناعا، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات. وهذا غاية التناقض والفساد".
أي أن النتيجة التي يمكن التوصل إليها أن نفي القابلية أعظم امتناعًا من في صرائح العقول من نفي الوجود والعدم معًا.
وحاصل قولهم كما قال المصنف: "فجعلت الوجود الواجب-الذي لا يقبل العدم-هو أعظم الممتنعات". والمعنى أنه إذا عرف واجب الوجود
(1)
، كما قال الرازي في تعريفه "فسرنا واجب الوجود بذاته بأنه الموجود الذي تكون حقيقته غير
(1)
لفظ " واجب الوجود " غير وارد في كلام الله تعالى، ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد استحدثه الفلاسفة المتأخرون. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"وأما الكلام بلفظ"الواجب الوجود"، و "ممكن الوجود": فهذا من كلام ابن سينا وأمثاله، الذين اشتقوه من كلام المتكلمين المعتزلة ونحوهم، وإلا فكلام سلفهم، إنما يوجد فيه لفظ العلة والمعلول" انتهى من " الصفدية "(2/ 180)، وانظر:"منهاج السنة النبوية"(2/ 132).
قابلة للعدم البتة "
(1)
. وهو قسيم الممكن الوجود الذي يقولون عنه بأنه يقبل العدم.
فالوجود نوعان: واجب وممكن.
فالأول: وجود الله تعالى.
والثاني: وجود كل مخلوق سوى الله تعالى، لأن كل مخلوق مسبوق بالعدم، ويجوز أن يلحقه فناء "فالأشياء في حكم العقل ثلاثة: واجب وممكن وممتنع. فالواجب ما لا يقبل الحدوث ولا العدم، والممكن: ما يقبل الوجود والعدم، والممتنع: ما لا يقبل الوجود"
(2)
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين: الوجود والعدم. ورفعهما كجمعهما.
ومنهم من يقول: لا أثبت واحدًا منهما، وامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت، الذي لا يعبر عن الحقائق.
الشرح
قوله: "وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين: الوجود والعدم. ورفعهما كجمعهما".
يشير هنا إلى قول المتجاهلة الواقفة الذين يقولون: لا نُثبت ولا نَنفي، وهذه
(1)
"المطالب العالية"(1/ 134).
(2)
"شرح الرسالة التدمرية" للشيخ عبد الرحمن البراك، ص 96
الدرجة للقرامطة الباطنية المتفلسفة
(1)
، فهؤلاء يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل.
وقوله: "ورفعهما كجمعهما" أي أن كلا الأمرين ممتنع في بداهة العقول؛ إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات
وقوله: "ومنهم من يقول: لا أثبت واحدًا منهما، وامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت، الذي لا يعبر عن الحقائق".
يشير هنا إلى المتجاهلة اللا أدرية: الذين يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه
(2)
.
فالمصنف هنا يقول إن امتناع هؤلاء هو بمثابة جهل الجاهل وسكوت وسكوت الساكت "لا يعبر عن الحقائق"، فهذا الجهل والسكوت "لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر" ومثاله لو اختلف أناس في تحديد اتجاه القبلة فقال بعضهم هي جهة الشمال وقال البعض هي جهة الجنوب وسكت البعض الآخر، فإن سكوت البعض لا يعبر عن حقيقة أن تكون جهة الشمال أو جهة الجنوب.
وهكذا الحال في شأن صفات الله فإن امتناع هؤلاء لا يؤثر في اعتبار أن الله
(1)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
(2)
-الصفدية 1/ 96، 98.
موصوف بصفات الكمال اللائق به عز وجل.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعًا ممّا يُقدَّر قبوله لهما-مع نفيهما عنه-، فما يُقدَّر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم، أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يُقدَّر قابلا لهما مع نفيهما عنه. وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلا لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود قابلا، وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود المقبول وجب.
وقد بسط هذا في موضع آخر وبيِّن وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه".
الشرح
أعاد المصنف تأكيد بطلان أقوال غلاة المعطلة مرة أخرى وأعاد تكرار مسألة التقابل من جهة ما يمتنع وما هو أعظم امتناعًا.
وأراد أن يؤكد هذا الامتناع من جهة ما يسمى بالواجب والممكن وما يجب في حق كل منهما وما يجوز وما يمتنع، فالإخبار عن الله تعالى بأنه واجب الوجود يراد به عندهم أن وجوده سبحانه لذاته، فيستحيل عليه العدم أزلاً وأبداً، بخلاف المخلوق فإنه ممكن الوجود أو جائز الوجود، أي يجوز عليه الوجود والعدم، ووجوده لا لذاته، بل بإيجاد الله تعالى، ولذلك قال المصنف: "وما جاز لواجب الوجود قابلًا، وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود
المقبول وجب".
وهذا يعني أن لكل واحد منهما وجود يخصه، والمصنف هنا لم يفصل هذه المسألة وإنما اكتفى بالإشارة إليها وقال بعد ذلك:"وقد بسط هذا في موضع آخر وبيِّن وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه"
فالمقصود هنا ما قرره شيخ الإسلام في الرسالة الأكملية حيث قال: "أن يقال: قد ثبت أن الله قديم بنفسه، واجب الوجود بنفسه، قيوم بنفسه، خالق بنفسه، إلى غير ذلك من خصائصه. والطريقة المعروفة في وجوب الوجود تقال في جميع هذه المعاني.
(أمثلة ذلك)
(المثال الأول): فإذا قيل: الوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين.
(المثال الثاني): فهو مثل أن يقال: الموجود إما قديم وإما حادث، والحادث لابد له من قديم، فيلزم ثبوت القديم على التقديرين.
(المثال الثالث): والموجود إما غني وإما فقير، والفقير لابد له من الغنى، فلزم وجود الغنى على التقديرين.
(المثال الرابع): والموجود إما قيوم بنفسه وإما غير قيوم، وغير القيوم لابد له من القيوم، فلزم ثبوت القيوم على التقديرين.
(المثال الخامس): والموجود إما مخلوق وإما غير مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين.
ونظائر ذلك متعددة.
ثم يقال: هذا الواجب القديم الخالق، إما أن يكون ثبوت الكمال الذي لا نقص
فيه الممكن الوجود ممكنًا له، وإما ألا يكون.
والثاني ممتنع؛ لأن هذا ممكن للموجود المحدث الفقير للممكن، فلأن يمكن للواجب الغني القديم بطريق الأولى والأحرى؛ فإن كلاهما موجود. والكلام في الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه.
فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكنًا للمفضول، فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى؛ لأن ما كان ممكنًا لما هو في وجوده ناقص، فلأن يمكن لما هو في وجوده أكمل منه بطريق الأولى، لاسيما وذلك أفضل من كل وجه فيمتنع اختصاص المفضول من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه، بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به، فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى.
ولأن ذلك الكمال إنما استفاده المخلوق من الخالق، والذي جعل غيره كاملا هو أحق بالكمال منه، فالذي جعل غيره قادرًا أولى بالقدرة، والذي علم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة، والفلاسفة توافق على هذا، ويقولون: كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة، والعلة أولى به.
وإذا ثبت إمكان ذلك له، فما جاز له من ذلك الكمال الممكن الوجود، فإنه واجب له لا يتوقف على غيره، فإنه لو توقف على غيره لم يكن موجودًا له إلا بذلك الغير، وذلك الغير إن كان مخلوقًا له لزم الدور القبلي الممتنع، فإن ما في ذلك الغير من الأمور الوجودية فهي منه، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر، وهذا هو الدور القبلي فإن الشاء يمتنع أن يكون فاعلاً لنفسه، فلأن يمتنع أن يكون فاعلاً لفاعله بطريق الأولى والأحرى.
وكذلك يمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً لما به يصير الآخر فاعلاً، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين معطيًا للآخر كماله، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم
أن يكون كل منهما أكمل من الآخر، وهذا ممتنع لذاته، فإن كون هذا أكمل يقتضي أن هذا أفضل من هذا، وهذا أفضل من هذا، وفضل أحدهما يمنع مساواة الآخر له، فلأن يمنع كون الآخر أفضل بطريق الأولى.
وأيضا، فلو كان كماله موقوفًا على ذلك الغير، للزم أن يكون كماله موقوفًا على فعله لذلك الغير، وعلى معاونة ذلك الغير في كماله، ومعاونة ذلك الغير في كماله موقوف عليه؛ إذ فعل ذلك الغير، وأفعاله موقوفة على فعل المبدع لا تفتقر إلى غيره، فيلزم ألا يكون كماله موقوفًا على غيره.
فإذا قيل: كماله موقوفًا على مخلوقه، لزم ألا يتوقف على مخلوقه، وما كان ثبوته مستلزمًا لعدمه كان باطلاً من نفسه.
وأيضًا، فذلك الغير كل كمال له فمنه وهو أحق بالكمال منه، ولو قيل يتوقف كماله عليه لم يكن متوقفًا إلا على ما هو من نفسه، وذلك متوقف عليه لا على غيره.
وإن قيل: ذلك الغير ليس مخلوقًا بل واجبًا آخر قديمًا بنفسه.
فيقال: إن كان أحد هذين هو المعطي دون العكس، فهو الرب، والآخر عبده.
وإن قيل: بل كل منهما يعطي للآخر الكمال، لزم الدور في التأثير وهو باطل، وهو من الدور القبلي، لا من الدور المعي الاقتراني فلا يكون هذا كاملا حتى يجعله الآخر كاملاً، والآخر لا يجعله كاملاً حتى يكون في نفسه كاملاً، لأن جاعل الكامل كاملاً أحق بالكمال ولا يكون الآخر كاملاً حتى يجعله كاملاً، فلا يكون واحدًا منهما كاملاً بالضرورة، فإنه لو قيل: لا يكون كاملاً حتى يجعل نفسه كاملاً، ولا يجعل نفسه كاملاً حتى يكون كاملاً لكان ممتنعا، فكيف إذا قيل: حتى يجعل ما يجعله كاملاً كاملاً؟!
وإن قيل: كل واحد له آخر يكمله إلى غير نهاية لزم التسلسل في المؤثرات، وهو
باطل بالضرورة واتفاق العقلاء. فإن تقدير مؤثرات لا تتناهي: ليس فيها مؤثر بنفسه لا يقتضي وجود شاء منها، ولا وجود جميعها، ولا وجود اجتماعها، والمبدع للموجودات لابد أن يكون موجودًا بالضرورة.
فلو قدر أن هذا كامل فكماله ليس من نفسه بل من آخر، وهلم جرا، للزم ألا يكون لشاء من هذه الأمور كمال، ولو قدر أن الأول كامل لزم الجمع بين النقيضين، وإذا كان كماله بنفسه لا يتوقف على غيره، كان الكمال له واجبًا بنفسه، وامتنع تخلف شاء من الكمال الممكن عنه، بل ما جاز له من الكمال وجب له، كما أقر بذلك الجمهور من أهل الفقه والحديث، والتصوف والكلام والفلسفة وغيرهم، بل هذا ثابت في مفعولاته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وكان ممتنعًا بنفسه أو ممتنعًا لغيره، فما ثم إلا موجود واجب إما بنفسه وإما بغيره، أو معدوم إما لنفسه وإما لغيره، والممكن أن حصل مقتضيه التام: وجب بغيره، وإلا كان ممتنعًا لغيره، والممكن بنفسه: إما واجب لغيره، وإما ممتنع لغيره.
وقد بين الله سبحانه أنه أحق بالكمال من غيره، وأن غيره لا يساويه في الكمال، في مثل قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] وقد بين أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عَدَل هذا بهذا فقد ظلم.
وقال تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]، فبين أن كونه مملوكًا عاجزًا صفة نقص، وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا، وهذا لله، وذاك لما يعبد من دونه.
وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ
عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]، وهذا مثل آخر.
فالأول مثل العاجز عن الكلام، وعن الفعل الذي لا يقدر على شاء.
والآخر المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم، فهو عادل في أمره مستقيم في فعله.
فبين أن التفضيل بالكلام المتضمن للعدل والعمل المستقيم، فإن مجرد الكلام والعمل قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا، فالمحمود هو الذي يستحق صاحبه الحمد، فلا يستوى هذا والعاجز عن الكلام والفعل.
يقول تعالى: إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك يشارك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم؟
وهذا يبين أنه تعالى أحق بكل كمال من كل أحد، وهذا كقوله:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} [النحل: 5862] حيث كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وهم يكرهون أن يكون لأحدهم بنت فيعدون هذا نقصًا وعيبًا.
والرب تعالى أحق بتنزيهه عن كل عيب ونقص منكم، فإن له المثل الأعلى، فكل كمال ثبت للمخلوق، فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان مجردًا عن النقص، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص وعيب، فالخالق أولى بتنزيهه عنه.
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وهذا يبين أن العالم أكمل ممن لا يعلم، وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 19: 22] فبين أن البصير أكمل، والنور أكمل، والظل أكمل، وحينئذ فالمتصف به أولى {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [النحل: 60].
وقال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]، فدل ذلك على أن عدم التكلم والهداية نقص، وأن الذي يتكلم ويهدي أكمل ممن لا يتكلم ولا يهدي، والرب أحق بالكمال.
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35] فبين سبحانه بما هو مستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع ممن لا يهتدي إلا أن يهديه غيره، فلزم أن يكون الهادي بنفسه هو الكامل، دون الذي لا يهتدي إلا بغيره.
وإذا كان لابد من وجود الهادي لغير المهتدي بنفسه فهو الأكمل، وقال تعالى في الآية الأخرى:{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89] فدل على أن الذي يرجع إليه القول، ويملك الضر والنفع، أكمل منه.
وقال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، فدل على أن السميع البصير الغني أكمل، وأن المعبود يجب أن يكون كذلك.
ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب صفات الكمال، كعدم التكلم والفعل، وعدم الحياة، ونحو ذلك مما يبين أن المتصف بذلك منتقص معيب كسائر الجمادات، وإن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب.
وأما رب الخلق الذي هو أكمل من كل موجود فهو أحق الموجودات بصفات الكمال، وأنه لا يستوى المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها، وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات.
فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف، فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة، التي عابها الله تعالى وعاب عابديها.
ولهذا كانت القرامطة الباطنية من أعظم الناس شركًا، وعبادة لغير الله، إذ كانوا لا يعتقدون في إلههم أنه يسمع أو يبصر، أو يغني عنهم شيئًا.
والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد وهما: إثبات صفات الكمال، ردًا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردًا على المشركين.
والشرك في العالم أكثر من التعطيل، ولا يلزم من إثبات [التوحيد] المنافي للإشراك إبطال قول أهل التعطيل، ولا يلزم من مجرد الإثبات المبطل لقول المعطلة الرد على المشركين إلا ببيان آخر.
والقرآن يذكر فيه الرد على المعطلة تارة، كالرد على فرعون وأمثاله، ويذكر فيه الرد على المشركين وهذا أكثر؛ لأن القرآن شفاء لما في الصدور. ومرض الإشراك أكثر في الناس من مرض التعطيل، وأيضًا فإن الله سبحانه أخبر أن له الحمد، وأنه حميد مجيد، وأن له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم، ونحو ذلك من أنواع
المحامد"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما المقدمة الثانية فنقول: لابد من اعتبار أمرين:
أحدهما: أن يكون الكمال ممكن الوجود.
والثانى: أن يكون سليمًا عن النقص، فإن النقص ممتنع على الله.
لكن بعض الناس قد يسمى ما ليس بنقص نقصًا.
فهذا يقال له: إنما الواجب إثبات ما أمكن ثبوته من الكمال السليم عن النقص، فإذا سميت أنت هذا نقصًا وقدر أن انتفاءه يمتنع، لم يكن نقصه من الكمال الممكن، و [الذات] التي لا تكون حية عليمة قديرة سميعة بصيرة متكلمة، ليست أكمل من الذات التي تكون حية عليمة سميعة بصيرة متكلمة.
وإذا كان صريح العقل يقضي بأن الذات المسلوبة هذه الصفات ليست مثل الذات المتصفة، فضلاً عن أن تكون أكمل منها، ويقضي بأن الذات المتصفة بها أكمل، علم بالضرورة امتناع كمال الذات بدون هذه الصفات.
فإن قيل بعد ذلك: لا تكون ذاته ناقصة مسلوبة الكمال إلا بهذه الصفات.
قيل: الكمال بدون هذه الصفات ممتنع، وعدم الممتنع ليس نقصًا، وإنما النقص عدم ما يمكن.
وأيضًا، فإذا ثبت أنه يمكن اتصافه بالكمال، وما اتصف به وجب له، وامتنع تجرد ذاته عن هذه الصفات، فكان تقدير ذاته منفكة عن هذه الصفات تقديرًا ممتنعًا. وإذا قدر للذات تقدير ممتنع، وقيل: إنها ناقصة بدونه، كان ذلك مما يدل على امتناع ذلك التقدير، لا على امتناع نقيضه، كما لو قيل: إذا مات كان ناقصًا، فهذا يقتضي
(1)
الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال ص 12 - 19.
وجوب كونه حيًا، كذلك إذا كان تقدير ذاته خالية عن هذه الصفات يوجب أن تكون ناقصة، كان ذلك مما يستلزم أن يوصف بهذه الصفات"
(1)
.
ومسألة التقابل سيأتي مزيد ذكر لها في القاعدة السابعة من كلام المصنف كذلك فيحسن التنبه لذلك.
الاتفاق في المسميات في بعض الأسماء والصفات لا يوجب تماثلها
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وقيل له أيضًا: اتفاق المسمّيَين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل، الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق، مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يَشركه فيه مخلوق، ولا يُشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وأما ما نفيتَه فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهًا وتجسيمًا تمويه على الجهال، الذين يظنون أن كل معنى سماه مسمٍّ بهذا الاسم يجب نفيه. ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس، ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل.
وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغي والضلالة".
(1)
الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال ص 20 - 22.
الشرح
كلام المصنف سبق توضيحه عند الكلام عن قاعدة القدر المشترك بشكل موسع وشامل.
وأعيد بعض ما ذكر هناك بشيء من الاختصار فهذه المسألة هي ما يطلق عليه قاعدة أنه لا يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مُسَمَّاهما.
فالأسماء التي تُطلق على الله وعلى العباد هي من الألفاظ المتواطئة التواطؤ المشُكك؛ فالحق فيها هو أن يقال: إنه بالنسبة للأسماء والصفات التي تُطلق على الله وعلى العباد؛ كـ (الحي، والسميع، والبصير، والعليم، والقدير، والحياة، والسمع، والبصر، والعلم) ونحوها هي حقيقة في الرب وحقيقة في العبد.
ولكن للرب تعالى منها ما يليق بجلاله.
وللعبد منها ما يَليق به.
وذلك لأن «الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول: اعتبار مِنْ حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد.
الاعتبار الثاني: اعتباره مضافًا إلى الربِّ مختصًّا به.
الاعتبار الثالث: اعتباره مضافًا إلى العبد مقيدًا به.
فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتًا للرب والعبد، وللرب منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به.
وهذا كاسم (السميع) الذي يلزمه إدراك المَسموعات.
و (البصير) الذي يلزمه رؤية المُبصرات.
و (العليم) و (القدير) وسائر الأسماء.
فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه الأسماء لذاتها؛ فإثباتها للرب تعالى لا محذور فيه بوجهٍ، بل يثبت له على وجهٍ لايماثله فيه خَلْقُه ولا يُشابههم.
فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق أَلْحَدَ في أسمائه وجَحَد صفات كماله، ومَن أثبته على وجهٍ لا يُماثل فيه خلقه به-كما يليق بجلاله وعظمته-فقد بَرِئ من فرث التَّشبيه ودم التعطيل، وهذا طريقُ أهل السنة.
وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيُه عن الله كما يلزم حياة العبد من النَّوم والسِّنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك، وكذلك ما يَلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به، وكذلك ما يلزم عُلوَّه من احتياجه إلى ما هو عال عليه وكونه محمولاً به، مفتقرًا إليه، محاطًا به، كل هذا يجب نفيه عن القُدُّوس السَّلَام تبارك وتعالى.
وما لزم الصفة من جهة اختصاصه تعالى بها فإنَّه لا يثبت للمخلوق بوجهٍ؛ كعلمه الذي يلزمه القِدَم والوجوب والإحاطة بكلِّ معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإنَّ ما يختص به منها لا يُمكن إثباته للمخلوق.
فإذا أحطت بهذه القاعدة خُبرًا وعَقَلْتَها كما ينبغي-خَلصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين:
1 -
آفة التعطيل. 2 - وآفة التشبيه.
فإنك إذا وَفَّيت هذا المقام حقَّه من التصور أَثْبَتَّ لله الأسماء الحسنى والصفات العُلى حقيقة؛ فخلصت من التعطيل، ونَفيت عنها خصائص المخلوقين ومُشابهتهم، فخلصت مِنْ التشبيه؛ فتدبر هذا الموضع واجعله جُنَّتك التي تَرجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصَّواب»
(1)
.
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 164 - 166).
وقول المصنف: "وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغي والضلالة".
هذا يوضحه كلام الإمام ابن القيم الذي سبق ذكره في تقرير قاعدة القدر المشترك ونعيده هنا لقوة مناسبته لكلام المصنف حيث يقول:
"فأحظى الناس بالحق وأسعدهم به الذي يقع على الخصائص المميزة الفارقة ويلغي القدر المشترك فيحكم بالقدر الفارق على القدر المشترك ويفصله به.
وأبعدهم عن الحق والهدى من عكس هذا السير وسلك ضد هذه الطريق فألغى الخصائص الفارقة وأخذ القدر المشترك وحكم به على القدر الفارق.
وأضل منه من أخذ خصائص كل من النوعين فأعطاها للنوع الآخر.
فهذان طريقا أهل الضلالة اللتان يرجع إليهما جميع شعب ضلالهم وباطلهم.
مثال ذلك: أن أعداء الرسل المكذبين لهم الجاحدين لما جاءوا به من الحق لما أرادوا تلبيس الحق الذي جاءوا به بالباطل أخذوا بينه وبين الباطل قدرا مشتركا ثم ألغوا القدر الفارق وما اختص به أحد النوعين فقالوا هذا الرسول شاعر وكاهن ومجنون وطالب ملك ورياسة وصيت في العالم؛ فأخذوا قدرا مشتركا بين الشعر وبين كلامه الذي جاء به من الترغيب والترهيب وحسن التعبير عن المعاني باللفظ الذي يروق المسامع ويهز القلوب ويحرك النفوس.
فقالوا: هو شاعر وهذا شعر وضربوا عن الخصائص الفارقة صفحا.
وقالوا: هو كاهن لأن الكاهن كان عندهم معروفا بالإخبار عن الأمور الغائبة
التي لا يخبر بها غيره وكذلك هذا المدعي لذلك مثله.
وقالوا: مجنون لأن المجنون يقول ويفعل خلاف ما اعتاده الناس.
وقالوا: ساحر لأن الساحر يأخذ بالقلوب والعيون ويحبب تارة وينفر أخرى؛ ولهذا قال لهم الوليد بن المغيرة وقد سألوه ماذا يقولون للناس في أمر محمد، ففكر وقدر ورأى أن أقرب ما يقولون هو ساحر لأنه يفرق بين المرء وزوجه، ومحمد يفعل ذلك فإن المرأة إذا أسلمت دون زوجها أو أسلم زوجها دونها وقعت الفرقة بينهما والعداوة.
وكذلك قولهم عن القرآن: أساطير الأولين أخذوا قدرا مشتركا بينهما وهو جنس الإخبار عما أخبر عنه الأولون.
وهكذا قولهم: هو طالب ملك ورياسة وصيت.
والمقصود أن كل مبطل فإنه يتوصل إلى باطله بهذه الطريق، ثم يلبس ما يدعو إليه خصائص الحق وما ينفر عنه خصائص الباطل، وهذا شأن الساحر فكلامه يخرج الحق في صورة الباطل فينفر عنه، والباطل في صورة الحق فيرغب فيه"
(1)
.
مناقشة نفاة الصفات في تسمية تعطيلهم توحيدا
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع.
قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق،
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة 4/ 1216 - 1218
ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟، فهذه معان متعددة متغايرة في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيدًا.
فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيبًا ممتنعًا.
قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة وليس هو تركيبًا ممتنعًا.
وذلك أنه من المعلوم بصريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالمًا هو معنى كونه قادرًا، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالمًا قادرًا، فمن جوَّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوّز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحدًا بالعين لا بالنوع. وحينئذ، فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب، كان وجود كل مخلوق- يُعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم، وإذا قدّر هذا، كان الوجود الواجب موصوفًا بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود، الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير.
وهذا باب مطرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئًا- فرارًا مما هو محذور- إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فرّ منه، فلا بدّ له في آخر الأمر من أن يثبت موجودًا واجبًا قديمًا متصفًا بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلا لخلقه، فيقال له: وهكذا القول في جمع الصفات، وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلا بدّ أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسمّيات، ولولا ذلك لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما
يخطر بالبال أو يدور في الخيال".
الشرح
قول المصنف: "وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع".
وفي هذا النص عدة أمور:
الأمر الأول: تعريف حجة التركيب.
حجة التركيب: هي حجة الفلاسفة في نفي الصفات وقال بها ابن سينا وأتباعه، وكذلك الرازي
(1)
، وقال بها أبو الهذيل العلاف وهو من أئمة المعتزلة
(2)
قال أبو حامد الغزالي، بعد أن فصل القول في حجة التركيب التي احتج بها الفلاسفة وبين حقيقة مذهبهم في الصفات قال:"إن المعتزلة وافقوا الفلاسفة على قولهم في الصفات"
(3)
.)
ونصها: لو كان له صفة لكان مركبًا، والمركب يفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه غيره، والمفتقر إلى غير لا يكون واجبًا بنفسه
(4)
.
الأمر الثاني: الرد عليهم.
أولًا: ألفاظ هذه الحجة كلها ألفاظ مجملة بمعنى أن كل لفظ منها محتمل لعدة معان، ولابد من توضيح المراد من كل لفظ أولًا حتى يتكلم فيها
• لفظ "التركيب"
(1)
انظر: الصفدية ص 101.
(2)
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 485).
(3)
المنقذ من الضلال (107).
(4)
منهاج السنة 1/ 188.
فلفظ التركيب: ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تركيب في الكيفية، له أنواع
النوع الأول: التركيب من الوجود والماهية.
فلا يكون له حقيقة سوى الوجود المطلق بشرط الاطلاق لأنه لو كان له حقيقة مغايرة لذلك لكانت موصوفة بالوجود وحينئذ فيكون الوجود الواجب لازما ومعلولا لتلك الحقيقة فيكون الواجب معلولا.
النوع الثاني: التركيب من العام والخاص.
كتركيب النوع من الجنس والفصل وهذا يجب نفيه.
النوع الثالث: التركيب من الذات والصفات.
وهذه الثلاث تركيبات في الكيفية.
القسم الثاني: التركيب في الكم.
وهو نوعان:
النوع الأول: التركيب الحسي.
وهو تركيب الجسم من أبعاضه إما من الجواهر المفردة وهو التركيب الحسي.
النوع الثاني: التركيب العقلي.
وهو تركيب الجسم من المادة والصورة
وحجة التركيب هي من أبطل الكلام وذلك بأن يقال لفظ التركيب يحتمل معان متجددة بحسب الاصطلاحات هي:
1) فيقال المركب لما ركبه غيره كما قال تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} .
ويقال ركبت الباب في موضعه ونحو ذلك وهذا هو مفهوم المركب في اللغة.
2) وقد يقال: المركب لما كان متفرقا فجمع كجمع الأغذية والأدوية المركبة.
3) وقد يقال: المركب لما يمكن تفريق بعضه عن بعض كأعضاء الإنسان وإن لم يعهد له حال تفريق في الابتداء.
4) وقد يقال: المركب لما يشار إليه كالشمس والفلك قبل أن يعلم جواز الانفكاك عنه
5) وقد يقال: المركب لما جاز أن يعلم منه شيء دون شيء كما يعلم كونه قادرا قبل أن يعلم كونه سميعا بصيرا.
وإذا كان كذلك فمعلوم أنهم إذا قالوا: إن أثبات الصفات تستلزم التركيب لم يريدوا به الأول والثاني فإن أثبات الصفات لازم لله تعالى فيمتنع زوال صفات الكمال عنه ويمتنع أن يجوز عليه خلاف الصمدية كالتفرق ونحوه فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد.
فنقول هذه الأمور ليست تركيبا في الحقيقة وبتقدير أن تكون تركيبا كما تدعونه فلا دليل لكم على نفيها بل الدليل يقتضي إثبات المعاني التي سميتموها تركيبا
• لفظ "الجزء"
وكذلك إذا قالوا المركب مفتقر إلى أجزائه فلفظ الجزء قد يعني به:
1) ما جمع إلى غيره حتى حصلت الجملة كالواحد من العشرة وكجزء الطعام والثياب.
2) وقد يعني بالجزء ما كان بعضا لغيره وإن لم يعلم انفراده عنه أو لم يمكن انفراده عنه وقد يدخلون في هذه الحياة اللازمة للحي والعلم اللازم للعالم كما يقولون الحيوانية والناطقية جزءا الإنسان وهما نعتان لازمان له لا يمكن وجوده
بدونهما.
• لفظ "الافتقار".
وكذلك لفظ الافتقار يراد به:
1) افتقار المعلول إلى علته والمصنوع إلى صانعه.
2) ويراد به افتقار الصفة إلى محلها الذي تقوم به.
3) وقد يعني به التلازم وهو استلزام الموصوف لصفات كماله.
• لفظ "الغير"
وكذلك لفظ الغير قد يراد به:
1) المباين للشيء.
2) وقد يعني به ما يعلم الشيء بدونه.
ولهذا لما تنازع الناس في صفات الله تعالى بل في صفة كل موصوف وبعض كل مجموع هل يقال أنه غير له أم لا فقالت طائفة صفة الموصوف وبعض الجملة ليس غيرا له لأنه لا يوجد إلا به وقال بعضهم بل هو غير له لأنه يمكن العلم به دونه كان هذا نزاعا لفظيا فامتنع السلف والأئمة أن يطلقوا على صفات الله كلامه وعلمه ونحو ذلك أنه غير له أو أنه ليس غيره.
ثانيًا: أن نقول لا دليل لكم على نفي هذه المعاني التي سميتموها تركيبا وذلك أن عمدتهم في نفي التركيب أنهم يقولون أن المركب مفتقر إلى جزئه وجزءه غيره وواجب الوجود لا يكون مفتقرا إلى غيره وهذا الكلام اعتمد عليه ابن سينا وأتباعه كالرازي وغيره وبنوا عليه النفي والتعطيل وهو من أبطل الكلام.
ومما يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقد ثبت عنه أنه حلف بعزة الله والحلف بعمر الله، ونحو ذلك من صفاته فعلم أن الحالف بصفاته ليس حالفا بغيره، ولو كانت الصفة يطلق عليها القول بأنها غيره، لكان الحلف بها حلفا بغيره، وإذا قال القائل الحالف بصفته حالف به، لأن الصفة تستلزم الموصوف وهو المقصود باليمين، قيل لهم فلهذا لم يدخل في إطلاق القول بأنها غير الله فعلمه لازم له وملزوم له وكلامه لازم له وملزوم له والصفة داخلة في مسمى الموصوف، فإذا قال القائل عبدت الله وذكرت الله ونحو ذلك فاسم الله متضمن لصفاته اللازمة لذاته فإذا قيل أنها غير الله فقد يفهم منه أنها خارجة عن مسمى اسمه وهذا باطل، ولهذا قد يقال أنها غير الذات، ولا يقال أنها غير الله، لأن لفظ الذات يشعر بمغايرته للصفة، بخلاف اسم الله تعالى فإنه متضمن لصفات كماله، وقولنا أنه مغاير للذات لا يتضمن جواز وجوده دون الذات فإنه ليس في الخارج ذات منفكة عن صفات، ولا صفات منفكة عن ذات، بل ذلك ممتنع لنفسه.
ومن قال من أهل الأثبات أن له صفات زائدة على ذاته فحقيقة قوله أنها زائدة على ما أثبته المثبت من الذات حيث أقر بذات ولم يقر بصفاتها، وإلا ففي الخارج ليس هناك ذات منفكة عن صفات حتى يقال أن الصفات زائدة عليها بل لفظ الذات في الأصل تأنيث ذو كقوله {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وهي تستلزم الإضافة، ولكن المتكلمون قطعوه عن الإضافة وعرفوه فقالوا الذات وحقيقته التي لها صفات فحيث قيل لفظ الذات كان مستلزما للصفات ويستحيل وجود ذات منفكة عن الصفات في الخارج وفي العقل وفي اللغة ومن قدر ذاتا بلا صفات فهو تقدير محال كما يقدر سواد ليس
بلون وعلم بلا عالم وعالم بلا علم ونحو ذلك من الأمور الممتنعة وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هذه الحجة التي ينفون بها الصفات ويعتمدون على نفي مسمى التركيب هي مبنية على ألفاظ مجملة مشتركة موهمة فإذا قالوا إثبات الصفات تركيب والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ليس بواجب بنفسه قيل لهم إن أردتم بالغير غيرًا مباينًا له فهذا باطل وإن أردتم ما هو داخل في مسمى اسمه كان حقيقة قولكم المركب لا يوجد إلا بوجود جزئه والمجموع لا يوجد إلا بوجود بعضه والجملة لا توجد إلا بوجود أفرادها
ومن المعلوم أن القائل إذا قال الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه كان هذا صحيحا وكذلك إذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في نفسه مما يسمى صفات وأجزاء ونحو ذلك، فإذا قيل أن هذا يقتضي افتقاره إلى غيره كان من المعلوم أن هذا دون افتقاره إلى نفسه فإن نفسه إذا كانت لا توجد إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بوجود ما يدخل في نفسه أولى، وإذا قيل لم يوجد إلا بنفسه لم يمنع هذا أن يكون واجبا بنفسه، وإذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في مسمى نفسه كان هذا أولى أن لا يمنع كونه واجبا بنفسه لأن الافتقار إلى المجموع أعظم من الافتقار إلى الجزء ومن افتقر إلى مجموع العشرة كان افتقاره أبلغ من افتقار من افتقر إلى واحد من العشرة فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بالمجموع ولا يمنع هذا أن يكون المجموع مفتقرا إلى نفسه فلأن لا يمنع كون المجموع مفتقرا إلى فرد من أفراده أولى وأحرى
وإذا قيل جزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ممكن بنفسه قيل إن أريد بذلك أن المفتقر إلى المباين له ممكن بنفسه فليس هذا مورد كلامنا، وإن أريد أن المفتقر إلى
ما يدخل في نفسه ممكن بنفسه كان هذا ممنوعا بل كان معلوم الفساد بالضرورة فإن افتقاره إلى ما يدخل في نفسه ليس بأعظم من افتقاره إلى نفسه وإذا كان هو موجود بنفسه بمعنى أنه لا يفتقر إلى مباين له لم يلزم من هذا ألا تفتقر نفسه إلى نفسه فكذلك لا يلزم ألا تفتقر إلى ما يدخل في مسمى نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه فله معينان أحدهما أنه مفتقر إلى أن يفعل نفسه ونحو ذلك فهذا ممتنع لذاته فإن الشيء لا يكون فاعلا لنفسه والعلم بذلك ضروري وإن أريد بذلك أن نفسه لا تكون إلا بنفسه ولا تستغني عن نفسه ويمتنع وجود نفسه بدون نفسه فهذا صحيح لا بد منه
وإذا قيل هو مفتقر إلى ما يدخل في نفسه سواء سمي صفة أو جزءا أو غير ذلك قيل أتريد به أن ذلك الجزء يكون فاعلا له أو ما يشبه هذا فهذا ممتنع باطل ولا يقوله عاقل وإن أردت بذلك أنه لا يكون موجودا إلا بوجود ذلك وأنه يمتنع وجوده بدونه ونحو ذلك كان ما يقدر في هذا دون ما يقدر في نفسه وإذا كان لا توجد نفسه إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بما يدخل في نفسه بطريق الضرورة وإذا كان ذلك أمرا واجبا لا محذور فيه فهذا بطريق الأولى وإذا كان تقدير استغناء نفسه عن نفسه يوجب عدمه فكذلك تقدير وجوده بدون ما هو داخل في مسمى نفسه مما هو لازم له يوجب عدمه بالحقيقة فهذه الأمور التي نفوها عن الوجود الواجب توجب عدمه وامتناعه ولهذا كانوا من أعظم الناس تناقضا حيث وصفوا واجب الوجود بممتنع الوجود ولهذا جعلوه وجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما صرح بذلك ابن سينا وأتباعه
وهم قد قرروا في منطقهم اليوناني ما هو معلوم بصريح العقل أن المطلق بشرط الإطلاق إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالإنسان المطلق بشرط الإطلاق والجسم المطلق بشرط الإطلاق والحيوان المطلق بشرط الإطلاق وهذا قصدوا به
التمييز بين هذا وبين الوجود الذي هو موضوع الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم وهو العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه فإن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وقائم بنفسه وقائم بغيره ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فكان هذا الوجود يعم القسمين الواجب والممكن وهذا هو المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي فجعلوا أحد القسمين وهو الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق وكذلك جعل العدم المحض هو المميز للوجود الواجب عن الممكن يوجب كون العدم المحض فصلا أو خاصة وهذا أيضا باطل فإن الأمرين المشتركين في الوجود لا يكون المميز لأحدهما عن الآخر إلا أمرا وجوديا ولو قدر أنه عدمي لكان الواجب قد امتاز بأمر عدمي والممكن امتاز بوجودي والوجود أكمل من العدم فيكون كل ممكن مخلوق على قول ابن سينا أكمل من الموجود الواجب القديم لأنهما اشتركا في الوجود وتميز الرب بعدم الأمور الثبوتية وتميز المخلوق بأمور وجودية
وهذا الكلام عندهم هو غاية التوحيد والتحقيق والحكمة وهو غاية التعطيل والكفر والجهل والضلال وذلك أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهم يسلمون هذا ويقررونه في منطقهم ويقولون الكلي ثلاثة أنواع
الكلي الطبيعي
والمنطقي
والعقلي
فالطبيعي هو الحقيقة المطلقة كالإنسانية والحيوانية وأما المنطقي فهو ما يعرض لهذه من العموم والكلية
والعقلي هو المركب منهما وهو الطبيعي بشرط كونها كلية فهذا العقلي لا يوجد إلا في الذهن وكذلك المنطقي
وأما الطبيعي فيقولون أنه موجود في الخارج لكن لا يوجد إلا معينا مشخصا
ويقولون أنه جزء المعين وأن الماهية في الخارج زائدة عن الوجود الثابت في الخارج ويذكرون عن أصحاب أفلاطن أنهم أثبتوا الكلي العقلي في الخارج مجردا عن الأعيان وشنعوا عليهم تشنيعا عظيما ومن قال إن الرب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ويردون على أصحاب أفلاطن الذين أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان ويقولون هي ثابتة في الأذهان لا في الأعيان وعند هؤلاء بتقدير ثبوت هذه الكليات في الخارج فلا بد أن تكون لها أعيان ثابتة في الخارج مجردة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق لكان كليا شاملا عاما وله أعيان ثابتة في الخارج بالضرورة ويكون متناولا للواجب والممكن كتناوله للقديم والحادث والجوهر والعرض وكتناول سائر المعاني الكلية أفرادها سواء سميت جنسا أو نوعا او فصلا أو خاصة أو عرضا عاما فيمتنع أن تكون هذه الكليات العامة هي الأعيان الموجودة الداخلة فيها ولذلك إذا قدر أن المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي موجود في الخارج فإنه لا يوجد إلا معينا والمعين ليس هو المطلق غايتهم أن يقولوا هو جزء منه أو صفة له فيلزم أن يكون رب العالمين جزءا من المخلوقات أو صفة لها
وهؤلاء غلطوا من وجهين من جهة ظنهم أن في الخارج أمورا مطلقة كلية وليس كذلك بل ما يتصوره الذهن مطلقا كليا يوجد في الخارج لكن يوجد معينا مختصا والثاني أنه لو قدر أن في الخارج مطلقا كليا فلا ريب أن كل موجود معين مشخص مختص مميز عن غيره وليس هذا هو هذا ولا وجود هذا وجود هذا فكيف يكون وجودها وجود رب العالمين فلا بد على كل تقدير من إثبات موجود واجب بنفسه مغاير لهذا المطلق سواء قيل بوجود الكليات المطلقة المفارقة للأعيان كما يقوله أصحاب أفلاطن أو قيل بأنها لا توجد إلا مقارنة ملازمة
للأعيان كما يقوله أصحاب أرسطو
وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود لما قال من قال منهم أنه الوجود المطلق كابن سبعين والقونوي وأمثالهما قال من قال منهم كالقونوي أنه المطلق لا بشرط ليكون موجودا في الخارج وهذا باطل أيضا فإن الموجود المطلق لا بشرط يتناول القسمين الواجب والممكن فيكون الممكن داخلا في مسمى واجب الوجود
وهم إنما فرقوا بينهما بناء على أن وجود الممكن زائد على حقيقته وهو باطل وأن الواجب إنما يتميز بقيود سلبية والسلوب لا تكون مميزة عندهم بل لا يحصل التمييز في الموجودين إلا بأمور وجودية ولأن المطلق عند من يقول بوجوده في الخارج جزء من المعين فيكون رب العالمين جزءا من كل مخلوق ولأن الخارج لا يوجد فيه كلي ولا مطلق إلا معينا مشخصا ولكن ما هو كلي في الأذهان يكون موجودا في الأعيان لكن معينا ومشخصا وأيضا فهؤلاء الذين يقولون إن واجب الوجود مطلق أو مقيد بالأمور السلبية كابن سينا وأهل الوحدة وغيرهم هم في الحقيقة لا يثبتون له حقيقة ولا صفة ولا قدرا الموجود لا بد له من حقيقة تخصه مستلزمة لصفته وقدره فهم من أعظم الناس تعطيلا للخالق وجحودا له وإن كانوا يعتقدون أنهم يقرون به وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع
والرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل وهؤلاء ناقضوهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فإن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه حكيم عزيز غفور ودود وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا وأنه أنزل على عبده الكتاب إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وقال في النفي والتنزيه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}
[مَرْيَمَ الآية: 65]، وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فقالوا في النفي ليس بكذا ولا كذا ولا كذا فلا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا له كلام يقوم به ولا له حياة ولا علم ولا قدرة ولا غير ذلك ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه ولا داخلة ولا خارجة إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم ثم قالوا في الإثبات هو وجود مطلق أو وجود مقيد بالأمور السلبية وقالوا لا نقول موجود ولا معدوم أو قالوا هو لا موجود ولا معدوم فتارة يرفعون النقيضين وتارة يمتنعون من إثبات أحد النقيضين ثم تارة يسلكون هذا المسلك في نفي الموجود وتارة فيما يوصف به الموجود من الحياة والعلم والقدرة والكلام وسائر الصفات فنفوا الحقيقة وصاروا يعبرون عن المعاني الثبوتية بأنها تركيب كما تقدم وقد ذكرنا أن تسمية هذا تركيبا أمر اصطلحوا عليه وإلا فإثبات هذه المعاني لا يسمى في اللغة المعروفة تركيبا فإن المركب لا يعقل إلا فيما ركبه مركب وهذا المعنى ممتنع فيما هو موجود بنفسه غني عن كل ما سواه وهو الفاعل لكل ما سواه وكل ما سواه مخلوق له فإذا قدر أنه متصف بصفات متعددة لم يكن أحد ركبه ولا ركبها فيه والناس قد تنازعوا في الأجسام المخلوقة كالكواكب والفلك والهواء والماء وغير ذلك فقيل هي مركبة من الجواهر المنفردة وقيل مركبة من المادة والصورة ومنه من فرق بين الجسم الفلكي والعنصري والصواب عند محققي الطوائف أنها ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا وهذا قول أكثر أهل الطوائف أهل النظر مثل الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وطائفة من الكرامية وغيرهم
وقد تنازع الناس في الجسم هل يقبل القسمة إلى غاية محدودة هي الجوهر الفرد أو يقبل القسمة إلى غير غاية أو يقبل القسمة إلى غاية من غير إثبات الجوهر
الفرد على ثلاثة أقوال
والثالث والصواب فإن إثبات الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة باطل بوجوه كثيرة إذ ما من موجود إلا ويتميز منه شيء عن شيء وإثبات انقسامات لا تتناهى فيما هو محصور بين حاصرين ممتنع لامتناع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى وامتناع انحصاره فيه لكن الجسم كالماء يقبل انقسامات متناهية إلى أن تتصاغر أجزاؤه فإذا تصاغرت استحالت إلى جسم آخر فلا يبقى ما ينقسم ولا ينقسم إلى غير غاية بل يستحيل عند تصاغره فلا يقبل الانقسام بالفعل مع كونه في نفسه يتميز منه شيء عن شيء وليس كل ما تميز منه شيء عن شيء لزم أن يقبل الانقسام بالفعل بل قد يضعف عن ذلك ولا يقبل البقاء مع فرط تصاغر الاجزاء لكن يستحيل إذ الجسم الموجود لا بد له من قدر ما ولا بد له من صفة ما فإذا ضعفت قدره عن اتصافه بتلك الصفة انضم إلى غيره إما مع استحالة إن كان ذلك من غير جنسه وإما بدون الإستحالة إن كان من جنسه كالقطرة الصغيرة من الماء إذا صغرت جدا فلا بد أن تستحيل هواء أو ترابا أو أن تنضم إلى ماء آخر وإلا فلا تبقى القطرة الصغيرة جدا وحدها وكذلك سائر الأجزاء الصغيرة جدا من سائر الأجسام وهذا مبسوط في موضعه ولكن نبهنا عليه هنا لأن هذه الأمور هي مبدأ الاشتباه والتنازع والاضطراب في هذه الأبواب فإذا كان ما ادعوه من التركيب الحسي في الأجسام المشهدوة باطلا فكيف في الأمرو الغائبة التي لا تعلم حقيقتها فكيف بما يدعونه من التركيب العقلي كقولهم لو كان له حقيقة لكان الوجود صفة لها فكان مركبا وكان الوجود الواجب معلولا لغيره فإنه يقال لهم بل له حقيقة تخصه يمتاز بها عن كل ما سواه بل كل موجود له حقيقة تخصه فالخالق أولى بذلك وأما قولهم يكون الوجود صفة لها فهذا إنما يقال أن لو كان الوجود مصدر وجد وجودا أو وجدته وجودا.
ولا ريب أن لفظ الوجود في اللغة هو مصدر وجد يجد وجودا كما في قوله
تعالى {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} ولكن أهل النظر والعلم إذا قالوا هذا موجود لم يريدوا أن غيره وجده يجده ولا يريدون أن غيره جعل له وجودا قائما به بل يريدون به أنه حق ثابت ليس بمعدوم ولا منتف فإذا قيل هذا الإنسان موجود لم يكن المراد أن هذا الإنسان قام به وجود يكون صفة لهذا الإنسان بل قولنا هذا الإنسان موجود أي ثابت متحقق ليس بمعدوم ولا منتف وليس وجوده في الخارج فدرا زائدا على حقيقته الموجودة في الخارج بل الحقيقة التي هي ماهيته الموجودة في الخارج هي وجوده الثابت في الخارج وأما إذا أريد بالحقيقة ما يتصور في الذهن وهي الماهية الذهنية كما يتصور المثلث في الذهن قبل ثبوته في الخارج فالماهية الثابتة في الأذهان مغايرة للحقيقة الموجودة في الأعيان فمن قال أن وجود كل شيء عين ماهيته كما يقوله متكلمو أهل الأثبات فقد أصاب إذا أراد أن الوجود الثابت في الخارج هو الماهية الثابتة في الخارج ومن قال ان وجود كل شيء غير ماهيته كما يقوله أبو هاشم بن الجبائي وأمثاله فقد أصابوا إن أرادوا أن الوجود الثابت في الخارج مغاير للماهية الثابتة في الذهن وأما إن أرادوا ما هو المعروف من مذهبهم أن في الخارج ماهيات ثابتة وهو المعدوم الثابت في حال عدمه وأن الوجود صفة لتلك الماهية فهذا خطأ.
وأعظم خطأ من هؤلاء من فرق من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله وقالوا أن الممكن وجوده في الخارج زائد على ماهيته وأما الواجب فوجوده في الخارج عين ماهيته وإنما كان خطؤهم أعظم لأنهم أخطأوا من وجهين:
أحدهما إثبات حقائق في الخارج غير الموجودات الثابتة في الخارج
والثاني أنهم جعلوا الوجود الواجب وجودا مطلقا ليس له حقيقة سوى مطلق الوجود وأنه إنما يتميز عن غيره بأمور سلبية أو إضافية مع أنهم يقولون في منطقهم
أن الأمور السلبية والإضافية لا تميز بين المشتركين في أمر كلي وجودي وإنما يقع التمييز بأمور ثبوتية"
(1)
قول المصنف: "قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟، فهذه معان متعددة متغايرة في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيدًا".
أي على فرض التسليم بأن هذا تركيب، فأنتم أيضًا تقولون في الله: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، وهذه المعاني متعددة متغايرة المعنى، وأنتم تثبتونها لله فهو تركيب كذلك على مذهبكم وأنتم تسمونه توحيداً، وهذا غاية الاضطراب.
وهذه المعاني مع كونها دليلًا عليهم لم يرد بها النص وفيها ما ينزه عنه تعالى من النقص.
فالعقل: مأخوذ من المنع لأنه يضبط النفس لما فيها من القصور، وهذا لا يليق بالله تعالى.
والعشق: هو الحب المفرط المتعلق بالشهوة، وهذا باطل ينزه الله عنه.
واللذة: لم ترد بها النصوص الشرعية، فجميع هذه المعاني باطلة، وإن تعسفوا في تفسيرها.
وقول المصنف: "فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيبًا ممتنعًا.
قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة وليس هو تركيبًا ممتنعًا.
أي لو قال النفاة: إن هذه الإطلاقات (موجود واجب، وعقل عاقل ومعقول .... ) توحيد، وليست تركيبًا ممتنعًا.
(1)
انظر: الصفدية ص 101، 120.
فيقال لهم: وكذلك اتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد، وليس بتركيب ممتنع، بل هو أولى لدلالة النقل عليها وموافقة العقل لها.
وقول المصنف: "وذلك أنه من المعلوم بصريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالمًا هو معنى كونه قادرًا، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالمًا قادرًا، فمن جوَّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة".
أي أن زعمكم بأن جميع الصفات بمعنى واحد، وأنها هي عين ذاتها لا شيئاً زائداً، ويكون المنع بالإبطال من وجوه:
الوجه الأول: أنه من المعلوم بصريح العقل الاختلاف بين كون الشيء عالماً وبين كونه قادراً وبين نفس الذات ومعاني الصفات، فإن كون الموصوف عالماً قادراً زائداً على مجرد الذات.
فمن جوَّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى أو هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة وتمويهاً ومكابرة لصريح المعقول وصحيح المنقول.
وقول المصنف: "ثم إنه متناقض، فإنه إن جوّز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحدًا بالعين لا بالنوع. وحينئذ، فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب، كان وجود كل مخلوق- يُعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم".
الوجه الثاني: إن في قولهم هذا تناقض واضح، ووجهه: أنه إن لم يكن للواجب وهو الله تعالى صفات تميزه عن غيره لم يكن واجباً لأن الشيء المجرد عن جميع
الصفات ممتنع الوجود فلا يكون واجباً ضرورة، وهؤلاء إنما نفوا التركيب لأنه يستلزم عندهم نفي الوجوب فوقعوا ـ بنفي التركيب ـ في نفي الوجوب الذي فروا منه ووقعوا في التناقض الواضح الفاضح.
قول المصنف: "وإذا قدّر هذا، كان الوجود الواجب موصوفًا بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود، الذين طردوا هذا الأصل الفاسد".
الوجه الثالث: ثم إن جوزنا أن تكون الصفة هي عين الذات جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا؛ لأن صفة الخلق والإحداث تصبح هي عين الخالق فيكون المخلوق هو الخالق، وهذا يقتضي أن الوجود واحد بالعين أي متحد بين الخالق ومخلوقاته وليس مشتملاً على أفراد متنوعة، وهذا مدخل أهل وحدة الوجود، وهم: الذين لا يثبتون وجوداً متنوعاً بل عندهم وجود واحد والخالق هو المخلوق تعالى الله عن قولهم.
وعليه يكون وجود الممكن المخلوق هو عين وجود الواجب الذي لا يقبل العدم، وهذا القول هو الذي يفضي إليه زعمهم بأن الصفات عين الذات.
وقول المصنف: "وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير"
وبهذه العبارة ختم المصنف الأصل الأول وهو أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض، وبين أن في هذا الأصل رد وإبطال على كل تقدير لأقوال المعطلة بشتى أصنافهم وعلى اختلاف أقوالهم، ودرجات تعطيلهم سواء كان ذلك التعطيل جزئيًا أم كليًا.
o فرد بهذا الأصل على من أنكر بعض الصفات وأثبت البعض وهم الصفاتية من الكلابية والأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم.
o ورد على من أنكر الصفات وأثبت الأسماء وهم المعتزلة ومن وافقهم.
o ورد على من أنكر الأسماء والصفات وهم الجهمية والفلاسفة على تعدد مقولاتهم.
معنى قوله: (ليس كمثله شيء) لا في ذاته ولا في صفاته
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وهذا يتبين بالأصل الثاني، وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات.
الشرح
لما فرغ المصنف-رحمه الله-من بيان الأصل الأول في الرد على المعطلة، وهو:(القول في بعض الصفات كالقول في بعض) شرع هنا في بيان الأصل الثاني، وهو:(القول في الصفات كالقول في الذات)
وقد قصد المصنف بهذا الأصل الردَّ على جميع الذين أنكروا قيام الصفات بالذات، سواء كان إنكارهم لجميع الصفات أو لبعضها.
وفي هذا النص عدة أمور:
الأمر الأول: المقصود بلفظ الذات.
1) المعنى اللغوي.
لفظ "الذات" في أصل اللغة تأنيث ذو، وهذا اللفظ لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره كأسماء الأجناس، ويتوصلون به إلى الوصف بذلك فيقال: فلان ذو علم وذو مال وشرف.
2) المعنى الشرعي.
وحيث جاء لفظ ذو في القرآن أو لغة العرب وكذا لفظ "ذات" لم يجاء مقرونا إلا بالإضافة كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال الآية: 1]، وقوله:{عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة الآية: 7]، وقول خُبيب رضي الله عنه الذي في صحيح البخاري
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع
(1)
فاسم الذات في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والعربية المحضة بهذا المعنى.
3) المعنى الاصطلاحي.
أطلقه المتكلمون وغيرهم على النَّفْس، فإنهم لما وجدوا الله في القرآن قال:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة الآية: 116]، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه} [آل عمران الآية 28 [وصفوها فقالوا: نفس ذات علم، وقدرة، ورحمة، ومشيئة، ونحو ذلك. ثم حذفوا الموصوف وعرفوا الصفة فقالوا: الذات. وهي كلمة مولدة ليست من العربية العرباء
فهذا لفظ يقتضي وجود صفات تضاف الذات إليها
(2)
، فأطلق بإزاء النفس
(3)
الأمر الثاني: معنى عبارة: "القول في الصفات كالقول في الذات".
معنى هذا الأصل: أنه إذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات
(1)
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله عز وجل ح 7402
(2)
- مجموع الفتاوى 6/ 98، 341 (بتصرف)
(3)
- وانظر: درء تعارض العقل والنقل 4/ 140، 141
وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فيقال لهؤلاء: كما أنكم تثبتون لله تعالى ذاتًا حقيقة على ما يليق بجلاله من غير تشبيه لذات الخالق بذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ثابتة بنفس المنهج وبنفس الطريقة؛ إذ لا يعقل أن توجد ذاتٌ مجردة عن الصفات، فكما أن لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك لله صفاتٌ لا تشبه صفات المخلوقين.
وبهذه الطريقة نلزمهم إثبات الصفات على ما يليق بجلال الله وكماله، ولا ريب أن هذا الأصل ملزم للمعطلة جميعهم، فإما أن يثبتوا الصفات كما أثبتوا الذات من غير معرفة الكيفية، أو ينفوا الأسماء الواردة والصفات والذات، فيكونوا بذلك نافين لوجود الله؛ لأنه لا فرق بين الذات وبين الصفات من حيث الإثبات.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: «أما الكلام في الصفات: فإن ما رُوي منها في السنن الصحاح، مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها"
(1)
وقاعدة: ((القول في الصفات كالقول في الذات)) من جملة القواعد التي قررها علماء أهل السنة والجماعة وأشهرها، وهي أحد أدلة علماء أهل السنة في تقرير ثبوت الصفات والرد على من أنكرها،
الأمر الثالث: أدلة هذه القاعدة.
قد دل على هذه القاعدة الكتابُ العزيز، كما أجمع عليها علماء الأمة، وفيما يلي بيان ذلك:
أولًا: الدليل من الكتاب العزيز:
(1)
السابق واللاحق للخطيب بتحقيق الزهراني (ص: 13).
1 ـ قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم الآية: 27].
وجه الدلالة:
"فالله تعالى وصف نفسه بأن له المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق، المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلَّما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان بها أكمل وأعلى من غيره.
ولما كانت صفات الرب سبحانه وتعالى أكثر وأكمل، كان له المثل الأعلى وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق اثنان، لأنهما إن تكافآ من كل وجه، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافأ، فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير، وهذا برهان قاطع على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة"
(1)
.
2 ـ قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]. يقول ابن قتيبة: "أي: ليس كهو شيء، والعرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي: أنا لا يقال لي هذا"
(2)
. ويقول الزجاج: "هذه الكاف مؤكدة، والمعنى: ليس مثله شيء، ولا يجوز أن يقال: المعنى مثل مثله شيء؛ لأن من قال هذا فقد أثبت المثل لله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا"
(3)
.
وجه الدلالة:
في الآية الكريمة نفي صريح للمماثلة والمشابهة بين الله تعالى وبين مخلوقاته،
(1)
الصواعق المنزلة 3/ 1032، وشرح الطحاوية ص 144.
(2)
غريب القرآن لابن قتيبة (ص: 391).
(3)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 395).
فهو تعالى لا يماثله ولا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفة كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء؛ لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه"
(1)
.
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا كان له [تعالى] ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات"
(2)
.
ثانيًا: الإجماع:
يقول ابن أبي يعلى: "وقد أجمع أهل القبلة: أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأن إثبات الصفات للباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأنها صفات لا تشبه صفات البرية، ولا تدرك حقيقة علمها بالفكر والروية"
(3)
.
الأمر الرابع: تقرير العلماء لهذه القاعدة في عباراتهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - في بيان كثرة من نقل عنه تقرير هذه القاعدة ونصرها-: "وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحوًا منه من العلماء من لا يحصى عددهم: مثل أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السِّجزي، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب (منازل السائرين) و (ذم الكلام)، وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني، وأبي عمر بن عبد البر
(1)
تيسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي (ص: 754).
(2)
التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 43).
(3)
ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 208).
النمري إمام المغرب، وغيرهم"
(1)
.
(2)
وفيما يلي ذكر جملة من أقوال العلماء في تقرير هذه القاعدة؛ لبيان شهرتها عندهم.
1 - قول الإمام أبي الحسن عبد العزيز الكناني المكي (ت 240 هـ):
قال الإمام عبد العزيز الكناني في كتابه (الحيدة): "فقلت له [أي: لبشر المريسي]: قال الله عز وجل. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} [آل عمران: 185]، أفتقول: إن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس التي تذوق الموت؟! فصاح المأمون بأعلى صوته-وكان جهير الصوت-معاذَ الله، معاذَ الله، معاذَ الله، فقلت: إذًا-ورفعت صوتي-معاذَ الله معاذ الله أن يكون كلام الله داخلًا في الأشياء المخلوقة، كما أن نفسه ليست بداخلة في الأنفاس الميتة، وكلامه خارج عن الأشياء المخلوقة، كما أن نفسه خارجة عن الأنفس الميتة"
(3)
.
2 - قول الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ):
قال الإمام أحمد: "إنما التشبيه أن يقول: يد كيد أو وجه كوجه. فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار"
(4)
.
3 - قول الإمام أبي سليمان الخطابي (ت 388 هـ):
(1)
مجموع الفتاوى (5/ 59).
(2)
لمزيد من الاطلاع على أقوال العلماء انظر: بحث قاعدة القول في الصفات كالقول في الذات للباحث علاء إبراهيم عبد الرحيم.
(3)
الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 53 - 54).
(4)
ينظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم (1/ 230).
قال الخطابي في رسالته المشهورة (الغنية عن الكلام وأهله)
(1)
: "والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلومًا أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. ". هذا كله كلام الخطابي
(2)
.
4 - قول الإمام أبي نصر السِّجزي (ت 444 هـ):
قال أبو نصر السِّجزي: "واتفق المنتمون إلى السّنة بأجمعهم على أنه [يعني القرآن الكريم] غير مخلوق، وأنّ القائل بخلقه كافر، فأكثرهم قال: إنه كافر كفرًا ينقل عن الملة، ومنهم من قال: هو كافر بقول غير الحق في هذه المسألة. والصحيح الأوّل؛ لأن من قال: إنه مخلوق؛ صار منكرًا لصفة من صفات ذات الله عز وجل، ومنكر الصفة كمنكر الذات، فكفره كفر جحود لا غير"
(3)
.
وقال أيضًا: "الفصل الثامن: في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات"
(4)
.
5 - قول شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني (ت 449 هـ):
قال الشيخ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني في كتابه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث): "فلما صحَّ خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهًا له
(1)
انظر: صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام (1/ 137 - 147).
(2)
ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 167، 5/ 58 - 59).
(3)
رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 153).
(4)
المصدر السابق (ص: 281).
بنزول خلقه، ولم يبحثوا عن كيفيته؛ إذ لا سبيل إليها بحال، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوًّا كبيرًا، ولعنهم لعنًا كثيرًا"
(1)
.
6 - قول أبي يعلى الحنبلي (ت 457 هـ):
قال ابن أبي يعلى في كتابه (طبقات الحنابلة): "اعتقد الوالد السعيد [يعني: أبا يعلى محمد بن الحسين] ومن قبله ممن سبقه من الأئمة: أن إثبات صفات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد لها، حقيقة في علمه، لم يُطْلع الباري سبحانه على كنْه معرفتها أحدًا من إنس ولا جان، واعتقدوا: أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات ويحتذي حذوه ومثاله، وكما جاء"
(2)
.
7 - قول الخطيب البغدادي (ت 463 هـ):
أسند الحافظ الذهبي
(3)
عن الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي قوله: "أما الكلام في الصفات، فأما ما روي منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيف والتشبيه عنها.
والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، وإذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، فإنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف".
(4)
(1)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: 48).
(2)
طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 208).
(3)
في كتابه العرش (2/ 457 - 458)، كما أوردها الحافظ الذهبي في كتبه: العلو للعلي الغفار (ص: 253)، وسير أعلام النبلاء (18/ 283 - 284)، وتاريخ الإسلام (10/ 175)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1142 - 1143).
(4)
ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في جوابه عن سؤال أهل دمشق في الصفات، وقد طبعت هذه الرسالة في مكتبة العلم بجدة سنة 1413 هـ، كما وضعت في ذيل كتاب اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي (ص 64 - 65 ط. دار الريان).
8 - قول الإمام محيي السنة البغوي (ت 516 هـ):
قال الإمام أبو محمد البغوي الشافعي في كتابه (شرح السنة) -بعد ذكره جملةً من صفات الله تعالى-: "فهذه ونظائرها صفات لله عز وجل، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضًا فيها عن التأويل، مجتنبًا عن التشبيه، معتقدًا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيءٌ من صفاته صفاتِ الخلق، كما لا تشبه ذاتُه ذواتِ الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، وعلى هذا مضى سلف الأمة وعلماء السنة، تلقّوها جميعًا بالإيمان والقَبول، وتجنّبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلمَ فيها إلى الله عز وجل"
(1)
.
9 - قول ابن أبي يعلى (ت 526 هـ):
قال ابن أبي يعلى في (طبقات الحنابلة): "ومما يدل على أن تسليم الحنبلية لأخبار الصفات من غير تأويل، ولا حمل على ما يقتضيه الشاهد، وأنه لا يلزمهم في ذلك التشبيه: إجماع الطوائف من بين موافق للسنة ومخالف أن الباري سبحانه ذات وشيء وموجود، ثم لم يلزمنا وإياهم إثبات جسم ولا جوهر ولا عرض، وإن كانت الذات في الشاهد لا تنفك عن هذه السمات، وهكذا لا يلزم الحنبلية ما يقتضيه العرف في الشاهد في أخبار الصفات"
(2)
.
10 - قول الإمام قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني (ت 535 هـ):
قال أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني الملقب بقِوام السنة في كتابه (الحجة في بيان المحجة): "الكلام في صفات الله عز وجل ما جاء منها في كتاب الله، أو
(1)
شرح السنة (1/ 170 - 171).
(2)
طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 211).
روي بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمذهب السلف-رحمة الله عليهم أجمعين-إثباتُها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وذهب قوم من المثبتين إلى البحث عن التكييف.
والطريقة المحمودة هي الطريقة المتوسطة بين الأمرين؛ وهذا لأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات، وإنما أثبتناها؛ لأن التوقيف ورد بها، وعلى هذا مضى السلف.
قال مكحول والزهري: "أمرّوا هذه الأحاديث كما جاءت"، فإن قيل: كيف يصح الإيمان بما لا نحيط علمًا بحقيقته؟ قيل: إن إيماننا صحيحٌ بحق من كلَّفَناه، وعلمُنا محيطٌ بالأمر الذي ألزمَناه، وإن لم نعرف ما تحتها حقيقة كيفيته، وقد أمرَنا بأن نؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالجنة ونعيمها، وبالنار وعذابها، ومعلوم أنا لا نحيط علمًا بكل شيء منها على التفصيل، وإنما كلفناه الإيمان بها جملة"
(1)
.
11 - قول الحافظ الذهبي (ت 748 هـ):
قال الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء): "ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، من غير تأويل ولا تحريف، ولا تشبيه ولا تكييف؛ فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة. وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقةً، لا مِثلَ لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة، لا مثل لها"
(2)
.
(1)
الحجة في بيان المحجة (1/ 188 - 190).
(2)
سير أعلام النبلاء (8/ 402).
12 - قول الإمام ابن القيم (ت 751 هـ):
قال الإمام ابن القيم في (الصواعق المرسلة): "فكان الباب عندهم [يعني: عند السلف] بابًا واحدًا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فأنِسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفرَ منه الجاحدون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقَّوه بالقَبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار؛ لعلمهم بأنه صفة من لا شبيه لذاته ولا لصفاته"
(1)
.
الأمر الخامس: فوائد هذه القاعدة.
وقد أفادت القاعدة الجليلة جملة من الفوائد منها
(2)
:
الفائدة الأولى: أنه إذا كانت ذات لله تعالى ثابتة حقيقة، من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين، فكذلك يقال في صفاته تعالى: إنها ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين.
الفائدة الثانية: وبها يرد على من شبه صفات الله تعالى بصفات المخلوقين: فمن قال: لا أعقل علمًا ويدًا إلا من جنس العلم واليد المعهودين. قيل له: فكيف تعقل ذاتًا من غير جنس ذوات المخلوقين؟
ومن المعلوم أن صفات كلِّ موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب سبحانه-الذي ليس كمثله شيء-إلا ما يناسب المخلوق، فقد
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 229).
(2)
المصدر: بحث قاعدة القول في الصفات كالقول في الذات للباحث علاء إبراهيم عبد الرحيم.
ضل في عقله ودينه
(1)
.
الفائدة الثالثة: كما أفادت القاعدة أيضًا: أن إثبات الذات لله سبحانه إذا كان إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية وتحديد، فكذلك إثبات صفات الباري سبحانه إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية وتحديد
(2)
.
قال بعض المحققين: صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، فالمؤمن مبصر بها من وجه، أعمى من وجه، مبصر من حيث الإثباتُ والوجود، أعمى من حيث التكييفُ والتحديد
(3)
.
الفائدة الرابعة: وبها يرد على الجهمية النافين للصفات: فإذا قال الجهمي: كيف استوى على العرش؟ وكيف ينزل إلى السماء الدنيا؟ وكيف يداه؟ ونحو ذلك.
يقال له-جوابًا عن شبهته-: كيف هو في نفسه؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
فإذا قال لك الجهمي: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معلوم للبشر.
فيقال له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف، ولم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له
(4)
.
الفائدة الخامسة: وبها يرد على من توهم المماثلة بين صفات الله تعالى وصفات خلقه: فمن توهم في كثير من الصفات أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فإنه يقع في محاذير:
(1)
الفتوى الحموية الكبرى (ص: 543).
(2)
ينظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص: 38).
(3)
لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 226).
(4)
ينظر: الفتوى الحموية الكبرى (ص: 544).
1 ـ منها: أنه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
2 ـ ومنها: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلًا لما يستحقه الرب من صفات الكمال ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله من الصفات الإلهية اللائقة بجلال الله وعظمته.
3 ـ ومنها: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطّل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثلَّه بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدًا في أسمائه وآياته
(1)
.
تفسير الاستواء والنزول
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟
قيل له- كما قال ربيعة ومالك وغيرهما -: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، لأنه سؤال عمّا لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا؟
قيل له: كيف هو؟
(1)
التحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد بن ناصر النجدي (ص: 49 - 50).
فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته.
قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له. فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه ونزوله واستوائه، وأنت لا تعلم كيفية ذاته!
وإذا كنت تقرّ بأن له ذاتا حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره، وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لايشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم، وكلامهم ونزولهم واستواؤهم".
الشرح
وفي هذا النص جملة من الأمور يحسن معرفتها:
الأمر الأول: توطئة.
من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة في باب الصفات، أن نفي العلم بالكيفية أحد الأصول الثلاثة التي قام عليها معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، فإثبات أهل السنة والجماعة للصفات أحاطوه بجملة من المحترزات التي جعلته سليماً من الانحرافات التي وقع فيها المخالفون لهم في هذا الباب، من مشبِّهة ممثِّلة من جهة، ومن نفاة معطِّلة من جهة، وهذا الأصل احتراز من معتقد كلا الفريقين، لكن من جانب آخر، وهو قطع الطمع عن إدراك كيفية الصفات التي اتَّصَف الله عز وجل بها، ونفي إحاطة البشر بالكيفية التي عليها هذه الصفات.
الأمر الثاني: تعريف التكييف.
من المناسب في هذا الموضع ذكر تعريف للكيفية والتكيِّيف، قبل الشروع في توضيح باقي الأمور:
1 - الجانب اللغوي
الكيفية: مصدر صناعي من لفظ "كيف"، زِيد عليها ياء النسب وتاءٌ للنقل من الاسمية إلى المصدرية، وكيفية الشيء: حاله وصفته
(1)
.
والتكيِّيف: من الكيف، ومعناه تعيِّين كُنْهِ الصفة، يقال: كيَّف الشيء أي جعل له كيفية معلومة
(2)
.
2 - الجانب الاصطلاحي.
أما اصطلاحاً: فهو اعتقاد أن صفات الله عز وجل على هيئة كذا-أي معيَّنة- أو السؤال عنها بكيف
(3)
، وهذا هو المعنى الذي ذمه السلف ومنعوا السؤال عنه كما سيأتي.
الأمر الثالث: تقرير قول السلف في تقرير مسألة عدم معرفة كيفية ذات الله وصفاته.
كيفية ذات الله عز وجل من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، ولا مجال للعقل فيها
فمن جهة: "لم يشأ الله عز وجل أن يجعل للعباد من سبيل إلى معرفة كيفية وكنه صفاته، فقد سدَّ سبحانه الطرق الموصلة إلى ذلك، فهو من جهة لم يطلع الخلق على ذاته، فهذا باب موصود إلى قيام الساعة، كما جاء في الحديث:((تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَى يَمُوت))
(4)
.
(1)
المعجم الوسيط (2/ 807).
(2)
انظر: التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية (ص 32)، معارج القبول (1/ 363).
(3)
انظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 69) بتصرف.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (18/ 261 مع النووي) كتاب الفتن باب ذكر ابن صيَّاد برقم (7283).
ومن جهة ثانية: لم يخبرنا الله عز وجل بكيفية وكنه صفاته في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وردت به النصوص هو إثبات وجود لتلك الصَّفات لا إثبات كيفيتها.
ومن جهة ثالثة: فإن الله لم يكلِّف العباد معرفة كيفية صفاته، ولم يتعبدهم بذلك، ولا أراده منهم، بل قصرهم على الإيمان بما أخبر به، فالواجب عليهم أن يؤمنوا الإيمان الصحيح بما كلفوا به، وأن لا يتجاوزوا حدود ذلك"
(1)
.
فكيفية ذات الله عز وجل وصفاته عند أهل السنة والجماعة من أمور الغيب التي استأثر الله عز وجل بعلمها، ولا مجال للعقل البشري القاصر للخوض فيها؛ لكونها لم ترد في الكتاب الكريم ولا السنة النبوية الصحيحة، فكان البحث عنها لطلب معرفتها بدعة محرمة في الدين
(2)
، ومن الأمور المفضية بصاحبها إلى التمثيل
(3)
؛ من أجل ذلك نهوا عنه وحذروا منه أشدَّ التحذير.
فالتفكر في ذات الله عز وجل وصفاته، لا يوصل إلى نتيجة صحيحة؛ لأنه سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط به العقول، أو تدركه الأبصار، وقد قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}
(4)
، وهو تكلُّفٌ منهيٌ عنه، ففي الحديث:((تَفَكَرُوا فِي خَلْقِ اللهِ، وَلَا تَفَكَرُوا فِي اللهِ))
(5)
.
(1)
معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات ص (99)، وانظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 288)، درء التعارض (9/ 23 - 24).
(2)
انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 469)، مجموع الفتاوى (5/ 149).
(3)
انظر: الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات، ضمن مجموع الفتاوى (6/ 355).
(4)
الآية [110] من سورة طه.
(5)
حديث صحيح بمجموع الطرق.
أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 67)، والطبراني في المعجم الأوسط (6/ 250) برقم (6319)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 136) برقم (120)، وأبو الشيخ في العظمة (1/ 210) برقم (1).
وضعف البيهقي إسناده، انظر: شعب الإيمان (1/ 136).
وضعف العراقي إسناد أبي نعيم، وقوى إسناد أبي الشيخ، انظر: المغني عن حمل الأسفار (6/ 2457 - 2459).
وأورده الحافظ في الفتح (13/ 383) موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما، وقال:"إسناده جيد".
وقال السخاوي: " وهذه الأخبار أسانيدها ضعيفة، لكن اجتماعها يكسبه قوة، ومعناه صحيح"، كشف الخفاء (1/ 311).
وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 81).
وضعف الألباني إسناد أبي الشيخ، كما في ضعيف الجامع (2/ 38 - 39)، وصحح إسناد أبي نعيم كما في صحيح الجامع (1/ 572)، وأورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1788).
وفي بيان حدود العقل.
يقول الإمام السفاريني-رحمه الله: ((إن الله خلق العقول وأعطاها قوة الفكر، وجعل لها حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدِّها، ووفت النَّظر حقَّه، أصابت بإذن الله تعالى، وإذا سلَّطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها، ووراء حدِّها الذي حدَّه الله لها، ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء))
(1)
.
ولا شك أن كيفية ذات الله عز وجل وصفاته، من الأمور التي هي خارجة عن طور العقول وحدِّها الذي حدَّه الله لها، فالتفكر في ذلك من التكلف المذموم، الذي تعجز العقول عن دركه، وتضل الأفهام في قصده، وسبب في الضلال والعياذ بالله.
الأمر الرابع: كيفية الصفات من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل
-.
فمن الأمور التي قررها أهل السنة والجماعة في منهجهم في الصفات، أن العلم بكيفية الصفات داخل في التأويل الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وذلك أن التأويل يراد به ثلاثة معانٍ:
الأول: تفسير اللفظ وبيان معناه، وهذا اصطلاح السلف، وجمهور المفسرين، وهو موافق لقول من قال بالوقف على قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}
(2)
.
الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وهي وقوع المخبر به في وقته الخاص إذا
(1)
لوامع الأنوار البهية (1/ 105)، وانظر: الفوائد (240).
(2)
الآية [7] من سورة آل عمران.
كان الكلام خبراً، أو امتثال ما دلَّ عليه الكلام إذا كان الكلام طلباً، وهذا اصطلاح آخر قال به السلف الصالح.
الثالث: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين
(1)
.
وكيفية ذات الله عز وجل وصفاته داخلة في المعنى الثاني من معاني التأويل، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الكيف المجهول الذي قال به السلف الصالح-رضي الله عنهم
(2)
، كما في أثر الإمام مالك-رحمه الله، وغيره، والتي سيأتي إيرادها.
الأمر الخامس: العلم بالكيفية فرع عن العلم بالذات.
فكما أن العلم بكيفية الذات من الأمور التي اتفق العقلاء على استحالة حصوله، كذلك قال أهل السنة والجماعة أن العلم بكيفية الصفات من غير الممكن حصوله، إذ إن الصفات تابعة لذات الموصوف بها، فإذا اتفقنا على أن كيفية ذاته من العلم الذي لا يمكن تحصيله، فكذلك فلنقر بأن علم كيفية الصفات من العلم الذي لا يمكن تحصيله.
وهذا ما أكده المصنف بذكره لهذا الأصل حيث قال: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فإثبات ذات الله تعالى إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف،
(1)
انظر: في هذه التعريفات: الفتوى الحموية ص (70 - 71)، التدمرية ص (90 - 96)، الإكليل في المتشابه والتأويل، ضمن مجموع الفتاوى (13/ 288 - 294).
وللتوسع انظر: جناية التأويل الفاسد ص (8 - 30)، موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ص (481 - 501).
(2)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 207، 5/ 234 - 235، 7/ 328)، الرد على المنطقيين ص (60)، مناظرة في العقيدة الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 167)، تفسير سورة الإخلاص، ضمن مجموع الفتاوى (17/ 373 - 374، 423 - 424)، الصواعق المرسلة (3/ 923 - 924).
فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
وما أحسن ما قال بعضهم: ((إذا قال لك الجهمي كيف استوى، أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا، أو كيف يداه، ونحو ذلك؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال لك لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة، مستلزم للعلم بكيفية الموصوف؛ فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيتُه، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة، على الوجه الذي ينبغي لك))
(1)
.
الأمر السادس: نفي العلم بالكيفية ليس فيه تعطيل لمعاني الصفات.
من الافتراءات التي أُلصقت بمذهب السلف أهل السنة والجماعة، أنهم يؤمنون بألفاظٍ مجرَّدة دون التطرق للمعاني، وهو ما يسميه من ينسبه إليهم مذهب التفويض، واستدلوا لذلك بقول أكثر من واحد من أئمة السلف في نصوص الصفات:"أمروها كما جاءت"، وهم "إنما نفوا العلم بالكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصّفة.
ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرَّد من غير فهم لمعناه-على ما يليق بالله-لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمرُّوها كما جاءت بلا كيف
…
وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية، إذا لم يفهم من اللفظ معنى؛ وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات
…
وأيضاً: فقولهم: أمرُّوها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني؛ فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن الله
(1)
الحموية ص (157)، وانظر: شرح حديث النزول ص (79، 133)، بيان تلبيس الجهمية (2/ 180).
لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول"
(1)
.
وهذا الزعم فيه تجهيل للسلف، واتهام لهم بعدم العلم، وحقيقة الأمر أن السلف كانوا أعظم الناس فهما وتدبراً للنصوص الشرعية، وبخاصة ما يتعلق منها بمعرفة الله عز وجل، يؤمنون بألفاظها، ويعرفون معانيها، لكن لم يكونوا يتكلفون ما لم يحيطوا به علماً ولا فهما، ولا يخوضون في كيفية ذات الله عز وجل وصفاته.
ومن له اطِّلاع على أقوال السلف المدونة في كتب العقيدة والتفسير والحديث، يدرك أن السلف تكلموا في معاني نصوص الصفات، وبينوها ولم يسكتوا عنها، وهذه الأقوال أكبر شاهدٍ على فهم السلف لتلك النصوص وإدراك معانيها
(2)
.
الأمر السابع: معنى قول السلف "بلا كيف".
جاءت عبارة "بلا كيف" في آثارٍ كثيرةٍ عن السلف الصالح عند حديثهم عن نصوص الصفات، ومعنى قولهم:"بلا كيف"، أي: بلا كيف يعقله البشر، لا أن المراد نفي الكيفية مطلقاً، فإن كلَّ شيء لابد وأن يكون على كيفية معيَّنة، ومرادهم هو نفي العلم بهذه الكيفية، فلا يعلم كيف الله عز وجل ولا كيف صفاته إلا هو، وهذا من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلا سبيل للوصول إليه
(3)
.
الأمر الثامن: عدم العلم بالكيفية لا يقدح في الإيمان بالصفات، ومعرفة معانيها.
(1)
الفتوى الحموية ص (79 - 80)، وانظر: شرح حديث النزول ص (106)، المراكشية، ضمن مجموع الفتاوى
(5/ 181 - 182)، مجموع الفتاوى (16/ 413)، شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/ 101 - 102).
(2)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 278 - 279، 7/ 108 - 109).
(3)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (2/ 35)، مدارج السالكين (3/ 376)، شرح العقيدة الواسطية للهراس ص (22)، شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/ 99).
فمن المقرر في منهج أهل السنة والجماعة في باب الصفات، أن عدم العلم بالكيفية والذي سبق تأكيده من خلال الأمور السابقة، لا يقدح أبداً في الإيمان بالصفات ومعرفة معانيها، فإن الكيفية وراء ذلك، فإثبات السلف للصفات إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، يؤمنون بتلك الصفات، ويفهمون معانيهاويفسرونها ويعتقدون ما دلت عليه من الأحكام ويعملون بمقتضياتها من الآثار
(1)
.
فكثيرٌ من الأمور التي أخبر الله عز وجل بها، لا تُعلم كيفيَّتها ولا كنهها، ولم يمنع ذلك من الإيمان والتصديق الجازم بها.
فمنها ما أخبر الله عز وجل به من حقائق الإيمان باليوم الآخر، فإنا نؤمن بها وإن لم نعلم حقيقتها وكيفيتها، ومن ذلك الروح التي بين جنبي الإنسان، كل واحدٍ منا يشعر بها ويوقن بوجودها لكن لا يدرك كنهها وحقيقتها، ومع ذلك لم يمنعه عدم علمه بكيفيتها من الإيمان بوجودها.
فكان الإيمان بالصفات مع الابتعاد عن طلب كيفيتها من منهج الراسخين في العلم المتبعين لهدي الكتاب والسنة، والذين يقولون وفق هذا:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
(2)
، أما طلب علم الكيفية، وما يترتب على ذلك من: إما تعطيل للصفات، أو تمثيلها بالمخلوقات، فهو سبيل أهل الأهواء والبدع، الذين قال الله تعالى فيهم:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}
(3)
.
(1)
انظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 288 - 289)، بيان تلبيس الجهمية (2/ 180)، مدارج السالكين
(3/ 376)، الصواعق المرسلة (1/ 210).
(2)
الآية [7] من سورة آل عمرن.
(3)
الآية [7] من سورة آل عمرن.
انظر: معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات ص (103 - 104).
منهج الأشاعرة فيما ينفونه إما التأويل أو التفويض
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: «وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئًا، ونفي شيئًا بالعقل، إذا ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته، وطولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقًا.
ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض- الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ- قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لِمَ تأولتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح. فهذا تناقضهم في النفي.
وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإن من تأوّل النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط. ولو فسَّر ذلك بمفعولاته- وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب- فإنّه يلزمه في ذلك نظير ما فرّ منه، فإن الفعل المعقول لا بدّ أن يقوم أولا بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك، فكذلك سائر
الصفات".
الشرح
بعد أن انتهى المصنف من ذكر الأصلين وأشار فيهما إلى تناقض هؤلاء المعطلة ختم بهذه الخاتمة في نهاية كلامه عن الأصلين وأكد على أنه "يقال لهؤلاء النفاة أنتم نفيتم هذه الأسماء فرارًا من التشبيه، فإن اقتصرتم على نفي الأثبات شبهتموه بالمعدوم.
وإن نفيتم الأثبات والنفي جميعا فقلتم ليس بموجود ولا معدوم شبهتموه بالمتنع. فأنتم فررتم من تشبيهه بالحي الكامل فشبهتموه بالحي الناقص، ثم شبهتموه بالمعدوم، ثم شبهتموه بالممتنع، فكنتم شرا من المستجير من الرمضاء بالنار وهذا لازم لكل من نفى شيئا مما وصف الله به نفسه لا يفر من محذور إلا وقع فيما هو مثله أو شر منه مع تكذيبه بخبر الله وسلبه صفات الكمال الثابتة لله"
(1)
ووقوعهم في هذا التعطسل إنما هو بسبب أنهم "سلموا عقولهم لأصول فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل فصار ذلك سببا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية ومقاصد سامية قرانية خرجوا بها عن حقيقة العلم والإيمان وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون بل يتسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات"
(2)
.
وقول المصنف: "وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئًا، ونفي شيئًا بالعقل، إذا ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته، وطولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد
(1)
الصفدية ص 95.
(2)
الرد على المنطقيين ص 143.
بينهما فرقًا".
عاد مرة أخرى لمناقشة منكري الصفات، فقال لهم: إن من أثبت شيئًا، ونفي شيئًا بالعقل، إذا ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته، وطولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقًا.
وأعطى شيخ الإسلام ابن تيمية مثالًا على ذلك التناقض فيما يقع بين طوائف أهل الكلام من جهة بين الباطنية من جهة ثانية فيقول أهل الكلام: "إن الخالق والمخلوق إذا سمي كل واحد منهما فاعلًا أو قادًرا أو غير ذلك فإنما لم يتماثلا في ذاتيهما، وإنما يكون التماثل في الذات إذا كان هذا جسما أو جوهرا والآخر كذلك، وهؤلاء يقولون كل من قال بأن الرب جسم كان مشبها ومن نفى ذلك لم يكن مشبها ولا ينفصلون بهذا الجواب؛ فإن منازعهم (من الباطنية) يقول: فإذا أثبتم الصفات أو الأسماء لزم أن يكون الموصوف المسمى جسما كما تقولون أنتم ذلك لمن أثبت ما نفيتموه وجعلتموه مجسمًا؛ ولا يمكنهم أن يذكروا فرقًا صحيحا وكل ما يقولونه يمكن المثبت أن يقول لهم مثله فيلزم بطلان هذا الفرق بين ما سموه تجسيما وما لم يسموه تجسيما فلزم إما إثبات الجميع وإما نفي الجميع.
ونفي الجميع ممتنع لأنه قد علم بالضرورة أن الموجود ينقسم إلى واجب قديم قيوم غني خالق وإلى ممكن محدث مدبر فقير مخلوق فلا سبيل إلى جعل الوجود كله واحدا واجبا كما يقوله أهل الوحدة ولا إلى جعله كله مخلوقا مربوبا محدثا كما يذكر عن بعضهم أنه ادعى حدوث الوجود كله بدون محدث فإن فساد كل من القولين من أبين العلوم الضرورية البديهية ولهذا كان أهل الوحدة متناقضين لا يلتزمون قولهم وأما حدوث الوجود جميعه بدون محدث فلا تعرف طائفة قالته وإنما يقدر تقديرا ذهنيا كما تقدر كثير من الأقوال السوفسطائية لتبيين بطلانها
وانتفائها.
فقد تبين أن أقوال نفاة الصفات كقول أهل الإلحاد المعطلة للصانع وأن القول الثاني قول من يقول بالوجود المطلق عن النفي والإثبات هو أحد قولي القرامطة الباطنية والأول قول القرامطة الباطنية الذين يلونهم نفاة الصفات الثبوتية الذين لا يصفونه إلا بالسلوب.
فابن سينا وأمثاله من أئمة هؤلاء وكان أهل بيته من أهل دعوة الحاكم وأمثاله من أئمة القرامطة الباطنية الإسماعيلية.
وقول من قال المطلق لا بشرط الذي يصدق على كل موجود فهو يشبه قول من يجمع بين النقيضين فيصفه بصفة كل موجود وإن كانت متناقضة ويجعل وجود الخالق هو وجود المخلوق أو جزء منه"
(1)
وقول المصنف: "ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض- الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ- قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لِمَ تأولتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح. فهذا تناقضهم في النفي".
خص المصنف بالحديث هنا طائفة من طوائف المعطلة وهم الصفاتية-الكلابية والأشاعرة والماتريدية-ومن وافقهم وبيان أنهم متناقضون في النفي والإثبات.
وفي هذا يحسن معرفة الأمور الآتية:
الأمر الأول: أنواع المضافات إلى الله.
والمضافات إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة لا تخلو من ثلاثة أقسام:
(1)
الصفدية 2/ 17 - 20.
القسم الأول: إضافة الصفة إلى الموصوف:
كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء مِنْ علمه} [البقرة الآية: 255].
وقوله: {إن الله هو الرَّزَّاق ذو القوَّة} [الذاريات الآية: 58].
فهذا القسم يثبته أهل السنة والكلابية، وينكره المعتزلة.
والقسم الثاني: إضافة المخلوق.
كقوله تعالى: {ناقة الله وسقياها} [الشمس الآية: 13].
وقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين} [الحج الآية: 26].
وهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق.
والقسم الثالث: ما فيه معنى الصفة والفعل.
كقوله تعالى: {وكلَّم الله موسى تكليما} [النساء الآية: 164].
وقوله تعالى: {إن الله يحكم ما يريد} [المائدة الآية: 1].
وقوله تعالى: {فَبَاءُوا بغضب على غضب} [البقرة. الآية: 90].
فهذا القسم الثالث لا يثبته الكلابية ومن وافقهم على زعم أن الحوادث لا تحل بذاته. فهو على هذا يلحق عندهم بأحد القسمين قبله فيكون:
1 -
إما قديماً قائماً به.
2 -
وإما مخلوقاً منفصلاً عنه.
ويمتنع عندهم أن يقوم به نعت أو حال أو فعل ليس بقديم ويسمون هذه المسألة: ((مسألة حلول الحوادث بذاته))
(1)
وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول والإتيان، وغيرها. وبالتالي هم يؤولون النصوص الواردة في ذلك على أحد الوجوه التالية:
الأول: إرجاعها إلى الصفات الذاتية واعتبارها منها، فيجعلون جميع تلك الصفات قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه وإتيانه، وفرحه، وغضبه، ورضاه،
(1)
- مجموع الفتاوى 6/ 144، 147.
ونحو ذلك: قديم أزلي
(1)
وهذه الصفات جميعها صفات ذاتية لله، وإنها قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته واختياره.
(2)
الثاني: وإما أن يجعلوها من باب «النسب» و «الإضافة» المحضة بمعنى أن الله خلق العرش بصفة تحت فصار مستوياً عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائياً إليهم ونحو ذلك. وأن التكليم إسماع المخاطب فقط.
(3)
فهذه الأمور من صفات الفعل منفصلة عن الله بائنة وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به. ولهذا يقول كثير منهم: "إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات.
(4)
الثالث: أو يجعلوها «أفعالاً محضة» في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة.
(5)
مثل قولهم في الاستواء إنه فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم بالله فعل اختياري.
(6)
وكقولهم في النزول إنه يخلق أعراضاً في بعض المخلوقات يسميها نزولاً.
(7)
الأمر الثاني: بيان اضطراب الصفاتية في باب الصفات.
ويحسن إعطاء نبذة عن اضطراب قول هؤلاء الصفاتية في باب الصفات.
قال ابن تيمية: "أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاَّب البصري، وأبو الحسن
(1)
- مجموع الفتاوى 5/ 412.
(2)
- مجموع الفتاوى 5/ 410.
(3)
- مجموع الفتاوى 6/ 149.
(4)
- مجموع الفتاوى 5/ 411، 412.
(5)
- مجموع الفتاوى 6/ 149.
(6)
- مجموع الفتاوى 5/ 437، الأسماء والصفات للبيهقي ص 517.
(7)
- مجموع الفتاوى 5/ 386.
الأشعري كانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة في جمل أصول السنة. ولكن لتقصيرهما في علم السنة وتسليمهما للمعتزلة أصولاً فاسدة، صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة، وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقاً"
(1)
.
وقال أيضاً: "والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام، وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها، وأمثال ذلك"
(2)
.
وقد مرت الأشعرية بأطوار ومراحل كان أولها زيادة المادة الكلامية، ثم الجنوح الكبير للمادة الاعتزالية، ثم خلط هذه العقيدة بالمادة الفلسفية.
فالأشعرية المتأخرة مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه
(3)
.
فقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية بالجملة، كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسن الباهلي والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء
(4)
.
لكن المتأخرين من أتباع أبي الحسن الأشعري كأبي المعالي الجويني وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما.
(1)
الاستقامة (1/ 212).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 97).
(3)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 97).
(4)
مجموع الفتاوى (4/ 147، 148).
ونفاة الصفات الخبرية منهم:
• من يتأول نصوصها.
• ومنهم من يفوض معناها إلى الله تعالى.
وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه. فهؤلاء يقولون: تأويلها بما يقتضي نفيها تأويل باطل، فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة
(1)
.
وهذا الاضطراب في العقيدة الأشعرية بين المتقدمين والمتأخرين سببه ما أسلفنا من ميل الأشاعرة بأشعريتهم إلى الاعتزال أكثر فأكثر بل إنهم خلطوا معها الفلسفة.
وأما عن تأثر الأشعرية بالمعتزلة في قولهم في الصفات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالأشعرية وافق بعضهم المعتزلة في الصفات الخبرية، وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية، وأما الصفات القرآنية فلهم قولان:
فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقر ببعضها؛ وفيهم تجهم من جهة أخرى.
فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم.
وابن الباقلاني أكثر إثباتاً بعد الأشعري، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن.
وأما الجويني ومن سلك طريقته فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن أبا المعالي كان
(1)
منهاج السنة (2/ 223، 224).
كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين
(1)
.
فما إن جاء أبوبكر الباقلاني (ت 403 هـ)، فتصدى للإمامة في تلك الطريقة وهذبها ووضع لها المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية من حيث وجوب الإيمان بها
(2)
وأسهم إلى حد كبير في تنظير المذهب الأشعري الكلامي وتنظيمه مما أدى إلى تشابه منهجي بين المذهب الأشعري والمذهب المعتزلي فقد كان الأشعري يجعل النص هو الأساس والعقل عنده تابع، أما الباقلاني فالعقيدة كلها بجميع مسائلها تدخل في نطاق العقل
(3)
ويعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري
(4)
.
ثم جاء بعده إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) فاستخدم الأقيسة المنطقية في تأييد هذه العقيدة، وخالف الباقلاني في كثير من القواعد التي وضعها. وإن كان الجويني قد استفاد أكثر مادته الكلامية من كلام الباقلاني، لكنه مزج أشعريته بشيء من الاعتزال استمده من كلام أبي هاشم الجبائي المعتزلي على مختارات له، وبذلك خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة.
وأما كلام أبي الحسن الأشعري فلم يكن يستمد منه، وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس
(5)
وعلى طريقة الجويني اعتمد المتأخرون من الأشاعرة، كالغزالي (ت 505 هـ) وابن الخطيب الرازي (ت 606 هـ) وخلطوا مع المادة الاعتزالية التي أدخلها الجويني مادة فلسفية، وبذلك ازدادت الأشعرية بعداً وانحرافاً.
(1)
منهاج السنة (2/ 223، 224).
(2)
مقدمة ابن خلدون (ص 465)، ط: مصطفى محمد.
(3)
مقدمة التمهيد للباقلاني (ص 15)، بتحقيق الخضيري وأبو ريدة.
(4)
نشأة الأشعرية وتطورها (ص 320).
(5)
بغية المرتاد (ص 448، 451)، بتصرف.
فالغزالي مادته الكلامية من كلام شيخه الجويني في "الإرشاد" و"الشامل" ونحوهما مضموماً إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني. ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا، ولهذا يقال أبو حامد أمرضه "الشفا"، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك.
وأما الرازي فمادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة اعتزالية قوية من كلام أبي الحسين البصري (ت 436 هـ)، وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني ونحوهما
(1)
.
والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام وجبرية في باب القدر، وأما الصفات فليسوا جهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم، ولا يرون الخروج على الأئمة بالسيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى أهل السنة والحديث
(2)
.
الأمر الثالث: بيان تناقض الصفاتية في النفي.
فأما التناقض في النفي: فإنهم يقولون بالتفويض أو التأويل المخالف لمقتضى النص، فيقال لهم: لم أولتم هذا وأقررتم هذا؟ فإنهم لا يجدون جوابًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية-موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:
أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.
والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في
(1)
بغية المرتاد (ص 448)، بتصرف.
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 55).
"الرسالة النظامية" وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب.
ثم هؤلاء:
• منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات.
• ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي).
(1)
(2)
.
الأمر الرابع: تناقضهم في الإثبات.
فقول المصنف: "وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإن من تأوّل النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط. ولو فسَّر ذلك بمفعولاته- وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب- فإنّه يلزمه في ذلك نظير ما فرّ منه، فإن الفعل المعقول لا بدّ أن يقوم أولا بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل
(1)
-درء تعارض العقل والنقل 5/ 249.
(2)
-شرح العقيدة الطحاوية ص 115.
على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك، فكذلك سائر الصفات".
وأما التناقض في الإثبات: فالذين سلكوا مسلك التأويل للصفات تنوع تأويلهم وانقسم إلى أقسام:
ومعلوم أن قدماء الأشاعرة والكلابية كانوا يُفَوِّضون، وهكذا تبعهم بعض المتأخرين فسكتوا عن هذه الصفات، وأقوالهم متعددة:
فتارة يقولون: الله أعلم بمراده منها، وإن كانوا في نفس الأمر لا يُثبتونها، لكنهم لا يحدِّدون معنًى لتلك الصفات.
وتارةً يقولون: هي صفات ذات لا صفات فعل.
وبخاصةً في صفات الأفعال ينكرون كونها صفة فِعل، على قول بعضهم: إن الحوادث لا تَحل بذات الله تعالى، فبالتالي لا يُثبتون أيَّ صفة من صفات الأفعال.
وتارةً يقولون: هذه الصفات إنما هي فِعل يفعله الله في الشيء، فمثلًا قالوا في الاستواء: الاستواء هو فِعل يفعله الله في العرش
(1)
؛ فينفون كون الاستواء صفةً لله تعالى. فطرقهم في التأويل متعددة.
وقد ناقش المصنف قسمين من هؤلاء:
فالذين ينكرون صفات الأفعال ويؤولها فإن منهم
القسم الأول: من يؤولها على أنها صفات ذات لا صفات فعل.
وهم المقصودون بقول المصنف: "فإن من تأوّل النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها".
فمن أرجع معاني تلك الصفات التي نفاها إلى معاني الصفات التي يثبتها، أي أنه
(1)
انظر: «شرح حديث النزول» لابن تيمية (ص 58).
أرجعها إلى الصفات الذاتية بناء على إنكاره للصفات الفعلية.
وأعطى مثالًا على ذلك بتأويل "محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب" فهذا نوع من التأويل حيث أرجع معنى صفة المحبة والرضا والغضب والسخط إلى صفة الإرادة، إذ من المعلوم أن صفة الإرادة هي من الصفات الذاتية التي يثبتها هؤلاء.
فكان جواب المصنف: "كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط".
فإنه يقال لهم: تأويل النصوص على معنى من المعاني التي يثبتونها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه.
فإذا قال قائل: تأويل محبته هي إرادته سبحانه للثواب.
فيقال له: يلزمك أن تؤول الإرادة أيضًا، وإلا فما الفرق بين الإرادة وغيرها من الصفات.
القسم الثاني: من يقول هذه الصفات إنما هي فِعل يفعله الله في الشيء.
وهم المقصودون بقول المصنف: "ولو فسَّر ذلك بمفعولاته- وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب-".
فمثلًا قالوا في الاستواء: الاستواء هو فِعل يفعله الله في العرش
(1)
؛ فينفون كون الاستواء صفةً لله تعالى.
وأولوا كل ما ورد في النصوص من الأفعال اللازمة فقالوا في المحبة هي ما
(1)
انظر: «شرح حديث النزول» لابن تيمية (ص 58).
يخلقه الله تعالى من الثواب.
والرحمة ليست أمراً يقوم بذات الله عز وجل وإنما خلق مباين يخلقه في خلقه والسخط أمر ضار يخلقه في خلقه وكذلك الرضا، وحتى إذا وجدتهم يتأولون الضحك في النصوص بالرحمة فلا تظنن أنهم يريدون الرحمة التي يفهمها كل مسلم من أن الله عز وجل تقوم به صفة اسمها الرحمة ثم لها آثار في خلقه بل لا يريدون إلا أنه يخلق خلقاً في عبيده اسمه رحمة فحسب.
فأجاب المصنف عن هذا النوع من التأويل بقوله: "فإنّه يلزمه في ذلك نظير ما فرّ منه، فإن الفعل المعقول لا بدّ أن يقوم أولا بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك، فكذلك سائر الصفات"
وكذلك لو فسرت المحبة-مثلًا-بالمفعولات، وهي ما يخلقه الله تعالى من الثواب، فإنه يلزمه نظير ما فر منه، فإن الفعل المعقول لا بدّ أن يقوم أولًا بالفاعل، والثواب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه المثيب.
فالأفعال المنسوبة لله عز وجل على نوعين
النوع الأول: فعل متعدي مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتعذيب والإثابة وهذا الضرب من الأفعال لم ينازع أحد في إثباته لله عز وجل لا الجهمية ولا المعتزلة ولا الكلابية ولا الأشعرية ولا الماتردية ولا أهل الحديث وإنما نازع المعتزلة في خلق أفعال العباد لا ذواتهم
النوع الثاني: فعل لازم يقوم بالذات مبدئيًا وإن كان له أثر على المخلوقات فيما بعد مثل الكلام والرضا والسخط والمحبة والمجيء والنزول والاستواء
وقد استدل عليهم أهل السنة بآيات من القرآن وأخبار من السنة تفرق بين الفعل المتعدي واللازم وتنسب ذلك كله لله عز وجل مثل قوله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)] يس: 82].
فقوله: (يقول له كن) هذا الفعل اللازم.
وقوله: (فيكون) هذا الفعل المتعدي.
وقوله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)] الأعراف: 54].
فقوله: (الخلق) الفعل المتعدي.
وقوله: (الأمر) الفعل اللازم المتعلق بالمشيئة.
فالله يكلم عبيده بكلام يسمعونه منه أو يسمعونه ممن سمعه منه وأولئك رسله.
وأيضاً استدلوا بمثل قوله تعالى (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ)] الزخرف: 55].
فقوله: (آسفونا) ومعناه: أغضبونا، وهذا هو الفعل اللازم.
وقوله: (انتقمنا منهم) هذا هو الفعل المتعدي
ثم إنك تجد كلام السلف واضحاً في إثبات النوعين قال البخاري في خلق أفعال العباد: وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك جهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل:"أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء".
وقول الفضيل "يفعل ما يشاء" لا يريد به إلا الفعل اللازم وإلا فالجهمي وكل المنتسبين للملة لا ينكرون الفعل المتعدي، ولو أظهر السلف تفسير الفعل اللازم بالفعل بالمتعدي لانتهى أمرهم مع الجهمية إلى وئام.
وقد سمى بعض السلف الفعل المتعدي (حركة) مثل الدارمي وحرب
واستدلوا عليهم بالمعقول وأن الناس لا يعرفون فعلاً متعدياً دون فعل لازم
وهذا ظاهر النصوص القطعي قال ابن تيمية: "والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله، إذ كان لا بد له من الفاعل.
وهذا معلوم سمعاً وعقلاً.
أما السمع: فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن، بل وغيرها من اللغات، متفقون على أن الإنسان إذا قال:(قام فلان وقعد) وقال: (أكل فلان الطعام وشرب الشراب) فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول، فكما أنه في الفعل اللازم معنا فعل وفاعل ففي الجملة المتعدية معنا أيضاً فعل وفاعل وزيادة مفعول به.
ولو قال قائل: الجملة الثانية ليس فيها فعل قائم بالفاعل، كما في الجملة الأولى، بل الفعل الذي هو (أكل) و (شرب) نصب المفعول - من غير تعلق بالفاعل أولاً - لكان كلامه معلوم الفساد، بل يقال: هذا الفعل تعلق بالفاعل أولاً، كتعلق (قام وقعد)، ثم تعدى إلى المفعول، ففيه ما في الفعل اللازم وزيادة التعدي، وهذا واضح لا يتنازع فيه اثنان من أهل اللسان"
(1)
(وبسط الشيخ الكلام بما يحسن مراجعته).
وهذا النوع هو الذي نازع فيه الجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية ومن تأثر بهم من المنتسبين إلى المذاهب الأربعة وفيهم حنابلة لشبهة كلامية اسمها امتناع حلول الحوادث وملخصها "ما حلت به الحوادث لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث".
وملخص الجواب عليها: أن الله عز وجل باتفاق الجميع لا أول له، وجنس أفعاله لا أول له، وكل فعل من أفعاله التي تسمونها حوادث له بداية ونهاية، وحكم الأفراد لا يلزم الجنس، فجنس أحقاب عذاب أهل النار مثلاً لا نهاية لها وكل حقب له بداية
(1)
درء التعارض 2/ 3 - 6.
ونهاية؛ وكذلك جنس أكل أهل الجنة لا نهاية له، وكل أكلة لها بداية ونهاية؛ ومن يعتقد أنه لا بد أن يكون أحد الأفراد مشاركاً للجنس بوصفه فقط غلط ونازع ضرورة المعقول وهذان المثالان أمامك يقر بهما جماهير العقلاء.
وعليه فالقول وما لم تخل منه الحوادث فهو حادث لاستحالة الجمع بين القدم والحدوث، قول باطل إنما يلزم من له بداية، وأما الأول الذي لا بداية له وجنس أفعاله لا بداية له فلا يلزمه شيء من ذلك"
والنزاع في هذه المسألة هو أساس الخلاف في أمر القرآن هل مخلوق أم لا؟ فالذين قالوا هو مخلوق ما قالوا ذلك إلا لأنهم ينكرون أن الله عز وجل يتكلم بما شاء متى شاء فهذا عندهم حلول حوادث ففسروا الكلام على أصلهم في إحالة الأفعال اللازمة إلى الأفعال المتعدية بأنه خلق من خلق الله أسماه كلاماً ولهذا لا يصلح الخوض في مسألة القرآن قبل تحرير هذه المسألة فالقوم دائماً يغالطون بشبهات فرعية كما في حديثهم على صفة النزول مثلاً والواقع أنهم ينكرون أن يفعل الله ما شاء متى شاء"
(1)
.
وبين شيخ الإسلام ابن تيمية خطورة هذه المقولة وضررها فقال: "ومن أعظم أصول التفريق بينهم في هذه المسألة-مسألة أفعال الله تعالى وكلام الله ونحوه ذلك مما يقوم بنفسه ويتعلق بمشيئته وقدرته-فإن هذا الأصل لما أنكره من أنكره من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ونحوهم وظنوا أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع إلا إثبات حدوث الجسم ولا يمكن إثبات حدوثه إلا بإثبات حدوث ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة ألجأهم ذلك إلى أن ينفوا عن الله صفاته وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته أو ينفوا بعض ذلك وظنوا أن
(1)
المصدر: الصفحة التابعة لقناة أبي جعفر عبد الله الخليفي على التليجرام.
الإسلام لا يقوم إلا بهذا النفي وأن الدهرية من الفلاسفة وغيرهم لا يبطل قولهم إلا بهذا الطريق وأخطأوا في هذا وهذا
أما الفلاسفة الدهرية فإن هذه الطريقة زادتهم إغراء وأوجبت لهم حجة عجز هؤلاء عن دفعها إلا بالمكابرة التي لا تزيد الخصم إلا قوة وإغراء فقالو لهم: كيف يحدث الحادث بلا سبب حادث؟ وكيف تكون الذات حالها وفعلها وجميع ماينسب إليها واحدا من الأزل إلى الأبد؟ والعالم يصدر عنها في وقت دون وقت من غير فعل يقوم به ولا سبب حدث؟
فكان ما جعلوه أصل للدين وشرطا في معرفة الله تعالى منافيا للدين ومانعا من كمال معرفة الله وكان ما أحتجوا به من الحجج العقلية هي في الحقيقة على نقيض مطلوبهم أدل فالحوادث لا تحدث إلا بشرط جعلوه مانعا من الحدوث وأما أمور الإسلام: فإن هذا الأصل اضطرهم إلى نفي صفات الله تعالى لئلا تنتقض الحجة ومن لم ينف الصفات نفى الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته، فلزمهم من عدم الإيمان ببعض ما جاء به الرسول ومن جحد بعض ما يستحقه الله تعالى من أسمائه وصفاته ما أوجب له من من التناقض والإرتياب ما تبين لأولى الألباب فلم يعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه ولا الجهاد لعدو الله ورسوله حقه وقد قال تعالى:{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا} [الحجرات: 15].
هذا مع دعواهم أنهم أعظم علما وإيمانا وتحقيقا لأصول الدين وجهادا لأعدائه بالحجج من الصحابة وإن هم في ذلك إلا كبعض الملوك الذين لم يجاهدوا العدو بل أخذوا منهم بعض البلاد ولا عدلوا في المسلمين العدل الذي شرعه الله للعباد إذا
ادعى أنه أمكن وأعدل من عمر بن الخطاب وأصحابه رضوان الله عليهم"
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات، من أصناف المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبنًا وعسلاً وخمرًا وماء ولحمًا وفاكهة وحريرًا وذهبًا وفضة وحُورًا وقصورًا.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء ممّا في الجنة إلا الأسماء، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها، هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى - فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق. وهذا بيّنٌ واضح.
الشرح
بعد أن انتهى المصنف رحمه الله من ذكر الأصلين في الرد على المعطلة، شرع هنا في بيان المثلين وهما:
المثل الأول: هو الجنة:
ويمكن في هذا النص تقرير الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الاتفاق في الاسم العام لا يلزم منه التماثل.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 302 - 304.
فما ذكره الله في الجنة من أنواع المطاعم، والمشارب، والمناكح، والملابس، والمساكن، يشبه ما في الدنيا من هذه الأنواع في الاسم، وفي المعنى العام، وهذا التوافق في الاسم وفي الحقيقة من حيث العموم لم يوجب أن تكون حقائق الآخرة مثل حقائق الدنيا من كل وجه، بل بينهما بون شاسع وفرق بعيد، وقول ابن عباس:"ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء"
(1)
معناه أن التفاوت بينهما كبير في اللذة والكمال والعظمة، حتى أنه لا يكاد التوافق يكون بينهما في الاسم لشدة التفاوت.
إذا تقرر هذا، فالرب تبارك وتعالى وإن كان متصفا بالصفات ومسمى بالأسماء، والمخلوق يسمى بتلك الأسماء ويوصف بتلك الصفات فهما متفقان في الاسم وفي المعنى العام، غير أن هذا الاتفاق ليس معناه أنهما متماثلان، بل بينهما تفاوت عظيم وفرق كبير.
الأمر الثاني: أن الإنسان يعتبر بما عرفه على ما لم يعرفه.
قال ابن القيم: "الإنسان يعتبر بما عرفه على ما لم يعرفه، ولولا ذلك لانسدت عليه طرق المعارف للأمور الغائبة، فإن الإنسان يعلم أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير، فإنه لولا تصوره لهذه المعاني من نفسه ونظره إليها لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا
(1)
رواه أبو نُعَيْم في "صفة الجنة"(2/ 21)، والبيهقي، والضياء المقدسي في "المختارة"، والسيوطي في الجامع الصغير:) 7614).
وقال المنذري في "الترغيب والترهيب"(4/ 278): "بإسناد جيد"، وصحَّحه الألباني في الصحيحة (2188)، وفي صحيح الترغيب (3769).
الأسماء"، فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك، ويجب لها ما يجب لها، ويمتنع ما يمتنع عليها، ويكون مادتها مادتها ويستحيل استحالتها، فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يفسد ولا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يصدع شاربها ولا ينزف عقله، فإن ماءها ليس نابعًا من تراب ولا نازلاً من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقًا من أنعام كما في الدنيا وأمثال ذلك.
فإذا كان المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم وبينهما قدر مشترك وتشابه فعلم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة.
فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا، فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير لم يلزم أن يكون مماثلاً لخلقه، إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق، وكل واحد من صغار الحيوان له حياة وقوة وعمل وليست مماثلة للملائكة المخلوقين، فكيف يماثل رب العالمين شيئًا من المخلوقين"
(1)
.
الأمر الثالث: عدم العلم بالكيفية لا يقدح في الإيمان بالمغيبات.
"ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله، وما تعبد الناس باعتقاده من ذكر عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والحوض، والميزان، والصراط، وصفة الجنة وصفة النار، وجدناها أمورًا لا ندرك حقائقها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها، فإذا سمعنا شيئا من أمور الذين، وعقلناه، وفهمناه، فلله الحمد في ذلك، والشكر ومنه التوفيق، وما لم يمكنَّا إدراكه ولم تبلغه عقولنا آمنا به، وصدقناه، واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته، واكتفينا في ذلك بعلمه، ومشيئته، قال تعالى:
(1)
رسالة في العقل والروح لابن تيمية 2/ 42 - 43 (مطبوعة ضمن المجموعة المنيرية) بتصرف
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء}
(1)
"
(2)
.
فعدم العلم بكيفية صفات الله لا يَقدح في الإيمان بتلك الصفات ومعرفة معانيها؛ لأن الكيفية وراء ذلك، فالسلف يُثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ويفهمون معاني تلك الصفات ويُفسرونها، فإذا أثبتوا لله السَّمع والبصر أثبتوهما حقيقية وفهموا معناهما، وهكذا سائر الصفات يجب أن تَجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كُنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يُكَلِّف العباد ذلك ولا أراده منهم ولم يجعل لهم إليه سبيلاً.
وكثير من المخلوقات لم يجعل الله للعباد سبيلاً إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فهذه أرواح الخلائق التي هي أدنى إليهم مِنْ كل دان قد حُجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، وقد أخبرنا الله عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ولم يَعرفوا كيفيته وكنهه، فلا يشكُّ المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمر وأنهارًا من عسل، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته؛ كما قال ابن عباس:«ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء» .
فكذا الأسماء والصفات لا يَمنع انتفاء نظيرها في الدنيا مِنْ فهم معانيها وحقائقها والإيمان بذلك واعتقاد اتصاف الله بها
(3)
.
فإيماننا صحيحٌ بحقِّ ما كُلِّفنا به وإن لم نَعرف حقيقة ماهيته وكيفيته، والله أعلم.
(1)
الآية 255 من سورة البقرة
(2)
الحجة في بيان المحجة 1/ 321 بتصرف
(3)
«مدارج السالكين» (3/ 358).
أقسام الناس في الإيمان بالله واليوم الآخر
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق:
فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وإن مباينة الله لخلقه أعظم.
والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيرًا مما أخبر به من الصفات، مثل طوائف من أهل الكلام: المعتزلة ومن وافقهم.
والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة الباطنية والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر".
الشرح
وقد انقسم الناس في باب الإيمان بالله واليوم الآخر ثلاث فرق:
افترق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه من حقائق الصفات، وما أخبر به عن اليوم الآخر إلى ثلاث فرق:
الفريق الأول: وهم الذين قال عنهم المصنف: "فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وإن مباينة الله لخلقه أعظم".
فأهل السنة والجماعة آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ونزهوه عن الند والمثال كما آمنوا بما أخبر الله به عن اليوم الآخر، وما أعد الله لمن أطاعه وعصاه من الجزاء.
وقد قرن الله عز وجل بين باب الإيمان بالله وبين باب الإيمان باليوم الآخر في أكثر
من آية من كتاب الله عز وجل، ومما وردت به نصوص الكتاب والسنة:
• قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .] البقرة: 62].
• وقال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} .] البقرة: 228].
• وقال تعالى: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر} .] البقرة 232].
• وقال تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} .] آل عمران: 113 - 114].
• وقال تعالى: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما} .] النساء: 162].
وغير ذلك من الآيات التي ورد فيها ذكر الإيمان باليوم الآخر مقترنا بالإيمان بالله في الإثبات.
ومن الآيات التي ذكر فيها الإيمان باليوم الآخر مقترنا بالإيمان بالله في النفي:
• قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].
• وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} .] البقرة: 26].
• وقوله تعالى: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا
بعيدا}.] النساء: 136].
• وقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} .] التوبة: 5].
• وقوله تعالى: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} .] التوبة: 44 - 45].
وفي هاتين الآيتين اجتمع النفي والإثبات في اقتران الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله.
وأما الأحاديث فهي أيضا كثيرة، ومنها:
o حديث أبي شريح، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا)
(1)
.
o ومنها: حديث أبي هريرة، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرا)
(2)
.
o ومنها حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)
(3)
.
والفريق الثاني: وهم الذين قال عنهم المصنف: "الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيرًا مما أخبر به من الصفات، مثل طوائف من أهل الكلام: المعتزلة ومن وافقهم".
فيقر كل من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة باليوم الآخر على خلل عند
(1)
البخاري (2/ 35).
(2)
البخاري (6/ 145).
(3)
مسلم: (1/ 86).
المعتزلة في بعض مسائل هذا الباب، وإذا كانت بعض هذه الطوائف كالأشاعرة والماتريدية يقولون بالأخذ بالنصوص الشرعية في هذا الباب ويدرجونها تحت ما يسمونه باب السمعيات، ومقصدهم بالسمعيات أن أصول هذا الباب تؤخذ من نصوص الكتاب والسنة مع تأكيدهم على أن باب الإلهيات (أي الإيمان بالله) وباب النبوات (أي الإيمان بالنبي) لا يستدل لها بالنص وإنما دليلها عندهم هو العقل وحده.
وعليه يقال لهم إن النصوص جاءت بالأمرين أي أمر الإيمان بالله، وأمر الإيمان باليوم الآخر، فما بالكم تفرقون بينهما وتجعلون باب الإيمان بالله عز وجل مصدره عقولكم فتثبتون وتنفون بناء عليه، وباب الإيمان باليوم الآخر تقبلون فيه بما وردت به النصوص، فمصدر البابين واحد، وقد بَيَّن الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أَمْرِ الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى الله به عباده، وكشف به مراده".
فكيف يفرق بين البابين ومصدرهما واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فالنصوص جاءت بهذا وهذا، وكلا مسائل البابين من الأمور الغيبية الغير مشاهدة والتي لا سبيل للعلم بها إلا من طريق الوحي.
وعليه فإن حق باب الإيمان بالله أن يعامل معاملة الإيمان باليوم الآخر بأن يرجع فيه إلى النصوص، والنصوص الواردة فيه أكثر بكثير من نصوص الإيمان باليوم الآخر.
فهؤلاء المعطلة آمنوا ببعض وهو الإيمان بما أخبر الله به عن اليوم الآخر وامتثال الأمر، واجتناب النهي، والجزاء على الأعمال، بينما نفوا حقائق أسماء الله وصفاته، وهم أهل التحريف والتأويل، الذين يقولون أن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال - ما في نفس الأمر- وأن الحق في نفس الأمر هم ما علمناه بعقولنا، ثم
يجتهدون في تأويل هذه النصوص بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طرقها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات، فلا يقصدون مراد المتكلم به وحمله على ما يناسب حاله، وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه على الوجه الذي يعرف به مراده فصاحبه كاذب على من تأول كلامه، وقول المؤلف "مثل طوائف من أهل الكلام"، يعني كالجهمية والمعتزلية ونحوهم.
الفريق الثالث: وهم الذين قال عنهم المصنف: "نفوا هذا وهذا، كالقرامطة الباطنية والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر".
فهذه الطوائف نفت ما دلت عليه نصوص المعاد، من البعث والنشور والجزاء على الأعمال، كما نفت ما دلت عليه نصوص الصفات من نعوت الجلال وأوصاف الكمال، وهذا ضلال صراح وكفر بواح، وهؤلاء هم الغلاة، من القرامطة والباطنية الإسماعيلية، والفلاسفة المشائين.
فالفلاسفة إيمانهم بالله تبارك وتعالى لا يكاد يتعدى الإيمان بوجوده المطلق، -أي بوجوده في الذهن والخيال دون الحقيقة-، وأما ما عدا ذلك فلا يكادون يتفقون على شيء، فالمباحث العقدية عندهم من أسخف وأفسد ما قالوا به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة، وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلاً عن أن تكون قضايا صادقة"
(1)
.
ويتجلى فساد معتقد الفلاسفة في الله أكثر عندما نعرض لك بعض أقوالهم في ذات الله وصفاته.
(1)
الرد على المنطقيين (ص 114).
فالفلاسفة يطلقون على الله مسمى (واجب الوجود)، وتوحيد واجب الوجود عندهم يكفي مجرد تصوره للعلم الضروري بفساده.
فالتوحيد عندهم يقتضي تجريده من كل صفات الكمال اللازمة له، فهو ليس له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام، ولا غير ذلك من الصفات، ويقولون بدلاً من ذلك:(إنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعالم ومعلوم وعلم)، وجعلوا كل ذلك أموراً عدمية.
ودفعهم إلى ذلك زعمهم أن تعدد الصفات موجب للتركيب في حق الله، وفساد هذا القول جلي واضح.
فالله وصف نفسه بالصفات، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك في الكتاب والسنة نقلاً.
كما أن العقل يشهد بفساد قولهم، فإن تعدد الصفات لم تقل لغة ولا شرع ولا عقل سليم إنه يوجب تركيب الموصوف إلا عند الفلاسفة
(1)
.
ومن شنيع كلامهم كذلك زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات، فهو عندهم لا يعرف عين موسى، ولا عيسى، ولا محمداً عليهم الصلاة والسلام، فضلاً عن الوقائع التي قصها القرآن وغيرها من أمور المخلوقات. وفساد هذا القول واضح جلي في النقل والعقل.
أما النقل فالله يقول: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام 59]. وكذا العقل أيضاً شاهد بفساد هذا المعتقد، فكيف يجهل الله أموراً سيرها بأمره وأجراها بقدره
(1)
انظر الرد على المنطقيين ص 314.
وأخبر عنها في كتابه
(1)
.
ومن شنيع قولهم ما قالوه في قدرة الله من أنه فاعل بالطبع لا بالاختيار لأن الفاعل بالطبع يتحد فعله، والفاعل بالاختيار يتنوع فعله، وما دروا أنهم بهذا جعلوا الإنسان الفاعل بالاختيار أكمل من الله الفاعل بالطبع على حد زعمهم. وهذا القول مردود بقول الله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَار} [القصص 68]. ومردود بالعقل لأن الله هو أكمل الفاعلين فكيف يُشبَّه فعله بفعل الجماد.
والفلاسفة يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نَعْتَ، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئاً.
ولا شك أن الذي كان عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون من هذا، فعباد الأصنام كانوا يثبتون رباً خالقاً عالماً قادراً حياً، وإن كانوا يشركون معه في العبادة.
ففساد أقوال الفلاسفة في الله لا يضاهيه فساد، وسنعرض لأقوالهم في أسماء الله وصفاته فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل.
وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه.
فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى.
(1)
انظر الرد على المنطقيين ص 461.
فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير من دين هؤلاء.
وحَسبُكَ جهلاً بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلاناً، وضلالاً وعمى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول"
(1)
.
والذي ينبغي معرفته أن الفلاسفة لا يؤمنون بوجود الله حقيقة، ولا يؤمنون بوحي ولا نبوة ولا رسالة، وينكرون كل غيب، فالمبادئ الفلسفية جميعها تقوم على أصلين هما:
الأصل الأول: أن الأصل في العلوم هو عقل الإنسان، فهو عندهم مصدر العلم.
الأصل الثاني: أن العلوم محصورة في الأمور المحسوسة المشاهدة فقط.
فتحت الأصل الأول أبطلوا الوحي، وتحت الأصل الثاني أبطلوا الأمور الغيبية بما فيها الإيمان بالله واليوم الآخر.
وقد تسلط الفلاسفة على المسائل الاعتقادية وزعموا أنها مجرد أوهام وخيالات لا حقيقة لها ولا وجود لها في الخارج، فلا الله موجود حقيقة، ولا نبوة ولا نبي على التحقيق، ولا ملائكة، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور.
وهم ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: أهل فلسفة محضة كالفارابي والكندي وابن رشد الحفيد
(2)
.
القسم الثاني: أهل فلسفة باطنية وتنقسم إلى قسمين:
الأول: فلسفة باطنية إسماعيلية قرمطية كابن سينا وإخوان الصفا
(3)
.
(1)
إغاثة اللهفان (2/ 261 - 262).
(2)
-منهاج السنة 2/ 523، 524.
(3)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
الثاني: فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض.
فالفلاسفة دعواهم العريضة في هذا الباب هي قوله: إن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو من باب الوهم والتخييل، وهم يقولون: ليس هناك أصلاً نبوَّة على الحقيقة، وأن النبوَّة على زعمهم إنما هي أمرٌ مكتسب كأي مهنة من المهن، وأن هذا النبي استطاع بقوة ذكائه أن يخيِّل للناس أن هناك رباًّ على الحقيقة، وأن نتجلى على الحقيقة، وأن هناك بعثاً وحشراً وإلى غير ذلك، وهذا كله عندهم من باب الوهم والخيال.
تحت هذا الزعم يقولون: إن هذه الأمور لا حقيقة لها، وأن هذا الرجل إنما هو مجرد مصلحٍ زعم بأنه بهذه الطريقة استطاع أن يصلح الناس، وعند بعضهم لا بأس بالإبقاء على ذلك لأن في ذلك مصلحة، فعقول عامة الناس لا تتسع لغير ذلك، وليس بمقدور كل أحدٍ أن يدرس الفلسفة التي هم عليها حتى يعرفوا الأمر على حقيقته.
وهذا مسلك الفلاسفة، ولذلك هم ينكرون كل غيب، فعندهم أن وجود الله عز وجل لا حقيقة له وإنما هو أمر مقدر في الخيال والذهن لا في الخارج، وأن الملائكة هي قوى الخير في النفس، والشياطين هي قوى الشر في النفس، وأن الجنة هي السعادة النفسية، وأن النار هي الشقاء النفسي، إلى غير ذلك من التأويلات التي قالوها تحت هذا الزعم، فهم ليسوا مع ذلك بحاجة إلى أن يؤوِّلوا على وجه التفصيل.
فهم يقولون: إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ليس لينتفع به خواص الناس وإنما هو فقط خطابٌ للعوام والجمهور من الناس، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق، فإذاً طعنوا في علمه، وطعنوا في بيانه، وطعنوا حتى في قدرته على الحق عند بعضهم.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ثم إن كثيرًا منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا
الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها، لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام شهر رمضان كتمان أسرارهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله.
وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات. وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب.
وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى".
الشرح
أي إذا جاءوا إلى الأمور العملية فمنهم من يقرِّرها على سبيل أنها رياضات نفسية تستوي كرياضة اليوجا أو غيرها من الرياضات لأنها كلها تصبُّ في بابٍ واحد وهو تزكية النفس.
ومنهم من يقول: هي فقط للعوام وليست للخواص، ولذلك ترسخ هذا الفكر عند بعض الناس فترى أنه لا يصلي ولا يصوم ويزعم أنه مسلم لأنه يرى هذه النظرة أن الصلاة والزكاة لطائفة دون طائفة أخرى.
فإذاً في العمليات كالصلاة والصوم والزكاة والحج، منهم من يقول: تبقى على ما هي عليه لأنها من سبيل الرياضات النفسية، فالنفس تتروَّض بمثل ذلك وتزكو فلا مانع من بقائها على ما هي عليه، ومنهم من يجريها هذا المجرى ويقول: إنما
يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر بها العامة دون الخاصة، فهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم.
قال ابن تيمية: "وكان لهؤلاء الفلاسفة أقوال فاسدة تلقوها من أسلافهم الفلاسفة، ولما رأوا أن ما تواتر عن الرسل يخالفها، سلكوا طريقهم الباطنية فقالوا: إن الرسل لم تبين العلم والحقائق التي يقوم عليها البرهان في الأمور العلمية، ثم منهم من قال: إن الرسل علمت ذلك وما بينته، ومنهم من يقول: إنها لم تعلمه وإنما كانوا بارعين في الحكمة العملية دون الحكمة العلمية، ولكن خاطبوا الجمهور بخطاب تخييلي، خيلت لهم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما ينفعهم اعتقاده في سياستهم، وإن كان ذلك اعتقاداً باطلاً لا يطابق الحقائق.
وهم يقرون بالعبادات، ولكن يقولون مقصودها إصلاح أخلاق النفس، وقد يقولون إنها تسقط عن الخاصة العارفين بالحقائق فكانت بدعة أولئك المتكلمين مما أعانت إلحاد هؤلاء الملحدين"
(1)
فهذا الفريق هذا شأنه مع النصوص، طعن في النصوص وطعن في علم الرسول صلى الله عليه وسلم، وطعن في إرادته وطعن في قدرته؛ وهذا قولهم في الجملة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وحقيقة الأمر أن اسم الباطنية قد يقال في كلام الناس على صنفين:
أحدهما: من يقول إن للكتاب والسنة باطنا يخالف ظاهرها فهؤلاء هم المشهورون عند الناس باسم الباطنية من القرامطة وسائر أنواع الملاحدة.
وهؤلاء في الأصل قسمان:
قسم يرون ذلك في الأعمال الظاهرة حتى في الصلاة والصوم والحج والزكاة
(1)
-منهاج السنة 1/ 321، 322. «بتصرف»
وتحريم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك ونحو ذلك فيرون أن الخطاب المبين لوجوب هذه الواجبات وتحريم المحرمات ليس هو على ظاهره المعروف عند الجمهور ولكن لذلك أسرار وبواطن يعرفوهنا كما يقولون الصلاة معرفة أسرارنا والصوم كتمان أسرارنا والحج الزيارة إلى شيوخنا المقدسين فهؤلاء زنادقة منافقون باتفاق سلف أئمة الإسلام ولا يخفى نفاقهم على من له بالإسلام أدنى معرفة.
(وقسم): وهم خواصهم لا يقولون برفع هذه الظواهر عن الجمهور بل يقولون برفعها عن الخاصة كما يقولون في الأمور العملية فإن من دفع أن يكون الخطاب العلمي مرادا به هذه الأعمال فهو للخطاب العملي أعظم دفعا.
وهذا الصنف يقع في:
القرامطة المظهرين للرفض.
ويقع في زنادقة الصوفية من الاتحادية الحلولية.
ويقع في غالية المتكلمة لكن هؤلاء قد يدعون تخصيص الخطاب العام الموجب للصلاة والزكاة والصيام والحج، وإن كان ذلك كذبا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل لا يدعون رفع حكم الخطاب مطلقا.
وأما عقلاء هذه الطائفة الباطنية مثل ابن رشد هذا وأمثاله فإنهم يقولون بالباطن المخالف للظاهر في العلميات، وأما العمليات فيقرونهاعلى ظاهرها وهذا قول عقلاء الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام، مع أنهم في التزام الأعمال الشرعية مضطربون لما في قلوهبم من المرض والنفاق وتارة يرون سقوطها عنهم أو عن بعضهم دون العامة.
وابن سينا كان مضطربا في ذلك لكن له عهد قد التزم فيه موافقة الشريعة وهم
في الجملة يرون موافقة الشريعة العملية أولى من مخالفتها.
وليس هذا موضع تفصيل مقالات الناس ولا يكاد تفصيل الباطل ينضبط.
وأما القسم الثاني: فالذين يتكلمون في الأمور الباطنة من الأعمال والعلوم لكن مع قولهم إنها توافق الظاهر ومع اتفاقهم على أن من ادعى باطنا يخالف الظاهر فهو منافق زنديق فهؤلاء هم المشهورون بالتصوف عند الأمة وهم في ما يتكلمون فيه من الأعمال الباطنة وعلم الباطن يستدلون على ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة كما يستدل بذلك على الأعمال الظاهرة وذلك في علم الدين والإسلام كما للإنسان بدن وقلب وهؤلاء من أعظم الناس إنكارا على من يخالف الظاهر ممن فيه نوع تجهم دع الباطنية الدهرية وهم أشد إيمانا بما أخبر به الرسول صلى االله عليه و سلم باطنا وظاهرا من غيرهم وأشد تعظيما للأعمال الظاهرة مع الباطنة من غيرهم، ولكن يوجد فيهم من جنس ما يوجد في بقية الطوائف من البدعة والنفاق مثل من قد يرى الاستغناء بالعمل الباطن عن الظاهر ومن يدعي أن للقرآن باطنا يخالف ظاهره ونحو ذلك من صنوف المنافقين والزنادقة فهؤلاء بالنسبة إلى الصوفية الذين هم مشائخ الطريقة الذين لهم في الأمة لسان صدق بالنسبة إلى المنافقين الزنادقة ومن متكلمي الفلسفة ونحوهم موجودين في الفقهاء بالنسبة إلى الفقهاء الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم فكذلك المشائخ الصوفية برآء من بدع أهل التصوف فضلا عن من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته
(1)
(1)
درء تعارض العقل والنقل 1/ 119.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات على هؤلاء الملاحدة يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يَشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات، كما دل على ذلك الآيات البينات - كان ذلك هو الحق الذي يوافق المنقول والمعقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات".
الشرح
أي أن ما يذكره أهل السنة من ردود على غلاة المعطلة، هو كذلك حجة على من شارك هؤلاء المعطلة فيما قالوه، وقد سبق بيان تأثر أهل الكلام بالفلاسفة وأن هذا التأثر كان على درجات متفاوتة.
فجل ما اعتمد عليه هؤلاء المعطلة من أدلة على نفي الصفات إنما هو عبارة عن حجج عقلية مزعومة ومبتدعة بناها هؤلاء المعطلة على أصول فلسفية كانوا قد تأثروا بها، وليس لهؤلاء المعطلة في نفيهم هذا أساس من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل إلى هذا المآل والسعيد من لزم السنة
(1)
.
وحقيقة الكلام والصراع القائم في هذه المسألة، أي مسألة الأسماء والصفات، إنما هو صراعٌ بين فريقين، فريقٌ اعتمد العقل علماً وأصلاً، وبعد ذلك بعقله الفاسد أخذ يطعن في الشرع، ويترك نصوص الكتاب والسنة، ويترك ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين ومن جاء بعدهم في هذا الباب، واعتمد على ظلمات مركبة من
(1)
بغية المرتاد (ص 451).
المنطق والفلسفة، وعقد عليها أموراً في هذا الباب أوجبت عند هؤلاء رد كثير من نصوص الصفات، وسبق وأن بينَّا أن هذا الفريق لم يعملوا بنصوص الكتاب والسنة، وأن من يقرأ في كتب القوم، يجد أن هذه الكتب اعتمدت على مقدمات منطقية فلسفية أخذوها من فلاسفة اليونان وفلاسفة الهند وغيرهم، وبنوا عليها معتقدهم في هذا الباب، وبالتالي فإن الصراع قائم بين نصوص الكتاب والسنة وبين فلسفة اليونان وفلسفة الهند وغيرها من الفلسفات التي تأثر بها هؤلاء وأدخلوها على المسلمين على صورة مضيئة توهم أن هذا هو الحق؟
قال ابن تيمية: "ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب يعلم الذكي منهم والعاقل: أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة، وإنما هي كما -قيل فيها:{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 8].
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
ويعلم العليم البصير أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام "
(1)
.
ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر-والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم-رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة} فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون] {الأحقاف:26. [ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من
(1)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 193
ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا"
(1)
قال ابن رجب الحنبلي: "وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم.
فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله.
ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين.
وهذا يلزم منه ما قبله لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولًا بطريق الأولى.
كالثوري والأوزاعي والليث. وابن المبارك. وطبقتهم. وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً.
فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا باللَه ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة أنهم أبر الأمة قلوباً. وأعمقها علوماً. وأقلها تكلفاً. وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً. وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً.
وقال ابن مسعوداً أيضاً: "إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه، وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم. "
(2)
(1)
مجموع الفتاوى 5/ 119
(2)
بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص 4
وهذه المسألة تقودنا إلى أن هناك في الواقع في فكر السلمين هناك ثلاثة مناهج:
المنهج الأول: منهجٌ اعتمد الكتاب والسنة وكلام القرون الأولى من الصحابة والتابعين، وعادوا في عامة جميع أمور الدين سواءٌ كانت أموراً تتعلق بالاعتقاد أو تتعلق بالعبادات أو تتعلق بالمعاملات، أو تتعلق بغير ذلك من أحكام الإسلام كل هذا عادوا فيه إلى منهج الكتاب والسنة، وهذا هو المنهج السليم الذي سار عليه من تمسك بمنهج سلف الأمة وتمسك بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وكلام الأئمة الأربعة - رحمهم الله تعالى - ومن صار على نهجهم، وهذا المنهج قائم يدعو الناس جميعاً أن يأخذوا أمر دينهم من كلام ربهم عز وجل ومن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكلام السلف الصالح والتابعين وتابعي التابعين وأئمة هذا الدين رضوان الله تعالى عيهم أجمعين، فالله سبحانه وتعالى وأخبر في كتابه فقال:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
وفي هذه الآية جمع الله سبحانه وتعالى بين الكتاب والسنة، فقال سبحانه عن كتابه العزيز:{رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} فسماه الله روحاً، وقال عن رسوله صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
فمن تمسك بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وعاد في كل أمرٍ من أمور الدين، سواء كان هذا الأمر يتعلق بجانب بالاعتقاد أو بجانب العبادة، أو بجانب المعاملات والآداب وسائر أمور الدين رجع إلى تلك النصوص وأخذها واعتمد عليها، وكذلك استقرء ما جاء فيها من أحكام، كما قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، وقال تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. اهتدى وسعد في
الدارين.
المنهج الثاني: ما يُسمى المنهج الفلسفي أو المنهج العقلي أو المنهج الكلامي، والمقصود به قول الفلاسفة أو قول أهل الكلام أو العقلانيين.
فهؤلاء قوم جاؤا إلى ميراث أولئك الملاحدة والفلاسفة وأخذوا به، وركبوا تلك القواعد المنطقية الفلسفية، وبعد ذلك جعلوا من هذه القواعد حقائق لا تقبل الشك أو الجدل وجعلوها أموراً غير قابلة للرد.
ولذلك على هذا الأساس أخذوا يطعنون الكتاب والسنة، فطعنوا في المتواتر، وطعنوا في الآحاد، أما المتواتر فقالوا إنه ظني، والدليل العقلي قطعي، أي تلك القواعد المنطقية الفلسفية التي ركبوها وكانت من صنعهم، هي في ظنهم واعتقادهم أنها قطعية ثابتة لا تقبل النزاع ولا الأخذ ولا الرد.
أما نصوص الكتاب والسنة، وإن كانت قد ثبتت بالتواتر، فإنها في اعتبارهم ظنية أي ظنية من جهة دلالتها وبذلك لا يمكن أن تعارض الأمور الظنية الأمور القطعية، والظنية في نظرهم المتواتر من نصوص الكتاب والسنة.
وإذا لم تكن النصوص متواترة وكانت أخبار آحاد فإن القاعدة عندهم تقول إن أخبار الآحاد لا تقبل في باب الاعتقاد بمعنى أنها مرفوضة تماماً ولا تقبل، وهذا الكلام يقرره هؤلاء في كتبهم، فكتبهم تنص على هذا فيما يسمونه قانون التأويل، فأخذوا يطعنون في نصوص الكتاب والسنة إن استطاعوا أن يطعنوا في ثبوتها طعنوا، وليتهم طعنوا في ثبوتها على قواعد المحدثين لكان الأمر على الرأس والعين، فإذا لم يثبت الحديث ولم تصح الرواية ولم يصل إلى درجة الصحة أو الحسن فلا بأس أن نردها، ولكن وإن جاء في البخاري ومسلم واتفقا عليهما فإنه عند هؤلاء لا يقبل في باب العقائد ـ على حد قولهم، وهذا المنهج العقلاني ليس مقتصراً على باب العقائد
بل تجده أيضاً في علوم التفسير وتجده كذلك في أبواب الفقه وتجده في كثير من فنون العلم وخذ مثلاً مدراس التفسير فمدارس التفسير ثلاثة هي:
التفسير بالمأثور وهذا منهج أهل الحديث وأهل السنة من الاعتماد على الكتاب والسنة وكلام السلف وجعله أساساً في تفسير كتاب الله العزيز.
وهناك التفسير بالرأي وهذا هو المنهج العقلاني الذي يقول به هؤلاء وهو التفسير بالرأي وبما تراه العقول دون الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة، فهناك من فسر القرآن بالرأي الناشئ عن هوى كما فسرت المعتزلة والخوارج والإباضية والرافضة والأشاعرة والماتريدية القرآن بآرائهم وأهوائهم وتركوا تفاسير السلف إلى تفاسير محدثة فهؤلاء مذمومون، لأنهم فسروا القرآن برأي لا دليل عليه ولا حجة فيه وإنما نشأ ذلك التفسير عن هوى فهذا رأي مذموم ومردود على صاحبه.
أما من فسر القرآن بالاجتهاد والاستنباط، وكان اجتهادهم واستنباطهم صحيحا، وهذا إنما يسوغ إذا كمل لدي المفسر شروط جواز التفسير بالاجتهاد والاستنباط، وقد جمع الشروط التي بها يجوز للمفسر أن يفسر القرآن بالاجتهاد والاستنباط.
المنهج الثالث: هو المنهج الباطني، فبعد أن ذكرنا كلاً من المنهج السلفي والمنهج العقلاني بقي المنهج الباطني.
وهناك التفسير الباطني الإشاري أو التفسير بالرمز الذي يوجد عند غلاة المتصوفة والرافضة إذ جعلوا لهم رموزاً تخصهم يفسرون على أساسها نصوص الكتاب العزيز، فإنهم يقولون إن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن وقصدهم نفي الشريعة
والمنهج الباطني إما رافضي أو صوفي، والمنهج الصوفي يقوم على الوجد والذوق والكشف والمنامات والرؤى، فهؤلاء إذا بدى لهم أن يشرعوا أمراً فإن
قائلهم يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام والتقيت به وقال لي كذا وكذا، وبعد ذلك خرج للناس بطريقة صوفية جديدة أو بتشريع أمر من الأمور.
والناس يدورون بين أحد هذه المناهج أو يكون عند بعضهم خليط بين منهج ومنهج فأحيانا تجد الشخص يجمع بين المنهج الصوفي والمنهج العقلاني.
ولذلك يجد الإنسان نفسه أمام قضية مصيرية، فإما أن نكون عند طلب هذا العلم أن نرتضي لأنفسنا طريقاً ومنهجا يقوم على قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما، وقال ابن جبير، وقال أبو حنيفة، وقال مالك، وقال الشافعي، وقال الإمام أحمد، وقال ابن قتيبة، فإما أن نكون على هذا المنهج في تعلمنا لهذا الدين.
وإما أن نطوي هذه الصفحة ونستبعدها ونأتي مع من يقول قال الفضلاء قال العقلاء قال الحكماء ونؤسس على ذلك قواعد منطقية وفلسفية نبنيها ونرتبها ثم بعد ذلك نهجر كتاب الله عز وجل ونهجر كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ونعرض عن كلام السلف الصالح وأئمة هذا الدين.
وإما أن نأخذ بالمنهج الثالث الذي يقول بأن هذه الأمور تؤخذ عن طريق أنواع من السلوك والطرق ثم بعد ذلك يقول أصحابها حدثني قلبي عن ربي، ورأيت ربي، ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، أو كشف لي الحجاب، وهكذا بالذوق والمنامات وغير ذلك.
فالناس اليوم لا يخرجون في تلقيهم عن هذه المناهج الثلاثة أو جمعوا بين منهج الصوفي ومنهج الفلسفي وهذا كثير عند طوائف من الناس، وسبب خلطهم بين هذين المنهجين لأن المهج الفلسفي منهج فكري نظري يفتقر للنواحي السلوكية العملية والمنهج الصوفي منهج عملي سلوكي يفتقر للنواحي العلمية.
فالمنهج الصوفي يركز على الناحية السلوكية والتربية العملية، ولكن طرق سلوكية أحدثها هؤلاء من عند أنفسهم وجعلوها من دين الله تعالى وهي لم ترد في دين الله تعالى وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»
(1)
.
فعلى طالب العلم أن يتصور هذه المناهج وهذه المدارس ولا تغب عنه طالما هو في سبيل العلم وطريق العلم، فطالب العلم وهو يدرس فنون العلم من عقيدة وتفسير وفقه وأصول يجد هذه المدارس ماثلة أمامه.
قياس التمثيل والشمول
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يُستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أَوْلَى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أَوْلَى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أَوْلَى أن يُنزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم".
(1)
انظر صحيح البخاري كِتَابُ الصُّلْحِ، بَابُ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ، برقم (2697)، ومسلم كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ، بَابُ نَقْضِ الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ، وَرَدِّ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ (1718)، وأبو داود (4606)، وابن ماجه (14)، والإمام أحمد في المسند الْمُلْحَقُ الْمُسْتَدْرَكُ مِنْ مُسْنَدِ الْأَنْصَارِ بَقِيَّةُ خَامِسَ عَشَرَ الْأَنْصَارِ (26033).
الشرح
لما كان العقل أداة للفهم والإدراك، وما أودع الله فيه من قوة الاستدلال والنظر والمقايسة، جرى استعماله في العقائد لتأييد دلالة الشرع، وقد تضمن الكتاب والسنة جملة من المقاييس العقلية، التي هي بمثابة مقدمات منطقية للوصول إلى النتائج التي جاء بها الشرع، والأمثال المضروبة في القرآن والسنة هي نوع من هذه الأقيسة العقلية
(1)
، جاءت لتأكيد مسألة اتفاق العقل الصريح مع النقل الصحيح، فاجتمعت فيها دلالة العقل ودلالة الشرع
(2)
.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((ودلالة القرآن على الأمور نوعان:
1 ـ أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به.
2 ـ والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي ((شرعية))؛ لأن الشرع دلَّ عليها، وأرشد إليها، و ((عقلية))؛ لأنها تعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر.
وإذا أخبر الله بشيء، ودلَّ عليه بالدلالات العقلية، صار مدلولاً عليه بخبره، ومدلولاً عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتاً بالسمع والعقل، وكلاهما يدخل في دلالة القرآن التي تسمى:"الدلالة الشرعية"))
(3)
.
ومسألة قياس الأولى التي نحن بصددها، مستفادة من قاعدة الكمال في إثبات
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (3/ 305).
(2)
انظر: مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات ص (480).
(3)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 195 - 196)، وانظر: درء تعارض العقل والنقل (9/ 39)، مجموع الفتاوى (9/ 141 - 142)، بيان تلبيس الجهمية (2/ 536).
الصفات لله عز وجل، وهي تستعمل في جانب النفي أيضاً، لتنزيه الله عز وجل عن النقائص، ومبناها على جواز استعمال أحد الأقيسة العقلية في حق الله عز وجل، والذي يسمى ((قياس الأولى)).
ويمكن توضيح هذه المسألة من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: توضيح مسألة قياس الأولى.
من المقاييس الصحيحة التي يمكن الاستدلال بها في النفي في باب الصفات، قياس الأولى، وقبل الحديث عن قياس الأولى بالتفصيل، لا بد من الحديث عن القياس أولاً، وبيان بعض أنواعه بشكل مختصر، حتى يتضح لنا سبب استعمال هذا النوع من القياس في باب الصفات دون غيره.
تعريف القياس لغة واصطلاحاً
القياس في اللغة: مصدر قَاسَ الشيء على الشيء، إذا قَدَّرَهُ بِقَدْرِه، فالقياس: التقدير
(1)
.
وفي الاصطلاح المنطقي: قولٌ مؤلفٌ من قضايا متى سُلِّمت، لزم عنها لذاتها قولٌ آخر
(2)
.
والقضايا التي يتألف منها القياس ثلاث: مقدمتان ونتيجة لازمة عنهما بالضرورة، بعد التسليم بصحتهما
(3)
.
أقسام القياس
وينقسم القياس باعتبار صورته إلى قسمين، اقتراني واستثنائي، وما ألحق بهما:
(1)
انظر: المعجم الوسيط (2/ 770)، مجموع الفتاوى (9/ 119)، الكليات ص (713).
(2)
طرق الاستدلال ومقدماتها عند المناطقة والأصوليين ص (229).
(3)
المصدر السابق.
1 ـ القياس الاقتراني: (ويسمى أيضاً قياس الشمول)، وهو: ما كانت النتيجة فيه مستخلصة من المقدمات، عن طريق العقل.
فالنتيجة ليست موجودة بصورتها؛ بل بمادتها، وسمي اقترانياً لاقتران حدود القياس فيه.
ومثاله: كل عصفور طائر، ولا طائر ذو أذن؛ إذن: لا عصفور ذو أذن
(1)
.
2 ـ القياس الاستثنائي، وهو: ما كان عين النتيجة، أو نقيضها، مذكوراً في مقدماته بالفعل.
وسمي استثنائياً لاشتماله على حرف الاستثناء ((لكن))، ومثاله:
إذا أمطرت السماء، ابتلت الأرض، لكن الأرض غير مبتلة، فالسماء غير ممطرة
(2)
.
هذا القياس عند المناطقة، أما القياس الذي يستعمله الأصوليون فيسمى القياس التمثيلي، وهو الذي يسميه المتكلمون بقياس الشاهد على الغائب.
وهو: إثبات حكمٍ واحدٍ في جزئي؛ لثبوته في جزئي آخر؛ لمعنى مشترك بينهما.
ومثاله، قياس النبيذ على الخمر في تحريم شربهما؛ لاشتراكهما في علة
(1)
المصدر السابق ص (241 - 242).
وعرَّفه شيخ الإسلام بأنه: ((انتقال الذهن من المعيَّن، على المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي، بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول، وهو المعيَّن.
فهو انتقال من خاص إلى عام، ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص، من جزئي إلى كلي، ثم من ذلك الكلي إلى الجزئي الأول، فيحكم عليه بذلك الكلي))، مجموع الفتاوى (9/ 119).
(2)
طرق الاستدلال ومقدماتها ص (242).
الإسكار
(1)
.
وأكثر المناطقة يجعلون القياس هو الشمول لا التمثيل في إفادته لليقين، والصحيح أنهما متلازمان، ويمكن ردّ كل واحد منهما إلى الآخر كما يرجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
يوضح ذلك أن يقال: النبيذ حرام كالخمر بجامع الإسكار، وهذا إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة، وهو قياس التمثيل، أو يقال: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، النتيجة: النبيذ حرام، وهذا قياس شمول.
فاليقين أو الظن، إنما يستفاد من صدق مقدمات القضية أو عدمه، لا من كون القياس المستعمل شمولياً أو تمثيلياً
(3)
.
الأمر الثاني: لا يجوز استعمال قياس الشمول والتمثيل في حق الله تعالى.
لما كان كلاً من القياس الشمولي والتمثيلي يستلزم أن يندرج الخالق والمخلوق تحت أصل وفرع، أو تحت قضية كلية يستوي أفرادها، كان كلاً منهما مما لا يجوز استعماله في العلم الإلهي؛ لأنه لا يمكن جمع الخالق والمخلوق تحت أصل وفرع، ولا يجوز أن يمثَّل الله عز وجل بغيره، كما لا يجوز أن يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها، لعظم الفرق بين الخالق والمخلوق، بل لا تتصور النسبة الجامعة بينهما، فضلاً عن أن يقاس أحدهما بالآخر.
قال شيخ الإسلام: ((إن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي
(1)
المصدر السابق ص (285).
وعرَّفه شيخ الإسلام بقوله: ((وأما قياس التمثيل فهو: انتقال الذهن من حكم معين إلى حكم معين، لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلي))، مجموع الفتاوى (9/ 120).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (9/ 188، 199، 234، 259)، الرد على المنطقيين ص (115 - 117).
(3)
انظر: المصدرين السابقين.
يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يُمَثَّل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها.
ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها))
(1)
.
الأمر الثالث: القياس الذي يجوز استعماله في حق الله تعالى هو قياس الأولى
الذي يستعمل في حقه سبحانه وتعالى قياس الأولى، ومضمون هذا القياس أن يقال: كل نقص وعيب في نفسه -وهو ما تضمن سلب الكمال- إذا وجب نفيه عن شيء ما من أنواع المخلوقات والمحدثات والممكنات، فإنه يجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى
(2)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 29)، وانظر:(7/ 59 - 60، 322، 362)، بيان تلبيس الجهمية
(1/ 327)، مجموع الفتاوى (12/ 347)، نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، ضمن مجموع الفتاوى (9/ 141)، الرد على المنطقيين ص (150، 350 - 351)، شرح العقيدة الأصفهانية ص (44، 74)، التدمرية ص (50)، مفتاح دار السعادة (2/ 479)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 87).
(2)
مجموع الفتاوى (3/ 297)، وانظر:(3/ 302، 5/ 201، 12/ 347 - 350، 356)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 30، 2/ 6، 341، 7/ 154، 322، 362 - 368)، منهاج السنة النبوية (1/ 371، 417، 3/ 151، 222)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 321، 328، 2/ 354، 536)، الرد على المنطقيين ص (150، 350 - 351)، شرح العقيدة الأصفهانية ص (44، 74، 117 - 118)، التدمرية ص (50)، أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ضمن مجموع الفتاوى (8/ 149)، نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، ضمن مجموع الفتاوى (9/ 141)، مفتاح دار السعادة (2/ 479)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 87)، شرح القصيدة النونية (2/ 246)، توضيح المقاصد وتصحيح القواعد (2/ 388)، تيسير الكريم الرحمن ص (589).
تنبيه مهم: ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته بيتاً في بيان الطرق التي يعرف بها العبد ربه فقال:
بالضِّدِّ والأولى كذا بالامتنا ع لعلمنا بالنفس والرحمن
في أثناء شرح الشيخ محمد خليل هراس-رحمه الله-لهذا البيت، عرَّف الطريقة الثالثة، وهي: الامتناع بقوله: "الوجه الثالث: الاستدلال على تنزيهه سبحانه عن النقص بطريق الامتناع، وذلك أن يقال: كل نقص تنزه عنه المخلوق، فإنه يمتنع أن يتصف به الخالق، إذ الخالق أولى بتنزهه عن النقص من المخلوق" اهـ شرح القصيدة النونية (2/ 346).
ولعل هذا سهوٌ منه-رحمه الله، فإن هذه الطريقة تسمى قياس الأولى وهي فرع عن الوجه الثاني الذي ذكره الإمام ابن القيم بقوله و"الأولى"، والتي شرحها الشيخ محمد في الوجه الثاني، أما الامتناع فطريقة أخرى، مضمونها أن يقال: هذه صفة نقص، فتمتنع في حق الله عز وجل، انظر: توضيح المقاصد (2/ 388).
وذلك بقطع النظر عن كون المخلوق متصفاً بها أم لا، ولا وجه فيها للأولوية كما ذكر الشيخ، وكما يتبين في تعريف قياس الأولى، ونقول العلماء الذين ذكروا هذا القياس يجمعون فيه النفي والإثبات. والله أعلم.
وبعبارة أخرى: ((كل نقص يُنزه عنه مخلوق من المخلوقات، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه))
(1)
.
وهذا القياس فرع عن قياس الأولى في جانب الإثبات، والذي مضمونه: أن كل كمال لا يستلزم نقصاً بوجه من الوجوه، ثبت للمخلوق، فالخالق أولى بالاتصاف به
(2)
.
الأمر الرابع: قياس الأولى من الأقيسة البرهانية اليقينية
فالنقص مناقض الكمال، وإذا كان الله تعالى أحق بثبوت الكمال، كان أحق بنفي النقص عنه، وهذا من الأمور العقلية اليقينية التي لا يمكن دفعها
(3)
، لهذا كان هذا
(1)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 362).
(2)
انظر: المصادر السابقة هامش (2) من الصفحة السابقة، والصفدية (2/ 25 - 27)، مجموعة الرسائل والمسائل (3/ 412، 450)، الصواعق المرسلة (3/ 1018، 4/ 1328)، مدارج السالكين (1/ 460 - 461)، جلاء الأفهام ص (183)، ابن تيمية السلفي ص (107 - 108).
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية (1/ 371).
النوع من القياس مما يدخل تحت ما يسمى بالقياس البرهاني
(1)
.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((وأما هذا القياس "قياس الأولى"، ووجوب تنزيه الرب عن كل نقص ينزه عنه غيره ويذم به سواه، فهذا فطري ضروري متفق عليه))
(2)
.
الأمر الخامس: توضيح هذا القياس.
ويزيد هذا القياس توضيحاً كلام شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: ((ثم القياس تارة تعتبر
(3)
فيه القدر المشترك من غير اعتبار الأولوية، وتارة يعتبر فيه الأولوية، فيؤلف على وجه قياس الأولى، وهو إن كان قد يجعل نوعاً من قياس الشمول والتمثيل، فله خاصة يمتاز بها عن سائر الأنواع، وهو: أن يكون الحكم المطلوب أولى بالثبوت من الصورة المذكورة في الدليل الدالّ عليه، وهذا النمط هو الذي كان السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره من السلف يسلكونه من القياس العقلي في أمر الربوبية، وهو الذي جاء به القرآن، وذلك أن الله سبحانه لا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قياس الشمول الذي تستوي أفراده، ولا تحت قياس التمثيل الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في نفسه المذكورة بأسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولكن يسلك
في شأنه قياس الأولى))
(4)
.
وقال في موضع آخر: ((وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعاً
للقرآن، فيدلُّ على أنه: يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتاً
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (7/ 362)
وتقسيم القياس الذي سبق ذكره إلى اقتراني (شمولي)، وتمثيلي، هو تقسيم له باعتبار صورته، ويقسم أيضاً باعتبار مادة مقدماته إلى قسمين: 1 - قياس يقيني المقدمات، 2 - قياس غير يقيني المقدمات.
والأول هو الذي يسمى بالقياس البرهاني: وهو المؤلف من مقدمات قطعية لإفادتها اليقين.
انظر: الشفاء (5/ 4)، الكليات ص (713)، طرق الاستدلال ومقدماتها ص (263).
(2)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 544).
(3)
هكذا في المطبوع، والصواب ((يعتبر)).
(4)
شرح العقيدة الأصفهانية ص (74).
لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق؛ بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا ينحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق، أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما بين له: أن ما يثبت للرب أعظم من كل ما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره))
(1)
.
وهذا يصدق أيضاً على كل نقص تنزه عنه المخلوق، فيعلم أن ما يتنزه الله عز وجل عنه أعظم مما ينزه عنه كل ما سواه.
ففرق بين استعمال هذا النوع من القياس الذي تعتبر فيه الأولوية، واستعمال قياس الشمول والتمثيل على الأصل الذي عرَّفه به المناطقة والأصوليون، بأن يدخل الفرع تحت الأصل لعلةٍ جامعةٍ، أو أن يشمل الحكم الأصل والفرع، فهذا لا بد وأن تكون نتائجه خاطئة إذا استعمل في حق الله عز وجل، أما إذا استعمل هذا القياس مع اعتبار الأولوية، بأن يكون الحكم المطلوب، وهو: التنزه عن النقص في هذه الحال، أولى بالثبوت في حق الله عز وجل من الصورة المذكورة في الدليل الدال عليه، وهي هنا: وجوب تنزه المخلوق عن النقص، فهذا القياس إذا أُلف على هذه الطريقة كانت نتائجه صحيحة، بل غاية في إفادة اليقين، وشدة التعظيم لله عز وجل.
الأمر السادس: أوجه الأولوية في هذا القياس
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً: ((فكل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أحق به من وجهين:
أحدهما: أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم أكمل من المخلوق القابل للعدم المحدث المربوب.
(1)
مجموع الفتاوى (9/ 145)، وانظر: الرد على المنطقيين ص (154).
الثاني: أن كل كمال فيه فإنما استفاده من ربه وخالقه؛ فإذا كان هو مبدعاً للكمال، وخالقاً له، كان من المعلوم بالاضطرار أن معطي الكمال وخالقه ومبدعه أولى بأن يكون متصفاً به من المستفيد المبدع المعطي))
(1)
.
ويقال أيضاً في الأولوية في جانب النقص، أنها من وجهين:
الأول: أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم منزه عن النقائص والعيوب.
الثاني: أن كل نقص تنزه عنه المخلوق المربوب فإنما نزَّهَهُ عنه ربه وخالقه، فإذا كان الله عز وجل هو المُنَزِّهُ غيره عن النقص، كان معلوماً بالاضطرار أن الذي ينزه غيره عن النقائص أولى بالتنزه عنها من غيره.
الأمر السادس: استعمال النفاة لقياس التمثيل والشمول في حق الله عز وجل أدى إلى نفيهم الصفات
ومثال استعمال النفاة لقياس التمثيل والشمول في باب الصفات، على الطريقة المعهودة لدى المناطقة، وما نتج عن هذا الاستعمال الخاطئ من نفي لصفات الله عز وجل:
قولهم حينما استخدموا قياس التمثيل: لو كان الله متصفاً بالصفات، لكان جسماً، قياساً على المخلوق، فأدخلوا الله عز وجل الخالق مع المخلوق المربوب في قضية يستوي فيها الأصل والفرع، فأداهم ذلك إلى الحكم بالمماثلة، التي يوجبها هذا القياس، لاشتراك الخالق والمخلوق في أن كلاً منهما متصف بالصفات، وفراراً من هذه المماثلة المنتفية في العقل والشرع، رتبوا على ذلك أن الله عز وجل لا يجوز أن يكون متصفاً بالصفات، فراراً من هذا المحذور الذي أوقعهم فيه استعمالهم لهذا القياس الفاسد.
(1)
شرح العقيدة الأصفهانية ص (117 - 118).
وقولهم حينما استخدموا قياس الشمول: المخلوق متصف بالصفات، وكل متصف بالصفات فهو جسم، فالله عز وجل ليس متصف بالصفات؛ لأنه يستحيل أن يكون جسماً بزعمهم، فنفوا الصفات لئلا يدخل الله عز وجل في عموم قولهم:"وكل متصف بالصفات فهو جسم"
(1)
.
((فهؤلاء النفاة أشركوا الخالق مع المخلوق، واستعملوا في حقه قياس التمثيل، الذي يستوي فرعه بأصله بجامع العلة المشتركة بينهما، واستعملوا في حقه سبحانه قياس الشمول، الذي تستوي أفراده، وتندرج تحت قضية كلية، وهذا كما أنه مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، فهو مخالف أيضاً للفطرة السليمة، والعقول الصحيحة))
(2)
.
فكانت النتيجة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها))
(3)
.
الأمر السابع: احتراز مهم في هذه القاعدة
إن هذه القاعدة التي يذكرها أهل العلم، لا بد فيها من مراعاة مفهوم النقص في حق الله عز وجل، الذي يجب أن ينزه عنه؛ لأن هناك أمور هي نقص في حق المخلوق، ولكنها كمالٌ في حق الخالق، ومن ذلك:
الكبرياء والعظمة، فإنه نقص في حق المخلوق لكنه كمال في حق الخالق، فإن
(1)
انظر: التحفة المهدية ص (130)، وانظر: شرح العقيدة الأصفهانية ص (74 - 75)، منهاج السنة النبوية (2/ 313).
(2)
التحفة المهدية ص (130 - 131).
(3)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 29).
الله عز وجل يسمى بالمتكبر، ويوصف بالكبرياء، قال تعالى:{الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:((العِزُّ إِزَارُهُ، وَالكِّبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ))
(2)
.
قال الإمام النووي
(3)
رحمه الله: ((ومعنى ينازعني: يتخلق بذلك، فيصير في معنى المشارك))
(4)
.
فهذا الوصف إذا صدر عن المخلوق كان نقصاً في حقه، وذلك لضعف الإنسان وافتقاره إلى ربه وحاجته إليه في كل أحواله، فلا يناسب وصفه هذا أن يكون متكبراً متعاظماً؛ لأنه خلاف الواقع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((
…
فاحترازٌ عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصاً، كالأكل والشرب مثلاً، فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان، أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل والشرب؛ لأن قوامه بالأكل والشرب، فإذا قُدِّرَ غير قابلٍ له، كان ناقصاً عن القابل لهذا الكمال، لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره، وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب، وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات، وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه، أكمل ممن يحتاج إلى دخول شيء فيه، وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج
في كماله إلى غيره؛ فإن الغني عن شيء أعلى
(1)
الآية [23] من سورة الحشر.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (16/ 389 مع النووي)، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكبر، برقم (6623).
(3)
يحي بن شرف بن مري الحزامي، أبو زكريا النووي الشافعي، الفقيه المحدث، صاحب التصانيف الجليلة، التي ما كانت لتتفق لغيره فإنه عاش رحمه الله خمسة وأربعين سنة فقط، ومع ذلك ألف الدواوين العظيمة، توفي في نوا بسوريا سنة 676 هـ.
انظر ترجمته في: الضوء اللامع (10/ 226)، الأعلام (8/ 149).
(4)
شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 389).
من الغني به، والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره.
ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق وهو نقص بالنسبة إلى الخالق، وهو كل ما كان مستلزماً لإمكان العدم عليه، المنافي لوجوبه وقيوميته، أو مستلزماً للحدوث المنافي لقدمه، أو مستلزماً لفقره المنافي لغناه))
(1)
.
وقال في موضع آخر: ((إن الذي يستحقه الرب هو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأنه الكمال الممكن للموجود، ومثل هذا لا ينتفي عن الله أصلاً، والكمال النسبي، هو المستلزم للنقص، فيكون كمالاً، من وجه دون وجه، كالأكل للجائع كمالٌ له، وللشبعان نقص فيه، لأنه ليس بكمال محض، بل هو مقرون بالنقص.
والتعالي والتكبر والثناء على النفس، وأمر الناس بعبادته ودعائه والرغبة إليه، ونحو ذلك، مما هو من خصائص الربوبية، هذا كمال محمود من الرب تبارك وتعالى، وهو نقص مذموم من المخلوق))
(2)
.
((فالكبرياء والعظمة له، بمنزلة كونه حياً قيوماً قديماً واجباً بنفسه، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه العزيز الذي لا ينال، وأنه قهار لكل ما سواه.
فهذه كلها صفات كمال لا يستحقها إلا هو، فما لا يستحقه إلا هو، كيف يكون كمالاً من غيره وهو معدوم لغيره؟ فمن ادعاه كان مفترياً منازعاً للربوبية في خواصِّها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: العَظَمَةُ إِزَارِي، وَالكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مِنْهُمَا عَذَبْتُهُ))
(3)
، وجملة ذلك أن الكمال
(1)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 240).
(2)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 239).
(3)
أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود في سننه (4/ 226 - 227)، كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، برقم (4090)، وابن ماجه في سننه (4/ 457)، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر، والتواضع، برقم (4174).
المختص بالربوبية ليس لغيره فيه نصيب، فهذا تحقيق اتصافه بالكمال الذي لا نصيب لغيره فيه، ومثل هذا الكمال لا يكون لغيره، فادعاؤه منازعة للربوبية، وفرية على الله))
(1)
.
فهذا القيد مهم جداً في تطبيق هذه القاعدة وفهمها، واحتراز بالغ الأهمية تجب مراعاته والاعتناء بفهمه ودركه؛ لئلا ينسب إلى الله عز وجل شيء من النقص الذي يتنزه عنه.
يوضحه أن يقال مثلاً: الولد كمال في المخلوق وعدمه نقص بالنسبة له، فلا يقال بناءً على هذه القاعدة: أن عدم الولد نقص تنزه المخلوق عنه، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فتنزيه الله عز وجل عنه من باب أولى، فيجب إذاً إثبات الولد لله عز وجل، وذلك لأمرين:
1 ـ أن تنزيه الله عز وجل عن الولد، ثابتٌ في كثيرٍ من نصوص الكتاب والسنة.
2 ـ أن الولد بالنسبة للإنسان كمال، لكنه كمال مقترن بالنقص، لحاجته إليه في بقاء النوع الإنساني، والمعاونة والخدمة حال الكبر، ونحو ذلك، أما الله عز وجل فليس كمثله شيء، ولا يحتاج إلى غيره في شيء، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه مفتقرٌ إليه سبحانه وتعالى.
ومثل هذا يقال في جميع الصفات التي يعد انتفاؤها نقص نسبي في حق المخلوق، وأما هذه القاعدة فتختص بما هو نقص محض: كالظلم، والكذب، والجهل، ونحو ذلك والله أعلم.
(1)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 240).
الأمر الثامن: أدلة القاعدة.
علمنا من خلال المطلب السابق معنى قياس الأولى، والذي ورد استعماله في الأمثال المضروبة في القرآن الكريم، فاجتمعت فيه الدلالة الشرعية مع الدلالة العقلية، مما يزيده قوة في الاحتجاج به في مسائل الصفات، وما نحن بصدده من نفي النقائص عن الله عز وجل.
وهذا القياس مأخوذ من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل الآية: 60]، وقوله تعالى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم الآية: 27]، فالمثل الأعلى، هو: الوصف الأعلى، الذي وصف الله به نفسه، وجعل مثل السوء المتضمن للعيوب، والنقائص، ونفي الكمال، للمشركين، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها، له وحده، و (الأعلى) أفعل تفضيل، فمعنى ذلك: أنه أعلى من غيره، فكيف يكون أعلى وهو عدم محض، ونفي صرف، تعالى الله عن قول المعطلين علواً كبيراً
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((والرب تعالى له المثل الأعلى، وهو أعلى من غيره، وأحق بالمدح والثناء من كل ما سواه، وأولى بصفات الكمال، وأبعد عن صفات النقص، فمن الممتنع أن يكون المخلوق متصفاً بكمالٍ لا نقص فيه والرب لا يتصف إلا بالكمال الذي لا نقص فيه، وإذا كان يأمر عبده أن يفعل الأحسن والخير، فيمتنع أن لا يفعل هو إلا ما هو الأحسن والخير، فإن فعل الأحسن والخير مدح وكمال لا نقص فيه، فهو أحق بالمدح والكمال الذي لا نقص فيه من غيره))
(2)
.
قال الإمام الطبري-رحمه الله: (({وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل الآية: 60 [وهو الأفضل والأطيب والأحسن والأجمل))
(3)
.
(1)
انظر: الصواعق المرسلة (3/ 1030 - 1031)، التحفة المهدية (131).
(2)
رسالة في معنى كون الرب عادلاً وفي تنزهه عن الظلم، ضمن جامع الرسائل (1/ 136).
(3)
جامع البيان (14/ 125)، وانظر:(21/ 38).
وقال الإمام القرطبي-رحمه الله: (({الْمَثَلُ الْأَعْلَى}: أي الوصف الأعلى))
(1)
.
وقال أيضاً: ((وقال قتادة: "هذا مثل ضربه الله للمشركين"، والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء))
(2)
.
وقال الحافظ ابن كثير-رحمه الله: ((وقوله ها هنا: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ}، أي: النقص إنما ينسب إليهم، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل الآية: 60]، أي: الكمال المطلق من كل وجه، وهو منسوب إليه))
(3)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي-رحمه الله: ((قال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ}، أي: المثل الناقص والعيب التام، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل الآية: 60]، وهو كل صفة كمال، وكل كمال في الوجود، فالله أحق به، من غير أن يستلزم ذلك نقصاً بوجه من الوجوه))
(4)
.
وقال أيضا: (({وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم الآية: 27]، وهو كل صفة كمال، والكمال من تلك الصفة
…
، فالمثل الأعلى، هو وصفه الأعلى، وما ترتب عليه.
لهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري، قياس الأولى، فيقولون: كل صفة كمال في المخلوقات، فخالقها أحق بالاتصاف بها، على وجه لا يشاركه فيها أحد. وكل نقص في المخلوق، ينزه عنه، فتنزيه الخالق عنه، من باب أولى وأحرى))
(5)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (10/ 119)، وانظر:(14/ 16).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (14/ 16).
(3)
تفسير القرآن العظيم (2/ 554).
(4)
تيسير الكريم الرحمن ص (395)، وانظر: ص (589).
(5)
المصدر السابق ص (589).
قال الإمام ابن القيم-رحمه الله-في بيان المثل الأعلى: ((
…
فجعل مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص، وسلب الكمال للمشركين وأربابهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده؛ ولهذا كان المثل الأعلى، وهو أفعل تفضيل، أي: أعلى من غيره؛ فكيف يكون أعلى وهو عدم محض، ونفي صرف، وأي مثل أدنى من هذا، تعالى الله عن قول المعطلين علواً كبيراً.
فمثل السوء لعادم صفات الكمال؛ ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته؛ لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملاً، وهي الإيمان، والعلم، والمعرفة، واليقين، والعبادة لله، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والصبر، والرضا، والشكر، وغير ذلك من الصفات، التي اتصف بها من آمن بالآخرة، فلما سلبت تلك الصفات عنهم وهي صفات كمال، صار لهم مثل السوء، فمن سلب صفات الكمال عن الله، وعلوه على خلقه، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ومشيئته، وحياته، وسائر ما وصف به نفسه، فقد جعل له مثل السوء، ونزهه عن المثل الأعلى، فإن مثل السوء هو: العدم وما يستلزمه، وضده المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق، المتضمن للأمور الوجودية، والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل، كان أعلى من غيره، ولما كان الرب تعالى هو الأعلى، ووجهه الأعلى، وكلامه الأعلى، وسمعه الأعلى، وبصره، وسائر صفاته عليا، كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان؛ لأنهما إن تكافآ، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ، فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده، يستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير، وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال، على استحالة التمثيل
والتشبيه، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة))
(1)
.
ومن أمثلة ورود هذا القياس على طريقة التنزيه في القرآن الكريم، قوله تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم الآية: 28]، وفي قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل الآيات: 57 - 60].
فإن الله تعالى احتج على المشركين وأهل الكتاب، فيما يثبتون له من الشريك والبنات، بأنهم يُنزهون أنفسهم عن ذلك؛ لأنهم يعتبرون ذلك نقصاً وعيباً في حقهم؛ فإذا كانوا لا يرضون بهذا الوصف والمثل السوء لأنفسهم؛ فكيف يصفون به ربهم، ويجعلون له مثل السوء، والرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منهم؟!.
والله عز وجل يستعمل في ذلك استفهام الإنكار، إقامةً للحجة عليهم، وبياناً لبطلان ما أنكره عليهم وامتناعه، وأن ذلك مما استقر في الفطر والعقول السليمة
(2)
.
سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، وصدق الله القائل:{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: الآية 33].
((ومثل هذا في القرآن متعدد، من وصف الأصنام بسلب صفات الكمال، كعدم التكلم والفعل، وعدم الحياة، ونحو ذلك، مما يبين أن المتصف بذلك منتقص
(1)
الصواعق المرسلة (3/ 1030 - 1032).
(2)
انظر: بيان تلبيس الجهمية (2/ 535 - 536)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 36 - 37)، (7/ 362 - 365)، الصواعق المرسلة (3/ 916 - 917، 1035 - 136)، مفتاح دار السعادة (2/ 480 - 481).
معيب، كسائر الجمادات، وأن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب.
وأما رب الخلق الذي هو أكمل من كل موجود، فهو أحق الموجودات
بصفات الكمال، وأنه لا يستوي المتصف بصفات الكمال، والذي لا يتصف بها، وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات، فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف، فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة التي عابها الله تعالى، وعاب عابديها))
(1)
.
ونظير هذا التمثيل جاء في السنة النبوية الصحيحة، في نفي الشريك عن الله عز وجل باستعمال قياس الأولى.
وذلك في مثل حديث الصحابي الجليل الحارث الأشعري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((
…
أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلَ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْداً مِنْ خَاِلصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ، وَيُؤَدِي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدَهُ كَذَلكَ، وَإِنْ اللهَ عز وجل خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ، فَاعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)) الحديث
(2)
.
الأمر التاسع: استعمال السلف لهذا النوع من القياس
لقد ورد استعمال هذا القياس في كلام السلف الصالح، مما يعطي قوة في حجية هذا القياس، ويزيده تأكيداً.
(1)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 204)،
وانظر: الرد على المنطقيين ص (350 - 351)، النبوات (2/ 890 - 893)، شرح العقيدة الأصفهانية ص (117 - 118).
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (5/ 136 - 137)، كتاب الأمثال باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة، برقم (2863)، وصححه الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن الترمذي برقم (2298)، والإمام أحمد في المسند (4/ 130) وغيره، انظر تخريجه بالتفصيل في طبعة مؤسسة الرسالة من المسند (28/ 404 - 407)، وقد حكم عليه الترمذي، والحاكم، والذهبي، والألباني بالصحة، ووافقهم محقق المسند.
من ذلك ما ورد عن إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، حيث استعمل هذا القياس أثناء رده على نفاة الصفات من الجهمية، فقال: ((
…
ووجدنا كل شيء أسفل منه مذموماً، يقول الله جلَّ ثناءه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء الآية: 145]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت الآية: 29].))
(1)
.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعليقاً على هذا الاستعمال من الإمام أحمد: ((وهذه الحجة من باب قياس الأولى، وهو أن السفل مذموم في المخلوق، حيث جعل الله أعداءه في أسفل السافلين، وذلك مستقر في فطر العباد، حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يُجعلوا تحت أقدامهم؛ ليكونوا من الأسفلين، وإذا كان هذا مما ينزه عنه المخلوق، ويوصف به المذموم المعيب من المخلوق، فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن أن يكون في السفل، أو أن يكون موصوفاً بالسفل، هو أو شيء منه، أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه، بل هو العلي الأعلى بكل وجه))
(2)
.
واستعمله الإمام أحمد في موطن آخر أيضاً، فقال: ((
…
وخصلة أخرى: لو أن رجلاً بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها، وخرج منها، كان لا يخفى عليه كم بيت في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله سبحانه له المثل الأعلى، قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو وما هو، من غير أن يكون في جوف شيء مما خلق))
(3)
.
فقال شيخ الإسلام-رحمه الله-تعليقاً أيضاً على كلام الإمام أحمد: ((وهذا أيضاً قياس
(1)
الرد على الجهمية والزنادقة ص (49).
(2)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 543).
(3)
الرد على الجهمية والزنادقة ص (49).
عقلي، من قياس الأولى، قرر به إمكان العلم بدون المخالطة، فذكر أن العبد إذا فعل مصنوعاً كدار بناها، فإنه يعلم مقدارها، وعدد بيوتها، مع كونه ليس هو فيها؛ لكونه هو بناها، فالله الذي خلق كل شيء، أليس هو أحق بأن يعلم مخلوقاته، ومقاديرها، وصفاتها، وإن لم يكن فيها، محايثاً لها، وهذا من أبين الأدلة العقلية))
(1)
.
وعلَّل شيخ الإسلام سبب استعمال الإمام أحمد رحمه الله لهذه الأقيسة العقلية، في باب العقائد، دون غيره من الأئمة الذين سبقوه بقوله: ((وأحمد أشهر وأكثر كلاماً في أصول الدين بالأدلة القطعية، نقليها وعقليها، من سائر الأئمة، لأنه ابتلي بمخالفي السنة فاحتاج إلى ذلك، والموجود في كلامه من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة، لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة، ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد، لم يسلك فيه إلا قياس الأولى، وهو الذي جاء به الكتاب والسنة، فإن الله لا يماثل غيره
في شيء من الأشياء، حتى يتساويا في حكم القياس، بل هو سبحانه أحق بكل حمد، وأبعد عن كل ذم، فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو أحق به من كل ما سواه، وما كان من صفات النقص، فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه))
(2)
.
واستعمله كذلك الإمام أبو سعيد الدارمي رحمه الله في إثبات صفة الكمال، بطريق قياس الأولى، فقال:((فالله المتكلم أولاً وآخراً، لم يزل له الكلام إذ لا متكلم غيره، ولا يزال له إذا لا يبقى متكلم غيره فيقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر الآية 16]، أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فلا يُنْكِر كلام الله عز وجل إلا من يريد إبطال ما أنزل الله عز وجل. وكيف يَعجَزُ عن الكلام، من علَّم العباد الكلام وأنطق الأنام؟!))
(3)
.
(1)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 547)، وانظر: درء تعارض العقل والنقل (7/ 154 - 155).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 154).
(3)
الرد على الجهمية ص (155)، رقم (275).
وقال أيضاً: ((وقال لقوم موسى حين اتخذوا العجل: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه الآية 89]، وقال:{عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف الآية: 148].
قال أبو سعيد: ففي كل ما ذكرنا تحقيق كلام الله وتثبيته نصاً بلا تأويل، ففيما عاب الله به العجل في عجزه عن القول والكلام، بيانٌ بيِّنٌ أن الله عز وجل غير عاجزٍ عنه، وأنه متكلمٌ وقائلٌ؛ لأنه لم يكن يَعيب العجل بشيء هو موجود به.
وقال إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}
…
الآية إلى قوله {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء الآية: 63 - 67]، فلم يُعِبْ إبراهيم أصنامهم وآلهتهم التي يعبدون بالعجز عن الكلام، إلا وأن إلهه متكلمٌ قائلٌ))
(1)
.
فالإمام الدارمي-رحمه الله-أورد هذه الحجة العقلية، ومضمونها أن من علَّم العباد الكلام وأنطق الأنام، كيف يعجز هو عن الكلام، الذي هو صفة كمال في المخلوق استفاده من خالقه، فهو الذي علمه الكلام وأقدره عليه، وعدم الكلام نقصٌ في حق المخلوق، فإذا كان كذلك فواهب هذا الكمال أولى بالاتصاف به على الوجه اللائق به، وأولى بتنزيهه عن النقص المتمثل في عدم الكلام، الذي ينزه عنه المخلوق
(2)
.
ومن ذلك أيضاً استعماله من طرف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جواز رؤية الله عز وجل، وفي مسألة علو الله تعالى على خلقه، ومبيانته لهم، فقال:
((فإنا قد قدمنا فيما تقدم، أن الأمثال المضروبة إذا كانت من باب الأولى جاز استعمالها في حق الله تعالى، كما ورد به القرآن والسنة، واستعملها السلف والأئمة، كما يقال: إذا كان العبد ينزه نفسه عن شريك أو أنثى، فتنزيه ربه أولى، وإذا كان العبد
(1)
الرد على الجهمية ص (156 - 157)، رقم (280 - 282).
(2)
انظر تمثيل مشابه للإمام ابن القيم في: الصواعق المرسلة (3/ 914 - 916).
عالماً قادراً فالله أولى.
وكذلك] مسألة الرؤية [؛ فإن حاصلها أنه إذا جاز رؤية الموجود المحدث الممكن، فرؤية الموجود الواجب القديم أولى. وإذا كان المخلوق الناقص في وجوده يجوز أن يُرى ويُحس به، فالرب الكامل في وجوده أحق بأن يُرى؛ فإن كون الشيء بحيث يُرى كمال في حقه لا نقص؛ لأن كونه لا يُرى، ولا يُحس به، لا يثبت في الشاهد إلا للمعدوم، فكل صفة لم نعلمها تثبت إلا لمعدوم، فإنها لا تكون صفة نقص إلا بالنسبة إلى وجود آخر هو أكمل منها، وكل صفة لا تثبت للمعدوم ولا يختص بها الناقص، فإنها لا تكون إلا صفة كمال، وهذه طريقة في المسألة يتبين بها أن جواز الرؤية من صفات الكمال التي هو الباري أحق بها من المخلوقات.
ونظيرها في مسألة العلو: أن علو الشيء بنفسه على غيره صفة كمال، كما أن قدرته عليه صفة كمال. وإذا كان كذلك فالله أحق بهذه الصفة من جميع ما يوصف بها غيره، فيجب أن يكون عالياً بنفسه، وكذلك تميزه بذاته عن غيره هي صفة لا يوصف بها المعدوم، ولا تختص بالناقصات فتكون صفة كمال، فيجب اتصاف الله بها، وذلك يوجب مباينته للعالم))
(1)
.
واستعمله الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان حكمته تعالى، فقال:
((وكذلك إذا استدللنا على حكمته تعالى بهذه الطرائق
(2)
، نحو أن يقال: إذا كان الفاعل الحكيم الذي لا يفعل فعلاً إلا لحكمةٍ وغايةٍ مطلوبةٍ له من فعله، أكمل ممن يفعل لا لغايةٍ ولا لحكمةٍ ولا لأجل عاقبةٍ محمودةٍ، وهي مطلوبة من فعله في الشاهد؛ ففي حقه تعالى أولى وأحرى، فإذا كان الفعل للحكمة كمالاً فينا، فالرب تعالى أولى به وأحق،
(1)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 354).
(2)
يقصد طريقة قياس الأولى.
وكذلك إذا كان التنزه عن الظلم والكذب كمالاً في حقنا، فالرب تعالى أولى وأحق بالتنزه عنه))
(1)
.
هذه بعض الأمثلة على استعمال هذا النوع من القياس في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وكلام السلف الصالح -رحمهم الله تعالى-، وتركت أشياء غير التي ذكرت مخافة التطويل واكتفاءً بما ذكر، أن ينبه على ما لم يذكر؛ فإنه جارٍ مجراه وسائر على منواله.
وفي هذه النماذج التي ذكرتها من استعمال السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- لهذا النوع من القياس العقلي الصحيح، ردٌ على طوائف النفاة الذين يدَّعون أن السَّلف ليس لهم معرفة بالعقليات، وأنهم ينكرون دور العقل في تحصيل المعرفة والاستدلال عليها، وردٌ أيضاً على طائفة ممن غلت في نفي دور العقل، وبخاصة أهل التصوف منهم، الذين ظنوا أن الكلام في التوحيد، وخاصة باب الصفات منه، لا يكون بالقياس العقلي، وأن استعمال ذلك بدعة وهو المعني من ذم السلف لعلم الكلام.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((فأما ما يفعله طوائف من أهل الكلام
من إدخال الخالق والمخلوقات تحت قياس أو تمثيل يتساويان فيه، فهذا من الشرك والعدل بالله، وهو من الظلم، وهو ضرب الأمثال لله، وهو من القياس والكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولهذا ظن طوائف من عامة أهل الحديث والفقه والتصوف، أنه لا يتكلم في أصول الدين، ولا يتكلم في باب الصفات بالقياس العقلي، وأن ذلك بدعة، وهو من الكلام الذي ذمه السلف، وكان هذا مما أطمع الأولين
(2)
فيهم؛ لما رأوهم ممسكين
(1)
مفتاح دار السعادة (2/ 479 - 480).
(2)
يقصد المتكلمين والفلاسفة، انظر: بيان تلبيس الجهمية (2/ 534).
عن هذا كله، إما عجزاً، أو جهلاً، وإما لاعتقاد أن ذلك بدعة وليس من الدين، وقال لهم الأولون: ردُّكم أيضا علينا بدعة، فإن السلف والأئمة لم يردّوا مثل ما رددتم، وصار أولئك يقولون عن هؤلاء: أنهم ينكرون العقليات، وأنهم لا يقولون بالمعقول، واتفق أولئك المتكلمون مع طوائف من المشركين والصائبين والمجوس وغيرهم من الفلاسفة، الروم والهند والفرس وغيرهم، على ما جعلوه معقولاً يقيسون فيه الحق تارة، والباطل أخرى، وحصل من هؤلاء تفريط وعدوان، ومن هؤلاء تفريط وعدوان، أوجب تفرقاً واختلافاً بين الأمة ليس هذا موضعه.
ودين الإسلام هو الوسط، وهو الحق، والعدل، وهو متضمن لما يستحق أن يكون معقولاً، ولما ينبغي عقله وعلمه، ومنزه عن الجهل والضلال والعجز، وغير ذلك مما دخل فيه أهل الانحراف، فسلك الإمام أحمد وغيره، مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع، مسلك الاستدلال بالفطرة، والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى))
(1)
.
فائدة:
قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((فإن قيل كيف أضاف المثل هنا
(2)
إلى نفسه، وقد قال:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل الآية: 74]، فالجواب: أن قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل الآية: 74]، أي: الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص، أي: لا تضربوا لله مثلاً يقتضي نقصاً وتشبيهاً بالخلق، والمثل الأعلى: وصفه بما لا شبيه له، ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً))
(3)
.
(1)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 536 - 537).
(2)
أي في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل الآية: 60].
(3)
الجامع لأحكام القرآن (10/ 119).
وصف الروح في النصوص
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وهكذا القول في المثل الثاني - وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تَعرج وتَصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تُسل الشعرة من العجين".
الشرح
يجدر الإشارة في شرح هذا النص إلى عدة أمور:
الأمر الأول: معاني الروح والنفس في النصوص الشرعية.
قال ابن قيم الجوزية "وَالروح فِي الْقُرْآن على عدَّة أوجه:
أَحدهَا: الْوَحْي كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} وَقَوله تَعَالَى {يلقِي الرّوح من أمره على من يَشَاء من عباده} وسمى الْوَحْي روحا لما يحصل بِهِ من حَيَاة الْقُلُوب والأرواح.
الثَّانِي: الْقُوَّة والثبات والنصرة الَّتِي يُؤَيّد بهَا من شَاءَ من عباده الْمُؤمنِينَ كَمَا قَالَ {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ} .
الثَّالِث: جِبْرِيل كَقَوْلِه تَعَالَى {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك} [الشعراء الآية: 193 [وَقَالَ تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لجبريل فَإِنَّهُ نزله على قَلْبك} [البقرة الآية: 97 [وَهُوَ روح الْقُدس قَالَ تَعَالَى: {قل نزله روح الْقُدس} [النحل الآية: 102].
الرَّابِع: الرّوح الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا الْيَهُود فأجيبوا بِأَنَّهَا من أَمر الله وَقد قيل أَنَّهَا الرّوح الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ} [النبأ الآية: 38 [
وَأَنَّهَا الرّوح الْمَذْكُور فِي قَوْله {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا بِإِذن رَبهم} [الفجر الآية: 4].
الْخَامِس: الْمَسِيح ابْن مَرْيَم قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ} [النساء الآية: 171].
وَأما أَرْوَاح بنى آدم فَلم تقع تَسْمِيَتهَا فِي الْقُرْآن إِلَّا بِالنَّفسِ
قَالَ تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة} [الفجر الآية: 27].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة} [القيامة الآية: 2].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ النَّفس لأمارة بالسوء} [الكهف الآية: 53].
وَقَالَ تَعَالَى: {أخرجُوا أَنفسكُم} [الأنعام الآية: 93].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس الآيات: 7 - 8].
وَقَالَ تَعَالَى: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} [آل عمران الآية: 185].
وَأما فِي السّنة فَجَاءَت بِلَفْظ النَّفس وَالروح"
(1)
قال ابن قيم الجوزية: "
(أولاً): النَّفس فِي الْقُرْآن تطلق:
1 ـ على الذَّات بجملتها:
كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَسَلمُوا على أَنفسكُم} [النور الآية: 61]
وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَنْ نَفسهَا} [النحل الآية: 111]
وَقَوله تَعَالَى: {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} [المدثر الآية: 38].
(1)
الروح 1/ 152 - 154
2 ـ وَتطلق على الرّوح وَحدهَا:
كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة} .] الفجر الآية: 27].
وَقَوله تَعَالَى: {أخرجُوا أَنفسكُم} [الأنعام الآية: 93].
وَقَوله تَعَالَى: {وَنهى النَّفس عَنْ الْهوى} [النازعات الآية: 40].
وَقَوله تَعَالَى: {إِنْ النَّفس لأمارة بالسوء} [الكهف الآية: 53].
وَأما الرّوح فَلَا تطلق على الْبدن لَا بانفراده وَلَا مَعَ النَّفس
(الإطلاقات الأخرى للروح في القرآن)
1 ـ تطلق الرّوح على الْقُرْآن الَّذِي أوحاه الله تَعَالَى إِلَى رَسُوله:
قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} [الشورى: 52].
2 ـ وعَلى الْوَحْي الَّذِي يوحيه إِلَى أنبيائه وَرُسُله:
قَالَ تَعَالَى: {يلقِي الرّوح من أمره على من يَشَاء من عباده لينذر يَوْم التلاق} [غافر الآية: 15 [
وَقَالَ تَعَالَى: {ينزل الْمَلَائِكَة بِالروحِ من أمره على من يَشَاء من عباده أَنْ أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون} [النحل الآية: 2].
وسمى ذَلِك روحا لما يحصل بِهِ من الْحَيَاة النافعة فَإِنْ الْحَيَاة بِدُونِهِ لَا تَنْفَع صَاحبهَا الْبَتَّةَ بل حَيَاة الْحَيَوَان البهيم خير مِنْهَا وَأسلم عَاقِبَة
ولفظ الروح له عدة معان غير الروح التي تفارق البدن بالموت التي هي النفس، فمن إطلاقات الروح ما يلي:
1 ـ تطلق الروح على الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه.
2 ـ وتطلق على البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق.
3 ـ وتطلق الروح على جبرائيل _ عليه السلام
قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193].
4 ـ وتطلق على ما يؤيد الله به أولياءه من الروح،
كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
5 ـ وتطلق على الروح الذي أيد الله به روحه المسيح بن مريم عليه السلام
كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110].
6 ـ وتطلق على الروح التي يلقيها الله على من يشاء من عباده.
7 ـ وتطلق الروح على القوى التي في البدن؛ فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشامّ؛ فهذه الأرواح قوى مُوْدَعَةٌ في البدن تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن، ولا تبلى كما يبلى.
8 ـ ويطلق الروح على ما هو أخص مما مضى كله، وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه، ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن؛ فإذا فقدته الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيد الله بها أهل ولايته.
ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ليس فيه روح، وهو قصبةٌ فارغة، ونحو ذلك.
9 ـ ويطلق الروح على غير ما ذكر مما فيه معنى الحياة المعنوية، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح.
والناس متفاوتون في هذه المعاني أعظم تفاوت؛ فمنهم من تغلب عليه هذه الأرواح، فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير بهيمياً، والله
المستعان"
(1)
الأمر الثاني: حقيقة الروح عند أهل السنة والجماعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (روح الآدمي مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم.
وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في (كتاب اللقط) لما تكلم على خلق الروح، قال:"النسم الأرواح، قال: وأجمع الناس أن الله خالق الجثة وبارئ النسمة، أي: الروح".
وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: "سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال: هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب"، إلى أن قال:"والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة".
وصنف الحافظ أبو عبد الله بن مندة في ذلك كتاباً كبيراً في (الروح والنفس) وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئاً كثيراً، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره كما ذكره أحمد في كتابه في (الرد على الزنادقة والجهمية) "
(2)
(1)
مجموع الفتاوى 9/ 292 المصدر مصطلحات في كتب العقائد 1/ 137
(2)
مجموع الفتاوى 4/ 216 ـ 217
وقال ابن قيم الجوزية: "أصُول أهل السّنة الَّتِي تظاهرت عَلَيْهَا أَدِلَّة الْقُرْآن وَالسّنة والْآثَار وَالِاعْتِبَار وَالْعقل وَالْقَوْل أَنَّهَا ذَات قَائِمَة بِنَفسِهَا تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وَتخرج وَتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن وعَلى هَذَا أَكثر من مائَة دَلِيل قد ذَكرنَاهَا فِي كتَابنَا الْكَبِير فِي معرفَة الرّوح وَالنَّفس وَبينا بطلَان مَا خَالف هَذَا القَوْل من وُجُوه كَثِيرَة وَإِنْ من قَالَ غَيره لم يعرف نَفسه.
وَقد وصفهَا الله سبحانه وتعالى بِالدُّخُولِ وَالْخُرُوج وَالْقَبْض والتوفي وَالرُّجُوع وصعودها إِلَى السَّمَاء وَفتح أَبْوَابهَا لَهَا وغلقها عَنْهَا فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم} [الأنعام الآية: 93].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي} [الفجر الآيات: 27 - 28 - 29 - 30]. وَهَذَا يُقَال لَهَا عِنْد الْمُفَارقَة للجسد، وَقَالَ تَعَالَى:{وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس الآيات: 7 - 8]. فَأخْبر أَنه سوى النَّفس كَمَا أخبر أَنه سوى الْبدن فِي قَوْله {الَّذِي خلقك فسواك فعدلك} [الانفطار الآية: 7].
فَهُوَ سُبْحَانَهُ سوى نفس الْإِنْسَان كَمَا سوى بدنه بل سوى بدنه كالقالب لنَفسِهِ فتسوية الْبدن تَابع لتسوية النَّفس وَالْبدن مَوْضُوع لَهَا كالقالب لما هُوَ مَوْضُوع لَهُ.
وَمن هَا هُنَا يعلم أَنَّهَا تَأْخُذ من بدنهَا صُورَة تتَمَيَّز بهَا عَنْ غَيرهَا فَإِنَّهَا تتأثر وتنتقل عَنْ الْبدن كَمَا يتأثر الْبدن وينتقل عَنْهَا فيكتسب الْبدن الطّيب والخبث من طيب النَّفس وخبثها، وتكتسب النَّفس الطّيب والخبث من طيب الْبدن وخبثه فأشد الْأَشْيَاء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أَحدهمَا بِالْآخرِ الرّوح وَالْبدن وَلِهَذَا يُقَال لَهَا عِنْد الْمُفَارقَة «اخْرُجِي أيتها النَّفس الطّيبَة كَانَتْ فِي الْجَسَد الطّيب النَّفس
واخرجي أيتها النَّفس الخبيثة كَانَتْ فِي الْجَسَد الْخَبيث» "
(1)
وقال ابن قيم الجوزية عن الروح بعد أن ذكر الأقوال المختلفة في حقيقتها: "أَنه جسم مُخَالف بالماهية لهَذَا الْجِسْم المحسوس وَهُوَ جسم نوراني علوي خَفِيف حَيّ متحرك ينفذ فِي جَوْهَر الْأَعْضَاء ويسري فِيهَا سريان المَاء فِي الْورْد وسريان الدّهن فِي الزَّيْتُون وَالنَّار فِي الفحم فَمَا دَامَت هَذِه الْأَعْضَاء صَالِحَة لقبُول الْآثَار الفائضة عَلَيْهَا من هَذَا الْجِسْم اللَّطِيف بَقِي ذَلِك الْجِسْم اللَّطِيف مشابكا لهَذِهِ الْأَعْضَاء وأفادها هَذِه الْآثَار من الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية وَإِذا فَسدتْ هَذِه الْأَعْضَاء بسب اسْتِيلَاء الأخلاط الغليظة عَلَيْهَا وَخرجت عَنْ قبُول تِلْكَ الْآثَار فَارق الرّوح الْبدن وانفصل إِلَى عَالم الْأَرْوَاح
وَهَذَا القَوْل هُوَ الصَّوَاب فِي الْمَسْأَلَة هُوَ الَّذِي لَا يَصح غَيره وكل الْأَقْوَال سواهُ بَاطِلَة وَعَلِيهِ دلّ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وأدلة الْعقل والفطرة"
(2)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والناس مضطربون فيها: فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءًا من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تتردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة، أو المزاج، أو نفس البدن.
الشرح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه عن أهل الكلام: "ينكرون وجود النفس وأن لها نعيمًا وعذابًا، ويقولون إن ذلك إنما هو للبدن بلا نفس، ويزعمون أن
(1)
الروح لابن القيم 1/ 37 - 38
(2)
الروح 1/ 177 - 178
الروح عرض من أعراض البدن، ونحو ذلك من المقالات التي خالفوا فيها الكتاب والسنة إذ كانوا فيها هم والفلاسفة على طرفي نقيض وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها"
(1)
قال ابن قيم الجوزية "قَالَ الرَّازِيّ وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَنْ الروح عبارَة عَنْ جسم مَخْصُوص مَوْجُود فِي دَاخل هَذَا الْبدن فالقائلون بِهَذَا القَوْل اخْتلفُوا فِي تعْيين ذَلِك الْجِسْم على وُجُوه
الأول: أَنه عبارَة عَنْ الأخلاط الْأَرْبَعَة الَّتِي مِنْهَا يتَوَلَّد هَذَا الْبدن
وَالثَّانِي: أنه الدَّم
والثَّالِث: أَنه الرّوح اللَّطِيف الَّذِي يتَوَلَّد فِي الْجَانِب الْأَيْسَر من الْقلب وَينفذ فِي الشريانات إِلَى سَائِر الْأَعْضَاء
والرَّابِع: أَنه الرّوح الَّذِي يصعد فِي الْقلب إِلَى الدِّمَاغ ويتكيف بالكيفية الصَّالِحَة لقبُول قُوَّة الْحِفْظ والفكرة وَالذكر
وَالْخَامِس: أَنه جُزْء لَا يتَجَزَّأ فِي الْقلب
وَالسَّادِس: أَنه جسم مُخَالف بالماهية لهَذَا الْجِسْم المحسوس"
(2)
الروح عند الفلاسفة
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما
(1)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 67).
(2)
الروح 1/ 177.
يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عَرَض. وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة. وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة. وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع.
وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل.
قالوا: بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات ممكنة موجودة، وهي غير مشار إليها.
وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال".
الشرح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية "الفلاسفة المشائين وأتباعهم يدعون في النفوس والعقول أنها شيء لا داخل العالم ولا خارجه ولا متحرك ولا ساكن ولا متصل بغيره ولا منفصل عنه وأمثال هذه الترهات"
(1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "دعوى الفلاسفة أن النفس ليست بجسم
(1)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 320)، بتصرف يسير.
ولا توصف بحركة ولا سكون ولا دخول ولا خروج وأنه لا يحس إلا بالتصور لا غير"
(1)
وقال ابن تيمية: "قالت المثبتة إنما أثبته هؤلاء المتفلسفة من موجودات ممكنة ليست أجساما ولا أعراضا قائمة بالأجسام كالعقل والنفس والهيولى والصورة التي يدعون أنها جواهر عقلية موجودة خارج الذهن ليست أجساما ولا أعرضا لأجسام فإن أئمة أهل النظر يقولون إن فسادها هذا معلوم بالضرورة كما ذكر ذلك أبو المعالي الجويني وأمثاله من أئمة النظر والكلام"
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أكثر أسباب غلطهم بناؤهم على أن المعقول الموجود يكون له وجوده في الخارج وهم إذا تدبروا ذلك علموا أن المعقولات التي هي أمور كلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان وإن الخارج لا يكون فيه شيء مما هو معقول مجرد وهو الأمور الكلية إلا أن يراد بالمعقول في قولهم مثلوا المعقول في صورة المحسوس ما يحسه الإنسان بنفسه دون جسده، فهذا في الحقيقة محسوس موجود لكن بالحس الباطن والوجد الباطن ليس معقولا محضا ولا في تمثل أن الإنسان يحس جوعه وشبعه ولذته وألمه أنه ينتقل حكمه من الباطن إلى الظاهر كما ينتقل حكم الحس بالظاهر إلى الباطن، وإذا قدر وجودالنفس بغير بدن فهو يحس بما يجده من لذة وألم وذلك أمر محسوس لها وبجنس أسباب ذلك لا يكون لها معقولا مجردا كليا فإن ذاك إنما ثبوته في مجرد العلم والاعتقاد ولا بد له من أفراد موجودة في الخارج وإلا لم يكن حقا، ومن المعلوم أن هذا الظان أن النفس تلذذ بهذه الأمور دون إدراك الحقائق الخارجية من أفسد الظن وهو كقول من يقول إن النفس تتلذذ بتمثل المحسوس والمشتهى دون المباشرة لحقيقته
(1)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 9).
(2)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 3).
الخارجة فقولهم يمثل المعقول في صورة المحسوس كلام لا حقيقة له، لكن لو قال يمثل الغائب في صورة الشاهد ويمثل الغيب في صورة الشهادة كان هذا حقا، فإن الإنسان إنما يعلم ما يشهده ويحس به بالقياس والتمثيل لما شاهده، لكن هذا لا يقتضي أن تكون الأمور الغائبة المتمثلة ليست في أنفسها مما يحس بل يعقل عقلا مجردا فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقوله"
(1)
وقال شيخ الإسلام معلقًا على ما حتج به الجهم بن صفوان على السمنية في أمر الروح
(2)
فقال: "لكنه هنا ضل فظن أن االله لا يمكن إحساسه ولا رؤيته واحتاج
(1)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 33).
(2)
حجة جهم أنه قال للسمنية: ألستم تزعمون أن في أجسادكم أرواحاً؟
قالوا: نعم.
قال: هل رأيتم أرواحكم؟
قالوا: لا.
قال: أفسمعتم كلامها؟
قالوا: لا.
قال: فوجدتم لها حساً؟
قالوا: لا.
قال جهم: فكذلك الله عز وجل، لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وهو في كل مكان.
وفي رواية أخرى: لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار) ولا يكون في مكان دون مكان. انظر: الرد على الجهمية للإمام أحمد، (ص 102 ــ 104)، ورواه ابن بطة في الإبانة، كتاب الرد على الجهمية (2/ 87 - 89)، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذه المناظرة: "فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مبدأ حال جهم إمام هؤلاء المتكلمين النفاة يبين ما ذكرته فإنه لما ناظر من ناظره من المشركين السمنية من الهند، وجحدوا الإله، لكون الجهم لم يدركهـ شيء من حواسه، لا ببصره، ولا بسمعه، ولا بشمه، ولا بذوقه، ولا بحسه، كان مضمون هذا الكلام أن كل ما لا يحسه الإنسان بحواسه الخمس، فإنه ينكره ولا يقر به، فأجابهم الجهم: أنه قد يكون في الموجود ما لا يمكن إحساسه بشيء من هذه الحواس، وهي الروح التي في العبد، وزعم أنها لا تختص بشيء من الأمكنة، وهذا الذي قاله هو قول الصابئة الفلاسفة المشائين". التسعينية (1/ 247).
حينئذ إلى إثبات موجود لا يمكن احساسه، فزعم أن روح بني آدم كذلك لا يمكن احساسها بشيء من الحواس، وقاس وجود االله على وجود الروح من هذا الوجه، وهذه هي الطريقة التي سلكها هذا المؤسس في أول تأسيسه حيث اثبت وجود ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه بما قال من قال من الفلاسفة وموافقيهم من المسلمين إن الروح الذي في بني آدم لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن احساسها فقول جهم هو قول هؤلاء كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {البقرة الآية: 118]. "
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك أن الروح-التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة-ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرِّفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ،
الشرح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - لما قارن بين فلسفة الفلاسفة المنتسيبن للإسلام وفلسفة القدماء فقال: "بخلاف فلسفة القدماء فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإلهية ما لا يخفى على أحد، وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية
(1)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 306)
والطبيعية، وكل فاضل لا يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جدا. قليل الفائدة مع أنه لا يوصل إليه إلا بتعب كثير مع أنه يقول: هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا. وهو كما قيل: لحم جمل غث على رأس جبل وعر لاسهل فيرتقي ولا سمين فينتقل"
(1)
.
وقد أقر أرسطو نفسه بصعوبة تعريف النفس فقال في كتابه "النفس""غير أن الحصول على معرفة وثيقة عن النفس أمر على الإطلاق ومن كل وجه شديد الصعوبة"
(2)
، وليته صدق أكثر فقال مستحيل على العقل البشري ولكنه يقدس عقله فلم يعترف بقصوره الفطري.
ونظرية أرسطو في تعريف النفس تقوم على التفريق بين المادة (الهيولى)
(3)
(والصورة)
(4)
أو (القوة) و (الفعل)
(5)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 8/ 233 - 234.
(2)
كتاب النفس لأرسطو ص 4.
(3)
الهيولى: لفظ يوناني يعني الأصل وهي مرادفة للمادة وفي الاصطلاح هي: جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال، ومحل للصورتين الجسمية والنوعية. انظر: التعريفات للجرجاني. ص 321.
وباختصار: فإن الهيولى المطلقة أننا لو جردنا ذهنيا جميع الموجودات الطبيعية من صورها وكيفياتها فالحاصل الذي يبقى بعد رفع صور المائية والهوائية والترابية والنارية والذي لا طبيعة له سوى اللا تعيين يسمى الهيولى فهي استعداد عام لقبول أية صورة؛ أما الهيولى الخاصة فمثل الخشب بالنسبة للمنضدة، لإن المنضدة تتكون من صورة المنضدة، ومن هيولى هي الخشب. انظر. د. مريم الحربي. النفس والروح عند الفلاسفة. ج. 1. ص 174.
(4)
الصورة: فكرة الصورة في علم الطبيعة يسميها أرسطو باسم الكال والكلمة من حيث اشتقاقها في اليونانية تدل على الغاية إذ معناها بالتفصيل: ما يكون حاصلا على الغاية أي ما يكون حاصلا على الصورة والصورة هي الكمال بمعنى أنها غاية الحركة وعلى هذا يجب أن يكون الموضوع النهائي للحركة هو الذي يتمثل فيه الكمال بمعني حصوله على الصورة إلى أعلى درجة. وأما في عالم ما بعد الطبيعة فالصورة المطلوب الوصول إليها هي ماهية الأشياء الحقيقية، ثم الصورة النهائية لكل هذه الماهيات أو صورة الصور وهي الله. انظر: د. عبد الرحمن بدوي. موسوعة الفلسفة. ج. 1. ص 130.
(5)
هذه الطريقة سماها د. محمد البهي في كتابه: الجانب الإلهي فكرة التطور انظر: ص. 130. القاهرة. دار الكاتب العربي. عام 1967
وسماها د. عبد الرحمن بدوي في موسوعة الفلسفة طريقة التصاعد. انظر ج/ 1. ص. 119.
"فالهيولى موضوع غير معين فهي ليست ماهية ولا كيفية ولا كمية ولا ما يدخل في المقولات التي هي أقسام الوجود ولكنها قوة صرف ضرورية تكون تارة في صورة وتارة في سواها والصورة كمال أول لهذا الموضوع أو فعل أول لهذه القوة، وباتحاد الهيولى والصورة اتحادا جوهريا ينشأ كائن حي واحد إذ لاتستغني إحداهما عن الأخرى فلا وجود هيولى دون صورة ولا وجود لصورة دون هيولى"
2 -
الصورة عند أرسطو "ليست صورة الإنسان مثلا هي الشكل الذي تعرضه لنا الصورة الشمسية، ولا هي الشكل الذي يعرضه لنا التمثال المنحوت، ولكنها هي كل تركيب الإنسان الذي يميزه من المادة أو يميزه من الموجودات الأخرى، أو هي ماهيته التي يصبح بها إنسانا وبغيرها يزول عنه وصف الإنسان"
(1)
.
3 -
"الحركة عند أرسطو هي انتقال المادة من الهيولى إلى الصورة ولا يفهم من ذلك أن الهيولى توجد بغير صورة أو أن الصورة توجد بغير الهيولى، بل يفهم منه أن الصورة تسفل في المادة حتى تنزل إلى مرتبة الجمادات الخسيسة التي يخيل إلينا أنها لا صورة لها على الإطلاق وأن الصورة تعلو بالهيولى إلى مرتبة الكائنات التي يخيل إلينا أنها لا مادة لها على الإطلاق، وربما كانت صورة لشيء آخر، فالخشب له صورة تميزه من صور الجمادات الأخرى، ولكنه هو نفسه مادة لصورة التمثال وكلما ارتقت المادة في الصورة اقتربت من العلة الأولى لأنها هي الصورة المحض التي
(1)
ابن سينا لعباس العقاد ص 317.
(1)
النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام لمحمود قاسم ص 65 - 67.
(2)
ابن سينا لعباس العقاد ص 317.
وأتباعه وأما أرسطو والمتقدمون فلا يقسمونه إلا إلى جوهر وعرض، والممكن عندهم لا يكون إلا حادثا كما اتفق على ذلك سائر العقلاء وهذا العلم هو علم المقولات العشر وهو المسمى عندهم قاطيغورياس. "
(1)
ونخلص مما سبق إلى أن أرسطو ينظر للإنسان على أنه مكون من مادة وصورة، المادة هي البدن والصورة هي النفس والصور كلها كمالات أولية لأن وجود الأشياء المختلفة لا يكتمل إلا بها
(2)
.
لتوضيح معنى النفس عند الفلاسفة يحسن التعرف على أقسام العلوم عند الفلاسفة، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كانت العلوم عندهم ثلاثة:
الأول: أما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو (الطبيعي) وموضوعه الجسم.
الثاني: وأما علم مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج وهو (الرياضي) كالكلام في المقدورات المعدودة والمقدار والعدد.
الثالث: وأما ما يتجرد عن المادة فيهما وهو (الإلهى) وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود كانقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض"
(3)
.
وما يخصنا هنا هو النوع الثالث وهو العلم الإلهي، وبالأخص ما يتعلق بالجوهر، ويبين شيخ الإسلام هذا الجانب فيقول: "وانقسام الجوهر إلى:
الأول: ما هو حال، هو: الصورة.
(1)
الرد على المنطقيين ص 123.
(2)
موسوعة الفلسفة د. عبد الرحمن بدوي 1/ 131.
(3)
الرد على المنطقيين ص 122.
والثاني: وما هو محل، هو: المادة وهو الهيولي ومعناه في لغتهم المحل.
والثالث: وما ليس بحال ولا محل، بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير، هو: النفس. والرابع: وإلى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك، هو: العقل.
والخامس: والمركب منهما هو: الجسم.
وهذه الخمسة أقسام الجوهر عندهم.
والأول مقالي يجعله أكثرهم من مقولة الجوهر، ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرا وقالوا الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه، وهذا إنما يكون فيما وجوده غير ماهيته والأول ليس كذلك فلا يكون جوهرا، وهذا خالفو مما فيه سلفهم ونازعوهم فيه نزاعا لفظيا، ولم يأتوا بفرق صحيح معقول، فإن تخصيص اسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي.
وأولئك يقولون بل هو كل ما ليس في موضوع كما يقول المتكلمون كل ما هو قائم بنفسه أو كل ما هو متحيز أو كل ما قامت به الصفات أو كل ما حمل الاعراض ونحو ذلك.
وأما الفرق المعنوي فدعواهم أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل ودعواهم أن الأول وجود مقيدة بالسلوب أيضا باطل كما هو مبسوط في موضعه. "
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قول من يقول أن الجسم مركب من الهيولى والصورة باطل، كما أن قول من يقول أنه مركب من الجواهر المفردة باطل، وأن
(1)
الرد على المنطقيين ص 122 - 123
أكثر فرق أهل الكلام من المسلمين وغيرهم كالكلابية والنجارية والضرارية والهشامية وكثير من الكرامية لا يقولون بهذا ولا بهذا كما عليه جماهير أهل الفقه وغيرهم.
والكلام على من فرق بين الوجود والماهية مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على أن ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الماهية ووجود الماهية في الخارج هو مبنى على هذا الأصل الفاسد.
وحقيقة الفرق الصحيح أن الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيء والوجود هو نفس ما يكون في الخارج منه، وهذا فرق صحيح، فإن الفرق بين ما في النفس وما في الخارج ثابت معلوم لا ريب فيه وأما تقدير حقيقة لا تكون ثابتة في العلم ولا في الوجود فهذا باطل.
ومعلوم أن لفظ الماهية يراد به ما في النفس والموجود في الخارج، ولفظ الوجود يراد به بيان ما في النفس والموجود في الخارج، فمتى أريد بهما ما في النفس فالماهية هي الوجود وإن أريد بهما ما في الخارج فالماهية هي الوجود أيضا وأما إذا بأحدهما ما في النفس وبالآخر ما في الوجود الخارج فالماهية غير الوجود.
وكلامهم إنما يستلزم ثبوت ماهية في الذهن لا في الوجود الخارجي وهذا لا نزاع فيه ولا فائدة فيه إذ هذا خبر عن مجرد وضع واختراع، إذ يقدر كل إنسان أن يخترع ماهية في نفسه غير ما اخترعه الآخر، وإذا ادعى هذا أن الماهية هي الحيوان الناطق أمكن الآخر أن يقول بل هي الحيوان الضاحك وإذا قال هذا أن الحيوانية ذاتية للإنسان بخلاف العددية للزوج والفرد أمكن الآخر أن يعارضه ويقول بل العدد ذاتي للزوج والفرد واللون ذاتي للسواد بخلاف الحيوان فليس ذاتيا للإنسان إذ مضمون هذا كله أن يأتي شخص إلى صفات متماثلة في الخارج فيدعى أن الماهية
التي يخترعها في نفسه هي هذه الصفة دون هذه فإنه أن جعل هذا مطابقا للأمر في نفسه وهو قولهم كان مبطلا، وإن قال هذا اصطلاح اصطلحته قوبل باصطلاح آخر وكان هذا مما لا فائدة فيه. "
(1)
المعاني الاصطلاحية في الجسم
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإطلاق القول عليها بأنها جسم، أو ليست بجسم، يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ «الجسم» للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي، فأهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسمًا، ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنفقون الآية: 4]، وقال تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة الآية: 247].
وأما أهل الكلام، فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المنفردة. ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة. وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية.
ومنهم من يقول: ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه ويقال: إنه هنا أو هناك".
الشرح
قال ابن تيمية: "الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما، فبدعة ليس لها
(1)
الرد على المنطقيين ص 86.
أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً ولا إثباتاً.
والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي، وبعضه معنوي، أخطأ هؤلاء من وجه وأخطأ هؤلاء من وجه.
فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، وإنما هو في اللفظ.
فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى.
فإن كان فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردوداً.
وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل.
وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه.
فلابد أن يلحظ في هذا إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين، فقد أصاب.
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه، وهو من صفات كماله، فقد أخطأ.
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته، يقع من جهة المعنى فسر شيئين: أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين.
فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل.
ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل.
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازماً لهم، كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة، حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة، ومجسمة، وحشوية، وغثاء، وغثراء، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازماً لهم.
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله"
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المتفلسفة الذين قالوا: إن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن ولا تصعد ولا تنزل وليست بجسم فإن عمدهتم على ذلك كونها يقوم بها ما لا ينقسم كالعلم بما لا ينقسم وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما وكلا المقدمتين ممنوعة"
(2)
(1)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 255 - 256.
(2)
درء تعارض العقل والنقل: 1/ 277
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فعلى هذا، إذا كانت الروح مما يشار إليه، ويتَّبِعُهُ بصرُ الميِّتِ - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا خرج تبعه البصر)، وإنها تُقبض، ويُعرج بها إلى السماء، كانت الروح جسمًا بهذا الاصطلاح".
الشرح
يقول ابن تيمية: "الإنسان عبارة عن البدن والروح معاً، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح، كما قال أبو الدرداء: (إنما بدني مطيتي، فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني)، وقد رواه ابن مندة وغيره عن ابن عباس، قال: (لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنت أمرتني، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول: إنما مثلكما كمثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً، فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً، فقال للأعمى: إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكني أستطيع النهوض إليه، ولكني لا أراه، فقال المقعد: تعال فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمرة، قال المَلَكُ: فعلى أيهما العقوبة؟ قالا: عليهما جميعاً، قال: فكذلك أنتما"
(1)
ويقول ابن تيمية: "لا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته
(1)
مجموع الفتاوي لابن تيمية 4/ 222 ـ 223.
الحياة"
(1)
وغالبا ما يتوارد في أذهان الناس السؤال عن كيفية النفس وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا السؤال فقال: "وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ لَهَا كَيْفِيَّةٌ تُعْلَمُ؟ فَهَذَا سُؤَالٌ مُجْمَلٌ
إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُعْلَمُ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا هَلْ لَهَا مِثْلٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَشْهَدُهُ مِنْ الْأَجْسَامِ أَوْ هَلْ لَهَا مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ
فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ: الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ وَالتُّرَابِ.
وَلَا مِنْ جِنْسِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ.
وَلَا مِنْ جِنْسِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ
فَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ مَشْهُودٌ وَلَا جِنْسٌ مَعْهُودٌ: وَلِهَذَا يُقَالُ؛ إنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهَا"
(2)
يقول ابن قيم الجوزية: "وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق:
الفرقة الأولى: أنكرت تأثير النفس
وهم فرقتان:
فرقة اعترفت بوجود النفوس الناطقة وأنكرت تأثيرها البتة
وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والقوى والتأثيرات.
وفرقة أنكرت وجودها بالكلية وقالت: لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط.
وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام وهو قول شذوذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة.
(1)
مجموع الفتاوي لابن تيمية 9/ 302 ـ 303.
(2)
مجموع الفتاوى 9/ 294.
الفرقة الثانية: أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم
الفرقة الثالثة: بالعكس أقرت بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأنكرت وجود الجن والشياطين
وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها وهذا قول كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم، وهؤلاء يقولون إنما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهي من تأثيرات النفس ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها بغير واسطة شيطان منفصل.
وابن سينا وأتباعه على هذا القول حتى أنهم يجعلون معجزات الرسل من هذا الباب ويقولون إنما هي من تأثيرات النفس في هيولي العالم وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل وليسوا من أتباع الرسل جملة
الفرقة الرابعة: وهم أتباع الرسل وأهل الحق أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن
وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتها وشرها واستعاذوا بالله تعالى منها وعلموا أنه لا يعيذهم منه ولا يجيرهم إلا الله تعالى.
فهؤلاء أهل الحق ومن عداهم مفرط في الباطل أو معه باطل وحق، والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"
(1)
(1)
بدائع الفوائد 2/ 245 - 246.
وجه ضرب المثل بالروح
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والمقصود: أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرًا، والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أَوْلَى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدّوه أو يكيّفوه منهم عن أن يحدّوا الروح أو يكيفوها.
فإذا كان مَنْ نَفَى صفاتِ الروح جاحدًا معطلا لها، ومن مثَّلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلا ممثلا لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات - فالخالق سبحانه وتعالى أَوْلَى أن يكون من نفى صفاته جاحدًا معطلا، ومن قاسه بخلقه جاهلًا به ممثلا، وهو سبحانه ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات".
الشرح
عقد المصنف هنا مقارنة بين مسألة الروح وبين مسألة صفات الله من جهتين:
الجهة الأولى: بيان الأقوال الثلاثة الواردة في هذه مسألة الروح وهي:
القول الأول: قول أهل السنة: الذين يثبتون أن الروح لها حقيقة تميزها وأنها غير
البدن، وأنها متصفة بصفات متعددة كما جاءت بذلك النصوص الشرعية، وقد سبق بسط قولهم فيما سبق.
القول الثاني: قول بعض المتكلمين الذين اعتبروا الروح جزء من أجزاء البدن.
القول الثالث: قول الفلاسفة الذين ينكرون حقيقة الروح ويرون أن وجودها أمر مقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج.
وأما الجهة الثانية: أن مسألة حقيقة الروح ومسألة صفات الله تشتركان في أن كل واحد منهما أمر غيبي لا سبيل إلى الوصول لحقيقته، فحقيقة الروح كما قال المصنف:"العقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها" على اعتبار أن الخلق " لم يشاهدوا لها نظيرًا، والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره" هذا مع أنها مخلوقة لكن حقيقتها من المغيبات.
وكما قال المصنف: "فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات" فإن من باب أولى أن تعجز تلك العقول عن إدراك حقيقة صفات الله ولذلك قال المصنف: "فالخالق أَوْلَى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدّوه أو يكيّفوه منهم عن أن يحدّوا الروح أو يكيفوها".
ثم انتقل المصنف إلى أقوال المخالفين في مسألة الروح الذين خالفوا الشرع وأنكروا ما جاءت به النصوص من إثبات حقيقتها وصفاتها، وهؤلاء كما سبق ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: وهم الفلاسفة وهؤلاء يسمون معطلة، وهم الذين قصدهم هنا بقوله:"فإذا كان مَنْ نَفَى صفاتِ الروح جاحدًا معطلا لها"
القسم الثاني: أهل الكلام الذين زعموا أنها جزء من البدن، وهم الذين عناهم
بقوله: "ومن مثَّلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلا ممثلا لها بغير شكلها".
وهؤلاء خالفوا الشرع وجاؤا بما يناقضه، واستقلوا برأيهم مع أن النصوص في شأن الروح كما قال المصنف:"ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات" التي تقدم الإشارة إليها عند ذكر قول أهل السنة.
فإذا كان الأمر كذلك في شأن مسألة الروح. فإن مسألة صفات الخالق أولى بأن ينقسم المخالفون فيها إلى قسمين:
القسم الأول: المعطلة الذين نفوا صفات الله عز وجل وهم الذين قصدهم المصنف بقوله: "فالخالق سبحانه وتعالى أَوْلَى أن يكون من نفى صفاته جاحدًا معطلا".
القسم الثاني: المشبهة الذين شبهوا صفات الله عز وجل بصفات خلقه وهم الذين قصدهم المصنف بقوله "ومن قاسه بخلقه جاهلا به ممثلا"
وكلا القولين باطل فإن الله عز وجل موجود حقيقة وله صفات حقيقة تليق بجلاله وعظمته كما قال المصنف: "وهو سبحانه ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات".
خاتمة جامعة فيها قواعد نافعة
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة:
القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي.
فالإثبات كإخباره أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: الآية: 255].
وينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحًا أو كمالا. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.
فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح كقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} إلى قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: الآية: 255] ..
فنفي السِنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبيِّن لكمال أنه الحي القيوم.
وكذلك قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة الآية: 255 [أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها. بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته.
وكذلك قوله تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [سبأ الآية: 3 [فإنّ نَفْي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ} [ق: 38]، فإنّ نَفْي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة، ونهاية القوة.
بخلاف المخلوق الذي يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه.
وكذلك قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام الآية: 103]، إنما نفى الإدراك الذي هو
الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء
(1)
. ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يُرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُئي، كما أنه لا يُحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رُئي لا يحاط به رؤية.
فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف الله به نفسه"
الشرح
لما فرغ المصنف رحمه الله من الكلام عن الأصلين والمثلين اللذين رد بهما على المعطلة، شرع هنا في بيان خاتمة جامعة، وقد ضمنه سبع قواعد مهمة في الأسماء والصفات، ثم شرع في بيان القاعدة الأولى.
القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي.
وبيان هذه القاعدة
قول المصنف: "أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي".
أي أن الصِّفات تنقسمُ باعتبار ورودها في النُّصوص إلى قسمين:
1 -
صفات ثبوتية. 2 - صفات سلبية (أي: منفية).
(1)
ورد عن بعض السلف أن الآية تفيد نفي الرؤية في الدنيا، فروى ابن كثير عن إسماعيل بن علية في قول الله تعالى:{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} أنه قال: «هذا في الدنيا» .
وقد ذهب الآخرون إلى أن هذا النفي العام لرؤية جميع الأبصار له سبحانه وتعالى مُخَصَّصٌ بما ثبت من رؤية المؤمنين له جل وعلا في الآخرة. انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 309).
القسم الأول: الصفات الثبوتية:
وتعريفها: هي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: الصفات السلبية:
وتعريفها: هي ما نفاه الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
الصفات الثبوتية صفاتُ مدح وكمال، وهي الأكثر من الصفات السلبية، إذ معرفة الله قائمة على الصفات الإثبات.
وأما الصفات السَّلبية فلا تراد لذاتها، وإنما لأنها تابعة للثبوتية ومكملة لها، وفي الحقيقة أن كلَّ تنزيهٍ مُدِح به الربُّ ففيه إثباتٌ
(1)
.
وسلب النقائص والعيوب عن الله نوعان:
النوع الأول: سلب لمتصل.
«وضابطه: نفي كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كنفي الموت المنافي للحياة، والعجز المنافي للقدرة، والسِّنة والنوم المنافي لكمال القيومية، والظلم المنافي للعدل، والإكراه المنافي للاختيار، والذل المنافي للعزة
…
»، إلخ.
النوع الثاني: سلب لمنفصل.
وضابطه: تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد مِنْ خلقه في شييء من خصائصه التي لا تَنبغي إلا له.
وذلك كنفي الشريك له في ربوبيته؛ فإنَّه منفرد بتمام الملك والقوة والتدبير.
وكنفي الشريك له في أُلوهيته، فهو وحده الذي يجب أن يُؤلهه الخلق، ويُفردوه بكل أنواع العبادة والتعظيم.
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112) بتصرف.
وكنفي الشريك له في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فليس لغيره من المخلوقين شِركة معه سبحانه في شيء منها.
وكذلك نفي الظَّهير الذي يُظاهره أو يعاونه في خلق شيء أو تدبيره؛ لكمال قدرته وسَعة علمه ونفوذ مشيئته، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة إلا بالله؛ فالشريك والظهير مَنفيان عنه بإطلاق.
وكذلك ينفى عنه سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نَسَبه إليه النصارى عابدو الصُّلبان، والصابئة الذين يقولون: إن الملائكة بنات الله؛ قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ} [الإسراء الآية: 111].
(1)
.
والأدلة السمعية التي وردت في نفي المماثلة تنقسم إلى قسمين:
1 ـ خبر.
2 ـ وطلب.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين-رحمه الله: ((الأدلة السمعية تنقسم
إلى قسمين: خبر، وطلب.
ـ فمن الخبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل.
وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مَرْيَمَ الآية: 65] على نفي المماثلة، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر؛ لأنه استفهام بمعنى النفي.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.
(1)
انظر: «شرح القصيدة النونية» للهراس (2/ 56 - 58).
ـ وأما الطلب؛ فقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(1)
، أي: نظراء مماثلين.
وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل الآية: 74]
(2)
.
وقول المصنف: "فالإثبات كإخباره أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك".
الصفات الثبوتية كثيرة جدًّا؛ منها: العلم-والحياة-والعزة-والقدرة-والحكمة-والكبرياء-والقوة-والاستواء-والنزول-والمجيء، وغيرها.
وقول المصنف: "والنفي كقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: الآية: 255] ..
والصفات المنفية كلها صفات نقص في حقه. فيجب نفيُها عن الله عز وجل مع إثبات أنَّ الله موصوف بكمال ضدها.
ومن أمثلتها: النَّوم-الموت-الجهل-النِّسيان-العجز-التعب-الظلم.
وهنا تجدر الإشارة إلى أمور مهمة، وهي:
الأمر الأول: أنَّ معرفة الله ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع، ومقصوده: تكميل الإثبات
(3)
.
(4)
.
الأمر الثاني: أنَّ صفات التنزيه يجمعها معنيان:
(1)
الآية [22] من سورة البقرة.
(2)
شرح العقيدة الواسطية (1/ 103).
(3)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112).
(4)
«شرح القصيدة النونية» للهراس (2/ 55).
الأول: نفي النقائص عنه، وذلك مِنْ لوازم إثبات صفات الكمال.
الثاني: إثبات أنَّه ليس كمثله شييء في صفات الكمال الثابتة له.
الأمر الثالث: الصفات السلبية تُذكر غالبًا في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله؛ كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4].
والثانية: نفي ما ادَّعاه في حقه الكاذبون؛ كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم الآيات: 88 إلى 92].
والثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان الآية: 38].
الأمر الرابع: أنَّ الصفات السلبية إنما تكون كمالًا إذا تضمنت أمورًا وجودية
(1)
.
فلا يُوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورًا وجودية، وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه.
وقول المصنف: "وينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال.
لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحًا أو كمالا. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال".
أي "إذا تأملت وجدت كلَّ نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف به نفسه"
(2)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 144).
(2)
«الرسالة التدمرية» (ص 21 - 23).
ثم إن النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه-فيه إساءة أدب مع الله سبحانه؛ فإنك لو قلت لسلطان: أنت لستَ بزبَّال ولا كسَّاح ولا حَجَّام ولا حائك؛ لأَدَّبَك على هذا الوصف وإن كنت صادقًا.
وإنما تكون مادحًا إذا أجملت النفي؛ فقلت: أنت لستَ مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجَل، فإن أَجملت في النفي أجملت في الأدب
(1)
.
فأهل الكلام المذموم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المُجمل؛ فيقولون: ليس بجسم ولا شَبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض .. إلى آخر تلك السُّلوب الكثيرة التي تَمُجُّها الأسماع، وتأنف مِنْ ذكرها النفوس، والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حقَّ قدره
(2)
.
وقول المصنف: "فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح"
الرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مُفَصَّل ونفي مجمل.
والمعطلة ناقضوهم؛ فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل.
فإنَّ الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله: أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه حكيم عزيز، غفور ودود، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليمًا، وتجلى للجبل فجعله دكًّا، وأنه أنزل على عبده الكتاب. إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
وقال في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مَرْيَمَ الآية: 65].
وقول المصنف: " كقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} إلى قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: الآية: 255] ..
فنفي السِنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبيِّن لكمال أنه الحي القيوم.
وكذلك قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: الآية: 255 [أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها. بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته.
وكذلك قوله تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [سبأ الآية: 3 [فإنّ نَفْي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ} [ق: 38]، فإنّ نَفْي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة، ونهاية القوة.
بخلاف المخلوق الذي يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه.
وكذلك قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام الآية: 103]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء. ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يُرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُئي، كما أنه لا يُحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رُئي لا يحاط به رؤية.
فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك
دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة".
ضرب المصنف هنا عدة أمثلة على أن جميع ما وصف الله به نفسه من النفي لا بد أن يكون متضمنًا لإثبات مدح.
المثال الأول:
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} إلى قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة الآية: 255].
فنفي السِنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبيِّن لكمال أنه الحي القيوم، وكذلك قوله:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة الآية: 255 [أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته.
المثال الثاني:
قوله تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [سبأ الآية: 3 [فإنّ نَفْي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
المثال الثالث:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ} [ق: 38]، فإنّ نَفْي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة، ونهاية القوة.
بخلاف المخلوق الذي يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه.
المثال الرابع:
قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام الآية: 103]، إنما نفى الإدراك الذي هو
الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء. ولم ينف مجرد الرؤية، فالمراد بالآية ليس نفي الرؤية، وإنما المراد نفي الإدراك؛ لأنها سِيقت مساق المدح، ولو كان المراد نفي الرؤية لما كان في ذلك مدح؛ لأن المعدوم هو الذي لا يُرَى، والكمال في إثبات الرؤية هو نفي الإدراك؛ لأن النفي المحض لا يأتي في صفات الله، وإنما الذي يأتي هو النفي الذي يستلزم إثبات ضده من الكمال.
فالمعنى: أنه يُرى ولا يحاط به رؤيةً، فـ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ؛ لكمال عظمته، كما أنه يُعلم ولا يُحاط به علمًا لكمال عظمته، و {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ؛ لكمال قوته واقتداره، وهكذا.
لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يُرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُئي، كما أنه لا يُحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رُئي لا يحاط به رؤية.
فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا.
وقول المصنف: "وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف الله به نفسه"
للتفريق بين الصفات السلبية التي ورد بها النص والصفات السلبية التي أحدثها المعطلة النفاة-نقول: إن الصفات السلبية التي ورد بها النص متضمنة لثبوت كمال الضد كما تقدم شرح ذلك.
وأمَّا الصفات السلبية التي هي مِنْ نسج المعطلة واختراعهم-فلا تتضمن ثبوت كمال الضد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كل تنزيه مُدح به الرب ففيه إثبات، فلهذا كان قول:(سبحان الله) متضمنًا تنزيه الرب وتعظيمه، ففيه تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيه تعظيمه سبحانه وتعالى
(1)
.
فأهل السنة يجعلون الأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيها عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزونها، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.
وضابط النفي في صفات الله:
((أن ينفى عن الله تعالى:
أولاً: كل صفة عيب؛ كالعمى، والصمم، والخرس، والنوم، والموت
…
ونحو ذلك.
ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: الآية: 60]، فإن ثبوت المثل الأعلى له-وهو الوصف الأعلى-يستلزم انتفاء كل صفة عيب.
ثانياً: كل نقصٍ في كماله؛ كنقص حياته، أو علمه، أو قدرته، أو عزّته،
أو حكمته
…
أو نحو ذلك.
ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق الآية: 38 [
ثالثاً: مماثلة المخلوقين؛ كأن يجعل علمه كعلم المخلوق، أو وجهه كوجه
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112).
المخلوق، أو استواءه على عرشه كاستواء المخلوق
…
ونحو ذلك.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]. "
(1)
.
فمن توهم في كثير من الصفات أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فإنه يقع في محاذير:
1 ـ منها: أنه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
2 ـ ومنها: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلًا لما يستحقه الرب من صفات الكمال ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله من الصفات الإلهية اللائقة بجلال الله وعظمته.
3 ـ ومنها: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطّل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثلَّه بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدًا في أسمائه وآياته
(2)
.
حقيقة مذهب المعطلة
المتن
قال المصنف رحمه الله: ""فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا
(1)
تقريب التدمرية ص (85 - 86).
(2)
التحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد بن ناصر النجدي (ص: 49 - 50).
محمودًا، بل ولا موجودًا.
وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، أو لا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له؛ إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي مستلزمة صفة ثبوت.
ولهذا قال محمود بن سُبكتكين
(1)
لمن ادّعى ذلك في الخالق: ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجماد أو الناقص.
فمن قال: لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدَث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له".
(1)
محمود بن سُبكتكين هو أحد كبار القادة، أمين الدولة وأمين الملة، استولى على الإمارة (سنة 389 هـ)، وأرسل إليه القادر بالله الخليفة العباسي خلعة السلطنة، فقصد بلاد خراسان وامتدت سلطنته من أقاصي الهند إلى نيسابور، كان تركي الأصل فصيحاً بليغاً حازماً صائب الرأي شجاعاً مجاهداً، فتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم تتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده، ومع ذلك كان في غاية الديانة والصيانة يكره المعاصي والملاهي وأهلها، ويحب العلماء والصالحين ويجالسهم ويناظرهم، وقال الذهبي: دخل ابن فورك على السلطان محمود، فقال: لا يجوز أن يوصف الله بالفوقية؛ لأن لازم ذلك وصفه بالتحتية، فمن جاز أن يكون له فوق، جاز أن يكون له تحت. فقال السلطان: ما أنا وصفته حتى يلزمني، بل هو وصف نفسه. فبهت ابن فورك.
مات في غزنة سنة 421 - 422 هـ عن ثلاث وستين سنة، تولى الإمارة فيها ثلاثاً وثلاثين سنة رحمه الله وأكرم مثواه. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 17/ 484 - 495.
الشرح
شرع هنا في بيان حقيقة مذاهب المعطلة، وأنها تهدف إلى إنكار وجود الله تعالى.
فقول المصنف: "فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا".
والمقصود بهم هنا هم الجهمية وطائفة من الفلاسفة
(1)
وهو كذلك قول ابن سينا وأمثاله.
(2)
.
فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان
(3)
فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات.
(4)
وقول المصنف: "وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، أو لا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له؛ إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي مستلزمة صفة ثبوت".
فكما أن الذين يصفون الله بالسلوب لم يثبتوا إلهًا، فكذلك من شاركهم في بعض مقالتهم،
(1)
-مجموع الفتاوى 3/ 7 - 8.
(2)
-الصفدية 1/ 299، 300.
(3)
-مجموع الفتاوى 3/ 7، شرح الأصفهانية ص 51، 52.
(4)
-مجموع الفتاوى 3/ 8.
وهذا القول هو ما يذهب إليه النظار والمتكلمون من هؤلاء المعطلة
(1)
، الذين يقولون إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا هو مباين له ولا محايث له.
وهم بقولهم هذا قد نفوا الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود منهما، وذلك خشية منهم أن يشبهوا، فهم قالوا بهذه المقالة هرباً منهم-على حد زعمهم-من إثبات الجهة والمكان والحيز، لأن فيها كما يدعون تجسيماً وهو تشبيه، فقالوا: يلزمنا في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات فنحن نسد الباب بالكلية.
وقول المصنف: "ولهذا قال محمود بن سُبكتكين لمن ادّعى ذلك في الخالق: ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم.
ومعنى كلامه رحمه الله: أنه لا فرق بين الإله الذي تُثبته وبين العدم؛ لأنك تثبت إلهًا لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يقدر، ولا يريد، ولا
…
فما الفرق بين هذا الإله وبين العدم؟!
وقول المصنف: "وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجماد أو الناقص".
فهؤلاء المعطلة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا ولا كذا، فلا يَقرب من شيء ولا يَقرب منه شيء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يُشار إليه
(1)
الرسالة الأضحوية (نقلا عن مختصر الصواعق 1/ 237)، والاقتصاد في الاعتقاد (ص 34)، تأويل مشكل الحديث (ص 63 - 64)، مجموع الفتاوى (2/ 297 - 298، 5/ 122 - 124)، نقض التأسيس (1/ 6 - 7).
ولا يتعين، ولا هو مُباين للعالم ولا حالٌّ فيه، ولا داخله ولا خارجه.
إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تَنطبق إلا على المعدوم.
ثم قالوا في الإثبات: هو وجود مُطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية
(1)
.
وبذلك عكسوا منهج القرآن والسنة؛ فأكثروا مِنْ وصف الله تعالى بالأمور السلبية التي لم يَرد بها النص، وأفرطوا في ذلك إفراطًا عجيبًا، بينما أنكر بعضهم جميع الصفات الثبوتية، والبعض الآخر لم يُثبت سوى القليل منها.
فقولهم: إنه لا يتكلم، أو لا يَنزل، ليس في ذلك صفة مدح، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات
(2)
.
فالمعطلة لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات.
فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم.
وهذا الفهم دعاهم للتعطيل فالمعطلة نفوا ما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات اللائقة به سبحانه.
وبذلك جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولاً، وعطلوا آخرًا.
وامتاز أهل التعطيل عن أهل التمثيل بنفيهم المعاني الصحيحة للصفات.
وكمثال لجمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل:
نصوص الاستواء، كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه الآية: 5].
(1)
«الصفدية» (1/ 116).
(2)
«الرسالة التدمرية» (ص 23).
فإن المعطل يقول: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام. فهذا المعطل لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم الذي جاء به المعطل تابع لهذا المفهوم.
وكان الواجب عليه أن يثبت لله استواء يليق بجلاله ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي هي من لوازم المخلوقات، ويجب نفيها في حق الله.
وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجماد أو الناقص.
وقول المصنف: "فمن قال: لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدَث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له".
أي أن من نفي علو الله بقوله إن الله "لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم" هو بمثابة من أنكر وجود الله ولم يجعل له وجودًا يخصه يميزه عن غيره من الموجودات بقوله: "لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدَث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له"
وخلاصة القول: أن نفي صفات الله تعالى هي طريقة الفلاسفة وأتباعهم ممن يتكلمون في الإلهيات على أنها أوهام وخرافات.
أربعة أوجه يرد بها شيخ الإسلام على اعتذار النفاة
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومن قال: إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتًا أصم أعمى أبكم.
فإن قال: العمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يقبل البصر، وما لا يقبل البصر كالحائط لا يقال: له أعمى ولا بصير.
الشرح
أعاد المصنف تأكيد بطلان أقوال غلاة المعطلة مرة أخرى وأعاد تكرار مسألة التقابل من جهة أن نوع التقابل هنا من نوع تقابل السلب والإيجاب وليس من تقابل العدم والملكة كما يزعم المعطلة.
وبما أن نوع التقابل هنا هو من تقابل السلب والإيجاب فإن "من قال: إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتًا أصم أعمى أبكم". باعتبار أن لفظ الحي يقابله الميت فمن لم يكن حيًا فهو ميت، ومن لم يكن سميعًا فهو أصم، ومن لم يكن بصيرًا فهو أعمى، ومن لم يكن متكلمًا فهو أبكم.
ثم ذكر المصنف اعتراض المعطلة وهو زعمهم بأن التقابل هنا هو من تقابل الملكة والعدم فقال عن اعتراضهم: "فإن قال: العمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يقبل البصر، وما لا يقبل البصر كالحائط لا يقال: له أعمى ولا بصير".
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والصمم والعمى والخرس والعجمة.
وأيضًا: فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حيًا، كما جعل عصى موسى حيّة، ابتلعت الحبال والعصي.
هنا دفع المصنف الاعتراض بعدة أمور:
الأمر الأول: أن هذا الزعم هو اصطلاح اصطلحه -كما قال المصنف سابقًا عند مناقشة هذه المسألة- "فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية"
وبين المصنف أن زعمكم بأن التقابل هنا هو تقابل العدم والملكة غير مضطرد، فما زعمتم من أن الجمادات لا يمكن وصفها "بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام" فإن الأمر على عكس ذلك فالجمادات "يمكن وصفها بالموت والصمم والعمى والخرس والعجمة".
وليس الجمادات فحسب "فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها"
ومن الأمثلة على قبول وصف تلك الجمادات بالحياة باعتبار قدرة الله تعالى على ذلك ما ورد في شأن عصى موسى "فإن الله قادر على جعل الجماد حيًا، كما جعل عصى موسى حيّة، ابتلعت الحبال والعصي"، وفي هذا دليل على أن القابلية قد تقع في كل موجود وليس في الجمادات فقط.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأيضًا: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصًا ممن يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى، ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصًا من الحي الأعمى
الأخرس".
الشرح
الأمر الثاني: في الرد على زعم المعطلة أن التقابل هنا هو من باب تقابل العدم والملكة، أنه-لو سلم جدلًا-أن التقابل هنا هو من باب تقابل العدم والملكة، فإن "فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصًا ممن يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها"
وأعطى المصنف مثالًا على ذلك بالجماد من جهة والأعمى والأخرس والأبكم فقال: "فالجماد الذي لا يوصف بالبصر، ولا العمى، ولا الكلام، ولا الخرس؛ أعظم نقصًا من الحي الأعمى الأخرس".
وهذا الكلام الذي ذكره المصنف هنا بمثابة المقدمة للنتيجة التي يريد المصنف إليها.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: فإذا قيل: إن الباري عز وجل لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جُعل غير قابل لهما كان تشبيهًا له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف ينكر من قال ذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيه بالحي! "
الشرح
أعطى المصنف أحد احتمالين لمقصود المخالف:
الاحتمال الأول: أن يقول المخالف "إن الباري عز وجل لا يمكن اتصافه بذلك" فإن هذا الزعم القائم على منع اتصاف الله بهذه الصفات، يعد " من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك"
والاحتمال الثاني: أن يقول المخالف إنه "غير قابل لهما" لأحد هذين الوصفين "كان تشبيهًا له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما".
وإذا كان الحال كذلك من هذا الزعم " تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات""فكيف ينكر من قال ذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيه بالحي! "
أي كيف يقبل منه أن ينكر على من أثبت الصفات بأن ذلك تشبيه له بالمخلوقات، في مقابل أنه قبل أن يوصف بصفات الجمادات.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأيضًا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي، هي - مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها - صفة كمال. وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك. وما كان صفة كمال فهو سبحانه وتعالى أحق بأن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به لكان المخلوق أكمل منه".
الشرح
أي لو نظرنا إلى الصفة من حيث هي دون إضافتها إلى الخالق أو المخلوق فإن تلك الصفات يعد "نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال" ومن ذلك على سبيل المثال:
صفة الحياة: "فالحياة من حيث هي، هي - مع قطع النظر عن تعيين الموصوف
بها - صفة كمال"
وكذلك صفات "العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك".
وبناء على ذلك "وما كان صفة كمال فهو سبحانه وتعالى أحق بأن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به لكان المخلوق أكمل منه".
فالله عز وجل موصوف بكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، منزه عن جميع النقائص والعيوب، ومن الطرق التي استخدمها أهل السنة والجماعة في تقرير هذه الحقيقة، مسلك عقلي يقوم على أن نفي الصفة إثبات لنقيضها، وهذه قاعدة عقلية متفق عليها بين جميع العقلاء، أن الذي لا يتصف بالعلم مثلاً فهو جاهل، والذي لا يتصف بالعدل فهو ظالم، وهكذا فالله عز وجل لما كان متصفاً بكل أنواع الكمالات التي يُتصور وجودها من غير استلزامها لأي نقصٍ بوجهٍ من الوجوه، فإن نفي هذا الكمال عنه يستلزم وصفه بنقيضه من النقص الذي هو منزه عنه أصالةً، ((وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات، وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، فقد عبد رباً ناقصاً معيباً مؤوفاً
(1)
، ويثبتون أن هذه صفات كمال فالخالي عنها ناقص))
(2)
.
فإنه لو لم يكن الله تعالى موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى.
فلو لم يتصف بالحياة لوُصف بالموت، ولو لم يتصف بالعلم لوُصف بالجهل، ولو لم يوصف بالقدرة لوُصف بالعجز، ولو لم يُوصف بالسمع والبصر والكلام
(1)
مؤوفاً، من الآفة وهي العاهة، انظر: القاموس المحيط ص (1026).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 340).
لوُصف بالصمم والخرس والبكم، والله منزه عن ذلك، متصفٌ بصفات الكمال
(1)
.
وقال الإمام ابن القيم-رحمه الله: ((إنه قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال، والآخر صفة نقص، فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص، ولهذا لما تقابل الموت والحياة، وُصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وُصف بالعلم دون الجهل، وكذلك العجز والقدرة، والكلام والخرس والبصر والعمى، والسمع والصمم، والغنى والفقر، ولما تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له، وُصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه، وتقابل العلو والسفول، وُصف بالعلو دون السفول))
(2)
.
وهذه القاعدة يمكن طردها في جميع الصفات، فيقال أن الله عز وجل لو لم يكن متصفاً بالصفة المعيَّنة التي هي كمال في حقه ولا تستلزم نقصاً بوجه من الوجوه، للزم من ذلك اتصافه بنقيضها من النقص، وقد دلَّ الشرع والعقل والفطر السليمة على وجوب تنزهيه سبحانه وتعالى عن كلِّ نقصٍ أو عيبٍ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله: ((وطرد ذلك: أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات، فتنزيه الخالق عنها أولى.
وهذه الطريق غير قولنا: أن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق، فالخالق أولى، فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما
(1)
انظر: التدمرية ص (151)، تقريب التدمرية ص (65).
(2)
الصواعق المرسلة (4/ 1307).
يناقضها))
(1)
.
وقال-رحمه الله-أيضاً: ((ولهذا كان الصواب أن الله منزه عن النقائص شرعاً وعقلاً؛ فإن العقل كما دلَّ على اتصافه بصفات الكمال، من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام، دلَّ أيضاً على نفي أضداد هذه. فإن إثبات الشيء يستلزم نفي ضده، ولا معنى للنقائص إلا ما ينافي صفات الكمال))
(2)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولوا: ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي.
ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين.
الشرح
أعاد المصنف التذكير بقول هذه الطائفة من غلاة المعطلة وهم المتجاهلة الواقفة الذين يقولون: لا نُثبت ولا نَنفي، وهذه الدرجة للقرامطة الباطنية المتفلسفة
(3)
، فهؤلاء يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل.
وقوله: "ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين".
(1)
التدمرية ص (151).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (4/ 6 - 7).
(3)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
وهذا يوضحه تعريف تقابل النقيضين أو ما يسمى تقابل السلب والإيجاب حيث عرف هذا النوع بأن:
النقيضان: أمران وجودي وعدمي، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، ولا واسطة بينهما.
أو يقال: النقيضان لفظان لا يجتمعان معًا ولا يرتفعان معًا في موضوع واحد في زمن واحد.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليس بحي ولا سميع ولا بصير.
وهؤلاء أعظم كفرًا من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفرًا من هؤلاء من وجه".
الشرح
هذا قول أصحاب درجة المكذبة النفاة: وهي الدرجة عليها غُلاة الجهمية وطائفة من الفلاسفة
(1)
، وهو كذلك قول ابن سينا وأمثاله
(2)
.
فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون له إلا وجودًا مطلقًا لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان
(3)
، فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات، وجعلوه هو
(1)
-مجموع الفتاوى 3/ 7 - 8.
(2)
-الصفدية 1/ 299، 300.
(3)
-مجموع الفتاوى 3/ 7، شرح الأصفهانية ص 51، 52.
الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات
(1)
.
وقد تقدم الكلام عنهم.
وقوله: "وهؤلاء أعظم كفرًا من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفرًا من هؤلاء من وجه".
فالمصنف هنا يعقد مقارنة بين طائفتين من المعطلة:
الطائفة الأولى: المتجاهلة الواقفة. الذين يقولون: لا نُثبت ولا نَنفي، وهذه الدرجة للقرامطة الباطنية المتفلسفة
(2)
، فهؤلاء يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل.
والطائفة الثانية: المكذبة النفاة من يصفونه بالنفي فقط؛ وهم الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس بحي ولا سميع ولا بصير.
فالطائفة الأولى أكفر من جهة أهم شبهوه بالممتنعات وهو أقبح من مجرد العدم.
والطائفة الثانية أكفر من جهة أنهم لم يصرحوا بنفي النقائص بل قالوا ليس بحي ولم يقولو بميت، فتتزيههم أقل من الطائفة الأولى التي صرحت بنفي النقائص.
فكل من الطائفتين أكفر من الأخرى من جهة"
(3)
.
فالمكذبة النفاة شبهوه بالجمادات، والمتجاهلة الواقفة شبهوه بالممتنعات
(1)
-مجموع الفتاوى 3/ 8.
(2)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
(3)
التوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية ص: 138 - 139.
لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإذا قيل لهؤلاء: هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت والصمم والبكم. قالوا إنما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك.
وهذا الاعتذار يزيد قولهم فسادًا.
الشرح
أعاد المصنف ذكر شبهة هؤلاء في شأن نوع التقابل الذي يقولنه عندما يقال لهم بأن هذا من باب تقابل السلب والإيجاب فيقولون بل هو من تقابل العدم والملكة، وقد تقدم الرد على زعمهم.
وهذا الاعتذار يزيد قولهم فسادًا؛ لأنه قد سبق الرد على مثل هذا كثيرًا بعدة أوجُهٍ، منها: أن هذا اصطلاح خاص بكم، وهذا الاصطلاح لا يقلب الحقائق العلمية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وإما أن يلتزم التعطيل المحض فيقول: ما ثم وجود واجب؛ فإن قال بالأول وقال: لا أثبت واحدًا من النقيضين لا الوجود ولا العدم.
قيل: هب أنك تتكلم بذلك بلسانك، ولا تعتقد بقلبك واحدًا من الأمرين، بل
(1)
-مجموع الفتاوى 3/ 7 - 8.
تلتزم الإعراض عن معرفة اللّه وعبادته وذكره، فلا تذكره قط، ولا تعبده، ولا تدعوه، ولا ترجوه، ولا تخافه، فيكون جحدك له أعظم من جحد إبليس الذي اعترف به"
(1)
(1)
مجموع الفتاوى " (5/ 356).
تساوي قول: ليس بمتحيز مع قول: لاداخل العالم ولا خارجه
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكذلك من ضاهى هؤلاء، وهم الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، إذا قيل لهم: هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديم ولا محدث، ولا واجب ولا ممكن، ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.
قالوا: هذا إنما يكون إذا كان قابلا لذلك، والقبول إنما يكون من المتحيز، فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين النقيضين.
فيقال لهم: علمُ الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق، لا يستثنى منه موجود.
والتحيز المذكور إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، متميز عنها، فهذا هو الخروج.
فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم، وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل: ليس بمتحيز، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه.
فهم غيّروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر، وهو المعنى الذي عُلم فساده بضرورة العقل. كما فعل أولئك في قولهم: ليس بحى ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل".
الشرح
لما فرغ المصنف من:
1 -
الرد على القائلين بسلب النقيضين عن الله تعالى وهم المتجاهلة الواقفة.
2 -
وعلى الذين يقولون بالنفي فقط وهم المكذبة النفاة.
3 -
شرع هنا في الرد على القائلين بأن الله تعالى ليس بداخل العالم ولا خارجه فهذا قولهم.
وأما أصحاب هذا القول: فهذا القول هو ما يذهب إليه النظار والمتكلمون من هؤلاء المعطلة
(1)
، الذين يقولون إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا هو مباين له ولا محايث له.
وهم بقولهم هذا قد نفوا الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود منهما.
وشبهتهم: وذلك خشية منهم أن يشبهوا، فهم قالوا بهذه المقالة هرباً منهم-على حد زعمهم-من إثبات الجهة والمكان والحيز، لأن فيها كما يدعون تجسيماً وهو تشبيه، فقالوا: يلزمنا في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات فنحن نسد الباب بالكلية.
والرد عليهم: وقد رد عليهم المصنف على شبهتهم هذه بالآتي:
أولًا: بأن هذا ممتنع في ضرورة العقل، فإنه الموجود إما أن يكون داخل العالم أو خارجه، ولا ثالث لهما في حكم العقل.
وما هذا إلا كقول من يقول: ليس بقديم ولا محدث، ولا واجب ولا ممكن،
(1)
الرسالة الأضحوية (نقلا عن مختصر الصواعق 1/ 237)، والاقتصاد في الاعتقاد (ص 34)، تأويل مشكل الحديث (ص 63 - 64)، مجموع الفتاوى (2/ 297 - 298، 5/ 122 - 124)، نقض التأسيس (1/ 6 - 7).
ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره، وهذا من أبطل الباطل.
ثانيًا: ولما ألزمهم شيخ الإسلام بهذا الرد العقلي موهوا بأمر آخر، وهو قولهم:
هذا إنما يكون إذا كان قابلا لذلك، والقبول إنما يكون من المتحيز، فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين النقيضين.
ووجه التمويه هنا: أنهم جاءوا بلفظ مبتدع وهو (التحيز)، وهو لفظ غير شرعي ليصلوا به إلى باطلهم
وبناءً على ما سبق:
فقد رد عليهم شيخ الإسلام بقوله:
"والتحيز المذكور إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم.
وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، متميز عنها، فهذا هو الخروج.
فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم، وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل: ليس بمتحيز، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه".
فألزمهم القولَ بأنه ليس بموجود، وهذا هو عين الضلال.
فهم غيّروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر، وهو المعنى الذي عُلم فساده بضرورة العقل.
وقول المصنف: "وهو المعنى الذي عُلم فساده بضرورة العقل. كما فعل أولئك في قولهم: ليس بحى ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل".
أي فكما أن المتجاهلة الواقفة الذين يقولون ليس بحي ولا ميت، ولا موجود
ولا معدوم، لم يثبتوا إلهًا؛ فكذلك من شاركهم في بعض مقالتهم من هؤلاء النظار والمتكلمون من هؤلاء المعطلة.
لا يتوقف الإيمان بما جاء به الرسول على معرفة المعنى
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه.
الشرح
لما فرغ المصنف من بيان القاعدة الأولى شرع هنا في بيان القاعدة الثانية، وملخصها: الألفاظ نوعان: لفظ شرعي فيجب الإيمان به، ولفظ غير شرعي وهذا يحتاج إلى تفصيل.
وفي هذا النص يحسن معرفة عدة أمور:
الأمر الأول: أن الواجب في نصوص الصفات إجراؤها على ظاهرها.
فالسلف يعتقدون أن الواجب في نصوص القرآن والسنة بما في ذلك نصوص الأسماء والصفات هو إجراؤها على ظاهرها، وذلك بأن تُفهتم وفق ما يقتضيه اللسان العربي، وأن لا يتعرض لها بتحريف أو تعطيل كما فعل المعطلة، الذين تلاعبوا بظواهر النصوص! لمجرد أنها خالفت باطلهم ومناهجهم الفاسدة
(1)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 301
فنصوص الصفات ألفاظ شرعية يجب أن تحفظ لها حرمتها، وذلك بأن نفهمها وفق مراد الشارع، فلا نتلاعب بمعانيها لنصرفها عن مراد الشارع.
فمن الأصول الكلية عند السلف أن الألفاظ الشرعية لها حرمتها، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد الله ورسوله بها ليثبت ما أثبته الله ورسوله من المعاني، وينفى ما نفاه الله ورسوله من المعاني
(1)
.
وبحمد الله وفضله نجد أن نصوص الصفات الواردة في القرآن والسنة هي من الوضوح والكثرة بمكان، بحيث يستحيل تأويلها والتلاعب بنصوصها، فلقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصَّلاً على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل به العلم اليقيني، ورفع الشك والريب، فثلجت به الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، فلقد فصلت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الأسماء والصفات والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ.
الأمر الثاني: الأبواب الثلاثة التي يشتمل عليها توحيد الأسماء والصفات.
يجب أن يُعْلَم أن توحيد الأسماء والصفات يشتمل على ثلاثة أبواب:
الباب الأول: باب الأسماء
الباب الثاني: باب الصفات
الباب الثالث: باب الإخبار
فنحن إذا وقفنا وقفةَ تأمل عند نصوص الكتاب والسنة الواردة في هذا الشأن نجد الحقائق التالية: أن الله أطلق على نفسه أسماء كـ (السَّميع) و (البصير)، وأوصافاً كـ (السمع) و (البصر)، وهكذا أخبر عن نفسه بأفعالها فقال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ
(1)
مجموع الفتاوى 12/ 113 - 114 بتصرف
فِي زَوْجِهَا} [المجادلة 1]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران 15]. فاستعملها في تصاريفها المتنوعة، مما يدل على أن مثل ذلك يجوز إطلاقه عليه في أي صورة ورد
وأطلق على نفسه أفعالاً كـ (الصُّنع) و (الصِّبغة) و (الفعل) ونحوها. قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} [النمل 88]، وقال تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة 138] وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود 107]، لكنه لم يَتَسَمَّ ولم يصف نفسه بها ولكن أخبر بها عن نفسه، ممَّا يدل على أنَّها تخالف الأوَّل في الحكم فوجب الوقوف فيها على ما ورد
ووصف نفسه بأفعال في سياق المدح كـ (يريد) و (يشاء) فقال جلَّ شأنه:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام 125] وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير 29] إلا أنه لم يشتق له منها أسماء فدل على أن هذا النوع مخالف للقسمين الأولين، فوجب رده إلى الكتاب والسنة وذلك بالوقوف حيث أوقفنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
ووصف نفسه بأفعال أخرى على سبيل المقابلة بالعقاب والجزاء فقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} [النساء 142] وقال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه} [الأنفال 30]. ولم يشتق منها أسماء له تعالى فدل ذلك على أن مثل هذه الأفعال لها حكمٌ خاصٌ فوجب الوقوف على ما ورد
فهذه الحقائق السابقة قررت عند العلماء النتائج التالية:
1 ـ أن النصوص جاءت بثلاثة أبواب هي (باب الأسماء) و (باب الصفات) و (باب الإخبار)
2 ـ أن باب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، فما صح اسماً صحَّ صفة وصحَّ
خبراً وليس العكس
3 ـ باب الصفات أوسع من باب الأسماء، فما صحَّ صفة فليس شرطاً أن يصحَّ اسماً، فقد يصحُّ وقد لا يصح، مع أن الأسماء جميعها مشتقة من صفاته
4 ـ أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، فالله يُخْبَرُ عنه بالاسم وبالصفة وبما ليس باسم ولا صفة كألفاظ (الشييء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) و (المعلوم)، فإنه يخبر بهذه الألفاظ عنه ولا تدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا
الأمر الثالث: إن باب الأسماء والصفات توقيفيان.
فالأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيهما عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه
وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء والصفات إطلاقاً
(1)
قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم"
(2)
(1)
- رسالة في العقل والروح لشيخ الإسلام ابن تيمية، مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (2/ 46 - 47).
(2)
منهاج السنة (2/ 523).
الأمر الرابع: أن باب الإخبار فالسلف لهم فيه قولان:
القول الأول: أن باب الإخبار توقيفي، فإن الله لا يُخْبَرُ عنه إلا بما ورد به النص، وهذا يشمل الأسماء والصفات، وما ليس باسم ولا صفة مما ورد به النص كـ (الشييء) و (الصنع) ونحوها
وأما مالم يرد به النص فإنهم يمنعون استعماله
(1)
القول الثاني: إن باب الإخبار لا يشترط فيه التوقيف، فما يدخل في الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كـ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه)، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيِّئ، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً، ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيِّئ
(2)
فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حَقًّا يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده
(3)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها. مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصًا في الكتاب والسنة، متفقا عليه بين سلف الأمة".
هناك ألفاظ ورد استعمالها ابتداءً في بعض كلام السلف.
ومن أمثلة ذلك لفظ (الذات) و (بائن)
وهذه الألفاظ تحمل معاني صحيحة دلت عليها النصوص
وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السنة استعمالها
وهناك من يمنع ذلك بحجة أن باب
(1)
انظر رسالة في العقل والروح (2/ 46 - 47).
(2)
بدائع الفوائد (1/ 161)، مجموع الفتاوى (6/ 142 - 143)
(3)
رسالة في العقل والروح (2/ 46 - 47).
الإخبار توقيفي كسائر الأبواب
والصواب أنه ما دام المعنى المقصود من ذلك اللفظ يوافق ما دلت عليه النصوص، واستعمل اللفظ لتأكيد ذلك فلا مانع
كقول أهل السنة: "إن الله استوى على العرش بذاته"
فلفظة (بذاته) مراد بها أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له.
وكقولهم: "إن الله عالٍ على خلقه بائن منهم"
فلفظة (بائن) يراد بها إثبات العلو حقيقة، والرد على زعم من قال إن الله في كل مكان بذاته
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة"
(1)
وقال أيضاً: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل
ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا
ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه
ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة، وقالوا إنما قابل البدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل"
(2)
فيستفاد من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الألفاظ على أربعة أقسام:
القسم الأول: الألفاظ المأثورة وهي التي وردت بها النصوص
(1)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 271).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 254).
القسم الثاني: الألفاظ المعروفة وهي التي بُيِّنَت معانيها
القسم الثالث: الألفاظ المبتدعة التي تدل على معنى باطل
القسم الرابع: الألفاظ المبتدعة التي تحتمل الحق والباطل
فلفظ (الذات) و (بائن) هي من القسم الثاني
وهذه الألفاظ كما أسلفنا إنما تستعمل في باب الإخبار ولا تستعمل في باب الأسماء والصفات، ولذلك لما اعترض الخطابي على استعمالها بقوله:"وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له: إنما أُحْوِجْنَا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز رَدُّها. فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود، كما نقول يد لا كالأيدي؟! "
(1)
فرد شيخ الإسلام ابن تيمية على قول الخطابي من وجوه منها: "أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد، كما توهمه هذا الراد عليهم. وهذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل؛ فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شييء من الموصوفات-كما وصف باليد والعلم-صفة معينة يقال لها الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشييء عن غيره من صفته وقدره"
(2)
فأهل السنة لم يثبتوا بهذه الألفاظ صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة، بل بينوا بها ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته من خلقه وثبوت حقيقته"
(3)
ثانياً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف تارة لإثباتها وتارة لنفيها.
(1)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 442).
(2)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 442 - 443).
(3)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 445).
ومن أمثلة ذلك: لفظ (الحد) ولفظ (المماسة)، فإطلاق السلف لها ليس من باب الصفات وإنما هو من باب الإخبار، ولهم في حال الإثبات والنفي توجيه ليس هذا محل بسطه
الأقوال المجملة تشتمل على الحق والباطل
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وما تنازع فيه المتأخرون، نفيًا وإثباتًا، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحدًا على إثبات لفظ أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقًا قُبل، وإن أراد باطلا رُدّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يُقبل مطلقًا ولم يُرد جميع معناه، بل يُوقف اللفظ ويُفسّر المعنى".
الشرح
بعد أن ذكر المصنف نوعين من الألفاظ شرع هنا في بيان حكم بقية أنواع الألفاظ، وهي النوع الثالث والرابع:
ثالثاً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف وفي كلام خصومهم.
ومن أمثلة ذلك: لفظة (الجهة)
رابعاً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام الخصوم ولم يرد استعمالها في كلام السلف.
ومن أمثلة ذلك: لفظ (الجسم) و (الحيز) و (واجب الوجود) و (الجوهر) و (العرض)
وأما النوعان الثالث والرابع فالجواب عن ذلك أن نقول الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:
النوع الأول: نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع.
فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق
صاحبه المدح، وإن كان ذماً استحق الذم، وإن أثبت شيئا وجب إثباته، وإن نفى شيئا وجب نفيه، لأن كلام الله حق، وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق
وهذا كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآيات: 1 - 4]، وقوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِن} [الحشر 22 - 23]، ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته
وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، وقوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]، وقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة 22 - 23]، وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا كله حق.
النوع الثاني: الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع
فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب، كلفظ (الجسم) و (الحيز) و (الجهة) و (الجوهر) و (العرض)
(1)
. فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه، ويقولون إن القرآن مخلوق، ولم يتكلم الله به، وينفون رؤيته لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم، ثم يقولون: والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته. وكذلك يقولون إن المتكلم لا يكون إلا جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلماً، ويقولون: لو كان فوق العرش لكان جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز، فلا يكون متكلماً فوق العرش
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 241 - 241)
وأمثال ذلك
(1)
الموقف من هذا النوع: "إذا كانت هذه الألفاظ مجملة-كما ذُكر-فالمخاطب لهم إما:
1 -
أن يفصل لهم ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت. وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت
2 -
وأما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً. ولكن يلاحظ
أن الإنسان إذا امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى الجهل والانقطاع
وأن الإنسان إذا تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها"
(2)
ولعل الراجح في المسألة أن الأمر يختلف باختلاف المَصْلَحَةِ
1 -
فإن كان الخصم في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزام الناس بها أمكن أن يقال له: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لَبَّسَ مُلَبِّسٌ منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: إئتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 228).
(2)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 229).
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أدَّاه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم
فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام 102]، وقوله:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء 2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"تجيء البقرة وآل عمران"، وأمثال ذلك من الأحاديث.
أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم
ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟ ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث-وكان من أحذقهم بالكلام-ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً
فأجابه الإمام أحمد: بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله
وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يلد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع، ومقصود المتكلم بها مجمل لا يُعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها
فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً
2 -
وأما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لايمكن أن يرد إلى الشريعة
مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدَّعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك.
أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء
فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدعونها إما:
1 -
بألفاظهم
2 -
وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وحينئذ يقال لهم الكلام إما:
أ-أن يكون في الألفاظ.
ب-وإما أن يكون في المعاني.
جـ-وإما أن يكون فيهما.
فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك
فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً
وإن لم
يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ. كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب
وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة
فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منها تلبيس وإيهام، فلابد من الاستفسار والاستفصال؛ أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات.
وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض)، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره
وليس الأمر كذلك: بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك
وأيضاً: فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله
فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما،
والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك.
فلفظ «الجهة» قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقا، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات. وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العال.
ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ «الجهة» ولا نفيه، كما فيه إثبات «العلو» و «الاستواء» و «الفوقية» و «العروج إليه» ونحو ذلك.
وقد عُلم أن ما ثمّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فالله ليس داخلا في المخلوقات؛ أم تريد بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن الله فوق العالَم، بائن من المخلوقات. وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العال، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات. فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل".
الشرح
من المعلوم أن طوائف المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من متأخري الأشاعرة والماتريدية ينكرون المباينة بالجهة.
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 228 - 233).
فبعضهم ينفي المباينة والمحايثة، فيقولون: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا مباين له، ولا محايث له. وهؤلاء هم نظارهم.
وبعضهم يثبت المحايثة فيقولون: إنه بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من علمائهم وعبادهم.
والاتحادية من المعطلة قالوا: إنه نفس وجود الأمكنة
(1)
.
ورداً على مزاعم هؤلاء الباطلة أطلق من أطلق من علماء السلف لفظ المباينة وعدم المماسة تقريراً منهم لإثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه ومباينته من خلقه.
وقد افترق الناس في هذا المقام أربع فرق:
القسم الأول: الجهمية النفاة، الذين يقولون: ليس داخل العالم، ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا يقولون بعلوه ولا بفوقبته.
القسم الثاني: يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقوله النجارية، وكثير من الجهمية، عبادهم، وصوفيتهم، وعوامهم.
القسم الثالث: من يقول هو فوق العرش وهو في كل مكان، ويقول أنا أقر بهذه النصوص، وهذه لا أصرف واحداً منها عن ظاهره.
وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في مقالاته وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية.
القسم الرابع: وهم سلف الأمة وأئمتها، أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا أن الله فوق سمواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وهم منه
(1)
نقض تأسيس الجهمية (2/ 531) بتصرف.
بائنون، وهو أيضاً مع العباد عموماً بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضاً قريب مجيب"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكذلك لفظ «المتحيز» ، إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، وقد قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض). وفي حديث آخر: (وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة) وفي حديث ابن عباس: ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.
وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها، منفصل عنها ليس حالا فيها. فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه".
الشرح
يتحدث المصنف هنا عن شبهة وجوابها.
فالأمر الأول: من قال بنفي التحيز.
(1)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 555 - 556).
القائلون بنفي التحيز هم المعتزلة وشبهتهم التي اعتمدوا عليها في نفي صفات الباري عز وجل بما فيها صفة العلو هي ما تسمى بطريقة الأعراض، ذلك أنهم يزعمون أن الصفات إنما هي أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، ومن أجل ذلك كان قول المعتزلة في الله: إنه قديم واحد ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره
(1)
ولكان جسماً إذ إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وتعدداً في ذاته ويقتضي أنه جسم وذلك خلاف التوحيد.
فهم يزعمون أن توحيد الله وتنزيهه متوقف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به التي هي الصفات والأفعال، ونفي ذلك عندهم موقوف على ما يدل عليه حدوث الأجسام، والذي دلهم على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين فهي حادثة، فإذا لم تخل الأجسام منها لزم حدوثها.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، والمركب مفتقر إلى جزئيه وجزءاه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثاً مخلوقاً، فالأجسام متماثلة فكل ما صح على بعضها صح على جميعها، وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها
(2)
.
(1)
بالإضافة إلى زعم المعتزلة أن الصفات لا تقوم إلا بأجسام، فهم أيضاً يزعمون أن في إثبات الصفات قول بكثرة وتعدد ذات الله، لأنهم يقولون:(إن من أثبت لله صفة أزلية قديمة فقد أثبت إلهين)، كما اعتقدوا أن الصفات لو شاركته في القدم لشاركته في الألوهية.
انظر الملل للشهرستاني (1/ 44 - 46)، مقالات الإسلاميين (1/ 245)، منهاج السنة (2/ 169).
(2)
انظر مختصر الصواعق (1/ 254).
والمعتزلة يقولون أننا بهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسماً وإمكان المعاد.
ومن المعروف عن المعطلة أنهم يستدلون لأقوالهم بعبارات مبتدعة وفيها الكثير من الاشتباه والإجمال، وذلك كلفظ الجهة والجسم والحيز والمركب وغير ذلك، فهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ليخدعوا به جهال الناس بما يشبهون عليهم، وهذه الألفاظ المجملة تتضمن معاني باطلة ومعاني أخرى صحيحة فهم بهذا ينفون كلا المعنيين الحق والباطل.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما في هذه الألفاظ من معانٍ، وما تدل عليه من عبارات
(1)
، وكيف استعملها هؤلاء المعطلة في نفي صفات الباري عز وجل حيث ادعوا أن هذه الأمور من مستلزمات الجسمية، والله منزه من ذلك، وقد بين شيخ الإسلام أن استعمال هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً لم يرد عن السلف ولا جاء به أثر صحيح ولم يستعملها الأقدمون بالمعنى الاصطلاحي الذي اتفق عليه هؤلاء، بل جميعهم معترفون بأن العلو صفة كمال كما أن السفل صفة نقص، وما ثبت لله من العلو فهو العلو المناسب لكمال ذاته المنزهة عن اعتبارات المحدثين ومماثلتهم.
ومعلوم أن القول بأن العلو يستلزم هذه المعاني المبهمة إنما هو مأخوذ من قياس الغائب على الشاهد، ومحاولة تطبيق الاعتبارات الإنسانية على الصفات الإلهية، وهذا قياس خاطئ إذ ليس معنى كونه في السماء أن السماء تحويه وتحيط به وتحصره، أو هي محل وظرف له، بل هو سبحانه محيط بكل شيء وسع كرسيه السموات والأرض، وهو فوق كل شيء وعالٍ على كل شيء
(2)
.
(1)
انظر شرح ابن تيمية لهذه العبارات في نقض التأسيس الجهمية (1/ 504، 511)، وفي مجموع الفتاوى (5/ 418 - 430).
(2)
انظر كتاب موقف شيخ الإشلام ابن تيمية من قضية التأويل (381 - 385).
ثانيا: أن ما استدل به المعتزلة لا أصل له من الكتاب أو السنة بل هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً ليس بعالم ولا قادر ولا حي
(1)
.
كما أن مذهب المعتزلة في الذات قريب من مذهب اليونان القائلين بأن ذات الله واحدة لا كثرة فيها بوجه من الوجوه
(2)
.
ثالثاً: أن أصل هذه القاعدة التي اعتمد عليها المعتزلة في نفي الصفات إنما هي مأخوذة من قولهم في دليل حدوث العالم
(3)
الذي أثبتوا فيه حدوث العالم بحدوث الأجسام. وهذا الدليل قد بين الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: أنه دليل محرم في شرائع الأنبياء، ولم يستدل به أحد من الرسل ولا أتباعهم
(4)
، فهي بهذا طريق يحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وما يلزم عليها من لوازم باطلة لأنها مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، وهي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله ونفي المبدأ والمعاد، فهذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلاً عن نفي علوه على خلقه ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها، فلو صحت هذه الطريقة لنفت الصانع وأفعاله وصفاته وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له.
وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له، وأن الله بذاته في كل مكان، وقال إخوانهم إنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم، وقالوا بخلق القرآن إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة
(5)
.
(1)
مقالات الإسلاميين (2/ 177)، وموقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
(2)
موقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
(3)
انظر الكلام على دليل حدوث العالم في مجموع الفتاوى (13/ 153).
(4)
انظر كتاب رسالة إلى أهل الثغر (ص 164 - 172) تحقيق عبد الله شاكر الجنيدي، رسالة ماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
(5)
مختصر الصواعق (1/ 256، 257)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 38 - 40).
الأمر الثاني: الجواب على استخدام لفظ التحيز.
ومن الأمثلة التي ساقها شيخ الإسلام أيضًا من هذه الألفاظ المبتدعة لفظ «المتحيز» .
فنقول لمن أثبته: ماذا تريد بهذا اللفظ؟
- فإن أراد به: أن الله تحوزه المخلوقات، فهذا باطل، فإن الله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، وقد قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض)
(1)
.
وفي حديث آخر: (وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة)
(2)
.
وفي حديث ابن عباس: ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم
(3)
.
- وإن أراد به: أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها، منفصل عنها ليس حالًّا فيها. فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه.
(1)
أخرجه مسلم حديث رقم (2787) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه بنحوه ابن جرير في تفسيره لسورة الزمر آية 67.
(3)
الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 308).
لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد.
فإنه يقال: لفظ «الظاهر» فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد.
ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمّون هذا ظاهرا، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال.
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك.
وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل.
الشرح
للحديث عن شرح هذه القاعدة يمكن تقسيم الشرح إلى عدة جوانب، وقد لا يكون لبعضها علاقة مباشرة بالموضوع، ولكنها ضرورية لفهمه وكما قال النووي ((إن المفتي إذا سئل عن شيء، وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل ولم يسأله عنه، يستحب له أن يذكره له، ويكون هذا من النصيحة لا من الكلام فيما
لا يعني"
(1)
الجانب الأول: توطئة في أقسام الناس في نصوص الصفات عمومًا.
الأقسام التي يمكن عدُّها في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، فالناس انقسموا في النصوص، أي في نصوص القرآن والسنة المتعلقة بباب الأسماء والصفات، انقسموا إلى ستة أقسام، وهذه الأقسام يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام باعتبار جمع كل قسمين معًا:
- فقسمان يقولان: تجرى على ظواهرها.
- وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.
- وقسمان يسكتان.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة:
- قسمان يقولان: تجرى على ظواهرها.
- وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.
- وقسمان يسكتون"
(2)
.
أما القسمان اللذان يقولان: تجرى على ظواهرها.
القسم الأول: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين.
فهؤلاء هم المشبِّهة.
(1)
شرح صحيح مسلم: 4/ 108.
(2)
مجموع الفتاوى: 3/ 74.
فالمشبهة أجروا هذه النصوص على ظاهرها، ولكن جعلوا ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، كقولهم: له يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، فهم من جهة أثبتوا الصفة فأثبتوا اليد، وأثبتوا السمع، وأثبتوا البصر، وأثبتوا الاستواء، وأثبتوا سائر الصفات، لكنهم تعمقوا في شأن الكيفية وجعلوا تلك الصفات من جنس ما للمخلوق.
وشبهة هؤلاء أنهم يقولون: إن الله تعالى لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا كلمنا عن يد، فنحن لا نعقل من اليد إلا هذه اليد الجارحة، ولذلك نقول: له يد كيدي، ونقول: له سمع كسمعي، وبصر كبصري.
وهذه الحجة في غاية الضعف؛ لأنه ليس من شرط الإيمان بالأشياء أن تعقل حقائقها، فهذه الروح بين جنبي الإنسان ولا يمكن للإنسان أن ينكر هذه الروح، ومع ذلك لا يمكن أن يدرك كنهها أو حقيقتها، وكذلك كثير من المغيبات الله سبحانه وتعالى أخبر عنها، ولكن مع ذلك لا ندرك كيفية تلك المغيبات أو حقيقتها كما في شأن الملائكة، وكما في شأن الجنة والنار، وكما في شأن الكثير من الأمور المغيبة.
فهذا الصنف لا شك أن مذهبهم باطل، أنكره السلف، فالأئمة نصوصهم في ذلك كثيرة في الإنكار على المشبهة، ولا شك أنه الردود في هذا ذكرها جمع من السلف، وهذا المذهب وهذا القول قال به الهشامية من الروافض، فقدماء الرافضة كانوا على مذهب التمثيل والتشبيه، وكذلك هذا القول موجود عند الكرامية، كما ذكر في كتب المقالات.
القسم الثاني: ممن يجريها على ظاهرها، هم أهل السنة والجماعة، وهو مذهب السلف، فالسلف يجرون هذه النصوص على ظاهرها، ولكن الظاهر الذي يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وكماله، فيثبتون اليد، ويثبتون السمع، ويثبتون البصر، ويثبتون العلم،
ويثبتون الاستواء، ويثبتون النزول، ويثبتون سائر الصفات، ولكن على ما يليق بجلال وكمال الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أخبر بهذه الصفات، ووصف نفسه بهذه الصفات، كما وردت بذلك نصوص الكتاب والسنة، ولكن مع هذا لا نعقل كيفية تلك الصفات، والإيمان بهذه الصفات هو إيمان وجود، وأن هذه الصفات صفات ثابتة حقيقة لله سبحانه وتعالى، ولا نعلم كيفية تلك الصفات، فقال هنا: الثاني: أي القسم الثاني، من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه وتعالى كما يجرى ظاهر اسمه العليم، القدير، الرب، الإله، فهذه الأسماء يعني ثابتة بالنصوص، ونجريها على ظاهرها، ونؤمن بما دلَّت عليه من المعاني.
والإيمان بهذه الصفات وإثباتها لله سبحانه وتعالى حقيقة، نؤمن بوجودها لله حقيقة أي أن هذه الصفات ثابتة في حق الله حقيقة، فإن لله يدًا حقيقة، ولله سمع حقيقة، والله استوى حقيقة، وهذا حدنا في الإيمان.
أما شأن الكيف فنحن نَكِلُ علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
القسمان اللذان يقولان تجرى على خلاف ظاهرها.
أي اللذان ينفيان ظاهرها ويقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة لله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين فهؤلاء قسمان:
ويقصد بهم المعطِّلة من الفلاسفة وأهل الكلام، الذين يقولون: ليس للنصوص في الباطن مدلول هو صفة لله تعالى قط، أي: يقولون: إن هذه النصوص لا تدل على صفات حقيقة، ثم بعد ذلك هم أصناف:
فالصنف الأول من يقول: أن الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية وإما إضافية أو مركَّبة منهما، أي: من السلب والإضافة، فهذا صنف وهم الجهمية وغلاة المعطِّلة، بما فيهم الجهمية والفلاسفة بحسبب أصنافهم، سواء كانوا أصحاب الفلسفة البحتة أو الباطنية، من باطنية الصوفية أو باطنية الرافضة، فهؤلاء لا يصفون الله عز وجل بصفة ثبوتية، بل غايتهم أنهم إما يصفونه بالسلب أو بالإضافة كما يقولون والإضافة المقصود بها الأمور النسبية، كقولهم: واجد الوجود، أو العلة الفاعلة، أو نحو هذه من العبارات، فهذه يطلقونها على الله سبحانه وتعالى على أنها أمور نسبية إضافية، فيصفونه بأنه واجب الوجود، ويصفونه بأنه العلة الفاعلة، لكن كل هذه من باب النسب والإضافات وليست من باب الصفات.
فإما أن يقولوا: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، وهذه السلبيات.
وإما أن يقولوا: أنه واجب الوجود، أو العلة الفاعلة، وغير ذلك من العبارات الأخرى، وهذه إنما هي من باب النسب والإضافات، وإذا قلنا: نسب وإضافات أنها يعني باعتبار ما للمخلوق، فيسمونه العلة الفاعلة باعتبار أن هناك خلق موجود، فبالتالي ما يضاف إلى هذا الخالق الذي أوجد هذا الخلق يقولون عنه أنه علة فاعلة، يسمونه علة فاعلة، فهذا قول.
الصنف الثاني: المعتزلة وهؤلاء يثبتون الأحوال دون الصفات.
الصنف الثالث: الكلابية وقدماء الأشاعرة
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري وغيرهما، كان الحارث المحاسبي ينتسب إلى قول ابن كلاب
الصنف الرابع: المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية.
وهؤلاء يقولون بإثبات سبع صفات فقط أو ثمان ونفي ما عداها، فهم بزعمهم لم يثبتوا من الصفات إلا ما أثبته العقل فقط، وأما ما لا مجال للعقل فيه عندهم فتعرضوا له بالتأويل والتعطيل.
ولا يستدل هؤلاء بالسمع في إثبات الصفات، بل عارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات.
وهذا القول لمتأخري الأشاعرة إنما تلقوه عن المعتزلة، لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه، الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع، ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع، بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل.
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة أصحابه في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات.
(1)
وما عداها من الصفات الثبوتية لا يثبتونها ولهم في نصوصها أحد طريقين إما التأويل أو التفويض وفي هذا يقول قائلهم:
وكل نص أوهم التشبيها
…
أوله أو فوضه ورم تنزيها
(2)
فنصوص الصفات التي وردت في إثبات ما عدا الصفات السبع التي يثبتونها، يسمونها نصوص موهمة للتشبيه، فهم يصرفونها عن ظاهرها، ولكنهم تارة يعينون
(1)
- درء تعارض العقل والنقل 7/ 97.
(2)
- المصدر السابق ص 91.
المراد كقولهم استوى: استولى، واليد: بمعنى النعمة والقدرة؛ وتارة يفوضون فلا يحددون المعنى المراد ويكلون علم ذلك إلى الله عز وجل. ولكنهم يتفقون على نفي الصفة لأن ناظمهم يقول: «ورم تنزيهاً»
وشارح الجوهرة يقول: «أو فوض» أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم إليه تعالى.
(1)
فهم بذلك متفقون على نفي تلك الصفات، ويخيرون في تحديد المعنى المراد أو السكوت عن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية-موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:
أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.
والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية" وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب.
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات. ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي).
(2)
والقسمان اللذان يسكتان.
الواقفان الذين يقفون في هذا على أحد قولين:
القسم الأول: يقول: تجرى على ظاهرها، ومع ذلك يجوز أن يكون المراد أمراً
(1)
- تحفة المريد ص 91
(2)
- درء تعارض العقل والنقل 5/ 249.
آخر، فيجوز أحد الاعتبارين، أحد الحالين، يجوز في نفس الوقت إجراؤها على ظاهرها، ويجوز في نفس الوقت أن يكون لها معنى آخر لا يعلمه إلا الله تعالى، فهذا فرق بينه وبين الذي قبله، فالذي قبله يجزم بأنها على خلاف ظاهرها لكن يسكت عن تحديد المراد، أما هذا فيجوِّز الحالين، يجوِّز الحالين معًا وهذا في غاية التناقض لأنه جمع بين ضدين.
والقسم الثاني: أصحاب الجهل البسيط الذين يمسكون عن هذا كله، ويقولون: نحن نقرأ القرآن ولا نتجاوز قراءة النص، ونُعرض عن هذا كله، وهذا يعني لا شك أنه إعراض عن ذكر الله سبحانه وتعالى، فهذه الأقسام الستة لا يخرج الرجل من أحد هذه الأقسام الستة. فإما أن يكون مشبِّه أو ممن يثبتها على الوجه اللائق بالله سبحانه وتعالى، أو يكون هذا القسم يأوِّل، ويحرِّف، أو يفوِّض، أو يقول: أنه يجوز أن تكون على ظاهرها وعلى خلاف ظاهرها، أو يسكت عن ذلك كله، لا يمكن أن يخرج الإنسان عن أحد هذه الستة.
الجانب الثاني: أن التعامل مع نصوص الشرع تحكمه عدة ضوابط:
فيجب أن يراعى في معرفة الظاهر أمور:
1 -
دلالة اللفظ. 2 - دلالة السياق. 3 - سائر القرائن المحتفة. 4 - حال المتكلم.
(1)
الضابط الأول: فهم المراد من نصوص الكتاب والسنة بأن تجري على لغة العرب ووفق لسانها وهو ما يسمى (دلالة اللفظ).
(1)
بدائع الفوائد 4/ 9
فالألفاظ جارية على لغة العرب-كما يقول الشاطبي رحمه الله
(1)
-فحتى نفهم المراد من نصوص الكتاب والسنة فلا بد أن تجري على لغة العرب ووفق لسانها، وليس لأحد أن يسخر اللغة وفق هواه وعلى ما جرى به اعتقاده، فاللغة حاكمة ليس لأحد أن يطوعها لأمر بغير أساليب أهلها
(2)
.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: " إنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها ". ثم ذكر وجوها لاتساع لسانها وضروبه المتنوعة في دلالتها على المعاني". ثم قال: " وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به معرفة واضحة عندها ومستنكرا عند غيرها ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه"
(3)
.
وقال بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: 794 هـ: ("وقد روى عبد الرزاق في " تفسيره ": حدثنا الثوري عن ابن عباس، " أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام: (قسم تعرفه العرب في كلامها، وقسم لا يعذر أحد بجهالته؛ يقول من الحلال والحرام، وقسم يعلمه العلماء خاصة، وقسم لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فهو كاذب). وهذا تقسيم صحيح.
فأما الذي تعرفه العرب، فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم، وذلك شأن اللغة والإعراب. فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها، ومسميات أسمائها"
(4)
الضابط الثاني: كما أن علينا أن نعرف أن فهم النصوص يعتمد على سياق الكلام، وهو ما يسمى (دلالة السياق).
وهذه الدلالة هي من الأهمية بمكان، إذ يتضح من خلالها فهم الكلام الوارد
(1)
انظر: الموافقات: 2/ 127.
(2)
انظر: بيان تلبيس الجهمية: 1/ 492.
(3)
الرسالة للشافعي: ص 51 - 53، ت: أحمد شاكر.
(4)
البرهان في علوم القرآن: 2/ 307.
وتنزيله على معانيه الصحيحة.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: " كلام العربي على الإطلاق لابد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلا صار ضحكة وهزءة. "
(1)
قال ابن القيم: "السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة؛ وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته فانظر إلى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أنت الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان الآية: 49 [كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير"
(2)
ودلالة السياق دلالة معتبرة عند أهل السنة استخدموها في توضيح النصوص على معانيها المناسبة لها.
ويقصد بالسياق هنا هو المعنى الذي جرت فيه الألفاظ محتفة بقرائنها التي تؤكد دلالة هذا المعنى وتستبعد ما سواه، ويسمي بعض الباحثين السياق بأنه:" الموقف الكلامي بجميع عناصره "
(3)
.
فالسياق إذن يعرف من خلال الكلام سابقه ولاحقه وما احتف به من قرائن
(1)
الموافقات: 3/ 419 - 420.
(2)
بدائع الفوائد 4/ 9
(3)
انظر: علم الدلالة دراسة نظرية وتطبيقية: ص 171، د/ فريد عوض حيدر، وانظر: دلالة السياق لردة الله الطلحي: ص 46، وقد لخص الطلحي مفهوم السياق من خلال تراث العرب ويقصد به السياق عند علماء الشرع وعلماء اللغة بأنه يرجع إلى ثلاثة أمور:
1 -
السياق هو الغرض.
2 -
السياق هو الظروف والمواقف التي ورد فيها النص.
3 -
السياق هو السياق اللغوي المعروف الآن وهو ما يمثله الكلام في موضع النظر والتحليل.
انظر: دلالة السياق: 50 - 51.
سواء كانت واضحة في النص أم كانت خارجة عنه كأسباب النزول.
يقول السيوطي رحمه الله وهو يذكر مصادر المفسر وأنه يبدأ بالقرآن ثم السنة " فإن لم يجده في السنة رجع إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله.
(1)
وقد يطول الكلام عن السياق، والمقصود هنا بيان أن النصوص حتى تفهم فلا بد من اعتبار سياقاتها.
الضابط الثالث: دلالة اللفظ على الصفة في موضع ما لا يعني أنه يدل عليها في كل موضع وهو ما يسمى (القرائن).
ولذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "إن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية"
(2)
.
والقرائن: فهي الأمارات التي تقارِنُ الخطابَ لتبيِّنه وتصحَبُ الكلمةَ فتدل على معناها، وهي مفيدة جدًا في تعيين المعنى المراد من اللفظِ.
قال القاضي أبو يعلى: "وقد اعتبر أحمد القرائن في مثل هذا، فقال في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم} [المجادلة: 7]، قال: المراد به علمه؛ لأن الله افتتح الخبر بالعلم، وختمه بالعلم"
(3)
.
قال الإمام ابن القيم: "اللَّفْظَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ، وَالْقَرَائِنُ ضَرْبَانِ: لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، وَاللَّفْظِيَّةُ نَوْعَانِ: مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ، وَالْمُتَّصِلَةٌ ضَرْبَانِ: مُسْتَقِلَّةٌ وَغَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ، وَالْمَعْنَوِيَّةُ إِمَّا عَقْلِيَّةُ وَإِمَّا عُرْفِيَّةُ، وَالْعُرْفِيَّةُ إِمَّا عَامَّةٌ وَإِمَّا
(1)
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تعليق: د. مصطفى البغا: 1/ 1197.
(2)
مجموع الفتاوي لابن تيمية: 6/ 12. وانظر: الرسالة المدنية لابن تيمية: ص: 31، ت: الوليد الفريان. انظر: الصواعق المرسلة: 714.
(3)
(إبطال التأويلات (ص: 427 - 428).
خَاصَّةٌ، وَتَارَةً يَكُونُ عُرْفَ الْمُتَكَلِّمِ وَعَادَتَهُ، وَتَارَةً عُرْفَ الْمُخَاطَبِ وَعَادَتَهُ.
(1)
"اهـ.
وفي أهمية اعتبار دلالة السياق والقرائن في فهم معاني نصوص القرآن والسنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "بل يُنْظَرُ فِي كُلِّ آيَةٍ وَحَدِيثٍ بِخُصُوصِهِ وَسِيَاقِهِ وَمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ مِنْ الْقُرائنِ وَالدَّلَالَاتِ، فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مُهِمٌّ نَافِعٌ فِي بَابِ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا مُطْلَقًا وَنَافِعٌ فِي مَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ وَطَرْدِ الدَّلِيلِ وَنَقْضِهِ
(2)
. ".
وقال الإمام الشاطبي: "فَلَا مَحِيصَ لِلْمُتَفَهِّمِ عَنْ رَدِّ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَأَوَّلِهِ عَلَى آخِرِهِ، وَإِذْ ذَاكَ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِي فَهْمِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنْ فَرَّقَ النَّظَرَ فِي أَجْزَائِهِ فَلَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مُرَادِهِ، فَلَا يَصِحُّ الاقْتِصَارُ فِي النَّظَرِ عَلَى بَعْضِ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ دُونَ بَعْضٍ.
(3)
".
وقال شيخ الإسلام: "فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة ودلالة نص عليها، يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ-حيث ورد-دالا على الصفة وظاهرا فيها، ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا، وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك، بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى-إضافة صفة-من آيات الصفات. كقوله تعالى:(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)[الزمر: 56]. وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما
(1)
مختصر الصواعق المرسلة: 780 - 781.
(2)
مجموع الفتاوى: 3/ 357.
(3)
الموافقات: 2/ 265.
يحف به من القرائن اللفظية والحالية"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام: "يغلط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة، ودلالة نص عليها، يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ-حيث ورد-دالا على الصفة وظاهرا فيها، ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا.
وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك. بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى-إضافة صفة-من آيات الصفات"
(2)
وعند ذكر بعض النصوص فإنه قد يظهر فيها أنها من نصوص الصفات وقد لا يثبت من خلالها صفة كقوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)] البقرة الآية: 115]، وكقوله:(فأتى الله بنيانهم من القواعد)] النحل الآية: 26]، فالأولى تعني وجه الله أي قبلته، فأضيفت إلى الله تعالى للتخصيص والتشريف، والثاني المقصود به إتيان أمره المتمثل في عقوبته، وقد يستدل بعض النفاة بمثل آية} فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم} [النحل الآية: 26]
…
على نفي صفة الإتيان الله تعالى حقيقة الواردة في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة الآية: 210 [جاعلاً من معنى الآية الأولى معنى للآية الثانية من أن الإتيان لله تعالى إنما هو إتيان أمره"
(3)
.
ومن خلال دلالة السياق يتبين لنا أثر فهم هذه الدلالة في إثبات صفات الله تعالى وأن لا يجعل ما لا يدل على صفة من النصوص دليلا على نفي الصفة المثبتة من النصوص الأخرى.
(1)
مجموع الفتاوي، ابن تيمية، (6/ 14 - 15).
(2)
مجموع الفتاوي، ابن تيمية، (6/ 15).
(3)
انظر: نقض الدارمي، ومجموع الفتاوي لابن تيمية: 2/ 429، و 3/ 193، ومختصر الصواعق لابن الموصلي: 1/ 29.
وما سبق هو إشارة للمقصود وتبيان لأهمية هذه الدلالة"
(1)
.
وهكذا في ألفاظ المعية، في كل نص قد تقتضي معنى خلاف الآخر، فمع أن الله سبحانه وتعالى مع خلقه جميعًا بعلمه، فإنه مع أوليائه وعباده الصالحين بنصره وتأييده إضافة إلى علمه، فهذا النوع يسمى التواطؤ المشكك، فالتواطؤ نوعان: كلِّي ومشكك.
فلاحظ أن اللبس يأتي في أذهان البعض من فهمه الخاطئ، أو يريد أن يحمِّل النصَّ معنى لا يحتمله، ولو عاد إلى لغة العرب وعاد إلى كلام أهل العلم لوجد أن الأمر في غاية الوضوح والجلاء، فلم يتردد واحد من السلف فيقول: لعلها معية ذاتية، ولم يُنقل هذا عنهم، وهذا ابن عبد البر ينقل إجماع السلف أنهم فسَّروا المعيَّة بمعيَّة العلم، وهكذا ابن تيمية وهكذا تلميذه ابن القيم، وهكذا جمعٌ من أهل العلم، بيَّنوا أن المعيَّة هنا ليست معيَّة ذاتية.
الضابط الرابع: حال المتكلم.
أو ما يمسى بمفهوم مقتضى الحال، أو ما يعبر عنه بمطابقة الكلام لمقتضى الحال.
ويعتبر السياق من القرائن الكبرى التي يستند عليها التحليل الدلالي، وعلماء الدلالة حينما يتحدثون عن السياق يقسمونه إلى نوعين:
النوع الأول: نوع لغوي يهتم بالسياق واللاحق.
والنوع الثاني: وآخر مقامي لا يمكن إغفاله يراعي ملابسات الكلام، وأطلق عليه العلماء-قديما وحديثا-مصطلحات كثيرة، لعل أقدمها مقتضى الحال
(2)
.
وعرف بأنه: "الخلفية غير اللغوية للكلام أو (النص) ومن خلالها يأخذ تمام
(1)
انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 6/ 15 - 23، لتبيان أمثلة توضح دلالة السياق وأثرها في فهم النص، وانظر كذلك: الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية للشجيري: 91 - 95.
(2)
انظر: مقتضى الكلام بين التراث العربي والدراسات اللغوية الحديثة: ص: 1
معناه في الاستعمال"
(1)
ومقتضى الحال: "صورة خاصة ترد في الكلام زائدة على أصل معناه قد اقتضاها الحال واستدعاها المقام.
(2)
"
مطابقة الكلام لمقتضى الحال: العناية بحال المستمع أو المتلقِّي بالإضافة إلى جودة اللفظ والموضوع، وبذا يُعدّ الخطيب أو الكاتب بليغًا
(3)
قال الشاطبي: "علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلًا عن معرفة مقاصد الكلام إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك؛ وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال؛ وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرئن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب-يعني أسباب النزول-رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد؛ ومعنى معرفة السبب هو معرفة مقتضى الحال"
(4)
.
الجانب الثالث: استعمال لفظ الظاهر والمقصود به.
ولتحرير هذه المسألة وتقريرها يجب الوقوف عند المسائل الآتية:
(1)
معجم المصلحات اللغوية لرمزي منير بعلبكي مادة: (س. و. ق).
(2)
علوم البلاغة لأحمد مصطفى المراغي: ص 36 - 37.
(3)
انظر معجم المعاني مادة (مطابقة).
(4)
الموافقات: 2/ 221.
المسألة الأولى:
قول المصنف: "فإنه يقال: لفظ «الظاهر» فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد".
قول المصنف: "فإنه يقال: لفظ «الظاهر» فيه إجمال واشتراك" يؤكد المصنف هنا أن لفظ الظاهر يعد من الألفاظ المجملة، والقاعدة كما تقدم في الألفاظ المجملة أن لا تقبل مطلقًا، ولا ترد مطلقًا، بل لابد من الاستفصال من المتلكم بها ومعرفة مقصوده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إذا كانت هذه الألفاظ مجملة-كما ذُكر-فالمخاطب لهم إما:
1 -
أن يفصل لهم ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت. وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت
2 -
وأما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً. ولكن يلاحظ
أن الإنسان إذا امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى الجهل والانقطاع
وأن الإنسان إذا تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها"
(1)
والمصنف هنا استخدم طريقة الاستفصال وذلك من خلال ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: أن الزعم بأن "ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 229).
خصائصهم" كما قال به كل من المشبهة، والمعطلة.
فالمشبهة أجروا هذه النصوص على ظاهرها، ولكن جعلوا ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، كقولهم: له يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، فهم من جهة أثبتوا الصفة فأثبتوا اليد، وأثبتوا السمع، وأثبتوا البصر، وأثبتوا الاستواء، وأثبتوا سائر الصفات، لكنهم تعمقوا في شأن الكيفية وجعلوا تلك الصفات من جنس ما للمخلوق.
وشبهة هؤلاء أنهم يقولون: إن الله تعالى لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا كلمنا عن يد، فنحن لا نعقل من اليد إلا هذه اليد الجارحة، ولذلك نقول: له يد كيدي، ونقول: له سمع كسمعي، وبصر كبصري.
والمعطلة: لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم.
والمعطلة يسمون نصوص الصفات نصوص التشبيه وفي هذا يقول قائلهم: "وظواهر أحاديث التشبيه-يعني بها أحاديث الصفات-أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل"
(1)
.
وبالتالي فإن هذا المعنى كما قال المصنف: "لا ريب أن هذا غير مراد".
النقطة الثانية: أن هذا الزعم والظن في النصوص أمر لا تدل عليه النصوص.
ولذلك قال المصنف: "ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمّون هذا ظاهرا، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال".
(1)
الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي ص 132 - 133.
"وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، و لا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات ونفي ممثالة المخلوقات قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11]، فهذا رد على الممثلة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى الآية: 11]، رد على المعطلة.
وقولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزهٌ عن صفات النقص مطلقاً كالسِّنَةِ، والنوم، والعجز، والجهل، وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها، على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات"
(1)
.
النقطة الثالثة: أن من اعتقد أن ظاهر النصوص هو التشبيه فهؤلاء قال عنهم المصنف: "والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين":
الوجه الأول: قول المصنف: "تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك".
أي زعمون أن المعنى الفاسد هو ما دل عليه ظاهر اللفظ حيث زعموا أن نصوص إثبات اليدين مثلاً تدل على أن اليد هي مثل يد المخلوق، وأنهم على زعمهم هذا يرون أن النص بحاجة إلى تأويل يخالف ظاهره فقالوا في تأويل اليد هي القدرة أو النعمة.
والوجه الثاني: قول المصنف: "وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل".
(1)
منهاج السنة (2/ 523).
أي أنهم بفهمهم الفاسد يردون معاني النصوص الشرعية الدالة على إثبات صفة الكمال لله عز وجل، لاعتقادهم ببطلان تلك الصفات، فلا يثبتون لله صفات أو لا يثبتون له بعض صفاته. فهؤلاء يرون إن الظاهر غير مراد: أي أن المعنى غير مراد، وأن هناك معنى لا نَعلمه.
أن لفظ (الظاهر) أصبح لفظاً مشتركاً فتارة يراد به معنى صحيحاً، وتارة يراد به خلاف ذلك فلا بد من التفصيل.
وفي هذا يقول ابن تيمية رداً على من يقول: "مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَيَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ.
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ خَطَأٌ:
إمَّا لَفْظًا وَمَعْنًى.
أَوْ لَفْظًا لَا مَعْنًى.
لفظ (الظَّاهِرَ) قَدْ صَارَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ:
المعنى الأول: أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْيَدَ جَارِحَةٌ مِثْلُ جَوَارِحِ الْعِبَادِ، وَظَاهِرُ الْغَضَبِ غَلَيَانُ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ، وَظَاهِرُ كَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ.
فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَشِبْهَهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَنُعُوتِ الْمُحَدِّثِينَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَقَدْ صَدَقَ وَأَحْسَنَ؛ إذْ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ؛ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُكَفِّرُونَ الْمُشَبِّهَةَ وَالْمُجَسِّمَةَ.
لَكِنَّ هَذَا الْقَائِلَ أَخْطَأَ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ؛ وَحَيْثُ حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ مَا لَمْ يَقُولُوهُ؛ فَإِنَّ "ظَاهِرَ الْكَلَامِ" هُوَ مَا يَسْبِقُ إلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ مِنْهُ لِمَنْ يَفْهَمُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ظُهُورُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَضْعِ وَقَدْ يَكُونُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ؛ وَلَيْسَتْ "هَذِهِ الْمَعَانِي" الْمُحْدَثَةَ الْمُسْتَحِيلَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى هِيَ السَّابِقَةَ إلَى عَقْلِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ الْيَدُ عِنْدَهُمْ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالذَّاتِ فَكَمَا كَانَ عِلْمُنَا وَقُدْرَتُنَا وَحَيَاتُنَا وَكَلَامُنَا وَنَحْوُهَا مِنْ الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثَنَا يَمْتَنِعُ أَنْ
يُوصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمِثْلِهَا؛ فَكَذَلِكَ أَيْدِينَا وَوُجُوهُنَا وَنَحْوُهَا أَجْسَامًا كَذَلِكَ مُحْدَثَةً يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِمِثْلِهَا.
ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: إذَا قُلْنَا إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا إنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ ثُمَّ يُفَسِّرُ بِصِفَاتِنَا.
فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ظَاهِرَ الْيَدِ وَالْوَجْهِ غَيْرُ مُرَادٍ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِنَا جِسْمٍ أَوْ عَرَضٍ لِلْجِسْمِ وَمَنْ قَالَ: إنَّ ظَاهَرَ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ غَيْرُ مُرَادٍ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ اسْمٍ يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إلَّا وَالظَّاهِرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَخْلُوقُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ فَكَانَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ قَدْ أُرِيدَ بِهَا مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْفَسَادِ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُ اللَّهِ سبحانه وتعالى كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ نِسْبَتُهَا إلَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ كَنِسْبَةِ صِفَاتِ كُلِّ شَيْءٍ إلَى ذَاتِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْمَوْصُوفِ وَلَهَا خَصَائِصُ وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ. وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَاجِبَةٌ لِذَاتِهِ وَ " الْإِلَهُ " الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَيْسَ غَرَضُنَا الْآنَ الْكَلَامَ مَعَ نفاة الصِّفَاتِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مَعَ مَنْ يُثْبِتُ بَعْضَ الصِّفَاتِ. وَكَذَلِكَ "فِعْلُهُ" نَعْلَمُ أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ إبْدَاعُ الْكَائِنَاتِ مِنْ الْعَدَمِ وَإِنْ كُنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَا يُشْبِهُ أَفْعَالَنَا إذْ نَحْنُ لَا نَفْعَلُ إلَّا لِحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. وَكَذَلِكَ "الذَّاتُ" تُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُمَاثِلُ الذَّوَاتَ الْمَخْلُوقَةَ وَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ وَلَا يُدْرِكُ لَهَا كَيْفِيَّةً فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ إطْلَاقِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَيْهِ.
فَالْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ أَحْكَامَ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَآثَارَهَا وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُ فَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَنَّ الْأَرْضَ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إلَى وَجْهِ خَالِقِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ لَذَّةً يَنْغَمِرُ فِي جَانِبِهَا جَمِيعُ اللَّذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا وَخَالِقًا وَمَعْبُودًا وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ غَايَةُ عِلْمِ الْخَلْقِ هَكَذَا: يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ وَلَا يُحِيطُونَ بِكُنْهِهِ وَعِلْمُهُمْ بِنُفُوسِهِمْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. قُلْت لَهُ: أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ " الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهَذَا التَّفْسِيرِ؟ فَقَالَ: هَذَا لَا يُمْكِنُ. فَقُلْت لَهُ: مَنْ قَالَ: إنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ بِمَعْنَى أَنَّ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ غَيْرُ مُرَادَةٍ قُلْنَا لَهُ: أَصَبْت فِي " الْمَعْنَى " لَكِنْ أَخْطَأْت فِي " اللَّفْظِ " وَأَوْهَمْت الْبِدْعَةَ وَجَعَلْت للجهمية طَرِيقًا إلَى غَرَضِهِمْ وَكَانَ يُمْكِنُك أَنْ تَقُولَ: تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ كُلِّ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ حُدُوثُهُ أَوْ نَقْصُهُ.
وَمَنْ قَالَ: " الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ " بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي -وَهُوَ مُرَادُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ-فَقَدْ أَخْطَأَ"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فالأول: كما قالوا في قوله: (عبدي جعت فلم تطعمني
…
) الحديث، وفي الأثر الآخر:(الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه)، وقوله:(قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن). فقالوا: قد عُلم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق.
فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق.
أما الحديث الواحد فقوله: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال:(يمين الله في الأرض)، وقال: (فمن قبَّله وصافحه
(1)
مجموع الفتاوى: 3/ 555 - 556.
فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه) ومعلوم أن المشبّه غير المشبَّه به، ففي نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحًا لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفرًا، وأنه محتاج إلى التأويل! مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس.
الشرح
شرع المصنف هنا في مناقشة بعض ما أورده المعطلة من اعتراضات على بعض النصوص الشرعية والتي زعموا أن ظاهرها يوجب التشبيه، وأنه يلزم تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وذكر هنا ثلاثة أمثلة على غلط المتكلمين، وجعلهم المعنى الفاسد هو ظاهر النص وأنه يحتاج إلى تأويل، وقد استعمل المصنف هنا ضابط النظر إلى سياق الكلام الذي سبق ذكره ضمن الضوابط الأربعة للتعامل مع ظواهر النصوص:
والمثال الأول: حديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه)
(1)
وشبهة هؤلاء: أن ظاهر الحديث أن الحجر هو يمين الله ويده، وهذا محال، فهو يدل على أن ظواهر النصوص محالة وغير مرادة.
والجواب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: من حيث السند فيقال إن الحديث مرفوعًا ضعيف كما قال عنه المحقوقون.
(1)
منكر مرفوعاً. رواه ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/ 557) من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي وقال عنه: (هو في عداد من يضع الحديث)، ورواه الخطيب الغدادي في ((تاريخ بغداد)) (6/ 326) وقال: منكر، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 305): باطل، وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (944) من حديث جابر، وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (223) منكر.
قال الخطيب البغدادي: "منكر"
(1)
.
وقال ابن الجوزي: "لا يصح"
(2)
.
وقال ابن العربي: "هذا حديث باطل فلا يلتفت إليه"
(3)
.
قال ابن تيمية: "روى عن النبي بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس"
(4)
وروي موقوفًا عن ابن عباس، ورواه موقوفًا ابن قتيبة
(5)
وقال العجلوني: "ورواه القضاعي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه، لكنه صحيح بلفظ (الركن يمين الله عز وجل يصافح بها خلقه والذي نفس ابن عباس بيده ما من مسلم يسأل الله عنده شيئا إلا أعطاه إياه ومثله".
(6)
وصحح وقفه على ابن عباس: شيخ الإسلام ابن تيمية
(7)
، والحافظ ابن حجر
(8)
.
الوجه الثاني: الكلام على المتن.
على القول بصحته موقوفًا فإن النص يدل على أن الحجر ليس يمين الله حقيقة والتي هي صفته القائمة به، وذلك من خلال النص الوارد وذلك من جانبين:
(1)
((تاريخ بغداد)) (6/ 326)
(2)
الواهيات: 2/ 84.
(3)
((عارضة الأحوذي)) (2/ 305).
(4)
مجموع الفتاوى 6/ 397، وقال في ((تلبيس الجهمية)) (6/ 137) ليس بثابت.
(5)
غريب الحديث: 3/ 96.، ولكن في سنده إبراهيم الخوزي وهو متروك كما قاله الألباني في الضعيفة: (1/ 391).
(6)
كشف الخفاء: (1/ 348).
(7)
((شرح العمدة)) (2/ 435)
(8)
((المطالب العالية)) (2/ 36).
الجانب الأول: كما قال المصنف: "لأنه قال: (يمين الله في الأرض) " فهذا كما قال المصنف: "صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره، فإنه قال: يمين الله في الأرض، فقيده بقوله: في الأرض، ولم يطلق، فيقول: يمين الله، وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق"
(1)
.
ويوضح ذلك أن الإضافة إلى الله نوعان:
النوع الأول: إضافة مُلْك وتشريف وضابطها: كل ما يضاف إلى الله ويكون عيناً قائمة بنفسها، أو حالاً في ذلك القائم بنفسه.
ومثال ما يضاف ويكون عيناً قائمة بنفسها قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}
(2)
ومثال ما يكون حالاً في ذلك القائم بنفسه قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}
(3)
فهذا لا يكون صفة لأن الصفة قائمة بالموصوف
النوع الثاني: إضافة الصفة إلى الله وضابطها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به
(4)
.
فالله لا يتصف إلا بما قام به لا بما يخلقه في غيره، وهذا حقيقة الصفة، فإن كل موصوف لا يوصف إلا بما قام به لا بما هو مباين له، صفة لغيره
(5)
الجانب الثاني: قول المصنف: "وقال: (فمن قبَّله وصافحه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه) ومعلوم أن المشبّه غير المشبَّه به، ففي نص الحديث بيان أن مستلمه
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 397
(2)
- الآية 13 من سورة الشمس
(3)
- الآية 29 من سورة الحجر
(4)
- مجموع الفتاوى 17/ 152
(5)
- مجموع الفتاوى 6/ 318.
ليس مصافحًا لله، وأنه ليس هو نفس يمينه".
والمعنى واضح في قوله "فكأنما" أي ليس المراد أن الحجر الأسود هو صفة لله تعالى أو يد له عز وجل، بل من قبله فله من الأجر مثل الذي يقبل يد الله تعالى وهذا المفهوم لا يحتاج معه إلى التأويل إذ لا محذور فيه فهو افتراض المقصود به حصول الأجر العظيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثم قال: (فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه). ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلا، ولكن شبه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل، ولكن يبين أن الله تعالى كما جعل للناس بيتًا يطوفون به، جعل لهم ما يستلمونه؛ ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء، فإن ذلك تقريب للمقبل وتكريم له، كما جرت العادة، والله ورسوله لا يتكلمون بما فيه إضلال الناس، بل لابد من أن يبين لهم ما يتقون، فقد بين لهم في الحديث ما ينفى من التمثيل"
(1)
.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: وليس هو يمين الله، ولكن المقصود مشبه، يعني: من صافحه فكأنما صافح الله، ويمين الله صفة ذات له عز وجل، وهو سبحانه فوق العرش، ولكن من صافح هذا الحجر كأنما صافح الله، يعني: في حصول الفضل والتقرب إلى الله والأجر؛ ولهذا قال: (فكأنما صافح)، ما قال: فقد صافح الله.
(2)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الحديث الآخر: فهو في الصحيح مفسَّرًا:
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 397.
(2)
فتاوى نور على الدرب الحكم على حديث: (إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض
…
)
(يقول الله: عبدي جعت فلم تطعمنى. فيقول: ربِّ كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟!. فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي مرضت فلم تعدني. فيقول: ربِّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟!. فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)
(1)
. وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده، فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسِّرًا ذلك بأنك (لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده). فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل.
الشرح
فالشبهة: قول بعض المغالطين: إن ظتهر الحديث أن الله يمرض ويجوع، وهو محال يجب تأويله، وهذا دليل على أن ظواهر النصوص محالة وتحتاج إلى تأويل.
وهنا جملتان:
1 -
أن ظاهر الحديث أن الله يمرض ويجوع.
2 -
أنه محال غير مراد.
(2)
والجواب: أن الحديث صريح في أن الله لم يمرض ولم يجع، وإنما مرض عبده، وجاع عبده؛ فالحديث بمجموع سياقه يفسر بعضه، فسياق الحديث فسر المقصود عبارة عبارة فقوله:((يقول الله: عبدي جعت فلم تطعمنى)) جاء تفسيره في نص سياق الحديث بقوله: ((فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي
(3)
.
(1)
صحيح مسلم: 2569.
(2)
التوضيحات الأثرية ص: 152 - 153
(3)
ملاحظة: قوله: ((فلو عدته لوجدتني عبده)) هذه العندية تتضمن القرب والمعية الخاصة والرعاية ولا تتحقق إلا في عبادة العبد المومن دون الكافر والفاجر، وهذا مثل قوله:((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) (")، وقوله تعالى:(لا تحزن إن الله معنا).
ولم يقل في الإطعام (لوجدتني عنده) وإنما قال: (لوجدت ذلك عندي) أي الأجر والثواب مما يدل على أن الإطعام عام للمؤمن والكافر، أما المعية فخاصة للمؤمن المريض. انظر: التوضيحات الأثرية ص: 152 - 153
وقوله: ((عبدي مرضت فلم تعدني)). جاء تفسيره في نص سياق الحديث بقوله: ((أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)).
فالتفسير جاء من الحديث نفسه من رب العالمين، لأن الحديث حديث قدسي الله هو الذي تكلم به سبحانه، فأجمل في أول الحديث، ثم فسر وأوضح فلم يبق شيء يحتاج إلى التأويل، كما قال المصنف:"فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود هنا أن قوله لو عدته لوجدتني عنده"
…
" ليس ظاهره أن ذات الله تكون موجودة في المكان الذي يكون ذلك فيه، بل يكون الله موجودًا عنده أي في نفسه، إذ هذه العندية أقرب إليه من تلك العندية، فإن الظرف المتصل بالإنسان أقرب إليه من الظرف المنفصل عنه، فحمل الكلام عليه أولى؛ وإذا كان الظرف هو نفسه فقوله:((وجدتني عنده)) كقوله: وجدتني في قلبه، ووجدتني في نفسه، ووجدتني حاضرًا في قلبه، ووجدتني ثابتًا في قلبه، ونحو ذلك من العبارات.
ومعلوم أن هذا الخطاب حق على ظاهره كما تقدم من ثبوت تعلقات الظرف بالمظروف وإن ذلك ليس بمنزلة قوله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {[النور 39]، بل باقتران ما أضيف إليه الظرف في الموضعين اقترن تعلقه بالمظروف كما لو قيل لبعض الصحابة وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أحد، وقال الآخر وجدت رسول الله عند المتبعين لسنته لاسيما وقد علم المخاطب أنه يمتنع أن يشاهد الموجود عند غيره،
فقد علم المخاطب بقوله ((لو عدته لوجدتني عنده)) وعلم موسى بن عمران أنهم لا يشهدون الله عيانًا في الدنيا فلا يظهر لهم من قوله لوجدتني عند عبدي المريض وعند المنكسرة قلوبهم من أجلي إلاَّ ما هو المناسب اللائق بهذا المضاف إليه دون المضاف إلى غيره"
(1)
.
وفي هذا تطبيق للضوابط التي يرجع إليها في تفسير ظاهر النص.
فالحديث سياقه صريح في أن الله لم يمرض ولم يجع، وإنما مرض عبده وجاع عبده، كما
في قوله: "أما علمت أن عبدي فلانًا جاع .. "، فالظاهر هو مجموع الحديث لا أحاد ألفاظه، ولا يجوز الحكم على أول الكلام دون بقيته كما في قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} [الماعون الآية: 4]، فيجب تفسيرها بما بعدها، كما قال أبو نواس (1) منتحلًا هذا المبدأ الفاسد:
"ما قال ربك ويل للأولى سكروا وإنما قال ويل للمصلين"
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما قوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)
(2)
، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه. ولا في قول القائل: هذا بين يدَيّ. ما يقتضي مباشرته ليديه. وإذا قيل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة الآية: 164]، لم يقتض أن يكون مماسًا للسماء والأرض. ونظائر هذا كثيرة.
(1)
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 6/ 265 - 269.
(2)
صحيح مسلم: 2654.
الشرح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا الحديث في الصحيح والكلام عليه من وجوه:
أحدها: أنه ليس ظاهر هذا الحديث أن أصابع الرب في صدور العباد إنما أخبر أن قلوبهم بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، لم يقل إن الأصابع في صدورهم ولا قال إن قلوبهم معلقة بالأصبع أو متصلة بها بل قال:((إنها بين أصبعين)) وكون أن الشيء بين شيئين ليس ظاهره أنه مماس لهما كما في قوله عن الجنة والنار (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ)[الأعراف الآية: 46]، وكما في قوله تعالى (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف الآية: 38].
الوجه الثاني: أنه لو فرض أنه أخبر عن شيء من الغيب بأنه في قلوب العباد لم يكن ما ذكر من الضرورة مانعة من ذلك، لأن الضرورة تمنع أن تكون الأشياء التي نشاهدها في قلوبنا، ونحن لا نشاهد كذلك، أما إذا أخبرنا بأن الملائكة تنزل على قلوبنا، أو الشياطين تنزل، أو أن على أفواهنا ملائكة تكتب كلامًا، ونحو ذلك من الأمور الغائبة التي ليست من جنس المشاهدات لنا، فإذا أخبرنا بوجودها لم نعلم بالضرورة انتفاء ذلك.
فقول القائل
(1)
: نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا أصبعان بينهما قلوبنا يقال له المعلوم بالضرورة أن الأصابع التي شهدناها مثل أصابع الآدميين ليست في صدورنا. أما لو أخْبِرنا أن أصابع الملائكة أو الجن في صدورنا لم نعلم انتفاء ذلك
(1)
القائل هنا هو الرازي، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه بيان تلبيس الجهمية فقال:"قال الرازي: السابع: قال صلى الله عليه وسلم: قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وهذا لابد فيه من التأويل لأنَّا نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا إصبعان بينهما قلوبنا".
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من مولود إلاّ يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها)) ثم قرأ أبو هريرة} وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {[آل عمران الآية: 36].
وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا استيقظ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خياشيمه)) متفق عليه
(1)
.
وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال: ((إن الشيطان يعقد على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد))
(2)
.
مع أنا لا نشهد هذا المس لجسم المولود، ولا هذا المبيت على الخياشيم، ولا العقد، ولا نحو ذلك؛ وظهر أن هذا الحديث لو كان ما ادعاه لم يكن ذلك معلوم الانتفاء بما ادعاه من الضرورة.
الوجه الثالث: إنَّ سنبين فساد ما ذكروه من التأويل في ذلك وإبطال السلف له"
(3)
.
وقال أيضًا:
"أحدها: أنه ليس هذا ظاهر هذا الحديث أن الله نزل من فوق العرش وانتقل إلى عند هؤلاء، ولا ظاهره أن جميع الوجود خال عن الله إلا هذا الظرف الخاص، ولا يفهم من إطلاق هذا الحديث هذا المعنى؛ بل هذا المعنى المعلوم فساده بالضرورة والحس، يَعْلَمُ أنه ليس ظاهر الحديث كل من يعلم هذا"
(4)
(1)
أخرجه البخاري برقم: (161)، وأخرجه مسلم برقم:(241) والفظ له.
(2)
أخرجه البخاري برقم: (1142)، وأخرجه مسلم برقم:(776).
(3)
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 6/ 244 - 248.
(4)
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 6/ 255 - 266.
الفروق بين آيتي (ص)، (يس)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومما يشبه هذا القول أن يُجعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله، كما قيل في قوله {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص الآية: 75]، فقيل: هو مثل قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس. الآية: 71].
فهذا ليس مثل هذا، لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي فصار شبيهًا بقوله:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ، وهناك أضاف الفعل إليه، فقال:{لِمَا خَلَقْتُ} [ص الآية: 75 [ثم قال: {بِيَدَيَّ} .
وأيضا فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة الآية: 64]، وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14].
وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك الآية: 1 [و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران الآية: 26 [في المفرد.
فالله-سبحانه وتعالى-يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهرًا أو مضمرًا، وتارة بصيغة الجمع، كقوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح الآية: 1]. وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك.
فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقتْ يدِي. كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس. الآية: 71]، وهو نظير قوله:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك الآية: 1 [و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران الآية: 26]،
ولو قال: خلقتُ بيدِي. بصيغة الإفراد، لكان مفارقًا له، فكيف إذا قال:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص الآية: 75]، بصيغة التثنية.
الشرح
ذكر المصنف هنا شبهة من شبه المعطلة التي يريدون من ورائها صرف النص عن ظاهره وهو محاولتهم التسوية بين المختلفين وضرب مثالًا لذلك "ومما يشبه هذا القول أن يُجعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله، كما قيل في قوله {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص. الآية: 75]، فقيل: هو مثل قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس. الآية: 71].
ومقصود المخالف من إيراد هذه الشبهة نفي صفة اليدين عن الله عز وجل من خلال التسوية بين خلق آدم وخلق الأنعام، باعتبار أن لفظ اليد ورد في النصيين، وهذا يدل على-حد زعمه-على أن الإضافة في الآيتين مجاز.
وهذه الشبهة من تأسيسات بشر المريسي
(1)
وتابعها عليه شيوخ المعتزلة
(2)
والأشاعرة
(3)
.
وقد بين المصنف غلط هؤلاء وبين أن المشابهة منتفية فقال: "فهذا ليس مثل هذا" وبين أن الفرق من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: في قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس. الآية: 71]. أضاف الفعل إلى الأيدي فهي مثل قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} ؛ وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص الآية: 75 [أضاف الفعل إلى نفسه.
(1)
انظر نقض عثمان بن سعيد على المريسي العنيد: 1/ 230.
(2)
متشابه القرآن لعبد الجبار المعتزلي ص: 231
(3)
أساس التقديس للرازي ص: 165.
الوجه الثاني: في قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص الآية: 75]، عدى الفعل بالباء إلى اليدين، فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيديه، كقولنا: كتبت بالقلم، فالكاتب هو الفاعل والقلم هو الذي حصلت به الكتابة، ولم يقل:"لما خلقت يدي"، ولو قال ذلك لكان كقوله:{عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس. الآية: 71]. "
الوجه الثالث: في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص الآية: 75]، ذكر نفسه بصيغة المفرد في ياء المتكلم، وفي قوله:{عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس. الآية: 71 [ذكر نفسه بالجمع في ضمير المتكلم المفرد المعظم نفسه (نا).
الوجه الرابع: في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص الآية: 75]، ذكر اليدين بصيغة التثنية، وهذا صريح في إرادة الحقيقة فإن الله يذكر ذاته بالإفراد تارة، وبالجمع أخرى للتعظيم كقوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح الآية: 1]، ونحوها، ولا يذكر ذاته بالتثنية المضافة إلى الضمير ألبتة لأن التثنية لا تستخدم إلا في حقيقة العدد كقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة الآية: 64].
قال الإمام الدارمي: "فلما قال الله عز وجل: {خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص الآية: 75]، استحال فيهما كل معنى إلا اليدين كما قال العلماء الذين نقلنا عنهم"
(1)
.
وأما قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس. الآية: 71 [فذكر اليد بصيغة الجمع وكذلك نفسه بصيغة الجمع فأصبح نظير قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14 [والجمع مثل الإفراد لا يدلان على العدد، وإن دلا على أصل الصفة كقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك الآية: 1 [و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران الآية: 26].
ولو قال: "خلقت يدي" بالإضافة إلى المفرد لكان مفارقًا لقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس. الآية: 71 [لوجود الباء الدالة على مباشرة الخلق باليدين، فكيف وقد ذكرها بصيغة
(1)
نقض عثمان بن سعيد على المريسي العنيد: 1/ 291.
التثنية الدالة على حقيقة العدد كما سبق"
(1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمتأولون لِلصِّفَاتِ الَّذِينَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ تَأَوَّلُوا:
قَوْلَهُ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64].
وَقَوْلَهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص الآية: 75].
عَلَى هَذَا كُلِّهِ فَقَالُوا:
إنَّ الْمُرَادَ نِعْمَتُهُ أَيْ: نِعْمَةُ الدُّنْيَا وَنِعْمَةُ الْآخِرَةِ.
وَقَالُوا: بِقُدْرَتِهِ
(2)
.
وَقَالُوا: اللَّفْظُ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِ الْجُودِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ يَدٌ حَقِيقَةً؛ بَلْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ صَارَتْ حَقِيقَةً فِي الْعَطَاءِ وَالْجُودِ.
وَقَوْلُهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص الآية: 75]، أَيْ: خَلَقْته أَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ.
قُلْت لَهُ فَهَذِهِ تَأْوِيلَاتُهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْت لَهُ: فَنَنْظُرُ فِيمَا قَدَّمْنَا:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ " الْيَدَيْنِ " بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي النِّعْمَةِ وَلَا فِي الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ لُغَةِ الْقَوْمِ:
اسْتِعْمَالَ الْوَاحِدِ فِي الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر الآية: 2].
وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ} [آل عمران الآية: 173].
وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم الآية: 4].
أَمَّا اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْوَاحِدِ فِي الِاثْنَيْنِ أَوْ الِاثْنَيْنِ فِي الْوَاحِدِ فَلَا أَصْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَدَدٌ وَهِيَ نُصُوصٌ فِي مَعْنَاهَا لَا يُتَجَوَّزُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدِي رَجُلٌ وَيَعْنِي رَجُلَيْنِ وَلَا عِنْدِي رَجُلَانِ وَيَعْنِي بِهِ الْجِنْسَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ فِيهِ شِيَاعٌ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَمْعِ فِيهِ مَعْنَى الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ يَحْصُلُ بِحُصُولِ الْوَاحِدِ.
فَقَوْلُهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص الآية: 75]، لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالِاثْنَيْنِ عَنْ الْوَاحِدِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النِّعْمَةُ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ لَا تُحْصَى؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ النِّعَمِ
(1)
انظر: التوضيحات الأثرية على متن التدمرية: ص: 213 - 215.
(2)
وقال ابن حجر رحمه الله: "لو كانت اليد بمعنى القدرة، لم يكن بين آدم وإبليس فرقٌ لتشاركهما فيما خلق كل منهما به وهي قدرته، ولقال إبليس: وأي فضيلة له علي وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقته بقدرتك، فلما قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، دلَّ على اختصاص آدم بأن الله خلقه بيديه، ولا جائز أن يراد باليدين النعمتان؛ لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق؛ لأن النعم مخلوقة" انظر: ((فتح الباري)) (13/ 294).
الَّتِي لَا تُحْصَى بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "لِمَا خَلَقْتُ أَنَا" لِأَنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا ذَلِكَ أَضَافُوا الْفِعْلَ إلَى الْيَدِ فَتَكُونُ إضَافَتُهُ إلَى الْيَدِ إضَافَةً لَهُ إلَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} الحج الآية: 10]. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال الآية: 51]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس. الآية: 71].
أَمَّا إذَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْفَاعِلِ وَعَدَّى الْفِعْلَ إلَى الْيَدِ بِحَرْفِ الْبَاءِ كَقَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص الآية: 75]، فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ فَعَلَ الْفِعْلَ بِيَدَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَنْ تَكَلَّمَ أَوْ مَشَى: أَنْ يُقَالَ فَعَلْت هَذَا بِيَدَيْك وَيُقَالُ: هَذَا فَعَلَتْهُ يَدَاك لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ: فَعَلْت كَافٍ فِي الْإِضَافَةِ إلَى الْفَاعِلِ فَلَوْ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِالْيَدِ حَقِيقَةً كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً مَحْضَةً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَلَسْت تَجِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا الْعَجَمِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ فَصِيحًا يَقُولُ: فَعَلْت هَذَا بِيَدَيَّ أَوْ فُلَانٌ فَعَلَ هَذَا بِيَدَيْهِ إلَّا وَيَكُونُ فَعَلَهُ بِيَدَيْهِ حَقِيقَةً.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَدَ لَهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ وَالْفِعْلُ وَقَعَ بِغَيْرِهَا.
وَبِهَذَا الْفَرْقِ الْمُحَقَّقِ تَتَبَيَّنُ مَوَاضِعُ الْمَجَازِ وَمَوَاضِعُ الْحَقِيقَةِ؛ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْآيَاتِ لَا تَقْبَلُ الْمَجَازَ أَلْبَتَّةَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ اللُّغَةِ. قَالَ لِي: فَقَدْ "أَوْقَعُوا الِاثْنَيْنِ مَوْقِعَ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وَإِنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ.
قُلْت لَهُ: هَذَا مَمْنُوعٌ؛ بَلْ قَوْلُهُ: {أَلْقِيَا} قَدْ قِيلَ تَثْنِيَةُ الْفَاعِلِ لِتَثْنِيَةِ الْفِعْلِ وَالْمَعْنَى أَلْقِ أَلْقِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مَعَهُ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَيَقُولُ: خَلِيلَيَّ خَلِيلَيَّ ثُمَّ إنَّهُ يُوقِعُ هَذَا الْخِطَابَ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ مَوْجُودَيْنِ؛ فَقَوْلُهُ: {أَلْقِيَا} عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِاثْنَيْنِ يُقَدَّرُ
وُجُودُهُمَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِالْيَدِ حَقِيقَةَ الْيَدِ وَأَنْ يَعْنِيَ بِهَا الْقُدْرَةَ أَوْ النِّعْمَةَ
أَوْ يَجْعَلَ ذِكْرَهَا كِنَايَةً عَنْ الْفِعْلِ؛ لَكِنْ مَا الْمُوجِبُ لِصَرْفِهَا عَنْ الْحَقِيقَةِ؟
فَإِنْ قُلْت: لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْجَارِحَةُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
قُلْت لَك: هَذَا وَنَحْوُهُ يُوجِبُ امْتِنَاعَ وَصْفِهِ بِأَنَّ لَهُ يَدًا مِنْ جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ؛ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ " يَدٌ " تُنَاسِبُ ذَاتَهُ تَسْتَحِقُّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا تَسْتَحِقُّ الذَّاتُ؟
قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَا يُحِيلُ هَذَا؛
" قُلْت " فَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ فَلِمَ يُصْرَفُ عَنْهُ اللَّفْظُ إلَى مَجَازِهِ؟ وَكُلُّ مَا يَذْكُرُهُ الْخَصْمُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وَصْفِهِ بِمَا يُسَمَّى بِهِ -وَصَحَّتْ الدَّلَالَةُ-سُلِّمَ لَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَخْلُوقُ مُنْتَفٍ عَنْهُ وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُهُ " يَدٌ " يَسْتَحِقُّهَا الْخَالِقُ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بَلْ كَالذَّاتِ وَالْوُجُودِ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: قُلْت لَهُ: بَلَغَك أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ:
أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْيَدِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ أَوْ الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ أَوْ هَلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ وَصْفِهِ بِالْيَدِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً؛ بَلْ أَوْ دَلَالَةً خَفِيَّةً؟ فَإِنَّ أَقْصَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّفُ
قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 1].
وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11].
وَقَوْلُهُ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَمَ الآية: 65].
وَهَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إنَّمَا يَدْلُلْنَ عَلَى انْتِفَاءِ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ. أَمَّا انْتِفَاءُ يَدٍ تَلِيقُ بِجَلَالِهِ فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَكَذَلِكَ هَلْ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ لَا " يَدَ " لَهُ أَلْبَتَّةَ؟ لَا " يَدًا " تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَلَا " يَدًا " تُنَاسِبُ الْمُحْدَثَاتِ وَهَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا؛ وَلَوْ بِوَجْهِ
خَفِيٍّ؟ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَنْفِي حَقِيقَةَ الْيَدِ أَلْبَتَّةَ؛ وَإِنْ فُرِضَ مَا يُنَافِيهَا فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْوُجُوهِ الْخَفِيَّةِ-عِنْدَ مَنْ يَدَّعِيهِ-وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ شُبْهَةٌ فَاسِدَةٌ.
فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَأَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذِكْرِ الْيَدِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ بِيَدِهِ وَأَنَّ {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وَأَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِهِ وَفِي الْحَدِيثِ مَا لَا يُحْصَى ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُولِي الْأَمْرِ: لَا يُبَيِّنُونَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَلَا ظَاهِرُهُ حَتَّى يَنْشَأَ " جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ " بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَيَتْبَعَهُ عَلَيْهِ " بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ " وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ كُلِّ مَغْمُوصٍ عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى " الْخِرَاءَةَ " وَيَقُولَ: {مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا مِنْ "شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ} {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ} ثُمَّ يَتْرُكَ الْكِتَاب الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ وَسُنَّتَهُ الْغَرَّاءَ مَمْلُوءَةً مِمَّا يَزْعُمُ الْخَصْمُ أَنَّ ظَاهِرَهُ تَشْبِيهٌ وَتَجْسِيمٌ وَأَنَّ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ ضَلَالٌ وَهُوَ لَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَلَا يُوَضِّحُهُ وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلسَّلَفِ أَنْ يَقُولُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ مَعَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْمَجَازِيَّ هُوَ الْمُرَادُ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ حَتَّى يَكُونَ أَبْنَاءُ الْفُرْسِ وَالرُّومِ أَعْلَمُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟
(الْمَقَامُ الرَّابِعُ): قُلْت لَهُ: أَنَا أَذْكُرُ لَك مِنْ الْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ وَالظَّاهِرَةِ مَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ لِلَّهِ " يَدَيْنِ " حَقِيقَةً. فَمِنْ ذَلِكَ:
تَفْضِيلُهُ لِآدَمَ: يَسْتَوْجِبُ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَامْتِنَاعَهُمْ عَنْ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ؛ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ أَوْ مُجَرَّدِ إضَافَةِ خَلْقِهِ إلَيْهِ لَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ
إبْلِيسُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ.
قَالَ لِي: فَقَدْ يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَقَوْلِهِ: {نَاقَةُ اللَّهِ} وَبَيْتُ اللَّهِ.
قُلْت لَهُ: لَا تَكُونُ الْإِضَافَةُ "تَشْرِيفًا حَتَّى يَكُونَ فِي الْمُضَافِ مَعْنًى أَفْرَدَهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّاقَةِ وَالْبَيْتِ مِنْ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا تَمْتَازُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ النُّوقِ وَالْبُيُوتِ لَمَا اسْتَحَقَّا هَذِهِ الْإِضَافَةَ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ فَإِضَافَةُ خَلْقِ آدَمَ إلَيْهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ بِيَدَيْهِ وَخَلَقَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك الآية: 1 [أَوْ عَمِلَتْهُ يَدَاك فَهُمَا شَيْئَانِ:
(أَحَدُهُمَا) إثْبَاتُ الْيَدِ.
وَ (الثَّانِي) إضَافَةُ الْمُلْكِ وَالْعَمَلِ إلَيْهَا.
وَالثَّانِي يَقَعُ فِيهِ التَّجَوُّزُ كَثِيرًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا الْكَلَامَ إلَّا لِجِنْسِ لَهُ " يَدٌ " حَقِيقَةً وَلَا يَقُولُونَ: " يَدُ " الْهَوَى وَلَا " يَدُ " الْمَاءِ فَهَبْ أَنَّ قَوْلَهُ: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ] {الملك الآية: 1 [قَدْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقُدْرَتِهِ لَكِنْ لَا يُتَجَوَّزُ بِذَلِكَ إلَّا لِمَنْ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص الآية: 75]، وَقَوْلِهِ:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس. الآية: 71 [مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ وَهُنَاكَ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْأَيْدِي.
(الثَّانِي): أَنَّ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَضَعُونَ اسْمَ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ إذَا أُمِنَ اللَّبْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة الآية: 38 [أَيْ: يَدَيْهِمَا وَقَوْلِهِ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم الآية: 4 [أَيْ: قَلْبَاكُمَا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس. الآية: 71 ["
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 354 - 373).
المتن
قال المصنف رحمه الله: "هذا مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا). وأمثال ذلك".
الشرح
ذكر المصنف دلالة القرآن والسنة والإجماع على إثبات صفة اليد:
أولًا: الأدلة من القرآن:
قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
وَقَالَ تَعَالَى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا "خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
وَقَالَ {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71].
ثانيًا: الأدلة من السنة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وَقَدْ تَوَاتَرَ فِي السُّنَّةِ مَجِيءُ " الْيَدِ " فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى يَدَيْنِ مُخْتَصَّتَيْنِ بِهِ ذَاتِيَّتَيْنِ لَهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ؛ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ وَإِبْلِيسَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبِضُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَأَنَّ {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وَمَعْنَى بَسْطِهِمَا بَذْلُ الْجُودِ وَسَعَةُ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالْجُودَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِبَسْطِ الْيَدِ وَمَدِّهَا؛ وَتَرْكُهُ يَكُونُ ضَمًّا لِلْيَدِ إلَى الْعُنُقِ صَارَ مِنْ الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ إذَا قِيلَ هُوَ مَبْسُوطُ الْيَدِ فُهِمَ مِنْهُ يَدٌ حَقِيقَةً وَكَانَ ظَاهِرُهُ الْجُودَ وَالْبُخْلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ جَعْدُ الْبَنَانِ وَسَبْطُ الْبَنَانِ"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَأَمَّا السُّنَّةُ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا مِثْلُ:
1.
قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ((الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
2.
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ((يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) متفق عليه
(3)
.
3.
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يتكفؤها الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ خُبْزَتَهُ
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 363).
(2)
صحيح مسلم: 1827.
(3)
رواه البخاري (4684)، ومسلم (993)، والترمذي (3045).
فِي السَّفَرِ))
(1)
.
4.
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَحْكِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((يَأْخُذُ الرَّبُّ عز وجل سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدَيْهِ -وَجَعَلَ يَقْبِضُ يَدَيْهِ وَيَبْسُطُهُمَا - وَيَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّك أَسْفَلَ مِنْهُ حَتَّى إنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟)) - ((وَفِي رِوَايَةٍ-أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قَالَ: يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ أَنَا الْجَبَّارُ)) وَذَكَرَهُ
(2)
.
5.
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟))
(3)
وَمَا يُوَافِقُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْحَبْرِ.
6.
وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ ((إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْت قَالَ: اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَة ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمَ وَذُرِّيَّتُهُ))
(4)
.
7.
وَفِي الصَّحِيحِ ((أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي))
(5)
.
(1)
رواه البخاري (6520)، ومسلم (2792).
(2)
رواه البخاري (7451)، ومسلم (2786).
(3)
رواه البخاري (4812) واللفظ له، ومسلم (2787).
(4)
أخرجه الترمذي (3368) واللفظ له، والبزار (8478)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 160).
(5)
أخرجه البخاري (7404)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7751)، وابن ماجه (4295)، وأحمد (8958) باختلاف يسير، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 19) واللفظ له.
8.
وَفِي الصَّحِيحِ: وحَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((احتجَّ آدمُ وموسى، فقال موسى: يا آدمُ، أنتَ أبونا، خيَّبْتَنا وأخرجْتَنا منَ الجنَّةِ، فقالَ لَهُ آدمُ: أنتَ موسَى، اصطفاكَ اللهُ بِكَلامِهِ، وخطَّ لَكَ بيدِه
(1)
.
9.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ ((قَالَ سُبْحَانَهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي؛ لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ: كُنْ فَكَانَ))
(2)
.
10.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي السُّنَنِ: ((لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَمَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ فَقَالَ: خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَقَالَ: خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ))
(3)
. "
(4)
.
ثالثا: إجماع السلف
(5)
:
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمَّته
…
، وأن له يدين بقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وأن له يمينًا بقوله:{وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر الآية 67]. "
(6)
.
1 -
قال الإمام أبو الحسن الأشعري: "أجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى وأن له تعالى يدين مبسوطتين وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات
(1)
رواه مسلم (2652).
(2)
أخرجه الطبراني (13/ 658)(14584)، وفي ((المعجم الأوسط)) (6173).
(3)
رواه أبو داود (4703)، والترمذي (3075)، ومالك (2/ 898). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلاً مجهولاً. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 97) - كما أشار لذلك في مقدمته - وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(4)
مجموع الفتاوى (6/ 354 - 373).
(5)
المصدر: التوضيحات الأثرية لمتن التدمرية: ص 216 - 217
(6)
((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 282).
بيمينه من غير أن يكون جوازا
…
"
(1)
أي من غير أن يكون ذلك مجازا.
2 -
وقال الإمام أبو حنيفة: "له يد ووجه ونفس كما ذكر الله تعالى في القرآن ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال: إن بده قدرته لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال"
(2)
.
3 -
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "باب ذكر إثبات اليد للخالق الباري جل وعلا والبيان أن الله تعالى له يدان كما أعلمنا في محكم تنزيله .. وذكر الأدلة"
(3)
4 -
وقال الإمام الإسماعيلي: "وخلق آدم بيده ويدان مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد كيف يداه إذ لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف". ذكره في نقله الاعتقاد أئمة أهل الحديث
(4)
5 -
وقال قوام السنة الأصبهاني: "فصل في إثبات اليدين الله تعالى صفة له"
(5)
.
6 -
قال ابن قتيبة: "فنحن نقول كما قال الله تعالى وكما قال رسوله ولا نتجاهل ولا يحملنا ما نحن فيه من نفي التشبيه على أن ننكر ما وصف به نفسه ولكنا لا نقول كيف اليدان وإن سئلنا نقتصر على جملة ما قال ونمسك عما لم يقل"
(6)
.
7 -
قال الإمام الآجري: "يقال للجهمي الذي ينكر أن الله عزوجل خلق آدم بيده: كفرت بالقرآن ورددت السنة وخالفت الأمة "
(7)
.
(1)
رسالة إلى أهل الثغر: ص 99.
(2)
الفقه الأكبر شرح القاري: ص 117، الفقه الأبسط: ص 56، شرح الفقه الأكبر: ص 71، الرد على الجهمية لابن منده: ص 22.
(3)
كتاب التوحيد: (1/ 118).
(4)
اعتقاد الإسماعيلي: ص 51.
(5)
الحجة في بيان المحجة: (1/ 180).
(6)
الاختلاف في اللفظ: ص 8.
(7)
الشريعة ص 323.
8 -
وقال الإمام السجزي: "وأهل السنة متفقون على أن الله سبحانه بدين، بذلك ورد النص في الكتاب والأثر .. "
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ لله تعالى يدين مختصتين به، ذاتيتين له، كما يليق بجلاله"
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: "وَرَدَ لفظ اليد في القرآن، والسنة، وكلام الصحابة والتابعين، في أكثر من مائة موضع ورودًا متنوِّعًا، متصرفًا فيه، مقرونًا بما يدل على أنها يدٌ حقيقية، من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط، والمصافحة، والحثيات، والنضح باليد، والخلق باليدين، والمباشرة بهما، وكتب التوراة بيده، وغَرس جنة عدن بيده، وتخمير طينة آدم بيده، ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: ((اخترتُ يمينَ ربي))، وأخذ الصدقة بيمينه يربِّيها لصاحبها، وكتابته بيده على نفسه أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مَسَحَ ظهرَ آدم بيده، ثم قال له - ويداه مقبوضتان -: "اختر"، فقال: ((اخترتُ يمين ربي))، وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى، لا يغيضها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط، يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهنَّ بيده اليُمْنَى، ثم يطوي الأرض باليد الأخرى، وأنه خَطَّ الألواحَ التي كتبها لموسى بيده"
(3)
.
(1)
رسالة السجزي لأهل زبيد ص 173.
(2)
مجموع الفتاوى)) (6/ 263 (.
(3)
((مختصر الصواعق المرسلة))، ص (348).
النصوص المتفق على معناها بين أهل السنة والأشاعرة
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد - كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا.
وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير.
فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة الآية: 54]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة الآية: 119]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]: إنه على ظاهره. لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حبًّا كحبه، ولا رضًا كرضاه.
فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين، لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادًا، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به، لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا إلا بدليل يدل على النفي. وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحدا".
الشرح
وقول المصنف: "فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد - كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا".
أي أن إثبات أهل السنة والجماعة كان خاليًا من التشبيه فهم ينفون أن يكون في شيء من تلك الصفات أي تشبيه لصفات الخالق بصفات المخلوق، فهذا المعنى الفاسد لم يريدوه فضلًا عن أنهم قاموا بنفيه وتنزيه صفات الخالق عز وجل من أن تشبه بصفات خلقه كما تقدم ذكره عن بيان مذهب السلف في باب الصفات.
قوله: "وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع"
يشير المصنف هنا إلى قول أهل السنة والجماعة في نصوص الصفات، فهم يقولون: بأن النصوص المتعلقة بالصفات تجرى على ظاهرها في جميع ما ورد في تلك النصوص بالشروط التي تقدم ذكرها، وقولهم واحد في الجميع سواء في النصوص التي اتفقوا في إثباتها مع من أثبت بعض تلك الصفات كصفة العلم والقدرة والإرادة، أو مع نصوص الصفات التي نفاها بعض أولئك النفاة كصفة الاستواء والمحبة والرضا وغيرها من الصفات التي نفاها أولئك.
وقوله: "وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير.
فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة الآية: 54]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة الآية: 119]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]: إنه على ظاهره. لم يقتض
ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حبًّا كحبه، ولا رضًا كرضاه".
أي أن السلف مع نفيهم لتمثيل صفات الخالق بصفات المخلوق، لم يمنعهم هذا النفي للماثلة من إثبات تلك الصفات إثبات وجود على ما يليق بالخالق عز وجل دون تفريق بين نوع ونوع من الصفات.
وتنقسم الصفات الثُّبوتية من جهة تعلُّقِها بالله إلى قسمين
(1)
:
القسم الأول: الصفات الذَّاتية.
القسم الثاني: الصِّفات الفعلية.
وكِلا النوعين يجتمعان في أنَّهما صفات له تعالى أزلًا وأبدًا، لم يزل متصفًا بهما ماضيًا ومستقبلًا لائقان بجلال ربِّ العالمين
(2)
.
أمَّا القسم الأول: الصفات الذَّاتية وضابطها: هي التي لا تنفكُّ عن الذَّات
(3)
. أو: التي لم يَزل-ولا يزال-الله متصفًا بها. أو: الملازمة لذات الله تعالى
(4)
.
ومنها: (الوجه-اليدين-العينين
(5)
-الأصابع-القَدَم-العِلم-الحياة-القدرة-العزة-الحكمة).
وأعطى لها المصنف مثالًا هنا بصفات الحياة والعلم والقدرة فقال: اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة".
القسم الثاني: الصفات الفعلية، وضابطها: هي التي تنفكُّ عن الذَّات. أو: التي
(1)
انظر: «الكواشف الجلية» (ص 429).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية» (127).
(3)
«الكواشف الجلية» (429).
(4)
«التعريفات» للجرجاني (ص 133).
(5)
«مجموع الفتاوى» (6/ 68).
تتعلق بالمشيئة والقدرة
(1)
.
ومنها: (الاستواء-المجيء-الإتيان-النزول-الخلق-الرزق-الإحسان-العدل).
وأعطى المصنف مثالًا لهذا النوع بصفات المحبة والرضا والاستواء فقال: "فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة الآية: 54]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة الآية: 119]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ".
والفرق بين القسمين:
أنَّ الصفات الذاتية لا تنفكُّ عن الذات، أمَّا الصفات الفعلية يمكن أن تنفك عن الذات على معنى: أنَّ الله إذا شاء لم يفعلها.
ولكن مع ذلك فإنَّ كلا النوعين يجتمعان في أنَّهما صفات لله تعالى أزلًا وأبدًا لم يزل-ولا يزال-متصفًا بهما ماضيًا ومستقبلًا لائقان بجلال الله عز وجل
(2)
.
فقول أهل السنة في النوعين واحد وهو إثبات تلك الصفات بنوعيها حقيقة، وأنها مع ذلك لا تشابه صفات المخلوقين فالله حي حقيقة، عالم حقيقة قادر حقيقة وهذه صفات ذاتية، وهو كذلك متصف بصفات المحبة والرضا والاستواء حقيقة، ومع إثبات اتصاف الله بتلك الصفات فإنه منزه سبحانه في جميع ما اتصف به عن مشابهة المخلوقين، باعتبار أن لكل موصوف له فيما اتصف به حقيقة تختص به لا يماثله فيها أحد.
فهم يثبتون لله جميع صفاته، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سيئتين،
وهدًى بين ضلالتين.
"فقد هدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة المثلى فأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، وتفوا عنه مماثلة المخلوقات، فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين وهديا بين ضلالتين.
فقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف.
بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل.
ولا نقول: ليس له يدان، ولا وجه، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، ولا قدرة، ولا استوى على عرشه.
ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوقين، ووجه كوجوههم وسمع وبصر وحياة وقدرة واستواء، كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم.
بل نقول: له ذات حقيقة ليست كذوات المخلوقين.
وله صفات حقيقة ليست كصفات المخلوقين.
وكذلك قولنا: في وجهه تبارك وتعالى، ويديه، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستوائه.
ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك، الصفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك من أثبت لله شيئا من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها، فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما، فهكذا سائر الصفات المقدسة، يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله
سبحانه لم يكلف العباد ذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلا"
(1)
.
وقول المصنف: "فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين، لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادًا"
يشير المصنف هنا إلى قول كل من المشبهة والمعطلة الذين اعتقدوا أن ظاهر النصوص يدل على التشبيه باعتبار أن كلا الفريقين قال بالتشبيه.
أما المعطلة: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات. فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم.
وبذلك جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولاً، وعطلوا آخرًا.
وامتاز أهل التعطيل عن أهل التمثيل بنفيهم المعاني الصحيحة للصفات.
أما تمثيل أهل التمثيل: فإنهم يقولون: إن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا كان مستويًا على العرش فهو كاستواء الإنسان على السرير، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فامتاز هؤلاء الممثلة بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين، كما امتاز المعطلة بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي.
والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها.
وقوله: "وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به، لم يكن له
(1)
الصواعق المرسلة 2/ 425 - 427
نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادًا إلا بدليل يدل على النفي".
أي إذا كان النافي لبعض الصفات كمن نفى جميع الصفات ما عدا سبع صفات، أو كمن نفى الصفات الاختيارية، يعتقد في البعض الآخر "أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به" كمن أثبت الصفات السبع، أو الصفات الذاتية.
فإن هذا التحكم لا دليل عليه لأن الكلام في نصوص الصفات يجب أن يسير على مسار واحد، فهذا النافي لكون نصوص الصفات على ظاهرها "لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادًا إلا بدليل يدل على النفي"
وقوله: "وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحدا"
أعاد المصنف ذكر قاعدة (القول في بعض الصفات كالقول في البعض)، فهؤلاء النفاة ليس لهم دليل لا من السمع ولا من العقل على دعواهم بالتفريق بين بعض الصفات والبعض الآخر، فالكلام في الجميع واحد فما يرد على هذا يرد على هذا.
والمصنف هنا يخاطب بالتحديد الصفاتية وبالأخص منهم الأشاعرة الذين اضطرب قولهم في باب الصفات، ولم يستقر لهم قول فيه، بل إن بعضهم يقر بما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وينص الرازي والأمدي على أنه ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية-موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:
أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.
والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية" وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس
بسائغ ولا واجب.
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات.
ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي".
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وبيان هذا، أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا، كالوجه واليد؛ ومنها ما هي معان وأعراض، وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا؛ فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه.
فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه، كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)، فشبَّه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي".
الشرح
قوله: "وبيان هذا، أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا،
(1)
- درء تعارض العقل والنقل 5/ 249.
كالوجه واليد؛ ومنها ما هي معان وأعراض، وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة".
بين المصنف-رحمه الله-أن صفات الخلق يمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: الأعيان، والمقصود بها الصفات الذاتية التي لا تنفك عن ذات الإنسان؛ وأعطى مثالًا لها: بالوجه، واليد.
والقسم الثاني: الصفات المعنوية، القائمة وهذه يمكن أن تنفك عن الذات، وأعطى مثالًا لها بالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
وقوله: "ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا".
وكما قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: ((
…
ما غاب عن العيون فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله تعالى إلا ما وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم)
(1)
.
فاذا جاءت النصوص بإثبات الصفات، فالله "وصف نفسه بأنه حي عليم قدير" فهذه الصفات وأمثالها "لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا".
فالسلف الصالح أثبتوا تلك الصفات على الحقيقة بما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، ولم يمنعهم اتصاف المخلوقين ببعض تلك الصفات، وذلك على اعتبار أن لكل من الخالق والمخلوق له ما يختص به من الصفات.
وقوله: "فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف
(1)
التمهيد (7/ 145).
تناسبه.
فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه، كنسبة صفة الخالق إليه"
فالأسماء التي تُطلق على الله وعلى العباد هي من الألفاظ المتواطئة التواطؤ المشُكك؛ فالحق فيها هو أن يقال: إنه بالنسبة للأسماء والصفات التي تُطلق على الله وعلى العباد؛ كـ (الحي، والسميع، والبصير، والعليم، والقدير، والحياة، والسمع، والبصر، والعلم) ونحوها هي حقيقة في الرب وحقيقة في العبد.
ولكن للرب تعالى منها ما يليق بجلاله.
وللعبد منها ما يَليق به.
وذلك لأن «الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول: اعتبار مِنْ حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد.
الاعتبار الثاني: اعتباره مضافًا إلى الربِّ مختصًّا به.
الاعتبار الثالث: اعتباره مضافًا إلى العبد مقيدًا به.
فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتًا للرب والعبد، وللرب منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به.
وهذا كاسم (السميع) الذي يلزمه إدراك المَسموعات.
و (البصير) الذي يلزمه رؤية المُبصرات.
و (العليم) و (القدير) وسائر الأسماء.
فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه
الأسماء لذاتها؛ فإثباتها للرب تعالى لا محذور فيه بوجهٍ، بل يثبت له على وجهٍ لايماثله فيه خَلْقُه ولا يُشابههم.
فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق أَلْحَدَ في أسمائه وجَحَد صفات كماله، ومَن أثبته على وجهٍ لا يُماثل فيه خلقه به-كما يليق بجلاله وعظمته-فقد بَرِئ من فرث التَّشبيه ودم التعطيل، وهذا طريقُ أهل السنة.
وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيُه عن الله كما يلزم حياة العبد من النَّوم والسِّنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك، وكذلك ما يَلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به، وكذلك ما يلزم عُلوَّه من احتياجه إلى ما هو عال عليه وكونه محمولاً به، مفتقرًا إليه، محاطًا به، كل هذا يجب نفيه عن القُدُّوس السَّلَام تبارك وتعالى.
وما لزم الصفة من جهة اختصاصه تعالى بها فإنَّه لا يثبت للمخلوق بوجهٍ؛ كعلمه الذي يلزمه القِدَم والوجوب والإحاطة بكلِّ معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإنَّ ما يختص به منها لا يُمكن إثباته للمخلوق.
فإذا أحطت بهذه القاعدة خُبرًا وعَقَلْتَها كما ينبغي-خَلصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين:
2 -
آفة التعطيل. 2 - وآفة التشبيه.
فإنك إذا وَفَّيت هذا المقام حقَّه من التصور أَثْبَتَّ لله الأسماء الحسنى والصفات العُلى حقيقة؛ فخلصت من التعطيل، ونَفيت عنها خصائص المخلوقين ومُشابهتهم، فخلصت مِنْ التشبيه؛ فتدبر هذا الموضع واجعله جُنَّتك التي تَرجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصَّواب»
(1)
.
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 164 - 166).
ومن كلام شيخ الإسلام في هذا الموضوع قوله: «سَمَّى الله نفسه بأسماء وسَمَّى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أُضيفت إليه لا يُشركه فيها غيره» .
وسَمَّى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم، تُوافق تلك الأسماء إذا قُطعت من الإضافة والتخصيص.
ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مُسَمَّاهما واتحاده-عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص-اتَّفاقُهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص؛ فضلاً عن أن يتحد مُسَمَّاهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سَمَّى الله نفسه حيًّا فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة الآية: 255]، وسَمَّى بعض عباده حيًّا؛ فقال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} [يونس: 31].
وليس هذا الحي مثل هذا الحي؛ لأن قوله: (الحي) اسم لله مختص به، وقوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [يونس: 31] اسم للحيِّ المخلوق مختصٍّ به.
وإنما يتفقان إذا أُطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يَفهم من المطلق قدرًا مشتركًا بين المُسميين.
وعند الاختصاص: يُقَيَّد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق.
ولابد مِنْ هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يُفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وكذلك سَمَّى الله نفسه: {عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب الآية: 51]، وسَمَّى بعض عباده (عليمًا)؛ فقال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذريات الآية: 28]. يعني إسحاق، وسمى آخر (حليمًا)، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات الآية: 101]، يعني إسماعيل؛ وليس العليم
كالعليم، ولا الحليم كالحليم.
وسَمَّى نفسه (سميعًا بصيرًا)؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء الآية: 58]، وسمى بعض عباده (سميعًا بصيرًا)؛ فقال:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإَنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان الآية: 2]، وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير
…
وكذلك سَمَّى صفاتِه بأسماء، وسَمَّى صفات عباده بنظير ذلك، فقال:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة الآية: 255]، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [الإنسان الآية: 166]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات الآية: 58]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} [فصلت الآية: 15]، وسمى صفة المخلوق علمًا وقوة:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء الآية: 85]، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف الآية: 76]، وقال:{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر الآية: 83]، وقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَة} [الروم الآية: 54]، وقال:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود الآية: 52]، وليس العليم كالعلم و لا القوة كالقوة.
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه؛ فذكر ذلك في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش.
ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه} [الزخرف الآية: 13]، وقوله:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون الآية: 28]، وقوله:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود الآية: 44]، وليس الاستواء كالاستواء.
ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64].، ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود، فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم، ونظائر هذا كثيرة.
فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ماثلته لخلقه.
فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى-كان معطلاً جاحداً ممثلاً له بالمعدومات والجمادات.
ومَن قال: له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضاء كرضائي، أو يَدَان كيداي، أو استواء كاستوائي-كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات، بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل»
(1)
.
وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)، فشبَّه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي".
أي هذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي، فالله عز وجل لا شبيهَ له، ولكن هذا من باب تشبيه الرؤية بالرؤية، كما أن رؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب أمر واضح، وكالقمر ليلة البدر في وقت الصَّحو دون غيمٍ أمر واضح، فهكذا رؤية الله يوم القيامة؛ يراه المؤمنون في الجنَّة كما يشاء أمر واضح.
(1)
«الرسالة التدمرية» (ص 8 - 12) بتصرف.
أربعة محاذير يقع فيها من من نفى شيئا من الصفات
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة، وهي أن كثيرًا من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين"
الشرح
قول المصنف: "كثيرًا من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين".
مقصود المصنف بيان أن النصوص الشرعية الواردة في باب الصفات واضحة وثابتة وصريحة وامتلأت بها الكتب التي حوت هذا الأمر، لكن الخلل من أفهامٍ تنظر إلى هذه الأمور بنظرةٍ غير صحيحة وغير سليمة للنصوص فلذلك عزَّ والله من يعرف المعروف وينكر المنكر.
وعلى القول بأن هناك خلل فالخلل هنا إما أن يكون في النصوص، أو يكون في عقول هؤلاء، وحاشا أن يكون في النصوص، فالنصوص ثابتة والله تعالى أخبر عن استوائه ونبيه صلى الله عليه وسلم-أخبر عن نزوله، وهكذا في سائر صفاته بين الكتاب والسُنَّة نصوص ثابتة صريحة صحيحة لو أن الإنسان نظر لها النظرة السليمة، ولكن كما قال الشاعر:
وكمْ من عائِبٍ قوْلًا صَحيحًا
…
وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ
فالسبب في هذا: أفهام سقيمة.
والخلل الذي وقع فيه المعطلة جاء من عند أنفسهم لأنهم توهموا أن النصوص أنها تماثل صفات المخلوقين وهم في هذا التوهم على درجات.
1 -
فهناك من "يتوهم في بعض الصفات": وهؤلاء المقصود بهم الكلابية وقدماء الأشاعرة ومن وافقهم الذين نفوا الصفات الاختيارية.
2 -
وهناك من توهم ذلك "في كثير منها، أو أكثرها" وهؤلاء هم الأشاعرة المتأخرون والماتريدية الذين اقتصروا على إثبات سبع صفات أو ثمان صفات وأنكروا ما عداها.
3 -
وهناك من توهم ذلك في "كلها" وهؤلاء هم الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم.
وقوله: "أنها تماثل صفات المخلوقين"
اختلفت طرق المعطلة في سبب جعلهم إثبات الصفات يؤدي إلى مثل هذا الفهم الفاسد.
الفريق الأول: نفاة جميع الصفات وهم المعتزلة ومن وافقهم:
فشبهتهم التي اعتمدوا عليها في نفي صفات الباري عز وجل بما فيها صفة العلو فهي ما تسمى بطريقة الأعراض، ذلك أنهم يزعمون أن الصفات إنما هي أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، ومن أجل ذلك كان قول المعتزلة في الله: إنه قديم واحد ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره
(1)
ولكان جسماً إذ إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وتعدداً
(1)
بالإضافة إلى زعم المعتزلة أن الصفات لا تقوم إلا بأجسام، فهم أيضاً يزعمون أن في إثبات الصفات قول بكثرة وتعدد ذات الله، لأنهم يقولون:(إن من أثبت لله صفة أزلية قديمة فقد أثبت إلهين)، كما اعتقدوا أن الصفات لو شاركته في القدم لشاركته في الألوهية.
انظر الملل للشهرستاني (1/ 44 - 46)، مقالات الإسلاميين (1/ 245)، منهاج السنة (2/ 169).
في ذاته ويقتضي أنه جسم وذلك خلاف التوحيد.
فهم يزعمون أن توحيد الله وتنزيهه متوقف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به التي هي الصفات والأفعال، ونفي ذلك عندهم موقوف على ما يدل عليه حدوث الأجسام، والذي دلهم على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين فهي حادثة، فإذا لم تخل الأجسام منها لزم حدوثها.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، والمركب مفتقر إلى جزئيه وجزءاه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثاً مخلوقاً، فالأجسام متماثلة فكل ما صح على بعضها صح على جميعها، وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها
(1)
.
والمعتزلة يقولون إننا بهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسماً وإمكان المعاد.
الرد عليهم:
مما تقدم نعلم أن المعتزلة إنما بنوا دليلهم في نفي الصفات على أن القديم لا يكون محلا للصفات والحركات فلا يكون جسماً ولا محيزاً لأن الصفات أعراض وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات، وأن الجسم لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
(1)
انظر مختصر الصواعق (1/ 254).
فهم بهذا القول نفوا صفات الباري وجعلوا نفيها يتوقف عليه ثبوت الصانع وحدوث العالم، فإذا جاء في القرآن والسنة ما يدل على إثبات الصفات لم يمكن القول بموجبه.
والمتدبر لحجج المعتزلة يرى فيها الأمور التالية:
أولاً: أنهم يستدلون لأقوالهم بعبارات مبتدعة وفيها الكثير من الاشتباه والإجمال، وذلك كلفظ العرش والجسم والحيز والمركب وغير ذلك، فهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ليخدعوا به جهال الناس بما يشبهون عليهم، وهذه الألفاظ المجملة تتضمن معاني باطلة ومعاني أخرى صحيحة فهم بهذا ينفون كلا المعنيين الحق والباطل.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما في هذه الألفاظ من معانٍ، وما تدل عليه من عبارات
(1)
، وكيف استعملها هؤلاء المعطلة في نفي صفات الباري عز وجل حيث ادعوا أن هذه الأمور من مستلزمات الجسمية، والله منزه من ذلك، وقد بين شيخ الإسلام أن استعمال هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً لم يرد عن السلف ولا جاء به أثر صحيح ولم يستعملها الأقدمون بالمعنى الاصطلاحي الذي اتفق عليه هؤلاء، بل جميعهم معترفون بأن العلو صفة كمال كما أن السفل صفة نقص، وما ثبت لله من العلو فهو العلو المناسب لكمال ذاته المنزهة عن اعتبارات المحدثين ومماثلتهم.
ومعلوم أن القول بأن العلو يستلزم هذه المعاني المبهمة إنما هو مأخوذ من قياس الغائب على الشاهد، ومحاولة تطبيق الاعتبارات الإنسانية على الصفات الإلهية، وهذا قياس خاطئ إذ ليس معنى كونه في السماء أن السماء تحويه وتحيط به
(1)
انظر شرح ابن تيمية لهذه العبارات في نقض التأسيس الجهمية (1/ 504، 511)، وفي مجموع الفتاوى (5/ 418 - 430).
وتحصره، أو هي محل وظرف له، بل هو سبحانه محيط بكل شيء وسع كرسيه السموات والأرض، وهو فوق كل شيء وعالٍ على كل شيء
(1)
.
ثانيا: أن ما استدل به المعتزلة لا أصل له من الكتاب أو السنة بل هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً ليس بعالم ولا قادر ولا حي
(2)
.
كما أن مذهب المعتزلة في الذات قريب من مذهب اليونان القائلين بأن ذات الله واحدة لا كثرة فيها بوجه من الوجوه
(3)
.
ثالثاً: أن أصل هذه القاعدة التي اعتمد عليها المعتزلة في نفي الصفات إنما هي مأخوذة من قولهم في دليل حدوث العالم
(4)
الذي أثبتوا فيه حدوث العالم بحدوث الأجسام. وهذا الدليل قد بين الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: أنه دليل محرم في شرائع الأنبياء، ولم يستدل به أحد من الرسل ولا أتباعهم
(5)
، فهي بهذا طريق يحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وما يلزم عليها من لوازم باطلة لأنها مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، وهي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله ونفي المبدأ والمعاد، فهذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلاً عن نفي علوه على خلقه ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها، فلو صحت هذه الطريقة لنفت الصانع وأفعاله وصفاته وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له.
وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له، وأن
(1)
انظر كتاب موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من قضية التأويل (381 - 385).
(2)
مقالات الإسلاميين (2/ 177)، وموقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
(3)
موقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
(4)
انظر الكلام على دليل حدوث العالم في مجموع الفتاوى (13/ 153).
(5)
انظر كتاب رسالة إلى أهل الثغر (ص 164 - 172) تحقيق عبد الله شاكر الجنيدي، رسالة ماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
الله بذاته في كل مكان، وقال إخوانهم إنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم، وقالوا بخلق القرآن إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة
(1)
.
الفريق الثاني: نفاة بعض الصفات.
وهم الكلابية: أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وقول الحارث المحاسبي
(2)
وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري في طوره الثاني، وقدماء الأشاعرة كأبي الحسن الطبري والباقلاني وابن فورك، وأبي جعفر السمناني ومن تأثر بهم من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني والتميميين وغيرهم.
(3)
وهؤلاء يجمعهم أنهم نفاة الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة.
وهؤلاء يسموْن الصفاتية لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافاً للمعتزلة، لكنهم لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته.
(4)
وأصلهم الذي أصلوه في هذا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته
(5)
(1)
مختصر الصواعق (1/ 256، 257)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 38 - 40).
(2)
-قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان الحارث المحاسبي يوافقه -أي يوافق ابن كلاب -ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإن أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك، كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقى بعض كلام الحارث؛ فذكروا أن الحارث رحمه الله تاب من ذلك. وكان له من العلم والفضل والزهد والكلام في الحقائق ما هو مشهور وحكى عنه أبوبكر الكلاباذي صاحب (مقالات الصوفية): (أنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت)، وهذا يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب). مجموع الفتاوى 6/ 521، 522.
(3)
-مجموع الفتاوى 5/ 411، 6/ 52، 53، 4/ 147، شرح الأصفهانية ص 78.
(4)
-مجموع الفتاوى 6/ 520.
(5)
-مجموع الفتاوى 6/ 524.
لا فعل ولا غير فعل.
(1)
والفرق بينهم وبين المعتزلة:
أن المعتزلة تقول: (لا تحله الأعراض والحوادث) فالمعتزلة لا يريدون [بالأعراض] الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات. ولا يريدون [بالحوادث] المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل ونحو ذلك -مما يريده الناس بلفظ الحوادث-بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
ولكن ابن كلاب ومن وافقه خالفوا المعتزلة في قولهم: "لا تقوم به الأعراض" وقالوا: "تقوم به الصفات ولكن لا تسمى أعراضاً".
ووافقوا المعتزلة على ما أرادوا بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته.
(2)
ففرقوا بين الأعراض -أي الصفات-والحوادث-أي الأمور المتعلقة بالمشيئة.
(3)
فالكلابية ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله
(4)
، ويقولون: "لو قامت به لكان محلاً للحوادث. والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 522.
(2)
-مجموع الفتاوى 6/ 520، 521.
(3)
-مجموع الفتاوى 6/ 525.
(4)
-الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، أو التي تنفك عن الذات: كالاستواء، والنزول، والضحك، والإتيان، والمجيء، والغضب والفرح. مجموع الفتاوى 6/ 68، 5/ 410.
كمالاً لم يجز وصفه به".
(1)
الفريق الثالث: نفاة أكثر الصفات.
وهؤلاء هم متأخرو الأشاعرة ومعهم الماتريدية.
ومعلوم أن مذهب متأخري الأشاعرة والماتريدية في الصفات أنهم يثبتون سبع صفات أو ثمان فقط، وهي ما يسمونها بصفات المعاني وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام، وهم يثبتون لهذه الصفات أربعة أحكام هي:
1 ـ أن هذه الصفات ليست هي الذات بل زائدة عليها فصانع العالم عندهم عالم بعلم وحي بحياة وقادر وهكذا.
2 ـ أن هذه الصفات كلها قائمة بذات الله تعالى ولا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته لأن الدليل دل على أنه متصف بها ولا معنى لاتصافه بها إلا قيامها بذاته، حتى لو قلنا: إنه عالم كان هو بعينه مفهوم قولنا قام بذاته علم، فلا تكون الصفة لشيء إلا إذا قامت به لا بغيره.
3 ـ أن هذه الصفات كلها قديمة لأنها إن كانت حادثة كان القديم محلاً للحوادث وهذا محال، أو متصف بصفة لا تقوم به وذلك أظهر استحالة.
4 ـ أن الأسماء المشتقة لله تعالى من هذه الصفات السبع صادقة عليه أزلاً وأبداً فهو في القدم كان حياً قادراً عليماً سميعاً بصيراً متكلماً
(2)
.
فهم على قولهم هذا لا يثبتون سوى هذه الصفات السبع فقط لأنها قديمة. أما باقي الصفات التي يسمونها الصفات الخبرية فهم ينفونها جميعها، بدعوى تنزيه ذات الله عن الحوادث.
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 69، وانظر الرد على هذه الشبهة 6/ 105.
(2)
انظر الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص 84 - 101)، بتصرف.
ومتأخرو الأشاعرة هؤلاء وإن كانوا يخالفون المعتزلة في جعلهم الصفة غير الذات كما في الحكم الأول فيثبتون الصفات القديمة من هذا الباب، إلا أنهم قد وافقوا المعتزلة في دليلهم المسمى بدليل نفي الحوادث فنفوا باقي الصفات الأخرى، ذلك لأن قولهم في الحكم الثالث من الأحكام الأربعة التي أوردناها إنها لو كانت حادثة لكان القديم محلا للحوادث، هو بعينه ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات
(1)
.
ويقول متأخرو الأشاعرة في دليلهم العقلي على نفي العلو إن إثبات العلو يقتضي إثبات الجهة وإثبات الجهة يقتضي كونه جسماً، وكونه جسماً يقتضي كونه مركباً، والمركب مفتقر إلى جزئيه، والمفتقر إلى جزئيه لا يكون إلا حادثا والله سبحانه منزه عن الحوادث
(2)
.
فعلى قولهم هذا يكونون هم والمعتزلة على دليل واحد، وقد سبق أن ذكرنا الرد على المعتزلة فيكون الرد على هؤلاء من جنس الرد على أولئك، ويضاف إلى ذلك أن القول في الصفات التي نفاها هؤلاء هو كالقول في الصفات التي أثبتوها، فإن كان هذا تجسيماً وقولا باطلاً فهذا كذلك.
وإن قالوا: إن إثباتها على الوجه الذي يليق بالرب.
قيل لهم: وكذلك هذا.
فإن قالوا: نحن نثبت تلك الصفات وننفي التجسيم.
قيل لهم: وهذا كذلك، فليس لكم أن تفرقوا بين المتماثلين
(3)
.
(1)
مختصر الصواعق (1/ 255).
(2)
نقض التأسيس (1/ 503).
(3)
مجموع الفتاوى (13/ 165).
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: كونه مثَّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطّله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله- حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل- قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله سبحانه.
الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب تعالى.
الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات، أو صفات المعدومات.
فيكون قد عطَّل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثَّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، يكون ملحدًا في أسمائه وآياته".
الشرح
منهج المعطِّلة في الصفات جاء بعكس طريقة الأنبياء، فنجدهم يجملون في
الإثبات ويفصِّلون في النفي، زعماً منهم أن ذلك أعظم وأبلغ في التنزيه، وأحوط في تفادي تشبيه الله عز وجل بخلقه، وبتطبيقهم لطريقتهم هذه، حصل عكس مرادهم، فوقعوا في شر من الذي فروا منه، فأساءوا الأدب مع مليكهم، وجردوه من كماله الذي وصف به نفسه، فشبهوه بالناقصات من مخلوقاته، بل نفيهم لصفاته أوقعهم في تشبيهه بالمعدومات والممتنعات، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
فالمعطِّلة النفاة إذا تكلموا في النفي، وصفوه سبحانه وتعالى بالسُّلوب على وجه التفصيل؛ فيقولون مثلاً: ليس بكذا، ولا بكذا
…
يقولون: ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع، ولا افتراق، ولا يتبعض، ولا يتجزأ، ولا يقرُب من شيء، ولا يقرُب منه شيء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ونحو ذلك، ولا يُشار إليه، ولا هو مباين للعالم، ولا داخله، ولا خارجه
…
إلى أمثال هذه العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم بل الممتنع.
وإذا أرادوا الإثبات: أثبتوا شيئاً مجملاً يجمعون فيه بين النقيضين، ويُقدرون وجوداً مطلقاً لا حقيقة له إلا في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان، فبعضهم يصفونه بالسُّلوب والإضافات دون صفات الإثبات، وبعضهم يثبت له الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات، وبعضهم يثبت له الأسماء وعدداً محدوداً من الصفات
(1)
.
(1)
انظر: مقالات الإسلاميين ص (155 - 156)، منهاج السنة النبوية (2/ 187، 562)، الصفدية (1/ 116)، مجموع الفتاوى (6/ 66، 516، 11/ 483 - 484، 20/ 111 - 112، 126)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 163)، النبوات (2/ 643)، الفتاوى الكبرى (6/ 337 - 338)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 863)، التدمرية ص (12 - 19)، التسعينية (1/ 172 - 174)، الكيلانية، ضمن مجموع الفتاوى (12/ 432)، الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الإسلام من بدع الجهمية والصوفية، ضمن مجموع الفتاوى (2/ 198)، الصواعق المرسلة (3/ 1009)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 69 - 70)، توضيح المقاصد (1/ 148، 2/ 436)، شرح القصيدة النونية (2/ 287 - 288).
وحقيقة حالهم كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: ((وهؤلاء جميعاً
(1)
، يفرون من شيء، فيقعون في نظيره وفي شر منه، مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات، ولو أمعنوا النظر لسوَّوا بين المتماثلات، وفرَّقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أُنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد
(2)
، ولكنهم من أهل المجهولات المُشَبَّهَة بالمعقولات، يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات))
(3)
.
قول المصنف: "أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: كونه مثَّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل".
المعطل مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل
(4)
، فعقيدة هؤلاء المعطلة جمعت بين التمثيل والتعطيل، وهذا الشر إنَّما جاء من تنجس قلوبهم وتدنسها بأقذار التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه؛ كاستوائه على عرشه ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال.
فإن أول ما يخطر في أذهانهم أن هذه الصفة تشبه
(1)
أي المعطلة بمختلف أصنافهم من غالية، وفلاسفة، وجهمية، ومعتزلة، وصفاتية، ومن اتبعهم.
(2)
يشير إلى قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الآية [6] من سورة سبأ.
(3)
التدمرية ص (19)، وانظر: رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية لنصر المنجبي، ضمن مجموع الفتاوى (2/ 478)، توضيح المقاصد (1/ 148).
(4)
التحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد بن ناصر النجدي (ص: 49 - 50).
صفات الخلق؛ فيتلطخ القلب بأقذار التشبيه؛ فلم يقدر الله حقَّ قدره، ولم يُعَظِّم الله حقَّ عظمته؛ حيث سبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيكون أولاً نجَّس القلب بأقذار التشبيه، ثم دعاه ذلك إلى أن ينفي صفة الخالق جلَّ وعلا عنه بادِّعاء أنها تشبه صفات المخلوق، فيكون فيها أولاً مشبهًا، وثانيًا معطلاً ضالًّا ابتداءً وانتهاءً متهجمًا على ربِّ العالمين يَنفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق
(1)
.
فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات.
فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم.
وقوله: "الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطّله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله- حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل- قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله سبحانه".
المعطلة تلاعبوا بظواهر النصوص! لمجرد أنها خالفت باطلهم ومناهجهم الفاسدة
(2)
.
فنصوص الصفات ألفاظ شرعية يجب أن تحفظ لها حرمتها، وذلك بأن نفهمها وفق مراد الشارع، فلا نتلاعب بمعانيها لنصرفها عن مراد الشارع.
فمن الأصول الكلية عند السلف أن الألفاظ الشرعية لها حرمتها، ومن تمام
العلم أن يبحث عن مراد الله ورسوله بها ليثبت ما أثبته الله ورسوله من المعاني، وينفى ما نفاه الله ورسوله من المعاني
(1)
.
وبحمد الله وفضله نجد أن نصوص الصفات الواردة في القرآن والسنة هي من الوضوح والكثرة بمكان، بحيث يستحيل تأويلها والتلاعب بنصوصها، فلقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصَّلاً على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل به العلم اليقيني، ورفع الشك والريب، فثلجت به الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، فلقد فصلت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الأسماء والصفات والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ.
فالمطلع على نصوص القرآن والسنة الخبير بهما، لا يزيده تحريف المعطلة لتلك النصوص إلا احتقارًا لهم، ويقينًا بفساد معتقدهم وبطلانه.
ولا تروج تحريفات المعطلة إلا على الجاهل بمعرفة تلك النصوص قليل البضاعة فيها، فهذا الصنف! أتي من جهة جهله لا من قلة النصوص الواردة في هذا الباب، والله أعلم.
وقوله: "الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب تعالى".
فالذين يصفون الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطّل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثلَّه بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل،
(1)
مجموع الفتاوى 12/ 113 - 114 بتصرف
فيكون ملحدًا في أسمائه وآياته
(1)
.
فالله تعالى وصف نفسه بأن له المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق، المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلَّما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان بها أكمل وأعلى من غيره.
ولما كانت صفات الرب سبحانه وتعالى أكثر وأكمل، كان له المثل الأعلى وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق اثنان، لأنهما إن تكافآ من كل وجه، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ، فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير، وهذا برهان قاطع على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة)
(2)
.
ومن ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلًا لما يستحقه الرب من صفات الكمال ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله من الصفات الإلهية اللائقة بجلال الله وعظمته
(3)
.
وقوله: "الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات، أو صفات المعدومات، فيكون قد عطَّل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثَّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، يكون ملحدًا في أسمائه وآياته".
فالذين ينفون الأسماء والصفات، فإنهم بزعمهم ينفون ذلك حتى لا يشبهوا الله
(1)
التحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد بن ناصر النجدي (ص: 49 - 50).
(2)
الصواعق المنزلة 3/ 1032، وشرح الطحاوية ص 144
(3)
التحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد بن ناصر النجدي (ص: 49 - 50).
بالموجودات.
فيقال لهم: نفيتم علمه وحياته كما نفيتم أنه عليم حي خشية أن تشبهوه بالموجودات، ولكن يلزم قولكم هذا تشبيه الله بالمعدومات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كل تنزيه مُدح به الرب ففيه إثبات، فلهذا كان قول:(سبحان الله) متضمنًا تنزيه الرب وتعظيمه، ففيه تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيه تعظيمه سبحانه وتعالى
(1)
.
فالذين لا يَصفونه إلا بالسُّلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا.
وكذلك مَنْ شاركهم في بعض ذلك؛ كالذين قالوا: لا يتكلم، ولا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يَستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا مجانب له.
إذ هذه الصفات يمكن أن يُوصف بها المعدوم، وليس هي صفة مُستلزمة صفة ثبوت.
فقولهم: إنه لا يتكلم، أو لا يَنزل، ليس في ذلك صفة مدح، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات
(2)
.
فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى-كان معطلاً جاحداً ممثلاً له بالمعدومات والجمادات.
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112).
(2)
«الرسالة التدمرية» (ص 23).
نصوص فوقية الله على خلقه واستوائه على عرشه
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "مثال ذلك: أن النصوص كلها دلّت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش؛ فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيُعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع، وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله".
هذا النص تضمن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن صفة العلو من الصفات الثابتة شرعًا وعقلًا.
فقوله: "فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيُعلم بالعقل الموافق للسمع".
قال ابن تيمية: "قَدْ وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَوْقِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ كِبَارِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فِي الْقُرْآنِ أَلْفُ دَلِيلٍ أَوْ أَزْيَدُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالٍ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ دَلِيلٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ"
(1)
وقال رحمه الله: "دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ؛ كَقَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَوْلِهِ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ:
(1)
مجموع الفتاوى 5/ 526
{إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ يَبْلُغُ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ وَهِيَ دَلَائِلُ جَلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ مَفْهُومَةٌ: مِنْ الْقُرْآنِ مَعْقُولَةٌ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. "
(1)
وقد
تنوعت عبارات القرآن في إثبات صفة العلو.
فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره مليء بما هو إما نص ظاهر في أن الله فوق كل شيء، وأنه عال على خلقه ومستو على عرشه، وقد تنوعت تلك الدلالات، فوردت بأصناف من العبارات، فقد أشار العلماء إلى ذلك التنوع في العبارة على إثبات هذه الصفة، ومن ذلك:
1 -
التصريح بالفوقية مقرونة بأداة (من) المعينة لفوقية الذات نحو: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].
2 -
ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله:{وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18].
3 -
التصريح بالعروج إليه، نحو {تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوُحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].
4 -
التصريح بالصعود إليه، كقوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلكَلِمُ الطّيّبُ} [فاطر: 10].
5 -
التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله:{بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقوله:{إِنّي مُتَوفَيّكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].
6 -
التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو، ذاتاً، وقدراً، وشرفاً، كقوله:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
7 -
التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل 102]. وهذا يدل على شيئين:
(1)
مجموع الفتاوى 5/ 224
الأول: على أنَّ القرآنَ ظَهَر منه لا من غيره، وأَنَّهُ الذي تكلم به، لا غيره.
الثاني: على عُلُوِّهِ على خَلْقِهِ، وأنَّ كلامَه نزل به الرُّوح الأمين من عنده من أعلى مكان إلى رسوله.
8 -
التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله:{فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت: 38]، وقوله {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19]، ففرَّق بين من له عمومًا، ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصًا.
9 -
التَّصريح بأنه سبحانه في السَّماء، وهذا عند أَهْل السُّنَّة على أحد وجهين:
إما أن تكون «في» بمعنى «على» .
وإما أن يراد بالسَّماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز حملُ النَّصِّ على غيره.
10 ـ التَّصريح بالاستواء مقرونًا بأداة «على» مختصًّا بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحبًا في الأكثر لأداة «ثُمَّ» الدَّالَّة على الترتيب والمهلة، وهو بهذا السِّياق صريحٌ في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العُلُوِّ والارتفاع، ولا يحتمل غيره البتَّة.
11 -
إخباره سبحانه عن فرعون أنه رَامَ الصُّعُودَ إلى السماء؛ لِيَطَّلِعَ إلى إله موسى، فيُكذبه فيما أخبر به من أنه فوق السماوات؛ فقال:{يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]، فكذَّب فرعونُ موسى في إخباره إياَّه بأن ربَّه فوق السماء
(1)
.
(1)
انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 314 - 317).
وفي قوله سبحانه وتعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} -بيَّن أن الملائكة أقرب إليه من غيرهم من خلقه.
وكذلك قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، إلى غير ذلك من ألفاظ متنوعة ومتعددة تدل دلالة واضحة على أن الله عال على خلقه مُستو على عرشه.
الأدلة من السنة على إثبات صفة العلو.
السنة مليئة بالأحاديث الدالة على علو الله-سبحانه وتعالى-واستوائه على عرشه، وقد تكلم المصنف على إثبات ذلك في خلال الكثير من الأحاديث، كأحاديث المعراج، وأحاديث صعود الملائكة ونزولها من عند الله، وعروج الروح إليه، واستواء الخالق على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، ورؤيته في الآخرة، فالسُّنَّةُ قد دلَّت على عُلُوِّ الله بدلالاتها الثلاث:(القولية، والفعلية، والتقريرية).
أولاً: أما السُّنَّة القولية
فمنها:
1 ـ حديث الخوارج: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً» .
2 ـ حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض» .
ثانياً: وأما أدلة السُّنَّة الفِعلية
فمنها:
1 -
ما رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في حديث حَجَّةِ الوَدَاعِ، وفيه: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ، فقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا
…
»، إلى أن قال جابر رضي الله عنه:«فقال بإصبعه السَّبَّابَة يَرْفَعُهَا إلى السَّماء وَيَنْكُتُهَا إلى الناس: اللهم اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ»
(1)
.
قال العَلَّامة ابن القَيِّم رحمه الله مُعَلِّقًا على هذا الحديث: «ليشهد الجميعُ أن الرَّبَّ الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه»
(2)
.
2 -
ما في الصَّحيحين في رفعه صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء قائلًا: «اللهم اسقنا»
(3)
. وهكذا رفعه يديه في الاستسقاء وغير ذلك.
ثالثاً: ومن أدلة السُّنَّة التقريريَّة
وأشهرها:
ما رواه معاوية بن الحَكَم السُّلَمِي رضي الله عنه قال: «كانت لي جاريةٌ تَرْعَى غَنَمًا قِبَلَ أُحُدٍ والجوَّانيَّة، فاطَّلَعْتُ ذات يومٍ فإذا بالذئب قد ذهب بشاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وأنا رجلٌ من بني آدم، آسَفُ كما يَأْسَفُونَ لكني صَكَكْتُهَا، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: «ائتني بها» ، فأتيتُه بها، فقال لها:«أين الله؟» . قالت: في السماء، قال:«ومَن أنا؟» . قالت: رسول الله، قال:«أَعْتِقها؛ فإنَّها مؤمنة» .
وقد تقدم ذكر موقف المعطلة عموماً من نصوص السنة ورفضهم الاحتجاج بها بزعم أنها أخبار آحاد، وأخبار الآحاد لا يحتج بها في باب الاعتقاد، مع وصفهم لها بأنها أحاديث التشبيه كقول الغزالي:" وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة"
(4)
. وأحاديث التشبيه يقصد بها أحاديث الصفات، والحديث كلام
(1)
أخرجه مسلم (1218).
(2)
«إعلام المُوقعين» (2/ 316).
(3)
أخرجه البخاري (1013) ومسلم (895).
(4)
انظر كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي صفحة (116).
المصطفى صلى الله عليه وسلم-كيف يُنبز بهذا الوصف الذي ينفر السامع؟ ثم كيف تحكم عليها هكذا أنها غير صحيحة؟ ولا يتوهم السامع أن معنى أكثرها غير صحيحة أنها ضعيفة أو موضوعة، بل يقصدون بها أنها أخبار آحاد وعنده أن أخبار الآحاد لا صحة لها.
فشتان بين من يعظم السنة ويوقرها يحتج بها ويصدرها ويستدل بها، وبين من لا يقيم لها وزناً أو اعتباراً، بل ويتهكم بنصوصها وينفر منها بألقاب وأسماء تجعل السامع ينفر منها، بل ويقدم عليها زبالة الأفكار وأقوال من لم يعرف الله عز وجل حق المعرفة.
المواقف من صفة العلو وموقفهم من النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَقَدْ افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ " أَرْبَعُ فِرَقٍ "
(1)
.
القول الأول:
القائل: الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ
قولهم: يَقُولُونَ: لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ لَا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ.
موقفهم من النصوص: لَمْ يَتَّبِعْوا شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ؛ بَلْ خَالَفَوهَا كُلَّهَا فليس لهم متمسك في النصوص بَلْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوِّلٌ أَوْ مُفَوِّضٌ. وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصِ: كَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إلَّا الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ النَّفْيِ؛ "
القول الثاني:
القائل: النجارية وَكَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة.
(1)
مجموع الفتاوى 5/ 226 - 231 بتصرف
قولهم: هم على قسمين:
1 -
عُبَّادُهُمْ وَصُوفِيَّتُهُمْ وَعَوَامُّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
2 -
أَهْلُ الْوَحْدَة يَقُولُونَ: إنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَمَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مُرَكَّبًا مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ.
موقفهم من النصوص: هُمْ يَحْتَجُّونَ بِنُصُوصِ " الْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبِ "؛ وَيَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ " الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ فهم تَرَكَوا النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ الْمُحْكَمَةَ الْمُبَيَّنَةَ وَتَعَلَّقَوا بِنُصُوصِ قَلِيلَةٍ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِم مَعَانِيهَا.
القول الثالث:
القائل: هذا قول جماعة من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ التومني
(1)
، وزهير الأثري
(2)
، وأصحابهما
(3)
، وهو موجود في كلام السالمية
(4)
كأبي طالب المكي
(5)
وأتباعه كأبي الحكم برجان
(6)
وأمثاله ما يشير إلى نحو هذا. كما يوجد في
(1)
أبو معاذ التومني من أئمة المرجئة ورأس فرقة التومنية منها. انظر ترجمته ومذهبه في مقالات الأشعري (1/ 204، 326)، (2/ 232)، والملل والنحل (1/ 128).
(2)
زهير الأثري، لم أقف على ترجمته، وقد تكلم الأشعري عن آرائه بالتفصيل في المقالات (1/ 326).
(3)
انظر نقض تأسيس الجهمية (1/ 6)، والفتاوى (2/ 299)، ومقالات الإسلاميين (1/ 326).
(4)
هم أتباع أبي عبد الله محمد بن أحمد بن سالم المتوفى سنة (297 هـ) وابنه أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم المتوفى سنة (350 هـ)، وقد تتلمذ أحمد بن محمد بن سالم على سهل بن عبد الله التستري، ويجمع السالمية بين كلام أهل السنة وكلام المعتزلة مع ميل إلى التشبيه ونزعة صوفية اتحادية.
انظر شذرات الذهب (3/ 36)، وطبقات الصوفية (ص 414 - 416)، والفرق بين الفرق (ص 157 - 202).
(5)
أبو طالب، محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي، صوفي نشأ واشتهر بمكة، وهو صاحب كتاب "قوت القلوب" في التصوف وهو من أكبر رجال السالمية، قال عنه الخطيب البغدادي:(ذكر فيه أشياء مستشنعة في الصفات)، توفي سنة (386 هـ).
انظر ترجمته في تاريخ بغداد (3/ 89)، وميزان الاعتدال (3/ 655)، ولسان الميزان (5/ 300).
(6)
أبو الحكم، عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي، متصوف، توفي سنة (536 هـ) بمراكش. "انظر ترجمته في لسان الميزان (4/ 13 - 14)، فوات الوفيات (1/ 569)، الاعلام (4/ 129).
كلامهم ما يناقض هذا
(1)
قولهم: إن الله بذاته فوق العرش وهو بذاته في كل مكان.
فهم يقولون بأن الله في كل مكان، وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول ولا المماسة، ويزعمون أنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى:{وَجَاَءَ رَبُّكَ} [الفجر 22]، وقولهم هذا يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون إنه لا نهاية له
(2)
.
والفرق بين هذا القول وقول الجهمية: بأن الله في كل مكان هو أن هؤلاء يثبتون العلو ونوعا من الحلول، أما الجهمية فلا يثبتون العلو على مقصود هؤلاء من الاستواء على العرش والمباينة.
ويزعم أصحاب هذا القول إنهم بقولهم هذا قد اتبعوا النصوص كلها سواء كانت نصوص علو أو معية أو قرب.
موقفهم من نصوص الصفات: يَقُولُون: نحن نقِرُّ بِهَذِهِ "لنُّصُوصِ وَهَذِهِ لَا نصْرِفُ وَاحِدًا مِنْهَا عَنْ ظَاهِرِهِ.
وَهَذَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ وَأَبْعَدَ عَنْ مُخَالَفَتِهَا مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فهم يَقُولُون: أَنَا اتَّبَعَنا النُّصُوصَ
(1)
مجموع الفتاوى (2/ 299)
(2)
نقض تأسيس الجهمية (2/ 6).
كُلَّهَا لَكِنَّهُم غالطوا أَيْضًا. فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَلِلْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً يَقُولُونَ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَيَقُولُونَ: نَصِيبُ الْعَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ الْعَارِفِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ الْعَارِفِ نَصِيبُهُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِيمَانُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْعَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: إنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَإِنْ قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِالْحُلُولِ الْخَالِصِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ " الصُّوفِيَّةِ " حَتَّى صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " فِي تَوْحِيدِهِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُلُولِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْقَوْمِ يُحَذِّرُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا. سُئِلَ " الْجُنَيْد " عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَحِّدِ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ وَالْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ "فَلَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالشِّيعَةِ فِي أَئِمَّتِهَا؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكْمِلُوا مَعْرِفَةَ الْحَقِيقَةِ كَمَا كَمَّلَهَا هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ.
الرد عليهم:
إنهم بقولهم هذا جمعوا بين كلام أهل السنة وكلام الجهمية، ولذلك كان قولهم ظاهر الخطأ وغاية في التناقض.
أما بيان خطئه فيكمن في أن كل من قال بأن الله بذاته في كل مكان فهو مخالف
للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده، ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة، فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تنص على علو الله بذاته فوق خلقه واستوائه على عرشه وبينونته من خلقه، كما أن السنة قد تحدثت عن هذا المعنى في كثير من الأحاديث، كقصة "المعراج وصعود الملائكة ونزولها من عند الله وعروج الروح إليه واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، فكل هذه الأدلة تبين بطلان هذا القول ومخالفته.
وأما استدلال هؤلاء بنصوص المعية والقرب، فقد بينا خطأ هذا الاستدلال وبطلانه عند الرد على الأدلة السمعية لمذهب الجهمية، وقد بينا أنه ليس للمخالفين أي متمسك في جعلها لمعية الذات أو قرب الذات "أما بيان تناقض هذا القول: فهو واضح من أقوالهم، فهم يجمعون بين أقوال متناقضة، فهم تارة يقولون إنه بذاته فوق العرش، وتارة يقولون إنه فوق العرش ونصيب العرش فيه كنصيب قلب العارف -كما يذكر ذلك أبو طالب المكي وغيره-، ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والإيمان وما يتبع ذلك.
فإن قالوا: إن العرش كذلك، فقد نقضوا قولهم بأنه بنفسه فوق العرش.
وإن قالوا بحلول ذاته في قلوب العارفين، كان ذلك قولا بالحلول الخاص، وهذا ما وقع فيه طائفة من الصوفية ومنهم صاحب منازل السائرين
(1)
.
القول الرابع:
القائل: سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ
قولهم: أَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَهُمْ مِنْهُ
(1)
مجموع الفتاوى (5/ 122 - 131).
بَائِنُونَ وَهُوَ أَيْضًا مَعَ الْعِبَادِ عُمُومًا بِعِلْمِهِ وَمَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْكِفَايَةِ وَهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
موقفهم من نصوص الصفات: يؤمنون بجميع نصوص الصفات ولا يرون أن بينها أي تعارض فأَثْبَتُوا وَآمَنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلْكَلِمِ
فإجماع السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم منعقد على إثبات علو الله، واستوائه على عرشه وقد نقل غير واحد من السلف هذا الإجماع عنهم، ومن ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي أنه قال:"كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله-تعالى-ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته"
(1)
.
وقال أبو نصر السجزي: "فأئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وسفيان ابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي: متفقون على أن الله-سبحانه-بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق
(1)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 304، رقم 865). وأخرجه ابن بطة في الشرح والإبانة (ص 229). وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية، انظر مجموع الفتوى (5/ 39)، وصحح إسناده.
وقال: "وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك". وأخرجه الذهبي في السير (7/ 120 - 121، 8/ 402). وأورده في تذكرة الحفاظ (1/ 179 - 180)، وفي الأربعين (ص 42، برقم 13). وفي العلو (ص 102)، وعزاه للبيهقي في الأسماء والصفات. وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 131، 135) وصحح إسناده، وقال الذهبي في كتاب العرش 2/ 223 ورواته أئمة ثقات. وأورده ابن حجر في فتح الباري (13/ 406).
العرش"
(1)
.
وقال أبو نعيم الأصبهاني في عقيدته المشهورة: "وطريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فما اعتقدوه اعتقدناه، فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش والاستواء عليه يقولون بها، ويثبتونها من غير تكييف ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمواته من دون أرضه"
(2)
.
وكلام السلف من الصحابة والتابعين، من تبعهم في إثبات العلو كثير جدا ولا يتسع المقام ههنا لذكره، وقد "نقل شيخ الإسلام ابن تيمية الكثير من تلك النصوص الواردة عنهم، وبين إجماعهم على إثبات ذلك
(3)
، وكذلك فعل تلميذه ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" وكذلك الذهبي في كتابيه "العلو" و"العرش".
أما الأدلة العقلية فهي كثيرة وسأورد ههنا ثلاثة منها:
الدليل الأول: قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟
فسيقول: نعم.
فقل له: حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه؟ أم خارجاً عن نفسه؟
فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال:
(1)
درء تعارض العقل والنقل": (6/ 250).
(2)
درء تعارض العقل والنقل": (6/ 250).
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى": (5/ 6).
واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين وإبليس في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضاً كفر حين زعم أنه في كل مكان وحش قذر رديء.
وإن قال: خلقهم خارجاً عن نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع"
(1)
الدليل الثاني: قول ابن القيم: "إن كل من أقر بوجود رب للعالم مدبر له، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم.
فمن أقر بالرب، فإما أن يقر بأن له ذاتاً وماهية مخصوصة أو لا؟
فإن لم يقر بذلك، لم يقر بالرب، فإن رباً لا ذات له ولا ماهية له هو والعدم سواء، وإن أقر بأن له ذاتاً مخصوصة وماهية، فإما أن يقر بتعينها أو يقول إنها غير معينة؟
فإن قيل إنها غير معينة كانت خيالاً في الذهن لا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلا معيناً، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظير، فتعيين ذاته سبحانه واجب.
وإذا أقر بأنها معينة لا كلية، والعالم مشهود معين لا كلي، لزم قطعاً مباينة أحد المتعينين للآخر، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه.
فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه.
قيل: هذا-والله أعلم-حقيقة قولكم، وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه
(1)
الرد على الزنادقة والجهمية (ص 95 - 96).
لا ذات له ولا ماهية تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته المخصوصة، وأنتم إنما جعلتم تعيينه أمراً عدمياً محضاً ونفياً صرفاً وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض.
وأيضاً فالعدم المحض لا يعين المتعين، فإنه لا شيء وإنما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم قطعاً من إثبات ذاته تعيين تلك الذات، ومن تعيينها مباينتها للمخلوقات، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره"
(1)
.
الدليل الثالث: أنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة، وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وصف بالعلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز، وصف بالقدرة دون العجز، ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له، وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عالياً على العالم أو مسامتا له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلاً عن السفول.
والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، ولا محاذياً له ولا سافلا عنه.
ولما كان العلو صفة كمال، وكان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، ولا يكون قط غير عالٍ عليه
(2)
.
(1)
مختصر الصواعق (1/ 279 - 280).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 5 - 6).
وبهذه النماذج التي أوردناها عن الأدلة العقلية يتضح لنا مدى دلالة المعقول الصريح على إثبات علو الله ومباينته لخلقه وكذلك مدى مخالفة أقوال المعطلة والحلولية لصريح المعقول وصحيح المنقول.
الأمر الثاني: أن صفة الاستواء من الصفات الثابتة بدليل السمع.
فقوله: "وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع"
الاستواء صفة ثابتة في القرآن والسنة وقد أجمع سلف الأمة على إثباتها.
وذكر صفة الاستواء جاء في سبعة مواضع من القرآن الكريم، كما أن السنة مليئة بالأحاديث الثابتة الصحيحة الدالة على علو الله واستوائه على عرشه.
والآيات السبع التي جاء فيه ذكر الاستواء على العرش قد جاءت مصحوبة بما يبهر العقول من صفات الله وجلاله وكماله، وسنذكر تلك الآيات وما اقترن بها.
ا- فأول سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء حسب ترتيب المصحف سورة الأعراف: قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بأمره أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف، الآية: 54 [
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال
(1)
.
2 -
والموضع الثاني في سورة يونس قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِما كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
(1)
"منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات": ص 15.
وَالْحِسَابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس، الآيات: 3 - 6].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الكمال والجلال.
3 -
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
4 -
الموضع الرابع في سوره طه قال تعالى: {طه ما أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّماوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ ما فِي السَّماوَاتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنَى} [طه الآيات 1 إلى 8].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
5 -
الموضع الخامس في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان الآيات 58 - 59].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الكمال والجلال.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "إنه ينبغي للمؤلين أن يتاملوا هذه الآية من سورة الفرقان وهي قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ
خَبِيراً} ويتاملوا معها قوله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر، الآية: 14]، فإن قوله في الفرقان:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} بعد قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} يدل دلالة واضحة أن الله الذي وصف نفسه بالاستواء خبير بما يصف به نفسه، ولا تخفى عليه الصفة اللائقة من غيرها ويفهم منه أن الذي ينفي عنه صفة الاستواء ليس بخبير، نعم هو والله ليس بخبير"
(1)
6 -
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال وا لكمال ..
7 -
الموضع السابع: في سورة الحديد في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْهَا وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد، الآيتان: 3 - 4].
فالله سبحانه وتعالى مع استوائه على عرشه لا يخفى عنه شيء من أمور مخلوقاته، فهو يعلم جميع ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وجميع ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، فسبحان من لا يعزب عن علمه مثقال حبة من خردل لا في السماء ولا في الأرض
(1)
"منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات": ص 26.
عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.
فالشاهد من ذكر آيات الاستواء على العرش وذكر ما اقترن بها من صفات العظمة والجلال بيان أن هذه الصفة التي ظن الجاهلون أنها صفة نقص، ويتهجمون على رب السموات والأرض بأنه وصف نفسه بصفة نقص، ثم يسببون عن هذا أن ينفوها ويؤولوها، مع أن الله- جل وعلا- تمدح بها، وجعلها من صفات الجلال والكمال مقرونة بما يبهر العقول من صفات الجلال والكمال، وهذا يدل على جهل وهوس من ينفي بعض صفات الله جل وعلا بالتأويل"
(1)
.
والسلف يقولون إن معنى هذا الاستواء الوارد في الكتاب والسنة معلوم في اللغة العربية، كما قال ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
فقولهم: (الاستواء معلوم): أي أن معنى الاستواء معلوم في اللغة، وهو ههنا بمعنى العلو والارتفاع.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله بلغتهم وأنزل به كلامه نوعان: مطلق، ومقيد.
فالمطلق: ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص 14]، وهذا معناه: كمل وتم، ويقال: استوى النبات، واستوى الطعام.
وأما المقيد فثلاثة أضرب:
أحدها: مقيد "بإلى" كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [فصلت 11]، واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المعدى بإلى في موضعين من كتابه، الأول في سورة البقرة في قوله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ
(1)
"منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات": ص 17.
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة 29]، والثاني في سورة فصلت {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} [فصلت 11]، وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف.
الثاني: المقيد "بعلى" كقوله تعالى {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف 13]، وقوله {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود 44]، وقوله {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح 29]، وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون "بواو مع" التي تعدى الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة، بمعنى ساواها وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم"
(1)
.
ومما يؤكد أيضاً أن السلف يعلمون معنى الاستواء قول ابن عبد البر: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه".
قال أبو عبيدة في قوله {اسْتَوَى} قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف الآية: 13]، وقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون 28].
وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بضبضاء قفرة
…
وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى؛ لأن النجم لا يستولي.
وقد ذكر النضر بن شميل-وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة-قال: "حدثني الخليل-وحسبك بالخليل-قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم
(1)
انظر مختصر الصواعق المرسلة (2/ 126 - 127).
من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال؟ فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} فصعدنا إليه"
(1)
.
وقال ابن القيم: "إن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه جميع أهل اللغة والتفسير المقبول"
(2)
.
وقال أبو عمر ابن عبد البر: " والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله تعالى {اسْتَوَى} قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى: أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد"
(3)
.
ولما كان هذا هو معنى الاستواء في لغة العرب فقد تكلم السلف والمفسرون بهذا المعنى عند تفسير هذه الآية، فقد روي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش} قال: علا على العرش
(4)
.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن أبي العالية في تفسير الآية السابقة الذكر قال: ارتفع
(5)
.
وقد روي عن الحسن البصري والربيع بن أنس مثله
(6)
.
وقد روى اللالكائي بسنده عن بشر بن عمر قال: "سمعت غير واحد من
(1)
التمهيد (7/ 131 - 132).
(2)
انظر مختصر الصواعق (2/ 145).
(3)
التمهيد (7/ 131).
(4)
انظر فتح الباري (13/ 403).
(5)
مجموع الفتاوى (5/ 519).
(6)
مجموع الفتاوى (5/ 519).
المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: على العرش استوى: ارتفع"
(1)
.
وفي هذا التفسير لمعنى الاستواء من قبل السلف رد على من زعم أن مذهب السلف هو التقيد باللفظ مع تفويض المعنى المراد، وأنهم كانوا لا يفسرون الاستواء ولا يتكلمون فيه، فمن خلال ما تقدم من الأقوال التي نقلت عن السلف يتضح كذب هؤلاء وزيف ادعائهم.
ومما ينبغي معرفته أن السلف مع إثباتهم لمعنى الاستواء واعتقادهم بأن الله مستو على عرشه ومرتفع عليه، إلا أنهم يكلون علم كيفية ذلك الاستواء إلى الله عز وجل لأن أمره هو مما استأثر الله بعلمه. وفي ذلك يقول القرطبي:"ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم-يعني في اللغة-والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة")
(2)
.
وقال ابن القيم: "إن العقل قد يئس من تعرف كنه صفات الله وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله. وهذا معنى قول السلف (بلا كيف)، أي: بلا كيف يعقله البشر، فإنه من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك. كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف كيفيتها مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا من معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم"
(3)
.
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 397).
(2)
تفسير القرطبي.
(3)
مدارج السالكين (3/ 359).
أقوال المخالفين
الفريق الأول: نفاة الاستواء
سبق أن ذكرنا أن المعطلة من الفلاسفة، والجهمية، والأشاعرة، والماتريدية، على الرغم من أن لكل واحد منهم منهجاً مستقلاً في مسألة الصفات يتفقون جميعاً على إنكار الصفات الاختيارية بما فيها صفة الاستواء، ويذهبون إلى تأويل الآيات القرآنية الواردة في إثباتها إلى ما أدت إليه عقولهم من المعاني الفاسدة التي يزعمون أن في ذلك تنزيهاً لله عن مشابهة المخلوقين.
وإن سبب ذلك التأويل الباطل هو اعتقاد هؤلاء المعطلة أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها النصوص، وذلك بسبب الشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الفلاسفة، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر-وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى-بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسميها هؤلاء المعطلة طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف.
وبهذا يتبين لنا أن هذا الباطل الذي ذهب إليه هؤلاء المعطلة إنما هو مركب من فساد العقل والكفر بالسمع، وذلك لأنهم إنما اعتمدوا في نفي تلك الصفات على شبه عقلية ظنوها بينات وهي في الحقيقة شبهات.
وبناء على المسلك الثاني الذي سلكه هؤلاء المعطلة من تأويل تلك النصوص، فقد تعددت أقوالهم واختلفت في المعنى الذي يجب أن يؤول إليه لفظ الاستواء الوارد في الآيات إلى عدة أقوال منها:
القول الأول:
من هؤلاء المعطلة من يؤول معنى الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} على الاستيلاء والقهر والغلبة.
وهذا القول يذهب إليه كثير من الجهمية
(1)
، والمعتزلة
(2)
، والحرورية
(3)
، وكثير من متأخري الأشاعرة
(4)
، كسيف الدين الآمدي
(5)
، والغزالي
(6)
، والبغدادي
(7)
، وغيرهم.
وقد استدل هؤلاء المعطلة على صحة زعمهم هذا بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء أمر مشهور في لغة العرب من ذلك:
قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ولا دم مهراق
وقال الآخر:
هما استويا بفضلهما جميعاً
…
على عرش الملوك بغير زور
وقال الآخر:
فلما علونا واستوينا عليهم
…
تركناهم صرعى لنسر كاسر
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى-أن بعضهم قد احتج بما رواه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد
(1)
انظر مجموع الفتاوى (5/ 96)، ومختصر الصواعق (2/ 144).
(2)
متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (1/ 73، 351).
(3)
انظر مجموع الفتاوى (5/ 66)، ومختصر الصواعق (2/ 144).
(4)
انظر تحفة المريد على شرح جوهرة التوحيد (ص 54).
(5)
انظر غاية المرام (ص 141).
(6)
انظر الاقتصاد في الاعتقاد (ص 104).
(7)
شرح الأصول الخمسة (ص 226).
عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال:"استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان"
(1)
.
ومن هؤلاء المعطلة من يبقي كلمة العرش الواردة في الآية على معناها الحقيقي الثابت، ويقول إنما خصص العرش بالذكر من بين جميع المخلوقات لكونه أعظم المخلوقات وأرفعها وأوسطها فخصص بالذكر تنبيهاً على ما دونه.
ومنهم من يؤول العرش الوارد في الآية بمعنى الملك
(2)
، ويزعم أن معنى الآية استولى واستعلى على الملك، ويقول أصحاب هذا القول إن الله قد عبر بالعرش كناية على الملك، لأنه يخاطب الناس على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم، واستقر في قلوبهم، ذلك أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، فجعل العرش كناية عن نفس الملك. ويستدل هؤلاء بأن هذا الأمر مشهور في اللغة، وكذلك بقوله تعالى في سورة يونس {ثُم اسْتَوَى عَلَى العَرْش يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ، فقالوا: إن قوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله: {اسْتَوَى عَلَى العَرْش}
(3)
.
الرد عليهم:
لقد أجمع السلف على أن هذا التأويل الذي ذهب إليه هؤلاء الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، ومتأخرو الأشاعرة، هو تأويل باطل ترده نصوص القرآن
(1)
التمهيد (7/ 132).
وقد أجاب ابن عبد البر على استدلالهم هذا بقوله: ((إن هذا الحديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولون وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث لو عقلوا وأنصفوا)) ا. هـ.
(2)
انظر شرح الأصول الخمسة (ص 226)، تفسير الرازي (14/ 15)، وأصول الدين للبغدادي (ص 112).
(3)
تفسير الرازي (14/ 115).
والسنة وإجماع الأمة، وهو قول لا أصل له في لغة العرب، بل هو تفسير لكلام الله بالرأي المجرد، لم يذهب إليه صاحب ولا تابع، ولا قاله إمام من أئمة المسلمين، ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون قول السلف.
ولبيان فساد هذا القول على وجه التفصيل نقول:
أولاً: أنه من المعلوم أن لفظ الاستواء قد ورد في القرآن الكريم في سبعة مواضع، وهذه المواضع جميعها قد اطرد فيها لفظ الاستواء دون الاستيلاء، وكذلك الأمر بالنسبة لما ورد في السنة، فلو كان معناه استولى-كما يزعم هؤلاء-لكان استعماله في أكثر موارده كذلك، فإذا جاء في موضع أو موضعين بلفظ استوى حمل على معنى استولى لأنه المألوف المعهود.
أما أن يُؤتى إلى لفظ قد اطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد فيدعى صرفه في الجميع إلى معنى لم يعهد استعماله فيه، فهذا أمر في غاية الفساد ولم يقصده ويفعله من قصد البيان، هذا لو لم يكن في السياق ما يأبى حمله على غير معناه الذي اطرد استعماله فيه، فكيف وفي السياق ما يأبى ذلك
(1)
.
ثانياً: ومما يرد هذا التأويل الباطل أن كلمة استوى قد جاءت بعد "ثم" التي حقها الترتيب والمهلة، فلو كان المعنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض، فإن العرش كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام كما ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء"
(2)
.
(1)
انظر مختصر الصواعق المرسلة (2/ 128 - 129).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر (8/ 51).
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} .
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض"
(1)
.
فالآيات والحديثان يدلان دلالة واضحة على أن العرش كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستولٍ على العرش إلى أن خلق السموات والأرض
(2)
.
ثالثاً: أن الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك عام في المخلوقات كالربوبية، والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره كما في قوله تعالى {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، فلو كان استوى بمعنى استولى كما هو عام في المخلوقات كلها لجاز مع إضافته للعرش أن يقال: استوى على السماء وعلى الهواء وعلى البحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها إذ هو مستو على العرش. فلما اتفق المسلمون على أن يقال: استوى على العرش، ولا يقال استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال: استولى على العرش والأشياء، علم أن معنى استوى خاص بالعرش وليس عاما كعموم الأشياء
(3)
.
رابعاً: أنه إذا فسر الاستواء بالغلبة والقهر عاد معنى الآيات كلها إلى أن الله تعالى أعلم عباده بأنه خلق السموات والأرض ثم غلب على العرش بعد ذلك وقهره
(1)
سيأتي تخريجه في قسم التحقيق فقرة (120).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 145).
(3)
المصدر السابق (5/ 144).
وحكم عليه! أفلا يستحي من الله من في قلبه أدنى وقار لله ولكلامه أن ينسب ذلك إليه وأنه أراد بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : أي اعلموا يا عبادي أني بعد فراغي من خلق السموات والأرض غلبت عرشي وقهرته واستوليت عليه
(1)
.
خامساً: إن ما يستند إليه هؤلاء المعطلة في زعمهم هذا من قولهم إن تفسير استوى باستولى أمر مشهور في اللغة، هو قول باطل مردود لأنه لم يثبت عند أحد من أهل اللغة أن لفظة استوى يصح استعمالها بمعنى استولى بل إن هذا القول منكر عند اللغويين.
فهذا ابن الأعرابي أحد علماء اللغة أتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؟ فقال: "هو كما أخبر عز وجل"، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه، إنما معناه استولى، قال: "اسكت ما أنت وهذا، لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاداً فإذا غلب أحدهما قيل استولى، أما سمعت النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقة
…
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
(2)
"وقد سئل الخليل بن أحمد: هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟
فقال: (هذا ما لا تعرفه العرب ولا هو جائز في لغتها).
والخليل إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا نعرف في اللغة هو قول باطل"
(3)
.
وكذلك فإنه قد روي عن جماعة من أهل اللغة قالوا: لا يجوز استوى بمعنى
(1)
مختصر الصواعق (2/ 140 - 141).
(2)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/ 399).
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 144، 149)
استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم ظهر، والله سبحانه لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى.
وقد روي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: "استوى: أقبل عليه وإن لم يكن معوجاً، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة 29]، و {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش}: علا، واستوى الوجه: اتصل، واستوى القمر: امتلأ، واستوى زيد وعمرو: تشابها واستوى فعلاهما وإن لم تتشابه شخوصهما، هذا الذي نعرفه من كلام العرب"
(1)
.
فبما تقدم من أقوال علماء اللغة يتضح لنا فساد زعم هؤلاء المعطلة وكذب ادعائهم بأن هذا القول مشهور في اللغة.
وأما ما استدل به هؤلاء من أبيات، كقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ولا دم مهراق
وقول آخر:
هما استويا بفضلهما جميعاً
…
على عرش الملوك بغير زور
فهذان البيتان لم يثبت نقل صحيح على أنهما شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروهما.
قال ابن فارس: "هذان البيتان لا يعرف قائلهما"
(2)
.
فهما على هذا بيتان مصنوعان، ومعلوم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده وقد طعن فيه أئمة اللغة.
قال أبو عمر بن عبد البر: "وأما ادعائهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/ 399 - 400).
(2)
زاد المسير لابن الجوزي.
المغالبة، والله لا يغالبه أحد ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله تعالى {اسْتَوَى} قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى: أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد"
(1)
.
وأما ما استدل به المعطلة من قول ابن عباس رضي الله عنهما فقد بين ابن عبد البر أنه مكذوب على ابن عباس ورواته مجهولون وضعفاء كما تقدم ذكره.
القول الثاني:
أن معنى استوى: أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} [فصلت 11]، أي عمد إلى خلق السماء.
وهذا هو قول بعض الجهمية
(2)
، وإليه ذهب الفراء، والأشعري، وابن الضرير، واختاره الثعلبي
(3)
.
الرد عليهم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الوجه من أضعف الوجوه، فإنه قد أخبر أن
(1)
التمهيد (7/ 131).
(2)
مختصر الصواعق (2/ 126).
(3)
انظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (2/ 8 - 9).
العرش على الماء قبل خلق السموات والأرض.
وكذلك ثبت في صحيح البخاري عن عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء
…
" فإذا كان العرش مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض، فكيف يكون استواؤه عمده إلى خلقه له؟!
هذا لو كان يعرف في اللغة أن استوى على كذا، بمعنى أنه عمد إلى فعله، فكيف إذا كان لا يعرف قط في اللغة لا حقيقة ولا مجازاً ولا في نظم ولا في نثر.
ومن قال استوى بمعنى عمد ذكره في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} لأنه عدى بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا وقصدت إلى كذا، ولا يقال عمدت على كذا ولا قصدت عليه، مع أن ما ذكر في تلك الآية لا يعرف في اللغة أيضاً ولا هو قول أحد من مفسري السلف بل المفسرون من السلف بخلاف ذلك"
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن قولهم هذا يتضمن أن يكون خلقه بعد خلق السموات والأرض، وهذا بخلاف إجماع الأمة، وخلاف ما دل عليه القرآن والسنة، وإن ادعى بعض الجهمية المتأخرين أنه خلق بعد خلق السموات والأرض وادعى الإجماع على ذلك، وليس العجيب من جهله، بل من إقدامه على حكاية الإجماع على ما لم يقله مسلم"
(2)
.
القول الثالث:
أن استوى بمعنى علا في هذه الآية، ولكن ليس المراد علو المسافة والمكان، وإنما المراد علو المكانة والقهر، وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من الأشاعرة منهم
(1)
مجموع الفتاوى (5/ 520 - 521).
(2)
مختصر الصواعق المرسلة (2/ 143).
أبو بكر بن فورك
(1)
، وهم بهذا القول جعلوا الاستواء صفة ذات وليست صفة فعل.
الرد عليهم:
أن الآيات والأحاديث قد أثبتت استواء الله على العرش حقيقة، ولو كان معنى الاستواء ههنا المراد به علو المكانة فإن الله لم يزل متعالياً على الأشياء قبل خلق العرش، فلما أضاف الاستواء على العرش فيجب على ذلك أن يكون لهذا التخصيص فائدة
(2)
.
القول الرابع:
وهو قول من يثبت الاستواء على أنه صفة للعرش وليس صفة لله تعالى.
وأصحاب هذا القول يقولون: إن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم به-أي بالله-فعل اختياري.
وهذا القول هو ما يقول به ابن كلاب، والأشعري
(3)
، وأئمة أصحابه المتقدمين كالباقلاني وغيره، وهو أيضاً قول القلانسي، ومن وافق هؤلاء من أتباع الأئمة وغيرهم من أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن عقيل في كثير من أقواله
(4)
.
(1)
كتاب مشكل الحديث لابن فورك (ص 193)، والأسماء والصفات للبيهقي (ص 518).
(2)
المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي بعلى (ص 54).
(3)
هذا القول لأبي الحسن الأشعري قاله عندما كان على قول ابن كلاب من نفي الأفعال الاختيارية عن الله تعالى.
(4)
مجموع الفتاوى (5/ 386، 437، 466)، (16/ 393).
الأسماء والصفات (517).
اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 64، 65).
والسبب الذي جعل هؤلاء القوم يمنعون جعل الاستواء صفة لله تعالى هو قولهم بنفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه وتعالى ولذلك يجعلون أفعاله اللازمة لذاته -كالنزول والاستواء-كأفعاله المتعدية-كالخلق والإحسان-، وقولهم في نفي الأفعال الاختيارية راجع إلى قولهم في صفات الله.
وهم يقولون: "إن الله هو الموصوف بالصفات، لكن ليست الصفات أعراضاً، إذ هي قديمة أزلية"
(1)
.
وحجتهم في منع قيام الحوادث بذات الله تعالى أنهم يقولون: "إن كل ما صح قيامه بالباري تعالى فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثاً، وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية من صفة الكمال، والخالي من الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص، والنقص على الله محال بإجماع الأمة.
وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الباري بأسرها صفات كمال، فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وهو أمر غير جائز"
(2)
.
الرد عليهم:
لقد اعتمد أصحاب هذا القول في منعهم كون الاستواء صفة لله تعالى على حجة منع قيام الحوادث بذاته تعالى، وهي حجة واهية وقد رد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "إن المقدمة التي اعتمد عليها هؤلاء وهي قولهم: إن الخالي من الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص. فيقال لهم: معلوم أن الحوادث المتعاقبة
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 36).
(2)
انظر كتاب ابن تيمية السلفي (ص 130).
لا يمكن الاتصاف بها في الأزل، كما لا يمكن وجودها في الأزل، وعلى هذا فالخلو عنه في الأزل لا يكون خلواً عما يمكن الاتصاف به في الأزل.
ثم إنه لم يثبت امتناع ما ذكر من النقص بدليل عقلي ولا بنص من كتاب ولا سنة، بل بما ادعوه من إجماع، وإذاً فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسألة النزاع.
وقولهم بإجماع الأمة على أن صفاته صفات كمال، فإن قصد بذلك صفاته اللازمة لم يكن في هذا حجة لهم، وإن قصد بذلك ما يحدث بمشيئته وقدرته لم يكن هذا إجماعاً فإن أهل الكلام يقولون إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفاً.
ثم إن هذا الإجماع الذي ادعوه حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين: أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاماً وفعلاً، والآخر لا يمكنه ذلك، بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور ولا مراد أو يكون بائناً عنه، لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني.
وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين أو مطلقاً أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك لكانت العقول تقصي بأن الأول أكمل، فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والقدرة صفات كمال، به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به والتي يفعل بها المفعولات المباينة له صفات كمال"
(1)
.
وكذلك مما يرد به على هذا القول ما قاله ابن القيم: "إنه لو كان الاستواء عائداً على العرش لكانت القراءة برفع العرش، ولم تكن بخفضه، فلما كانت بخفض
(1)
الموافقة بين صريح العقل وصحيح النقل (2/ 73 - 175)، ط: دار الكتب.
العرش دل على أن الاستواء عائد إلى الله تعالى"
(1)
.
الفريق الثاني: القول بالتفويض
ويذهب أصحاب هذا القول إلى إثبات لفظ الاستواء فقط مع التوقف في المعنى المراد، فهم يقولون: إن الاستواء ثابت في القرآن حيث إنه قد ورد في سبع آيات، وكذلك قد وردت به الأخبار الصحيحة وقبوله من جهة التوقف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية غير جائز وهو استواء لا نعلمه
(2)
.
وقد ذهب إلى هذا القول البيهقي في كتابه الاعتقاد
(3)
وهو أحد قولي الرازي
(4)
.
وهؤلاء في الحقيقة ينفون صفة الاستواء ولكن يتوقفون في المعنى الذي على زعمهم يجب تأويل اللفظ إليه.
وقد زعم كثير من الأشاعرة أن القول بالتفويض هو قول السلف
(5)
.
ويستدلون على نسبة هذا القول إلى السلف بعبارات نقلت عن السلف ظنوا أنها ترمي إلى القول بالتفويض كقول الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول أن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته جل وعلا".
وقول ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب".
(1)
انظر اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 64 - 65).
(2)
الاعتقاد للبيهقي (ص 115).
(3)
المصدر السابق.
(4)
تلخيص المحصل (ص 114).
(5)
الاعتقاد للبيهقي (ص 117)، الإتقان في علوم القرآن (2/ 6)، مناهل العرفان (2/ 183 - 183)، تحفة المريد (ص 91 - 92)، شرح الخريدة البهية (ص 75)، الأسماء والصفات (ص 517).
والقول بالتفويض هو مقصود هؤلاء القوم في قولهم: (إن طريقة السلف أسلم)، حيث إنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة 78].
الرد عليهم:
معلوم أن نسبة هذا القول إلى السلف إنما هي محض كذب وافتراء، ومن نسب هذا القول إلى السلف فإنما هو جاهل بطريقة السلف الذين لم يقولوا بهذا القول، ولم يرد عن واحد منهم أنه فوض معنى الاستواء، بل أن الوارد عنهم جميعاً أنهم يفسرون الاستواء بالمعنى المراد وهو العلو والارتفاع على العرش ويؤمنون بأن الله مستو على العرش حقيقة.
قال شيخ الإسلام: "وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً مثل أن الله فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك"
(1)
.
وقال في موضع آخر: "وقد فسر الإمام أحمد النصوص التي نسميها متشابهات فبين معانيها آية آية، وحديثاً حديثاً ولم يتوقف فيها هو والأئمة قبله مما يدل على أن التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف الألفاظ عن ظواهرها لم يكن مذهباً لأهل السنة وهم أعرف بمذهب السلف، وإنما مذهب السلف إجراء معاني آيات الصفات على ظاهرها بإثبات الصفات له حقيقة، وعندهم قراءة الآية والحديث
(1)
الفتوى الحموية (ص 64).
تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها"
(1)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "تنازع الناس في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية"
(2)
.
وأما بالنسبة إلى ما استدل به أصحاب هذا القول على أن القول بالتفويض هو مذهب السلف وذكرهم لقول الإمام مالك: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)، فليس المراد ههنا تفويض معنى الاستواء ولا نفي حقيقة الصفة، ولو كان المراد الإيمان بمجرد اللفظ من غير فهم على ما يليق بالله لما قال:(الكيف مجهول)، لأنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى
(3)
.
والاستواء على هذا المعنى لا يكون معلوما بل هو مجهول بمنزلة حروف المعجم، لكن الأمر على عكس ذلك، فنفى علم الكيفية؛ لأنه أثبت الصفة وأراد بقوله الاستواء معلوم معناه في اللغة التي نزل بها القرآن فعلى هذا يكون معلوماً في القرآن.
ومعلوم أن ادعاء هؤلاء أن مذهب السلف إنما هو القول بالتفويض سببه اعتقاد هؤلاء أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر-كان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى-فبقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف.
(1)
مجموع الفتاوى (17/ 414).
(2)
مختصر الصواعق (1/ 15).
(3)
الفتوى الحموية (ص 25).
وهذا التردد هو الذي وقع فيه من قال بالتفويض من هؤلاء كالبيهقي والرازي، فهم لم يلتزموا بهذا القول مطلقاً بل غالباً ما يخالفونه كما فعل الرازي في تأسيسه حيث جنح إلى التأويل وترك القول بالتفويض.
الفريق الثالث: قول المشبهة.
والمقصود بهم الهشامية
(1)
من الروافض، والكرامية
(2)
، وغيرهم.
وهؤلاء يثبتون استواء الله وارتفاعه فوق عرشه، إلا أنهم تعمقوا في الكلام على كيفية ذلك الاستواء.
فالهشامية مثلاً يقولون: إن الله تعالى مماس لعرشه لا يفضل منه شيء في العرش ولا يفضل عن العرش شيء منه
(3)
.
وأما الكرامية فقد تعددت أقوالهم في كيفية استوائه:
فمنهم من يقول: إنه على بعض أجزاء العرش.
ومنهم من يقول: إن العرش مكان له وإن العرش امتلأ به.
ومنهم من يقول: إنه لو خلق بإزاء العرش عروشاً موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكاناً له لأنه أكبر منها كلها.
ومنهم من يقول: إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدر مشغولا
(1)
هم أصحاب هشام بن عبد الحكم الرافضي من الإمامية، وتنسب إليه وإلى هشام بن سالم الجواليقي أحيانا، من الإمامية المشبهة.
انظر المقالات (1/ 31 - 34)، الملل والنحل (1/ 144 - 147).
(2)
هم أصحاب محمد بن كرام وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة وأصولها ستة هي: العابدية، والنونية، والزرينية، والإسحاقية، والواحدية، وأقربهم الهيصمية.
انظر الملل والنحل (1/ 144 - 147).
(3)
الملل والنحل (2/ 22).
بالجواهر لاتصلت به
(1)
.
وقول هؤلاء المشبهة إنما هو نتيجة لازمة لأقوالهم في صفات الله وكلامهم في ذاته.
فالهشامية يقولون: "إن الله جسم ذو أبعاض له قدر من الأقدار، ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات، ولا يشبهه شيء".
ونقل عنهم أنهم قالوا إنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وإن له مكاناً مخصوصاً ووجهة مخصوصة وإنه يتحرك وحركته فعله، وليست من مكان إلى مكان وهو متناه بالذات غير متناه بالقدرة، وإنه مماس لعرشه ولا يفضل منه شيء من العرش ولا يفضل عن العرش شيء منه"
(2)
.
وأما الكرامية فيقول ابن كرام: "إن معبوده مستقر على العرش استقراراً وإنه بجهة فوقَ ذاتاً وإنه أُحدي الذات أُحدي الجوهر وإنه مماس للعرش من الصفحة العليا".
ولهم في معنى العظم خلاف فقال بعضهم: "إنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش والعرش تحته وهو فوقه كله على الوجه الذي هو فوق جزء منه".
وقال بعضهم: "أنه يلاقى مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد، وهو يلاقى جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم".
وقالت المهاجرية منهم: إنه لا يزيد على عرشه في جهة المماسة ولا يفضل منه شيء على العرش، وهذا يقتضي أن يكون عرضه كعرض العرش.
(1)
الملل والنحل (1/ 144 - 147).
(2)
المصدر السابق (2/ 22).
وصار المتأخرون منهم إلى أنه تعالى بجهة فوق وأنه محاذ للعرش"
(1)
.
الرد عليهم:
هذا القول للمشبهة يتضمن حقاً وباطلاً.
فالحق فيه هو: اعترافهم بعلو الله واستوائه على عرشه وأنه بائن من خلقه والخلق بائنون عنه.
وأما الباطل فهو: كلامهم في ذات الله والتعرض لكيفية استوائه، وهو كلام باطل وفاسد ليس لهم به دليل من القرآن أو السنة، بل هو قول على الله بغير علم فالله سبحانه وتعالى لم يطلعنا على كيفية ذاته فأنّى لنا أن نعلم كيفية صفاته، وأمر الكيفية هو مما استأثر الله بعلمه قال تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة 255].
ومما يدلنا على فساد هذا القول وعدم وجود دليل لأصحابه على ما يقولون هو اختلاف آرائهم وأقوالهم عند الحديث عن ذات الله وكيفية استواءه. فمن خلال عرض أقوالهم يتضح اختلافهم وتناقضهم، وما ذاك إلا لأنّهم يفترون على الله الكذب قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيراً} [النساء 82].
والسؤال الذي ينبغي أن يوجه إلى هؤلاء المشبهة في هذا المقام هو: أين الدليل من الكتاب أو السنة على ما تزعمون؟
والجواب معروف وهو أنه لا دليل لهم على ذلك لا من القرآن ولا من السنة.
ومما ينبغي معرفته أن الكلام على كيفية ذات الله أو كيفية استوائه أو غيرها من الصفات هو أمر غير جائز عند السلف ويحرم الخوض فيه بل يبدعون السائل عن ذلك، ولذلك بدع الإمام مالك السائل الذي سأله عن كيفية استواء الباري عز وجل، حيث قال له: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به
(1)
انظر كتاب التجسيم عند المسلمين (ص 205).
واجب، وما أراك إلا رجل سوء، وأمر بإخراجه)، وما قاله الإمام مالك هو الذي جاءت به النصوص وهو الذي سار عليه السلف جميعاً.
الأمر الثالث: أنه "ليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله"
وفي المقابل لو جئت إلى القوم فقلت لهم: أين دليلكم من كلام الله تعالى أو من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم-أو من المأثور عن الصحابة والتابعين أو تابعي التابعين؟، أعطونا دليلاً واحداً يؤكد على صحة ما تزعمون، وما تقولون؟
فليس عند القوم الذين خالفوا كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، دليل من كلام الله تعالى ولا من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا من كلام السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، أو من أئمة الدين المشهورين المعروفين كالأئمة الأربعة - رحمهم الله تعالى.
فهذا يوضح أن هؤلاء ليس لهم في هذا الميراث من نصيب، وليس لهم حظٌّ، بل ساحتهم خالية من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا يرون لهذا قيمة.
لو قدر وقوع تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع لا العقل وذلك لأمور:
1 -
أن العقل قد صدَّق الشرع ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره، ومعلومٌ أن الشرع لم يصدِّق العقل في كل ما أقرَّه أو أخبر به.
2 -
أن العقل دلَّ على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وعلى وجوب طاعته فيما أمر.
3 -
أن العقل يغلط كما يغلط الحس، بل أكثر، فإذا كان حكم الحس من أقوى الأحكام ويعتريه الغلط؛ فما ظنُّك بالعقل؟
4 -
أن العقل له حدود يقف عندها ولا يستطيع أن يتجاوزها، خصوصاً فيما يتعلَّق بالله وصفاته وما أخبر به من أمور الغيب، وأما الشرع فلا يقارن بالعقل في هذا المجال، بل ولا في غيره، قال ابن القيّم:» إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النَّقل، لأن الجمع يبن المدلولين، جمع بين النقيضين، وإبطالهما معاً إبطال للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دلّ على صحّة السّمع ووجوب قبول ما أخبر الرسول فلو أبطلنا النّقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا بطلت دلالته لم يصح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة الدَّليل «.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن تأويلات المعطلة: "وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علماً يقيناً أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه، وهؤلاء كثيراً ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض، فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده متكلم بلفظه، لا يقصدون طلب مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده، وعلى الوجه الذي به يعرف مراده، فصاحبه كاذب علي من تأول كلامه، ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ • لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} فيتخيل أنه إذا كان مستويًا على العرش كان محتاجًا إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو انخرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدّابة لخر المستوي عليها.
(1)
درء تعارض العقل والنقل: 1/ 11
فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب تبارك وتعالى، ثم يريد- بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار.
ولا يعلم أن مسمى «القعود» و «الاستقرار» ، يقال فيه ما يقال في مسمى «الاستواء» !، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستويا ولا مستقرا ولا قاعدا، وإن لم يدخل في مسمى ذلك، إلا ما يدخل في مسمى «الاستواء» فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكُّم.
وقد عُلم أن بين مسمى «الاستواء» و «الاستقرار» و «القعود» فروقا معروفة، ولكن المقصود هنا أن يُعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره.
وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك.
وليس في اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك.
فلم يذكر استواءً مطلقا يصلح للمخلوق، ولا عاما يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواءً أضافه إلى نفسه الكريمة.
فلو قُدِّر- على وجه الفرض الممتنع- أنه هو مثل خلقه- تعالى الله عن ذلك- لكان استواؤه مثل استواء خلقه.
أما إذا كان هو ليس مماثلا لخلقه، بل قد عُلم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواءً يخصه، لم يذكر استواءً يتناول غيره ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به- فكيف يجوز أن يُتوهم أنه إذا كان
مستويًا على العرش كان محتاجًا إليه، وأنه لو سقط العرش لخرّ من عليه! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا.
هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك، أو توهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوَّز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق. بل لو قُدِّر أن جاهلا فهم مثل هذا، أو توهمه لبُيِّن له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلا، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه.
فلما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زُبُل ومجارف وأعوان وضرب لبن وجَبْل طين؟
ثم قد عُلم أن الله تعالى خلق العالَم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقرًا إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقرًا إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضًا فوق الأرض، وليس مفتقرًا إلى أن تحمله، والسموات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها- فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه كيف يجب أن يكون محتاجًا إلى خلقه، أو عرشه! أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات! وقد عُلم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأَوْلَى.
الشرح
تكلم المصنف على بعض الشبه التي يوردها المعطلة الذين فهموا-خطأ-من قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . وما في معناه من النصوص أنه تعالى جالس على العرش، وأنه محتاج إليه، فشبهوه بإنسان جالس على سريره، محتاجاً إليه، فأرادوا أن يفروا من هذا التشبيه الذي وقعوا فيه لسوء فهمهم، فوقعوا في
التعطيل.
فقال المصنف ذاكرًا بعض ما توهمه المعطلة: "فيتخيل أنه إذا كان مستويًا على العرش كان محتاجًا إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو انخرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدّابة لخر المستوي عليها. فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب تبارك وتعالى، ثم يريد- بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار".
ورد المصنف على هذه الشبهة بعدة ردود
أولًا: أن ما زعمه هذا المعطل من إعطاء لوازم المخلوق للخالق "كان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك".
أي أنه أتي من جهة فهمه لا من جهة ما دل عليه النص، حيث فهم أن استواء الله كاستواء الإنسان الذي من طبيعته أنه يحتاج إلى ذلك الشيء الذي يحمله سواء كان على ظهر دابة أو على ظهر سفينة أو غير ذلك من الأشياء التي يستوى عليها، وذلك ما يطلق عليه ويصطلح عليه بما يسمى قانون الجاذبية حيث عرف أنّ هناك قوّة جذبٍ للأرض تجذب الأجسام نحوهها.
وعرف أن هذه الجاذبية للأرض تكون إلى حد معين في الغلاف الجوي للأرض، وبعد هذه المسافة تتلاشى هذه القوة الجاذبة.
فهذا المعطل وقع في التشبيه أولًا، قال المصنف:"هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك، أو توهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوَّز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق".
ومثل هذا الكلام ما كان ليصدر من شخص يزعم أنه عالم يتكلم في المسائل الإلهية، وقال المصنف: "بل لو قُدِّر أن جاهلا فهم مثل هذا، أو توهمه لبُيِّن له أن هذا
لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلا، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه". فهذا الكلام لو صدر من جاهل لعلم وفهم بأن قول مثل هذا الكلام لا يجوز في حق الله، ولوضح له أن اللفظ لا يدل على هذا المعنى لا في هذه الصفة ولا في نظائرها من سائر الصفات الواردة في نصوص القرآن والسنة.
وقال المصنف"فلو قُدِّر- على وجه الفرض الممتنع- أنه هو مثل خلقه- تعالى الله عن ذلك- لكان استواؤه مثل استواء خلقه".
أي أن هذا الفهم الفاسد لا يقوم إلا افتراض ممتنع أن الله هو مثل خلقه، وبالتالي يكون استواؤه مثل استواء خلقه؛ "أما إذا كان هو ليس مماثلا لخلقه" فيجب على ذلك أن نثبت له استواءً يختص به ويليق بجلاله لا يشبه فيه أحدًا من خلقه.
وقوله: "ثم يريد- بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار".
أي أراد هذا المعطل أن ينفر من إثبات صفة الاستواء باستعمال لفظ القعود والاستقرار، قصدًا منه في تنفير السامع من إثبات الصفة.
فقال المصنف معلقًا على هذا الاستعمال: "ولا يعلم أن مسمى «القعود» و «الاستقرار»، يقال فيه ما يقال في مسمى «الاستواء»!، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستويا ولا مستقرا ولا قاعدا، وإن لم يدخل في مسمى ذلك، إلا ما يدخل في مسمى «الاستواء» فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكُّم".
أي لو سلم للخصم استعمال هذه الألفاظ-جدلًا-مكان لفظ الاستواء، فإن كان الخصم يعني بذلك أن الله في ذلك سيكون محتاجًا للعرش وأنه محمول عليه،
فلا فرق إذا بين استعمال هذه الألفاظ الثلاثة من جهة رفض المعنى الذي عناه هذا الخصم، وإن كان لم يعني الاحتياج والافتقار وأن المقصود اثبات استواء يليق بجلاله فهكذا الشأن في استعمال لفظ الاستقرار والقعود إذا قصد به المعنى الحق، وعليه فإن إثبات إحد هذه الألفاظ ونفي الآخر يعد تحكمًا.
وقال المصنف: "وقد عُلم أن بين مسمى «الاستواء» و «الاستقرار» و «القعود» فروقا معروفة، ولكن المقصود هنا أن يُعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره".
يشير المصنف إلى أن هناك فروقًا معروفة في اللغة بين مسمى "الاستواء" ومسمى "الاستقرار" ومسمى "القعود"، ومع أن هذه الفروق ليست من مقصود المصنف بيانها إلا أن الشرح يقتضي الحديث عن هذه الألفاظ الثلاثة واستعمالاتها.
فالاستواء في اللغة فسر بعدة معان تعود إلى الاستعمال الذي ورد فيه هذا اللفظ كما تقدم ذكره من أن لفظ الاستواء يرد مطلقًا ويرد مقيدًا
قال ابن القيم رحمه الله: "إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله بلغتهم وأنزل به كلامه نوعان: مطلق، ومقيد.
فالمطلق: مالم يوصل معناه بحرف مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص 14]، وهذا معناه: كمل وتم، ويقال: استوى النبات، واستوى الطعام.
وأما المقيد فثلاثة أضرب:
أحدها: مقيد "بإلى" كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المعدى بإلى في موضعين من كتابه، الأول في سورة البقرة في قوله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة 29]، والثاني في سورة فصلت {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} [فصلت 11]، وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف.
الثاني: المقيد "بعلى" كقوله تعالى {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف 13]، وقوله {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود 44]، وقوله {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح 29]، وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون "بواو مع" التي تعدى الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة، بمعنى ساواها وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم"
(1)
.
قال أبو عبيدة في قوله {اسْتَوَى} قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف الآية: 13]، وقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود 44]، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون 28].
وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بضبضاء قفرة
…
وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وقد ذكر النضر بن شميل-وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة-قال: "حدثني الخليل-وحسبك بالخليل-قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال؟ فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} [فصلت 11]، فصعدنا إليه"
(2)
.
وقال ابن القيم: "إن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه
(1)
انظر مختصر الصواعق المرسلة (2/ 126 - 127).
(2)
التمهيد (7/ 131 - 132).
جميع أهل اللغة والتفسير المقبول"
(1)
.
ولما كان هذا هو معنى الاستواء في لغة العرب فقد تكلم السلف والمفسرون بهذا المعنى عند تفسير هذه الآية، فقد روي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش} قال: علا على العرش
(2)
.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن أبي العالية في تفسير الآية السابقة الذكر قال: ارتفع
(3)
.
وقد روي عن الحسن البصري والربيع بن أنس مثله
(4)
.
وقد روى اللالكائي بسنده عن بشر بن عمر قال: "سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، قال: على العرش استوى: ارتفع"
(5)
.
ولفظ الاستقرار فيه معنى الثبات وهو خلاف الاضطراب، وقد استعمل هذا اللفظ في تفسير معنى الاستواء كما نقله ابن القيم من كلام أبي عبيدة حيث قال:" قال أبو عبيدة في قوله {اسْتَوَى} قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، والاستواء الاستقرار في العلو"
وقال أبو عمر ابن عبد البر: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله تعالى
(1)
انظر مختصر الصواعق (2/ 145).
(2)
انظر فتح الباري (13/ 403).
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 519).
(4)
مجموع الفتاوى (5/ 519).
(5)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 397).
{اسْتَوَى} قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى: أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد"
(1)
. وبهذه النقول يتضح أن معنى الاستقرار داخل في تفسير الاستواء.
والقعود: هو خلاف القيام.
وقال الفراء: {ثُمَّ اسْتَوَى} أي صعد
(2)
، قاله ابن عباس وهو كقولك: الرجل كان قاعداً ثم استوى قائما"
(3)
.
وقد ورد لفظ القعود نصًا في حديث عمر قال: "أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: ادعُ الله أن يدخلني الجنة. فعظم الرب، فقال: "إن كرسيه فوق السموات، وإنه يقعد عليه فما يفضل منه إلا أربع أصابع"
(4)
.
(1)
التمهيد (7/ 131).
(2)
في (ب)(قعد).
(3)
الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 310).
وذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 264) وقال: "قلت: مراد الفراء اعتدال القائم والقاعد في صعوده عن الأرض".
(4)
أخرجه الدارمي في الرد على المريسي (ص 74)، مرسلا. وابن أبي عاصم في السنة (1/ 251 - 252، برقم 574). وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 301، ح 585) موقوفا من قول عمر. وابن جرير في تفسيره (3/ 11) من طريق عبد الله بن أبي الزناد، قال: ثنا يحي بن أبي بكير، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة الهمداني، عن عمر.
وقد أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 244، 245 برقم 150) وقال: "وقد روى إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة أظنه عن عمر "- وذكره. وقال: حدثنا، يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال حدثنا يحي بن أبي بكير، قال: ثنا إسرائيل، قال أبو بكر: ما أدري، الشك والظن أنه عن عمر، هو من يحي بن أبي بكير، أم من إسرائيل.
قد رواه وكيع بن الجراح مرسلاً ليس فيه ذكر عمر لا بيقين ولا ظن، وليس هذا الخبر من شرطنا، لأنه غير متصل الإسناد، لسنا نحتج في هذا الجنس من العلم بالمراسيل المنقطعات" اهـ. والبزار في مسنده (1/ 457، برقم 325).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرجه الدارقطني في الصفات (ص 48) موقوفا.
وابن بطة في الإبانة (كتاب الرد على الجهمية)(3/ 178 - 180).
والخطيب في تاريخه (8/ 52) مرسلا.
وأورده ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 5) وقال بعد سياقه للحديث: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده مضطرب جدًا، وعبد الله بن خليفة ليس من الصحابة، فتارة يرويه ابن خليفة عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة يقفه على عمر، وتارة يوقف على ابن خليفة" اهـ.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 84) وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح".
وأورده ابن كثير في تفسيره (1/ 310) وعزاه للبزار في مسنده، وعبد بن حميد، وابن جرير في تفسيرهما، والطبراني، وابن أبي عاصم في كتاب السنة لهما، والحافظ الضياء في كتاب المختارة. وقال ابن كثير:"من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة وليس بذاك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر، ثم منهم من يرويه عن عمر موقوفاً، ومنهم من يرويه عن عمر مرسلاً، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها" اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "حديث عبد الله بن خليفة المشهور الذي يروى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في "مختاره". وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه، كما فعل ذلك أبو بكر الإسماعيلي، وابن الجوزي، وغيرهم. لكن أكثر أهل السنة قبلوه. وفيه قال "إن عرشه" أو "كرسيه" "وسع السموات والأرض، وإنه يجلس عليه فما يفضل منه قدر أربع أصابع" أو "فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع" "وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه". ولفظ (الأطيط) قد جاء في حديث جبير بن مطعم. الذي رواه أبو داود في السنن. وابن عساكر عمل فيه جزءاً، وجعل عمدة الطعن في ابن إسحاق. والحديث قد رواه علماء السنة كأحمد، وأبي داود، وغيرهما، وليس فيه إلا ما له شاهد من رواية أخرى. ولفظ "الأطيط" قد جاء في غيره. وحديث ابن خليفة رواه الإمام أحمد وغيره مختصراً، وذكر أنه حدث به وكيع. لكن كثيراً ممن رواه رووه بقوله: "إنه ما يفضل منه إلا أربع أصابع"، فجعل العرش يفضل منه أربعة أصابع. واعتقد القاضي، وابن الزاغوني، ونحوهما، صحة هذا اللفظ، فأمروه وتكلموا على معناه بأن ذلك القدر لا يحصل عليه الاستواء. وذكر عن ابن العايذ أنه قال: "هو موضع جلوس محمد صلى الله عليه وسلم". والحديث قد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره، ولفظه "وإنه ليجلس عليه، فما يفضل منه قدر أربع أصابع" بالنفي. فلو لم يكن في الحديث إلا اختلاف الروايتين -هذه تنفي ما أثبتت هذه-. ولا يمكن مع ذلك الجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الإثبات، وأنه يفضل من العرش أربع أصابع لا يستوي عليها الرب. وهذا معنى غريب ليس له قط شاهد في شيء من الروايات. بل هو يقتضي أن يكون العرش أعظم من الرب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأكبر. وهذا باطل، مخالف للكتاب والسنة، وللعقل. ويقتضي أيضاً أنه إنما عرف عظمة الرب بتعظيم العرش المخلوق وقد جعل العرش أعظم منه. فما عظم الرب إلا بالمقايسة بمخلوق وهو أعظم من الرب. وهذا معنى فاسد، مخالف لما علم من الكتاب والسنة والعقل. فإن طريقة القرآن في ذلك أن يبين عظمة الرب، فإنه أعظم من كل ما يعلم عظمته. فيذكر عظمة المخلوقات ويبين أن الرب أعظم منها. كما في الحديث الآخر الذي في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما (حديث الأطيط) لما قال الأعرابي:"إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله تعالى، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: "ويحك! أتدري ما تقول؟ أتدري ما الله؟ شأن الله أعظم من ذلك. إن عرشه على سمواته هكذا" -وقال بيده مثل القبة- "وإنه ليأط به أطيط الرحل الجديد براكبه". فبين عظمة العرش، وأنه فوق السموات مثل القبة. ثم بين تصاغره لعظمة الله، وأنه يأط به أطيط الرحل الجديد براكبه، فهذا فيه تعظيم العرش، وفيه أن الرب أعظم من ذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتعجبون من غيرة سعد! لأنا أغير منه، والله أغير مني". وقال:"لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن". ومثل هذا كثير. وهذا وغيره يدل على أن الصواب في روايته النفي، وأنه ذكر عظمة العرش، وأنه مع هذه العظمة فالرب مستوٍ عليه كله لا يفضل منه قدر أربعة أصابع. وهذه غاية ما يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان، كما يقدر في الميزان قدره فيقال:(ما في السماء قدر كف سحاباً). فإن الناس يقدرون الممسوح بالباع والذراع، وأصغر ما عندهم الكف. فإذا أرادوا نفي القليل والكثير قدروا به، فقالوا:(ما في السماء قدر كف سحاباً)، كما يقولون في النفي العام {إِنَّ الله لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَةٍ} و {لَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير} ، ونحو ذلك. فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يفضل من العرش شيء ولا هذا القدر اليسير الذي هو أيسر ما يقدر به وهو أربعة أصابع. وهذا معنى صحيح موافق للغة العرب، وموافق لما دل عليه الكتاب والسنة، موافق لطريقة بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، له شواهد. فهو الذي يجزم بأنه في الحديث. ومن قال:(ما يفضل إلا مقدار أربع أصابع) فما فهموا هذا المعنى، فظنوا أنه استثنى، فاستثنوا، فغلطوا. وإنما هو توكيد للنفي وتحقيق للنفي العام. وإلا فأي حكمة في كون العرش يبقى منه قدر أربع أصابع خالية، وتلك الأصابع أصابع من الناس، والمفهوم من هذا أصابع الإنسان. فما بال هذا القدر اليسير لم يستو الرب عليه؟. والعرش صغير في عظمة الله تعالى. وقد جاء حديث رواه ابن أبي حاتم في قوله {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام الآية: 103 [لمعناه شواهد تدل على هذا فينبغي أن نعتبر الحديث، فنطابق بين الكتاب والسنة. فهذا هذا والله أعلم. قال حدثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام الآية: 103]، قال:"لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا، صفوا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله أبداً". وهذا له شواهد، مثل ما في الصحاح في تفسير قوله تعالى {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر الآية 67].، قال ابن عباس:"ما السموات السبع والأراضون السبع ومن فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". ومعلوم أن العرش لا يبلغ هذا، فإن له حملة وله حول. قال تعالى {اَلذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} ". اهـ. مجموع الفتاوى (16/ 434 - 439). وانظر المسألة كذلك في منهاج السنة (2/ 628 - 631).
وقد ورد تفسير لفظ الاستواء بالقعود في كلام بعض العلماء ومن ذلك:
قال القاضي أبو يعلى: "فذهب شيخنا أبو عبد الله -يعني ابن حامد- أنه نزول انتقال، وقال: لأن هذا حقيقة النزول عند العرب، وهذا نظير قوله في الاستواء، يعني قعد، وهذا على ظاهر حديث عبادة بن الصامت
(1)
"
(2)
.
فالقعود على الشيء، والاستقرار على الشيء، والاستواء على الشيء، فقد يكون قعوداً بلا استقرار والعكس كذلك. وأما الاستواء فإنه يتضمن الاستقرار، فكل استواء استقرار وليس كل استقرار استواءً.
ثانيًا: أن الله متصف بصفة الغنى وهذا يعني أنه لا يحتاج لأحد من خلقه بل الخلق محتاجون مفتقرون إليه.
قال المصنف: "بل قد عُلم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه" فهو سبحانه الخالق للعرش وما سواه من المخلوقات، وهذه كلها جميعًا مفتقرة إليه سبحانع وتعالى.
ثالثًا: أن صفة الاستواء وردت هنا مضافة إلى الله، وما أضيف إليه يكون مختصًا به لا يلزمه لوازم المخلوقين فقال: "وليس في اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم
(1)
يعني بحديث عبادة بن الصامت الذي فيه "ثم يعلو تبارك وتعالى على كرسيه".
(2)
كتاب اختلاف الروايتين والوجهين -مسائل من أصول الديانات- (ص 55).
استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك.
فلم يذكر استواءً مطلقا يصلح للمخلوق، ولا عاما يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواءً أضافه إلى نفسه الكريمة".
فالقول في إثبات الاستواء صفة لله تعالى كالقول في باقي الصفات هو أن يثبت لله تعالى على الوجه المختص واللائق به، ومن ذلك أن الله في استوائه كما هو الشأن في علوه لا يحتاج إلى أحد من خلقه ولا يفتقر إليه، وأنه سبحاه منزه من جميع لوازم المخلوقين، ومن صفاته عز وجل اللازمة أنه متصف بصفة الغنى فهو لا يحتاج إلى أحد من خلقه.
فإذاً تُثبتُ ما أثبته الله لنفسه؛ لأن الله أخبر بذلك، ومع إثبات ذلك يجب أن تعتقد أن الله تعالى لا يماثله ولا يساويه في ذلك أحدٌ من خلقه، مع عدم الخوض في كيفية الاستواء.
فالمقصود والمراد من نفي المماثلة أن لله خصائص، أي أمورٌ يختص بها لا يماثله في ذلك أحدٌ من خلقه.
رابعًا: قول المصنف: "أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأَوْلَى".
وضرب المصنف هنا مثالين:
المثال الأول: ضرب مثلًا بلفظ: (البناء) من جهة الفرق بين المخلوق والمخلوق. فقال المصنف: "فلما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زُبُل ومجارف وأعوان وضرب لبن وجَبْل طين؟ "
أي هل يقال عن بناء السماء أنها مثل بناء الإنسان لبيت ونحوه باعتبار أن لفظ البناء ورد في الأمرين، فلا يعقل أن يتوهم عاقل في السماء أن بناءها "مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زُبُل ومجارف وأعوان وضرب لبن وجَبْل طين؟ "
المثال الثاني: قوله: "ثم قد عُلم أن الله تعالى خلق العالَم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقرًا إلى سافله"
وأعطى أمثلة على ذلك:
المثال الأول: "فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقرًا إلى أن تحمله الأرض".
المثال الثاني: "والسحاب أيضًا فوق الأرض، وليس مفتقرًا إلى أن تحمله"
المثال الثالث: "والسموات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها"
فإذا كان هذا حال المخلوق مع المخلوق "فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه كيف يجب أن يكون محتاجًا إلى خلقه، أو عرشه! أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات! وقد عُلم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأَوْلَى".
فاستخدم المصنف هنا قياس الأولى في إثبات كون اتصاف الله بصفة الاستواء لا يلزم منه الاحتياج والافتقار كما زعم المعطل، فإذا كان بعض المخلوقات كالهواء والسحاب والسموات لا تفتقر في علوها لما هو أسفل منها، فإنه من باب أولى أن يكون الله في استوائه غير مفتقر لا للعرش ولا لحملته ولا إلى غير ذلك من خلقه.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكذلك قوله: {أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك الآية: 16]، من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات، فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء، يقتضي ذلك، فإن حرف «في» متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه. ولهذا يُفرَّق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحَيِّز، وكون العَرَض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف «في» مستعملا في ذلك كله.
فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء. ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: الجنة في السماء. ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات، بل ولا الجنة.
فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن). فهذه الجنة، سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ} [الحج الآية: 15]، وقال تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان الآية: 48].
ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله:{مَنْ فِي السَّمَاءِ} : أنه في السماء، أنه في العلو وأنه فوق كل شيء.
وكذلك الجارية لما قال لها: (أين الله؟). قالت: في السماء، إنما أرادت العلو مع
عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها.
وإذا قيل: «العلو» ، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق.
وإذا قُدِّر أن «السماء» المراد بها الأفلاك كان المراد أنه عليها، كما قال:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه: 71]، وكما قال:{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران الآية: 137]، وكما قال:{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة الآية: 2]، ويقال: فلان في الجبل، وفي السطح. وإن كان على أعلى شيء فيه".
الشرح
من الأمثلة التي أوردها المصنف فيما يتعلق بإجراء النصوص على ظاهرها قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك الآية: 16]،
وقد أورد المصنف شبهة "من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات"، وبين أن من قال بهذا "فهو جاهل ضال بالاتفاق" فالآية لا تدل على ذلك ولا تحتمل هذا المعنى.
ورد على هذا التوهم من عدة أوجه:
الوجه الأول: إن حرف «في» متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه.
فإن "في" يختلف معناها بحسب متعلقها، وضرب المصنف عدة أمثلة لذلك:
المثال الأول: "إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء". فإن الظرفية تقتضي هنا
أن كلا من الشمس والقمر في داخل السماء وأن السماء تحويهما.
المثال الثاني: "كون الشيء في المكان". يقتضي ظرفية المكان للشيء، أي أنه قد يتسع لغيره.
المثال الثالث: "وكون الجسم في الحَيِّز". يقتضي ظرفية الحيز للجسم مع شغل الجسم لكل ذلك المقدار من المكان، فالحيز ما شغله الجسم من الفراغ، وعلى هذا فالحيز لا يسع غير الجسم المتحيز فيه.
المثال الرابع: "وكون العَرَض في الجسم". يقتضي الاتصال والظرفية، بمعنى أنه قائم به.
المثال الخامس: "وكون الوجه في المرآة". لا يقتضي الظرفية، أي أن الذي يشاهد في المرآة هو الصورة أي: صورته.
المثال السادس: "وكون الكلام في الورق". لا يقتضي الظرفية، وإنما المداد بشكله المعين.
إذن فلكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره"
(1)
فقال المصنف: "فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف «في» مستعملا في ذلك كله".
حرف "في": حرف جر يدل على الظرفية.
(2)
ولها معانٍ أخرى
(3)
، والأصل فيها
(1)
انظر: التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية 1/ 175.
(2)
الظرف: اسم منصوب، يقع الحدَث فيه، فيكون كالوعاء له؛ ثم إن دلّ على زمان، سُمّي:[ظرف زمان]، أو على مكان، سُمّي:[ظرف مكان].
(3)
(في) لها ستةُ مَعَانٍ:
1 -
الظرفية حقيقيةً مكانيَّةً أو زمانيةً، وهو المعنى الرئيس لها، نحو:(فِي أَدْنَى الأرْضِ)، ونحو:(في بِضْعِ سِنِينَ). أو مجازية، نحو:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ).
2 -
السّبية، نحو:(لَمَسَّكُمْ فيِمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
3 -
المُصاحبة، نحو:(قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ).
4 -
الاستعلاءُ، نحو:(لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)] سورة طه: 71]،.
5 -
المُقَايَسَة، نحو:(فَمَا مَتَاعُ الْحَياَةِ الدُّنْيَا فيِ الآخِرَةِ إلاّ قَليِلٌ).
6 -
بمعنى الباء نحو: (بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الأبَاهِرِ وَالكُلَى).
الظرفية، ولكن هذه الظرفية تختلف بحسب ما قبلها وما بعدها، وهكذا صار لكل تركيب معنى يخصه، وأفادت "في" في كل تركيب معنى خاصاً.
والتَّصريح بأنه سبحانه في السَّماء، وهذا عند أَهْل السُّنَّة على أحد وجهين:
الوجه الأول: إما أن تكون «في» بمعنى «على» -كما أشار إلى ذلك المصنف-كما جاءت بمعناها في مثل قوله تعالى: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)[آل عمران: 137]؛ أي: على الأرض، وقوله عن فرعون:(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)[طه: 71]؛ أي: على جذوع النخل، وعلى هذا فيكون معنى قوله تعالى:(أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاءِ)[الملك: 16]؛ أي: على السماء، أي: فوقه، والله تعالي فوق السموات وفوق كل شيء
…
إلخ
الوجه الثاني: وإما أن يراد بالسَّماء العلو، لا يختلفون في ذلك.
ولا يجوز حملُ النَّصِّ على غيره.
ليس معنى كونه في السماء أن السماء تحويه وتحيط به وتحصره، أو هي محل وظرف له، بل هو سبحانه محيط بكل شيء وسع كرسيه السموات والأرض، وهو فوق كل شيء وعالٍ على كل شيء
(1)
.
وقول المصنف: "فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء. ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: الجنة في السماء. ولا يلزم من
(1)
انظر كتاب موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من قضية التأويل (381 - 385).
ذلك أن يكون العرش داخل السموات، بل ولا الجنة.
فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن). فهذه الجنة، سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ} [الحج الآية: 15]، وقال تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان الآية: 48 [".
يشير به هنا إلى المعنى الآخر من معاني الآية كما أسلفنا وهو أن تكون في بمعنى على والسماء المقصود بها العلو.
وأعطى لذلك مثالين:
المثال الأول: (العرش) في قوله: "فلو قال قائل العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء".
المثال الثاني: (الجنة) في قوله: "ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: الجنة في السماء".
فمعنى (في) هنا بمعنى علا، وعلى هذا المعنى "لا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات، بل ولا الجنة".
واستدل المصنف على أن السماء هنا يراد بها العلو بأدلة منها:
الدليل الأول: "ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن). فهذه الجنة، سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها.
فالعرش هو أعلى المخلوقات، وأعظمها، وسقفها، وهو كالقبة على العالم وما
تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة:
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين في كتابه "أصول السنة": "ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق
…
"
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما العرش فإنه مقبب، لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول جهدت الأنفس، وجاع العيال -وذكر الحديث إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله على عرشه وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا" وقال بأصابعه مثل القبة
…
وفي علوه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة"
(2)
.
فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات، وسقفها، وأنه مقبب
…
"
(3)
.
وقال ابن تيمية: "فقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن سقفها عرش الرحمن قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقه عرش الرحمن)) "
(4)
.
الدليل الثاني: "قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ} [الحج الآية: 15]، "
الدليل الثالث: "وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان الآية: 48 [".
(1)
أصول السنة (ص 88).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحيه، كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلمَاءِ} . فتح الباري (13/ 404).
(3)
الفتاوى (5/ 151).
(4)
نقض التأسيس (1/ 155).
المراد لو أن قائل قال: قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، هذا يُفهم منه أن الله داخل السماء وأن السماء مُحيطة به، هل يُقبل هذا؟!
فيُقال له: هذا فهمك أنت الخاطئ، ولكن الذي يَفهمه العلماء ويفهمه أصحاب المعتقد الصحيح السليم أن قوله:{أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي: على السماء.
فلفظ "السماء" هنا في الآية له معنيان:
الأول: العلو.
والثاني: الجرم المخلوق المعروف، الذي هو السقف المحفوظ.
فإذا قال أهل السنة: "الله في السماء" فمعنى السماء هنا: العلو.
ومن أراد بلفظ السماء ذلك الجرم المخلوق: فإنه يجعل "في" بمعنى "على".
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله": وأما قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ)] الملك الآية: 16 [فمعناه: مَنْ على السماء يعني: على العرش.
وقد يكون "في" بمعنى "على"، ألا ترى إلى قوله تعالى:(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)] التوبة الآية: 2 [أي: على الأرض، وكذلك قوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)] سورة طه: 71 [" انتهى
(1)
.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "معنى كون الله في السماء: معناه على السماء أي فوقها، فـ (في) بمعنى "على"، كما جاءت بهذا المعنى في قوله تعالى:(قل سيروا في الأرض) أي: عليها.
ويجوز أن تكون (في) للظرفية، و (السماء) على هذا بمعنى العلو، فيكون المعنى: أن الله في العلو، وقد جاءت السماء بمعنى العلو في قوله تعالى:{أنزل من السماء ماء}
ولا يصح أن تكون (في) للظرفية إذا كان المراد بالسماء الأجرام المحسوسة؛
(1)
"التمهيد" (7/ 130 (.
لأن ذلك يوهم أن السماء تحيط بالله، وهذا معنى باطل؛ لأن الله أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته" انتهى.
(1)
وقوله: "ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله:{مَنْ فِي السَّمَاءِ} : أنه في السماء، أنه في العلو وأنه فوق كل شيء.
وكذلك الجارية لما قال لها: (أين الله؟). قالت: في السماء، إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها".
أشار المصنف هنا إلى دليل الفطرة على إثبات صفة العلو لله عز وجل، فدليل الفطرة أمرٌ الله سبحانه وتعالى-جَبَلَ النفوس عليه، فما من قائلٍ يقول: يا الله، إلا ويجد في نفسه ضرورة تطلب جهة العلو، لا يلتفت يمنةً ولا يسرة، فأنت إن شئت انظر بعد أن تصلي في مساجد المسلمين كيف يرفع الناس أيديهم في الدعاء، ويتجهون إلى جهة العلو، ولا يلتفتون يمنةً ولا يسرة.
فقد قال إمام الأئمة محمد بن خزيمة رحمه الله: «باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء، كما أخبرنا في مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ وعلى لسان نبيه عليه السلام، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين علمائهم وجُهَّالِهِمْ وأَحْرَارِهِمْ وَمَمَالِيكِهِمْ ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِم بَالِغِيهِم وأَطْفَالِهِم، كل مَنْ دعا الله جل وعلا فإنه يرفع رأسَه إلى السماء ويمد يدَيْه إلى الله إلى أعلاهُ، لا إلى أسفل»
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأمَّا كونه عاليًا على مخلوقاته بائنًا منهم، فهذا أمرٌ معلومٌ بالفطرةِ الضروريةِ التي يشترك فيها جميع بني آدم.
(1)
"مجموع فتاوى الشيخ العثيمين"(4/ 283).
(2)
«التوحيد» (1/ 254).
وكُلُّ مَنْ كان بالله أعرفَ وله أَعْبَدَ ودُعَاؤُهُ له أكثرَ وقَلْبُهُ له أَذْكَرَ كان علمُه الضروريُّ بذلك أقوى وأكملَ، فالفطرة مُكَمَّلَةٌ بالفطرة المنزَّلة؛ فإن الفطرةَ تعلم الأمر مُجْمَلًا والشريعة تُفَصِّلُهُ وتُبَيِّنُهُ وتَشْهَدُ بما لا تَسْتَقِلُّ الفطرة به، فهذا هذا، والله أعلم»
(1)
.
فالله تعالى فطر القلوب على إثبات علوه عز جل، ولذلك لما تكلم أبو المعالي الجويني في إنكار صفة العلو؛ وقال على المنبر: كان اللهُ ولا عَرْشَ، فقال له أبو جعفر الهمداني: يا أستاذ دَعْنَا مِنْ ذكر العرش- يعني لأن ذلك إنما جاء في السَّمْعِ- أَخْبِرْنَا عن هذه الضرورة التي نَجِدُهَا في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قَطُّ (يا الله) إلا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ العُلُوَّ، لا تلتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حَيَّرَنِي الهمذانيُّ، حَيَّرَنِي الهمدانيُّ، ونزل
(2)
.
فالله سبحانه وتعالى فطر هذه القلوب على إثبات علوه عز وجل فأنت في كل أحوالك إذا سألت الله اتَّجهت إلى جهة واحدة، وهي جهة العلو، فلا تلتفت يمنة ولا يسرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر القلوب على معرفته، ومن ذلك جواب الجارية على النبي صلى الله عليه وسلم لما سألها الجارية:«أين الله؟» . فقالت: «في السَّماء» . فقال صلى الله عليه وسلم: «أَعْتِقها؛ فإنَّها مؤمنة»
(3)
.
فإذًا هذا أمرٌ مغروسٌ في الفِطَرِ، الله تعالى فَطَرَ الناس على ذلك، وما من إنسانٍ صاحب فطرةٍ سليمة إلا وهذا الأمر في فطرته، وهذا يؤكده حديث الجارية، لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، وهذا جاء في صحيح مسلم.
بل إن هذا أمرٌ مغروسٌ في فطر الأمم جميعًا، على اعتقاد بأن الله تعالى في
(1)
«مجموع الفتاوى» (4/ 45).
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 44).
(3)
أخرجه مسلم (537).
السماء؛ ولذلك ما من إنسان يحزبه أمر إلا إذا أراد أن يدعو الله تعالى وأن يناجي الله سبحانه وتعالى-مد يديه إلى السماء، واتجه بقلبه إلى جهة السماء، يسأل الله سبحانه وتعالى، ويطلب الله سبحانه وتعالى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم، أمر مستقر في فطر العباد، معلوم لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم، إقراراً بذلك، وتصديقاً من غير أن يتواطؤا على ذلك ويتشاعروا، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم.
وكذلك هم عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته، مثل قصده عند الدعاء والمسألة، يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو، فكما أنهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يجدون في قلوبهم توجهاً إلى جهة أخرى، ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات.
فهذا يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو وتوجههم عند دعائه إلى العلو، كما يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك"
(1)
.
وقول المصنف: "وإذا قيل: «العلو» ، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق.
وإذا قُدِّر أن «السماء» المراد بها الأفلاك كان المراد أنه عليها، كما قال:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه: 71]، وكما قال:{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}
(1)
انظر درء تعارض العقل والنقل (7/ 5) بتصرف.
[آل عمران الآية: 137]، وكما قال:{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة الآية: 2]، ويقال: فلان في الجبل، وفي السطح. وإن كان على أعلى شيء فيه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله": السلف، والأئمة، وسائر علماء السنَّة إذا قالوا: " إنه فوق العرش "، و " إنه في السماء فوق كل شيء ": لا يقولون إن هناك شيئاً يحويه، أو يحصره، أو يكون محلاًّ له، أو ظرفاً، ووعاءً، سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هو فوق كل شيء، وهو مستغنٍ عن كل شيءٍ، وكل شيءٍ مفتقرٌ إليه، وهو عالٍ على كل شيءٍ، وهو الحامل للعرش، ولحملة العرش، بقوته، وقدرته، وكل مخلوق مفتقرٌ إليه، وهو غنيٌّ عن العرش، وعن كل مخلوق.
وما في الكتاب والسنة من قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ {ونحو ذلك: قد يَفهم منه بعضُهم أن "السماء" هي نفس المخلوق العالي العرش فما دونه، فيقولون: قوله: {فِي السَّمَاءِ {بمعنى: "على السماء"، كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه: 71]، أي: على جذوع النخل، وكما قال:{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران الآية: 137]، أي: على الأرض.
ولا حاجة إلى هذا، بل " السماء " اسم جنس للعالي، لا يخص شيئاً، فقوله: {فِي السَّمَاءِ {أي: في العلو دون السفل.
وهو العلي الأعلى فله أعلى العلو، وهو ما فوق العرش، وليس هناك غيره، العلي الأعلى، سبحانه وتعالى"
(1)
(1)
"مجموع الفتاوى"(16/ 100، 101).