الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النصوص الداله على تدبر القرآن وتفهم معانيه
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "القاعدة الخامسة: أنَّا نعلم ما أُخبرنا به من وجه دون وجه، فإن الله تعالى قال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء الآية: 82]، وقال:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون الآية: 68]، وقال:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ} [ص الآية: 29]، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد الآية: 24]، فأمر بتدبر الكتاب كله.
الشرح
من المعلوم أن الله تعبدنا بهذا القرآن ألفاظًا ومعان، وأننا مأمورون بأن نسلم ونصدق بما ورد فيه، وإن كان أحياناً قد لا يصل الإنسان إلى فهم النص، أو معرفة معنى النص، أو أن هناك في النص أمراً متعلقاً بالكيفية لا تبلغه عقول البشر.
فالواجب على الإنسان أن يُسلم ويصدق بهذا الجانب، فالنصوص لم تأت بما يصادم وترده العقول، لكن أحياناً لا تبلغ العقول مبلغ فهم هذا النص، فهذا يأتي من حالين:
إما حال المعنى.
أو حال الكيف.
فالحال الأول: حال المعنى.
فقد يكون الأمر بما يسمى بالاشتباه النسبي، بمعنى: أن النص قد يتضح لك وقد
يخفى علي، أو العكس، بأن يتضح لي ويخفى عليك، فالمعنى قد لا يبلغه عقلك أو فهمك، وهذا وقع حتى لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فالصحابة رضوان الله عليهم لما سمعوا قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، جاءوا يبكون ويقولون للنبي:"وأينا لم يظلم نفسه" ففهموا من الظلم ظلم النفس، فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى الحق، وقال:«ألم تسمعوا لقول العبد الصالح يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم»
(1)
، فأفهمهم بأن المراد من الظلم هنا هو الشرك؛ لأن الظلم على ثلاثة أنواع:
ظلم النفس، وظلم الغير، والظلم بمعنى الشرك.
وهذا عدي بن حاتم عربي قُح، عندما سمع قول الله عز وجل:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، جاء بحبلين بعقالين أحدهما أسود والثاني أبيض ووضعهما تحت وسادته وأخذ ينظر إليهما، يريد أن يتبين إليه الأبيض من الأسود، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن قفاك لعريض ألم يقل من الفجر»
(2)
، فبين له أن المعنى هنا بياض النهار وسواد الليل.
فيقع التباس وعدم قدرة على الفهم من جهة المعنى.
(1)
انظر صحيح البخاري كِتَابُ الإِيمَانِ، بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ برقم (15)، ومسلم كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَإِخْلَاصِهِ (124)، والترمذي (3067)، والإمام أحمد في المسند مسند المكثرين من الصحابة (3589).
(2)
انظر صحيح البخاري كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، برقم (1916)، ومسلم كِتَاب الصِّيَامِ، بَابُ بَيَانِ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الصَّوْمِ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ
…
برقم (1090)، والترمذي (2970)، والنسائي (2169)، والإمام أحمد في المسند أَوَّلُ مُسْنَدِ الْكُوفِيِّينَ (19375).
والحال الثاني: حال الكيف.
أي أن الأمر متعلق بالكيفية كمعرفة كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، فنحن لا نعلم كيفية نزوله، ولا كيفية استوائه، لا نعلم هذه الكيفيات فهي أمورٌ لا تبلغها عقولنا، فما جاء النص بما يصادم العقل، لكن قد يأتي النص بما لم يبلغه العقل.
وما لم يصل إليه عقل الإنسان، إما معنىً من جهة قصور فهمنا، أو حقيقة من جهة أن هذا الأمر غيبٌ من الغيوب، فهذه النصوص نقابلها بالتسليم والتصديق.
وإذا كان الأمر متعلقاً بالمعنى سألنا من كان فيها أفقه وأعلم وأعرف، فبالتالي سيبين لك ما هو المعنى المراد من هذا النص.
وإن كان أمراً متعلقاً بالكيفية من الأمور الغيبية فليس لنا إليه سبيل؛ لأنه محجوبٌ عنا، وقد قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فليس لنا أن تتخوض في شأن الكيف الذي لا سبيل لنا إليه.
فلا سبيل إلى الكيفيات التي غيبت عنا فهذه الروح بين جنبينا وأقرب شيء إلينا، ومع ذلك لا سبيل إلى معرفة كنهها وكيفيتها مع أنها مخلوقة وبين جنبي الإنسان، فإذاً علينا التسليم والتصديق والتفويض، فالتفويض هنا متعلقٌ بالكيف، أما تفويض المعنى فليس هناك أبداً في النصوص ما لا يُعلم معناه، اعلم هذا جزما، أنه ليس في النصوص ما لا يُعلم معناه، ولا يقول قائل: هذه الحروف المقطعة في أوائل السور لا يُعلم معناها، فهذه ليست كلاماً وإنما هي حروف، ولذلك أنت تقرأها ألف لام ميم، تقرأها حرفاً حرفاً، ومعلوم أن الكلام مركبٌ من الحروف.
فأنت عندما تنطقها تنطقها حروفاً لا تنطقها كلمة ليس ألف لام ميم مثل (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)، فهذه تقرأ حرفاً حرف وهذه تُقرأ كلمة،
فكيف تطلب لها معنى وهي ليست كلمة، وكما قال في ذلك ابن مالك:
كَلَامُنَا لَفْظٌ مُفِيْدٌ كَاسْتَقِمْ
…
وَاسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الْكَلِمْ
(1)
فالكلام ما أفاد معنى، ولا يكون كلاماً حتى يكون مركباً من حروف.
أما الحروف فهي ليست كلاماً حتى تطلب لها معنى.
ثم من معلوم أن الله تعبدنا بالنصوص ألفاظا تلاوة، وتعبدنا بالقرآن كذلك معنى، فنحن متعبدون بإتباع ما جاء فيه، ولا يُعقل أن الله سبحانه وتعالى يتعبدنا بأمرٍ ليس لنا سبيل إلى معرفة معناه، فأمر المعنى أهل السنة لا يفوضون فيه المعاني، وإنما يفوضون الكيفيات.
فليس لإنسان أن يفسر شيئاً من ذلك بهواه أو يرده فإذا رده كان شأنه شأن الجهمية؛ لأن الجهمية هم الذين عطلوا النصوص، عطلوها ألفاظاً بردها، وعطلوها معانٍ بتحريف معانيها، فقالوا: استوى استولى، وقالوا:"اليد بمعنى النعمة والقدرة"
(2)
وقالوا: "وجاء ربك وجاء أمر ربك"
(3)
فهذا شأن الجهمية رد النصوص، إما ردها ألفاظاً بقوله:" إنها أخبار آحاد ولا يُحتج بها في باب العقائد أو ردوها معانٍ بحيث أولوا أو حرفوا معانيها من المعاني الحقة إلى المعاني الباطلة"
(4)
وبحمد الله تعالى هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو محكم في تنزيله ومحكم في معانيه لكن إذا كان الإنسان يجهل التعامل مع ألفاظ النصوص ومعرفة معانيها فذاك الذي يروج عليه تأويلات هؤلاء، وتأويلاته في غاية من الحمق.
(1)
انظر ألفية ابن مالك صفحة (9).
(2)
انظر الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة صفحة (40).
(3)
انظر الرد على الجهمية للدارمي صفحة (76).
(4)
انظر الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة الجزء الرابع، صفحة (1529، 1530).
وفي بيان حدود العقل يقول الإمام السفاريني-رحمه الله: ((إن الله خلق العقول وأعطاها قوة الفكر، وجعل لها حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدِّها، ووفت النَّظر حقَّه، أصابت بإذن الله تعالى، وإذا سلَّطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها، ووراء حدِّها الذي حدَّه الله لها، ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء))
(1)
.
وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ، وهذا هو المأثور عن أُبَيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، ورُوي عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أوجه، تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب.
وقد رُوي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية وأسأله عن تفسيرها".
يتحدث المصنف هنا عن مسألة مهمة تتعلق بفهم ظاهر النصوص وفحوى هذه المسألة هل في النصوص ما لا يعلم معناه.
(1)
لوامع الأنوار البهية (1/ 105)، وانظر: الفوائد (240).
وقد تقدم بيان أن الفهم إما أن يتعلق بالمعنى أو بالكيف، وذكر الفرق بينهما.
وهذه الآية يستدل بها كل من أهل السنة من طرف كما يستدل بها أهل التعطيل سواء منهم من يسمون أهل التأويل أو من يسمون أهل التفويض من طرف آخر، ومن باب توضيح المعاني المقصودة بالآية من جهة الوقف في الآية وهل هو على قوله (إلا الله) أو على قوله:(والراسخون في العلم)، من جهة بيان المقصود بالمحكم والمتشابه، والمقصود بمعنى التأويل عمومًا وفي الآية خصوصًا.
وسيتم شرح النص بحسب نوع المسألة:
فالمسألة الأولى: مسألة الوقف في الآية.
وقد ذكر المصنف أن لعلماء السلف في مسألة الوقف في الآية قولان معتبران.
القول الأول: قول: "جمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} "
وأشار المصنف إلى أن معنى "التأويل" على هذا القول يكون حقيقة الأشياء وكيفياتها التي هي عليها من أمور المغيبات واستشهد المصنف لذلك بما "رُوي عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أوجه، تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب".
فالنوع الرابع من الأنواع التي ذكرها ابن عباس هو المقصود بالتأيل في هذه الآية إذا كان الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} .
القول الثاني: أن الوقف يكون على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فيكون معنى التأيول في الآية هو التفسير.
وأشار المصنف إلى أن هذا المعنى روي عن بعض السلف فقال: "رُوي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية وأسأله عن تفسيرها".
وقال المصنف عن الترجيح بين القولين: "ولا منافاة بين القولين عند التحقيق" وهذا ما سيأتي توضيحه.
المسألة الثانية: معاني التأويل عموما وفي الآية خصوصًا.
فإن لفظ «التأويل» قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملا في ثلاثة معان:
أحدها- وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله- أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به؛ وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمود أو مذموم، وحق أو باطل؟ ".
هذا هو أحد المعاني التي استعمل فيها اصطلاح التأويل، وهذا الاستعمال ليس هو المقصود في الآية بحسب ما فسرت به عند علماء السلف، وإنما اصطلاح حادث يرد في كلام الأصوليين والفقهاء والمتكلمين، وهذا الاصطلاح نصه كما ذكر المصنف:"أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به".
فتخصيص لفظ التأويل بهذا المعني إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين، وأما الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعني، بل يريدون المعني الثاني أو الثالث كما سيأتي.
ولهذا لما ظن طائفة من المتأخرين أن لفظ التأويل في القرآن والحديث في مثل قوله تعالي {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} آل عمران: 7، أريد به هذا المعني الاصطلاحي الخاص، واعتقدوا أن الوقف في الآية عند قوله:{وما يعلم تأويله إلا الله} لزم من ذلك أن يعتقدوا أن لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالف مدلولها المفهوم منها، وأن ذلك المعني
المراد بها لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه الملك الذي نزل بالقرآن، وهو جبريل ولا يعلمه محمداً صلي الله عليه وسلم ولا غيره من الأنبياء، ولا تعلمه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأن محمداً صلي الله عليه وسلم كان يقرأ قوله تعالي {الرحمن على العرش استوى} طه: 5 قوله {إليه يصعد الكلم الطيب} فاطر: 10 وقوله {بل يداه مبسوطتان} المائدة: 64 وغير ذلك من آيات الصفات، بل ويقول:"ينزل ربنا كل ليلة إلي السماء الدنيا" ونحو ذلك، وهو لا يعرف معاني هذه الأقوال، بل معناها الذي دلت عليه لا يعلمه إلا الله، ويظنون أن هذه طريقة السلف.
من قول أهل السنة الإيمان بالنصوص على ظاهرها ورد التأويل الفاسد، ويقصد بظاهر النصوص مدلولها المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، لا ما يقابل النص عند متأخري الأصوليين، والظاهر عندهم على حد تعريفهم: ما احتمل معنى راجحاً وآخر مرجوحاً، والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، (فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين)
(1)
.
فالواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، واعتقاد أن هذا المعنى هو مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيباً للمتكلم، أو اتهاماً له بالعي وعدم القدرة على البيان عما في نفسه، أو اتهاماً له بالغبن والتدليس وعدم النصح للمكلف، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
ومراد المتكلم يعلم:
أ - إما باستعماله اللفظ الذي يدل بوضعه على المعنى المراد مع تخلية السياق
(1)
((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (33/ ى 175).
عن أية قرينة تصرفه عن دلالته الظاهرة.
ب - أو بأن يصرح بإرادة المعنى المطلوب بيانه.
ت - أو أن يحتف بكلامه من القرائن التي تدل على مراده.
وعلى هذا فصرف الكلام عن ظاهره المتبادر -من غير دليل يوجبه أو يبين مراد المتكلم-تحكم غير مقبول سببه الجهل أو الهوى، وهذا وإن سماه المتأخرون تأويلاً إلا أنه أقرب إلى التحريف منه إلى التأويل.
ولا يسلم لهذا المتأول تأويله حتى يجيب على أمور أربعة:
أحدهما: أن يبين احتمال اللفظ لذلك المعنى الذي أورده من جهة اللغة.
الثاني: أن يبين وجه تعيينه لهذا المعنى أنه المراد.
الثالث: أن يقيم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره؛ لأن الأصل عدمه.
قال ابن الوزير رحمه الله: "من النقص في الدين رد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل"
(1)
.
الرابع: أن يبين سلامة الدليل الصارف عن المعارض، إذ دليل إرادة الحقيقة والظاهر قائم، وهو إما قطعي، وإما ظاهر، فإن كان قطعيا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلابد من الترجيح
(2)
.
قال ابن القيم: «والمقصود أن التَّأْوِيل يتجاذبه أصلان: التفسير، والتَّحْرِيف.
فتأويل التفسير هو الحق، وتأويل التَّحْرِيف هو الباطل.
فتأويل التَّحْرِيف مِنْ جنس الإلحاد؛ فإنه هو الميلُ بالنصوصِ عن ما هي عليه،
(1)
((إيثار الحق)) لابن الوزير (ص 129).
(2)
((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 360 - 362)، و ((الصواعق المرسلة)) لابن قيم الجوزية (1/ 288 - 290)، و ((بدائع الفوائد)) لابن قيم الجوزية (4/ 1009).
إما بالطعن فيها أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها، وكذلك الإلحاد في أسماء الله يكون بجحد معانيها وحقائقها، وتارةً يكون بإنكار المسمَّى بها، وتارة يكون بالتشريك بينه وبين غيره فيها.
فالتَّأْوِيل الباطل هو إلحادٌ وتحريفٌ، وإن سماه أصحابه تحقيقًا وعرفانًا وتأويلًا.
فمِن تأويل التَّحْرِيف والإلحادِ تأويلُ الجهمية قولَه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، أي: جَرَحَ قلبَه بالحِكم والمعارف تجريحًا.
ومن تحريف اللفظ إعراب قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ} من الرفع إلى النصب، وقال:(وكلَّم اللهَ) أي: موسى كلم اللهَ، ولم يكلمه اللهُ، وهذا من جنس تحريف اليهود، بل أقبح منه، واليهود في هذا الموضع أولى بالحق منهم.
ولما حرَّفها بعضُ الجهمية هذا التَّحْرِيف قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنعُ بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]؟! فَبُهِتَ المحرِّف.
ومن هذا أنَّ بعض الفرعونيَّة سأل بعضَ أئمة العربية هل يمكن أن يُقرأ العرش بالرفع في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؟ وقصد الفرعونيُّ بهذا التَّحْرِيف أن يكون الاستواء صفة للمخلوق، لا للخالق.
ولو تَيَسَّر لهذا الفرعوني هذا التَّحْرِيف في هذا الموضع لم يتيسر له في سائر الصفات»
(1)
.
الثاني- أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنِّفين في التفسير:«واختلف علماء التأويل» . ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم- فإذا ذكر أنه يعلم
(1)
«الصواعق المرسلة» (1/ 215 - 218).
تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره.
أي أن لفظ التأويل يطلق ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه، وهذا اصطلاح السلف، وجمهور المفسرين، وهو موافق لقول من قال بالوقف على قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران الآية: 7].
(1)
.
وضرب المصنف أمثلة على استعمال هذا المعنى في كلام السلف:
المثال الأول: قوله: "كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنِّفين في التفسير: «واختلف علماء التأويل» ". فيستعملون لفظ التأويل ويريدون به التفسير.
المثال الثاني: قوله: "يعلم تأويل المتشابه" أي يعلم تفسير المتشابه.
الثالث- من معاني التأويل- هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف الآية: 53]. فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته قال:{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف الآية: 100]، فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.
فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يُفسَّر به اللفظ حتى يُفهم معناه أو تُعرف علته أو دليله، وهذا التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا
(1)
انظر: في هذه التعريفات: الفتوى الحموية ص (70 - 71)، التدمرية ص (90 - 96)، الإكليل في المتشابه والتأويل، ضمن مجموع الفتاوى (13/ 288 - 294).
وللتوسع انظر: جناية التأويل الفاسد ص (8 - 30)، موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ص (481 - 501).
وبحمدك، اللهم اغفر لي)) يتأول القرآن"
(1)
. تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر الآية: 3]. وقول سفيان بن عيينة: "السُّنة هي تأويل الأمر والنهي"
(2)
، فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبَر عنه هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ".
المعنى الثالث من معاني التأويل كما ذكر المصنف: "هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وهي وقوع المخبر به في وقته الخاص إذا كان الكلام خبراً، أو امتثال ما دلَّ عليه الكلام إذا كان الكلام طلباً، وهذا اصطلاح آخر قال به السلف الصالح
(3)
.
وبين المصنف أن الكلام ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الخبر. فإذا كان الكلام من هذا القسم، فإن تأويله هو وقوع المخبر به في وقته الخاص، ومثاله ما وقع في قصة يوسف عليه السلام كما ومثاله:
1 -
مثل المعاد وما يكون فيه من القيامة والحساب والجزاء، وهذا القسم هو المقصود بقول المصنف:"كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف الآية: 53]. فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك".
(1)
أخرجه البخاري (817)، ومسلم (484).
(2)
((غريب الحديث)) (2/ 117 - 118). وانظر: إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات لابن الوزير (ص: 89).
(3)
انظر: في هذه التعريفات: الفتوى الحموية ص (70 - 71)، التدمرية ص (90 - 96)، الإكليل في المتشابه والتأويل، ضمن مجموع الفتاوى (13/ 288 - 294).
وللتوسع انظر: جناية التأويل الفاسد ص (8 - 30)، موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ص (481 - 501).
2 -
ومنه كذلك قول المصنف: "كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته قال: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف الآية: 100 [فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا".
والقسم الثاني: الأمر.
فإذا كان الكلام من هذا القسم، فإن تأويله امتثال ما دلَّ عليه الكلام إذا كان الكلام طلباً، كما قال المصنف:"فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به".
ومثاله: "قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) يتأول القرآن. تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}. وقول سفيان بن عيينة: السُّنة هي تأويل الأمر والنهي".
وقول المصنف: "ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة. كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصَّمَّاء، لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أُمر به ونفس ما نُهي عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم ما لا يُعلم بمجرد اللغة".
أعطى المصنف هنا مثالًا على تأيل الأمر بقول "أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة"
(1)
.
أي لما كان تأويل الأمر والنهي-وهو امتثالهما-يحتاج إلى العلم به كان الفقهاء أعلم بتأويل الأحكام من أهل اللغة لأنهم يعلمون مقاصد الشريعة، ولهم ممارسة الألفاظ الوحيين، لهذا قال الإمام ابن خزيمة: "ومحال أن يكون أهل الشعر أعلم بلفظ الحديث من علماء الأثر الذين يعنون بهذه الصناعة يروونها ويسمعونها من ألفاظ العلماء ويحفظونها، وأكثر طلاب العربية إنما يتعلمون من
(1)
((غريب الحديث)) (2/ 117 - 118).
الكتب المشتراة والمستعارة من غير سماع"
(1)
مثال ذلك:
«أن النبي نهى عن اشتمال الصماء»
(2)
؟ قال الأصمعي
(3)
: أي أن يشتمل الرجل بثوبه فيجلل به جسده كله ولا يرفع منه جانبا ولا يخرج منه يده، فهذا قول أهل اللغة.
قال أبو عبيد
(4)
: "والفقهاء يقولون: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه على منكبيه فيبدو منه فرجه. والفقهاء أعلم بالتاويل في هذا، وذاك أصح لغة"
(5)
ولكن كلا من التفسيرين معمول به عند الفقهاء، والله أعلم.
وهكذا فإن أهل كل فن أعلم بمقاصده من غيرهم، فمثلا يعلم بقراط
(6)
في الطب ما لايعلمه غيره عن الطب بمجرد معرفته للغة.
وهكذا سيبويه
(7)
في النحو فمثلا إذا قيل: محمد قائم، أو قام محمد، فالظاهر أن محمدا فاعل في العبارتين لكن عند النحاة محمد مبتدأ في الأولى وفاعل في
(1)
كتاب التوحيد واثبات صفات الرب: (1/ 277)
(2)
البخاري (1/ 426) ومسلم (3/ 1661).
(3)
هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أجمع بن ظهر الباهلي لغوي معروف، انظر البيان والتبيين اللجاحظ: 1/ 9، 23، 37) والفهرست لابن النديم: ص 78.
(4)
هو أبو عبيد القاسم بن سلام اشتغل بالحديث والفقه والأدب له تصانيف وتوفي سنة 224، السير:(10/ 490)، البداية والنهاية:(10/ 291).
(5)
غريب الحديث لأبي عبيد: (2/ 117).
(6)
هو بقراط بن اير اقليس، انتهت إليه رئاسة الطب وعلمه غيره. توفي سنة 357 ق. م. انظر تاريخ الحكماء: ص 90. والفهرست ص: 348. ط. الجديدة.
(7)
هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر إمام نحاة البصرة وله أعظم كتاب في النحو وهو: (الكتاب). توفي سنة 180. وفيات الأعيان: (3/ 293).
الثانية
(1)
.
وقول المصنف: "ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر".
أي أن الفرق بين تأويل الأمر وتأويل الخبر هو:
أن الأمر يجب معرفته حتى يفعل، فلا بد في الأوامر والنواهي أن تمتثل.
أما الخبر فلا يجب معرفته، فإنه يقع وإن جهل.
وقول المصنف: "إذا عرف ذلك، فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدَّسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدَّسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد".
أي أن كيفية ذات الله عز وجل وصفاته داخلة في هذا المعنى من معاني التأويل، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الكيف المجهول الذي قال به السلف الصالح-رضي الله عنهم
(2)
، كما في أثر الإمام مالك-رحمه الله، وغيره، والتي سيأتي إيرادها.
(1)
المصدر التوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية ص: 189، 190.
(2)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 207، 5/ 234 - 235، 7/ 328)، الرد على المنطقيين ص (60)، مناظرة في العقيدة الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 167)، تفسير سورة الإخلاص، ضمن مجموع الفتاوى (17/ 373 - 374، 423 - 424)، الصواعق المرسلة (3/ 923 - 924).
المسألة الثالثة: الاتفاق في الاسم لا يلزم منه تماثل المسمى.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلاً وماء وخمرًا ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظًا ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته. فأسماء الله تعالى وصفاته أَوْلى- وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه- أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته".
الشرح
بين المصنف أننا في شأن ما ورد في كلام الله وكلام زسوله صلى الله عليه وسلم الواجب علينا أن نعمل بمحكمه، وأن نؤمن بمتشابهه فإيماننا صحيحٌ بحقِّ ما كُلِّفنا به وإن لم نَعرف حقيقة ماهيته وكيفيته.
والموقف الصحيح من الألفاظ المتشابهة سواء ما كان منها يتعلق بالله عز وجل أو ما كان منها يتعلق ببعض المخلوقات يبينه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
فالأسماء التي تطلق على الله وعلى العباد هي من الألفاظ المتواطئة التواطؤ المشكك، فالحق فيها هو أن يقال إنه بالنسبة للأسماء والصفات التي تطلق على الله وعلى العباد كالحي، والسميع، والبصير، والعليم، والقدير، والحياة، والسمع،
والبصر، والعلم ونحوها هي حقيقة في الرب وحقيقة في العبد.
ولكن للرب تعالى منها ما يليق بجلاله.
وللعبد منها ما يليق به.
وذلك لأن الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول: اعتبار من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد.
الاعتبار الثاني: اعتباره مضافًا إلى الرب مختصًّا به.
الاعتبار الثالث: اعتباره مضافًا إلى العبد كل مقيدًا به.
فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتًا للرب والعبد، وللرب منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به.
وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات.
والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات.
والعليم والقدير وسائر الأسماء.
فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه الأسماء لذاتها فإثباتها للرب تعالى لا محذور فيه بوجه، بل يثبت له على وجه لايماثله فيه خلقه ولا يشابههم.
فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق ألحد في أسمائه وجحد صفات كماله، ومن أثبته على وجه لا يماثل فيه خلقه به، كما يليق بجلاله وعظمته فقد بريء من فرث التشبيه ودم التعطيل، وهذا طريق أهل السنة.
وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن الله كما يلزم حياة العبد من
النوم والسنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك، وكذلك ما يلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به، وكذلك ما يلزم علوَّه من احتياجه إلى ما هو عال عليه وكونه محمولاً به، مفتقرًا إليه، محاطا به، كل هذا يجب نفيه عن القدوس السلام تبارك وتعالى.
وما لزم الصفة من جهة اختصاصه تعالى بها فإنه لا يثبت للمخلوق بوجه، كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإن ما يختص به منها لا يمكن إثباته للمخلوق.
فإذا أحطت بهذه القاعدة خبرًا وعقلتها كما ينبغي خلصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين:
ا-آفة التعطيل 20 - وآفة التشبيه.
فإنك إذا وفيت هذا المقام حقه من التصور أثبت لله الأسماء الحسنى والصفات العلى حقيقة فخلصت من التعطيل، ونفيت عنها خصائص المخلوقين ومشابهتهم، فخلصت من التشبيه، فتدبر هذا الموضع واجعله جنتك التي ترجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصواب)
(1)
.
(1)
بدائع الفوائد 1/ 164، 166
المسألة الرابعة: أن الله يُخبر عن الغائب بالمعنى المعلوم في الشاهد وإن كانت الحقيقة مختلفة.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "والإخبار عن الغائب لا يُفهم أن لم يُعبَّر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويُعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميِّز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يُعلم في الشاهد، وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منّا فهمه بذلك الخطاب، وفسّرنا ذلك".
الشرح
قال ابن تيمية: "الإنسان يعتبر بما عرفه على ما لم يعرفه، ولولا ذلك لانسدت عليه طرق المعارف للأمور الغائبة، فإن الإنسان يعلم أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير، فإنه لولا تصوره لهذه المعاني من نفسه ونظره إليها لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه.
كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن
يكون الغيب مثل الشهادة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما:"ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك، ويجب لها ما يجب لها، ويمتنع ما يمتنع عليها، ويكون مادتها مادتها ويستحيل استحالتها، فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يفسد ولا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يصدع شاربها ولا ينزف عقله، فإن ماءها ليس نابعًا من تراب ولا نازلاً من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقًا من أنعام كما في الدنيا وأمثال ذلك.
فإذا كان المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم وبينهما قدر مشترك وتشابه فعلم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة.
فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا، فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير لم يلزم أن يكون مماثلاً لخلقه، إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق، وكل واحد من صغار الحيوان له حياة وقوة وعمل وليست مماثلة للملائكة المخلوقين، فكيف يماثل رب العالمين شيئًا من المخلوقين"
(1)
.
(1)
رسالة في العقل والروح لابن تيمية 2/ 42 - 43 (مطبوعة ضمن المجموعة المنيرية) بتصرف.
المسألة الخامسة: بعض حقائق الأشياء لا يمكن للخلق العلم بكنهها وكيفيتها.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وأما نفس الحقيقة المخبَر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان. فبيّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة.
ومثل هذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر:(اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك). وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم.
وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره".
الشرح
لا زال حديث المصنف موصولًا عن بيان أحد معاني التأويل الذي هو حقيقة الشيء وكيفيته، وقد سبق بيان أن هذا النوع من التأويل ينقسم بحسب نوع الكلام، وأن الكلام ينقسم إلى قسمين فمنه ما هو خبر ومنه ما أمر، وسبق بيان الفرق بين تأويل الأمر وتأويل الخبر هو:
أن الأمر يجب معرفته حتى يفعل، فلا بد في الأوامر والنواهي أن تمتثل.
أما الخبر فلا يجب معرفته، فإنه يقع وإن جهل.
قال ابن القيم: "وقد أخبرنا الله عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ولم يَعرفوا كيفيته وكنهه، فلا يشكُّ المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمر وأنهارًا من عسل، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته؛ كما قال ابن عباس:«ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء» .
فكذا الأسماء والصفات لا يَمنع انتفاء نظيرها في الدنيا مِنْ فهم معانيها وحقائقها والإيمان بذلك واعتقاد اتصاف الله بها"
(1)
.
ويجب على طالب العلم أن يفرق بين معاني التأويل الشرعية عمومًا عمومًا ليعرف مقصود السلف في التعامل مع كل معنى، ومما يوضح ذلك أنه.
أولًا: إذا قصد بمعنى التأويل التفسير.
فإنه على هذا المعنى يقال إن السلف يجرون هذه النصوص على ظاهرها، ولكن الظاهر الذي يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وكماله، فيثبتون اليد، ويثبتون السمع،
(1)
«مدارج السالكين» (3/ 358).
ويثبتون البصر، ويثبتون العلم، ويثبتون الاستواء، ويثبتون النزول، ويثبتون سائر الصفات، ولكن على ما يليق بجلال وكمال الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أخبر بهذه الصفات، ووصف نفسه بهذه الصفات، كما وردت بذلك نصوص الكتاب والسنة.
وهذا المعنى هو المقصود بقول الإمام مالك " الاستواء معلوم".
ثانيًا: إذا قصد بمعنى التأويل الحقيقة والكيفية.
فإن السلف يقولون: إن الإيمان بهذه الصفات هو إيمان وجود، لا إيمان بمعرفة حقيقتها وكيفيتها.
فمع أن هذه الصفات صفات ثابتة حقيقة لله سبحانه وتعالى، ولكن مع هذا لا نعقل ولا نعلم كيفية تلك الصفات.
وهذا المعنى هو المقصود بقول الإمام مالك: "والكيف مجهول".
وقول المصنف: "ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان. فبيّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة.
قول الإمام مالك-رحمه الله (179 هـ) حينما سأله رجل عن قوله تعالى:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
(1)
، كيف استوى؟ قال:((الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاً"، فأمر به فأخرج))
(2)
.
وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة، قال: "سُئل
(1)
الآية [5] من سورة طه.
(2)
تقدم تخريجه.
ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق"
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة من غير وجه، منها: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني، وأبو بكر البيهقي، عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل، فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، كيف استوى؟، فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرُّحَضَاء ثم قال:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا، ثم أمر به أن يُخرج"
(2)
.
فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول" موافقٌ لقول الباقين: "أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف"، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة)
(3)
.
وقد علَّق الإمام الذهبي-رحمه الله، على قول الإمام مالك بقوله:((وهو قول أهل السنة قاطبة: أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نعمِّق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله لا مثل له لا في صفاته، ولا في استوائه ولا في نزوله سبحانه وتعالى)
(4)
.
(1)
انظر: كتاب الفتوى الحموية الكبرى الجزء الأول صفحة (306).
(2)
انظر: كتاب الأسماء والصفات للبيهقي الجزء الثاني صفحة (305).
(3)
الفتوى الحموية
(4)
العلو (2/ 954).
وقال الوليد بن مسلم-رحمه الله: ((سألت مالك بن أنس، وسفيان الثورى، واللَّيث بن سعد، والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: "أمروها كما جاءت"، وفى رواية فقالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف))
(1)
.
فقولهم: ((بلا كيف))، صريح في نفي العلم بالكيفية، وقولهم:((كما جاءت)) صريح في إثبات المعنى؛ لأن هذه الأخبار جاءت بلسان عربي مبين، وهم أهل هذا اللسان، فلا يتصور عاقلٌ أنهم لم يدركوا معانيها وسكتوا عن السؤال عنها.
"فقولهم رضي الله عنهم: "أمِرُّوها كما جاءت" ردٌّ على المعطلة، وقولهم: "بلا كيف" رد على الممثلة. والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهما"
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول"، ولما قالوا: "أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف"
(3)
، فإن الاستواء حينئذٍ لا يكون معلومًا، بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم.
وأيضًا: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية، إذا لم يفهم من اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.
وأيضًا: فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقًا لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
الفتوى الحموية 1/ 301
(3)
تقدم الإشارة إليه.
من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف.
وأيضًا: فقولهم: أمِرُّوها كما جاءت. يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظًا دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمِرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمِرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يُوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أُمِرّت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف، إذ نفي الكيفية عما ليس بثابت لغوٌ من القول"
(1)
.
وقول المصنف: "ومثل هذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو".
طلب معرفة كيفية صفات الله عز وجل بدعة، فالله تعالى ما أطلعنا ولا أخبرنا ولا تعبدنا بمعرفة كيفية استوائه. فمعرفة كيفية الصفات غير حاصل للعباد؛ لأن العلم بكيفية الصفات فرع العلم بكيفية الموصوف، فإذا كان الموصوف لا تُعلم كيفيته، امتنع أن تُعلم كيفية صفاته
(2)
،
وأكدَّ المصنف على اتفاق أهل السنة والجماعة على نفي معرفة حقيقة الله وكيفية صفاته، وقالوا: لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال، ولا يحيط أحد من المخلوقين على حقيقة ذاته
(3)
.
أما أقوال السلف-رحمهم الله تعالى-في تقرير هذه القاعدة، فكثيرة جداً، ويصعب استقصاؤها، لكن أكتفي بإيراد نماذج منها من مختلف العصور، حتى
(1)
الفتوى الحموية: ص 80.
(2)
انظر: نقض المنطق، ضمن مجموع الفتاوى (4/ 6 - 7)، مجموع الفتاوى (6/ 399).
(3)
انظر: درء التعارض (10/ 277)، التدمرية ص (16 - 18)، الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز، ضمن مجموع الفتاوى (6/ 355)، الإكليل في المتشابه والتأويل، ضمن مجموع الفتاوى (13/ 308 - 309)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 64، 197 - 199).
يستبين لك التوافق التام بين عقيدة أهل السنة والجماعة، على اختلاف الأزمان وتباعد الأوطان، فمن ذلك:
ما نُقل من اتفاقهم على نفي العلم بالكيفية، مع إثبات الصفات على ظاهرها المتبادر، وقد نقل هذا الاتفاق عنهم، الإمام الخطابي
(1)
، والخطيب البغدادي
(2)
، والإمام أبو القاسم التيمي
(3)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
، والإمام الذهبي
(5)
.
• ومن ذلك: ما روي عن الإمام أبي حنفية-رحمه الله (150 هـ) عندما سُئل عن النزول، فقال:((ينزل بلا كيف))
(6)
.
فقد أثبت هذا الإمام-رحمه الله-النزول، لكن نفى العلم بالكيفية، وفق ما سبق بيانه من مراد السلف بقولهم:"بلا كيف".
• وقول عبد العزيز بن الماجشون-رحمه الله (ت 164 هـ): ((
…
في صفة الرب العظيم، الذي فاتت عظمته الوصف والتقدير، وكلَّت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدره؛ فلم تجد العقول مساغاً فرجعت خاسئة حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق، وإنما يقال: كيف؟ لمن لم يكن مرةً ثم كان، أما من لا يحول ولا يزول، وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو))
(7)
.
(1)
انظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 371)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 278)، العلو (2/ 1294).
(2)
انظر: جواب سؤال بعض أهل دمشق عن الصفات ص (20).
(3)
انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 186، 477)
(4)
انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/ 64)، مناظرة في العقيدة الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 167)، مجموع الفتاوى (3/ 207، 33/ 177).
(5)
انظر: العلو (2/ 1294).
(6)
أورده الصابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص (222)، وابن أبي العز في شرح الطحاوية
(1/ 269)، والملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ص (34).
(7)
أورده ابن تيمية في الفتوى الحموية ص (80)، ودرء التعارض (2/ 36 - 37)، وبيان تلبيس الجهمية (2/ 166).
والذهبي في العلو (2/ 965) برقم (351)، وفي السير (7/ 311 - 312).
فبيَّن-رحمه الله-أن الله لا يقال عنه كيف، كما يُسأل بذلك عن المخلوق؛ لأنه تعالى لم يخبرنا بكنه ذاته وصفاته، وقد انحسرت العقول عن معرفة ذلك؛ ولأنه تعالى لا مثيل له ولا نظير، فلا يعلم كيف هو إلا هو.
• وعن الإمام الفضيل بن عياض-رحمه الله (187 هـ) قال: ((ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف؛ لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآيات: 1 - 4]، فلا صفة أبلغ مما وصف الله عز وجل نفسه، وكل هذا النزول والضحك، وهه المباهاة، وهذا الاطلاع كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يضحك، وكما شاء أن يطلع، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف))
(1)
.
• وقال الإمام ابن قتيبة
(2)
رحمه الله (ت 276 هـ) أثناء مناقشته لمنكري الرؤية: ((فإن قالوا لنا: كيف ذلك المنظور والمنظور إليه؟ قلنا: نحن لا ننتهي في صفاته جل جلاله إلا حيث انتهى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ندفع ما صحَّ عنه؛ لأنه لا يقوم في أوهامنا ولا يستقيم على نظرنا، بل نؤمن بذلك من غير أن نقول فيه بكيفيةٍ وحدٍّ، أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت، ونرجو أن يكون في ذلك من القول والعقد بسبيل النجاة والتخلص من الأهواء كلها غداً إن شاء الله تعالى))
(3)
.
وذكر-رحمه الله: ((أن الله وضع عن عباده أن يفكروا كيف كان، وكيف قدَّر، وكيف
(1)
أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (2/ 23 - 24).
(2)
عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد البغدادي، الإمام العلامة، اللغوي، أديب أهل السنة، صاحب المصنفات البديعة في السنة والأدب، توفي سنة 276 هـ.
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (10/ 170)، سير أعلام النبلاء (13/ 296).
(3)
تأويل مختلف الحديث ص (140 - 141).
خلق، وأن البحث عن ذلك مستحيل ممتنع؛ لأنه تكليف بما لا يقدر عليه العبد، ولم يكن إدراك ذلك في وسعه ولا في تركيبه))
(1)
.
• وعقد الإمام ابن منده
(2)
رحمه الله (ت 395 هـ) في كتابه "التوحيد" فصلاً بعنوان: ((ذكر بيان النهي عن تقدير كيفية صفات الله عز وجل، والدليل على إثبات صفاته، وأن الله وصف نفسه بالسمع والبصر واليمين بترك التشبيه والتمثيل))
(3)
، وأورد تحته العديد من النصوص الدالة على ما ذكر.
• ومن كلام الإمام أبي محمد الجويني
(4)
رحمه الله (ت 438 هـ)، قال:((صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن بها مبصراً من وجه، أعمى من وجه، مبصراً من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد))
(5)
.
• وقد بيَّن الإمام ابن عبد البر-رحمه الله (ت 463 هـ) أن أهل السنة والجماعة لا يخوضون في شأن الكيفية بل: ((يفزعون منها؛ لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عياناً وقد جلَّ الله وتعالى عن ذلك، وما غاب عن العيون؛ فلا يصفه ذووا العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم،
(1)
الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة ص (40).
(2)
محمد بن إسحاق بن محمد بن منده العَبْدِي، أبو عبد الله الأصبهاني، الإمام المحدث الحافظ، صاحب التصانيف، ولد سنة 310، وتوفي سنة 395 هـ. من مصنفاته: الإيمان، والتوحيد، والرد على الجهمية.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة (2/ 167)، سير أعلام النبلاء (17/ 21).
(3)
كتاب التوحيد (3/ 21).
(4)
والد إمام الحرمين أبي المعالي الجويني.
(5)
رسالة في إثبات الاستواء والفوقية، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (1/ 182)، وانظر:(1/ 175، 187)
فلا نتعدى ذلك إلى تشبيه، أو قياس، أو تمثيل، أو تنظير، فإنه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11])
(1)
.
• وقال الإمام البغوي-رحمه الله (ت 510 هـ): ((إن الامتناع عن الخوض في صفات الله تعالى بالتكييف والتشبيه واجب، وأن المهتدي من سلك في نصوص الصفات طريق التسليم، وأن الخائض فيها زائغ، والمنكر معطِّل، والمكيِّف مشبِّه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11])
(2)
.
• ومما ذكره الإمام ابن القيم-رحمه الله (ت 751 هـ) في تقرير هذه المسألة قوله: ((إن العقل قد يئس من تعرُّف كنه الصفة وكيفيتها؛ فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف: "بلا كيف"، أي: بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته، ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا لا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فَعَجْزُنَا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم))
(3)
.
قال المصنف: "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر:(اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك). وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم.
وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه
(1)
التمهيد (7/ 145).
(2)
شرح السنة (15/ 257 - 258).
(3)
مدارج السالكين (3/ 376).
الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره".
جانب الإثبات لا يمكن أن يحاط به بحال، وله سبحانه وتعالى من الكمالات التي يحمد عليها ما لم يطلِّع عليه أحد، وما لا يُطلَّع عليه إلا يوم القيامة، كما دل على ذلك الحديث المشهور بسيد الاستغفار، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَا أَصَابَ عَبْداً قَطٌ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمِ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ
…
)) الحديث
(1)
.
والشاهد من الحديث قوله: ((أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ
…
))، دليل على أن أسماء الله عز وجل منها ما هو غير معلوم للبشر، وأسماؤه سبحانه وتعالى مشتقة
من صفاته، فدلَّ على أنَّ له صفات أخرى لم يطلع عليها أحد.
وقوله صلى الله عليه وسلم في سجوده: ((اللَّهُمَ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))
(2)
.
ووجه الشاهد قوله: ((لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))، فإنه لو أحصى ثناءً عليه، لأحصى أسماءه، وبالتالي يحصي صفاته؛ لأنها مشتقة منها.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 246) برقم (3712)(ط/ الرسالة)، وابن حبان، انظر: موارد الظمآن رقم (2372)، والحاكم في المستدرك (1/ 509)، والطبراني في الكبير رقم (10352)، وصححه الألباني رحمه الله كما في السلسلة الصحيحة (1/ 336) رقم (199).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 426 مع النووي)، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (1090).
المسألة السادسة: أسماء الله وصفاته متنوعة في معانيها متفقة في دلالتها على ذات الله.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه عليم، قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته؛ فنحن نفهم معنى ذلك، ونميّز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله، مع تنوع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات.
وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب.
وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والنور، والتنزيل، والشفاء، وغير ذلك.
ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها؛ هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات، كما إذا قيل: السيف، والصَّارِم، والمُهَنَّد؛ وقصد بالصّارم معنى الصّرم، وفي المهند النسبة إلى الهند؟ والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات.
الشرح
لا يزال الحديث متصلًا عن ظواهر النصوص وتفسيرها، ويتحدث المصنف هنا عن جانب مهم وهو معرفة أنواع الألفاظ واستعمالاتها، وقد يُشكل على البعض: أن
الله قد سَمَّى نفسه بصفات وسَمَّى عباده بنظير ذلك؛ فيتردد عند ذلك: هل يُثبت تلك الصفات لله حقيقة أم لا؟
فَمِنْ أجل توضيح هذه المسألة أقول: اعلم-وَفَّقَك الله-أن الألفاظ منها:
1 -
ما هو مترادف: هو ما اختلف لفظه واتَّحد معناه؛ مثال ذلك: الليث-الأسد-أسامة-الغضنفر.
فهذه ألفاظ مختلفة والمسمى بها واحد؛ لذا تُسَمَّى الألفاظ المترادفة.
2 -
ما هو مشترك: وهو ما اتَّحد لفظه واختلف معناه؛ مثال ذلك: لفظ: (العين)؛ فهي تُطلق على (العين الباصرة-والعين الجارية-والجاسوس-والحسد).
فاللفظ واحد والمعاني مختلفة، وهذه تُسَمَّى الألفاظ المشتركة.
3 -
ما هو متباين: وهو ما اختلف لفظه ومعناه؛ مثال ذلك: (السماء والأرض-والجنة والنار).
فلكل لفظ من هذه الألفاظ معنى يختلف عن الآخر، فهذه تُسَمَّى الألفاظ المتباينة.
4 -
ما هو متواطئ: وهو ما اتفق لفظه ومعناه، وهو نوعان:
الأول: التواطؤ المُطلق: وذلك إذا كان المعنى متساويًا في الجميع؛ مثاله: لفظ (الرجل) يقال: زيد رجل وعمر رجل، فالمعنى متساو في الجميع.
الثاني: التواطؤ المشكِّك: وذلك إذا كان المعنى متفاوتًا متفاضلاً.
وسُمِّي بالمشكك؛ لتشكك السامع: هل هذا اللفظ مِنْ قبيل المتواطئ أم من المشترك؟
مثاله: لفظ (النور)؛ فيقال: (نور الشمس ونور السراج)، فالمعنى في الاثنين
واحد، ولكن هناك تفاوت وتفاضل؛ فشتان بين نور الشمس ونور السِّراج
(1)
.
فالأسماء التي تُطلق على الله وعلى العباد هي من الألفاظ المتواطئة التواطؤ المشُكك؛ فالحق فيها هو أن يقال: إنه بالنسبة للأسماء والصفات التي تُطلق على الله وعلى العباد؛ كـ (الحي، والسميع، والبصير، والعليم، والقدير، والحياة، والسمع، والبصر، والعلم) ونحوها هي حقيقة في الرب وحقيقة في العبد.
ولكن للرب تعالى منها ما يليق بجلاله.
وللعبد منها ما يَليق به.
وعليه فإن النظر لأسماء الله وصفاته لا يخلو من حالين:
الحال الأول: باعتبار دلالتها على ذاته عز وجل. فهي بهذا الاعتبار تكون من نوع الألفاظ المترادفة.
قال ابن تيمية: "فأسماؤه كلها مُتَّفقة في الدلالة على نفسه المقدسة"
(2)
.
الحال الثاني: باعتبار ما تضمنه كل اسم أو صفة من معنى
قال ابن تيمية: "ثم كلُّ اسم يدل على معنى مِنْ صفاته ليس هو المعنى الذي دل على الاسم الآخر"
(3)
.
ومن الأمثلة على ذلك:
فـ (العزيز) يدل على نفسه مع عِزَّته.
و (الخالق) يدل على نفسه مع خلقه.
و (الرَّحيم) يدل على نفسه مع رحمتها.
(1)
«التحفة المهدية» (ص 209) بتصرف.
(2)
«الإيمان» (ص 175)، ط: المكتب الإسلامي.
(3)
«الإيمان» (ص 175)، ط: المكتب الإسلامي.
ونفسُه تستلزم جميع صفاته؛ فصار كلُّ اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة، وعلى أحدهما بطريق التضمن، وعلى الصفة الأخرى بطريق اللزوم»
(1)
.
وبذلك تكون الأسماء الحسنى لها اعتباران:
ـ اعتبارٌ من حيث الذات، واعتبارٌ من حيث الصفات.
فهي أعلام باعتبار دلالتها على الذَّات، وأوصاف باعتبار ما دلَّت عليه من المعاني.
وهي بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد هو الله عز وجل، فـ ((الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم)) كلها أسماء لمسمى واحد هو الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء 110].
فأسماء الله تعالى تدل كلها على مسمى واحد، وليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى يضاد دعاءه باسم آخر، بل كل اسم يدل على ذاته.
وهي بالاعتبار الثاني: متباينة لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص، فمعنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير، وهكذا
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: ((أسماء الله الحسنى هي أعلامٌ وأوصافٌ، والوصفُ بها لا ينافي العلمية؛ بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم؛ لأن أوصافهم مشتركة فنافتها العلمية المختصة، بخلاف أوصاف الله تعالى))
(3)
.
(1)
«الإيمان» (ص 175)، ط: المكتب الإسلامي.
(2)
بدائع الفوائد 1/ 162، القواعد المثلى ص 8، جلاء الأفهام ص 138.
(3)
بدائع الفوائد 1/ 162.
وقال رحمه الله: ((أسماء الرب تعالى، أسماء كتبه، وأسماء نبيه صلى الله عليه وسلم هي أعلام دالة على معان هي بها أوصاف، فلا تضاد فيها العلميةُ الوصفَ بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين، فهو الله الخالق البارئ المصوذِر القهَّار؛ فهذه أسماء له دالة على معان هي صفاته
…
))
(1)
.
وضرب المصنف عدة أمثلة لهذا النوع من الألفاظ التي ينطبق عليها أنها تكون مترادفة باعتبار دلالتها على الذات، وقد سبق تعريف المترادف بأنه ما اختلف لفظه واتَّحد معناه ومن ذلك:
المثال الأول: قول المصنف: "وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب".
كما ورد في الحديث: عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لي خمسة أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب
(2)
.
(3)
فهذه الأسماء الخمسة هي أسماء لذات واحدة وهو شخص النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن معنى كل اسم يختلف عن الاسم الآخر، وبالتالي تكون هنا مترادفة أي أن الألفاظ مختلفة والمدلول واخد.
المثال الثاني: قول المصنف: "وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والنور، والتنزيل، والشفاء، وغير ذلك".
فالقرآن تعددت أسماؤه ولكل واحد من هذه الأسماء معناه المختص به ولكنها
(1)
جلاء الأفهام ص 133، 134.
(2)
العاقب: وهو الذي يَخْلُفُ من كان قبله في الخَيْرِ، وهو قد عقب الأنبياء، وكان آخرهم عليهم الصلاة والسلام.
(3)
صحيح البخاري: 4896، وصحيح مسلم:2354.
تجتمع في أن المدلول واحد وهو القرآن الكريم،
المثال الثالث: قول االمصنف: "ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها؛ هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات، كما إذا قيل: السيف، والصَّارِم، والمُهَنَّد؛ وقصد بالصّارم معنى الصّرم، وفي المهند النسبة إلى الهند؟ والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات".
فالسيف له أسماء كثيرة ذكر المصنف منها السيف، والصارم، والمهند؛ فلكل لفظ من هذه الألفاظ معناه الخاص به، لكن هذه الألفاظ تجتمع في الدلالة على هذا النوع من السلاح كما هو معروف.
وقد أشار المصنف إلى الاختلاف في نوع الاعتبار في هذه الألفاظ وهل هي من قبيل المترادف وذلك باعتبار دلالتها على ذات واحدة.
أما أنها من قبيل الألفاظ المتباينة باعتبار متباينة في الصفات، ورجح المصنف أن كلا الإطلاقين صحيح بالاعتبار الذي يعود إليه.
المسألة السابعة: المحكم والمتشابه.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يُعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه.
قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود الآية: 1 [فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر الآية: 23 [فأخبر أنه كله متشابه.
الشرح
ذكر المصنف هنا مسألة المحكم والمتشابه ولهذه المسألة علاقتها الوثيقة بمسألة معرفة ظواهر النصوص، فقد ذكر بعض المعطلة في تأويلهم لنصوص الصفات أن من النصوص ما يعلم معناه ومن ذلك نصوص الصفات، وهذه الدعوى حاول أولئك تمريرها تحت عدد من المسميات، فقد أثاروا هذه المسألة تحت قضية المحكم والمتشابه، وتحت دعوى التأويل، وتحت دعوى المجاز، وتحت دعوى التفويض، وغيرها من المسائل.
ودعوى أن نصوص الأسماء والصفات غير معلومة المعنى هي دعوى أهل التجهيل الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرأها ألفاظا لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلًا لا يعلمه إلا الله،
وهي عندنا بمنزلة {كهيعص} [مريم الآية: 1]، {حم عسق} [الشورى الآية: 1 - 2]، {المص} [الأعراف الآية: 1].
فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلا ولا تشبيها، ولم نعرف معناه، وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله، وظنَّ هؤلاء أن هذه طريقة السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات ولا يفهمون معنى قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص الآية: 75]، وقوله:{وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر الآية 67]، وقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأمثال ذلك من النصوص وبنوا هذا المذهب على أصلين.
أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابه.
والثاني: أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله.
فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرأون {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64].، ويروون "ينزل ربُّنا كل ليلة إلى سماء الدُّنيا" ولا يعرفون معنى ذلك، ولا ما أُريد به، ولازم قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه".
ولا شك أن دعوى كون طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك- بمنزلة الأمِّيِّين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} - هي دعوى باطلة وفيها من القدح في الدِّين وفي حق الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في السابقين الأولين واستجهالهم واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أمِّيِّين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحَّروا في حقائق العلم بالله،
ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهى
وهذا القول إذا تدبَّره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، فإنه من المعلوم أن الله سبحانه وصف نفسه بأنه بيَّن لعباده غاية البيان، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالبيان، وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبيِّن للناس ولهذا قال الزهريُّ:"من الله البيان وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم" فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله، إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده، أو المعنى وحده، أو اللفظ والمعنى جميعا.
ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى، فإن هذا لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الرِّسالة.
وبيان المعنى وحده بدون دليله، وهو اللفظ الدَّال عليه ممتنع.
فعلم قطعا أن المراد بيان اللفظ والمعنى.
والله تعالى أنزل كتابه- ألفاظه ومعانيه- وأرسل رسوله ليبين اللفظ والمعنى، فكما أنا نقطع ونتيقن أنه بيَّن اللفظ، فكذلك نقطع ونتيقن أنه بيَّن المعنى، بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ وهذا هو الذي ينبغي، فإن المعنى هو المقصود، وأما اللفظ فوسيلة إليه ودليل عليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود؛ وكيف نتيقَّن بيانه للوسيلة ولا نتيقّن بيانه للمقصود؟ وهل هذا إلا من أبين المحال؟.
ولقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتا مفصلا على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقيني، ورفع الشك والرَّيب، فثلجت به الصدور واطمأنت به القلوب واستقرّ الإيمان في نصابه، ففصلت الرسالة الصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل، الأمر والنهي، وقرَّرت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ
لفظ.
ومن يطَّلع على كلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم يعلم أنهم عرفوا معاني تلك النصوص وفهموها.
ويريد المصنف الإجابة عن هذا التساؤل وهو هل في النصوص ما يعلم معناه من جهة التأويل الذي هو النفسير بعد أن بين أن هناك ما لا يعلم معناه من جهة التأويل الذي هو حقيقة الأشياء وكيفيتها.
ومسألة المحكم والمتشابه من المسائل التي طال النقاش حولها والمصنف هنا يفصل القول فيها من خلال عدة نقاط:
النقطة الأولى: أن النصوص وصفت القرآن بأوصاف:
الوصف الأول: أن القرآن كله محكم، وذلك في قوله تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود الآية: 1 [فأخبر أنه أحكم آياته كلها".
الوصف الثاني: أن القرآن كله متشابه وذلك في "قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر الآية: 23].
الوصف الثالث: وصف القرآن بأن منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، وذلك في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران الآية: 7].
النقطة الثانية: بيان معنى هذه الأوصاف.
قال المصنف بعد ذكره لهذه الأقسام "فينبغي أن يُعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه".
أولًا: معنى "الإحكام" عمومًا.
قال المصنف: "والحكم هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المشتبهات علمًا وعملاً، إذا مُيِّز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حَكَمْت السَّفيه وأحْكَمْته إذا أخذت على يديه، وحَكَمْت الدَّابَّة وأحْكَمْتها إذا جعلت لها حَكَمَة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره.
جعل المصنف مدار الكلمة على الفصل وربط استعمالاتها بهذا المعنى وأعطى أمثلة لذلك:
بالحكم: فقال: "والحكم هو الفصل بين الشيئين"
والحاكم: فقال: "والحاكم يفصل بين الخصمين".
والحكمة: فقال: "والحكمة فصل بين المشتبهات علمًا وعملاً، إذا مُيِّز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار".
وحكمت السفيه، وحكمت الدابة: فقال: "حَكَمْت السَّفيه وأحْكَمْته إذا أخذت على يديه، وحَكَمْت الدَّابَّة وأحْكَمْتها إذا جعلت لها حَكَمَة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام".
وإحكام الشيء: فقال: "وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره".
وهناك من يرى أن مادة "حكم" تدور على معنى الصرف والمنع، ومنه:
1 -
(حكمة اللجام) للحديدة التي تمنع الفرس من الاضطراب والجموح.
2 -
ومنه حكم الحاكم؛ لأنه منع للظالم من وضع يده على حق غيره.
3 -
ومنه الحكيم؛ لأنه يمنع نفسه من اتباع هواها وارتكاب ما لا يليق، ويرجع إلى هذا المعنى قولهم: أحكمته إحكامًا إذا أخذت على يده، قال جرير:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ
…
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا.
4 -
ومنه الإحكام بمعنى الإتقان؛ لأنه منع للشيء من الخلل والخطأ، يقال: بناء محكم؛ أي متين، لا وهن فيه ولا خلل.
وكلا المعنيين أي الفصل أو المنع متقاربان في المعنى.
ثانيًا: بيان معنى الإحكام العام الذي يعم جميع القرآن.
وقول المصنف: "والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيمًا بقوله:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس الآية: 1 [فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل الآية: 76]، وجعله مفتيًا في قوله:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء الآية: 127 [أي: ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هاديًا ومبشرًا في قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الإسراء الآية: 9].
هذا هو الإحكام العام حيث جاء وصف القرآن بأنه محكم، كما في أول سورة هود:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه} [هود الآية: 1]، وفسر المصنف الإحكام في هذه الآية بقوله:"والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان" فالقرآن كله محكم في جزالة لفظه، ووضوح معانيه، ودقة أحكامه، وصدق أخباره، هذا معنى أنه قرآن محكم.
وربط المصنف بين المعنى اللغوي الذي يرجع إليه لفظ الإحكام الذي هو الفصل بالمعنى الشرعي واستشهد لذلك بأن الله عز وجل:
1 -
سمى القرآن حكيمًا: قال المصنف: "فقد سماه الله حكيمًا بقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس الآية: 1]، فالحكيم بمعنى الحاكم".
2 -
وجعل القرآن يقص: قال المصنف: "كما جعله يقص بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ
يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} "] النمل الآية: 76].
3 -
وجعل القرآن مفتيًا: قال المصنف: "وجعله مفتيًا في قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء الآية: 127 [أي: ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن".
4 -
وجعله هاديًا ومبشرًا: قال المصنف: "وجعله هاديًا ومبشرًا في قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} "] الإسراء الآية: 9].
وكل هذه المعاني داخلة في المعنى العام للإحكام الذي يعم القرآن جميعه.
ثالثًا: بيان معنى التشابه العام الذي يعم جميع القرآن.
وقول المصنف: "وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء الآية: 82]، وهو الاختلاف المذكور في قوله:{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ • يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات الآيات: 8 - 9].
المقصود بهذا النوع هو ما ورد في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر الآية: 23 [فأخبر أنه كله متشابه؛ وقال المصنف: "فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء الآية: 82].
وأما عن المعنى المقصود بالتشابه العام فقد بينه المصنف بيانًا شافيًا بما لا مزيد عليه فقال: "فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدِّق بعضه بعضا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به، أو بنظيره، أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه، أو عن نظيره، أو عن لوازمه، إذا لم يكن هناك نسخ.
وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك، بل يخبر بثبوته، أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته، بل ينفيه، أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضًا، فيُثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى
عنه في وقت واحد، أو يفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة.
وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضًا، ويعضد بعضها بعضًا، ويناسب بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضًا- كان الكلام متشابهًا، بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضًا.
رابعًا: التشابه العام لا ينفي الإحكام العام.
قال المصنف: "فهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضًا، لا يناقض بعضه بعضًا".
فالقرآن من إحكامه وإتقانه أنه من أوله إلى آخره متشابه، يشبه بعضه بعضا في المعاني التي ذكرها المصنف، من التناسب والتماثل وتصديق بعضه لبعض، وأنه لا يخالف ولا يناقض ولا يضاد بعضه بعضًا.
خامسًا: الفرق بين الإحكام الخاص والتشابه الخاص.
قال المصنف: "بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر".
ذكر المصنف الفرق بين التشابه الخاص والإحكام الخاص.
أولًا: من حيث التعريف:
التشابه الخاص: الوارد في النص المقصود به: "هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس
كذلك".
والإحكام الخاص: الوارد في النصوص المقصود به: "هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر".
فالمحكم بهذا المعنى هو: ما اتضح المراد منه.
والمتشابه بهذا المعنى: ما لم يتضح المراد منه لبعض دون بعض.
ثانيًا: الفوارق بين النوعين.
الفرق الأول: أن الله -جل وعلا- ذكر أن المحكم أكثر من المتشابه؛ لأنه سمى المحكم أم الكتاب -يعني معظم الكتاب، وغالب الكتاب-، ومعنى هذا أن الغالب على آيات القرآن الوضوح والبيان.
والمتشابه قليل؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران الآية: 7].
الفرق الثاني: أن الله -جل وعلا- ذكر أن الناس أمام المتشابه صنفان:
الصنف الأول: صنف زائغ يتبع المتشابه، ويحرص عليه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله؛ ولهذا قال -تعالى-:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} [آل عمران الآية: 7]، ينقبون عن المتشابهات ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله.
الصنف الثاني: سماهم الله الراسخين في العلم، هؤلاء الذين يردون المتشابه للمحكم، فإذا رُدَّ المتشابه للمحكم اتضح المتشابه، يزول التشابه، وأيضا يعرفون أن خطابهم بالمتشابه اختبار وابتلاء: هل يؤمنون بما لا يعرفون، أو لا يؤمنون؟ والحقيقة أنهم يؤمنون؛ لأنهم ماذا يقولون؟ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران الآية: 7].
من الأمثلة: قول الله -تعالى-: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء} [النحل الآية: 93 [قد يقرأ هذه الآية إنسان في قلبه مرض -والعياذ بالله-، فيظن أن هداية الله -تعالى- وإضلاله جزاف؛ لأنه قال:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء} [النحل الآية: 93 [
ولا ذكرت الآية أسباب الهداية، ولا أسباب الإضلال.
لكن الراسخين في العلم ردوا هذه الآية-التي قد يظن فيها التشابه-إلى المحكم من القرآن، فالله -جل وعلا- قال:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَام} (4) إذن الآية ذكرت أن هداية الله تعالى للعبد لسبب صادر من العبد، وهو قوله:{اتَّبَعَ رِضْوَانَه} (4) وفي مجال الغواية والإضلال جاءت الآية الثانية: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (5) إذن صارت الهداية لها أسباب والإضلال له أسباب.
إذن ما المنهج للخروج من التشابه؟ رد المتشابه إلى المحكم.
المسألة السادسة: أنواع التشابه الخاص.
قال المصنف: "وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهًا عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النِّسبيّة الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبها له من بعض الوجوه".
التشابه الخاص نوعان: باعتبار ما يتعلق بالمعاني والكيفيات.
فقد لا تبلغ العقول مبلغ فهم هذا النص، فهذا يأتي من حالين:
إما حال المعنى.
أو حال الكيف
فالنوع الأول: يسمى التشابه النسبي: وهو يقع من جهة المعاني-ومعناه الذي
يخفى على أحد دون أحد.
فالظهور والبطون والوضوح والخفاء في فهم المعاني هي أمور نسبية، فقد يفهم الإنسان من آية فهمًا صحيحًا، وقد يفهم منها فهمًا سقيمًا، وهذا يكون بسبب فهمه، فهذا أمر يختلف فيه الناس، فلذلك إذا كان الفهم فاسدًا فيقال: إن هذا الفهم إذا فهمه البعض فهو فهم فاسد، لا أن يقول: إن ظاهر الآية في هذا هو كذا، وهذا غير صحيح.
فحال المعنى فقد يكون بما يسمى الاشتباه النسبي، بمعنى: أن النص قد يتضح لك ويخفى عليك أو العكس، يتضح لي ويخفى عليك، فالمعنى قد لا يبلغه عقلك أو فهمك، وهذا وقع حتى لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فالصحابة رضوان الله عليهم لما سمعوا قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، جاءوا يبكون ويقولون للنبي:"وأينا لم يظلم نفسه" ففهموا من الظلم ظلم النفس، فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى الحق، وقال:«ألم تسمعوا لقول العبد الصالح يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم»
(1)
، فأفهمهم بأن المراد من الظلم هنا هو الشرك؛ لأن الظلم على ثلاثة أنواع:
ظلم النفس، وظلم الغير، والظلم بمعنى الشرك.
وهذا عدي بن حاتم عربي قُح، عندما سمع قول الله عز وجل:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، جاء بحبلين بعقالين أحدهما أسود والثاني أبيض ووضعهما تحت وسادته وأخذ ينظر إليهما، يريد أن يتبين إليه
(1)
انظر صحيح البخاري كِتَابُ الإِيمَانِ، بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ برقم (15)، ومسلم كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَإِخْلَاصِهِ (124)، والترمذي (3067)، والإمام أحمد في المسند مسند المكثرين من الصحابة (3589).
الأبيض من الأسود، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن قفاك لعريض ألم يقل من الفجر»
(1)
، فبين له أن المعنى هنا بياض النهار وسواد الليل.
فيقع التباس وعدم قدرة على الفهم من جهة المعنى.
النوع الثاني: التشابه مطلق: وهو الذي يخفى على كل احد.
وهذا يقع إذا كان الأمر يتعلق بالكيفية ككيفية صفات الله عز وجل، فنحن لا نعلم كيفية نزوله، ولا كيفية استوائه، فلا سبيل لأن نعلم هذه الكيفيات فهي أمورٌ لا تبلغها عقولنا، فما جاء النص بما يصادم العقل، لكن قد يأتي النص بما لم يبلغه العقل، وما لم يصل إليه عقل الإنسان. فما كان متعلقاً بالكيف فليس لك إليه سبيل؛ لأنه محجوبٌ عنك، وكما قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فليس لك أن تتخوض أو تخوض في شأن الكيف ولا سبيل لك إليها.
مثال ذلك: آيات الصفات.
وقد انقسم الناس في آيات الصفات هل هي من المتشابه إلى فريقين:
فريقٌ أطلق ولم يصب، فقال: آيات الصفات من المتشابه.
وفريق آخر من المحققين-وعلى رأس القائمة شيخ الإسلام ابن تيمية-قالوا: آيات الصفات من جهة المعاني ليست من المتشابه؛ لأن معانيها معروفة.
وأما كيفية الصفة فهذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
(1)
انظر صحيح البخاري كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، برقم (1916)، ومسلم كِتَاب الصِّيَامِ، بَابُ بَيَانِ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الصَّوْمِ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ
…
برقم (1090)، والترمذي (2970)، والنسائي (2169)، والإمام أحمد في المسند أَوَّلُ مُسْنَدِ الْكُوفِيِّينَ (19375).
المسألة السابعة: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس.
قال المصنف: "ومن هذا الباب الشُّبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل.
والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات، لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه، فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد.
وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه، ولهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه- والقياس الفاسد لا ينضبط- كما قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال، والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة".
أوضح المصنف رحمه الله أن أكثر ضلال الناس وقع بسبب أمرين:
شبه التأويل.
القياس الفاسد.
وبين أن شبه التأويل تقع في الأدلة السمعية، وذلك من جهة الألفاظ المتشابهة. وعرفها المصنف بقوله:"وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل"
وهذا النوع عده المصنف من باب الاشتباه النسبي فقال: "حتى يشتبه على بعض الناس"
وليس الاشتباه المطلق، وذلك أن الاشتباه النسبي قد يعرفه العلماء فقال
المصنف: "ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل".
وأن القياس الفاسد يقع في االأدلة العقلية، وذلك من جهة المعاني المتشابهة. وعرف المصنف القياس الفاسد بقوله:"تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه"
وهذا النوع عده المصنف كذلك من باب الاشتباه النسبي وليس الاشتباه المطلق فقال: "فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد.
قال ابن القيم: " فالرأي الباطل أنواع:
أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام
فسادُه وبطلانه، ولا تحلُّ الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه مَنْ وقع بنوع تأويلٍ وتقليد.
النوع الثاني: هو الكلام في الدين بالخرْص والظن، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، فإنَّ مَنْ جهلها وقاسَ برأيه فيما سئل عنه بغير علم، بل لمجرد قدر جامع بين الشَّيئين ألحق أحدهما بالآخر، أو لمجرد قدرٍ فارقٍ يراه بينهما، ففرق بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار؛ فقد وقع في الرأي المذموم الباطل فضلَّ وأضل.
النوع الثالث: الرأيُ المتضمنُ تعطيلَ أسماءِ الربِّ وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهلُ البدع والضلال من الْجَهْمِيَّة والمُعْتَزلة والقَدَريَّة ومن ضَاهَاهُم، حيث استعمل أهله قياساتِهِم الفاسدة وآراءَهم الباطلة وشُبَهَهَم الداحضة في رَدِّ النصوص الصحيحة الصريحة، فردوا لأَجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم، ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رَدِّ
ألفاظها سبيلًا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل، فانكروا لذلك رؤية المؤمنين رَبَّهم في الآخرة، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده، وأنكروا مباينته للعالم، واستواءه على عرشه، وعُلوَّهُ على المخلوقات، وعموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن والإنس عن تعلُّقِ قُدْرَتِه ومشيئته وتكوينه لها، ونَفَوْا لأجلها حَقائقَ ما أَخبرَ به عن نفسه وأَخبرَ به رسولُه من صِفاتِ كَمالهِ ونُعوتِ جَلَاله؛ وحرَّفوا لأجلها النصوص عن مَواضِعِها، وأخرجوها عن معانيها [وحقائقها](9) بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار وعُفارة الآراء ووساوس الصدور، فملأوا به الأوراق سَوَادًا، والقلوب شُكوكًا، والعالم فسادًا.
النوع الرابع: الرأي الذي أُحدثت به البدع، وغُيِّرت به السنن، وعمَّ به البلاء، وتربَّى عليه (8) الصغير، وهَرِمَ فيه الكبير.
فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمَّة وأئمتها على ذمِّه وإخراجه من الدين.
النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين- رضي الله عنهم-أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظُّنون، والاشتغال بحفظ المعْضِلات والأغلوطات، ورَدِّ الفروع والنوازل بعضها على بعضٍ قياسًا، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها، فاستُعْمِل فيها الرأي قبل أن تنزل، وفُرِّعت وشُققت قبل أن تقع، وتُكّلِّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن، قالوا: وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن، والبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم
الوقوف عليه منها، ومن كتاب اللَّه-عز وجل-ومعانيه"
(1)
المسألة الثامنة: أمثلة لما وقع من القياس الفاسد من جهة الاشتراك في الألفاظ.
المثال الأول: قول الاتحادية.
قال المصنف: "وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحدًا به، أو حالا فيه من الخالق مع المخلوق. فمن اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوقات- حتى ظنوا وجودها وجوده- فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى «الوجود» فرأوا الوجود واحدًا، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع".
الاتحادية الذين يقولون: إن وجود الخالق هو وجود الخلق هو من أتباع ابن عربي صاحب فصوص الحكم وصاحب الفتوحات المكية، وخلاصة هؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.
ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 54 - 56
"عين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى".
وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود.
(1)
وفي هذا يقول ابن عربي:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً
…
وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً
…
وكنت إماماً في المعارف سيداً
فمن قال بالإشفاع كان مشركاً
…
ومن قال بالإفراد كان موحداً
فإياك والتشبيه إن كنت ثانياً
…
وإياك والتنزيه إن كنت مفرداً
فما أنت هو بل أنت هو وتراه
…
في عين الأمور مسرحا ومقيداً
(2)
المثال الثاني: قول المعتزلة ومن وافقهم.
قال المصنف: "وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى «الوجود» ، لزم التشبيه والتركيب، فقالوا: لفظ «الوجود» مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم، من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات.
وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم، وهؤلاء هم نفاة جميع الصفات الذين أخذوا يقولون: إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم، إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم، والجسم مركب في اصطلاحهم، وإما لأن إثبات العلم والقدرة
(1)
-بغية المرتاد ص 473.
(2)
-بغية المرتاد ص 527.
ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة، وذلك تركيب"
(1)
.
هذه الحجة التي ينفون بها الصفات ويعتمدون على نفي مسمى التركيب هي مبنية على ألفاظ مجملة مشتركة موهمة فإذا قالوا إثبات الصفات تركيب والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ليس بواجب بنفسه قيل لهم إن أردتم بالغير غيرًا مباينًا له فهذا باطل وإن أردتم ما هو داخل في مسمى اسمه كان حقيقة قولكم المركب لا يوجد إلا بوجود جزئه والمجموع لا يوجد إلا بوجود بعضه والجملة لا توجد إلا بوجود أفرادها. وقد تقدم الكلام على لفظ التركيب فيما سبق.
المثال الثالث: قول الفلاسفة.
قال المصنف: "وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى «الوجود» لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة: مثل وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك؛ فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتًا في الأعيان، وهذا كله من أنواع الاشتباه. "
هؤلاء هم الفلاسفة الذين يقولون بموجودات ممكنة ليست أجساما ولا أعراضا قائمة بالأجسام كالعقل والنفس والهيولى والصورة التي يدعون أنها جواهر عقلية موجودة خارج الذهن ليست أجساما ولا أعرضا لأجسام فإن أئمة أهل النظر يقولون إن فسادها هذا معلوم بالضرورة كما ذكر ذلك أبو المعالي الجويني وأمثاله من أئمة النظر والكلام"
(2)
(1)
الرسالة الصفدية - قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة ص 73، 74.
(2)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أكثر أسباب غلطهم بناؤهم على أن المعقول الموجود يكون له وجوده في الخارج وهم إذا تدبروا ذلك علموا أن المعقولات التي هي أمور كلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان وإن الخارج لا يكون فيه شيء مما هو معقول مجرد وهو الأمور الكلية إلا أن يراد بالمعقول في قولهم مثلوا المعقول في صورة المحسوس ما يحسه الإنسان بنفسه دون جسده، فهذا في الحقيقة محسوس موجود لكن بالحس الباطن والوجد الباطن ليس معقولا محضا ولا في تمثل أن الإنسان يحس جوعه وشبعه ولذته وألمه أنه ينتقل حكمه من الباطن إلى الظاهر كما ينتقل حكم الحس بالظاهر إلى الباطن، وإذا قدر وجود النفس بغير بدن فهو يحس بما يجده من لذة وألم وذلك أمر محسوس لها وبجنس أسباب ذلك لا يكون لها معقولا مجردا كليا فإن ذاك إنما ثبوته في مجرد العلم والاعتقاد ولا بد له من أفراد موجودة في الخارج وإلا لم يكن حقا، ومن المعلوم أن هذا الظان أن النفس تلذذ بهذه الأمور دون إدراك الحقائق الخارجية من أفسد الظن وهو كقول من يقول إن النفس تتلذذ بتمثل المحسوس والمشتهى دون المباشرة لحقيقته الخارجة فقولهم يمثل المعقول في صورة المحسوس كلام لا حقيقة له، لكن لو قال يمثل الغائب في صورة الشاهد ويمثل الغيب في صورة الشهادة كان هذا حقا، فإن الإنسان إنما يعلم ما يشهده ويحس به بالقياس والتمثيل لما شاهده، لكن هذا لا يقتضي أن تكون الأمور الغائبة المتمثلة ليست في أنفسها مما يحس بل يعقل عقلا مجردا فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقوله"
(1)
المسألة التاسعة: ضرورة التفريق بين الأمور التي اشتركت من بعض الوجوه.
قال المصنف: "ومن هداه الله سبحانه فرّق بين الأمور وإن اشتركت من بعض
(1)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 33).
الوجوه، وعلم ما بينها من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم- الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق.
وهذا كما أن لفظ «إنّا» و «نحن» وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم، الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له. فإذا تمسك النصراني بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحدًا- يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغ الجمع مبينًا لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم".
بين المصنف-رحمه الله أن من هداه الله للتفريق بين الأمور من اشتباه من بعض الوجوه ممن من الله عليه بمعرفة ما يدل عليه الكتاب والسنة، ومعرفة القدر المشترك بين الشيئين، وما يمتاز كل واحد منهما عن الآخر، وذلك من خلال رد المشكل غير الواضح من النصوص إلى النص الواضح المعنى، بحيث يزول الإشكال والاشتباه، فيعرف الفرق بين الشيئين من جهة الجمع وجهة الافتراق.
وأعطى المصنف مثالًا لذلك بما ورد بشان لفظ (إنا) و (نحن) في القرآن فكلا اللفظين يسخدم صيغة جمع كقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح الآية: 1]. وقوله: {إنا أنزَلْنَاهُ قُرْأناً عَرَبِيا} [يوسف الآية: 2]، وقوله:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [الزخرف الآية: 32]، ونحو ذلك كقوله:{نَتْلُو عَلَيْكَ} [القصص الآية: 3]، وقوله:{فَرَضْنَا} [الأحزاب الآية: 50]، و {وَرَفَعْنَا} [الشرح الآية 4 [حيث تمسك النصارى بمثل هذه النصوص، واستدلوا بها على أن الله ثالث ثلاثة! تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقد
غفلوا عن كون هذه الصيغة في أصل وضعها العربي يتكلم بها الواحد المعظم نفسه، ويتكلم بها الواحد الذي معه شركاء في فعله. فيؤتى لهؤلاء النصارى بالآيات المصرحة بوجدانية الله كقوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا أن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة الآية: 73]، و {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة الآية: 163]، {قُلْ إنما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ إنما إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف الآية: 110]. ونحو ذلك من الآيات المصرحة ببطلان ما يدعون، والمزيلة للاشتباه الذي به يلبسون.
فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم المتحدث عن نفسه، وللعظيم الذي له أعوان يطيعونه! فإذا فعل أعوانه فعلا بأمره قال: نحن فعلنا كما يقول الملك نحن فتحنا هذا البلد، وهزمنا هذا الجيش ونحو ذلك، وحينئذ فالرب تبارك وتعالى يتكلم ب"أنا" و"نحن " لما له من العظمة والجلال. وعديد الأسماء والصفات التي لا يحصيها إلا هو وما له من الجود الذين هم عبيده وتحت قهره يديرهم كيف يشاء فهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . كما وصفهم الله في سورة الأنبياء، فهو سبحانه أحق بالتكلم ب"إنا" و"نحن" ونحو ذلك.
فنحن إذا نفهم مراد الله بقوله: "إنا"و"نحن" وإن كنا نجهل ما دل عليه ذلك من كيفية صفات الله وحقيقة ذاته المقدسة كما نجهل حقيقة ذوات الملائكة وكيفية صفاتهم، ولا نعلم عددهم ولا كيف يأمرهم الله يفعلون. أما الملك من البشر إذا تكلم ب" إنا" و"نحن" فقد يكون مراده"
(1)
المسألة العاشرة: حقائق الأسماء والصفات من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
(1)
التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية 1/ 226.
قال المصنف: "وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمه إلا هو {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر الآية: 31]، وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء. فقد عُلم أنه هو وأعوانه- مثل كاتبه، وحاجبه، وخادمه، ونحو ذلك- أمروا به، وقد يُعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك.
والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة.
أشار المصنف هنا إلى النوع الثاني من أنواع التأويل الذي هو بمعنى الحقيقة والكيفية، وقد تقدم ذكر أنه:
إما أن يكون المقصود بالتأويل الحقيقة التي تؤول إليها الأمور.
أو يكون المقصود به جميع التأويل الذي هو التفسير.
فمعرفة حقيقة صفات الله ومعرفة حقيقة جنوده وصفات اليوم الآخر لا يعلم حقائقها إلا الله تعالى يخلاف الملك البشر إذا ما أمر بعطاء ونحوه فكما قال المصنف: "فقد عُلم أنه هو وأعوانه- مثل كاتبه، وحاجبه، وخادمه، ونحو ذلك- أمروا به، وقد يُعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك".
المسألة الحادية عشرة: التشابه يكون الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة.
قال المصنف: "وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يميّز أحد المعنيين من
إضافة أو تعريف، كما إذا قيل:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَّاءٍ} [محمد الآية: 15]، فهنا قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو- مع ما أعد الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر- من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله".
تقدم ذكر الفرق بين الألفاظ المتواطئة والألفاظ المشتركة، فتعريف الألفاظ مشترك: هو ما اتَّحد لفظه واختلف معناه؛ مثال ذلك: لفظ: (العين)؛ فهي تُطلق على (العين الباصرة-والعين الجارية-والجاسوس-والحسد).
وتعريف الألفاظ المتواطئة وهو ما اتفق لفظه ومعناه، وهو نوعان:
الأول: التواطؤ المُطلق: وذلك إذا كان المعنى متساويًا في الجميع؛ مثاله: لفظ (الرجل) يقال: زيد رجل وعمر رجل، فالمعنى متساو في الجميع.
الثاني: التواطؤ المشكِّك: وذلك إذا كان المعنى متفاوتًا متفاضلاً.
والشيء المشترك بين النوعين أن اللفظ واحد.
ومقصود المصنف بقوله: "وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة" أي ما أورده من أمثلة فيما سبق من لفظ (إنا) و (نحن) ولفظ (الوجود). فهذه جميعًا تطلق في حق الخالق وحق المخلوق فاللفظ واحد المعنى واحد ولكن بين الاثنين تفاوت في القدر والحفيقة وهو ما يطلق عليه مسمى التواطء المشكك.
وأعطى المصنف مثالًا توضيحيًا لذلك بقوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَّاءٍ}
فلفظ الماء يطلق على ماء الجنة وعلى ماء الدنيا، فكلاهما يمسى ماءً، ونحن نعرف حقيقة ماء الدنيا، أما ماء الجنة فكما ذكر المصنف:"لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو- مع ما أعد الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر- من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله".
المسألة الثانية عشرة: مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو.
قال المصنف: "وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو. ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه- تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال الإمام أحمد في كتابه الذي صنفه «في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله» .
وإنما ذمهم لكونهم تأوّلوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق التأويل، كما تقدم من أن لفظ «التأويل» يراد به التفسير المبيِّن لمراد الله تعالى به، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع".
أعاد المصنف تأكيد أن لفظ التأويل فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته يراد به أحد أمرين:
الأمر الأول: "يراد به التفسير المبيِّن لمراد الله تعالى به".
الأمر الثاني: "ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو".
فيجب التفريق بين التأويلين فالسلف لم يمتنعوا عن تأويل المعنى الذي هو التفسير وإنما امتنعوا عن تأويل الحقيقة والكيفية كما قال المصنف: "وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو" فهي من الأمور التي لا يعلم تأويلها إلا الله عز وجل.
وبين المصنف أن ذم السلف للمعطلة لم يكن المقصود به ذم التأويل مطلقًا، فهذا لم يكن مرادهم وإنما المراد ذم تأويلاتهم الباطلة سواء فيما يتعلق بالتأويل الذي هو التفسير حيث أولوا معاني نصوص الاستواء كقولهم استوى استولى، واليد بمعنى النعمة أو القدرة ونحو ذلك. أو بخوضهم في كيفية صفات الله وحقائقها.
المسألة الثالثة عشرة: غلط من ينفي التأويل مطلقا.
قول المصنف: "ومن لم يعرف هذا اضطربت أقواله، مثل طائفة يقولون: إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره؛ ويحتجون بقوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل.
وهذا تناقض منهم، لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقًا".
يتحدث المصنف هنا عن صنف من المعطلة وهم أهل التجهيل وهو دعوى التوقف في معنى النصوص، فيقولون:«الله أعلم بمراده»
(1)
، فهذه حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين.
وحقيقة رأيهم يدور بين التأويل وبين التفويض، أي بين التحريف أو التجهيل، فالتفويض في حقيقته هو دعوى الجهل والتوقف في معاني النصوص، وأن هذه النصوص لا يعلم معناها، وهذا أمرٌ لو طبق في الواقع فلا يمكن أن يطبق، فهل يعقل أنه لا يمكن التفريق بين «استوى» و «نزل»؟ هل نقرأ قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] فلا نفهم المراد من هذه الآية وتقرأ مثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»
(2)
فلا نفهم مراده.
(1)
انظر كتاب درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية الجزء الأول صفحة (201).
(2)
انظر صحيح البخاري كتاب التهجد، بَابُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، برقم (1145)، ومسلم كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا، بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَالْإِجَابَةِ فِيهِ (758)، وأبو داود (1315)، والترمذي (446)، وابن ماجه (1366)، والإمام أحمد في المسند مُسْنَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (7509)، والدارمي (1519).
هل يعقل أن يتكلم الله عز وجل أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام لا يعرف ولا يعلم معناه؟ فهل عندما نقرأ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، هل يعني هذا أننا ما تفهم معنى هذا الكلام؟
فما من إنسان يعرف لغة العرب وإلا ويعرف معنى «اليد» وما جاءت به من معاني في لغة العرب وأن سياق الكلام هو الذي يحدد المعنى المراد منها، وإن كانت كيفية هذه اليد الله أعلم بها، وكذلك نعلم معنى الوجه، ونعلم معنى العين، ونعلم ونفرق بين هذه الألفاظ؛ لأن كل لفظ له في لغة العرب معنى.
والقائلين بالتفويض هم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.
فهؤلاء سكتوا عن بيان المراد منها زعمًا منهم أنه لا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، فقالوا: إن هذه النصوص على خلاف ظاهرها، والمراد منها لا يعلمه إلا الله.
القسم الثاني: يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز ألا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
فيجوز أحد الاعتبارين، وأحد الحالين، يجوز في نفس الوقت إجراؤها على ظاهرها، ويجوز في نفس الوقت أن يكون لها معنى آخر لا يعلمه إلا الله تعالى، والفرق بين هذا وبين الذي قبله، أن الذي قبله يجزم بأنها على خلاف ظاهرها لكن يسكت عن تحديد المراد، أما هذا فيجوِّز الحالين معًا وهذا في غاية التناقض لأنه
جمع بين ضدين.
القسم الثالث: يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.
وهذا القسم هم أصحاب الجهل البسيط الذين يمسكون عن هذا كله، ويقولون: نحن نقرأ القرآن ولا نتجاوز قراءة النص، ونُعرض عن هذا كله، وهذا يعني لا شك أنه إعراض عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
والقول بالتفويض لم يكن معروفاً عند الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، وبخلاف القول بالتأويل فهو السائد بين طوائف المعطلة جميعاً، بل إن تأويلات الأشاعرة بعينها هي تأويلات الجهمية.
وظهور مقالة التفويض إنما هو مرتبط بالقسم الثالث وهم الصفاتية والمقصود بهم الكلابية والأشاعرة والماتريدية وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين:
فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا"
(1)
.
ولبيان علاقة القول بالتفويض لمعاني النصوص بالصفاتية ومن وافقهم، فهذه العلاقة تتضح من خلال تعامل هؤلاء مع نصوص الكتاب والسنة حيث تمثل هذا التعامل في أن نفاة الصفات الاختيارية يتلخص قولهم في النقاط الآتية:
أولاً: يثبتون الصفات التي يسمونها عقلية وهي الحياة والعلم والقدرة
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 366).
والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. واختلفوا في صفة البقاء.
ثانياً: ويثبتون في الجملة الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعين ولكن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية، على أن بعضهم إثباته لها من باب التفويض.
ثالثاً: أما الصفات الخبرية الواردة في السنة كاليمين، والقبضة، والقدم، والأصابع فأغلب هؤلاء يتأولها.
(1)
لم يعرف القول بالتفويض بهذا المعنى في القرون الثلاثة الأولى، بل ظهر في القرن الرابع، كما قال ابن تيمية وقال: وأول من قال به أبو منصور الماتريدي -المتوفي 333 هـ- وأبو الحسن الأشعري -المتوفي 324 في محاولة للتوسط بين منهج السلف في إثبات النصوص وبين المنهج العقلي المستمد من الفلسفة اليونانية
…
وإنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله تعالى فيهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ. انتهى بتصرف.
وللتفصل بشكل أدق فإن الأشعرية المتأخرة مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه
(2)
.
فقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية بالجملة، كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسن الباهلي والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 52، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 1034، 1036.
(2)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 97).
شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء
(1)
.
لكن المتأخرين من أتباع أبي الحسن الأشعري كأبي المعالي الجويني وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما.
ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله تعالى.
وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه. فهؤلاء يقولون: تأويلها بما يقتضي نفيها تأويل باطل، فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة
(2)
.
وهذا الاضطراب في العقيدة الأشعرية بين المتقدمين والمتأخرين سببه ما أسلفنا من ميل الأشاعرة بأشعريتهم إلى الاعتزال أكثر فأكثر بل إنهم خلطوا معها الفلسفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالأشعرية وافق بعضهم المعتزلة في الصفات الخبرية، وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية، وأما الصفات القرآنية فلهم قولان:
فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقر ببعضها؛ وفيهم تجهم من جهة أخرى.
فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم.
وابن الباقلاني أكثر إثباتاً بعد الأشعري، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن.
(1)
مجموع الفتاوى (4/ 147، 148).
(2)
منهاج السنة (2/ 223، 224).
وأما الجويني ومن سلك طريقته فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين
(1)
.
فما إن جاء أبوبكر الباقلاني (ت 403 هـ)، فتصدى للإمامة في تلك الطريقة وهذبها ووضع لها المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية من حيث وجوب الإيمان بها
(2)
وأسهم إلى حد كبير في تنظير المذهب الأشعري الكلامي وتنظيمه مما أدى إلى تشابه منهجي بين المذهب الأشعري والمذهب المعتزلي فقد كان الأشعري يجعل النص هو الأساس والعقل عنده تابع، أما الباقلاني فالعقيدة كلها بجميع مسائلها تدخل في نطاق العقل
(3)
ويعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري
(4)
.
ثم جاء بعده إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) فاستخدم الأقيسة المنطقية في تأييد هذه العقيدة، وخالف الباقلاني في كثير من القواعد التي وضعها. وإن كان الجويني قد استفاد أكثر مادته الكلامية من كلام الباقلاني، لكنه مزج أشعريته بشيء من الاعتزال استمده من كلام أبي هاشم الجبائي المعتزلي على مختارات له، وبذلك خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة.
وأما كلام أبي الحسن الأشعري فلم يكن يستمد منه، وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس
(5)
وعلى طريقة الجويني اعتمد المتأخرون من الأشاعرة،
(1)
منهاج السنة (2/ 223، 224).
(2)
مقدمة ابن خلدون (ص 465)، ط: مصطفى محمد.
(3)
مقدمة التمهيد للباقلاني (ص 15)، بتحقيق الخضيري وأبو ريدة.
(4)
نشأة الأشعرية وتطورها (ص 320).
(5)
بغية المرتاد (ص 448، 451)، بتصرف.
كالغزالي (ت 505 هـ) وابن الخطيب الرازي (ت 606 هـ) وخلطوا مع المادة الاعتزالية التي أدخلها الجويني مادة فلسفية، وبذلك ازدادت الأشعرية بعداً وانحرافاً.
فالغزالي مادته الكلامية من كلام شيخه الجويني في "الإرشاد" و"الشامل" ونحوهما مضموماً إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني. ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا، ولهذا يقال أبو حامد أمرضه "الشفا"، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك.
وأما الرازي فمادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة اعتزالية قوية من كلام أبي الحسين البصري (ت 436 هـ)، وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني ونحوهما
(1)
.
ودعوى القول بالتفويض لم تقتصر على الصفاتية وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الصنف الثالث: وهم أهل التجهيل: فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف. يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف معاني ما أنزل الله عليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني [تلك] الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك.
وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أن الرسول تكلم بهذا ابتداءً، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه.
وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 7]، فإنه وقف كثير من السلف على قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وهو وقف صحيح
(1)
بغية المرتاد (ص 448)، بتصرف.
[لكن] لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعمله، وظنوا أن التأويل [المذكور] في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك"
(1)
.
فمن الافتراءات التي أُلصقت بمذهب السلف أهل السنة والجماعة، أنهم يؤمنون بألفاظٍ مجرَّدة دون التطرق للمعاني، وهو ما يسميه من ينسبه إليهم مذهب التفويض، واستدلوا لذلك بقول أكثر من واحد من أئمة السلف في نصوص الصفات:((أمروها كما جاءت))، وهم إنما نفوا العلم بالكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصّفة.
وهذا الزعم فيه تجهيل للسلف، واتهام لهم بعدم العلم، وحقيقة الأمر أن السلف كانوا أعظم الناس فهما وتدبراً للنصوص الشرعية، وبخاصة ما يتعلق منها بمعرفة الله عز وجل، يؤمنون بألفاظها، ويعرفون معانيها، لكن لم يكونوا يتكلفون ما لم يحيطوا به علماً ولا فهما، ولا يخوضون في كيفية ذات الله عز وجل وصفاته.
فالسلف يؤمنون بأسماء الله وصفاته، وبما دلت عليه من المعاني والأحكام، أما كيفيتها فيفوضون علمها إلى الله.
وهم برآء مما اتهمهم به المعطلة الذين زعموا أن السلف يؤمنون، بألفاظ نصوص الأسماء والصفات، ويفوضون معانيها.
فإنهم كانوا أعظم الناس فهما وتدبرًا لآيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة فيما يتعلق بمعرفة الله تعالى، فكانوا يدرون معاني ما يقرأون ويحملون من العلم، ولكنهم لم يكونوا يتكلفون الفهم للغيب المحجوب، فلم يكونوا يخوضون في كيفيات الصفات شأن أهل الكلام والبدع، فإنهم حين خاضوا في ذات الله وصفاته
(1)
((الحموية)) (ص 36 - 40)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 31 - 35)، وانظر أيضاً ((الصواعق المرسلة)) (2/ 418 - 424)((النفائس)) (ص 105 - 108).
وقعوا في التأويل والتعطيل، وإنما ألجأهم إلى ذلك، الضيق الذي دخل عليهم بسبب التشبيه، فأرادوا الفرار منه فوقعوا في التعطيل،، ولم يقع تعطيل إلا بتشبيه، ولو أنهم نزهوا الله تعالى ابتداء عن مشابهة الخلق، وأثبتوا الصفة مع نفي المماثلة لسلموا ونجوا، ولوافقوا اعتقاد السلف ولبان لهم أن السلف لم يكونوا حملة أسفار لا يدرون ما فيها.
ومن تدبر كلام أئمة السلف المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرًا، وأعلم الناس في هذا الباب، وأن الذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، ولذلك صار أولئك الذين خالفوا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة الآية: 176].
ومن له اطِّلاع على أقوال السلف المدونة في كتب العقيدة والتفسير والحديث، يدرك أن السلف تكلموا في معاني نصوص الصفات، وبينوها ولم يسكتوا عنها، وهذه الأقوال أكبر شاهدٍ على فهم السلف لتلك النصوص وإدراك معانيها
(1)
.
ودعوى تفويض معاني النصوص دعوى مرفوضة وهي دليل على جهل المخالفين بأقوال السلف في هذا الباب.
وقد حاول أولئك تمرير هذا الباطل تحت عدد من المسميات، فقد أثاروا هذه المسألة تحت قضية المحكم والمتشابه، وتحت دعوى التأويل، وتحت دعوى المجاز، وتحت دعوى التفويض، وغيرها من المسائل.
أشار المصنف هنا بشيء من الإجمال إلى أصحاب هذا القول، وبين في أخر الفتوى الحموية تفاصيل بعض قولهم فقال: "وأما القسمان الواقفان:
- فقسم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز ألا
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 278 - 279، 7/ 108 - 109).
يكون المراد صفة الله ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
- وقسم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات"
(1)
.
الواقفان الذين يقفون في هذا على أحد قولين:
- قسم يقول: تجرى على ظاهرها، ومع ذلك يجوز أن يكون المراد أمراً آخر، فيجوز أحد الاعتبارين، أحد الحالين، يجوز في نفس الوقت إجراؤها على ظاهرها، ويجوز في نفس الوقت أن يكون لها معنى آخر لا يعلمه إلا الله تعالى، فهذا فرق بينه وبين الذي قبله، فالذي قبله يجزم بأنها على خلاف ظاهرها لكن يسكت عن تحديد المراد، أما هذا فيجوِّز الحالين، يجوِّز الحالين معًا وهذا في غاية التناقض لأنه جمع بين ضدين.
- وقسم أصحاب الجهل البسيط الذين يمسكون عن هذا كله، ويقولون: نحن نقرأ القرآن ولا نتجاوز قراءة النص، ونُعرض عن هذا كله، وهذا يعني لا شك أنه إعراض عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
ويذكر شيخ الإسلام سبب نشوء هذه الشبهة فيقول عن المفوضة: "هم طائفة من المنتسبين إلى السنة، وأتباع السلف، تعارض عندهم المعقول والمنقول، فأعرضوا عنها جميعا بقلوبهم وعقولهم، بعد أن هالهم ما عليه أصحاب التأويل من تحريف للنصوص، وجناية على الدين فقالوا في أسماء الله وصفاته، وما جاء في ذكر الجنة والنار، والوعد والوعيد إنما هي نصوص متشابهة لا يعلم معناها إلا الله تعالى.
وهم طائفتان من حيث إثبات ظواهر النصوص ونفيها.
الأولى تقول: المراد بهذه النصوص خلاف مدلولها الظاهر، ولا يعرف أحد من
(1)
مجموع الفتاوى 3/ 76.
الأنبياء، ولا الملائكة، ولا الصحابة، ولا أحد من الأمة، ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة.
الثانية تقول: بل تحري على ظاهرها، وتحمل عليه، ومع هذا، فلا يعلم تأويلها إلا الله تعالى فتناقضوا؛ حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها، وقالوا، مع هذا بأنها تحمل على ظاهرها.
وهم أيضا طائفتان؛ من حيث علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني النصوص
الأولى تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم معاني النصوص المتشابهة، لكنه لم يبين للناس المراد منها، ولا أوضحه إيضاحا يقطع النزاع، وهذا هو المشهور عنهم.
والثانية تقول: وهم الأكابر منهم، أن معاني هذه النصوص المتشابهة لا يعلمها إلا الله، لا الرسول، ولا جبريل، ولا أحد من الصحابة والتابعين، وعلماء الأمة.
وعند الطائفتين أن هذه النصوص إنما أنزلت للابتلاء، والمقصود منها تحصيل الثواب بتلاوتها، وقراءتها، من غير فقه، ولا فهم)
(1)
.
ويرى شيخ الإسلام أن القول بالتفويض يفضي إلى (القدح في الرب جلا وعلا، وفي القرآن الكريم، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بأن يكن الله تعالى أنزل كلاماً لا يفهم، وأمر بتدبر ما لا يتدبر، وبعقل ما لا يعقل، وأن يكون القرآن الذي هو النور المبين والذكر الحكيم سبب لأنواع الاختلافات، والضلالات، بل يكون بينهم، وكأنه بغير لغتهم، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ البلاغ المبين، ولا بين للناس ما نزل إليهم، وبهذا يكون قد فسدت الرسالة، وبطلت الحجة، وهو الذي لم يتجرأ عليه صناديد الكفر)
(2)
(1)
مجموع الفتاوى: 16/ 442.
(2)
انظر كتاب درء تعارض العقل والنقل: 1/ 204.
وهذه الشبه يرد عليها من وجهين:
الوجه الأول: بيان أن النصوص معلومة المعنى، وذلك من خلال بيان معاني لفظ (التأويل) والمقصود منه.
والوجه الثاني: النقول الواردة عن سلف الأمة في بيان معاني نصوص الصفات وتفسيرهم لها.
وقول المصنف: "وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو".
أي أن هؤلاء غلطوا في تعريف التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو تأويل الحقيقة والكيف، وحملوا التأويل الذي هو بمعى التفسير الذي يعنى بمعاني النصوص على هذا المعنى بأنه لا يعلم معناه إلا الله.
قال ابن تيمية: "من أين لهم أنَّ التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عني به المتكلمون، وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطِب إفهام المخاطَب إياه. وهو سبحانه وتعالى لم يقل: وما يعلم معناه إلا الله، ولا قال: وما يعلم تفسيره إلا الله، ولا قال: وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله، ولا ما دل عليه إلا الله. قال: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ)، ولفظ التأويل له في القرآن معنى، وفي عرف كثير من السلف وأهل التفسير معنى، وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى، وبسبب تعدد الإصطلاحات والأوضاع فيه، حصل اشتراكٌ غلطَ بسببه كثير من الناس في فهم القرآن وغيره"
(1)
وقول المصنف: "وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدّعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير
(1)
نقض التأسيس)) - مخطوط - (2/ 223 - 224).
المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل! ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه! فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقًا ممكنًا كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلا ممتنعًا كان الثابت مثله".
بعد أن أشار المصنف إلى مقالة التفويض، أشار هنا إلى مقالة التأويل الفاسد.
والمصنف هنا يتعرض للتأويل الذي هو في اصطلاح المتأخرين فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك.
فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلًا على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلًا مخالف لمدلولها لا يعلمه إلا الله، أو يعلمه المتأولون
(1)
.
فتخصيص لفظ التأويل بهذا المعني إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعني، بل يريدون المعني الأول أو الثاني.
ولهذا لما ظن طائفة من المتأخرين أن لفظ التأويل في القرآن والحديث في مثل قوله تعالي {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران الآية: 7]، أريد به هذا المعني الاصطلاحي الخاص، واعتقدوا أن الوقف في الآية عند قوله:{وما يعلم تأويله إلا الله} لزم من ذلك أن يعتقدوا أن لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالف مدلولها المفهوم منها، وأن ذلك المعني المراد بها لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه الملك الذي نزل بالقرآن، وهو جبريل ولا يعلمه محمداً صلي الله عليه وسلم ولا غيره من الأنبياء، ولا تعلمه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأن محمداً صلي الله عليه وسلم
(1)
مجموع الفتاوى 5/ 35. و: 3/ 55، 67. وانظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 235.
كان يقرأ قوله تعالي {الرحمن على العرش استوى} [طه الآية: 5]، قوله:{إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر الآية: 10 [وقوله {بل يداه مبسوطتان} [المائدة الآية: 64 [وغير ذلك من آيات الصفات، بل ويقول:"ينزل ربنا كل ليلة إلي السماء الدنيا" ونحو ذلك، وهو لا يعرف معاني هذه الأقوال، بل معناها الذي دلت عليه لا يعلمه إلا الله، ويظنون أن هذه طريقة السلف.
وقول المصنف: "وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقًا، ويحتجون بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران الآية: 7]، قد يظنون أنّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يُفهم منه شيء".
دعوى أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه دعوى وضعها المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات، وآيات القدر، وغير ذلك، وقالوا: إنا تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم.
فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء.
ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه.
والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه:(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ)] البقرة: 78 [وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه"
(1)
وهذه الدعوى باطلة إذ لابد لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكن فهمه، وليس هناك فرق بين آيات الصفات وآيات الأحكام.
(1)
((الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى)) (13/ 285 - 286).
وبيان بطلان هذه الدعوى من وحوه:
أولًا: أنه بهذه الدعوى لا يتم بلاغ ولا يكمل إنذار، ولا تقوم الحجة ولا تنقطع المعذرة بكلام لا تفيد ألفاظه اليقين، ولا تدل على مراد المتكلم بها؛ بل على خلاف ذلك، فينتفي عن القرآن-والعياذ بالله -معنى الهداية، وشفاء الصدور، والرحمة، التي وصف الله تعالى بها كتابه الكريم، ومعاني الرأفة والرحمة والحرص على رفع العنت والمشقة عن الأمة، التي وصف الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، وهو الذي ترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلا التباس في أمره ونهيه، ولا إلغاز في إرشاده وخبره، باطنه وظاهره سواء، كيف لا، وهو القائل: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم
…
))
(1)
.
ودلالته صلى الله عليه وسلم للأمة في شأن اعتقادها أهم أعماله، وأولاها بالإيضاح والإفهام بلسان عربي مبين، والجزم واقع بأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموها على وجهها الذي يفهمه العربي، بغير تكلف ولا تمحل في صرف ظواهرها، ومن كان باللسان العربي أعرف ففهمه لنصوص الوحي أرسخ، وقد قال عمر رضي الله عنه:(يا أيها الناس، عليكم بديوان شعركم في الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم)
(2)
.
ثانيًا: أن كثيرًا من الصحابة والتابعين كانوا يعلمون تفسير القرآن، ولا توجد آية ليس لهم فيها تفسير يوضح معناها. وتفسيرهم وفهمهم للنصوص هو الذي يرجع إليه عند الاختلاف. أما ما يدعيه أصحاب التأويلات المحرفة من أن تأويلاتهم هي المعاني الصحيحة للآيات التي أولوها، فهذا خطأ منهم
(3)
(1)
رواه مسلم (1844). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2)
انظر ((تفسير القرطبي)) (10/ 111) و ((الموافقات)) للشاطبي (2/ 88).
(3)
انظر: ((نقض التأسيس)) -مخطوط- (2/ 223).
فالصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه.
ثالثًا: كذلك عامة أهل العربية الذين قالوا ما يعلم تأويله إلا الله، كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري، هم يتكلمون في متشابه القرآن كله، وفي تفسيره و معناه. وليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها
(1)
.
وقال المصنف: "وهذا مع أنه باطل فهو متناقض"
انتقل المصنف من بيان بطلان القول بأن معاني النصوص لا يعلمها إلا الله، إلى بيان تناقض هذا الزعم في نفسه.
فمن نفى لا بد له من دليل يستدل به على نفاه، ولا دليل لهم، ذلك لأنها مسألة إثبتها الشرع، فهؤلاء لما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر-كان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى-فبقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف.
وهذا التردد هو الذي وقع فيه من قال بالتفويض من هؤلاء كالبيهقي والرازي، فهم لم يلتزموا بهذا القول مطلقاً بل غالباً ما يخالفونه كما فعل الرازي في تأسيسه حيث جنح إلى التأويل وترك القول بالتفويض.
فقول هؤلاء المفوضة لا يعدو أن يكون ملأ فراغ بدون مستند شرعي، ولا أدل على ذلك من انقسامهم على أنفسهم وترددهم فيما يدعون كما سبق من بيان أقوالهم.
(1)
((نقض التأسيس)) - مخطوط - (2/ 247).
فالحجة إنما تكون مع من يملك الدليل قال ابن تيمية: "الْمُثْبِتَ مُعْتَصِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَمَعَهُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِهِ وَفَسَادَ قَوْلِ مُنَازِعِهِ مَا لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا طَعْنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا النَّافِي فَلَيْسَ مَعَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَقْلَهُ دَلَّ عَلَيْهِ؛ وَمُنَازِعُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّ خَطَأَهُ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ"
(1)
قال ابن تيمية: ((بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه، كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته، ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات، فعليه أن لا ينفى ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته))
(2)
.
ومن عجيب أمر هؤلاء أن الآية أثبتت تأويلا يعلمه الله، وهم يقولون التأويل باطل؛ فيحتجون بالآية التي أثبتت التأويل على بطلان التأويل مطلقًا، وليس في الآية إبطال للتأويل وإنما غاية ما تدل عليه نفي علم الخلق بالتأويل على قراءة الوقف.
ونأتي بعد ذلك لبيان تناقضهم:
قال المصنف: "لأنّا إذا لم نفهم منه شيئًا لم يجز أن نقول: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه، لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلا، ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير، فإنَّ تلك المعاني التي دلت عليها قد لا نكون عارفين بها، ولأنّا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد فلأن لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ
(1)
مجموع الفتاوى 17/ 80
(2)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 44).
أَولى، لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به، فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني، ولا يُفهم منه معنى أصلا، لم يكن مشعرًا بما أُريد به، فلأن لا يكون مشعرًا بما لم يرد به أَولى. فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ متأوّل، بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال: إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف الظاهر المختص بالمخلوقين، فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا فلا بد أن يكون له تأويل يخالف ظاهره".
وهنا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن دعوى هؤلاء بأنهم: "لا يفهمون من النص شيئًا" فإنهم إن كانوا من أصحاب القسم الذي يقول: تجرى على ظاهرها، ومع ذلك يجوز أن يكون المراد أمراً آخر، فيجوز أحد الاعتبارين، أحد الحالين، يجوز في نفس الوقت إجراؤها على ظاهرها، ويجوز في نفس الوقت أن يكون لها معنى آخر لا يعلمه إلا الله تعالى
فإن أهل هذه القسم مخصومون من نفس قولهم، فإنهم إذا كانوا لا يفهمون شيئًا من النص كما قال المصنف هنا:"لأنّا إذا لم نفهم منه شيئًا"
أي أننا إذا لم نفهم من هذه النصوص أي معنى لم يجز أن نقول: إن لها تأويلا يخالف الظاهر أو يوافقه، لأنه قد يكون الظاهر هو معناها الصحيح فنفي العلم بالمعنى مع نفي الظاهر تناقض لأن الجاهل بالمعني جاهل بإرادة الظاهر أو عدم إرادته.
فيلزم من ذلك أنه لا يجوز لهم التحكم بالزعم بأحد الجانبين بأن يقولوا له تأويل يخالف أو يوافق ظاهره. قال المصنف: "لم يجز أن نقول: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه".
فهؤلاء لاحجة لهم في هذا المسلك لأن الظاهر كما ذكره المصنف هنا:
"لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا"، فالاحتمال قائم بإمكان أن يكون له معنى صحيح لا يخالف المعنى المعلوم لنا.
الأمر الثاني: قوله: "فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلا، ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير، فإنَّ تلك المعاني التي دلت عليها قد لا نكون عارفين بها".
أي بما أن هؤلاء سلكوا منهج التجهيل وهو دعوى التوقف في معنى النصوص، فيقولون:«الله أعلم بمراده»
(1)
، والتجهيل الذي هو التفويض في حقيقته هو دعوى الجهل والتوقف في معاني النصوص، وأن هذه النصوص لا يعلم معناها، فالتوقف والجهل لا ينفي أن يكون على معنى من المعاني، وهذا يعنى أنه لا ظاهر له، فلا تكون دلالته على المعنى الذي جوزوا حمل النص عليه بزعمهم أنها تجرى على ظاهرها، ومع ذلك يجوز أن يكون المراد أمراً آخر، فجوزا أحد الاعتبارين، وعليه فإنه على فرض القول بالجواز فإن ذلك يعني إن "لا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلا".
أي أن ما لا يفهم منه شيء فالمفروض أنه لا ظاهر له أصلا لأنه لا معنى له، والظاهر والمؤول إنما هما فرعان عن المعنى، فإن لم يكن له ظاهر كان المعنى الذي نثبته غير مخالف للظاهر فينبغي ألا يكون للظاهر تأويلًا عنده لأنه لا يخالف ظاهرًا أثبته.
الأمر الثالث: على فرض المنع فإنه "ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير، فإنَّ تلك المعاني التي دلت عليها قد لا نكون عارفين بها". فهو إنما نفى العلم بها ولم ينفي وجودها ومعرفة غيره بها.
(1)
انظر كتاب درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية الجزء الأول صفحة (201).
وإذا كان قول هؤلاء المفوضة يقوم على أساس عدم فهم اللفظ ومدلوله "ولأنّا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد"
فهذا الجهل يعني "فلأن لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أَولى، لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به". فالقول بأن اللفظ يراد به كذا أقوى من إشعاره بأنه لا يراد به كذا.
فإذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد فمن باب أولى ألا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ، لأن دلالة اللفظ على ما يراد به أولى من دلالته على ما لا يراد به، فإذا كان اللفظ لا دلالة له على معنى من المعاني ولا يفهم منه معني أصلا لم يكن مشعرًا ما أريد به، فعدم إشعاره بما لم يرد به أولى، فلا يجوز أن يقال هذا اللفظ متأول أي مصروف عن ظاهره فضلًا عن أن يقال إن تأويله لا يعلمه إلا الله. إلا إن أراد ظاهره التمثيل فإنه لابد أن يكون له تاويل يخالف ظاهره، وإن كنا لا نعتقد أن ظاهر النصوص التمثيل كما سبق في القاعدة الثالثة.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "لكن إذا قال هؤلاء: إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو إنها تجري على المعاني الظاهرة منها، كانوا متناقضين. وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهنا معنى في سياق واحد من غير بيان كان تلبيسًا، وإن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ، أي تجرى على مجرَّد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضًا، لأن من أثبت تأويلا أو نفاه فقد فهم منه معنى من المعاني. وبهذا التقسيم يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب".
الشرح
لشرح هذا النص لابد أن نعرف أن المفوضة ليسوا على رأي واحد فيما
يقولون:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن المفوضة: "وهم طائفتان من حيث إثبات ظواهر النصوص ونفيها"
(1)
.
فقول المصنف: "لكن إذا قال هؤلاء: إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو إنها تجري على المعاني الظاهرة منها، كانوا متناقضين".
وقوله: "وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهنا معنى في سياق واحد من غير بيان كان تلبيسًا".
أراد به طائفة من المفوضة يقولون: "بل تحري على ظاهرها، وتحمل عليه، ومع هذا، فلا يعلم تأويلها إلا الله تعالى فتناقضوا؛ حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها، وقالوا، مع هذا بأنها تحمل على ظاهرها"
(2)
.
وقول المصنف: "وإن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ، أي تجرى على مجرَّد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضًا، لأن من أثبت تأويلا أو نفاه فقد فهم منه معنى من المعاني".
أراد به طائفة أخرى من المفوضة الذين يقولون: "المراد بهذه النصوص خلاف مدلولها الظاهر، ولا يعرف أحد من الأنبياء، ولا الملائكة، ولا الصحابة، ولا أحد من الأمة، ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة"
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى: 16/ 442.
(2)
مجموع الفتاوى: 16/ 442.
(3)
مجموع الفتاوى: 16/ 442.
الاعتماد على الاثبات المجرد عن نفي التشبيه طريقة المشبهة
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "القاعدة السادسة: أنّ لقائل أن يقول: لا بدّ في هذا الباب من ضابط يُعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز في النفي والإثبات، ".
الشرح
في هذه القاعدة يتناول المصنف شرح بعض الألفاظ والمصطلحات التي يتعين معرفتها لإزالة الإشكال الذي يمكن أن يقع فيها، حيث عرف عن المغالطين أنهم يتقصدون استعمال الكلمات المتقاربة في اللفظ والمشتركة
(1)
في المعنى والغامضة في الدلالة وكانوا يميلون في جدالهم إلى الإبهام في الألفاظ والإيهام في المعاني.
وعلى غرار ما أوضحه المصنف في القاعدة الخامسة فيما وقع في لفظ "الظاهر" ولفظ "التأويل" من أن "لفظة (الظاهر) قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين"
(2)
.
وكذلك لفظة (التأويل) له في القرآن معنى، وفي عرف كثير من السلف وأهل التفسير معنى، وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى، وبسبب تعدد الإصطلاحات والأوضاع فيه، حصل اشتراكٌ غلطَ بسببه كثير من الناس في فهم
(1)
الألفاظ المشتركة هي الأسماء المتفقة اللفظ التي يكون معناها متباينًا وهي مشتركة اشتراكا لفظيا".
انظر: مجموع الفتاوي لابن تيمية: 20/ 234.
(2)
((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (33/ ى 175).
القرآن وغيره"
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْكَلَامِ فِي مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ.
أَمَّا "التَّمْثِيلُ" فَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِنَفْيهِ عَنِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سُورَةُ الشُّورَى: 11]، وَقَوْلِهِ:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَمَ الآية: 65]، وَقَوْلِهِ:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وَقَوْلِهِ:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 22]، وَقَوْلِهِ:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 74].
وَلَكِنْ وَقَعَ فِي لَفْظِ " التَّشْبِيهِ" إِجْمَالٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا لَفْظُ" الْجِسْمِ "وَ "الْجَوْهَرِ "وَ "الْمُتَحَيِّزِ" وَ "الْجِهَةِ" وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْطِقْ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ بِذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَكَذَلِكَ لَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا.
(2)
"
وسيتناول المصنف هنا ما يتعلق بألفاظ "التشبية" و "التمثيل" و "التجسيم" وما وقع فيها من اختلاف في الاستعمال، والقواعد المتعين معرفتها لرفع اللبس الواقع في فهم هذه الألفاظ من جهة، ورد وإبطال المعاني الفاسدة من جهة أخرى.
قول المصنف: "إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد".
أي أن الاعتماد على النفي المجرد عن الإثبات كما هي طريقة المعطلة لا يكفي، وكذلك الاعتماد على الإثبات المجرد عن نفي التشبيه كما هي طريقة
(1)
نقض التأسيس)) - مخطوط - (2/ 223 - 224).
(2)
منهاج السنة النبوية 3/ 527 - 530.
المشبهة لا يكفي، بل هذا قول فاسد ورأي ليس بسديد"
(1)
وهذا كله من نوع الاشتباه، ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينهما من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف"
(2)
.
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة عن هذه المسألة فقال: "وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ التَّكَلُّمُ بِذَلِكَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ مِنَ النُّفَاةِ: كَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنَ الْمُثْبِتَةِ: كَالْمُجَسِّمَةِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِ الرَّافِضَةِ.
فَالنُّفَاةُ: نَفَوْا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ، وَأَدْخَلُوا فِي النَّفْيِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ صِفَاتٍ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَعُلُوِّهِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَرَى، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَكِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي جِسْمٍ مِنَ الْأَجْسَامِ غَيْرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالْمُثْبِتَةُ: أَدْخَلُوا فِي ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، حَتَّى قَالُوا: إِنَّهُ يُرَى فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ، وَيُصَافَحُ، وَيُعَانَقُ، وَيَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ رَاكِبًا عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يُعَانِقُ الْمُشَاةَ وَيُصَافِحُ الرُّكْبَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَنْدَمُ وَيَبْكِي وَيَحْزَنُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَحْمٌ وَدَمٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ وَصْفَ الْخَالِقِ جل جلاله بِخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ.
(3)
"
ثم بين منهج أهل السنة فقال: "وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِشَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَخْلُوقِينَ، وَكُلُّ مَا اخْتَصَّ بِالْمَخْلُوقِ فَهُوَ صِفَةُ نَقْصٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَمُسْتَحِقٌّ لِغَايَةِ الْكَمَالِ، وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ مُطْلَقًا، وَمُنَزِّهٌ فِي الْكَمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ، كَمَا قَالَ
(1)
التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية 2/ 4.
(2)
الرسالة التدمرية (1/ 108 - 109).
(3)
منهاج السنة النبوية 3/ 527 - 530.
تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سُورَةُ الْإِخْلَاصِ: 1 - 4]، فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ، وَاسْمُهُ الْأَحَدُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْمِثْلِ، وَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْمُصَنَّفِ فِي تَفْسِيرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
(1)
"
وقول المصنف: "وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميّز".
يريد المصنف أن يبين أنه لابد في مسألة الألفاظ والمصطلحات من مراعاة أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز يميز كل واحد من الشيئين عن الآخر.
ومسألة "القدر المشترك" سبق توضيحها بشكل موسع، وأشار المصنف لها في عدة مواطن من هذه الرسالة، ومن ذلك قوله عند الكلام على المحكم والمتشابه:"ومن هداه الله سبحانه فرّق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينها من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف".
القدر المشترك هو: مسمى الاسم المطلق، وهذا المسمى هو معنى كلي لا يوجد إلا في الأذهان.
فإنه ما من موجودين إلا ولا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان، وأنّ كلا منهما له حقيقة هي ذاته ونفسه وماهيته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا، ومعنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها
(1)
منهاج السنة النبوية 3/ 527 - 530.
الآخر شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله»
(1)
.
وإثبات القدر المشترك لازم لإثبات الصفات، ومن خلاله عرفنا الله عز وجل وعرفنا بنفسه سبحانه، وليس ثمة محذور يخشى من إثباته لأمور
(2)
.
1 -
معرفتنا بحقيقة القدر المشترك المعرفة التامة تعطينا التصور الصحيح للعلاقة في هذه الأسماء المتواطئة بين الخالق والمخلوق، وأن القدر المشترك هو اشتراك في معنى اللفظ العام
(3)
، وهو يطلق على الله تعالى وعلى العبد بإطلاق كلي وأما الاشتراك بينهما في الخارج فلا يكون بكلي أبداً بل لا بد من وقوعه في الخارج متميزا متعينا، وهذا القدر المشترك لا يقتضي أبدا الاشتراك فيما يختص به أحدهما، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"والقدر المشترك كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه .. "
(4)
.
2 -
لا يلزم من إثبات القدر المشترك الوقوع في التشبيه الممتنع شرعا وعقلا فإن اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعية والعقلية وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه فلا يجوز أن يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى
(5)
.
(1)
التدمرية: 128.
(2)
دلالة الأسماء الحسنى على التنزيه: 85 - 86 (بتصرف).
(3)
يمكن إطلاق لفظ المشترك المعنوي على المتواطئ في مقابل لفظ (المشترك اللفظي)، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام رحمه الله ويفهم من كلامه، انظر: مجموع الفتاوي له: 20/ 239.
(4)
التدمرية: 125 - 129.
(5)
التدمرية: 125 - 129.
3 -
إثبات القدر المشترك من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود، ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة؛ لأن رفع القدر المشترك ألزمهم تعطيل وجود كل موجود"
(1)
.
هذه أهم النقاط المتعلقة بإثبات القدر المشترك وأنه لا يوجد ما يمنع من إثباته.
قال ابن القيم: "فأحظى الناس بالحق وأسعدهم به الذي يقع على الخصائص المميزة الفارقة ويلغي القدر المشترك فيحكم بالقدر الفارق على القدر المشترك ويفصله به.
وأبعدهم عن الحق والهدى من عكس هذا السير وسلك ضد هذه الطريق فألغى الخصائص الفارقة وأخذ القدر المشترك وحكم به على القدر الفارق.
وأضل منه من أخذ خصائص كل من النوعين فأعطاها للنوع الآخر.
فهذان طريقا أهل الضلالة اللتان يرجع إليهما جميع شعب ضلالهم وباطلهم"
(2)
.
وقول المصنف: "فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له:
إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل.
وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم، لزمك هذا في سائر ما تثبته.
وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل، الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.
(1)
التدمرية: 125 - 129.
(2)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة 4/ 1216 - 1218
ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة.
ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرًا بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبِّه. ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس هو من التشبيه".
طرح المصنف أحد احتمالين لطائفة النفاة
في مقصودهم بنفي التشبيه على حد اصطلاحهم ومرادهم في إطلاق هذا اللفظ.
الاحتمال الأول: "أنه مماثل له من كل وجه" ففسروا التماثل بحسب اصطلاحهم "بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له" أي أنه يثبت للمخلوق مثل ما يثبت له، بحيث يجوز على هذا ما يجوز على هذا، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه
(1)
.
الاحتمال الثاني: قال عنه: "وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم". أي أنه يثبت له ما فيه نوع من التشابه
(2)
.
وقال المصنف في الصفدية: "وإن كان بعض من يثبت له بعض الصفات وينفي بعضها مثل من يثبت لله العلم والقدرة وينفي الرضا والغضب والوجه واليد قد يقول ليس بين علمنا وعلم الله فرق ولا بين سمعنا وسمع الله فرق ولا بين بصرنا وبصر الله فرق إلا في الحدوث والقدم.
ومقصوده بذلك أن ينفصل عن إلزام المثبتة فإنهم يقولون له كما أثبت لله علما وقدرة وسمعا وبصرا وليس مثل سمعنا وبصرنا ولا علمنا وقدرتنا فكذلك أثبت له
(1)
الصفدية 2/ 10 - 11.
(2)
الصفدية 2/ 10 - 11.
رضا وغضبا ووجها ويدا وليس مثل رضانا ولا غضبنا ولا وجوهنا ولا أيدينا فيريد بزعمه أن يذكر الفرق بأن التماثل موجود في الوصفين فليس بين العلمين والقدرتين فرق إلا في الحدوث والقدم"
(1)
.
وهذا إنما ذكرته لأن بعض معتزلة الصفاتية الذين يثبتون الصفات السبعة وينفون الصفات الخبرية ويزعمون أن هذا تشبيه ممتنع أورد عليهم هذا بسبب محنة وقعت بين المثبتة والنفاة وكان قاضي القضاة وقيل بل نثبت هذه الصفات مع انتفاء المماثلة كما أثبتم تلك الصفات مع انتفاء المماثلة فكما أن له علما ولنا علم وليس علمه مثل علمنا ولنا قدرة وله قدرة وليست قدرته مثل قدرتنا فكذلك يقال في الصفات الخبرية.
فقال ليس بين علمنا وعلمه فرق إلا في الحدوث والقدم فإذا أثبتنا له الوجه ونحوه لزم أن يكون مثل وجوهنا إلا في الحدوث والقدم فعلم المعارضون له فساد هذا القول وقبحه شرعا وعقلا وأن قولا يستلزم مثل هذا من أفسد الأقوال.
وهذا القول شعبة من قول الباطنية المذكورين نفاة الصفات الثبوتية والسلبية والأسماء فإنهم جردوه عن جميع ذلك حذرا من التشبيه المذكور.
والمقصود هنا بيان جواب الباطنية القرامطة وهذا الجواب الذي ذكرناه على أحد القولين وهو جواز كون النفي مشابها لغيره من وجه دون وجه وهذا هو الصحيح الذي عليه أكثر الناس وهو المنصوص عن أحمد وغيره.
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك وقالوا لا يتصور إلا التماثل من كل وجه أو الاختلاف من كل وجه وقال هؤلاء إن الأجسام متماثلة من كل وجه والأعراض المختلفة والأجناس كالسواد والبياض مختلفة من كل وجه وهؤلاء يقولون إذا كان
(1)
الصفدية 2/ 10 - 11.
هذا حيا عالما وهذا حيا عالما لم يجب أن يكون بينهما تشابه بوجه من الوجوه بل قد يكونان مختلفين من كل وجه لأنهما لم يتماثلا في ذاتهما ولكن في صفتهما وذلك لا يوجب عندهم تماثلا ولا اختلافا ولهذا قالوا الأجسام متماثلة مع اختلاف صفاتهما وزعموا أن الصفات التي اختلفت لأجلها ليست لازمة لشيء منها بل يجوز أن تتبدل على كل من الأجسام مع بقاء حقيقته.
وهذا القول وإن كان القائل به كثير من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وغيرهم فهو من أفسد الأقوال بل هو معلوم الفساد بالضرورة بعد التصور الصحيح.
وهؤلاء يجيبون هؤلاء الباطنية بجواب خامس وهو أن الخالق والمخلوق إذا سمي كل واحد منهما فاعلا أو قادرا أو غير ذلك فإنما لم يتماثلا في ذاتيهما وإنما يكون التماثل في الذات إذا كان هذا جسما أو جوهرا والآخر كذلك، وهؤلاء يقولون كل من قال بأن الرب جسم كان مشبها ومن نفى ذلك لم يكن مشبها ولا ينفصلون بهذا الجواب فإن منازعهم يقول فإذا أثبتم الصفات أو الأسماء لزم أن يكون الموصوف المسمى جسما كما تقولون أنتم ذلك لمن أثبت ما نفيتموه وجعلتموه مجسما ولا يمكنهم أن يذكروا فرقا صحيحا وكل ما يقولونه يمكن المثبت أن يقول لهم مثله فيلزم بطلان هذا الفرق بين ما سموه تجسيما وما لم يسموه تجسيما فلزم إما إثبات الجميع وإما نفي الجميع"
(1)
.
أما الرد على الاحتمال الأول: فقد رد عليه المصنف بقوله: ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء
(1)
الصفدية 2/ 11 - 19
والصفات المتواطئة.
وقال المصنف في الصفدية: "فإن ادعيت الأول كان ممنوعا وممتنعا فإنهم إذا قالوا لله علم وقدرة وللمخلوق علم وقدرة لم يقولوا إن العلمين والقدرتين متماثلان بحيث يجب لأحدهما ما وجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجوز عليه ما يجوز عليه بل هذا معلوم الفساد بالضرورة"
(1)
.
وقال أيضًا: "ونفي الجميع ممتنع لأنه قد علم بالضرورة أن الموجود ينقسم إلى واجب قديم قيوم غني خالق وإلى ممكن محدث مدبر فقير مخلوق فلا سبيل إلى جعل الوجود كله واحدا واجبا كما يقوله أهل الوحدة ولا إلى جعله كله مخلوقا مربوبا محدثا كما يذكر عن بعضهم أنه ادعى حدوث الوجود كله بدون محدث فإن فساد كل من القولين من أبين العلوم الضرورية البديهية ولهذا كان أهل الوحدة متناقضين لا يلتزمون قولهم، وأما حدوث الوجود جميعه بدون محدث فلا تعرف طائفة قالته وإنما يقدر تقديرا ذهنيا كما تقدر كثير من الأقوال السوفسطائية لتبيين بطلانها وانتفائها.
فقد تبين أن أقوال نفاة الصفات كقول أهل الإلحاد المعطلة للصانع وأن القول الثاني قول من يقول بالوجود المطلق عن النفي والإثبات هو أحد قولي القرامطة الباطنية والأول قول القرامطة الباطنية الذين يلونهم نفاة الصفات الثبوتية الذين لا يصفونه إلا بالسلوب.
وقول من قال المطلق لا بشرط الذي يصدق على كل موجود فهو يشبه قول من يجمع بين النقيضين فيصفه بصفة كل موجود وإن كانت متناقضة ويجعل وجود الخالق هو وجود المخلوق أو جزء منه وعلى كل تقدير فحقيقة قول هؤلاء
(1)
الصفدية 2/ 10 - 11.
نفي الوجود الواجب المباين للوجود الممكن ونفي وجود الخالق المباين للمخلوقات ونفي وجود القديم المباين للمحدثات وهذا قول المعطلة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. "
(1)
وأما الرد على الاحتمال الثاني: فقد رد عليه المصنف بقوله: "ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة.
وقال المصنف في الصفدية: "وهذا القول باطل قطعًا فإنه لو تماثل العلمان والقدرتان لجاز على أحدهما ما يجوز على الآخر وامتنع عليه ما يمتنع عليه ووجب له ما وجب له.
ولو جاز أن يقال ذلك في العلم والقدرة لجاز أن يقال ذلك في الحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة وغير ذلك من الصفات.
وإن جاز أن يقال ذلك في الصفات جاز مثله في الذات لأن نسبة علم الرب إلى ذاته كنسبة علم العبد إلى ذاته فهما علمان وعالمان.
وإن جاز أن يقال العلم مثل العلم إلا في الحدوث والقدم جاز أن يقال العالم كالعالم إلا في الحدوث والقدم.
وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهو يتبين من وجوه:
(الوجه الأول): منها أنه لو تماثلت الذاتان لامتنع اختصاص أحدهما بالحدوث والأخرى بالقدم فإن المقتضى لقدم الرب هو نفس ذاته لا يحتاج في ثبوت قدمه إلى غيره.
والمقتضى لكون العبد مفتقرا إلى من يخلقه نفس ذاته ليس افتقاره مستفادا من أمر خارج عن ذاته.
(1)
الصفدية 2/ 11 - 19
فإذا كان المثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر وهذه الذات لا يجوز عليها القدم بل يمتنع عليها وتلك يجب لها القدم ويمتنع عليها العدم وإذا امتنع تماثلهما فامتنع تماثل صفاتهما فإن صفة كل موصوف بحسبه"
(1)
.
فإن قيل الأمور المختلفة قد تشترك في لوازم متماثلة كالإنسان والفرس يشتركان في الحيوانية.
قيل ليست الحيوانية العامة المختصة للإنسان مماثلة من كل وجه للحيوانية المختصة بالفرس بل هما مختلفان حسب اختلاف الحقيقتين وإن اشتركا في الحيوانية العامة فذلك العام لا يوجد عاما إلا في الذهن لا في الخارج.
تبيين ذلك أن خاصة الحيوانية الحس والحركة الإرادية وإحساس الفرس ليس مثل إحساس الإنسان بل ولا مثل إحساس الهر والفأر وإن اشتركا في الحيوانية ولا حركته الإرادية مثل حركة هذه الحيوانات الإرادية ولو ماثل الإنسان سائر الحيوان في الحس والحركة الإرادية للزم أن تثبت لكل منهما لوازم حس الآخر وحركته الإرادية فإن ثبوت الملزوم بدون اللازم ممتنع وحس الإنسان وحركته الإرادية يلزمهما لوازم يمتنع اتصاف الهر والفأر بها وكذلك بالعكس فعلمنا أن الحس والحركة مختلفان فيهما بالنوع كما أن حقيقتهما مختلفة بالنوع فحيوانيتهما مختلفة بالنوع والمختلف بالنوع والحقيقة ليس متماثلا واشتراكهما في جنس الحيوانية كاشتراك السواد والبياض في جنس اللونية مع أنهما مختلفان بالنوع والحقيقة.
(الوجه الثاني): وأيضًا فكل ما للرب تعالى من صفات الكمال فهو من لوازم ذاته فلو ماثلته ذات أخرى لاتصفت بمثل ما اتصف به الرب بحيث يكون بكل شيء
(1)
الصفدية 2/ 10 - 11.
عليما وعلى كل شيء قديرا ويكون قادرا على خلق مثل هذا العالم وأمثال ذلك مما يعلم امتناعه.
(الوجه الثالث): وأيضًا فالرب تعالى لو كان له مثل للزم أن يقدر على ما يقدر عليه وأن يريد كما يريد، وحينئذ فيمتنع وجود العالم لأنه إن أمكن أن يستقل به كل منهما لزم أن يكون كل منهما فاعلًا له كله غير فاعل لشيء منه وهذا جمع بين النقيضين، وإن لم يمكن أن يستقل به أحدهما إلا إذا تركه الآخر كانت قدرته مشروطة بتمكين الآخر له، وكذلك إن لم يمكن أحدهما فعله إلا بمعاونة الآخر لزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا جعله الآخر قادرا وحينئذ فلا يكون أحدهما حال الانفراد قادرا على شيء، وإذا لم يكن أحدهما حال الانفراد قادرا على شيء امتنع حال الاجتماع قدرتهما لأنه ليس هناك شيء غيرهما يجعلهما قادرين وليس لواحد منهما قدرة يعين بها الآخر فلو كان كل منهما صار قادرا بجعل الآخر له لزم الدور في التأثير وهو الدور القبلي الباطل باتفاق العقلاء وهو معلوم الفساد ضرورة بعد التصور
وهذا بخلاف إذا كان هناك ثالث يجعلهما قادرين بالاجتماع فإن هذا هو الدور المعي وهو جائز ولهذا لا يوجد شيئان من الموجودات يصير لهما قدرة حال الاجتماع إلا بإحداث ثالث ذلك لهما أو بانضمام قوة أحدهما إلى قوة الآخر كالمشتركين من الآدميين لا بد أن يكون لأحدهما عند الإنفراد قدرة على شيء أو عند الإجتماع تقوى قدرتهما
والتقدير هنا أنه لا شيء من القدرة ثابت حال الإنفراد وإذا كان تقدير مثل له يستلزم أن يكون قادرا مثله وتقدير ربين قادرين ممتنع علم انتفاء مثله وإذا كان تقديرهما غير قادرين ممتنعا أيضا علم انتفاء شريك على كل وجه وأن تقدير مثل له
أو شريك له ممتنع لذاته سواء قدر المثل مشاركا أو غير مشارك وسواء قدر الشريك مماثلا أو غير مماثل وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
(الوجه الرابع): ومما يبين امتناع تماثل العلمين أن الرب بكل شيء عليم سواء قيل إنه عالم بعلم واحد أو بعلوم غير متناهية وليس علم العبد لا هكذا ولا هكذا بل هذا ممتنع فيه ولو قال القائل علم الرب بالشيء المعين كعلم العبد به كان ممتنعا فإن الرب يعلمه علم إحاطة به والعبد لا يحيط به.
(الوجه الخامس): وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن الله أعلم وأقدر من خلقه كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت الآية: 15].
وقال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} إلى قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم الآية: 32].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور الآية: 19].
وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء الآية: 85].
وهذا أوضح في المنقول والمعقول وأعظم من أن يحتاج إلى شواهد فكيف يجوز أن يظن التماثل مع ثبوت التفاضل"
(1)
.
وقول المصنف: "ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرًا بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبِّه. ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس هو من التشبيه، وقد يفرَّق بين لفظ «التشبيه» و «التمثيل» ".
الإجمال الذي لحق بهذا الاسم لم يكن من جهة لفظ (التشبيه) ومسماه، وإنما كان من جهة ما ألحقه به النفاة من معان غير داخلة فيه بأصل الوضع.
(1)
الصفدية 2/ 12/ 16.
وقد بين شيخ الإسلام ذلك في موضع آخر حيث قال: "لفظ التشبيه في كلام هؤلاء النفاة المعطلة لفظ مجمل"
(1)
، فبين أن الإجمال الذي في لفظ (التشبيه) إنما هو في عرف خاص خاطئ، فلا يمنع ذلك من نفيه باعتبار معناه الصحيح الذي قصده السلف من نفيهم للتشبيه، ولذا قال شيخ الإسلام بعد كلامه السابق بأسطر في ذكر مذهب أهل السنة:"ينزهونه عن النقص والتعطيل، وعن التشبيه والتمثيل، إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل".
أما الفرق بين المشابهة والمماثلة
(2)
.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أقوال الناس في لفظي (التشبيه) و (التمثيل)، وهل هما بمعنى واحد، فقال:
وقد تنازع الناس: هل لفظ (الشبه) و (المثل) بمعنى واحد أو معنيين، على قولين:
أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ (المثل) مطلقا ومقيداً يدل عليه لفظ (الشبه)، وهذا قول طائفة من النظار.
والثاني: أن معناهما مختلف عند الإطلاق لغة، وشرعا، وعقلاً، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس».
ثم بين رحمه الله مبنى هذا الاختلاف في الإطلاق فقال:
"وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه؟ وللناس في ذلك قولان:
(1)
منهاج السنة النبوية (2/ 110).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/ 347)(6/ 113)(13/ 279)، درء تعارض العقل والنقل (6/ 123 - 125).
فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد.
ومن قال إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه فرق بينهما عند الإطلاق، وهذا قول جمهور الناس.
فإن العقل يعلم أن الأعراض -مثل الألوان-تشتبه في كونها ألواناً، مع أن السواد ليس مثل البياض، وأيضاً فمعلوم في اللغة أنه يقال:(هذا يشبه هذا)، و (فيه شبه من هذا) إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفة له في الحقيقة»
(1)
.
وهذا التفريق بين معنى التشبيه والتمثيل قد أقر به جمع من المتكلمين، فقد قرر ابن الهمام الحنفي من الماتريدية أن «المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضيه»
(2)
، وبين أبو المعين النسفي أن الشخصين لو اشتركا في الفقه أو الطب أو غير ذلك من العلوم والصناعات، ولم يكن بينهما في ذلك النوع مساواة ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده، فإنه لا يستجيز أحد من أرباب اللسان أن يقول: فلان مثل فلان في علم كذا، أو صنعة كذا
(3)
.
فتحصل بذلك أن لفظ التشابه والتماثل غير متطابقين في المعنى، بل لفظ التشابه أعم من لفظ التماثل، إذ التشابه يطلق على مطلق مشاركة الشيء للشيء ولو من بعض الوجوه، وأما التماثل فهو مشاركة الشيء للشيء من كل الوجوه، وإن كان قد يطلق لفظ التشبيه ويراد به التمثيل، وكذا العكس، وذلك يعلم بسياق الكلام وقرائنه.
وقول المصنف: "وقد يفرَّق بين لفظ «التشبيه» و «التمثيل» ".
(1)
الجواب الصحيح (3/ 444 - 445).
(2)
المسامرة شرح المسايرة (308)، وانظر: تبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي (1/ 150 - 151).
(3)
انظر: تبصرة الأدلة (1/ 150).
هناك فرق بينهما في أصل اللغة
(1)
.
فالمماثلة: هي مساواة الشيء لغيره من كل وجه.
والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره في أكثر الوجوه.
ولكن التعبير هنا بنفي "التمثيل" أولى لموافقة لفظ القرآن.
في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11].
وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} [النحل الآية: 74].
ويخلط كثير من الناس في هذا المقام بين مفهوم (التمثيل) ومفهوم (التشبيه).
فالأول هو الذي نفته النصوص الشرعية، كقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
بخلاف لفظ (التشبيه) فإنه لفظ مجمل، قد يراد به التمثيل، وقد يراد به ما ليس تمثيلاً، وقد فرّق-تعالى-بينهما في قوله:(وَقَالَ الَذِينَ لا يَعلَمُونَ لَولا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَاًتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَذِينَ مِنْ قَبلِهِم مِّثلَ قَولِهِم تَشَابَهَت قُلُوبُهُمْ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فوصفَ القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل، فإن القلوب ـ وإن اشتركت في هذا القول ـ فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي: ((الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس))، فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة بل بعضها حرام وبعضها حلال"
(2)
فالتشابه، إذا أطلق، يتضمن الموافقة من بعض الوجوه دون بعض، أما المماثلة
(1)
القواعد المثلى ص 27
(2)
الجواب الصحيح، جـ 3 ص 446.
فهي الموافقة من جميع الوجوه، بحيث يستوي الشيء ومثله في كل جانب ويجوز ويمتنع على أحدهما من الخصائص واللوازم.
فالمحذور شرعاً هو التمثيل، أما (التشبيه (فإن أريد به التمثيل فهو ممتنع، وإن أريد به الموافقة من بعض الوجوه دون بعض فليس في ذلك محذور، وذلك أن جماهير العقلاء يعلمون أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفس ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله-سبحانه وتعالى-إذ هو-سبحانه-ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله"
(1)
.، وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع. وإذا قيل هذا حي عليم قدير، وهذا حي عليم قدير، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير، لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلاً لهذا المسمى من كل وجه، بل هنا ثلاثة أشياء:
أحدها: القدر المشترك الذي تشابها فيه، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما، ولا يوجد كليّاً عامّاً إلا في علم العالم
(2)
الثاني: ما يختص به هذا، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة.
الثالث: ما يختص به ذاك، كما يختص به العبد، من الحياة والعلم والقدرة، فما اختص به الرب-عز وجل-لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي
(1)
درء التعارض، جـ 5 ص 227.
(2)
أي في الذهن وليس في الخارج
تجوز على صفات العبد، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب، ولا يستحق شيئاً من صفات الكمال التي يختص بها الرب-عز وجل. وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان، فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه لا محذور فيه".
(1)
(1)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 3/ 440.
المحذور الذي نفته الأدلة هو أن يكون له شريك أو مثيل
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبِّه ممثِّل، فمن قال: إن لله علما قديمًا، أو قدرة قديمة، كان عندهم مشبهًا ممثلا، لأن «القِدم» عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، فمن أثبت لله صفة قديمة فقد أثبت له مِثْلا قديمًا، ويسمونه ممثلا بهذا الاعتبار.
ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك".
الشرح
شبهة المعتزلة التي اعتمدوا عليها في نفي صفات الباري عز وجل تسمى بطريقة الأعراض، ذلك أنهم يزعمون أن الصفات إنما هي أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، ومن أجل ذلك كان قول المعتزلة في الله: إنه قديم واحد ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره
(1)
ولكان جسماً إذ إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وتعدداً في ذاته ويقتضي أنه
(1)
بالإضافة إلى زعم المعتزلة أن الصفات لا تقوم إلا بأجسام، فهم أيضاً يزعمون أن في إثبات الصفات قول بكثرة وتعدد ذات الله، لأنهم يقولون:(إن من أثبت لله صفة أزلية قديمة فقد أثبت إلهين)، كما اعتقدوا أن الصفات لو شاركته في القدم لشاركته في الألوهية.
انظر الملل للشهرستاني (1/ 44 - 46)، مقالات الإسلاميين (1/ 245)، منهاج السنة (2/ 169).
جسم وذلك خلاف التوحيد.
فهم يزعمون أن توحيد الله وتنزيهه متوقف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به التي هي الصفات والأفعال، ونفي ذلك عندهم موقوف على ما يدل عليه حدوث الأجسام، والذي دلهم على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين فهي حادثة، فإذا لم تخل الأجسام منها لزم حدوثها.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، والمركب مفتقر إلى جزئيه وجزءاه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثاً مخلوقاً، فالأجسام متماثلة فكل ما صح على بعضها صح على جميعها، وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها
(1)
.
والمعتزلة يقولون إننا بهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسماً وإمكان المعاد.
الرد عليهم:
مما تقدم نعلم أن المعتزلة إنما بنوا دليلهم في نفي الصفات على أن القديم لا يكون محلا للصفات والحركات فلا يكون جسماً ولا محيزاً لأن الصفات أعراض وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات، وأن الجسم لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
فهم بهذا القول نفوا صفات الباري وجعلوا نفيها يتوقف عليه ثبوت الصانع
(1)
انظر مختصر الصواعق (1/ 254).
وحدوث العالم، فإذا جاء في القرآن والسنة ما يدل على إثبات الصفات لم يمكن القول بموجبه.
والمتدبر لحجج المعتزلة يرى فيها الأمور التالية:
أولاً: أنهم يستدلون لأقوالهم بعبارات مبتدعة وفيها الكثير من الاشتباه والإجمال، وذلك كلفظ العرض والجسم والحيز والمركب وغير ذلك، فهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ليخدعوا به جهال الناس بما يشبهون عليهم، وهذه الألفاظ المجملة تتضمن معاني باطلة ومعاني أخرى صحيحة فهم بهذا ينفون كلا المعنيين الحق والباطل.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما في هذه الألفاظ من معانٍ، وما تدل عليه من عبارات
(1)
، وكيف استعملها هؤلاء المعطلة في نفي صفات الباري عز وجل حيث ادعوا أن هذه الأمور من مستلزمات الجسمية، والله منزه من ذلك، وقد بين شيخ الإسلام أن استعمال هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً لم يرد عن السلف ولا جاء به أثر صحيح ولم يستعملها الأقدمون بالمعنى الاصطلاحي الذي اتفق عليه هؤلاء، بل جميعهم معترفون بأن العلو صفة كمال كما أن السفل صفة نقص، وما ثبت لله من العلو فهو العلو المناسب لكمال ذاته المنزهة عن اعتبارات المحدثين ومماثلتهم.
ومعلوم أن القول بأن العلو يستلزم هذه المعاني المبهمة إنما هو مأخوذ من قياس الغائب على الشاهد، ومحاولة تطبيق الاعتبارات الإنسانية على الصفات الإلهية، وهذا قياس خاطئ إذ ليس معنى كونه في السماء أن السماء تحويه وتحيط به وتحصره، أو هي محل وظرف له، بل هو سبحانه محيط بكل شيء وسع كرسيه
(1)
انظر شرح ابن تيمية لهذه العبارات في نقض التأسيس الجهمية (1/ 504، 511)، وفي مجموع الفتاوى (5/ 418 - 430).
السموات والأرض، وهو فوق كل شيء وعالٍ على كل شيء
(1)
.
ثانيا: أن ما استدل به المعتزلة لا أصل له من الكتاب أو السنة بل هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً ليس بعالم ولا قادر ولا حي
(2)
.
كما أن مذهب المعتزلة في الذات قريب من مذهب اليونان القائلين بأن ذات الله واحدة لا كثرة فيها بوجه من الوجوه
(3)
.
ثالثاً: أن أصل هذه القاعدة التي اعتمد عليها المعتزلة في نفي الصفات إنما هي مأخوذة من قولهم في دليل حدوث العالم
(4)
الذي أثبتوا فيه حدوث العالم بحدوث الأجسام. وهذا الدليل قد بين الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: أنه دليل محرم في شرائع الأنبياء، ولم يستدل به أحد من الرسل ولا أتباعهم
(5)
، فهي بهذا طريق يحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وما يلزم عليها من لوازم باطلة لأنها مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، وهي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله ونفي المبدأ والمعاد، فهذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلاً عن نفي علوه على خلقه ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها، فلو صحت هذه الطريقة لنفت الصانع وأفعاله وصفاته وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له.
وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له، وأن الله بذاته في كل مكان، وقال إخوانهم إنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم، وقالوا
(1)
انظر كتاب موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من قضية التأويل (381 - 385).
(2)
مقالات الإسلاميين (2/ 177)، وموقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
(3)
موقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
(4)
انظر الكلام على دليل حدوث العالم في مجموع الفتاوى (13/ 153).
(5)
انظر كتاب رسالة إلى أهل الثغر (ص 164 - 172) تحقيق عبد الله شاكر الجنيدي، رسالة ماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
بخلق القرآن إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة
(1)
.
وقول المصنف: "ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك".
يجب أن يعلم أن الأسماء والصفات نوعان:
• نوع يختص بالله تعالى مثل الإله، ورب العالمين، ونحو ذلك، فهذا لا يثبت للعبد بحال.
• ونوع يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم، فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا.
ثم إنه لا يلزم منه التماثل، وبين ذلك بأمور:
1 -
أن ما يختص به الرب سبحانه، فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه، ليس للعبد فيه نصيب.
2 -
وما يختص بالعيد كعلمه وقدرته وحياته، فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته، وحياته، فإنه لا اشتراك فيه.
3 -
المطلق الكلي، وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة، فهذا المطلق ما كان واجباً له كان واجبا فيها، وما كان جائزاً عليه كان جائزاً عليها، وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما، فالواجب أن يقال: هذه صفة كمال حيث كانت، ويجوز أن تقارن هذه في كل محل، وأما الممتنع عليهما فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف
(1)
مختصر الصواعق (1/ 256، 257)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 38 - 40).
قائم بنفسه، وهذا المطلق الكلي وهو الذي من خلاله نفهم ما خوطبنا به"
(1)
.
أي مع إثبات حقائق الصفات، فإن أهل السُنَّة يعتقدون في نفس الأمر أن لله تعالى خصائص في تلك الصفات، فمثلاً إذا قلنا: حياة الله تعالى؛ فإن حياةَ اللهِ تعالى لها خصائص يختصُّ الله سبحانه وتعالى بها دون سائر المخلوقات، فمن خصائص حياة الله سبحانه وتعالى أن حياته الحياة الكاملة الدائمة التي لم تُسبَق بالعدم ولا يلحقها الزوال ولا يعتريها النقص بأي وجه من الوجوه، وهذا المقصود بنفي المماثلة.
فإذاً هذه الصفات تثبت لله تعالى على الحقيقة مع اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى منزَّه في ذلك عن مماثلة الخلق، فالله سبحانه وتعالى يعلم الحقيقة، ولكنه سبحانه وتعالى في علمه لا يماثله في ذلك أحدٌ من خلقه، وكذلك يتكلم حقيقة، وكذلك سبحانه وتعالى لا يماثله في ذلك أحدٌ من خلقه، مع الأمر الثالث وهو عدم الخوض في الكيفية، كيف يتكلَّم؟ وكيف استوى؟ وكيف ينزل؟ هذا أمرٌ لا نخوض فيه؛ لأننا لم نطلع عليه ولا سبيل لنا إليه.
والتباين الذي يقرُّ به كل مثبتة الذات، بين ذات الله عز وجل وذوات المخلوقين يوجب اضطراراً التباين بين صفات الخالق والمخلوق
(2)
، ثم إن إثبات المماثلة بين الخالق والمخلوق يستلزم نقص الخالق سبحانه، والله منزه عن كل نقص
(3)
.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى: 2/ 62 - 63، منهاج السنة: 2/ 596 - 598، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة: 1082 - 1083، التدمرية: 39 - 40.
(2)
تقريب التدمرية (ص 23 - 24).
(3)
تقريب التدمرية (ص 23).
من الصفاتية من لا يصف الصفات بالقدم
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقول: الرب بصفاته قديم؛ ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان؛ ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القِدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل هو من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلاً عن أن تختص بالقِدم، وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم وليست الصفات إلهًا ولا ربًّا، كما أن النبي محدَث وصفاته محدَثة، وليست صفاته نبيًا".
الشرح
لفهم هذه المسألة يحسن تناولها من جانبين:
الجانب الأول: من حيث أصلها والجانب التاريخي لها.
1.
مسمياتها:
لهذه المسألة عدة مسميات منها هل الصفة هي الموصوف أو غيره، ويعبر عنها أحياناً بالقول: هل الصفات هي الذات أو غيرها.
2.
منشأ الخلاف فيها.
أ - والذي يظهر أن ذلك نشأ من خلال ردود أهل الكلام على النصارى:
فالنصارى قالوا: إن كلمة الله التي بها خلق كل شيء تجسدت بإنسان، فكان من ردود أهل الإسلام عليهم-لبيان باطلهم-أن بينوا تهافت قولهم: إن كلمة الله بها خلق كل شيء، لأن الخالق هو الله، وهو خلق الأشياء بقوله "كن" وهو كلامه، فالخالق لم يخلق به الأشياء، فالكلام الذي به خلقت الأشياء ليس هو الخالق لها، بل به خلق الأشياء، فضلال هؤلاء أنهم جعلوا الكلمة هي الخلق. والكلمة مجرد الصفة، والصفة ليست خالقة، وإن كانت الصفة مع الموصوف فهذا هو الخالق، ليس هو المخلوق به، والفرق بين الخالق للسموات والأرض والكلمة التي بها خلقت السموات والأرض أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القدرة والقادر
…
(1)
فهؤلاء النصارى جعلوا الصفة غير الموصوف، وجعلوها خالقة، بل جعلوها حلَّت في أحد المخلوقات.
ب - وكان من آثار مناقشة أهل الكلام-وخاصة المعتزلة-للنصارى أن تطرقوا لهذا الموضوع كثيراً، فنشأت شبهة تعدد القدماء، وأن إثبات صفة لله يلزم منه أن تكون قديمة، وإذا كانت غير الموصوف لزم تعدد القدماء، فظنُّوا-أي المعتزلة-أن تحقيق التوحيد، والخلوص من شرك النصارى لا يتم إلا بنفي جميع الصفات عن الله تعالى، وبنوا ذلك على:
أن الصفة غير الموصوف، وغير الذات.
وأن الصفة لله لابد أن تكون قديمة.
والنتيجة أن إثبات الصفات لله يلزم منه تعدد القدماء، وهو باطل.
(2)
والعجيب
(1)
انظر: ((الجواب الصحيح)) (2/ 266، 292، 3/ 54 - 55).
(2)
انظر: تفصيل مذهب المعتزلة في ((المحيط بالتكليف)) (ص: 177 وما بعدها)، ط مصر، و ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 195 - 197)، و ((المختصر في أصول الدين)) (1/ 182 - 183) ضمن رسائل العدل والتوحيد.
أن هؤلاء المعتزلة-هم أرباب الكلام والبحث في المعقولات-لم تستوعب عقولهم أن الذات لا يمكن أن تنفك عن صفاتها، ومن ثمَّ فلا شبهة ولا تعدد.
ت - فلما جاءت الأشعرية وغيرهم اهتموا ببحث هذه المسألة، وصاروا يستخدمون عبارات معينة عن بيان قدم الذات والصفات، كأن يقولوا: الربُّ قديم، وصفته قديمة، ولا يقولون: الربُّ وصفاته قديمان لما في العطف والتثنية من الإشعار بالتغاير، أو يقولون: الربُّ بصفاته قديم، وهكذا. كما بينوا أن الصفات لا يقال هي الذات ولا غيره، حذراً من هذه الشبهة التي وقع فيها المعتزلة.
الجانب الثاني: من حيث الأقوال فيها.
وخلاصة الأقوال في الصفة هل هي الموصوف أو غيره هي:
القول الأول: قول من يقول: الصفة غير الموصوف، أو الصفات غير الذات.
وهذا قول المعتزلة، والكرامية، والمعتزلة تنفي الصفات، والكرامية تثبتها
(1)
.
القول الثاني: قول من يفرق بين الأمرين، ولا يجمع بينهما، فيقول: أنا أقول مفرقاً: إن الصفة ليست هي الموصوف، وأقول: إنها ليست غير الموصوف ولكن لا أجمع بين السلبين فأقول: ليست الموصوف ولا غيره، لأنَّ الجمع بين النَّفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق.
وهذا قول أبي الحسن الأشعري، الذي يقول على هذا: الموصوف قديم، والصفة قديمة، ولا يقول عند الجمع: قديمان، كما لا يقال عند الجمع: لا هو الموصوف، ولا غيره
(2)
.
(1)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 336).
(2)
انظر: ((رسائل إلى أهل الثغر)) (ص: 70 - 71)(وقد نسب إليه ابن فورك في المجرد ص: 38، أنه يقول: لا يقال لصفاته هي هو ولا غيره) وانظر أيضاً: ((الرسالة الأكملية)) - ((مجموع الفتاوى)) (6/ 96)، و ((جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى)) (17/ 160)، و ((درء التعارض)) (5/ 49).
القول الثالث: جاء بعد الأشعري من الأشاعرة من يجوز الجمع بين السلبين، وصاروا يقولون: ليست الصفة هي الموصوف ولا غيره، كما صاروا يجوزون إطلاق القول بإثبات قديمين، وصار هؤلاء يردُّون على المعتزلة الذين قالوا لهم: يلزم من ذلك إثبات قديمين بعدة ردود منها أن كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما، كالسواد والبياض اشتراكا في كونهما مخالفين للجوهر، ومع هذا لا يجب تماثلهما، وأنَّه ليس معنى القديم معنى الإله
…
ولأنَّ النَّبيَّ محدث، وصفاته محدثة، وليس إذا كان الموصوف نبيًّا وجب أن يكون صفاته أنبياء؛ لكونها محدثة، كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديماً أن تكون آلهة لكونها قديمة"
(1)
.
وهذا قول الباقلاني
(2)
، والقاضي أبي يعلى
(3)
.
القول الرابع: أن هذا الكلام فيه إجمال، وأن لفظ "الغير" فيه إجمال، ومن ثَمَّ فلابد من التفصيل، وهؤلاء لا يقولون عن الصفة: إنها الموصوف، ولا يقولون: إنها غيره، ولا يقولون: ليست هي الموصوف ولا غيره. ويلاحظ أن المقصود ليس إثبات قول ثالث-كما هو قول الباقلاني والقاضي أبي يعلى الذين قالوا ليست الصفة هي الموصوف ولا غيره-فإن هذا قول ثالث، بل المقصود أنه لا ينبغي الإطلاق: نفياً وإثباتاً، وهم تركوا إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال.
وهذا قول جمهور أهل السنَّة، كالإمام أحمد وغيره، كما أنَّه قول ابن كلاب.
(4)
(1)
((درء التعارض)) (5/ 50)، وقارن بـ ((التدمرية)) (ص: 118) - المحققة.
(2)
انظر ((التمهيد)) (ص: 206 - 207، 210 - 212))، و ((رسالة الحرة)) (المطبوعة باسم الإنصاف) (ص: 38).
(3)
انظر: ((المعتمد)) (ص: 46).
(4)
انظر: ((جواب أهل العلم والإيمان)) (17/ 159 - 160)، و ((درء التعارض)) (2/ 270، 5/ 49)، وانظر:((مقالات الأشعري)) (ص: 169 - 170) - ريتر.
وهؤلاء قالوا: لفظ "الغير" فيه إجمال.
• فقد يراد به المباين المنفصل، ويعبر عنه بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان، أو مكان، أو وجود.
• وقد يراد بالغير ما ليس هو عين الشيء، ويعبر بأنه ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر
(1)
.
وهناك فرق بين الأمرين، وعلى هذا فيفصل الأمر:
1 -
فإذا قيل: هل الصفات هي الموصوف أو غيره؟ قيل: إن أريد بالغير الأول، وهو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر، فليست الصفة غير الموصوف، وإن أريد بالغير المعنى الثاني-وهو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر-فالصفة غير الموصوف.
فمن قال: عن الصفة هي الموصوف، قاصداً بذلك أنها ليست غيره بالمعنى الأول للفظ الغير، فقوله صحيح، وكذا إن قال: الصفة غير الموصوف قاصداً بالغير المعنى الثاني فكلامه صحيح أيضاً. وعكس الأمرين باطل، والسلف يقولون بهذا التفصيل، ومن المعلوم أن الموصوف لا تنفك عنه صفاته.
2 -
وإذا قيل: هل الصفات زائدة على الدليل، أو هل الصفات هي الذات أو غيرها؟ قالوا: إن أريد بالذات المجردة التي يقر بها نفاة الصفات فالصفات زائدة عليها، وهي غير الذات، وإن أريد بالذات الذات الموجودة في الخارج فتلك لا تكون موجودة إلا بصفاتها اللازمة والصفات ليست زائدة على الذات، ولا غيرها بهذا المعنى.
(1)
انظر: ((درء التعارض)) (1/ 281)، و ((جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى)) 17/ 160 - 161، و ((المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى)) (12/ 170)، و ((السبعينية)) (ص: 96 - 97) - ط الكردي -.
ومن ذلك يتضح خطأ وصواب من أطلق القول بأن الصفات غير الذات أو هي الذات
(1)
، على حسب ما لفظ الغير، والذات من الإجمال.
وبذلك يتبين أرجحية مذهب السلف حين لم يطلقوا الأمرين في ذلك، بل فصلوا واستفصلوا عن المراد، فإن كان حقًّا قبلوه، وإن كان باطلاً ردُّوه
(2)
(3)
.
(1)
لشيخ الإسلام ملاحظة دقيقة هنا، وهي أنه يجب أن يفرق بين قول القائل: إن الصفات غير الذات وقوله: إنها غير الله، لأن لفظ "الذات" يشعر بمغايرته للصفة، بخلاف اسم "الله" تعالى فإنه متضمن لصفات كماله، وعلى ذلك فإنه لا يقال: إن الصفات غير الله، لما في ذلك من الإيهام. أما القول إنها غير الذات فقد يكون صحيحاً، لما في التعبير بالذات من الإشعار بأن المقصود الذات المجردة دون صفاتها. انظر:((الجواب الصحيح)) (3/ 308)، و ((الصفدية)) (1/ 108 - 109) و ((درء التعارض)) (10/ 72).
(2)
انظر في هذه المسألة: ((التسعينية)) (ص: 108 - 109)، و ((الدرء)) (2/ 230 - 231، 3/ 20 - 25، 5/ 37 - 50، 338، 9/ 136، 10/ 120، 231، 235).
(3)
المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود - 3/ 1090
اصطلاح المعتزلة والجهمية في مسمى التشبيه
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم «التشبيه» و «التمثيل» ، كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم تقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهًا، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية.
والقرآن قد نفى مسمَّى «المثل» و «الكفء» و «النِّدّ» ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده، فلا تدخل في النص، وأما العقل فلم ينف مسمَّى «التشبيه» في اصطلاح المعتزلة.
الشرح
قول المصنف: "فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم «التشبيه» و «التمثيل»، كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك"
التشبيه في اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل، والمتشابهان هما المتماثلان، وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه
(1)
.
ومقصودهم بنفي التشبيه: أن يراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات، ولازم هذا القول أنه لا يقال له حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك كلامه وسمعه
(1)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 476).
وبصره وإرادته وغير ذلك
(1)
.
وأصل الخطأ والغلط توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به.
فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشاركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وإن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه
(2)
.
وقول المصنف: "ثم تقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهًا، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية.
لفظ (التشبيه) يطلق في الاصطلاح على عدة معان:
المعنى الأول: التماثل من كل وجه. فهذا المعنى منفي عن الله باتفاق، ولم يقل به أحد، حتى الممثلة.
المعنى الثاني: التماثل من وجه دون وجه، وهذا منفي عن الله أيضاً.
وخالف في ذلك الممثلة، ممن وصفهم الأئمة -كالإمام أحمد وغيره -بأنهم يقولون: لله يد كيدي، وسمع كسمعي، وقدم كقدمي.
(1)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 99).
(2)
شرح الطحاوية (ص 104) بتصرف.
وهذان الإطلاقان يتضمنان التماثل في الحقيقة والكيفية، بأن يوصف الباري بشيء من خصائص المخلوق، وهما اللذان دل الدليل على نفيهما، فمن قال بأحدهما فقد شبه الله بخلقه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين، كما عليه المسلمون متفقون، كما أن إثباته مطلقا هو جعل الأنداد لرب العالمين
…
فلفظ التشبيه فيه عموم وخصوص
…
ومن هنا ضل فيه أكثر الناس، إذ ليس له حد محدود.
ومنه ما هو منتف، بالاتفاق بين المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء المقرين بالله، معلوم بضرورة العقل.
ومنه ما هو ثابت بالاتفاق بين المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء المقرين بالصانع.
فلما كان لفظ (التشبيه) يقال على ما يجب انتفاؤه، وعلى ما يجب إثباته، لم يرد الكتاب والسنة به مطلقاً، لا في النفي ولا الإثبات، ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ: المثل والكفو والند والسمي
…
بخلاف لفظ التشبيه، فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه البعيدة، وهذا مما يجب القول به شرعاً وعقلاً بالاتفاق.
ولهذا لما عرف الأئمة ذلك، وعرفوا حقيقة قول الجهمية، وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع ووجوده: كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق والتعطيل، ويمتنعون عن إطلاق لفظهم العليل، لما فهموه من مقصودهم، وإن لم يفهمه أهل التجهيل والتضليل»
(1)
.
(1)
بيان تلبيس الجهمية -ط (المجمع)(6/ 484 - 419)، وانظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة -د. عبد الرحمن المحمود (3/ 962 - 964).
والذي ورد ذمه في الكتاب والسنة هو التمثيل وكذلك ما يوافق معناه، كالكفء، والند، والسمي، كما تقدم في النصوص السالفة.
كما أن مثل الشيء في لغة العرب: هو نظيره ومكافئه الذي يقوم مقامه، ويسد مسده.
قال ابن فارس: (مثل) الميم والثاء واللام أصل صحيح يدل على: مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا: أي نظيره، والممثل والمثال في معنى واحد)
(1)
.
قال الشاعر:
ليس كمثل الفتي زهير خلق يدانيه في الفضائل
وقال غيره:
سعد بن زيد إذا أبصرت جمعهم ما إن مثلهم في الناس من أحد
(2)
قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله)[الإسراء: 88].
وقال: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد)] الفجر: 6 - 8].
أي في القوة والأجسام، وذلك لشدة أبدانهم وقواهم، والله أعلم"
(3)
.
(1)
معجم مقاييس اللغة (5/ 296)، وانظر: القائد إلى تصحيح العقائد للمعلمي (114).
(2)
انظر: تفسير الثعالبي (8/ 306)، تفسير البحر المحيط (7/ 488 - 489)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (6/ 113)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 114)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 533)، الصواعق المرسلة (4/ 1368)، فتح القدير للشوكاني (4/ 582)، روح المعاني الألوسي (25/ 18)، القائد للمعلمي (115).
(3)
انظر: تفسير الطبري (24/ 406)، تفسير ابن كثير (8/ 395)، وانظر: القائد للمعلمي
(115 - 116).
فالتمثيل إذا أطلق يراد به: مشابهة الشيء للشيء ومشاركته له في جميع الصفات الذاتية التي يقوم بها أحدهما مقام الآخر، فلا يكون بمجرد الموافقة في بعض الصفات
(1)
.
وضابط التمثيل المنفي عن الله: ما تضمن أو استلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين الله تعالى، في ذاته، أو أسمائه، أو صفاته، أو أفعاله، وذلك فيما يجب له تعالى، أو يجوز له، أو يمتنع عليه.
وكذلك ما تضمن أو استلزم ثبوت شيء من خصائص الله تعالى في ذاته، أو أسمائه، أو صفاته، أو أفعاله لشيء من المخلوقات.
وذلك أن كل ما كان مختصاً بالمخلوق فلا بد أن يكون فيه نقص، والله تعالي منزه تنزيهاً مطلقاً عن كل نقص، وواجب له كل كمال، ومنزه في كماله عن كل مثال، فامتنع أن يضاف ذلك إلى الله تعالي"
(2)
.
وهذا الحد هو ما أراده أئمة السنة، ممن بين معنى التشبيه بأنه قول المشبه: يد الله كيدي، أو مثل يدي، وسمع الله كسمعي، أو مثل سمعي، كما بين ذلك الإمام إسحاق بن راهويه
(3)
، وأحمد بن حنبل
(4)
، وعثمان بن سعيد الدارمي
(5)
، رحمهم
(1)
بيان تلبيس الجهمية-ط: القاسم (1/ 477)، وفي طبعة المجمع (3/ 135).
(2)
انظر: تحريم النظر في كتب الكلام لابن قدامة (79)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 588)، درء تعارض العقل والنقل (4/ 146)(5/ 84، 327)، منهاج السنة النبوية (2/ 529، 595)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (6/ 35 - 36)، التدمرية (39 - 40، 124).
(3)
انظر: جامع الترمذي (3/ 50)، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (153)، فتح الباري (13/ 407).
(4)
انظر: إبطال التأويلات لأبي يعلى (/ 1/ 43 - 45)، المختار في أصول السنة لابن البنا (91)، درء تعارض العقل والنقل (2/ 32)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 476 - 477).
(5)
انظر: نقض الدارمي على المريسي (1/ 435 - 436).
الله، وغيرهم، مما يبين أن المحذور إنما هو في إضافة شيء من خصائص صفة المخلوق إلى صفة الخالق، إذ هذا ما يفه من قولهم عن المشبهة:(يد الله كيدي)، كما يبين أن مفهوم التشبيه عندهم لا يتحقق بمجرد إضافة الصفة الله، بل غالب أقوالهم في نفي التشبيه تتضمن الدلالة على أن إثبات الصفة الله لا يعتبر تشبيها.
وبهذا يتبين أن المحذور: إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر، وقولنا: إثبات الخصائص إنما يراد: إثبات مثل تلك الخاصة، وإلا فإثبات عينها ممتنع مطلقا
(1)
، وسيأتي البيان بأن التمثيل منفي بين الخالق والمخلوق جملة وتفصيلا، سواء كان تمثيلا من كل وجه، أو تمثيلا من وجه دون وجه، لأن لفظ التمثيل قائم على اشتراك المتماثلين في الحقيقة والكيفية.
وأما لفظ التشبيه فيشار فيه إلى ما يلي:
أولا: أن لفظ (التشبيه) لم يرد نفيه وذمه في الكتاب والسنة، وإنما الوارد نفي التمثيل.
ثانيا: أن لفظ (التشابه) ليس مطابقًا في المعنى للفظ (التماثل) الذي ورد نفيه.
قال أبو هلال العسكري في فروقه اللغوية: "إن الشيء يشبه بالشيء من وجه واحد لا يكون مثله في الحقيقة إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته"
(2)
.
ويقال في اللغة: إن هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا: إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفة له في الحقيقة
(3)
، فالتشبيه في اللغة .. قد يقال بدون التماثل في شيء من
(1)
منهاج السنة النبوية (2/ 596).
(2)
الفروق للعسكري (176)، وانظر: نقد الشعر لقدامة بن جعفر (124)، سر الفصاحة للخفاجي (246).
(3)
انظر: الجواب الصحيح (3/ 445).
الحقيقة، كما يقال للصورة المرسومة في الحائط: إنها تشبه الحيوان، ويقال: هذا يشبه هذا في كذا وكذا، وإن كانت الحقيقتان مختلفتين»
(1)
.
ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد قال في كتابه عن نعيم أهل الجنة: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها)[البقرة: 20].
قال قتادة وعكرمة
(2)
: "يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب"
(3)
، وهذا أحد التفسيرين في الآية، فقد وصفت الآية ثمر الجنة بمشابهته لثمر الدنيا، وهي مشابهة واشتراك من بعض الوجوه، مع القطع بنفي المماثلة بينهما، بل بينهما تباين عظيم في الكيفية والحقيقة، فالمشابهة ها هنا ثابتة، والمماثلة منفية، مما يدل على ثبوت الفرق بين المشابهة والمماثلة
(4)
.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أقوال الناس في لفظي (التشبيه) و (التمثيل)، وهل هما بمعنى واحد، فقال:
وقد تنازع الناس: هل لفظ (الشبه) و (المثل) بمعنى واحد أو معنيين، على قولين:
أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ (المثل) مطلقا ومقيداً يدل عليه لفظ (الشبه)، وهذا قول طائفة من النظار.
(1)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 477).
(2)
عكرمة بن عبد الله، أبو عبد الله البربري، المدني، الحبر، العالم، المفسر، الثقة، مولي ابن عباس، روى عن مولاه، وعائشة، وأبي هريرة، مات سنة (104 هـ). ينظر: طبقات المفسرين للداوودي (1/ 286)، وطبقات المفسرين للأدنه وي (12).
(3)
تفسير الطبري (1/ 391)، تفسير ابن كثير (1/ 205).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/ 347)(6/ 113)(13/ 279)، درء تعارض العقل والنقل (6/ 123 - 125).
والثاني: أن معناهما مختلف عند الإطلاق لغة، وشرعا، وعقلاً، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس».
وقول المصنف: "والقرآن قد نفى مسمَّى «المثل» و «الكفء» و «النِّدّ» ونحو ذلك"
فنفى مسمى المثل وذلك كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى الآية: 11].
ونفى مسمى الكفء كما وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4].
ونفى مسمى الند كما في قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة الآية: 22]
وقول المصنف: "ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده، فلا تدخل في النص، وأما العقل فلم ينف مسمَّى «التشبيه» في اصطلاح المعتزلة".
هناك ثلاثة أقوال في تعريف الصفة.
أولًا: قول أهل السنة والجماعة.
تعريف الصفة هي: ما قام بالذات مما يميزها عن غيرها من أمور ذاتية، أو معنوية، أو فعلية.
والوصف والصفة:
1 -
تارة يراد به: الكلام الذي يوصف به الموصوف، مثاله: قول الصحابي في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص الآية 1]: أحبها لأنها صفة الرحمن
(1)
(1)
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ح 7375 ولفظ البخاري " فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها".
3 -
وتارة يراد به: المعاني التي دل عليها الكلام كالعلم والقدرة،
وأما إضافة الوصف إلى الله فتعريفها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به
(1)
فإذا كان المضاف إليه لا يقوم بنفسه، بل لا يكون إلا صفة كالعلم، والقدرة، والكلام، والرضا، والغضب، فهذا لا يكون إلا إضافة صفة إليه فتكون قائمة به سبحانه
(2)
ثانيًا: قول الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم.
والجهمية والمعتزلة وغيرهم تنكر هذا ويقولون: إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف، فقالوا: إن إضافة الصفات إلى الله من إضافة وصف من غير قيام معنى به
(3)
فالقول بأن الصفة غير الموصوف، أو الصفات غير الذات هو قول المعتزلة
(4)
.
فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه، فردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به
(5)
لأنهم يقولون إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف، وينفون أن يكون لله وصف قائم به علم أو قدرة أو إرادة أو كلام
(6)
(1)
- رسالة العقل والروح (مطبوعة ضمن الرسائل المنبرية 2/ 38، 39)
(2)
- مجموع الفتاوى 17/ 152
(3)
- مجموع الفتاوى 6/ 147 - 148
(4)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 336 (.
(5)
مجموع الفتاوى 6/ 147، 148
(6)
مجموع الفتاوى 3/ 335
ثالثًا: متكلمة الصفاتية.
الكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية قد يفرقون بين الوصف والصفة، فيجعلون الوصف: هو القول، والصفة: المعنى القائم بالموصوف
(1)
.
فأدخلوا في الوصف (الذي هو القول عندهم) صفات الأفعال حتى ينفوا قيامها بالذات.
وأدخلوا في الصفة (التي هي المعنى القائم بالذات) ما أثبتوه من الصفات كصفات المعاني السبعة (العلم، الحياة، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام) ليتأتى لهم على هذا التقسيم اعتبار بعض الصفات قائماً بالذات، وبعضها غير قائم بها، فأرادوا بذلك نفي صفات الأفعال واعتبروها نسباً وإضافات لا تقوم بالذات
وقول المصنف: "فلا تدخل في النص" أي أنهم يقولون إن نصوص نفي المثل والكفء والند تتعلق بالموصوف أي الذات، وليس الصفة، فهي بهذا ليست داخلة في نص المسألة الذي هو الكلام في الصفات.
وقول المصنف: "وأما العقل فلم ينف مسمَّى «التشبيه» في اصطلاح المعتزلة"
وقد عرف عن أهل الكلام أنهم لم يقبلوا للنصوص الشرعية قولها في صفات الرحمن جل شأنه. لأنها تثبت له من الصفات ما تقتضي عقولهم نفيه، فهم يرجعون في ذلك إلى حكم العقل وحده إثباتا ونفيا ويرفضون أحكام القرآن
(2)
.
قال ابن تيمية: "وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه؟ وللناس في ذلك قولان:
فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد.
(1)
- مجموع الفتاوى 3/ 335. 6/ 341. التمهيد للباقلاني (ص 244 - 245).
(2)
شرح القصيدة النونية ص 388.
ومن قال إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه فرق بينهما عند الإطلاق، وهذا قول جمهور الناس.
فإن العقل يعلم أن الأعراض -مثل الألوان-تشتبه في كونها ألواناً، مع أن السواد ليس مثل البياض.
وأيضاً فمعلوم في اللغة أنه يقال: (هذا يشبه هذا)، و (فيه شبه من هذا) إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفة له في الحقيقة»
(1)
.
وهذا التفريق بين معنى التشبيه والتمثيل قد أقر به جمع من المتكلمين، فقد قرر ابن الهمام الحنفي من الماتريدية أن «المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضيه»
(2)
، وبين أبو المعين النسفي أن الشخصين لو اشتركا في الفقه أو الطب أو غير ذلك من العلوم والصناعات، ولم يكن بينهما في ذلك النوع مساواة ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده، فإنه لا يستجيز أحد من أرباب اللسان أن يقول: فلان مثل فلان في علم كذا، أو صنعة كذا
(3)
.
فتحصل بذلك أن لفظ التشابه والتماثل غير متطابقين في المعنى، بل لفظ التشابه أعم من لفظ التماثل، إذ التشابه يطلق على مطلق مشاركة الشيء للشيء ولو من بعض الوجوه، وأما التماثل فهو مشاركة الشيء للشيء من كل الوجوه، وإن كان قد يطلق لفظ التشبيه ويراد به التمثيل، وكذا العكس، وذلك يعلم بسياق الكلام وقرائنه.
(1)
الجواب الصحيح (3/ 444 - 445).
(2)
المسامرة شرح المسايرة (308)، وانظر: تبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي (1/ 150 - 151).
(3)
انظر: تبصرة الأدلة (1/ 150).
فساد القول بتماثل الأجسام
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وكذلك أيضًا يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيّز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه".
الشرح
معروف عن المعتزلة نفيهم لقيام الصفات بالله تعالى لاعتقادهم أن الصفات أعراض وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه
(1)
.
ومن أجل ذلك كان قول المعتزلة ومن وافقهم في الله: إنه قديم، واحد، ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره، ولكان جسماً، إذ إن ثبوت الصفات تقتضي كثرة، وتعداداً في ذاته، وتقتضي أنه جسم، وذلك خلاف التوحيد.
فبالإضافة إلى زعمهم أن الصفات لا تقوم إلا بأجسام، فهم-أيضاً- يزعمون أن في إثبات الصفات قول بكثرة وتعدد ذات الله، لأنهم يقولون: إن من أثبت لله صفة أزلية قديمة، فقد أثبت الإلهين، كما اعتقدوا أن الصفات لو شاركته في القدم لشاركته في الألوهية
(2)
.
فهم يزعمون أن توحيد الله وتنزيهه متوقف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 147 - 148، 359.
(2)
انظر: الملل للشهرستاني 1/ 44 - 46، مقالات الإسلاميين 1/ 245، منهاج السنة 2/ 169.
بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث التي هي الصفات والأفعال، ونفي ذلك عندهم موقوف على ما يلي عليه حدوث الأجسام، والذي دلهم على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
ويزعمون أيضا أن الأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين؛ فهي حادثة، فإذا لم تخل الأجسام منها لزم حدوثها.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، والمركب مفتقر إلى جزئيه، وجزاءه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثاً مخلوقاً، فالأجسام متماثلة، فكل ما صح على بعضها صح على جميعها، وقد صح على بعضها التحليل، والتركيب، والاجتماع، والافتراق، فيجب أن يصح على جميعها
(1)
.
والمعتزلة يقولون: إننا بهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم، ونفي كون الصانع جسماً وإمكان المعاد.
الرد عليهم: مما تقدم نعلم أن المعتزلة بنوا دليلهم في نفي الصفات على أن القديم لا يكون محلاً للصفات والحركات، فلا يكون جسماً ولا متحيزاً؛ لأن الصفات أعراض وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات، وأن الجسم لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
فهم بهذا القول نفوا صفات البارئ، وجعلوا نفيها يتوقف عليه ثبوت الصانع، وحدوث العالم، فإذا جاء في القرآن والسنة ما يدل على إثبات الصفات لم يكن القول بموجبه.
والمتدبر لحجج المعتزلة يرى فيها الأمور التالية:
(1)
انظر: مختصر الصواعق 1/ 254.
أولاً: أنهم يستدلون لأقوالهم بعبارات مبتدعة، وفيها الكثير من الاشتباه والإجمال، وذلك كلفظ العرض، والجسم، والحيز، والمركب، وغير ذلك، فهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ليخدعوا به جهال الناس بما يشبهون عليه، وهذه الألفاظ المجملة تتضمن معاني باطلة، ومعاني أخرى صحيحة، فهم بهذا ينفون كلا المعنيين الحق والباطل.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما في هذه الألفاظ من معانٍ، وما تدل عليه من عبارات
(1)
، وكيف استعملها هؤلاء المعطلة في نفي صفات البارئ عز وجل، حيث ادعوا أن هذه الأمور من مستلزمات الجسمية، والله منزه عن ذلك، وقد بين شيخ الإسلام أن استعمال هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً لم يرد عن السلف، ولا جاء به أثر صحيح، ولم يستعملها الأقدمون بالمعنى الاصطلاحي الذي اتفق عليه هؤلاء، بل جميعهم معترفون بأن العلو صفة كمال، كما أن السفل صفة نقص، وما ثبت لله من العلو فهو العلو المناسب لكمال ذاته، المنزهة عن اعتبارات المحدثين ومماثلتهم.
وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض)، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره
وليس الأمر كذلك: بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب
(1)
انظر: شرح ابن تيمية لهذه العبارات في نقض تأسيس الجهمية 1/ 504، 511، وفي مجموع الفتاوى 5/ 418 - 430.
والسنة فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك
وأيضاً: فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله
فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة
(1)
.
ومعلوم أن القول بأن العلو يستلزم هذه المعاني المبهمة إنما هو مأخوذ من قياس الغائب على الشاهد، ومحاولة تطبيق الاعتبارات الإنسانية على الصفات الإلهية وهذا قياس خاطئ إذ ليس معنى كونه في السماء أن السماء تحويه، وتحيط به، وتحصره، أو هي محمل وظرف له، بل هو سبحانه محيط بكل شيء، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو فوق كل شيء، وعلا كل شيء
(2)
.
ثانياً: إن من استدل به المعتزلة لا أصل له من الكتاب أو السنة بل هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً ليس بعالم ولا قادر ولا حي
(3)
.
كما أن مذهب المعتزلة في الذات قريب من مذهب اليونان القائلين بأن ذات الله واحدة، لا كثرة فيها بوجه من الوجوه
(4)
.
ثالثاً: أن أصل هذه القاعدة التي اعتمد عليها المعتزلة في نفي الصفات إنما هي
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 228 - 233).
(2)
انظر: كتاب: موقف ابن تيمية من قضية التأويل ص 381 - 385.
(3)
مقالات الإسلاميين 2/ 177، وموقف المعتزلة من السنة النبوية ص 53.
(4)
موقف المعتزلة من السنة النبوية ص 53.
مأخوذة من قولهم في دليل حدوث العالم
(1)
، الذي أثبتوا فيه حدوث العالم بحدوث الأجسام وهذا دليل قد بين الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: أنه دليل محرم في شرائع الأنبياء، ولم يستدل به أحد من الرسل ولا أتباعهم
(2)
، فهي بهذا طريق يحرم سلوكها لما فيها من لخطر والتأويل، وما يلزم عليها من لوازم باطلة؛ لأنها مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، وهي مستلزمة لنفي صفاته، ونفي أفعاله، ونفي المبدأ والمعاد، فهذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب، وبصره، وقدرته، وحياته، وإرادته، وكلامه، فضلاً عن نفي علوه على خلقه، ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها، فلو صحت هذه الطريقة لنفت الصانع، وأفعاله، وصفاته، وكلامه، وخلقه للعالم، وتدبيره له، وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له، بل هو لفظ لا معنى له، وبهذه الطريقة قالت الجهمية بفناء الجنة والنار، وأن الله بذاته في كل مكان، وقال إخوانهم: إنه ليس داخل العالم، ولا خارج العالم، وقالوا بخلق القرآن، إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة
(3)
.
وأما قولهم: بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدد القدماء.
فهذه العلة عليلة بل ميتة لدلالة السمع والعقل على بطلانها.
أما السمع: فلأن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف كثيرة مع أنه الواحد الأحد، فقال تعالى {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج 12 - 16].
وقال تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ
(1)
انظر الكلام على دليل حدوث العالم في: مجموع الفتاوى 13/ 153.
(2)
انظر كتاب: رسالة أهل الثغر ص 164 - 172 تحقيق عبدالله شاكر الجنيدي، رسالة ماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
(3)
مختصر الصواعق 1/ 256، 257، ودرء تعارض العقل والنقل 1/ 38 - 40.
الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى 1 - 5].
وأما العقل: فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي صفات من اتصف بها فهي قائمة به، وكل موجود فلا بد له من تعدد صفاته
(1)
.
فبهذا يعلمُ ضلال من سلبوا أسماء الله تعالى معانيها فنفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها، قال تعالى {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف 180].
(1)
القواعد المثلى ص 8.
معنى الأفعال الاختيارية
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسمًا، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسمًا، وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه.
فلهذا تجد هؤلاء يسمُّون من أثبت العلو ونحوه مشبِّهًا، ولا يسمُّون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبِّهًا، كما يقوله صاحب «الإرشاد» وأمثاله".
الشرح
معلوم أن مذهب متأخري الأشاعرة في الصفات أنهم يثبتون سبع صفات فقط وهي ما يسمونها بصفات المعاني وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام، وهم يثبتون لهذه الصفات أربعة أحكام هي:
1 ـ أن هذه الصفات ليست هي الذات بل زائدة عليها فصانع العالم عندهم عالم بعلم وحي بحياة وقادر وهكذا.
2 ـ أن هذه الصفات كلها قائمة بذات الله تعالى ولا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته لأن الدليل دل على أنه متصف بها ولا معنى لاتصافه بها إلا قيامها بذاته، حتى لو قلنا: إنه عالم كان هو بعينه مفهوم قولنا قام بذاته علم، فلا تكون الصفة لشيء إلا إذا قامت به لا بغيره.
3 ـ أن هذه الصفات كلها قديمة لأنها إن كانت حادثة كان القديم محلاً للحوادث وهذا محال، أو متصف بصفة لا تقوم به وذلك أظهر استحالة.
4 ـ أن الأسماء المشتقة لله تعالى من هذه الصفات السبع صادقة عليه أزلاً وأبداً فهو في القدم كان حياً قادراً عليماً سميعاً بصيراً متكلماً
(1)
.
فهم على قولهم هذا لا يثبتون سوى هذه الصفات السبع فقط لأنها قديمة. أما باقي الصفات التي يسمونها الصفات الخبرية فهم ينفونها جميعها، بدعوى تنزيه ذات الله عن الحوادث.
ومتأخرو الأشاعرة هؤلاء وإن كانوا يخالفون المعتزلة في جعلهم الصفة غير الذات كما في الحكم الأول فيثبتون الصفات القديمة من هذا الباب، إلا أنهم قد وافقوا المعتزلة في دليلهم المسمى بدليل نفي الحوادث فنفوا باقي الصفات الأخرى، ذلك لأن قولهم في الحكم الثالث من الأحكام الأربعة التي أوردناها إنها لو كانت حادثة لكان القديم محلا للحوادث، هو بعينه ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات
(2)
.
فهم ينفون صفة العلو لأنها من الصفات الخبرية
(3)
، ويقول متأخرو الأشاعرة في دليلهم العقلي على نفي العلو إن إثبات العلو يقتضي إثبات الجهة وإثبات الجهة يقتضي كونه جسماً، وكونه جسماً يقتضي كونه مركباً، والمركب مفتقر إلى جزئيه، والمفتقر إلى جزئيه لا يكون إلا حادثا والله سبحانه منزه عن الحوادث
(4)
.
(1)
انظر الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص 84 - 101)، بتصرف.
(2)
مختصر الصواعق (1/ 255).
(3)
الصفات الخبرية وتسمى الصفات السمعية وهي: ما كان الدليل عليها مجرد خبر الرسول دون استناد إلى نظر عقلي كالاستواء والنزول والمجيء وغير ذلك.
(4)
نقض التأسيس (1/ 503).
فعلى قولهم هذا يكونون هم والمعتزلة على دليل واحد، وقد سبق أن ذكرنا الرد على المعتزلة فيكون الرد على هؤلاء من جنس الرد على أولئك، ويضاف إلى ذلك أن القول في الصفات التي نفاها هؤلاء هو كالقول في الصفات التي أثبتوها، فإن كان هذا تجسيماً وقولا باطلاً فهذا كذلك.
وإن قالوا: إن إثباتها على الوجه الذي يليق بالرب.
قيل لهم: وكذلك هذا.
فإن قالوا: نحن نثبت تلك الصفات وننفي التجسيم.
قيل لهم: وهذا كذلك، فليس لكم أن تفرقوا بين المتماثلين
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، لكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبى يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات. والعاقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق".
الشرح
يشير المصنف هنا إلى مسألة القول بتماثل الأجسام من كل وجه وقد "ذهبت طائفة إلى امتناع ذلك وقالوا لا يتصور إلا التماثل من كل وجه أو الاختلاف من كل وجه وقال هؤلاء إن الأجسام متماثلة من كل وجه والأعراض المختلفة والأجناس كالسواد والبياض مختلفة من كل وجه وهؤلاء يقولون إذا كان هذا حيا عالما وهذا
(1)
مجموع الفتاوى (13/ 165).
حيا عالما لم يجب أن يكون بينهما تشابه بوجه من الوجوه بل قد يكونان مختلفين من كل وجه لأنهما لم يتماثلا في ذاتهما ولكن في صفتهما وذلك لا يوجب عندهم تماثلا ولا اختلافا ولهذا قالوا الأجسام متماثلة مع اختلاف صفاتهما وزعموا أن الصفات التي اختلفت لأجلها ليست لازمة لشيء منها بل يجوز أن تتبدل على كل من الأجسام مع بقاء حقيقته.
وهذا القول وإن كان القائل به كثير من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وغيرهم فهو من أفسد الأقوال بل هو معلوم الفساد بالضرورة بعد التصور الصحيح"
(1)
.
وقول المصنف: "لكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبى يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه"
أي يقول إن العلو صفة خبرية أي تثبت بالخبر أي بالشرع فقط كما في صفة الوجه فلا تستلزم التجسيم عندهم.
وهذا هو قول وقدماء الأشاعرة كأبي الحسن الطبري والباقلاني وابن فورك، وأبي جعفر السمناني ومن تأثر بهم من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني والتميميين وغيرهم.
(2)
الذين يثبتون الصفات الخبرية الذاتية مثل الوجه واليدين والعلو ونحوها من الصفات، وإن كانوا ينفون الصفات الاختيارية النزول، الاستواء، الغضب، الفرح، الضحك.
(1)
الصفدية 1/ 11
(2)
-مجموع الفتاوى 5/ 411، 6/ 52، 53، 4/ 147، شرح الأصفهانية ص 78
معنى الهيولى
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والأجسام متماثلة".
الشرح
مقصود المصنف بقوله: "وأصل كلام هؤلاء كلهم" هم طوائف أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية، ومن وافقهم، وقد تقدم الحديث عن المعتزلة واستدلالاتهم والرد عليهم باعتبارهم أنهم ينفون جميع الصفات.
وأما بقية أقوال الصفاتية فيوضحها كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الكلام عن أصناف المثبتين للصفات مع مسألة الجسم حيث قال: "ولا ريب أن المثبتين لهذه الصفات، أربعة أصناف:
(الصنف الأول):
القول: صنف يثبتونها وينفون التجسيم والتركيب والتبعيض مطلقًا.
القائلين به: كما هي طريقة الكلابية والأشعرية، وطائفة من الكرامية كابن الهيصم وغيره، وهو قول طوائف من الحنبلية، والمالكية، والشافعية، والحنفية، كأبي الحسن التميمي، وابنه أبي الفضل، ورزق الله التميمي، والشريف أبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلي، والشريف أبي جعفر، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، -ومن لا يحصى كثرة-؛ يصرِّحون بإثبات هذه الصفات، وبنفي التجسيم والتركيب والتبعيض والتجزي والانقسام ونحو ذلك، وأول من عُرف أنه قال هذا القول هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم اتبعه على ذلك خلائق لا يحصيهم إلا الله.
الصنف الثاني:
القول: وصنف يثبتون هذه الصفات، ولا يتعرضون للتركيب والتجسيم والتبعيض ونحو ذلك
من الألفاظ المبتدعة، لا بنفي ولا إثبات؛ لكن ينزهون الله عما نزه عنه نفسه، ويقولون إنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ويقول من يقول منهم: مأثور عن ابن عباس وغيره: أنه لا يتبعض فينفصل بعضه عن بعض، وهم متفقون على أنه لا يمكن تفريقه ولا تجزئته بمعنى انفصال شيء منه عن شيء.
القائلين به: وهذا القول هو الذي يؤثر عن سلف الأمة وأئمتها، وعليه أئمة الفقهاء وأئمة الحديث، وأئمة الصوفية، وأهل الاتباع المحض من الحنبلية على هذا القول يحافظون على الألفاظ المأثورة، ولا يطلقون على الله نفيًا وإثباتًا إلا ما جاء به الأثر، وما كان في معناه.
الصنف الثالث:
القول: يثبتون هذه الصفات ويثبتون ما ينفيه النفاة لها، ويقولون: هو جسم لا كالأجسام، ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم.
وهذا قول طوائف من أهل الكلام المتقدمين والمتأخرين.
الصنف الرابع:
القول: يصفونه مع كونه جسمًا بما يوصف به غيره من الأجسام.
القائلين به: فهذا قول المشبهة الممثلة، وهم الذين ثبت عن الأمة تبديعهم
وتضليلهم)
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى، وتارة بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كلتا المقدمتين، وتارة بالاستفصال".
أي أن من الشبه التي يقررون بها أن إثبات االصفات يلزم منه التشبيه هذه الشبهة، وهي مركبة من مقدمتين:
والمقصود بالمقدمة الأولى هنا: قولهم: (إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز). والتحيز عندهم هو توضيح للجسمية لأنهما متلازمان.
والمقصود بالمقدمة الثانية: قولهم: (والأجسام متماثلة).
والنتيجة: أن قيام الصفات به يستلزم مماثلته للأجسام وهو التشبيه.
وهذه شبهة نفاة جميع الصفات وهم المعتزلة ومن وافقهم فشبهتهم التي اعتمدوا عليها في نفي صفات الباري عز وجل هي ما تسمى بطريقة الأعراض، ذلك أنهم يزعمون أن الصفات إنما هي أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، ومن أجل ذلك كان قول المعتزلة في الله: إنه قديم واحد ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره
(2)
وبين المصنف أن الرد عليهم جاء من وجوه ثلاثة:
(1)
بيان تلبيس الجهمية 1/ 269.
(2)
بالإضافة إلى زعم المعتزلة أن الصفات لا تقوم إلا بأجسام، فهم أيضاً يزعمون أن في إثبات الصفات قول بكثرة وتعدد ذات الله، لأنهم يقولون:(إن من أثبت لله صفة أزلية قديمة فقد أثبت إلهين)، كما اعتقدوا أن الصفات لو شاركته في القدم لشاركته في الألوهية.
انظر الملل للشهرستاني (1/ 44 - 46)، مقالات الإسلاميين (1/ 245)، منهاج السنة (2/ 169).
الوجه الأول: منع المقدمة الأولى، وهي قولهم: أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم"
والوجه الثاني: منع المقدمة الثانية، وهي قولهم:"والأجسام متماثلة"
وهذه الحجة للمعتزلة سبق الرد عليها فيما تقدم من شرح.
والوجه الثالث: الاستفصال.
ومن هذا الوجه قال ابن القيم: "فلفط الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فتكون له حرمة الإثبات ولا نفيا فيكون له إلغاء النفي.
فمن أطلقه نفيا أو إثباتا سئل عما أراد به:
• فإن قال أردت الجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه ولا يقال للهواء جسم لغة ولا للنار ولا للماء فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا فهذا المعنى منفي عن الله عقلًا وسمعًا.
• وإن أردتم به المركب من المادة والصورة أو المركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعًا.
• وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار إليه أعرف الخلق به بأصبعه رافعًا لها إلى السماء يشهد الجمع الأعظم مشيرا له، أو أردتم بالجسم ما يقال أين هو فقد سأل أعلم الخلق به عنه بأين منبها على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه ولم يقل هذا السؤال إنما يكون عن المجسم.
• وإن أردتم بالجسم ما يلحقه من وإلى فقد نزل جبريل من عنده ونزل كلامه من عنده وعرج برسوله إليه وإليه يصعد الكلم الطيب وعنده المسيح رفع إليه.
• وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر عن أمر فهو سبحانه موصوف بصفات
الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة وهذه صفات متميزة متغايرة ومن قال إنها صفة واحدة فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء وقد قال أعلم الخلق به ((أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك)) والمستعاذ به غير المستعاذ منه وأما استعاذته به منه فباعتبارين مختلفين فإن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد فالمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف بهما منه.
• وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه.
• وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويا على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه.
وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني التي دل عليها الوحي والعقل فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى وجناية على ألفاظ الوحي والعقل وحقائق صفات الرب.
• أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسما مركبا مؤلفا مشبها لغيره وتسميتكم هذه الصفات تجسيما وتركيبا وتشبيها فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة ووضعتم لصفاته ألفاظا منكم بدأت وإليكم تعود.
• وأما خطأكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن في العسل شفاء ولم يره فسأل عنه فقيل له مائع رقيق أصفر يشبه العذرة تتقيأه الزنابير ومن لم يعرف العسل ينفر عنه بهذا التعريف ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده إلا محبة له ورغبة فيه وما أحسن ما قال القائل:
تقول هذا جني النحل تمدحه
…
وإن تشاء قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما
…
والحق قد يعتريه سوء تعبير"
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهُيولي والصورة، ونحو ذلك. فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فهذا يُبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة وعلى أنها متماثلة. وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك.
الشرح
سبق الرد على من زعم القول بتماثل الأجسام، كما سبق الحديث عن هذه المصطلحات جميعها واستعمالاتها لدى الفلاسفة والمتكلمين بما يغني عن إعادة شرحها،
كلام المصنف هنا في أساسه متوجه لتناول أصل مسألة الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما، وأنها بدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً ولا إثباتاً.
والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي، وبعضه معنوي، أخطأ هؤلاء من وجه وأخطأ هؤلاء من وجه.
فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، وإنما هو في اللفظ.
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة 3/ 338 - 344.
فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى.
فإن كان فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردوداً.
وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل.
وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه.
فلابد أن يلحظ في هذا إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين، فقد أصاب.
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه، وهو من صفات كماله، فقد أخطأ.
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته، يقع من جهة المعنى فسر بشيئين: أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين.
فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل.
ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل.
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازماً لهم، كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة، حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة، ومجسمة، وحشوية، وغثاء، وغثراء، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازماً لهم.
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله.
معنى قول الروافض: لا ولاء إلا ببراء
المتن
قال المصنف رحمه الله: "والمقصود أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيمًا بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة «للنَصب» على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناء على أن من أحبهما فقد أبغض عليا رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي؛ وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأول.
ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه. وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينّا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك، وبينّا فساد قول من يقول بتماثلها.
وأيضًا، فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل، وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم، كان هذا وحده كافيًا في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى «التشبيه» ، لكن نفي الجسم يكون مبنيًا على نفي هذا التشبيه، بأن يقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسمًا، ثم يقال: والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه. لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدًا في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى".
الشرح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام، والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر.
فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وبصر كبصري، وقدم كقدمي.
وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [الشورى 11]، وقال تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص 4]، وقال:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِّيَا} [مريم الآية: 65]، وقال تعالى {فَلَا تَجْعَلُوا لله أَنْدَاداً} [البقرة 22]. وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض، وأما الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما، فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً ولا إثباتاً.
والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي، وبعضه معنوي، أخطأ هؤلاء من وجه وأخطأ هؤلاء من وجه.
فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، وإنما هو في اللفظ.
فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى.
فإن كان فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردوداً.
وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل.
وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه.
فلابد أن يلحظ في هذا إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين، فقد أصاب.
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه، وهو من صفات كماله، فقد أخطأ.
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته، يقع من جهة المعنى فسر شيئين:
أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين.
فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل.
ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل.
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازماً لهم، كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة، حتى سموا جميع المثبة للصفات مشبهة، ومجسمة، وحشوية، وغثاء، وغثراء، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازماً لهم.
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله.
وقال ابن تيمية موضحاً أقسام خصوم أهل السنة في هذه المسألة من المعطلة والمشبهة.
وقسم المعطلة إلى فريقين:
الفريق الأول: المعتزلة ومن وافقهم.
والفريق الثاني: الكلابية ومن وافقهم
فقال: "وَكَانَ إمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ أَبُو الهذيل الْعَلَّافُ وَنَحْوُهُ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ قَالُوا: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ هَؤُلَاءِ (يعني المشبهة): بَلْ هُوَ جِسْمٌ وَالْجِسْمُ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ أَوْ الْمَوْجُودُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَطَعَنُوا فِي أَدِلَّةِ نفاة الْجِسْمِ بِكَلَامِ طَوِيلٍ لَا يَتَّسِعُ لَهُ الْجَوَابُ هُنَا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: هُوَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَفَهُ بِخَصَائِصِ الْمَخْلُوقَاتِ وَحُكِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مَقَالَاتٌ شَنِيعَةٌ.
وَجَاءَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ فَقَالَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ: هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ وَلَكِنْ لَيْسَتْ الصِّفَاتُ أَعْرَاضًا؛ إذْ هِيَ قَدِيمَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَعْرِضُ وَلَا تَزُولُ وَلَكِنْ لَا يُوصَفُ بِالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَالْحَرَكَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَعْرِضُ وَتَزُولُ.
فَقَالَ ابْنُ كَرَّامٍ وَأَتْبَاعُهُ: لَكِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهَا أَعْرَاضٌ وَمَوْصُوفٌ بِالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً. وَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا قَالُوا: نَعَمْ هُوَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا دَائِمًا وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُشَابِهَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَطْلَقَ لَفْظَ الْجِسْمِ لَا مَعْنَاهُ. وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ النُّظَّارِ بُحُوثٌ طَوِيلَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَمَّا "السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ" فَلَمْ يَدْخُلُوا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ بَلْ اعْتَصَمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَرَأَوْا ذَلِكَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ فَجَعَلُوا كُلَّ لَفْظٍ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ حَقًّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ
تُعْرَفْ حَقِيقَةُ مَعْنَاهُ وَكُلُّ لَفْظٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُطْلِقَ إثْبَاتَهُ وَلَا نَفْيَهُ حَتَّى نَفْهَمَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ"
(1)
ومن بدع الكرامية أنهم يقولون في المعبود إنه جسم لا كالأجسام
(2)
.
ومن بدعهم قولهم: إن الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا
(3)
.
ويقولون: إن الله جسم قديم أزلي، وإنه لم يزل ساكناً ثم تحرك لما خلق العالم، ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة، فهي تقبل الاجتماع والافتراق، ولا تخلوا من اجتماع وافتراق، وهي أعراض حادثة لا تخلو منها، ومالا يخلو من الحوادث فهو حادث.
وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق، ولكنه لم يزل ساكناً. والسكون عندهم أمر عدمي، وهو عدم الحركة عمَّا من شأنه أن يتحرك، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة. وهؤلاء يقولون: إن الباري لم يزل خالياً من الحوادث حتى قامت به، بخلاف الأجسام المركَّبة من الجواهر المفردة، فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق
(4)
.
ويقولون: إن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك
(5)
.
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 35 - 36.
(2)
لسان الميزان (5/ 354).
(3)
درء تعارض العقل والنقل (3/ 6).
(4)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 227).
(5)
المصدر السابق (5/ 246).
بيان فساد طريقة المعطلة
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد، إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه".
الشرح
فرق المصنف هنا بين منهج المعطلة في نفي التشبيه ومنهج أهل السنة والجماعة.
فأما منهج المعطلة:
فمن المعلوم أن التشبيه في اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل، والمتشابهان هما المتماثلان، وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه
(1)
.
فمقصود المتكلمين بنفي التشبيه: أن يراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات، ولازم هذا القول أنه لا يقال له حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك
(2)
.
وأما منهج أهل السنة.
(1)
نقض تأسيس الجهمية (1/ 476).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 99).
فيقوم على أنه لا يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مُسَمَّاهما واتحاده-عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص-اتَّفاقُهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص؛ فضلاً عن أن يتحد مُسَمَّاهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سَمَّى الله نفسه حيًّا فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة الآية: 255]، وسَمَّى بعض عباده حيًّا؛ فقال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} [يونس: 31].
وليس هذا الحي مثل هذا الحي؛ لأن قوله: (الحي) اسم لله مختص به، وقوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحيِّ المخلوق مختصٍّ به.
وإنما يتفقان إذا أُطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يَفهم من المطلق قدرًا مشتركًا بين المُسميين.
وعند الاختصاص: يُقَيَّد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق.
ولابد مِنْ هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يُفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
أصل الخطأ والغلط عند المخالفين هو توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به.
فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشاركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحق
فضلوا.
وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وإن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: " بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة.
وكذلك إذا أُثبت له صفات الكمال، ونُفي مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه. وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات".
الشرح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهذا رد على الممثلة {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11 [رد على المعطلة.
فقولهم في الصفات مبني على أصلين:
(1)
شرح الطحاوية (ص 104) بتصرف.
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات"
(1)
.
فأهل السنة: يعتقدون أن ما اتصف الله به من الصفات لا يماثله فيها أحد من خلقه، فإذا ورد النص بصفة من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة فيجبب الإيمان به والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو مما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المصدق بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يكون معظمًا لله جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه، لتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه، أخذا بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: 11
(2)
.
أما أهل التعطيل: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات التي لا وجود لها إلا في أفهامهم الفاسدة، فعقيدة هؤلاء المعطلة جمعت بين التمثيل والتعطيل، وهذا الشر إنما جاء من تنجس قلوبهم وتدنسها بأقذار التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه كاستوائه على عرشه ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال، فإن أول ما يخطر في أذهانهم أن هذه الصفة تشبه صفات الخلق،
(1)
منهاج السنة 2/ 523
(2)
انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 21 - 22
فيتلطخ القلب بأقذار التشبيه لم يقدر الله حق قدره ولم يعظم الله حق عظمته حيث سبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيكون أولاً نجس القلب بأقذار التشبيه ثم دعاه ذلك إلى أن ينفي صفة الخالق جلَّ وعلا عنه بادعاء أنها تشبه صفات المخلوق، فيكون فيها أولاً مشبهًا، وثانيًا معطلاً ضالاًّ ابتداءً وانتهاءً متهجمًا على رب العالمين ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق
(1)
.
ولضرب مثال على ذلك عند المعطلة فإن نفاة الصفات الاختيارية من الكلابية وقدماء الأشاعرة ومن وافقهم يقولون: "إن الله هو الموصوف بالصفات، لكن ليست الصفات أعراضاً، إذ هي قديمة أزلية"
(2)
.
وحجتهم في منع قيام الحوادث بذات الله تعالى أنهم يقولون: "إن كل ما صح قيامه بالباري تعالى فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثاً، وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية من صفة الكمال، والخالي من الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص، والنقص على الله محال بإجماع الأمة.
وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الباري بأسرها صفات كمال، فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وهو أمر غير جائز"
(3)
.
الرد عليهم:
لقد اعتمد أصحاب هذا القول في منعهم للصفات الاختيارية على حجة منع قيام
(1)
انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 19 - 20
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 36).
(3)
انظر كتاب ابن تيمية السلفي (ص 130).
الحوادث بذاته تعالى، وهي حجة واهية وقد رد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "إن المقدمة التي اعتمد عليها هؤلاء وهي قولهم: إن الخالي من الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص.
فيقال لهم: معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل، كما لا يمكن وجودها في الأزل، وعلى هذا فالخلو عنه في الأزل لا يكون خلواً عما يمكن الاتصاف به في الأزل.
ثم إنه لم يثبت امتناع ما ذكر من النقص بدليل عقلي ولا بنص من كتاب ولا سنة، بل بما ادعوه من إجماع، وإذاً فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسألة النزاع.
وقولهم بإجماع الأمة على أن صفاته صفات كمال، فإن قصد بذلك صفاته اللازمة لم يكن في هذا حجة لهم، وإن قصد بذلك ما يحدث بمشيئته وقدرته لم يكن هذا إجماعاً فإن أهل الكلام يقولون إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفاً.
ثم إن هذا الإجماع الذي ادعوه حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين: أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاماً وفعلاً، والآخر لا يمكنه ذلك، بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور ولا مراد أو يكون بائناً عنه، لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني.
وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين أو مطلقاً أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك لكانت العقول تقصي بأن الأول أكمل، فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والقدرة صفات كمال، به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به والتي يفعل بها المفعولات
المباينة له صفات كمال"
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل تنزيه مدح فيه الرب ففيه إثبات، فلهذا كان قول ((سبحان الله)) متضمناً تنزيه الرب وتعظيمه، ففيها تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيها تعظيمه سبحانه وتعالى"
(2)
(1)
الموافقة بين صريح العقل وصحيح النقل (2/ 73 - 175)، ط: دار الكتب.
(2)
مجموع الفتاوى 17/ 112
من نفى اشتراك الموجودات في المعنى العام لزمه التعطيل المحض
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه.
قيل: هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه وتعالى، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعًا؛ كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات حيًا عليمًا سميعًا بصيرًا، فإذا قيل: يلزم أن يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودًا حيًا عليما سميعًا بصيرًا. قيل لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعًا على الرب تعالى؛ فإن ذلك لا يقتضي حدوثًا، ولا إمكانًا، ولا نقصًا، ولا شيئًا مما ينافي صفات الربوبية.
وذلك أن القدر المشترك هو مسمى «الوجود» أو «الموجود» ، أو «الحياة» أو «الحي» ، أو «العلم» أو «العليم» ، أو «السمع» و «البصر» أو «السميع» و «البصير» ، أو «القدرة» أو «القدير» ، والقدر المشترك مطلق كليّ لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدَث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه.
فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال: كالوجود والحياة والعلم والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق- لم يكن في إثبات هذا محذور أصلا، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودَين لا بد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود".
الشرح
سبق الحديث عن مسألة القدر المشترك بشكل موسع ومفصل يتناول هذه المسألة من جميع جوانبها.
والمصنف يستدل هنا بهذه المسألة في معرض رده على شبهة المعطلة الذين يقولون "إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه".
فيقول المصنف لو سلم لكم جدلًا أن هذا هو تعريف التماثل، فإن جماهير العقلاء يعلمون أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفس ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله-سبحانه وتعالى-إذ هو-سبحانه-ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله"
(1)
.، وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع. وإذا قيل هذا حي عليم قدير، وهذا حي عليم قدير، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير، لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلاً لهذا المسمى من كل وجه، بل هنا ثلاثة أشياء:
أحدها: القدر المشترك الذي تشابها فيه، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما، ولا يوجد كليّاً عامّاً إلا في علم العالم
(2)
الثاني: ما يختص به هذا، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة.
(1)
درء التعارض، جـ 5 ص 227.
(2)
أي في الذهن وليس في الخارج
الثالث: ما يختص به ذاك، كما يختص به العبد، من الحياة والعلم والقدرة، فما اختص به الرب-عز وجل-لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب، ولا يستحق شيئاً من صفات الكمال التي يختص بها الرب-عز وجل. وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان، فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه لا محذور فيه".
(1)
وأعطى المصنف عدة أمثلة فقال: "كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات حيًا عليمًا سميعًا بصيرًا".
وبين المصنف أن القدر المشترك بين الخالق والمخلوق في هذه الصفات التي أطلقت على الخالق والمخلوق الذي تشابها فيه، هو معنى كلي لا يختص به أحدهما وبالتالي "قيل لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعًا على الرب تعالى"
فباعتبار أن هذا الإطلاق هو معنى كلي يشترك فيه الخالق والمخلوق "فإن ذلك لا يقتضي حدوثًا، ولا إمكانًا، ولا نقصًا، ولا شيئًا مما ينافي صفات الربوبية".
فيجب الأخذ بالاعتبار أن "القدر المشترك مطلق كليّ لا يختص بأحدهما دون الآخر"
وبالتالي "فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدَث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه".
وأعاد المصنف ذكر الأمثلة التي سبق إيرادها وبين أنه إذا أخذ هذا الاعتبار بالحسبان فإن "القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال: كالوجود والحياة والعلم والقدرة" في حال الإطلاق وعدم التخصيص بالخالق أو المخلوق "لم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق"
فعلى الأخذ بالقدر المشترك "لم يكن في
(1)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 3/ 440.
إثبات هذا محذور أصلا، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودَين لا بد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود".
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ولهذا لما اطَّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطِّلة، وكان جهم ينكر أن يسمّى الله شيئًا، وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفى القدر المشترك مطلقًا لزم التعطيل التام.
والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى، كالحياة والعلم والقدرة، بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك، تجب له لوازمها؛ فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه".
الشرح
أي أن نفي القدر المشترك هو الذي أدى بالمعطلة إلى القول بنفي الصفات كما قال المصنف "فإذا نفى القدر المشترك مطلقًا لزم التعطيل التام".
وبين المصنف أن هذه الألفاظ في حال إضافتها إلى الله واختصاصه بها تثبت لها جميع لوازمها فقال: "والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى، كالحياة والعلم والقدرة، بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك، تجب له لوازمها؛ فإن ثبوت الملزوم
يقتضي ثبوت اللازم".
وأن ما اختص به المخلوق في حال إضافة تلك الصفات إليه يجب تنزيه الرب عز وجل عنها كما قال المصنف هنا: "وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه".
فهي من جهة تختص بالمخلوق ومن جهة أخرى الله منزه عنها، ومثال ذلك صفة الحياة إذا أضيفت إلى المخلوق فإنها مسبوقة بعدم ويلحقها الزوال ويعتريها النقص من كل وجه، فكل هذه الخصائص لحياة المخلوق الله عز وجل منزه عنها فحياة الله لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال ولا يعتريها النقص بأي وجه من الوجوه.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وهذا الموضع من فهمه فهمًا جيدًا وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام، وقد بسط هذا في مواضع كثيرة، وبُيِّن فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيَّنًا مقيَّدًا، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميّز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله".
الشرح
يجدر التنبيه إلى أن علماء أهل السنة قرروا الحقائق الآتية:
أولاً: أن القدر المشترك يراد به: ما تشترك فيه الموجودات من: معاني، ذهنية، كلية، مطلقة
فما من مسميين إلا وبينهما:
• قدر مشترك.
• وقدر مميز.
ثانياً: أن نعلم أن المعنى العام لا يقتضي تماثلاً من كل وجه.
وذلك أن لكل ماهيتين:
• معنى عاماً اشتركا فيه.
• ومعنى خاصاً افترقا فيه.
• فالمعنى العام: الذي اشتركا فيه هو (القدر المشترك) الذي لا يقتضي تماثلا من كل وجه.
• والمعنى الخاص: وحين تكون الخصائص والإضافات تتمايز هاتان الماهيتان وهو (القدر المميز).
ثالثاً: أن الكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان.
فليس في الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى"
(1)
.
فالمقصود بالقدر المشترك هو المعنى العام الكلي المقدر في الذهن.
ومثال ذلك: لفظ أو مسمى "الوجود" فهذا اللفظ يطلق على الخالق والمخلوق فيقال الله موجود والمخلوق موجود.
ولكن هذا الإطلاق أو هذا القدر المشترك هو في الوجود الذهني فقط لا في الوجود العياني أو الخارجي.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 183)
يقول ابن قدامة رحمه الله: " والرجل له وجود في:
• الأعيان،
• والأذهان،
• واللسان.
• فوجوده في الأعيان لا عموم له إذ ليس في الوجود رجل مطلق بل إما زيد وإما عمرو.
• وأما وجوده في اللسان فلفظة (الرجل) قد وضعت للدلالة عليه.
• وأما الذي في الأذهان من معنى الرجل فيسمى كليا، فإن العقل يأخذ من مشاهدة زيد: حقيقة الإنسان وحقيقة الرجل، فإن رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى، وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو الحارث كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا
…
"
(1)
.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والقدر المشترك كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه .. "
(2)
.
رابعاً: "أن من قال: إنه يوجد في الخارج كليا، فقد غلط.
فإن الكلي لا يكون كليا قط إلا في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا شيء معين، إذا تصور منع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، ولكن العقل يأخذ القدر المشترك الكلي بين المعينات، فيكون كليا مشتركا في الأذهان"
(3)
.
(1)
روضة الناظر لابن قدامة: 2/ 5 - 6، ت: النملة.
(2)
التدمرية: 125 - 129.
(3)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 308)
خامساً: "ما كان لازما لهذا المعنى العام كان لازما للموصوف به، وهذا لا محذور فيه، بل هو حق.
ومثاله الذي يوضحه:
• إذا كان الخالق (موجودا) والمخلوق (موجودا).
• أو هذا (قائم بنفسه)، وهذا (قائم بنفسه).
• أو قيل: هذا (حي عليم رحيم)، وقيل:(هذا حي عليم رحيم).
كان القدر العام الكلي المتفق هو: مسمى (الوجود) و (القيام بالنفس) و (الحياة) و (العلم) و (الرحمة) أو مسمى أنه (موجود)(قائم بنفسه)(حي)(عالم)(رحيم).
وهذا المعنى العام ليس من لوازمه ما ينفى عن الله، بل لوازمه كلها صفات كمال يوصف الله بها.
o وإنما يكون لوازمه صفة نقص إذا قيّد بالعبد فقيل: وجود العبد وعلم العبد ورحمة العبد، فالنقص يلزمه إذا كان مقيدا مختصا بالعبد، والله منزه عما يختص به العبد.
o وأما إذا:
- اتصف الرب به.
- أو أُخذ مطلقا غير مختص بالعبد.
ففي هذين الحالين لا يلزمه شيء من النقائص أصلا، فتبين أن إثبات القدر العام المتفق عليه لا محذور فيه أصلا
(1)
".
خامساً: أن المقصود بالقدر المميز: أن بين الموجودين في الوجود الخارجي
(1)
الصفدية (2/ 9).
قدر مميز وفارق بينهما، وعليه فإن لله وجوداً يختص به وللمخلوق وجود يختص به.
• فأما وجود الله فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، فلا يجوز أن يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها.
• وهكذا الشأن في وجود المخلوق العياني فلا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته ولا مشابهة في شيء من خصائصه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع، فهو سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له.
بل إن المخلوق لا يشارك مخلوقا في شيء من صفاته، فكيف يكون للخالق شريك في ذلك، لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته، والله تعالى لا مثل له أصلا.
• وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والآفات فهي ليست من لوازم ما يختص به، ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا، بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة، والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب "
(1)
.
سادساً: أنه "ليس في الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى"
(2)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 83 - 85) بتصرف.
(2)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 183)
الأشاعرة يجمعون بين الأمرين المتناقضين
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام، فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات، حذرًا من ملزومات التشبيه؛ وتارة يتفطن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير، فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة".
الشرح
وأصل الخطأ والغلط توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به.
فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشاركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحق فضلوا.
وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وإن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه
(1)
.
(1)
شرح الطحاوية (ص 104) بتصرف.
اضطراب أساطين الكلام في المسائل الخمس
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؛ وهل لفظ «الوجود» مقول بالاشتراك اللفظي، أو بالتواطئ، أو التشكيك، كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟، وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟.
وقد كثر من أئمة النُظَّار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات، فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكى عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحير، وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة، ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة.
وبيَّنا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ «الوجود» كلفظ «الذات» و «الشيء» و «الماهية» و «الحقيقة» ونحو ذلك، وهذه الألفاظ كلها متواطئة، وإذا قيل: إنها مشكِّكة، لتفاضل معانيها، فالمشكِّك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلا في موارده، أو متماثلاً.
وبيَّنا أن المعدوم شيء أيضًا في العلم والذهن، لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به.
وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة، وصفاتها القائمة بها المعيَّنة، فتتشابه بذلك وتختلف به.
وأما هذه الجمل المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها عَلِمَ قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر، إذ لكل مقام مقال.
والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما يُنفى عن الرب، وينزَّه عنه- كما يفعله كثير من المصنفين- خطأ لمن تدبَّر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة".
الشرح
تحدث المصنف عن عدد من المصطلحات المستعملة في هذه المسألة والتي ترتبط بالنقاش الدائر فيها، وكان حديثه فيه شيء من الإجمال لأنه قد تناول هذه المسائل في مواطن أخرى في غير هذه الرسالة، وإنما أراد هنا الإشارة للخلاف الحاصل فيها، وقد سبق شرح مسألة القدر والمشترك من جوانبها الاصطلاحية واللغوية والشرعية
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فصل: وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها، إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، والذين يقولون بإلهية بعض البشر، وأنه الله.
فإن كثيرًا من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم أو التحيز ونحو ذلك، ويقولون: لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسمًا أو متحيزًا، وذلك ممتنع.
وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة، نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوه:
أحدها- أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فسادًا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم، فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والدليل معرِّف للمدلول، ومبين له، فلا يجوز أن يُستدل على الأظهر الأبين بالأخفى، كما لا يُفعل مثل ذلك في الحدود.
الوجه الثاني- أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات يمكنهم أن يقولوا: نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز، كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم، فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة صفات الكمال، فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحدًا، ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد.
الثالث- أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافه بصفات الكمال واجب، ثابت بالعقل والسمع، فيكون ذلك دليلا على فساد هذه الطريقة.
الرابع- أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئًا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفى شيئًا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي، فمثبتة الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة: هذا تجسيم، لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، فإنا لا نعرف موصوفًا بالصفات إلا جسمًا- قالت لهم المثبتة: وأنتم قد
قلتم: إنه حي عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجودًا حيًا عالما قادرًا إلا جسمًا، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن، وقالوا لهم: أنتم أثبتم حيًّا عالما قادرًا، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يُعلم بضرورة العقل".
الشرح
بين المصنف فساد الطريق الذي سلكه أهل الكلام باستخدامهم ما يسمى حجة التركيب أو حجة عدم قيام الحوادث.
وبين المصنف فساد هذا الاحتجاج من وجوه:
الوجه الأول: أن أهل التعطيل يحتجون على ما هو واضح بما هو خفي، ومن المعلوم أن الدليل معرف للمدلول ومبين له فلا يعقل أن يكون الدليل خفيًا والمدلول واضح.
وهنا رام أهل الكلام تنزيه الله عن النقائص كالمرض والحزن والبكاء ونحوها وهو المدلول بدليل نفي التجسيم، ونفي التجسيم أخفي عند عامة العقلاء من نفي هذه النقائص. وكما قال المصنف:"فلا يجوز أن يُستدل على الأظهر الأبين بالأخفى".
وكذلك في الحدود والتعريفات يجب أن يكون التعريف أو حد الشيء واضحا لكي يدل على الشيء المعرف، فلا يحسن تعريف الخمر بالعقار
(1)
، باعتبار أن إطلاق لفظ العقار لا يعرفه كل أحد كما يعرف الناس الخمر باسمها الذي هو أشهر وأظهر وأعرف. فكذلك الحال لا يحسن إثبات تنزيه الله عن النقائص ببرهان نفي
(1)
العقار بالضم الخمر، انظر القاموس المحيط: ص 070
التجسيم.
والوجه الثاني: أن هؤلاء المستدلين بنفي الصفات بحجة نفي التجسيم هم أمام فريقين:
الفريق الأول: القائلين بوصف الله بتلك النقائص، وهؤلاء قد يحتجون على هؤلاء بقولهم نحن لا نقول بما نصفه من النقائص بالتجسيم والتحيز.
والفريق الثاني: أهل السنة المثبتة الكمال لله فإنهم يقولون ببطلان الملازمة وأن إثبات صفات الكمال لايقتضي تجسيما.
فيصبح نزاع الفريق الأول الذين يصفونه بالنقص مثل نزاع مع مثبتة الكمال من أهل السنة، والأولون مبطلون وأهل السنة محقون
وكون رد من سلك مسلك نفي التجسيم في إثبات التنزيه على كلا الطائفتين المحقة والمبطلة واحد هذا في غاية الفساد أن يكون طريق الاستدلال على التنزيه يستوي فيه النقض على الحق وعلى الباطل. فهذا من أفسد مسالك الرد على المخالف.
الوجه الثالث: أن هؤلاء الذين سلكوا مسلك التنزيه بدليل نفي التجسيم، قاموا في ذات الوقت بنفي صفات الكمال لله عز وجل بنفس هذا الدليل، ومعلوم أن صفات الكمال لله عز وجل واجبة لله بالأدلة العقلية والسمعية.
فهذه النتيجة التي توصلوا إليها بنفي صفات الكمال هي دليل واضح على فساد استدلالهم بدليل حدوث الأجسام.
والوجه الرابع: أن هذا الدليل يستدل به كل من نفاة الصفات من المعتزلة ومن وافقهم، ويستدل به كذلك نفاة بعض الصفات من متكلمة الصفاتية، وهؤلاء متناقضون فيما بينهم، والفرق بين الاثنين من حيث موقف كل واحد منهم في
الصفات. وشرح هذا الوجه يتبين بثلاثة أمور:
الأمر الأول: موقف الفريقين من الصفات عمومًا.
وأما موقف المعتزلة ومن وافقهم:
فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه، فردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به
(1)
لأنهم يقولون إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف، وينفون أن يكون لله وصف قائم به علم أو قدرة أو إرادة أو كلام
(2)
وأما موقف الكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية: فيفرقون بين الوصف والصفة
فيجعلون الوصف: هو القول
ويجعلون الصفة: المعنى القائم بالموصوف
(3)
فقالوا: إن الوصف الذي هو القول يراد به الأفعال، وزعموا أنها لا تقوم به، والصفة: هي الصفات اللازمة القائمة بالذات
فظنوا أن هناك نوعين مختلفين من الصفات:
أحدهما: قائم بالذات لازم لها، كصفات المعاني السبعة التي هي العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام
والثاني: صفات أفعال لا تقوم عندهم بالذات، بل هي نسب إضافية عدمية تنشأ من إضافة المفعول لفاعله، ولا يعقل لها وجود إلا بتلك الإضافة، فوجودها أمر
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 147، 148
(2)
مجموع الفتاوى 3/ 335
(3)
مجموع الفتاوى 3/ 335.
سلبي، وليس لها وجود في نفسها، فليس ثمت عندهم موجود إلا المفعولات، وأما الأفعال فنسب وإضافات
(1)
.
الأمر الثاني: أن كلا الفريقين يستدل بنفس الدليل ولكن لكل واحد منهما فهمه الخاص.
والفرق بينهما
أن المعتزلة تقول: (لا تحله الأعراض والحوادث) فالمعتزلة لا يريدون [بالأعراض] الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات. ولا يريدون [بالحوادث] المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل ونحو ذلك -مما يريده الناس بلفظ الحوادث- بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
ولكن ابن كلاب ومن وافقه خالفوا المعتزلة في قولهم: "لا تقوم به الأعراض" وقالوا: "تقوم به الصفات ولكن لا تسمى أعراضاً".
ووافقوا المعتزلة على ما أرادوا بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته
(2)
.
ففرقوا بين الأعراض -أي الصفات- والحوادث -أي الأمور المتعلقة بالمشيئة
(3)
(4)
.
(1)
- شرح القصيدة النونية للهراس 2/ 120.
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 520، 521).
(3)
مجموع الفتاوى (6/ 525).
(4)
تتميماً للفائدة فإن الخلاف في هذه المسألة على أربعة أقوال:
1 ـ قول المعتزلة ومن وافقهم: إن الله لا يقوم به صفة ولا أمر يتعلق بمشيئته واختياره وهو قولهم: (لا تحله الأعراض ولا الحوادث).
2 ـ قول الكلابية ومن وافقهم: التفريق بين الصفات والأفعال الاختيارية فأثبتوا الصفات، ومنعوا أن يقوم به أمر يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا غير فعل.
3 ـ قول الكرامية، ومن وافقهم: يثبتون الصفات ويثبتون أن الله تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأنه يصير موصوفا بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
4 ـ قول أهل السنة والجماعة: أثبتوا الصفات والأفعال الاختيارية وأن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة.
وهذا هو الصحيح. مجموع الفتاوى (6/ 520، 525).
فالكلابية ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله
(1)
، ويقولون: "لو قامت به لكان محلاً للحوادث. والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به
(2)
.
الأمر الثالث: شرح كلام المصنف.
كل واحد من الفريقين عنده قدر من الإثبات وقدر من النفي، أما الإثبات فالمعتزلة يثبتون الأسماء، وأما الصفاتية فيثبتون بعض الصفات كصفة الحياة والسمع والبصر.
وأما النفي فإن المعتزلة ومن وافقهم ينفون جميع الصفات، وأما متكلمة الصفاتية فينفون الصفات الاختيارية كما هو قول قدمائهم، أو ينفون جميع الصفات ما عدا الصفات السبع أو الثمان وهذا قول المتأخرين منهم.
فكل واحد من الفريقين يحتج بنفس هذا الدليل على القدر الذي يثبته أو ينفيه
(1)
الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، أو التي تنفك عن الذات: كالاستواء، والنزول، والضحك، والإتيان، والمجيء، والغضب والفرح. مجموع الفتاوى (6/ 68، 5/ 410).
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 69)، وانظر الرد على هذه الشبهة (6/ 105).
الآخر وهذا معنى قول المصنف: "فكل من أثبت شيئًا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفى شيئًا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي"
وأعطى المصنف مثالًا لذلك بكون متكلمة الصفاتية قد أثبتوا بعض الصفات فقال المصنف: "فمثبتة الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر"
فيحتج عليهم المعتزلة بما ذكره المصنف بقوله: "إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة: هذا تجسيم، لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، فإنا لا نعرف موصوفًا بالصفات إلا جسمًا"
فيجيب متكلمة الصفاتية على هذا الاعتراض بأن المعتزلة كذلك يثبتون الأسماء كالحي والعليم والقدير وتقولون إن إثباتها لا يستلزم الجسمية فكذلك نحن نقول بنفس قولكم أن إثبات تلك الصفات لا يستلزم أن يكون جسمًا وهذا ما أشار إليه المصنف بقوله: "قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: إنه حي عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجودًا حيًا عالما قادرًا إلا جسمًا، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن، وقالوا لهم: أنتم أثبتم حيًّا عالما قادرًا، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يُعلم بضرورة العقل".
فإن كل من أثبت صفة ونفي أخرى مخالفا غيره فيما أثبت ونفى الزم كل منهما صاحبه فيما نفاه بعين ما يلزمه الآخر فيما يثبته لأن كليهما اعتمد على مسلك نفي التجسيم وهذا يكشف بطلان هذا المسلك إذ أصحابه متناقضون. إذ كل يعترض على صاحبه بما هو معارض به من قبل غيره.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء، أو بالوجه واليد
ونحو ذلك- إذا قالوا: هذا يقتضي التجسيم، لأنَّا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، قالت لهم المثبتة: فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، وهذا هكذا، فإن كان هذا لا يوصف به إلا الجسم فالآخر كذلك، وإن أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك، فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين.
الشرح
انتقل المصنف من اعتراض كل من المعتزلة ومتكلمة الصفاتية على بعضهم البعض على اعتبار أن كل واحد منهما يحمل قدرًا من النفي إلى شأن أخر وهو اعتراض أصحاب منهج السلف مع المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية الذين ينفون ما عدا الصفات السبعة، على اعتبار أن كل واحد منهما يحمل قدرًا من الإثبات فأطلق على الفريقين مسمى (المثبتة).
فمن المعلوم أن منهج السلف هو إثبات جميع الصفات بما فيها الصفات الاختيارية كصفة الرضا، والغضب، والحب، والبغض، والاستواء، والنزول، والإتيان، والمجيء.
كما أنهم يثبتون الصفات الذاتية كالوجه، واليد، ونحو ذلك.
فبدأ باعتراض المتأخرين من الأشاعرة ومعهم الماتريدية على أتباع منهج السلف فقال: "ثم هؤلاء المثبتة" ويعني بهم المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية "إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء، أو بالوجه واليد ونحو ذلك- إذا قالوا: هذا يقتضي التجسيم".
فهذا وجه اعتراضهم أن إثبات هذه الصفات يلزم منه التجسيم لأنهم على-حد
زعمهم-يقولون: "لأنَّا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم".
وقول المصنف: "قالت لهم المثبتة" ويعني بهم أتباع منهج السلف. فقد قالوا جوابًا على هذا الاعتراض بجنس ما ذكره هؤلاء وهو أنكم "فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام" أي أن المتأخرين من الأشاعرة ومعهم الماتريدية وصفوه بالصفات السبع وذكر ستة منها والصفة السابعة هي صفة الإرادة.
وقوله: "وهذا هكذا، فإن كان هذا لا يوصف به إلا الجسم فالآخر كذلك، وإن أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك".
أي إذا كانت تلك الصفات التي نفيتموها مثل النزول والاستواء والمجيء ونحوها لا يوصف بها إلا الجسم، فالواجب أن تقولوا في الصفات التي أثبتموها مثل ذلك أنها لا يوصف بها إلا الجسم.
وقوله: "فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين". أي كل واحد منهما تسمى صفات وكذلك أطلقت على الله عز وجل فالتفريق بينهما تفريق بين متماثلين.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقًا فاسدًا- لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله تعالى بالجسم لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقًا ولا تبطل باطلاً، ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار، ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتَدَع، الذي أنكره السلف والأئمة".
الشرح
تقدم ذكر موقف السلف من إطلاق لفظ الجسم نفيًا وإثباتًا فيما تقدم من الشرح، والمصنف هنا يعيد تأكيد الموقف العام للسلف من كل من لفظ الجسم والجوهر والتحيز ونحو ذلك من الألفاظ.
وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض)، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره.
وليس الأمر كذلك: بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك
وأيضاً: فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله
فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة
(1)
.
قال ابن القيم: "فلفط الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فتكون له حرمة الإثبات،
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 228 - 233).
ولا نفيا فيكون له إلغاء النفي"
(1)
وقول المصنف: "ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار".
واستدل المصنف لذلك بأن مسألة وصف الله بالنقائص ليست مسألة جديدة بل هي مذكورة في القرآن.
• أما اليهود فقد قال الله تعالى عن اليهود الذين "كثيرا ما يعدلون الخالق بالمخلوق ويمثلونه به حتى يصفوا الله بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها، وهي من صفات خلقه"
(2)
فقد حكي الله عنهم ذلك في كتابه، كقوله -تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقوله رداً على وصفه سبحانه بالتعب:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ} [ق: 38].
• وأما الكفار فقد قال تعالى عن الكفار (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الحشر 23].
فسبح نفسه عن شرك المشركين به عقب تمدحه بأسمائه الحسنى المقتضية لتوحيده، واستحالة إثبات شريك له
(3)
.
وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة 3/ 339.
(2)
مجموع الفتاوي 10/ 55.
(3)
جلاء الأفهام ص 147.
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل الآيات 57 - 60].
فإن الله تعالى احتج على المشركين وأهل الكتاب، فيما يثبتون له من الشريك والبنات، بأنهم يُنزهون أنفسهم عن ذلك؛ لأنهم يعتبرون ذلك نقصاً وعيباً في حقهم؛ فإذا كانوا لا يرضون بهذا الوصف والمثل السوء لأنفسهم؛ فكيف يصفون به ربهم، ويجعلون له مثل السوء، والرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منهم؟!.
قال المصنف: "ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتَدَع، الذي أنكره السلف والأئمة".
أي مع كون هذه دعوى وصف الله بالنقائص قديمة، فإنه لم يرد في النصوص أو في كلام السلف استعمال هذه الألفاظ لا نفيًا ولا إثباتًا.
يجب أن يعلم أن القول بتنزيه الله عز وجل عن النقائص قد يحتمل وجهًا حقًا وقد يحتمل وجهًا باطلًا.
أما الوجه الحق: إذا قال القائل: الله يجب تنزيهه عن سمات الحدث، أو علامات الحدث، أو كل ما أوجب نقصًا وحدوثًا فالرب منزه عنه، فهذه كلمة حق معلومة متفق عليه.
أما الوجه الباطل:
قول الجهمية: إن قيام الصفات به، أو قول متكلمة الصفاتية أن قيام الصفات الاختيارية، هو من سمات الحدث.
وهذا باطل عند السلف والإئمة، بل وجمهور العقلاء، بل ما ذكروه يقتضي حدوث كل شيء، فإنه ما من موجود إلا وله صفات تقوم به، وتقوم به أحوال تحصل
بالمشيئة والقدرة.
فإن كان هذا مسلزمًا للحدوث لزم حدوث كل شيء، وأن لا يكون في العالم شيء قديم
(1)
.
ومن المعلوم أن طريقة المخالفين لأهل السنة والجماعة وصف الله عز وجل بالنفي المحض.
فالمخالفون لأهل السنة والجماعة في هذا الباب وهم المعطلة، فقد عكسوا هذه الطريقة الصحيحة ووصفوا الله عز وجل بالنفي المحض الذي لا يتضمن إثباتاً، فيقولون مثلاً: ليس بكذا، ولا بكذا
…
يقولون: ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع، ولا افتراق، ولا يتبعض، ولا يتجزأ، ولا يقرُب من شيء، ولا يقرُب منه شيء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ونحو ذلك، ولا يُشار إليه، ولا هو مباين للعالم، ولا داخله، ولا خارجه،
…
إلى أمثال هذه العبارات السلبية التي لا تتضمن إثباتاً.
وإذا أرادوا الإثبات: أثبتوا شيئاً مجملاً يجمعون فيه بين النقيضين، ويُقدرون وجوداً مطلقاً لا حقيقة له إلا في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان، فبعضهم يصفونه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات، وبعضهم يثبت له الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات، وبعضهم يثبت له الأسماء وعدداً محدوداً من الصفات
(2)
.
(1)
انظر دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية 5/ 255 - 256.
(2)
انظر: مقالات الإسلاميين ص (155 - 156)، منهاج السنة النبوية (2/ 187، 562)، الصفدية
(1/ 116)، مجموع الفتاوى (6/ 66، 516، 11/ 483 - 484، 20/ 111 - 112، 126)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 163)، النبوات (2/ 643)، الفتاوى الكبرى (6/ 337 - 338)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 863)، التدمرية ص (12 - 19)، التسعينية (1/ 172 - 174)، الكيلانية، ضمن مجموع الفتاوى (12/ 432)، الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الإسلام من بدع الجهمية والصوفية، ضمن مجموع الفتاوى (2/ 198)، الصواعق المرسلة (3/ 1009)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 69 - 70)، توضيح المقاصد (1/ 148، 2/ 436)، التحفة المهدية ص (150 - 151)، شرح القصيدة النونية (2/ 287 - 288).
وهذه الطريقة أدتهم إلى عكس مرادهم، فشبهوا الله عز وجل بالمعدومات، وبالممتنعات، في حين أنهم أرداوا التنزيه فراراً من التشبيه، فوقعوا في شر من الذي فروا منه، وهذا شأن كل من خالف القرآن الكريم والسنة النبوية فإن مصيره إلى الانحراف والبدعة والعياذ بالله.
الأعتماد على مجرد نفي التشبيه لا يكفي في إثبات الصفات
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فصل: وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضًا أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف الله سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه، كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن والجوع والعطش مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولاحزنهم، كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم، حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا".
الشرح
من سمات الحدث النقائص، كالجهل والعمى، والصمم، والبكم، فإن كل ما كان كذلك فهو لم يكن إلا محدثًا، لأن القديم الأزلي منزه عن ذلك، لآن القديم الأزلي متصف بنقيض هذه الصفات، وصفات الكمال لازمة له، واللازم يمتنع زواله إلا بزوال الملزوم، والذات قديمة أزلية، واجبة بنفسها، غنية عما سواها، يستحيل عليها العدم والفناء بوجه من الوجوه، فيستحيل اتصافها بنقيض تلك اللوازم، فلا يوصف بنقيضها إلا المحدث، فهي من سمات المحدث المستلزمة لحدوث من
اتصف بها.
وهذا يدخل في قول القائل "كل ما استلزم حدوثًا أو نقص فالرب منزه عنه" والنقص المناقض لصفات كماله مستلزم لحدوث المتصف به، والحدوث مستلزم للنقص اللازم للمخلوق، فإن كل مخلوق فهو يفتقر إلى غيره، كائن بعد أن لم يكن، لا يعلم إلا ما علم، ولا يقدر إلا ما أقدر، وهو محاط به مقدور عليه.
فهذه النقائص اللازمة لكل مخلوق هي ملزومة للحدوث، حيث كان حدوث كانت، والحدوث ملزوم لها فحيث كان محدث كانت هذه النقائص.
فقولنا: "ما استلزم حدوثًا أو نقصًا فالرب منزه عنه" حق، والحدوث والنقص اللازم للمخلوق متلازمان.
والرب منزه عن كل منهما من جهتين:
من جهة امتناعه في نفسه.
ومن جهة أنه مستلزم للآخر، وهو ممتنع في نفسه.
فكل منهما دليل ومدلول عليه باعتبارين على أن الرب منزه عنه، وعن مدلوله الذي هو لازمه.
والحاجة إلى الغير والفقر إليه مما يستلزم مما يستلزم الحدوث والنقص اللازم للمخلوق.
وقولي: "اللازم" ليعم جميع المخلوقين وإلا فمن النقائص ما يتصف به بعض المخلوقين دون بعض فتلك ليست لازمة لكل مخلوق.
والرب منزه عنها أيضًا، ولكن إذا نزه عن النقص اللازم لكل مخلوق فعن ما يختص به بعض المخلوقين أولى وأحرى، فإنه إذا كان مخلوق ينزه عن نقص مخلوق، فالخالق أولى تنزيهه عنه، وهذه طريقة "الأولى" كما دل عليها القرآن في غير
موضع
(1)
.
فقول المصنف: "وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضًا أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه" يعنى أن الاعتماد في إثبات الصفات لله لا يكفي فيه مجرد نفي التشبيه، كما عليه حال هؤلاء المعطلة الذين اكتفوا "في إثباته مجرد نفي التشبيه".
لأنه يلزم على مجرد الاقتصار في الإثبات على مجرد نفي التشبيه أن يأتي من يقول بجواز "أن يوصف الله سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه"
وأعطى المصنف أمثلة لما قد يجوزه هذا القائل فقال: "كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن والجوع والعطش مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولاحزنهم، كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم، حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا".
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته، إذا نفيت التشبيه، وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيًا في الإثبات، فلا بد من إثبات فرق في نفس الأمر.
(1)
انظر دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية 5/ 255 - 256.
فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء السمع به أثبته، دون ما لم يجئ به السمع.
قيل له:
أولًا: السمع هو خبر الصادق عمّا هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبَر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتًا في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع، إذا لم يكن قد نفاه، ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها، كما لا يجوز إثباتها".
الشرح
وعليه "فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات" ويعني بهم متكلمة الصفاتية من الكلابية والأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم.
فقد زعمت طائفة من أهل الكلام كأبي المعالي والرازي، والآمدي وغيرهم أن ذلك لا يعلم إلا بالسمع الذي هو الإجماع، وإن نفي الآفات والنقائص عنه لم يعلم إلا بالإجماع، وجعلوا الطريق التي بها نفوا عنه ما نفوه، إنما هو نفي مسمى الجسم ونحو ذلك، وخالفوا ما كان عليه شيوخ متكلمة الصفاتية، كالأشعري، والقاضي، وأبى بكر وأبي إسحاق، ومن قبلهم من السلف والأئمة، في إثبات السمع والبصر والكلام له بالأدلة العقلية، وتنزيهه عن النقائص بالأدلة العقلية.
ولهذا صار هؤلاء يعتمدون في إثبات هذه الصفات على مجرد السمع، ويقولون: إذا كنا نثبت هذه الصفات بناءً على نفي الآفات، ونفي الآفات إنما يكون بالإجماع الذي هو دليل سمعي، والإجماع إنما يثبت بأدلة سمعية من الكتاب
والسنة، قالوا: والنصوص المثبتة للسمع والبصر والكلام: أعظم من الآيات الدالة على كون الإجماع حجة، فالاعتماد في إثباتها ابتداء على الدليل السمعي الذي هو القرآن أولى وأحْرَى.
والذي اعتمدوا عليه في النفي، من نفي مسمى التحيز ونحوه مع أنه بدعة في الشرع لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين هو متناقض في العقل، لا يستقيم في العقل؛ فإنه ما من أحد ينفي شيئًا خوفًا من كون ذلك يستلزم أن يكون الموصوف به جسمًا، إلا قيل له فيما أثبته نظير ما قاله فيما نفاه، وقيل له فيما نفاه نظير ما يقوله فيما أثبته"
(1)
.
وقول المصنف: "ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته، إذا نفيت التشبيه، وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيًا في الإثبات". فهنا استفسار يوجه لمن نفي النقائص عن الله بمجرد نفي التشبيه مع إثباته للصفات الخبرية وهي التي لا طريق إلى معرفتها إلا بالسمع وهي قسمان:
الأول: الصفات الذاتية. كالوجه واليدين.
والثاني: الصفات الفعلية. كالمجيء والنزول.
والاستفسار هو: أي إذا جعلتم مجرد نفي التشبيه كافيًا في إثبات الصفات، فما الفرق بين قول من وصف الله بصفات النقص مع ادعاء نفي التشبيه وقولكم، فإن من أثبت النقائص لله بإمكانه أن يقول أثبتها بلا تشبيه. "فلا بد من إثبات فرق في نفس الأمر".
وقوله: "فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء السمع به أثبته، دون ما لم يجئ به السمع".
(1)
الأكملية ص 9 - 11.
فإن قال العمدة في التفريق بين وصفه بتلك النقائص وما أثبته من الصفات الخبرية هو السمع أي الشرع، فما أثبته السمع أثبته وما لم يثبته أنفيه.
"قيل له:
فيجاب عليه بجوابين وخلاصتهما كما يلي:
"أولًا: السمع هو خبر الصادق عمّا هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبَر عنه"
أي أن الدليل الشرعي هو خبر الصادق عما عليه الأمر فما أخبر به من نفي أو إثبات فهو حق وهو دليل على المخبر به.
"والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتًا في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع، إذا لم يكن قد نفاه، ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة،
والدليل لا ينعكس أي إذا انعدم الدليل لا يلزم منه انعدام المدلول، فإذا لم يرد السمع بصفة جاز أن تكون ثابتة في نفسها مالم يكن نفاها السمع، ومعلوم أن السمع لم ينف الصفات بأسمائها الخاصة؛ فلم يقل إن الله لا يبكي ولا يأكل ونحو ذلك مما نقطع جميعا ببطلانه.
"فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها، كما لا يجوز إثباتها".
أي لابد من أمر يوجب ينفي ما يجب نفيه عن الله وما يجب إثباته لله
(1)
.
فلا يجوز الاكتفاء فيما ينزه الرب عنه على عدم ورود السمع والخبر به، فيقال:
(1)
التوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية 2/ 341 - 342.
كل ما ورد الخبر به أثبتناه، وما لم يرد لم نثبته بل ننفيه، وتكون عمدتنا في النفي على عدم الخبر.
بل هذا غلط لوجهين:
أحدهما: أن عدم الخبر هو عدم دليل معين، والدليل لا ينعكس
(1)
، فلا يلزم إذا لم يخبر هو بالشيء أن يكون منتفيا في نفس الأمر
(2)
.
ولله أسماء سمي بها نفسه واستأثر بها في علم الغيب عنده. فكما لا يجوز الإثبات إلا بدليل، لا يجوز النفي إلا بدليل. ولكن إذا لم يرد به الخبر ولم يعلم ثبوته يسكت عنه فلا يتكلم في الله بلا علم.
الثاني: أن أشياء لم يرد بها الخبر بتنزيهه عنها ولا بأنه منزه عنها، لكن دل الخبر على اتصافه بنقائضها فعلم انتفاؤها. فالأصل أنه منزه عن كل ما يناقض صفات كماله
(3)
. وهذا مما دل عليه السمع والعقل.
وما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه، وإلا سكتنا عنه. فلا نثبت إلا بعلم ولا تنفي إلا بعلم.
(1)
أوضحه في موضع آخر بقوله: أما جنس الدليل فيجب فيه الطرد، لا العكس. فيلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه، ولا يلزم عدمه عدم المدلول عليه.
(2)
أوضحه في موضع آخر ما خلاصته: فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتًا في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع إذا لم يكن نفاه، ومعلوم أن السمع لم ينف عنه أشياء هو منزه عنها كاتصافه بالبكاء والحزن، والجوع والعطش، والأكل والشرب والنكاح، أو أن يقال: له أعضاء كثيرة كالطحال، والمعدة، والأمعاء، والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه. فلا بد إذا من ذكر ما ينفي هذه الأمور بأسمائها الخاصة من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها كما لا يجوز إثباتها.
(3)
وذلك مثل أنه قد علم أنه الصمد، والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب، فهو منزه عن الأكل والشرب وعن آلات ذلك كالكبد والطحال والمعدة. وكذلك هو منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه. وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم للضعف والعجز الذي ينزه عنه.
ونفى الشيء من الصفات وغيرها كنفي دليله طريقة طائفة من أهل النظر والخبر. وهي غلط إلا إذا كان الدليل لازما له. فإذا عدم اللازم عدم الملزوم.
وأما جنس الدليل فيجب فيه الطرد، لا العكس. فيلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه، ولا ينعكس
(1)
.
وخلاصة ذلك أن الصفات قد تثبت وتنفى بطريق السمع، ولكن الأمر لا يتوقف على هذا الطريق وحده، وأنه بالإمكان الاستدلال على نفي بعض الصفات وإثبات أخرى، وذلك بالاستدلال بما يقابل النفي، أو بما يضاد الكمال.
فمما ورد في طريقة التنزيه: استعمال بعض النصوص في الدلالة على بعض ما ينفى عن الله وذلك مثل أنه قد علم أنه الصمد، والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب، فهو منزه عن الأكل والشرب وعن آلات ذلك كالكبد والطحال والمعدة.
وكذلك هو منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم للضعف والعجز الذي ينزه عنه.
وسيأتي في كلام المصنف المزيد من البيان والتوضيح لهذه المسألة.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وأيضًا، فلا بدّ في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفى عنه، فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض بالجواز والوجوب والامتناع، فلا بدّ من اختصاص المنفي عن المثبَت بما يخصه بالنفي، ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت.
(1)
انظر دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية 5/ 255 - 256.
وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لا بد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى، كما أنه لا بد من أمر يُثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافيًا كان مخبِرًا عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟
الشرح
يشير المصنف إلى وجوب التفريق بين ما يثبت وبين ما ينفى فلكل واحد من الاثنين له اختصاصه "فلا بدّ من اختصاص المنفي عن المثبَت بما يخصه بالنفي، ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت".
أو بعبارة أخرى أنه يجب النظر إلى مضمون ما ورد نفيًا أو إثباتًا وليس مجرد الاقتصار على ما نص عليه النص فقط، وهذا يتأتى بالنظر إلى قاعدة التنزيه وقاعدة الكمال كما سيأتي تفصيله في السياق التالي.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة للَّه فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا عُلم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم- عُلم امتناع العدم والحدوث عليه، وعُلم أنه غني عمّا سواه، فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه ليس هو موجودًا بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه، فلا يوجد إلا به، وهو سبحانه وتعالى غني عن كل ما سواه، فكل ما نافى غناه فهو منزه عنه، وهو سبحانه وتعالى قدير قوي فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حيّ قيوم فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه.
وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإن إثبات الشيء نفي
لضده ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك، كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه.
فطرق العلم بنفي ما ينزه الرب عنه متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك وفرّقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئًا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه.
الشرح
لفهم هذه المسألة بشكل واضح ودقيق لابد من استعراض الأمور الآتية:
الأمر الأول: يجب أن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى يستحقه بنفسه المقدسة"
(1)
.
"فالرب تعالى مستحق للكمال مختص به على وجه لا يمثاله فيه شاء، فليس له سَمِيٌّ ولا كُفْؤ، سواء كان الكمال مما لا يثبت منه شاء للمخلوق كربوبية العباد والغنى المطلق ونحو ذلك.
أو كان مما يثبت منه نوع للمخلوق، فالذي يثبت للخالق منه نوع هو أعظم مما يثبت من ذلك للمخلوق، عظمة هي أعظم من فضل أعلى المخلوقات على أدناها"
(2)
الأمر الثاني: أن ثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي
(1)
الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال 1/ 7 - 9.
(2)
الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال 1/ 72.
الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك
(1)
. "ولذلك فإن كل ما نافي صفات الكمال الثابتة لله تعالى فهو منزه عنه لأن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر كالنقص والعيب والمماثلة للمخلوق، فمثلا: إذا علم أنه قديم قائم بنفسه علم امتناع العدم والحدوث والافتقار.
فكل ما نافي غناه فهو منزه عنه، وكذلك كل ما نافي قدرته وقوته فهو منزه عنه، وكل ما نافي حياته وقيوميته فهو منزه عنه، وهكذا فهذه هي القاعدة العامة في التنزيه لا طريقة نفي التشبيه أو التجسيم التي تناقض فيها المتكلمون كما سبق.
الأمر الثالث: أن ثبوت الكمال له، ونفي النقائص عنه، مما يعلم بالعقل"
(2)
.
فيجب أن يعلم أن تصريح السمع لا يكفي في النفي أو الإثبات بل هناك لوازم عقلية تتوافق مع الأدلة النقلية فتثبت بمجموعها كمال الصفات الإلهية.
فدلالة القرآن على الأمور نوعان:
أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به.
والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب. فهذه دلالة شرعية عقلية؛ فهي [شرعية] لأن الشرع دل عليها، وأرشد إليها؛ و [عقلية] لأنها تعلم صحتها بالعقل.
ولا يقال: إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر. وإذا أخبر الله بالشاء، ودل عليه بالدلالات العقلية، صار مدلولاً عليه بخبره، ومدلولاً عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتًا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى [الدلالة
(1)
الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال 1/ 7 - 9.
(2)
الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال 1/ 7 - 9.
الشرعية].
وثبوت [معنى الكمال] قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك، كله دال على هذا المعنى.
وقد ثبت لفظ [الكامل] فيما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2]: أن [الصمد] هو المستحق للكمال، وهو السيد الذي كمل في سُؤْدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكم الذي قد كمل في حكمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الشريف الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه وتعالى. وهذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ ولا كمثله شاء. وهكذا سائر صفات الكمال، ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى، بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس، بل هم مفطورون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر، وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شاء.
وقد بينا في غير هذا الموضع: أن الإقرار بالخالق وكماله، يكون فطريًا ضروريًا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها.
ومجمل القول أنه ورد في الكتاب والسنة كثير من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فكل ما نافي ذلك الكمال فإنه ينفي عنه لأن إثبات أحد الضدين نفي للآخر ونفي للوازمه فنفي الظلم إثبات للعدل ونفي المثيل إثبات للتفرد والوحدانية.
الأمر الرابع: طرق التنزيه كثيرة لا يقتصر فيها على نفي التشبيه والتجسيم مع ما فيها من التناقض والقصور.
وزعمت طائفة من أهل الكلام كأبي المعالي والرازي، والآمدي وغيرهم أن ذلك لا يعلم إلا بالسمع الذي هو الإجماع، وإن نفي الآفات والنقائص عنه لم يعلم إلا بالإجماع، وجعلوا الطريق التي بها نفوا عنه ما نفوه، إنما هو نفي مسمى الجسم ونحو ذلك، وخالفوا ما كان عليه شيوخ متكلمة الصفاتية، كالأشعري، والقاضي، وأبى بكر وأبي إسحاق، ومن قبلهم من السلف والأئمة، في إثبات السمع والبصر والكلام له بالأدلة العقلية، وتنزيهه عن النقائص بالأدلة العقلية.
ولهذا صار هؤلاء يعتمدون في إثبات هذه الصفات على مجرد السمع، ويقولون: إذا كنا نثبت هذه الصفات بناءً على نفي الآفات، ونفي الآفات إنما يكون بالإجماع الذي هو دليل سمعي، والإجماع إنما يثبت بأدلة سمعية من الكتاب والسنة، قالوا: والنصوص المثبتة للسمع والبصر والكلام: أعظم من الآيات الدالة على كون الإجماع حجة، فالاعتماد في إثباتها ابتداء على الدليل السمعي الذي هو القرآن أولى وأحْرَى.
والذي اعتمدوا عليه في النفي، من نفي مسمى التحيز ونحوه مع أنه بدعة في الشرع لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين هو متناقض في العقل، لا يستقيم في العقل؛ فإنه ما من أحد ينفي شيئًا خوفًا من كون ذلك يستلزم أن يكون الموصوف به جسمًا، إلا قيل له فيما أثبته نظير ما قاله فيما نفاه، وقيل له فيما نفاه نظير ما يقوله فيما أثبته، كالمعتزلة لما أثبتوا أنه حي عليم قدير؛ وقالوا: إنه لا يوصف بالحياة، والعلم، والقدرة، والصفات؛ لأن هذه أعراض لا يوصف بها إلا ما هو جسم، ولا يعقل موصوف إلا جسم.
فقيل لهم: فأنتم وصفتموه بأنه حي عليم قدير، ولا يوصف شاء بأنه عليم حي قدير إلا ما هو جسم، ولا يعقل موصوف بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فما كان جوابكم عن الأسماء كان جوابنا عن الصفات، فإن جاز أن يقال: بل يسمى بهذه الأسماء ما ليس بجسم، جاز أن يقال: فكذلك يوصف بهذه الصفات ما ليس بجسم، وأن يقال: هذه الصفات ليست أعراضًا، وإن قيل: لفظ الجسم [مجمل] أو مشترك وأن المسمى بهذه الأسماء لا يجب أن يماثله غيره، ولا أن يثبت له خصائص غيره، جاز أن يقال: الموصوف بهذه الصفات لا يجب أن يماثله غيره، ولا أن يثبت له خصائص غيره.
وكذلك إذا قال نفاة الصفات المعلومة بالشرع، أو بالعقل مع الشرع، كالرضا والغضب، والحب، والفرح، ونحو ذلك: هذه الصفات لا تعقل
إلا لجسم.
قيل لهم: هذه بمنزلة الإرادة والسمع، والبصر والكلام، فما لزم في أحدهما لزم في الآخر مثله.
وهكذا نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم، إذا قالوا: ثبوت هذه الصفات يستلزم كثرة المعاني فيه، وذلك يستلزم كونه جسمًا أو مركبًا.
قيل لهم: هذا كما أثبتم أنه موجود واجب قائم بنفسه وأنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق، ونحو ذلك.
فإن قالوا: هذه ترجع إلى معنى واحد، قيل لهم: إن كان هذا ممتنعا بطل الفرق، وإن كان ممكنًا أمكن أن يقال في تلك مثل هذه، فلا فرق بين صفة وصفة. والكلام على ثبوت الصفات وبطلان أقوال النفاة مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا: أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل، وأن نقيض ذلك مُنْتَفٍ عنه، فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل
والشرع، دون تلك، خلاف ما قاله هؤلاء المتكلمون.
وجمهور أهل الفلسفة والكلام يوافقون على أن الكمال لله ثابت بالعقل، والفلاسفة تسميه التمام"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي، لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم. فلزم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعًا، ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم ممّا فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عمّا هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا.
الشرح
يقصد المصنف قول القرامطة الباطنية الذين بقولون بالوجود المطلق عن النفي والإثبات
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا لأن في الإثبات تشبيهاً بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه
(1)
الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال ص 9 - 11.
(2)
الصفدية 2/ 11 - 19
هذه الصفات)
(1)
فالقرامطة، لم يُثبتوا له اسمًا ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه؛ إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
وَلِهَذَا كَانَتْ " الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ " مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَعِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ؛ إذْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ فِي إلَهِهِمْ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ أَوْ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا.
وقد تقدم ذكر قولهم والرد عليهم في أكثر من موضع من الرسالة التدمرية.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وقد تقدم أن ما يُنفى عنه سبحانه وتعالى يُنفى لتضمن النفي الإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجود، وليس هذا مدحًا له، لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلق، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه، ينزه عنه الرب تبارك وتعالى.
والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد عُلم أنه حيّ والموت ضد ذلك فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسِّنَةُ ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، كذلك اللُّغُوب نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك يتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه، وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته أو أفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيًا بنفسه، فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمُصْمَتُ الصمد أكمل من الآكل الشارب، ولهذا كانت الملائكة صمدًا لا تأكل
(1)
-شرح العقيدة الأصفهانية ص 76.
ولا تشرب".
الشرح
أي ينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال.
والعدم المحض ليس بشييء، وما ليس بشييء-فهو كما قيل: ليس بشييء؛ فضلًا عن أن يكون مدحًا وكمالًا.
لأنَّ النفي المَحض يُوصف به المعدوم والممتنع؛ والمعدوم والممتنع لا يُوصف بمدح ولا كمال.
ولهذا كان عامة ما يصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح؛ كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة الآية: 255 [؛ فنفي السِّنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام.
وكذلك قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها؛ بخلاف المخلوق القادر إذا كان يَقدر على الشييء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.
وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} [سبأ الآية: 3]، فإن نفي العُزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق الآية: 38]، فإن نفي مس اللغوب-الذي هو التعب والإعياء-دلَّ على كمال قدرته ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.
وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام 103]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء، ولم يَنف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يرى مدح؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُؤي، كما أنه لا يحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلًا على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
وإذا تأملت ذلك وجدت كلَّ نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف به نفسه»
(1)
.
ثم إن النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه-فيه إساءة أدب مع الله سبحانه؛ فإنك لو قلت لسلطان: أنت لستَ بزبَّال ولا كسَّاح ولا حَجَّام ولا حائك؛ لأَدَّبَك على هذا الوصف وإن كنت صادقًا.
وإنما تكون مادحًا إذا أجملت النفي؛ فقلت: أنت لستَ مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجَل، فإن أَجملت في النفي أجملت في الأدب
(2)
.
فأهل الكلام المذموم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المُجمل؛ فيقولون: ليس بجسم ولا شَبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض .. إلى آخر تلك السُّلوب الكثيرة التي تَمُجُّها الأسماع، وتأنف مِنْ ذكرها النفوس، والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حقَّ قدره
(3)
.
(1)
«الرسالة التدمرية» (ص 21 - 23).
(2)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 108 - 110).
(3)
«الصفات الإلهية» (ص 202).
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك. والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله:{اللَّهُ الصَّمَدُ} والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب. وهذه السورة هي نسب الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب.
وقال في حق المسيح وأمه: {مَا الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة الآية: 75 [فجعل ذلك دليلا على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأَوْلَى والأحرى.
والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه وتعالى موصوف بالعمل والفعل، إذ ذلك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل.
وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم للضعف والعجز، الذي ينزه الله عنه، بخلاف الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم- فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، ونحو ذلك".
الشرح
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً: ((فكل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت
للمخلوق فالخالق أحق به من وجهين:
أحدهما: أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم أكمل من المخلوق القابل للعدم المحدث المربوب.
الثاني: أن كل كمال فيه فإنما استفاده من ربه وخالقه؛ فإذا كان هو مبدعاً للكمال، وخالقاً له، كان من المعلوم بالاضطرار أن معطي الكمال وخالقه ومبدعه أولى بأن يكون متصفاً به من المستفيد المبدع المعطي))
(1)
.
ويقال أيضاً في الأولوية في جانب النقص، أنها من وجهين:
الأول: أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم منزه عن النقائص والعيوب.
الثاني: أن كل نقص تنزه عنه المخلوق المربوب فإنما نزَّهَهُ عنه ربه وخالقه، فإذا كان الله عز وجل هو المُنَزِّهُ غيره عن النقص، كان معلوماً بالاضطرار أن الذي ينزه غيره عن النقائص أولى بالتنزه عنها من غيره.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وأيضًا فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه لا كفؤ له، ولا سمي له، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فيُعلم قطعًا أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات ولا الكواكب، ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض، ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم، ولا غير ذلك، بل يُعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق
(1)
شرح العقيدة الأصفهانية ص (117 - 118).
آخر.
فإن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها، وامتنع عليها ما امتنع عليها فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدَث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذاك من الوجوب والغنى، فيكون الشيء الواحد واجبًا بنفسه غير واجب بنفسه، موجودًا معدومًا، وذلك جمع بين النقيضين.
وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
الشرح
فالله عز وجل موصوف بكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، منزه عن جميع النقائص والعيوب، فمن الطرق التي استخدمها أهل السنة والجماعة في تقرير هذه الحقيقة، مسلك عقلي يقوم على أن نفي الصفة إثبات لنقيضها، وهذه قاعدة عقلية متفق عليها بين جميع العقلاء، أن الذي لا يتصف بالعلم مثلاً فهو جاهل، والذي لا يتصف بالعدل فهو ظالم، وهكذا فالله عز وجل لما كان متصفاً بكل أنواع الكمالات التي يُتصور وجودها من غير استلزامها لأي نقصٍ بوجهٍ من الوجوه، فإن نفي هذا الكمال عنه يستلزم وصفه بنقيضه من النقص الذي هو منزه عنه أصالةً، ((وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات، وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، فقد عبد رباً ناقصاً معيباً مؤوفاً
(1)
، ويثبتون أن هذه صفات كمال فالخالي عنها ناقص))
(2)
.
(1)
مؤوفاً، من الآفة وهي العاهة، انظر: القاموس المحيط ص (1026).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 340).
فإنه لو لم يكن الله تعالى موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى.
فلو لم يتصف بالحياة لوُصف بالموت، ولو لم يتصف بالعلم لوُصف بالجهل، ولو لم يوصف بالقدرة لوُصف بالعجز، ولو لم يُوصف بالسمع والبصر والكلام لوُصف بالصمم والخرس والبكم، والله منزه عن ذلك، متصفٌ بصفات الكمال
(1)
.
وقال الإمام ابن القيم-رحمه الله: ((إنه قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال، والآخر صفة نقص، فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص، ولهذا لما تقابل الموت والحياة، وُصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وُصف بالعلم دون الجهل، وكذلك العجز والقدرة، والكلام والخرس والبصر والعمى، والسمع والصمم، والغنى والفقر، ولما تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له، وُصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه، وتقابل العلو والسفول، وُصف بالعلو دون السفول))
(2)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له، وما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك، لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفيًا وإثباتًا، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم".
(1)
انظر: التدمرية ص (151)، تقريب التدمرية ص (65).
(2)
الصواعق المرسلة (4/ 1307).
الشرح
كلام المصنف هنا متوجه لنوع من الألفاظ وهو ما سكت عنه السمع نفيًا أو إثباتًا ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه، وقد تقدم الكلام على الصفات التي ظاهرها الكمال، مما لم يرد فيها نفيًا ولا إثباتًا.
وكذلك الكلام على صفات النقص التي دلت النصوص بمعمومها على نفيها وأنها تنفى مطلقًا، وذلك لأن صفات الله كلها صفات حسن وكمال وجلال وعظمة.
فالألفاظ التي تطلق على الله على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما علم ثبوته أثبت.
القسم الثاني: ما علم انتفاؤه نفي.
القسم الثالث: ما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه، هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته"
(1)
.
فـ"ما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه وإلا سكتنا عنه فلا نثبت إلا بعلم ولا ننفي إلا بعلم"
(2)
قال ابن تيمية: ((بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه، كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته، ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات، فعليه أن لا ينفى ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته))
(3)
والمسكوت عنه من الصفات على ثلاثة أحوال:
(1)
مجموع الفتاوى 9/ 190.
(2)
مجموع الفتاوى 9/ 190.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 44.
الحال الأول: ما لم يأت به نفي ولا إثبات في لفظه، فإن أفاد نقصًا كمرض أو خرفٍ .. الخ! تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فإنه ينفى بدلالة النصوص في تنزهه تعالى عن مثل هذه النقائص، التي لا تليق بالخالق، وذلك كصفة الاستلقاء حيث تفوح منها رائحة اليهودية الذين يزعمون أن الله تبارك وتعالى بعد أن فرغ من خلق السموات والأرض استراح! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهذا المعنى يكاد يكون صريحا في الحديث فإن الاستلقاء لا يكون إلا من أجل الراحة سبحانه وتعالى عن ذلك".
الحال الثاني: ما لم يأت به نفي ولا إثبات لا في اللفظ ولا المعنى، ولم يفد نقصًا في حال النفي والإثبات، كالفم والأذن والشعر .. الخ؛ فيتوقف فيه بلا نفي ولا إثبات؛ إذ الطرفان علم، ولا علم لمن قال بأحدهما.
و"النافي لصفة من صفات الله عز وجل إن أراد عدم علمه بها، لم يلزمه الدليل، ولا يجوز له أن ينكر وجودها لمجرد انتفاء علمه بها، وإن أراد عدم اتصاف الله عز وجل بها طالبناه بالدليل الدال على نفيه؛ لأنه أمر غيبي لا يمكن الاطلاع عليه إلا عن طريق الوحي".
الحال الثالث: ما لم يأت بها نفي ولا إثبات في لفظه، ولكن ورد بمعناه ما يدل عليه، كالعروج الذي يدل على الصعود والارتفاع، فإننا نثبت المعنى، ولا نستعمل اللفظ في حقه تعالى وقوفا مع النص.
ولقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية الكلام على النوع الثاني من الصفات المسكوت عنها "وهي التي لم ترد لا نفيا ولا إثباتا وليس فيها كمالا ولا نقص"
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن مذهب أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات: "فيما لم يرد نفيه ولا إثباته مما تنازع الناس فيه كالجسم والحيز والجهة
ونحو ذلك، فطريقتهم فيه التوقف في لفظه، فلا يثبتونه ولا ينفونه لعدم ورود ذلك، وأما معناه فيستفصلون عنه فإن أريد به باطل يُنزه الله عنه ردوه، وإن أريد به حق لا يمتنع على الله قبلوه).
فيقتصرون في ذلك على ما ورد، فلا يثبتون ولا ينفون إلا بالألفاظ الشرعية التي أثبتها أو نفاها الشارع، وإذا تكلم بغيرها استفسر واستفصل، فإن وافق المعنى الذي أثبته الشرع أثبته باللفظ الشرعي، فاعتصموا بالشرع ألفاظًا ومعني، وهذه سبيل من اعتصم بالعروة الوثقي.
لكن ينبغي أن يعرف الأدلة الشرعية إسناد ومتنًا؛ فالقرآن معلوم ثبوت ألفاظه، فينبغي أن يعرف وجوه دلالته، والسنة ينبغي معرفة ما ثبت منها وما علم أنه كذب.
وقد يتذرع البعض بإثبات بعض الصفات بدعوى أنها جاءت في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتمسك بها رغم أنها جاءت من طرق واهية باطله، وهذه هي أحد جنايات الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات التي ابتلينا بها وغزت الكثير من كتب القصص والأخبار حتى كتب التفسير والحديث.
قال ابن تيمية: "فإن طائفة ممن انتسب إلى السنة، وعظم السنة والشرع، وظنوا أنهم اعتصموا في هذا الباب بالكتاب والسنة، جمعوا أحاديث وردت في الصفات، منها ما هو كذب معلوم أنه كذب، ومنها ما هو إلى الكذب أقرب، ومنها ما هو إلى الصحة أقرب، ومنها متردد، وجعلوا تلك الأحاديث عقائد، وصنفوا مصنفات، ومنهم من يكفر من يخالف ما دلت عليه تلك الأحاديث
(1)
.
وأعطى ابن تيمية أمثلة على هذا القسم فقال: "وهذه الأحاديث قد ذكر بعضها القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل"، مثل ما ذكر في حديث المعراج حديثًا
(1)
انظر دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية 5/ 255 - 256.
طويلًا عن أبي عبيدة أن محمدًا رأى ربه.
(1)
وطائفة ممن يقول بأنه رأى ربه بعينه يكفرون من خالفهم لما ظنوا أنه قد جاء في ذلك أحاديث صحيحة، كما فعل أبو الحسن علي بن شكر، فإنه سريع إلى تكفير من يخالفه لما يدعيه من السنة، وقد يكون مخطئًا فيه، إما لاحتجاجه بأحاديث ضعيفة، أو بأحاديث صحيحة لكن لا تدل على مقصوده، وما أصاب فيه من السنة لا يجوز تكفير كل من خالف فيه. فليس كل مخطاء كافرًا لاسيما في المسائل الدقيقة التي كثر فيها نزاع الأمة، كما قد بسط في مواضع.
وكذالك أبو علي الأهوازي
(2)
له مصنف في الصفات قد جمع فيه الغث والسمين.
وكذلك ما يجمعه عبد الرحمن بن مندة
(3)
مع أنه من أكثر الناس حديثأ، لكن يروي شيئًا كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، ولا يميز بين الصحيح والضعيف. وربما جمع بابًا وكل أحاديثه ضعيفة، كأحاديث أكل الطين وغيرها، وهو يروي عن أبي علي الأهوازي.
وقد رفع ما رواه من الغرائب الموضوعة إلى حسن بن عدي
(4)
فبنى على ذلك
(1)
انظر دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية 5/ 255 - 256.
(2)
هو الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد بن الأستاذ أبو علي الأهوازي المقراء، صاحب التصانيف ومقراء الشام. قرأ عل جماعة لا يعرفون إلا من جهته وروي الكثير وصنف كتابًا في الصفات لو لم يجمعه لكان خيرًا له، فإنه أتى فيه بموضوعات وفضائح توفي سنة 446 هـ. من ميزان الاعتدال، قال المصنف: كان من السالمية.
(3)
هو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق بن مندة العبدي الإمام الحافظ بن الحافظ الكبير أبي عبد الله بن مندة، صاحب التصانيف، المتوفي سنة 470 هـ وقد ذكر المصنف قوله بخلو العرش بطوله والجواب عنه في شرح حديث النزول، وتقدمت الإشارة إليه.
(4)
هو شمس الدين الحسن بن عدي بن أبي البركات بن صخر بن مسافر حفيد أبي البركات أخي الشيخ عدي، شيخ العدوية الأكراد، له تصانيف في التصوف وشعر كثير وأتباع يبالغون فيه للغاية، قتل خنقًا سنة 644.
عقائد باطلة، وادعى أن الله يري في الدنيا عيانًا.
ثم الذين يقولون بهذا من أتباعه يكفرون من خالفهم، وهذا كما تقدم من فعل أهل البدع، كما فعلت الخوارج"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "القاعدة السابعة- أن يقال: إن كثيرا مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضا، والقرآن يبين ما يستدل به العقل، ويرشد إليه، وينبه عليه، كما ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فإنه سبحانه وتعالى بيّن من الآيات الدالة عليه، وعلى وحدانيته، وقدرته، وعلمه وغير ذلك، ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه، كما بيّن أيضا ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه".
الشرح
لما فرغ المصنف رحمه الله من بيان القاعدة السادسة وهي: (قاعدة القدر المشترك والقدر المميز) شرع هنا في بيان القاعدة السابعة، وهي:(دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع).
التعريف بهذه القاعدة:
هذه القاعدة معناها: أن كثيرًا مما دلت عليه الأدلة السمعية يثبت أيضًا بالأدلة العقلية، والقرآن اشتمل على ما يستدل به العقل، وأرشد إليه، وما الأمثال التي ضربها الله تعالى في القرآن إلا أقيسة عقلية.
(1)
مجموع الفتاوى 3/ 191 - 192.
فالقرآن الكريم قد بيّن من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية.
ولكن هذا لا يعني أن الأدلة العلقلية تستقل بوحدها في إثبات الصفات، "فالأصل في هذا الباب
(1)
، أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله: نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه))
(2)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله: ((وباب الأسماء والصفات يُتَّبَع فيها الألفاظ الشرعية، فلا نطلق إلا ما يرد به الأثر))
(3)
.
وقال أيضاً: ((ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، إما بخبره وإما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية، ولهذا يقولون لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات الآيات 180 - 182])).
(4)
.
وقال رحمه الله: ((ومعلوم أن الوصف بالنفي كالوصف بالإثبات))
(5)
. أي يحتاج فيهما إلى دليل من الكتاب والسنة.
وإنما المقصود أن الأدلة السمعية اشتملت على أدلة عقلية تدل على أثبات صفات الكمال لله وعلى تنزيهه من كل نقص، وهذا ما سيؤكده المصنف في أثناء بيان هذه القاعدة.
(1)
وهو باب توحيد الأسماء والصفات.
(2)
التدمرية ص (6 - 7).
(3)
قاعدة في المحبة، ضمن جامع الرسائل (2/ 239).
(4)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 248).
(5)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 444).
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فهذه المطالب هي شرعية من جهتين:
• من جهة أن الشارع أخبر بها.
• ومن جهة أنه بيّن الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها.
- والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع -
وهي أيضا عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضا".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((ودلالة القرآن على الأمور نوعان:
1 ـ أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به.
2 ـ والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي ((شرعية))؛ لأن الشرع دلَّ عليها، وأرشد إليها، و ((عقلية))؛ لأنها تعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر.
وإذا أخبر الله بشيء، ودلَّ عليه بالدلالات العقلية، صار مدلولاً عليه بخبره، ومدلولاً عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتاً بالسمع والعقل، وكلاهما يدخل في دلالة القرآن التي تسمى:"الدلالة الشرعية"))
(1)
.
فلما كان العقل أداة للفهم والإدراك، وما أودع الله فيه من قوة الاستدلال والنظر والمقايسة، جرى استعماله في العقائد لتأييد دلالة الشرع، وقد تضمن الكتاب والسنة
(1)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 195 - 196)، وانظر: درء تعارض العقل والنقل (9/ 39)، مجموع الفتاوى (9/ 141 - 142)، بيان تلبيس الجهمية (2/ 536).
جملة من المقاييس العقلية، التي هي بمثابة مقدمات منطقية للوصول إلى النتائج التي جاء بها الشرع، والأمثال المضروبة في القرآن والسنة هي نوع من هذه الأقيسة العقلية
(1)
، جاءت لتأكيد مسألة اتفاق العقل الصريح مع النقل الصحيح، فاجتمعت فيها دلالة العقل ودلالة الشرع
(2)
.
وخلاصة القول: أن العقل يدل على بعض صفات الله سبحانه وتعالى كما يدل السمع أيضًا، بل إن هناك قواعد عقلية لإثبات صفات الله تعالى، ومن هذه القواعد ما سيأتي تفصيله.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وكثير من أهل الكلام يسمي هذه «الأصول العقلية» لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط؛ فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق وخبر الصادق- الذي هو النبي- لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل".
الشرح
بعض أهل البدع ليس لهم متمسك في النصوص أصلًا؛ كنفاة الصفات على اختلاف أنواعهم؛ فهم لا يعتمدون النص أساسًا وأصلًا، وإنما يعتمدون العقل والرأي الذي أحدثوه وابتدعوه، وبالتالي هم لا يعتقدون ولا يعتمدون على النصوص، وإنما يعتمدون على أُسسهم المنطقية الفلسفية، وهؤلاء يأتون إلى نصوص القرآن ويحاولوا أن يُشككوا فيها.
وذكر ابن القيم أن جميع الفرق الإسلامية قبل الجهمية، إذا تؤملت أصولهم،
(1)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (3/ 305).
(2)
انظر: مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات ص (480).
وجدت أنها كلها متفقة على تقديم الوحي على العقل، فلم يؤسسوا مقالاتهم على ما أسسها المتكلمون، من تقديم عقولهم على نصوص الوحي
(1)
.
ويؤيد هذا ما حكاه الشهرستاني والصفدي عن الجهم أنه موافق للمعتزلة في إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع
(2)
.
(3)
.
ولا ريب أن عقيدة لم يأخذها صاحبها لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من فهم أئمة الصحابة والتابعين لا ريب أنها عقيدة إبليسيَّة مستقاة من منهج إبليسيٍّ،
(1)
انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (3/ 821).
(2)
الملل والنحل (1/ 74)، و: الوافي بالوفيات (11/ 190 - 191).
وهذه الجملة تحتمل معاني عدة:
الأول: القول بالتحسين والتقبيح العقليين، كما هو قول المعتزلة.
الثاني: وجوب معرفة الله تعالى بالعقل، بمعنى أن من لم يعرف الله قبل ورود الشرع فهو آثم ويستحق العذاب. وهذا هو أقوى الاحتمالات، لأن مسألة وجوب معرفة الله تعالى، أهو عقلي أم شرعي؟ من أشهر مسائل علم الكلام.
الثالث: أن هذه الجملة تشير إلى منهج جهم العام في تقديم العقل على النقل. وهذا، وإن كان أضعف من الاحتمال الأول والثاني، إلا أنه لازمه.
الرابع: حصول معرفة الله تعالى بالعقل، بمعنى أن معرفة الله تعالى أمر عقلي. وهذا الرابع -وإن كان يقول به الجهم-إلا أنه ليس مراد الشهرستاني، بدليل أنه قال إن جهما (موافق للمعتزلة) في هذا الأمر، مخالف للأشعرية، كما يدل السياق على ذلك. فالأشاعرة وافقوا المعتزلة في قولهم إن معرفة الله تعالى أمر عقلي، ولكنهم خالفوهم في وجوب المعرفة: هل هو شرعي أم عقلي؟ فثبت أن هذا المعنى الرابع ليس مراداً للشهرستاني، والله أعلم.
(3)
-شرح العقيدة الطحاوية ص 115.
ليست بأفضل من عقيدة أبي جهل وأضرابه كما قال الحافظ الذهبي: «وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول دعنا من الكتاب وأحاديث الآحاد وهات العقل فاعلم أنه أبو جهل»
(1)
.
«ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف، وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة.
وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعا، مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعاً، وليس بإجماع. وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات، وهي جهليات»
(2)
.
قال ابن تيمية: "الْمُثْبِتَ مُعْتَصِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَمَعَهُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِهِ وَفَسَادَ قَوْلِ مُنَازِعِهِ مَا لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا طَعْنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا النَّافِي فَلَيْسَ مَعَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَقْلَهُ دَلَّ عَلَيْهِ؛ وَمُنَازِعُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّ خَطَأَهُ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ"
(3)
(1)
سير أعلام النبلاء 4/ 472
(2)
من كلام شيخ الإسلام في درء التعارض (7/ 29).
(3)
مجموع الفتاوى 17/ 80
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها:
فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل. وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول، وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام، وحدوثها يُعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب، ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها.
ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم، لظنهم أن العقل عارض السمع- وهو أصله- فيجب تقديمه عليه، والسمع إما أن يؤوَّل، وإما أن يُفوَّض.
وهم أيضا عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم، لما تقدم.
وهؤلاء يضلون من وجوه:
منها ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة، وليس الأمر كذلك، بل القرآن بيّن من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية.
ومنها ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعا في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه، فإن طرق العلم بصدق الرسول
كثيرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ومنها ظنهم أن تلك الطريق التي سلكوها صحيحة، وقد تكون باطلة.
ومنها ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، ويكونون غالطين في ذلك، فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع".
الشرح
قوله: "ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها"
فهم يجعلون العقل هو الأصل في إثبات وجود الله تعالى، ويجعلون العقل هو الأصل في إثبات نُبُوَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فبالتالي جعلوا من العقل أصلاً يعتمدون عليه ويرجعون إليه في هذين البابين.
فبعد هذا، على زعمهم الشرع جاء وَتَفَرَّعَ عن هذا الأصل-أي عن العقل-فإنه إذا أُثبتت نُبُوَّة النبي أثبت ما جاء به النبي، فبالتالي عندهم إثبات ما جاء به النبي متوقفٌ على إثبات نُبُوَّة النبي، وإثبات نُبُوَّة النبي متوقف على العقل.
فالعقل عندهم هو الأصل، وتفرع عنه إثبات نُبُوَّة النبي، ثم تفرع عنه إثبات ما جاء به النبي الذي هو الوحي.
فعلى هذا الترتيب عندهم أنه ما دام العقل هو الأصل وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الفرع، فلو أنك قدَّمت ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنك بذلك أبطلت الأصل.
«وإبطال الأصل بالفرع فيه إبطالٌ للأصل والفرع»
(1)
، هكذا يرتِّبون هذا الترتيب المنطقي الفلسفي، فعلى هذا الترتيب قالوا يستحيل أن يُقَدَّم النقل على العقل.
(1)
انظر كتاب أساس التقديس لفخر الدين الرازي صفحة (220).
فعلى زعمهم ما بقي عندهم إلا خيارٌ واحد: أن يقدم العقل على النقل، فهذا أساس ما يسمَّى عندهم بقانون التأويل، الذي من خلاله بعد ذلك طعنوا في النصوص ثبوتاً ودلالة، فحكموا بقطعية العقل، وأما النقل فهو ظنيّ على حد زعمهم، ثم حكموا على الآحاد منها - أي من النصوص - بأنها لا تُقْبَلُ ولا تُعْتَمَدُ في باب الاعتقاد.
وقوله: "فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل".
ويعني بهم هنا المعتزلة فقد رتب المعتزلة على القول بالحسن والقبح العقليين أن الإنسان مكلف قبل ورود الشرع بما دل عليه العقل، كوجوب شكر المنعم، ومكلف بمحاسن الأخلاق.
كما بني المعتزلة على القول بالحسن والقبح الذاتيين للفعل وجوب بعض الأمور على الله تعالى؛ لأن تركها قبيح ومخل بالحكمة، ومن ذلك وجوب الصلاح والأصلح للعباد، ووجوب اللطف والثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، وغير ذلك.
قال الشهرستاني: "وقال أهل العدل-ويعني بهم المعتزلة-: المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للقبيح".
كما حكى عن أبي الهذيل العلاف المعتزلي قوله: "إنه يجب على المكلف أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة.
كما يجب عليه أن يعلم حسن الحسن وقبح القبيح، فيجب عليه الالتزام بالحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والجور"
(1)
.
(1)
الشهرستاني، ((الملل والنحل)) (1/ 52).
أول من اشتهر عنه بحث موضوع التحسين والتقبيح هو الجهم بن صفوان الذي وضع قاعدته المشهورة: "إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع"
(1)
، وبني على ذلك أن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد، وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها، وقد أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرامية
(2)
.
ومن ثم وقع الخلاف حوله على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، والفعل حسن أو قبيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبين لتلك الصفات فقط.
وهذا هو مذهب المعتزلة والكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم
(3)
.
القول الثاني: أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: ولو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا.
(1)
((الملل والنحل)) (1/ 88) ت كيلاني.
(2)
نظر: ((نشأة الفكر الفلسفي للنشار)) (1/ 346)، و ((التجسيم عند المسلمين - مذهب الكرامية)) سهير مختار (ص: 363).
(3)
انظر ((المغني)) لعبدالجبار (جـ 6 - القسم الأول - ص: 26 - 34، 59 - 60)، و ((المعتمد في أصول الفقه)) لأبي الحسين البصري (1/ 363)، و ((البحر الزخار)) لابن المرتضي (1/ 59)، و ((العقل عند المعتزلة)) (ص: 98 - 100)، و ((المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية)) (ص: 137).
وهذا قول الأشاعرة ومن وافقهم
(1)
.
القول الثالث: التفصيل، لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها، غير صحيح، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذا توضيحا كاملا، فيقسم الأفعال إلى ثلاثة أنواع:
"أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبًا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولا، وهذا خلاف النص، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15
…
]
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء يمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه} فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث الأبرص والأقرع والأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك:((أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك))
(2)
، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر
(1)
انظر ((الإرشاد)) (ص: 258 وما بعدها)، و ((المحصل)) للرازي (ص: 202)، و ((شرح المواقف)) (8/ 181 - 182).
(2)
رواه البخاري (3464)، ومسلم (2964) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
لا من نفس المأمور به.
وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع.
والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع.
وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب"
(1)
.
وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقا فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان:
أحدهما: كون الفعل ملائمًا للفاعل نافعًا له، أو كونه ضارًا له منافرًا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل
(2)
.
الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف:
• فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.
• والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قيل فيه افعل، والقبيح ما قيل لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.
• جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول
(3)
.
وقول المصنف: "وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول، وأن العلم
(1)
((مجموع الفتاوى)) (8/ 434 - 436).
(2)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 90، 309 - 301)، و ((منهاج السنة)) (1/ 364) - مكتبة الرياض الحديثة.
(3)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 677 - 686، 11/ 676 - 677).
بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام، وحدوثها يُعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب، ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها".
الشبهة التي اعتمد عليها المعتزلة في نفي صفات الباري عز وجل تسمى بطريقة الأعراض، ذلك أنهم يزعمون أن الصفات إنما هي أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، ومن أجل ذلك كان قول المعتزلة في الله: إنه قديم واحد ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره
(1)
ولكان جسماً إذ إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وتعدداً في ذاته ويقتضي أنه جسم وذلك خلاف التوحيد.
فهم يزعمون أن توحيد الله وتنزيهه متوقف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به التي هي الصفات والأفعال، ونفي ذلك عندهم موقوف على ما يدل عليه حدوث الأجسام، والذي دلهم على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين فهي حادثة، فإذا لم تخل الأجسام منها لزم حدوثها.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، والمركب مفتقر إلى جزئيه وجزءاه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثاً مخلوقاً، فالأجسام متماثلة
(1)
بالإضافة إلى زعم المعتزلة أن الصفات لا تقوم إلا بأجسام، فهم أيضاً يزعمون أن في إثبات الصفات قول بكثرة وتعدد ذات الله، لأنهم يقولون:(إن من أثبت لله صفة أزلية قديمة فقد أثبت إلهين)، كما اعتقدوا أن الصفات لو شاركته في القدم لشاركته في الألوهية.
انظر الملل للشهرستاني (1/ 44 - 46)، مقالات الإسلاميين (1/ 245)، منهاج السنة (2/ 169).
فكل ما صح على بعضها صح على جميعها، وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها
(1)
.
والمعتزلة يقولون إننا بهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسماً وإمكان المعاد.
وقول المصنف: "ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم، لظنهم أن العقل عارض السمع- وهو أصله- فيجب تقديمه عليه، والسمع إما أن يؤوَّل، وإما أن يُفوَّض.
وهم أيضا عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم، لما تقدم".
أي أنهم بنوا أصول مسائل الاعتقاد على عقولهم وفلسفتهم ومنطقهم، ولم يبنوا أصل هذه المسألة على كتاب أو على سُنَّة، وإن شئت فانظر في كتبهم، لن تجد لهم دليلاً من الكتاب أو السُنَّة في هذه المسائل، بل إنهم لا يقبلون هذا.
ولذلك هم أسَّسوا ما يسمَّى «قانون التأويل» ، وقانون التأويل يقول:«إذا تعارض العقل والنقل فأيهما يقدم؟» فقالوا بالترتيب المنطقي - قالوا: «إما أن يُجْمَعَ بين الأمرين»
(2)
، أي نأخذ بالعقل والنقل وهذا لا يمكن؛ لأن العقل مثلاً يقول: لا، والنقل يقول: نعم، فكيف تجمع بين لا ونعم في وقت واحد؟ هل هذا يمكن؟ فقالوا:«لا يمكن الجمع بين النقيضين أو الجمع بين الضدين»
(3)
.
المقصود بـ «النقيضين» أو بـ «الضدين» أن أحدهما يقول: «لا» والثاني يقول: «نعم» ، فلئن كان النص يقول للعلوِّ:«نعم» ، أو للاستواء «نعم» ، فإن عقولهم تقول:
(1)
انظر مختصر الصواعق (1/ 254).
(2)
انظر كتاب أساس التقديس لفخر الدين الرازي صفحة (220).
(3)
انظر المصدر السابق.
«لا» ، فقالوا:«يستحيل الجمع بين الضدين ويستحيل ترك الأمرين»
(1)
أي أن نترك العقل والنقل.
وقالوا بعد ذلك: «إما أن يقدم العقل على النقل أو يقدم النقل على العقل»
(2)
فقالوا: «لو قدمنا النقل على العقل» ، فعلى حد زعمهم، العقل هو الأصل والنقل فرع، فيقولون:«تقديم الفرع على الأصل فيه إبطالٌ للأصل والفرع» .
انظر ترتيبهم! قالوا: «لو قدمنا النقل على العقل فإن في ذلك إبطال للأصل والفرع»
(3)
لأن النقل فرع والعقل أصل.
وقول المصنف: "وهؤلاء يضلون من وجوه:
منها ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة، وليس الأمر كذلك، بل القرآن بيّن من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية".
هذه المسألة هي التي شرحها المصنف في هذه القاعدة وقد تقدم الكلام عليها ورد دعوى من زعم أن النصوص الشرعية لم تشتمل على الأدلة العقلية، وأكد المصنف هنا أن النصوص الشرعية اشتملت على الكثير من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية بما لا يوجد مثله في الطرق التي استخدمها أئمة أهل الكلام، وأن الأدلة الشرعية منها ما هو شامل للأمرين الشرعي والعقلي.
وقول المصنف: "ومنها ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعا في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه، فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع".
(1)
انظر المصدر السابق.
(2)
انظر كتاء درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية الجزء الأول صفحة (4).
(3)
انظر المصدر السابق.
فهم يجعلون العقل هو الأصل في إثبات وجود الله تعالى، ويجعلون العقل هو الأصل في إثبات نُبُوَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فبالتالي جعلوا من العقل أصلاً يعتمدون عليه ويرجعون إليه في هذين البابين.
فبعد هذا، على زعمهم الشرع جاء وَتَفَرَّعَ عن هذا الأصل-أي عن العقل-فإنه إذا أُثبتت نُبُوَّة النبي أثبت ما جاء به النبي.
فالعقل عندهم هو الأصل، وتفرع عنه إثبات نُبُوَّة النبي، ثم تفرع عنه إثبات ما جاء به النبي الذي هو الوحي.
فعلى هذا الترتيب عندهم أنه مادام العقل هو الأصل وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الفرع، فلو أنك قدَّمت ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنك بذلك أبطلت الأصل.
«وإبطال الأصل بالفرع فيه إبطالٌ للأصل والفرع»
(1)
، هكذا يرتِّبون هذا الترتيب المنطقي الفلسفي.
قال ابن تيمية: "وإذا قال القائل الرسول صلى الله عليه وسلم إنما عرف صدقه بأدلة عقلية، وأنه لابد له من الأدلة العقلية؛ فهذا صحيح لكن تلك الأدلة العقلية التي بها يعرف صدق الرسل هي مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها القرآن على أحسن الوجوه وأكملها.
قال الشيخ صالح آل الشيخ: "ونبوة الأنبياء أو رسالة الرسل بما تَحْصُل؟ وكيف يُعْرَفُ صدقهم؟ وما الفرق ما بين النبي والرسول وبين عامة الناس أو من يَدَّعِي أَنَّهُ نبي أو رسول أو من يأتي بالأخبار المغيبة أو يجري على يديه شيء من الخوارق؟
والجواب عن ذلك: أنَّ المتكلمين في العقائد نظروا في هذا على جهات من النظر.
ونُقَدِّمُ قول غير أهل السنة، ونُبَيِّنْ لكم قول السلف وأهل السنة والجماعة في
(1)
انظر كتاب أساس التقديس لفخر الدين الرازي صفحة (220).
هذه المسألة العظيمة.
وهي من المسائل التي يقل تقريرها في كتب الاعتقاد مُفَصَّلَة.
فنقول: إنَّ طريقة إثبات نبوة الأنبياء وإرسال الرسل للناس فيه مذاهب:
- المذهب الأول: أنَّ الرسل والأنبياء لديهم استعدادات نفسية راجعة إلى القوى الثلاث والصفات الثلاث وهي السمع والبصر والقلب، فإنه يكون عنده قوة في سمعه، فيسمع الكلام؛ كلام الملأ الأعلى، وعنده قوة في قلبه، فيكون عنده تخيلات أو يتصور ما هو غير مرئي، وعنده بصر أيضا قوي يبصر ما لا يبصره غيره.
وهذه طريقة باطلة، وهي طريقة الفلاسفة الذين يجعلون النبوة من جهة الاستعدادات البشرية، لا من جهة أنها وحي وإكرام واصطفاء من الله جل جلاله.
المذهب الثاني: قول من يقول إنَّ النبوة والرسالة طريق إثباتها والدليل عليها هو المعجزات.
وهذا قول المعتزلة والأشاعرة وطوائف من المتكلمين، وتبعهم ابن حزم وجماعة، وجعلوا الفرق ما بين النبي وغيره هو أنَّ النبي يجري على يديه خوارق العادات.
فمنهم من التزم -وهم المعتزلة وابن حزم- في أنَّه ما دام الفرق هو خوارق العادات وهي المعجزات فإذاً لا يُثْبَتُ خارقٌ لغير نبي.
فأنكروا السحر والكهانة، وأنكروا كرامات الأولياء، وأنكروا ما يجري من الخوارق؛ لأجل أن لا يلتبس هذا بهذا وجعلوا ذلك مجرد تخييل في كل أحواله.
وأما الأشاعرة فجعلوا المسألة مختلفة، وسيأتي تفصيلها في موضعها إن شاء الله عند كرامات الأولياء.
المذهب الثالث: هو مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح فيما قرره
أئمتهم وهو أنَّ النبوة والرسالة دليلها وبرهانها متنوع، ولا يُحصرُ القول بأنها من جهة المعجزات الحسية التي تُرى أو تجري على يدي النبي والولي.
فمن الأدلة والبراهين لإثبات النبوة والرسالة:
أولاً: الآيات والبراهين.
- ثانياً: ما يجري من أحوال النبي في خَبَرِهِ وأمره ونهيه وقوله وفعله مما يكون دالاًّ على صدقه بالقطع.
- ثالثاً: أنَّ الله عز وجل ينصر أنبياءه وأولياءه ويمكِّن لهم ويخذل مدعي النبوة ويُبيد أولئك ولا يجعل لهم انتشارا كبيرا.
وهذه ثلاثة أصول
(1)
.
فالأدلة العقلية التي تستحق أن تسمى أدلة عقلية على المطالب العالية الإلهية وهي الإيمان بالرب تعالى والإيمان بكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح الذي به يسعد الناس وينجون من العذاب في الدنيا والآخرة قد دل عليه القرآن أحسن دلالة وبينه أحسن بيان بل ضرب الله في القرآن من كل مثل وجميع ما يذكره الناس في هذا الباب متكلمهم ومتفلسفهم ما كان فيه حقّا فقد جاء القرآن به وبأحسن منه على أكمل الوجوه بل ما جاءت به النبوات في التوراة والإنجيل من المطالب الإلهية جاء القرآن بها وما حرفها فكيف بالأمور التي تعرف بمجرد العقل من غير وحي من السماء في هذا الباب فإن معرفة هذه أيسر فإذا كان القرآن قد اشتمل على معاني الكتب فكيف لا يشتمل على هذه"
(2)
وقد جاء الوحي مخاطبا عقول الناس وألبابهم، في إقامة الحجة عليهم فيما
(1)
المصدر: شرح العقيدة الطحاوية للشيخ صالح آل الشيخ ضمن الموسوعة الشاملة.
(2)
بيان تلبيس الجهمية 8/ 529.
يلزمهم من أمور الاعتقاد ومنها عقيدة النبوة، وهذا أمر مجمع عليه بين كل من طالع نصوص الوحي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جميع الطوائف - حتى أئمة الكلام والفلسفة - معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله "
(1)
والوحي في مخاطبته لعقول الناس، خاطبهم بأقرب الطرق إلى العقل وأسهلها؛ حيث يفهم حججه العامي قبل العالم، ويزداد الذكي والعالم يقينا، كلما ازداد مطالعة وتدبرا لها.
قال ابن القيم: " والله سبحانه حاج عباده على ألسن رسله وأنبيائه، فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم إياه، بأقرب الطرق إلى العقل، وأسهلها تناولا، وأقلها تكلفا وأعظمها غناء ونفعا، وأجلها ثمرة وفائدة، فحججه سبحانه العقلية التي بينها في كتابه، جمعت بين كونها عقلية سمعية ظاهرة، واضحة، قليلة المقدمات، سهلة الفهم، قريبة التناول، قاطعة للشكوك والشبه، ملزمة للمعاند والجاحد، ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخ ولعموم الخلق أنفع.
وإذا تتبع المتتبع ما في كتاب الله مما حاج به عباده في إقامة التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفي وظاهر، وعموم قدرته ومشيئته، وتفرده بالملك والتدبير، وأنه لا يستحق العبادة سواه: وجد الأمر في ذلك على ما ذكرناه، من تصرف المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلّ وجوه الحجاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها من الشكوك والشبه، في أوجز لفظ وأبينه وأعذبه وأحسنه وأرشقه
(1)
"درء تعارض العقل والنقل"(9/ 53).
وأدله على المراد "
(1)
فلذا على المسلم وغير المسلم إذا أراد أدلة عقلية على صحة النبوة؛ فعليه أن يطالع نصوص الوحي ويتدبرها؛ فلن يجد أدلة أقوى مما أرشد إليه الوحي.
ثانيا: عند تدبر أدلة الوحي على عقيدة النبوة؛ نراها ترجع إلى أمرين:
الأمر الأول: شخصية النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمر الثاني: ماجاء به.
ويجمعهما قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ] {المؤمنون الآيات: 68 - 70. [
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمل دعوته وما جاء به: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ
…
{الآيات.
فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول، وتأمل حال القائل، فإن كون القول للشيء كذبا وزورا، يعلم من نفس القول تارة، وتناقضه واضطرابه، وظهور شواهد الكذب عليه، فالكذب باد على صفحاته، وباد على ظاهره وباطنه، ويعرف من حال القائل تارة، فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع، لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله، ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البار الصادق، المبرأ من كل فاحشة وغدر، وكذب وفجور، بل قلب هذا وقصده وقوله وعمله يشبه بعضه بعضا، وقلب ذلك وقوله وعمله وقصده، يشبه بعضه بعضا.
فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل سيرة القائل وأحواله وحينئذ تتبين لهم
(1)
"الصواعق المرسلة"(2/ 460).
حقيقة الأمر وأن ما جاء به في أعلى مراتب الصدق"
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "بين سبحانه من حاله، ما يعلمه العامة والخاصة، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه، متواتر عند من غاب عنه، وبلغته أخباره من جميع الناس: أنه كان أميا لا يقرأ كتابا، ولا يحفظ كتابا من الكتب، لا المنزلة ولا غيرها، ولا يقرأ شيئا مكتوبا، لا كتابا منزلا ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتابا، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها.
ومعلوم أن من يعلم من غيره: إما أن يأخذ تلقينا وحفظا، وإما أن يأخذ من كتابه، وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه، ولا يقرأ مكتوبا، والذي يأخذ من كتاب غيره، إما أن يقرأه، وإما أن ينسخه، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ "
(2)
وقال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف الآية: 3. [
وقال الله تعالى مقيما الحجة على أهل الكفر من قريش: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس الآية: 16].
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: "في هذه الآية الكريمة حجة واضحة على كفار مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إليهم رسولا حتى لبث فيهم عمرا من الزمن، وقدر ذلك أربعون سنة، فعرفوا صدقه، وأمانته، وعدله، وأنه بعيد كل البعد من أن يكون كاذبا على الله تعالى، وكانوا في الجاهلية يسمونه الأمين، وقد ألقمهم الله حجرا بهذه الحجة في موضع آخر، وهو قوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ
(1)
"الصواعق المرسلة"(2/ 469 - 470).
(2)
"الجواب الصحيح"(5/ 338 - 339).
مُنْكِرُونَ {ولذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، ومن معه عن صفاته صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا.
وكان أبو سفيان في ذلك الوقت زعيم الكفار، ورأس المشركين ومع ذلك اعترف بالحق، والحق ما شهدت به الأعداء.
فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله. اهـ.
ولذلك وبخهم الله تعالى بقوله هنا: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ".
(1)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الحجة الثانية: أني قد لبثت فيكم عمري إلى حين أتيتكم به، وأنتم تشاهدوني وتعرفون حالي، وتصحبوني حضرا وسفرا، وتعرفون دقيق أمري وجليله، وتتحققون سيرتي هل كانت سيرة من هو من أكذب الخلق وأفجرهم وأظلمهم؟! فإنه لا أكذب ولا أظلم ولا أقبح سيرة ممن جاهر ربه وخالفه بالكذب والفرية عليه وطلب إفساد العالم وظلم النفوس والبغي في الأرض بغير الحق.
هذا وأنتم تعلمون أني لم أكن أقرأ كتابا ولا أخطه بيميني، ولا صاحبت من أتعلم منه؛ بل صحبتكم أنتم في أسفاركم لمن تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما لم أشارككم فيه بوجه، ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما سيكون على التفصيل.
فأي برهان أوضح من هذا! ".
(2)
الأمر الثاني: تأمل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
"أضواء البيان"(2/ 563 - 564).
(2)
الصواعق المرسلة" (2/ 471).
فما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب الماضية والمستقبلة، تقطع بأن هذه الأخبار قد نبئ بها من خالق هذا الكون سبحانه وتعالى العالم، بما كان وما سيكون.
كما قال الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ] {آل عمران الآية: 44].
وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود الآية: 49].
وقال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "كان يخبرهم بالأمور الماضية خبرًا مفصلًا، لا يعلمه أحد إلا أن يكون نبيًا، أو من أخبره نبي، وقومه يعلمون أنه لم يخبره بذلك أحد من البشر، وهذا مما قامت به الحجة عليهم، وهم مع قوة عداوتهم له وحرصهم على ما يطعنون به عليه، لم يمكنهم أن يطعنوا طعنا يقبل منهم، وكان علم سائر الأمم بأن قومه المعادين له، المجتهدين في الطعن عليه، لم يمكنهم أن يقولوا: إن هذه الغيوب علمها إياه بشر.
فوجب على جميع الخلق: أن هذا لم يعلمه إياها بشر؛ ولهذا قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود الآية: 49 [
فأخبر أنه لم يكن يعلم ذلك هو ولا قومه، وقومه تقر بذلك"
(1)
وكان صلى الله عليه وسلم يبلغ بما سيقع في المستقبل، فيقع كما نُبئ به.
كقوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ {
…
] الروم الآيات: 2 - 3 - 4].
(1)
"الجواب الصحيح"(1/ 403).
وإخبار الوحي بمثل هذا كثير فمنه ما وقع، ومنه ما هو واقع ومستمر، يدل دلالة قاطعة لكل عاقل: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي من خالق هذا الكون العالم به؛ وبهذا ألزم الله عقول الناس.
قال الله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان الآيات: 5 - 6].
والتشريعات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم قاطعة بصدق نبوته، فقد أتى بنظام تشريعي وأخلاقي وتربوي متكامل لا تنافر فيه، وفي الوقت نفسه قابل للتطبيق وموافق لفطر الناس، وواقع الناس، أفرادا ومجتمعات، على مر التاريخ: شاهد على ذلك؛ فكلما طبّقت هذه التشريعات والآداب في الواقع، صلح الناس وسعدوا، وكلما ابتعدوا عنها فسدوا وشقوا، وهذا كله يظهر صدق قول الله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء الآية: 82. [
وفي المقابل: ما زال أهل الذكاء من الناس يبحثون ويفتشون عن منهج تشريعي وأخلاقي يصلح الناس، يبدأ السابق، ويبني على نتائجه اللاحق، والجهود متظافرة في جميع التخصصات-كما نرى في هذا الزمن-للوصول إلى هذا الهدف، لكنهم عاجزون عن ذلك، لا يرقّعون جانبا إلا وظهر الخرق في جانب آخر، وهذا الواقع يقضي أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ليس مصدره بشريا؛ وإنما نبئ به من خالق هذا الخلق العالم به وبما يصلحه.
قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/ 54 ["
(1)
.
(1)
المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب.
وللفائدة في مثل هذا الموضوع ينصح بمطالعة كتاب "النبأ العظيم" للشيخ محمد بن عبد الله دراز رحمه الله تعالى.
وكتاب "الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد" للشيخ سعود بن عبد العزيز العريفي.
وكتاب "براهين النبوة" للدكتور سامي عامري،
وقول المصنف: "ومنها ظنهم أن تلك الطريق التي سلكوها صحيحة، وقد تكون باطلة".
ولمناقشة أصل المتكلمين القاضي بتقديم العقل على النقل عند التعارض يقال:
هذا القانون مبني على ثلاث مقدمات:
1 -
ثبوت التعارض بين العقل والنقل.
2 -
انحصار التقسيم في الأقسام الأربعة المذكورة.
3 -
بطلان الأقسام الثلاثة ليتعيَّن ثبوت القسم الرابع، أي تقديم العقل.
وهذه المقدمات كلها متهافتة لا تقوم على أساس من الشرع، ولا من العقل السليم، وإثبات تهافتها من وجوه.
الوجه الأول: أن هذا التقسيم باطلٌ من أصله، والتقسيم الصحيح أن يقال: إذا تعارض دليلان سمعيَّان أو دليلان عقليان أو دليلان سمعي وعقلي، فلا يخلو الأمر إما أن يكونا قطعيين، وإما أن يكونا ظنِّيَّين، وإما أن يكون أحدهما قطعيًّا
والآخر ظنيًّا، وعلى هذا الأساس يجري الحكم لأحدهما أو عليه، فيقال: أما القطعيان فلا يمكن تعارضهما؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعًا، فلو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين، وإن كان أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا تعيَّن تقديم القطعي سواء كان عقليًّا أو سمعيًّا، نظراً لقطعيَّة دلالته لا بكونه عقليًّا أو سمعياًّ وإن كانا ظنِّيَّين صرنا إلى الترجيح،، ووجب تقديم الراجح سمعيًّا كان أو عقليًّا، وعلى هذا فقولهم: إذا تعارض العقل والنقل؛ فإما أن يريدوا القطعيَّين فلا نسلم إمكان التعارض بينهما، وإما أن يريدوا به الظنيين، فالتقديم للراجح، وإما أن يريدوا ما يكون أحدهما قطعيًّا
والآخر ظنيًّا، فالقطعي هو المقدَّم، فإن قُدِّر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي لا لأنه عقلي، فعلم بهذا أن تقديم العقلي مطلقاً خطأ فادح، وأن جعل جهة الترجيح كونه عقليًّا خطأ، وأن جعل سبب التأخير والإطراح كون النقلي نقليًّا خطأ. وهذا الوجه يقضي على مقدمتهم الثانية والثالثة.
الوجه الثاني: قولهم: «العقل أصل النقل» ممنوع؛ فإنما هو ثابت في نفس الأمر ليس موقوفاً على علمنا به، فعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في نفس الأمر، فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وإن كذبه من كذبه، ووجود الرب تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حق، وإن جهله من جهله أو جحده من جحده، وعلى هذا فليس القدح في العقل قدحاً في الحقائق الثابتة بالسمع. وهذا واضحٌ إن شاء الله.
الوجه الثالث: أن العقل الصريح السليم لا يعارض النقل الصحيح، إذا كان الدليل السمعي ثابتًا في نفسه، ظاهر الدلالة بنفسه على المراد، لم يكن ما عارضه من العقليات إلا خيالات فاسدة، وأوهاماً كاسدة، ومقدمات كاذبة، إذا تأملها العاقل حق التأمل وجدها مخالفةً لصريح المعقول، وهذا ثابتٌ في كل دليلٍ عقلي خالف دليلاً سمعيًّا صحيح الدلالة، وعليه إذا عارض هذا المسمى دليلاً عقليًّا السمع وجب إطراحه لفساده وبطلانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من أسباب ضلال كثير من الناس أنهم ظنوا أن ما يقوله هؤلاء المبتدعون هو الشرع المأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وليس الأمر كذلك بل كل ما عُلم بالعقل الصريح فلا يوجد عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما يوافقه ويصدقه» إه.
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «إن ما عُلم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، ولا يأتي بخلافه، ومن تأمل ذلك فيما تنازع العقلاء
فيه من المسائل الكبار وجد ما خالف النصوص الصحيحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها» إه.
وقد يقال: إن المعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يفهم بظاهر اللفظ، وليست ثابتة بين العقل وبين ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والجواب: أن هذا الكلام يغير صورة المسألة، فتصير هكذا: إذا تعارض الدليل العقلي وما ليس بدليل صحيح وجب تقديم العقلي، وهذا كلام لا فائدة فيه، ولا حاصل له، وكل عاقلٍ يعلم أن الدليل لا يترك لما ليس بدليل، وكلام المبلغ الأمين يستحيل أن يكون ظاهراً في غير المراد ويتركه من غير بيان، فإن أمانة التبليغ تنافي ذلك.
الوجه الرابع: أنه لو قدر وقوع تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع لا العقل وذلك لأمور:
1 -
أن العقل قد صدَّق الشرع ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره، ومعلومٌ أن الشرع لم يصدِّق العقل في كل ما أقرَّه أو أخبر به.
2 -
أن العقل دلَّ على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وعلى وجوب طاعته فيما أمر.
3 -
أن العقل يغلط كما يغلط الحس، بل أكثر، فإذا كان حكم الحس من أقوى الأحكام ويعتريه الغلط؛ فما ظنُّك بالعقل؟
4 -
أن العقل له حدود يقف عندها ولا يستطيع أن يتجاوزها، خصوصاً فيما يتعلَّق بالله وصفاته وما أخبر به من أمور الغيب، وأما الشرع فلا يقارن بالعقل في هذا المجال، بل ولا في غيره، قال ابن القيّم:» إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النَّقل، لأن الجمع يبن المدلولين، جمع بين النقيضين، وإبطالهما معاً إبطال للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دلّ على صحّة السّمع ووجوب قبول
ما أخبر الرسول فلو أبطلنا النّقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا بطلت دلالته لم يصح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة الدَّليل «.
الوجه الخامس: أن العقل مع الوحي كما العامِّي مع المفتي، بل ودون ذلك بمراتب كثيرة، فإن المقلد يمكن أن يصير عالماً، ولا يمكن للمفتي أن يصير نبيّا ورسولاً يوحى إليه.
فلو دلَّ مقلد مقلداً آخر على مفتٍ عالم فأفتاه، ثم اختلف المفتي والدّال فإن الواجب المحتم على المستفتي قبول قول المفتي دون المقلِّد الذي دلَّ عليه وعرَّفه به، فلو قال له الدالّ: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدَّمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتٍ، فيلزم القدح في فرعه، لقال له المستفتي: أنت لمّا شهدت بأنه مفتٍ، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك وموافقتي لك في هذا العالم المعين _ وهو كونه مفتياً _ لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، لأن إصابتك الحق، في إدراك أنه مفتٍ لا يستلزم إصابتك الحق في كل شيء، بل يجب عليك تقليده كما يجب عليّ بشهادتك أنت، هذا مع العلم بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله ولا يجوز عليه الخطأ.
وهذا من أحسن الأمثلة المضروبة للنقل مع العقل، ويقضي على أصلهم الذي يقرر أن العقل أصل، والشرع فرع فيجب تقديم العقل.
الوجه السادس: أن تقديم العقل على الشرع يتضمَّن القدح في العقل والشرع لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه، وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة إذا قورنت بجبل، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحاً في شهادة العقل، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله، قال العلامة ابن الوزير اليماني: «فإن قيل: تقديم العقل على السمع أولى عند التعارض، لأن السمع علم بالعقل فهو أصل، ولو
بطل العقل بطل السمع والعقل معاً، وهذه من قواعد المتكلمين، قلنا: قد اعترضهم في ذلك المحققون بأن العلوم يستحيل تعارضها في العقل والسمع فتعارضها تقدير محال، فإنه لو بطل السمع أيضاً بعد أن دلَّ العقل على صحته لبطلا أيضاً معاً، لأن العقل قد كان حكم بصحة السمع وأنه لا يبطل، فحين بطل السمع علمنا ببطلانه بطلان الأحكام العقلية»
(1)
.
الوجه السابع: أن الحكم للعقل بالتقديم المطلق ممتنع متناقض، لأن كون الشيء معلوماً بالعقل أو غير معلوم بالعقل ليس صفة لازمة لشيء من الأشياء، بل هو من الأمور النسبية، فإن زيداً قد يعلم بعقله ما لا يعلمه عمرو، كما أن الإنسان قد يعقل شيئاً ما في وقت، ويجهله في وقت آخر، فأكثر العقلاء _ مثلاً _ يعلمون أن كون العالم عالماً بلا علم وحيّاً بلا حياة، ومريداً بلا إرادة، وسميعاً بصيراً بلا سمع ولا بصر، محال بضرورة العقل، بينما يقول بعض المتكلمين: إن ذلك هو الواجب في حق الله تعالى مستدلين على ذلك بالعقل، وبهذا تعلم أن الرد إلى العقول عند النزاع لا يزيد المختلفين إلا اختلافاً واضطراباً، وشكّاً وارتياباً وعلى هذا لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النِّزاع والاختلاف إلا بكتاب منزل من السماء يرجع الجميع إلى حكمه، وإلا فكل واحد من أرباب المعقولات يقول: عقلي بالثقة به أولى من عقل من ينازعني.
وقول المصنف: "ومنها ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، ويكونون غالطين في ذلك، فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع".
العقل مع الوحي كما العامِّي مع المفتي، بل ودون ذلك بمراتب كثيرة، فإن
(1)
"إيثار الحق" صـ 117 إلى 119 وأشار إلى أن ممن ذكر ذلك ابن تيمية وابن دقيق العيد والزركشي.
المقلد يمكن أن يصير عالماً، ولا يمكن للمفتي أن يصير نبيّا ورسولاً يوحى إليه.
فلو دلَّ مقلد مقلداً آخر على مفتٍ عالم فأفتاه، ثم اختلف المفتي والدّال فإن الواجب المحتم على المستفتي قبول قول المفتي دون المقلِّد الذي دلَّ عليه وعرَّفه به، فلو قال له الدالّ: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدَّمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتٍ، فيلزم القدح في فرعه، لقال له المستفتي: أنت لمّا شهدت بأنه مفتٍ، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك وموافقتي لك في هذا العالم المعين _ وهو كونه مفتياً _ لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، لأن إصابتك الحق، في إدراك أنه مفتٍ لا يستلزم إصابتك الحق في كل شيء، بل يجب عليك تقليده كما يجب عليّ بشهادتك أنت، هذا مع العلم بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله ولا يجوز عليه الخطأ.
وهذا من أحسن الأمثلة المضروبة للنقل مع العقل، ويقضي على أصلهم الذي يقرر أن العقل أصل، والشرع فرع فيجب تقديم العقل.
فلو قدر وقوع تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع لا العقل وذلك لأمور:
1 -
أن العقل قد صدَّق الشرع ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره، ومعلومٌ أن الشرع لم يصدِّق العقل في كل ما أقرَّه أو أخبر به.
2 -
أن العقل دلَّ على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وعلى وجوب طاعته فيما أمر.
3 -
أن العقل يغلط كما يغلط الحس، بل أكثر، فإذا كان حكم الحس من أقوى الأحكام ويعتريه الغلط؛ فما ظنُّك بالعقل؟
4 -
أن العقل له حدود يقف عندها ولا يستطيع أن يتجاوزها، خصوصاً فيما
يتعلَّق بالله وصفاته وما أخبر به من أمور الغيب، وأما الشرع فلا يقارن بالعقل في هذا المجال، بل ولا في غيره، قال ابن القيّم:» إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النَّقل، لأن الجمع يبن المدلولين، جمع بين النقيضين، وإبطالهما معاً إبطال للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دلّ على صحّة السّمع ووجوب قبول ما أخبر الرسول فلو أبطلنا النّقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا بطلت دلالته لم يصح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة الدَّليل «.
وممّا يوكِّد عدم انضباط نتائج العقول خاصة في البحوث المتعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته ذلك التعارض العجيب الذي نجده عند أهل المدرسة الواحدة من مدارس الكلام، انظر إلى قول الرازي _ وهو ينتقض الغزالي _: «من الأصحاب من قال: السميع البصير أكمل ممن ليس بسميع، والواحد منا سميع بصير، فلو لم يكن الله تعالى كذلك لكان الواحد منا أكمل من الله تعالى، وهو محال، وهذا ضعيف، لأن
لقائل أن يقول: الماشي أكمل ممن لا يمشي، والحسن الوجه أكمل من القبيح، والواحد منا موصوف به، فلو لم يكن الله تعالى موصوفاً به لزم أن يكون الواحد أكمل من الله تعالى» (1) اه.
وبهذا يتبيّن خطورة الاعتماد على العقل المجرد في إثبات الصفات، حيث يفتح باباً للإلزامات واسعاً. بينما الواقف مع النص لا يمكن إلزامه بشيء من ذلك ولله الحمد والمنَّة".
(1)
قال ابن القيم: "والذين زعموا من قاصري العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضهما، إنما أتوا من جهلهم بحكم العقل ومقتضى السمع، فظنوا ما ليس بمعقول معقولا، وهو في الحقيقة شبهات توهم أنه عقل صريح وليست كذلك، أو من جهلهم بالسمع إما لنسبتهم إلى الرسول ما لم يُرده بقوله، وإما لعدم تفريقهم بين ما لا يدرك بالعقول وبين ما تدرك استحالته بالعقول، فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظن التعارض بين السمع والعقل:
أحدها: كون القضية ليست من قضايا العقول.
الثاني: كون ذلك السمع ليس من السمع الصحيح المقبول.
الثالث: عدم فهم مراد المتكلم به.
الرابع: عدم التمييز بين ما يحيله العقل وما لا يدركه"
(2)
.
والأدلة على بطلان هذا القانون كثيرة، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المميز الذي صنفه من أجل نسف هذا القانون، كتاب" درء تعارض العقل والنقل"، ومن بعده تلميذه ابن القيم الذي اعتمد على شيخه واختصر ونقح وزاد في كتابه
(1)
مقدمة ابن خلدون ص 688، وانظر «الصواعق» 459.
(2)
"الصواعق المرسلة"(2/ 459)
"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، ومن هذه الردود:
أولًا: الدينُ كاملٌ فلا حاجة إلى عقل أو غيره لاتمامه، فإنه ما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وأكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة الآية: 3].
قال ابن القيم: " أن الله تعالى قد تمم الدين بنبيه صلى الله عليه وسلم وكمله به، ولم يحوجه هو ولا أمته إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشف.
قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة الآية: 3] وأنكر على من لم يكتف بالوحي، فقال:{أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت الآية: 51] ذكر هذا جوابا لطلبهم آية تدل على صدقه، فأخبر أنه يكفيهم من كل آية، فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلا على صدقه فضلا عن أن يكون كافيا"
(1)
.
ثانيًا: لم يكن من طريقة السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم تقديم معقولهم على النصوص، مع أنهم أكمل الناس عقلا وعلما وفقها، بل كانوا يعلنون النكير على من يقابل النصوص رأيه وعقله.
قال ابن القيم: " أن الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص ويوردون استشكالاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عنها، وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص، ويوردون التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولا يعارض النص البتة، ولا عرف فيهم أحد، وهم أكمل الأمة عقولا، عارض نصا
(1)
"الصواعق المرسلة"(116)
بعقل، وإنما حكى الله تعالى ذلك عن الكفار
…
وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال، ولا يقرون على ذلك، وكان ابن عباس يحتج في متعة الحج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بها، فيقولون له: إن أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا، فلما أكثروا عليه قال:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر".
فرحم الله ابن عباس، كيف لو رأى قوما يعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وبشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وأضرابهم؟ "
(1)
.
ثالثًا: إن تقديم العقل على النقل هو نسفٌ للعقل والنقل معا، فلا حجة بشيء بعد ذلك.
قال ابن القيم: "وحينئذ فهذا وجه تاسع مستقل بكسر هذا الطاغوت، وهو أن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع; لأن العقل قد شهد الشرع والوحي بأنه أعلم منه، وأنه لا نسبة له إليه، وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحا في شهادته، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله، فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع، وهذا ظاهر لا خفاء به"
(2)
.
رابعا: تقديم العقل على النقل أمر لا ينضبط ولا نهاية له، لأن لكل فرد وجماعة وملة عقلها الذي تعظمه، وهم مختلفون وفي أمر مريج.
(1)
"الصواعق المرسلة"(169).
(2)
"الصواعق المرسلة"(113).
قال شيخ الإسلام: "وهو أن يقال: القول بتقديم الإنسان لمعقوله على النصوص النبوية قول لا ينضبط، وذلك لأن أهل الكلام والفلسفة الخائضين المتنازعين فيما يسمونه عقليات، كل منهم يقول: إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعي الآخر أن المعلوم بضروة العقل أو بنظره نقيضه"
(1)
.
وقال ابن القيم: "أن المعقولات ليس لها ضابط، ولا هي محصورة في نوع معين، فإنه ما من أمة من الأمم إلا ولهم عقليات يختصمون إليها ويختصون بها، فللفرس عقليات، وللهند عقليات، وللمجوس عقليات، وللصائبة عقليات، وكل طائفة من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات، بل فيها من الاختلاف ما هو معروف عند المعتنين به، ونحن نعفيكم من هذه المعقولات واضطرابها ونحاكمكم إلى المعقولات التي في هذه الأمة، فإنه ما من مدة من المدد إلا وقد ابتدعت فيها بدع يزعم أربابها أن العقل دل عليها"
(2)
.
خامسًا: تقديم العقل على النقل هو اتباع للمتشابهات المجملات وترك المحكمات.
قال شيخ الإسلام: " أن يقال: الذين يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات: من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك، إنما يبنون أمرهم في ذلك علي أقوال مشتبهة مجملة، تحتملمعاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه لفظاً ومعني يوجب تناولها لحق وباطل، فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل ونصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
(1)
"درء تعارض العقل والنقل"(1/ 156 - 158).
(2)
"مختصر الصواعق المرسلة"(ص: 174).
وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع، فإن البدعة لو كانت باطلًا محضًا لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقا محضا، لا شوب فيه، لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقاً محضاً لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل علي حق وباطل وقد بسطنا الكلام علي هذا في غير هذا الموضع"
(1)
.
سادسًا: وهذا القانون لا يتأتى على طريقة المؤمنين المصدقين من أتباع المرسلين، بل هو سائر في سبيل أعداء الدين، من الشياطين وأتباعهم من الفلاسفة والكافرين المكذبين.
قال ابن القيم: " أن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لا تتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقًا، ولا على أصول أحد من أهل الملل المصدقين بحقيقة النبوة، ليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء، وإنما تتأتى هذه المعارضة ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة ويجريها على أوضاعهم"
(2)
.
وقال شيخ الإسلام: " أن يقال: معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها، هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر، كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بالملل والنحل ما معناه: أصل كل شر هو من معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع.
وهو كما قال، فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، وبين أن المتبعين لما أنزل هم أهل الهدى والفلاح، والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال
…
قال تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر الآية: 4]، ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن، وجادل في ذلك بعقله ورأيه، فهو داخل في ذلك، وإن لم يزعم
(1)
"درء تعارض العقل والنقل"(1/ 208 - 209).
(2)
"مختصر الصواعق المرسلة"(ص: 145).
تقديم كلامه على كلام الله ورسوله، بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله، فقد دخل في ذلك، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة"
(1)
.
سابعًا: القول بتقديم العقل على النقل يؤدي إلى عدم الاستدلال بالوحي على شيء من المسائل العلمية مما يؤدي إلى عدم التصديق بالوحي فالكفر بالله ورسوله والعياذ بالله.
قال شيخ الإسلام: "وهو أن يقال: حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال، وأن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية، بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله، فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل، ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل، فالإنسان لا يخلو من حالين، وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب: فإما أن يقدر أن له رأياً مخالفاً للنص، أو ليس له رأي يخالفه، فإن كان عنده مما يسميه معقولاً ما يناقض خبر الله ورسوله، وكان معقوله هو المقدم، قدم معقوله وألغى خبر الله ورسوله، وكان حينئذ كل من اقتضى عقله مناقضة خبر من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله، ولم يكن مستدلا بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره، بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية، بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ"
(2)
.
(1)
"درء تعارض العقل والنقل"(5/ 204 - 506).
(2)
"درء تعارض العقل والنقل"(5/ 242).
ثامنًا: القول بتقديم العقل على النقل يؤول بصاحبه إما إلى التفويض أو التعطيل.
قال شيخ الإسلام: "أن يقال: غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم، من المشهورين بالإسلام، هو التأويل أو التفويض، فأما الذي ينتهون إلي أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة"
(1)
.
وقال ابن القيم: " إنَّ غاية ما ينتهي إليه من ادعى معارضة العقل للوحي أحد أمور أربعة لا بد له منها:
- إما تكذيبها وجحدها.
- وإما اعتقاد أن الرسل خاطبوا الخلق بها خطابا جمهوريا لا حقيقة له وإنما أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال.
- وإما اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن حقائقها وما تدل عليه إلى المجازات والاستعارات.
- وإما الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلا الله.
فهذه أربع مقامات، وقد ذهب إلى كل مقام منها طوائف من بني آدم "
(2)
.
ثم فصل ابن القيم في هذه المقامات وأصحابها.
(1)
"درء تعارض العقل والنقل"(1/ 201 - 202).
(2)
"الصواعق المرسلة "(3/ 917 - 925).
المتن
قال المصنف رحمه الله: "والمقصود هنا أن من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم، وأنه قادر، وأنه حي، كما أرشد إلى ذلك قوله:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} .
وقد اتفق النُّظَّار من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل- عند المحققين- أنه حي عليم قدير مريد، وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المحققين منهم.
بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن إثباته بالعقل".
الشرح
قول المصنف: "والمقصود هنا أن من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم، وأنه قادر، وأنه حي، كما أرشد إلى ذلك قوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك الآية: 14 [".
استدل المصنف بقوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك الآية: 14 [فأثبت الله خلقه للخلق، وهذا يرشدنا إلى اتصافه بالعلم والقدرة والحياة، فإنه لا يخلق إلا قادر على الخلق عالم بما يستحقه ولا يكون ذلك إلا من حي
(1)
.
وهذه تسمى دلالة الالتزام واللازم هنا عقلي للتلازم بين الخلق والعلم فالعلم من لوازم الخلق وإلا كيف يخلق من لا يعلم.
فالدلالة المعنوية العقلية هي أمر خاص بالعقل والفكر الصحيح؛ لأن اللفظ بمجرده لا يدل عليها، وإنما ينظر العبد ويتأمل في المعاني اللازمة لذلك اللفظ الذي
(1)
التوضيحات الأثرية على متن التدمرية ص 266.
لا يتم معناها بدونه وما يشترط له من الشروط، وهذا يجري في جميع الأسماء الحسنى، كل واحد منها يدل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ويدل على الصفة الأخرى اللازمة لتلك المعاني دلالة التزام، مثال ذلك:"الرحمن" يدل على الذات وحدها وعلى الرحمة وحدها دلالة تضمن، وعلى الأمرين دلالة مطابقة، ويدل على الحياة الكاملة والعلم المحيط والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام؛ لأنه لا توجد الرحمة من دون حياة الراحم، وقدرته الموصِّلة لرحمته للمرحوم وعلمه به وبحاجته.
وكذلك استلزام "الملك" جميع صفات المُلْك الكامل، واستلزام "الرب" لصفات الربوبية و"الله" لصفات الألوهية، وهي صفات كمال كلها، وكثير من أسمائه الحسنى يستلزم عدة أوصاف كالكبير والعظيم والمجيد والحميد والصمد، فهذه قاعدة نافعةٌ".
قال ابن القيم: "إن الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة، فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم.
فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن وكذلك على الذات المجردة على الصفة.
ويدل على الصفة الأخرى باللزوم.
الأمثلة:
أ- "الخالق":
ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق بالمطابقة يدل على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام كما في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ذلك لأن العلم والقدرة لازمان
للخلق.
مثال آخر: "السميع":
يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة.
وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن.
ويدل على اسم الحيّ وصفة الحياة بالالتزام.
وكذلك سائر أسمائه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأسماؤه كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة، ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي دل على الاسم الآخر، فالعزيز يدل على نفسه مع عزته، والخالق يدل على نفسه مع خلقه، والرحيم يدل على نفسه مع رحمتها، ونفسه تستلزم جميع صفاته، فصار كل اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة، وعلى أحدهما بطريق التضمن وعلى الصفة الأخرى بطريق اللزوم".
وقول المصنف: "وقد اتفق النُّظَّار من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل- عند المحققين- أنه حي عليم قدير مريد، وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المحققين منهم.
بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن إثباته بالعقل".
مقصود المصنف بالنظار من مثبتة الصفات هم الصفاتية ويدخل في ذلك الكلابية والأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم، فهؤلاء يتفقون مع أهل السنة بأن من الصفات ما يمكن إثباته بالعقل.
وتنقسم الصفات من حيث أدلة ثبوتها إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الشرعية العقلية:
وضابطها: هي التي يشترك في إثباتها: الدليل الشرعي السَّمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة.
وهي أكثر صفات الرب تعالى، بل أغلب الصفات الثُّبوتية يشترك فيها الدَّليلان السَّمعي والعقلي
(1)
، وإن كان الأصل في ثبوتها الدليل الشرعي.
ومنها: (العلم، السَّمع، البصر، العلو، القدرة، الإرادة، الخلق، الحياة).
وسميت «شرعية عقلية» .
فشرعية: لأنَّ الشرع دلَّ عليها أو أرشد إليها.
وعقلية: لأنها تُعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تُعلم إلا بمجرد الخبر.
فإذا أخبر الله بالشييء ودل عليه بالدلالات العقلية-صار مدلولًا عليه بخبره، ومدلولًا عليه بدليل العقل الذي يُعلم به؛ فيصير ثابتًا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تُسَمَّى الدلالة الشرعية
(2)
.
القسم الثاني: الصفات الخبرية وتسمى النقلية والسمعية:
وضابطها: هي التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السمع والخبر عن الله أو عن رسوله الأمين عليه الصلاة والتَّسليم
(3)
.
ومنها: (الوجه- اليد- العين- الرِّضا- الفرح- الغضب- القَدَم-الاستواء- النزول- المجيء- الضحك).
(1)
«الصفات الإلهية في الكتاب والسنة في ضوء الإثبات والتنزيه» (ص 207).
(2)
«مجموع الفتاوى» (6/ 71، 72).
(3)
«الصفات الإلهية» (ص 207).
وأهل السنة يجعلون الأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيها عن الله تعالى هو السمع (أي: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزونها، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل، كما أثبتته بذلك الأئمة مثل أحمد بن حنبل وغيره، ومثل عبد العزيز المكي وعبد الله بن سعيد بن كُلاَّب".
الأدلة العقلية على إثبات صفة العلو كثيرة وسأورد ههنا ثلاثة منها:
الدليل الأول: قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟
فسيقول: نعم.
فقل له: حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه؟ أم خارجاً عن نفسه؟
فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال:
واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أنه خلق الجن
(1)
«رسالة في العقل والروح» (2/ 46، 47) لابن تيمية، (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية).
والشياطين وإبليس في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضاً كفر حين زعم أنه في كل مكان وحش قذر رديء.
وإن قال: خلقهم خارجاً عن نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع"
(1)
الدليل الثاني: قول ابن القيم: "إن كل من أقر بوجود رب للعالم مدبر له، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم.
فمن أقر بالرب، فإما أن يقر بأن له ذاتاً وماهية مخصوصة أو لا؟
فإن لم يقر بذلك، لم يقر بالرب، فإن رباً لا ذات له ولا ماهية له هو والعدم سواء، وإن أقر بأن له ذاتاً مخصوصة وماهية، فإما أن يقر بتعينها أو يقول إنها غير معينة؟
فإن قيل إنها غير معينة كانت خيالاً في الذهن لا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلا معيناً، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظير، فتعيين ذاته سبحانه واجب.
وإذا أقر بأنها معينة لا كلية، والعالم مشهود معين لا كلي، لزم قطعاً مباينة أحد المتعينين للآخر، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه.
فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه.
قيل: هذا -والله أعلم- حقيقة قولكم، وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته
(1)
الرد على الزنادقة والجهمية (ص 95 - 96).
وذاته المخصوصة، وأنتم إنما جعلتم تعيينه أمراً عدمياً محضاً ونفياً صرفاً وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض.
وأيضاً فالعدم المحض لا يعين المتعين، فإنه لاشيء وإنما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم قطعاً من إثبات ذاته تعيين تلك الذات، ومن تعيينها مباينتها للمخلوقات، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره"
(1)
.
الدليل الثالث: أنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة، وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وصف بالعلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز، وصف بالقدرة دون العجز، ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له، وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عالياً على العالم أو مسامتا له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلاً عن السفول.
والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، ولا محاذياً له ولا سافلا عنه.
ولما كان العلو صفة كمال، وكان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، ولا يكون قط غير عالٍ عليه
(2)
.
وبهذه النماذج التي أوردناها عن الأدلة العقلية يتضح لنا مدى دلالة المعقول
(1)
مختصر الصواعق (1/ 279 - 280).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 5 - 6).
الصريح على إثبات علو الله ومباينته لخلقه وكذلك مدى مخالفة أقوال المعطلة والحلولية لصريح المعقول وصحيح المنقول.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "بل وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته، ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه تمكن رؤيته، وهذه الطريق أصح من تلك.
وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين، بتقسيم دائر بين النفي والإثبات، كما يقال: إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية، فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدَث. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع".
الشرح
قول المصنف: "بل وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته" استدل الأشاعرة على جواز الرؤية عقلًا بدليل الوجود: قال أبو الحسن الأشعري: "ومما يدل على رؤية الله عز وجل بالأبصار أنه ليس موجود إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله عز وجل موجودًا مثبتًا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل"
(1)
ويلتزم أبو الحسن الأشعري كل لازم لهذا الدليل من جواز صحة رؤية كل موجود كالأصوات، والروائح، والملموسات، والطعوم، ويقول لا يلزم من جواز صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له، وعدم رؤيتنا لهذا اللازم ليس لامتناعه بل لعدم
(1)
((الإبانة عن أصول الديانة)) (16).
جريان العادة من الله تعالى بخلق رؤيته فينا، ولا يمتنع أن يخلق رؤيتها فينا كما خلق رؤية غيرها، وقد نشأ هذا من أنه جعل الرؤية علما مخصوصا فكما يتعلق العلم بالموجودات كذلك الرؤية إلا أن العلم المطلق أعم.
(1)
وهذا الدليل العقلي أورد عليه المعتزلة وكذلك الأشاعرة اعتراضات كثيرة يطول ذكرها
(2)
.
قال ابن تيمية: "وأنهم كانوا يحتجون على جواز رؤية الله بأن الله قادر على أن يرينا نفسه لأنه موجود وما لم تمكن رؤيته لا يكون إلا معدوما وهذه الحجة كانوا يتكلمون فيها كنحو كلام أهل الاثبات في مسألة العلو تارة يحتجون فيها بالعلم الضروري بأن الله تعالى قادر على ذلك، وتارة يثبتون ذلك بالقياس فإن الرؤية مما يشترك فيها الجواهر والأعراض فيكون عليها أمر مشترك بينهما ولا مشترك إلا الوجود والحدوث لا يكون علة فثبت أن المصحح للرؤية هو الوجود
وهذه الطريقة القياسية مشهورة عن أبي الحسن الأشعري وللناس عليها اعتراضات معروفة كما ذكر ذلك الشهرستاني وغيره، ولذلك عدل طائفة من أتباعه كالقاضي أبي بكر إلى أن أثبتوا إمكان الرؤية بالسمع كما أن وقوعها معلوم بالسمع بلا نزاع وأبو عبد الله الرازي قد ذكر طريقة الأشعري هذه في الرؤية في نهايته وذكر ما فيها من القوادح التي يظهر معها وهاها"
(3)
وقال قال ابن تيمية: "أن الطريقة التي سلكها أهل الإثبات في الرؤية ليست من الضعف كما يظنه أتباع الأشعري مثل الشهرستاني والرازي وغيرهما بل لم يفهموا
(1)
((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 123)، ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (357).
(2)
انظر: ((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 124)، ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (160). ((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (4/ 85).
(3)
بيان تلبيس الجهمية 4/ 311.
قعرها ولم يقدروا الأشعري قدره بل قدروا مقدار كلامه وحججه، وكان هو أعظم منهم قدراً وأعلم بالمعقولات والمنقولات ومذاهب الناس من الأولين والآخرين كما تشهد به كتبه التي بلغتنا دع ما لم يبلغنا فمن رأى ما في كتبه من ذكر المقالات والحجج ورأى ما في كلام هؤلاء رأى بوناً عظيماً"
(1)
قال ابن تيمية في تقرير الدليل: (فمعلوم أن الرؤية تعلق بالموجود دون المعدوم، ومعلوم أنها أمر وجودي محض لا يسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق، وإذا كانت أمرا وجوديا محضًا، ولا تتعلق إلا بالموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته وما لا يمكن رؤيته: إما أن يكون وجودا محضًا، أو متضمنًا أمرًا عدميًا. والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببًا له، ولا يكون أيضًا شرطًا أو جزءًا من السبب إلا أن يتضمن وجودًا فيكون ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلا عليه ومستلزما له ونحو ذلك، وهذا من الأمور البينة عند التأمل.
ومن قال من العلماء: إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة، أو شرط علة، فإنما يقولون ذلك في قياس الدلالة، ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم، لا يقول أحد إن نفس العدم هو المقتضي للوجود. ولا يقول: إن الوصف المركب، من وجود وعدم هما جميعًا مقتضيان للوجود المحض. وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة. وإذا كان المقتضى لجواز الرؤية، والمصحح للرؤية، والفارق بينما تجوز رؤيته وبينما لا تجوز: إما أن يكون وجودا محضا فلا حاجة بنا إلى تعيينه، سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس، أو بالعين بشرط المقابلة
(1)
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 4/ 315
والمحاذاة، أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع، لكن المقصود أنه أمور وجودية، وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود، وكماله من كل موجود، إذ وجوده هو الوجود الواجب، ووجود كل ما سواه هو من وجوده، وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود، وحينئذ فيكون الله - وله المثل الأعلى - أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده، ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس، بل كما لا تطيق الخفاش أن تراها، لا لامتناع رؤيتها، بل لضعف بصره وعجزه. كما قد لا يستطاع سماع الأصوات العظيمة جدا، لا لكونها لا تسمع، بل لضعف السامع وعجزه، ولهذا يحصل لكثير من الناس عند سماع الأصوات العظيمة ورؤية الأشياء الجليلة ضعف أو رجفان أو نحو ذلك مما سببه ضعفه عن الرؤية والسماع، لا لكون ذلك الأمر مما تمتنع رؤيته وسماعه، ولهذا وردت الأخبار في قصة موسى عليه السلام وغيره بأن الناس إنما لا يرون الله في الدنيا للضعف والعجز والله سبحانه وتعالى قادر على أن يقويهم على ما عجزوا عنه)
(1)
وقول المصنف: "ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه تمكن رؤيته، وهذه الطريق أصح من تلك".
قال ابن تيمية: "من الجواب السديد لهم أن يقال لهم إلهي سبحانه يمكن إحساسه فتمكن رؤيته وسماع كلامه، وقد كلم في الدنيا بعض خلقه وسوف يكلم عباده ويرونه في الدار الآخرة؛ فإن كانوا ينكرون العلم والإقرار بكل ما لا يحسه الإنسان أمكنه أن يقرر عليهم العلم بالخبريات والمجربات والبديهيات وغير ذلك؛ وإن كانوا يقولون إن كل موجود فلابد أن يمكن إحساسه فهذا الذي قالوه هو
(1)
((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) لابن تيمية (1/ 357)، ((مجموع الفتاوى)) (6/ 136).
مذهب الصفاتية كلهم الذين يقرون بأن الله يرى في الدار الآخرة وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها"
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله: "والمقصود هنا أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نُظَّار السنة في هذا الباب- أنه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبَكَم.
وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلا فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات فتنزيه الخالق عنها أَولى".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جواز رؤية الله عز وجل، وفي مسألة علو الله تعالى على خلقه، ومبيانته لهم، فقال: "فإنا قد قدمنا فيما تقدم، أن الأمثال المضروبة إذا كانت من باب الأولى جاز استعمالها في حق الله تعالى، كما ورد به القرآن والسنة، واستعملها السلف والأئمة، كما يقال: إذا كان العبد ينزه نفسه عن شريك أو أنثى، فتنزيه ربه أولى، وإذا كان العبد عالماً قادراً فالله أولى.
وكذلك الرؤية؛ فإن حاصلها أنه إذا جاز رؤية الموجود المحدث الممكن، فرؤية الموجود الواجب القديم أولى.
وإذا كان المخلوق الناقص في وجوده يجوز أن يُرى ويُحس به، فالرب الكامل
(1)
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 4/ 454 - 456.
في وجوده أحق بأن يُرى؛ فإن كون الشيء بحيث يُرى كمال في حقه لا نقص؛ لأن كونه لا يُرى، ولا يُحس به، لا يثبت في الشاهد إلا للمعدوم، فكل صفة لم نعلمها تثبت إلا لمعدوم، فإنها لا تكون صفة نقص إلا بالنسبة إلى وجود آخر هو أكمل منها، وكل صفة لا تثبت للمعدوم ولا يختص بها الناقص، فإنها لا تكون إلا صفة كمال، وهذه طريقة في المسألة يتبين بها أن جواز الرؤية من صفات الكمال التي هو الباري أحق بها من المخلوقات.
ونظيرها في مسألة العلو: أن علو الشيء بنفسه على غيره صفة كمال، كما أن قدرته عليه صفة كمال. وإذا كان كذلك فالله أحق بهذه الصفة من جميع ما يوصف بها غيره، فيجب أن يكون عالياً بنفسه، وكذلك تميزه بذاته عن غيره هي صفة لا يوصف بها المعدوم، ولا تختص بالناقصات فتكون صفة كمال، فيجب اتصاف الله بها، وذلك يوجب مباينته للعالم"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وهذه الطريق غير قولنا: إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أَولى، فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها".
الشرح
مسألة الفرق سبق الحديث عنها وتوضيحها عند شرح قول المصنف: "وما كان صفة كمال فهو سبحانه وتعالى أحق بأن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به لكان المخلوق أكمل منه". فليرجع إليها في ذلك الموضع.
(1)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 354).
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويُضعف الإثبات به، مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الآمدي وأمثاله، مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية".
الشرح
يتحدث شيخ الإسلام هنا عن قول الأمدي وانتصاره للقول بأن التقابل في صفات الله هو من باب تقابل العدم والملكة وليس من باب تقابل السلب والإيجاب.
قال ابن تيمية: "قال وأما قولهم لو لم يتصف بهذه الصفات مع كونه حياً لكان متصفاً بما يقابلها فالتحقيق فيه موقوف على بيان حقيقة المتقابلين يعني المتنافيين.
وذكر التقسيم المشهور فيه للفلاسفة وأنه أربعة أقسام:
] القسم الأول]: تقابل السلب والإيجاب.
و] القسم الثاني]: العدم والملكة.
و] القسم الثالث]: التضايف.
و] القسم الرابع]: التضاد.
وأن تقابل العلم والجهل، أعمى والبصر، هو عندهم من باب تقابل العدم والملكة.
والملكة على اصطلاحهم: كل معني وجودي أمكن أن يكون ثابتاً للشيء.
• إما بحق جنسه: للإنسان، فإن البصير يمكن ثبوته لجنسه وهو الحيوان.
• أو بحق نوعه: ككتابة زيد فإن هذا ممكن لنوع الإنسان.
• أو بحق شخصه: كاللحية للرجل فإنها ممكنة في حق الرجل.
قال: والعدم المقابل لها ارتفاع هذه الملكة.
قال: فإن أريد بتقابل الإدراك ونفيه تقابل التناقض بالسلب والإيجاب وهو أنه لا يخلو من كونه سميعاً وبصيراً ومتكلماً أو ليس فهو ما يقوله الخصم، ولا يقبل نفيه من غير دليل.
وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة، فلا يلزم من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس إلا في محل يكون قابلاً لهما ولهذا يصح أن يقال الحجر لا أعمى ولا بصير والقول بكون البارئ تعالى قابلاً للبصر والعمى، دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب وعلى هذا فقد امتنع نفي لزوم العمي والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه.
قلت: وقد أشكل هذا على كثير من النظار حتى ضل به لاعتقادهم صحته حتى على الآمدي فهذا كلامه في الخلو عن الضدين بالمعنى العام قد أورد عليه ما ذكر فكيف يدعي أنه قرره وهذا الإيراد إيراد معروف للمعطلة نفاة الصفات وهو إيراد فاسد من وجوه"
(1)
وهذا ما سيأتي ذكره فيما سيذكره المصنف من ردود.
ومن المهم جدًا لفهم كلام شيخ الإسلام هنا من عرض قول المخالف
(2)
(1)
درء تعارض العقل والنقل 4/ 34 - 40.
(2)
المصنف-رحمه الله يشير هنا إلى مسألة سبق أن طرحها في أول الرسالة التدمرية حيث ذكر المصنف في معرض رده على القرامطة الباطنية الذين يقولون إننا ننفي النفي والإثبات.
ونظرًا لبعد الحديث عن هذه المسألة وللحاجة لاستحضارها هنا لمعرفة أصل الكلام فيها فإنه يمكن عرض الخلاف فيها هنا على وجه الاختصار.
وهو أن النفاة للصفات الذين نفوا الصفات بالكلية قد انقسموا إلى أربعة أصناف:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=
[الصنف الأول]: طائفة تقول نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت فلا ننفي النقيضين بل نسكت عن هذا وهذا فنمتنع عن كل من المتناقضين لا نحكم لا بهذا ولا بهذا فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه.
وهؤلاء من جنس السوفسطائية المتجاهلة اللا أدرية الذين يقولون لا نعلم هل الحقائق ثابتة أو منتفية وهل يمكن العلم أو لا يمكن فإن السفسطة أنواع أحدهما قول هؤلاء
والصنف الثاني: قول أهل التكذيب والجحود والنفي الذين يجزمون بنفي الحقائق والعلم بها.
والصنف الثالث: الذين يجعلون الحقائق تتبع العقائد فمن اعتقد ثبوت الشيء كان في حقه ثابتا ومن نفاه كان في حقه منتفيًا ولا يجعلون للحقائق أمرا هي عليه في أنفسها.
والصنف الرابع: قول من يقول الحقائق موجودة لكن لا سبيل إلى العلم بها إما لكون العالم في السيلان فلا يمكن العلم بحقيقته وإما لغير ذلك.
وهذه الأنواع الأربعة موجودة في هؤلاء الملاحدة:
الأول: فمنهم الواقفة المتجاهلة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي.
الثاني: ومنهم المكذبة الذين ينفون.
الثالث: ومنهم من يجعل الحقائق تتبع العقائد كما يحكى عن طائفة تصوب كل واحد من القائلين للأقوال المتناقضة وكما يقوله من يقوله من أصحاب الوحدة ابن عربي ونحوه بأن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيب فيها حتى قال:
عقد الخلائق في الإله عقائدا
…
وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
وأما الرابع: فهو منتهى قول أئمة الجهمية وهو الحيرة والشك لتكافؤ الأدلة عند بعضهم أو لعدم الدليل المرشد عند بعضهم وهذا عند أصحاب الوحدة هو أعلى العلم بالله تعالى والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع"
والجواب على زعم هؤلاء: فإنه يقال لهؤلاء النفاة أنتم نفيتم هذه الأسماء فرارا من التشبيه فإن اقتصرتم على نفي الأثبات شبهتموه بالمعدوم، وإن نفيتم الأثبات والنفي جميعا فقلتم ليس بموجود ولا معدوم شبهتموه بالممتنع، فأنتم فررتم من تشبيهه بالحي الكامل فشبهتموه بالحي الناقص، ثم شبهتموه بالمعدوم، ثم شبهتموه بالممتنع فكنتم شرًا من المستجير من الرمضاء بالنار وهذا لازم لكل من نفى شيئًا مما وصف الله به نفسه لا يفر من محذور إلا وقع فيما هو مثله أو شر منه مع تكذيبه بخبر الله وسلبه صفات الكمال الثابتة لله".
وقال ابن تيمية أيضًا في معرض الرد عليهم: "قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودًا معدومًا، أو لا موجودًا ولا معدومًا، ويمتنع أن يوصف باجتماع الوجود والعدم، والحياة والموت، والعلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل".
وخلاصة هذا: أنهم إن فروا من تشبيهه بالموجودات، وفروا من تشبيهه بالمعدومات بأن زعموا أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين فإنهم بقولهم هذا وقعوا في شر مما فروا منه لأنهم بهذا القول شبههوه بالممتنعات.
وقد اعترض هؤلاء على هذا القول بأن بأن التقابل هنا هو من تقابل العدم والملكة وليس من تقابل السلب والإيجاب.
وقد أجاب المصنف على هذه الشبهة كذلك فيما سبق من كلامه في أكثر من موطن فليرجع إليها في تلك المواضع، وإن كان الحاجة تمس هنا لإعادة ما سبق بيانه بالنظر إلى الحاجة لفهم النص هنا بالإضافة إلى أن هنا أمورًا لم يسبق التعرض لها في المواطن السابقة فتحتاج إلى بيان وإيضاح.
بحيث يسبق الرد الذي ذكره المصنف.
فقال النفاة
(1)
: ((القول بأنه لو لم يكن متصفاً بهذه الصفات-كالسمع والبصر والكلام مع كونه حياً-
(2)
لكان متصفاً بما يقابلها [وهو يتعالى ويتقدس أن يوصف بما يوجب في ذاته نقصاً]
(3)
، فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلين وبيان أقسامهما.
(1)
هذا النقل من كتاب أبكار الأفكار للآمدي نقله عنه شيخ الإسلام في التدمرية مبتوراً في بعض مقاطعه، وقد اجتهد المحقق، د. محمد بن عودة السعوي -حفظه الله- في تكميل النقص الذي في النص، ومقارنته بما في أبكار الأفكار (الجزء الأول/ الورقة 56) من فيلم في قسم المخطوطات بالمكتبة المركزية لجامعة الملك سعود تحت رقم (34 المجموعة الخاصة)، وهو مصور عن مخطوطة في مكتبة آيا صوفيا بتركيا برقم (2165)، وقد قارنت النص أيضاً بما في كتاب غاية المرام في علم الكلام ص (50 - 51)، الذي هو تلخيص لكتاب "أبكار الأفكار"، فاجتهدت في إثبات أكثر النصوص دلالة على المسألة، مستعيناً بكتب القوم الأخرى،، وأشرت إلى الفوارق في الهامش.
(2)
هذا التمثيل من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
(3)
ما بين المعكوفتين من غاية المرام ص (50)، وهذه حجة أهل الحق التي سيشرع الآمدي في ردها.
فنقول: أما المتقابلان فما لا يجتمعان في شيءٍ واحدٍ من جهةٍ واحدةٍ، وهو إما ألا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، أو يصح ذلك في أحد الطرفين
(1)
.
فالأول: هما المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهو تقابل التناقض، والتناقض هو: اختلاف القضيتين بالإيجاب والسلب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا الكذب لذاتيهما، كقولنا: زيدٌ حيوانٌ، زيدٌ ليس بحيوانٍ.
ومن خاصيته: استحالة اجتماع طرفيه في الصدق أو الكذب، وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر.
والثاني، ثلاثة أقسام:
الأول: المتقابلان بالتضايف، وهما اللذان لا تعقُّل لكل واحد منهما إلا مع تعقُّل الآخر، كقولنا: زيدٌ أبٌ، زيدٌ ابنٌ، وخاصيته توقف كل واحد من طرفيه على الآخر في الفهم.
الثاني: المتقابلان بالتضاد، والمتضادان: كل أمرين يُتصور اجتماعهما في الكذب دون الصدق، كالسواد والبياض، ومن خواصه جواز استحالة كل واحد من طرفيه إلى الآخر في بعض صوره، وجواز وجود واسطة بين الطرفين تمر عليه الاستحالة من أحد الطرفين إلى الآخر، كالصفرة والحمرة، بين السواد والبياض.
ـ الثالث: تقابل العدم والمَلَكَة، والمراد بالملكة هنا: كل معنى وجودي أمكن أن يكون ثابتاً للشيء إما بحق جنسه كالبصر للإنسان، أو بحق نوعه ككتابة زيدٍ، أو بحق
(1)
في غاية المرام ص (50): "أما المتقابلان: فهما ما يجتمعان في شيءٍ واحدٍ، من جهةٍ واحدةٍ، وهذا إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى، فإن كان في المعنى، فإما أن يكون بين وجودٍ وعدمٍ، أو بين وجودين، إذ الأعدام المحضة لا تقابل بينها".
شخصه كاللحية للرجل، وأما العدم المقابل لها فهو ارتفاع هذه الملكة
(1)
.
ولما لم يكن ملكة البصر بالتفسير المذكور ثابتة للحجر، لا يقال له: أعمى ولا بصير، ومن خواص هذا التقابل جواز انقلاب الملكة إلى العدم ولا عكس.
فإن أُريد بالتقابل ها هنا تقابل التناقض بالسلب والإيجاب، وهو أنه لا يخلو من كونه سميعاً وبصيراً ومتكلماً أو ليس، فهو ما يقوله الخصم، ولا يقبل نفيه من غير دليل
(2)
.
وإن أُريد بالتقابل تقابل المتضايفين فهو غير متحقق ها هنا، ومع كونه غير متحقق فلا يلزم من نفي أحد المتضايفين ثبوت الآخر، بل ربما انتفيا معاً، ولهذا يقال: زيدٌ ليس بأبٍ لعمرو ولا بابنٍ له أيضاً.
وإن أُريد بالتقابل تقابل الضدين، فإنما يلزم أن لو كان واجب الوجود قابلاً لتوارد الأضداد عليه وهو غير مسلَّمٍ
(3)
، وإن كان قابلاً فلا يلزم من نفي أحد الضدين وجود الآخر؛ لجواز اجتماعهما في العدم، ووجود واسطةٍ بينهما، ولهذا يصح أن يقال: الباري تعالى ليس بأسود ولا أبيض
(4)
.
(1)
في غاية المرام ص (51): " والمراد بالملكة هاهنا: كل قوةٍ على شيءٍ ما مستحقةٍ لما قامت به، إما لذاته أو لذاتي له، وذلك كما في قوة السمع والبصر ونحوه للحيوان، والمراد بالعدم هو رفع هذه القوة على وجه لا تعود، وسواء كان في وقت إمكان القوى عليه أو قبله، وذلك كما في العمى والطرش ونحوه للحيوان ".
(2)
في غاية المرام ص (51): " فعلى هذا إن أريد بالتقابل هاهنا، تقابل السلب والإيجاب في اللفظ، حتى إذا لم يقل: إن الباري ذو سمع وبصر لزم أن يقال: إنه ليس بذي سمع ولا بصر، فهو ما يقوله الخصم، ولا يقبل بعينه من غير دليل ".
(3)
في غاية المرام ص (51): " وذلك مما لا يسلمه الخصم وليس عليه دليل ".
(4)
في غاية المرام ص (51): "ولهذا يصح أن يقال إن الباري تعالى ليس بأسود ولا أبيض ولو لزم من نفي أحد الضدين وجود الآخر لما صدق قولنا بالنفي فيهما".
وإن أُريد بالتقابل تقابل العدم والملكة، فلا يلزم أيضاً من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس، إلا في محلٍ يكون قابلاً لهما، ولهذا يصح أن يقال: الحجر لا أعمى ولا بصير.
والقول بكون الباري تعالى قابلاً للبصر والعمى دعوى محل النزاع والصادرة
على المطلوب، وعلى هذا فقد امتنع لزوم العمى والخرس والطرش في حق الله تعالى، من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام
(1)
(2)
اهـ.
والرد على زعم المخالف سيأتي في كلام المصنف التالي:
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فقالوا
(3)
: «القول بأنه لو لم يكن متصفا بهذه الصفات، كالسمع والبصر والكلام، مع كونه حيًّا لكان متصفا بما يقابلها.
فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلَيْن وبيان أقسامهما.
(1)
في غاية المرام ص (51): "نعم إنما يلزم العدم المذكور من ارتفاع القوة الممكنة للشيء المستحقة له لذاته أو لذاتي له كما بيّنا، والقول بارتفاع مثل هذه القوة في حق الباري يجر إلى دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب وهو غير معقول".
(2)
هذا النقل كما سبق بيانه هو من: أبكار الأفكار (1/ لوحة 56)، وانظر: غاية المرام في علم الكلام
ص (50 - 51)، درء تعارض العقل والنقل (4/ 34 - 36).
وللتوسع ومعرفة اختلاف النظار في أنواع التقابل انظر: الإشارات والتنبيهات (1/ 133، 343 - 344)، شرح المواقف (4/ 30 - 33، 86 - 102، 5/ 298 - 299)، الكليات ص (311)، موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب ص (212 - 214، 517 - 518)، التحفة المهدية ص (94)، الأجوبة المرضية لتقريب التدمرية ص (81 - 83).
(3)
من هنا يبدأ نقل الإمام ابن تيمية لكلام الآمدي وبالرجوع إلى أصل كلام الأمدي في كتابه أبكار الأفكار يتضح أن هناك سقط في نقل كلام الآمدي مما يحتاج معه لإكمال النقل قبل الشروع في شرح المتن. انظر: كتاب أبكار الأفكار 1/ 190 - 192.
فنقول: أما المتقابلان فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، أو يصح ذلك في أحد الطرفين.
فالأول: هما المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهو تقابل التناقض، والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما كقولنا: زيد حيوان، زيد ليس بحيوان، ومن خاصيته استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب، وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر
…
"
تتمة لكلام الآمدي
[والثاني: فلا يخلو: إما أن يتحافظا، أو لا يتحافظا.
فإن تحافظا: فهما المتقابلان بالتضايف: وهما اللذان لا تعقل لكل واحد منهما إلا مع تعقل الآخر كقولنا: زيد أب، زيد ابن. وخاصيته توقف كل واحد من طرفيه على الآخر في الفهم.
وإن لم يتحافظا: فإما أن يسد كل واحد منهما الآخر، أو لا يسد.
فإن كان الأول: فهما المتقابلان بالتضاد.
والمتضادان كل أمرين يتصور اجتماعهما في الكذب دون الصدق، وسد كل واحد منهما الآخر. وسواء كانا وجودين: كالسواد، والبياض. أو وجود، وعدم: كالزوجية، والفردية.
ومن خواصه جواز استحالة كل واحد من طرفيه إلى الآخر في بعض صوره، وجواز وجود واسطة بين الطرفين تمر عليه الاستحالة من أحد الطرفين إلى الآخر: كالصفرة، والحمرة بين السواد، والبياض.
وإن كان لا يسد كل واحد منهما الآخر: فهو تقابل العدم والملكة.
أما الملكة بالمعنى الخاص: فهو معني وجودي أمكن أن يكون ثابتا للشيء. إما بحق جنسه: كالبصر للإنسان، أو بحق نوعه: ككتابة زيد، أو بحق شخصه: كاللحية للرجل.
وأما العدم المقابل لها: فهو ارتفاع هذه الملكة. وسواء كان ذلك في وقت الإمكان: كالأمية بعد البلوغ، أو قبله: كعدم الكتابة في حال الصغر.
وسواء كان مما يزول: كالمرودة، أو لا يزول: كالعمى
ولما لم تكن ملكة البصر بالتفسير المذكور ثابتة للحجر، لا يقال له أعمى ولا بصير. ومن خواص هذا التقابل: جواز انقلاب الملكة إلى العدم، ولا عكس.
وعلى هذا إن أريد التقابل ههنا تقابل التناقض بالسلب والإيجاب: وهو أنه لا يخلو من كونه سميعا، وبصيرا، ومتكلما، أو ليس؛ فهو ما يقوله الخصم، ولا يقبل نفيه من غير دليل.
وإن أريد بالتقابل تقابل المتضايفين: فهو غير متحقق بين البصر، والعمي، والسمع، والطرش، ونحوه.
ثم وإن كان من قبيل تقابل التضايف؛ فلا يلزم من نفي أحد المتضايفين؛ ثبوت الآخر؛ بل ربما انتفيا معا.
وإن أريد بالتقابل تقابل الضدين: فإنما يلزم أن لو كان واجب الوجود قابلا لتوارد الأضداد عليه؛ وهو غير مسلم. وإن كان قابلا فلا يلزم من نفي أحد الضدين وجود الآخر؛ لجواز اجتماعهما في العدم، ووجود واسطة بينهما. ولهذا يصح أن يقال: الباري - تعالى - ليس بأسود، ولا أبيض.
وإن أريد بالتقابل تقابل العدم، والملكة: فلا يلزم أيضا من نفي الملكة تحقق العدم، ولا بالعكس؛ إلا في محل يكون قابلا لهما؛ ولهذا يصح أن يقال: الحجر لا أعمى، ولا بصير. والقول بكون الباري تعالي قابلا للبصر والعمي؛ دعوى محل النزاع، والمصادرة على المطلوب.
وعلى هذا: فقد امتنع لزوم العمي، والخرس، والطرش في حق الله تعالى، من ضرورة نفي البصر، والسمع، والكلام عنه
(1)
.
(1)
نقلًا من كتاب أبكار الأفكار 1/ 190 - 192.
تتمة لبداية رد ابن تيمية لكلام الأمدي
[والرد عليهم من وجوه:
الوجه الأول - أن هذا التقسيم غير حاصر، فإنه يقال للموجود: إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه، وهذان - الوجوب والإمكان - لا يجتمعان في شيء واحد
…
[من جهة واحدة، ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، إذ كون الموجود واجبا بنفسه وممكنا بنفسه لا يجتمعان ولا يرتفعان.
فإذا جعلتم هذا التقسيم، وهما النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان، فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وليس هما السلب والإيجاب، فلا يصح حصر النقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان في السلب والإيجاب.
وحينئذ فقد ثبت وصفان: شيئان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهو خارج عن الأقسام الأربعة.
وعلى هذا فمن جعل الموت معنى وجوديا فقد يقول: إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت هو من هذا الباب. وكذلك العلم والجهل، والصمم، والبكم، ونحو ذلك.
الوجه الثاني- أن يقال: هذا التقسيم يتداخل، فإن العدم والملكة يدخل في السلب والإيجاب، وغايته أنه نوع منه، والمتضايفان يدخلان في المتضادين، وإنما هو نوع منه.
فإن قال: أعني بالسلب والإيجاب ما لا يدخل فيه العدم والملكة، وهو أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له، ولهذا جعل من خواصه أنه لا استحالة لأحد طرفيه إلى الآخر.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما- أن غاية هذا أن السلب ينقسم إلى نوعين:
أحدهما: سلب ما يمكن اتصاف الشيء به.
والثاني: سلب ما لا يمكن اتصافه به.
ويقابل الأول إثبات ما يمكن اتصافه ولا يجب.
والثاني إثبات ما يجب اتصافه به.
فيكون المراد به سلب الممتنع وإثبات الواجب، كقولنا: زيد حيوان، فإن هذا إثبات واجب، وزيد ليس بحجر، فإن هذا سلب ممتنع.
وعلى هذا التقدير، فالممكنات التي تقبل الوجود والعدم، كقولنا: المثلث إما موجود وإما معدوم، يكون من قسم العدم والملكة، وليس كذلك، فإن ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد عن المتقابلين جميعا، ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم.
وأيضا فإنه على هذا التقدير، فصفات الرب كلها واجبة له، فإذا قيل: إما أن يكون حيا أو عليما أو سميعا أو بصيرا أو متكلما، أو لا يكون- كان مثل قولنا: إما أن يكون موجودا وإما أن لا يكون، وهذا متقابل تقابل السلب والإيجاب، فيكون الآخر مثله، وبهذا يحصل المقصود.
فإن قيل: هذا لا يصح حتى يُعلم إمكان قبوله لهذه الصفات.
قيل له: هذا إنما اشتُرِط فيما أمكن أن يثبت له ويزول كالحيوان، فأما الرب تعالى فإنه بتقدير ثبوتها له فهي واجبة ضرورة أنه لا يمكن اتصافه بها وبعدمها باتفاق العقلاء، فإن ذلك يوجب أن يكون تارة حيا وتارة ميتا، وتارة أصم وتارة سميعا، وهذا يوجب اتصافه بالنقائص، وذلك منتف قطعا.
بخلاف من نفاها، وقال: إن نفيها ليس بنقص، لظنه أنه لا يقبل الاتصاف بها، فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقول: إنه مع إمكان الاتصاف بها لا يكون نفيها نقصا. فإن فساد هذا معلوم بالضرورة. وقيل له أيضا: أنت في تقابل السلب والإيجاب، إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين لم يصح أن تقول: واجب الوجود إما موجود وإما معدوم، والممتنع الوجود إما موجود وإما معدوم، لأن أحد الطرفين هنا معلوم الوجود، والآخر معلوم الامتناع.
وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما صح أن تقول: إما أن يكون حيا وإما أن لا يكون، وإما أن يكون سميعا بصيرا وإما أن لا يكون، لأن النفي إن كان ممكنا صح التقسيم، وإن كان ممتنعا كان الإثبات واجبا، وحصل المقصود.
فإن قيل: هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب ونحن نسلم ذلك، كما ذكر في الاعتراض، لكن غايته أنه إما سميع وإما ليس بسميع، وإما بصير وإما ليس ببصير، والمنازع يختار النفي.
فيقال له: على هذا التقدير فالمثبَت واجب، والمسلوب ممتنع، فإما أن تكون هذه الصفات واجبة له، وإما أن تكون ممتنعة عليه، والقول بالامتناع لا وجه له إذ لا دليل عليه بوجه.
بل قد يقال: نحن نعلم بالاضطرار بطلان الامتناع، فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك إلا بما يستدل به على إبطال أصل الصفات، وقد علم فساد ذلك، وحينئذ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له.
واعلم أن هذا يمكن أن يُجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له، فإنها إما واجبة له، وإما ممتنعة عليه، والثاني باطل فتعيَّن الأول، لأن كونه قابلا لها خاليا عنها يقتضي أن يكون ممكنا، وذلك ممتنع في حقه، وهذه طريقة معروفة لمن سلكها
من النظار.
الجواب الثاني- أن يقال: فعلى هذا إذا قلنا: زيد إما عاقل وإما غير عاقل، وإما عالم وإما ليس بعالم، وإما حي وإما غير حي، وإما ناطق وإما غير ناطق، وأمثال ذلك مما فيه سلب الصفة عن محل قابل لها، لم يكن هذا داخلا في قسم تقابل السلب والإيجاب.
ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة، وخلاف اتفاق العقلاء، وخلاف ما ذكروه في المنطق وغيره.
ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فلا يجتمعان في الصدق والكذب، فهذه شروط التناقض موجودة فيها.
وغاية فرقهم أن يقولوا: إذا قلنا: هو إما بصير وإما ليس ببصير، كان إيجابا وسلبا، وإذا قلنا: إما بصير وإما أعمى، كان ملكة وعدما.
وهذا منازعة لفظية، وإلا فالمعنى في الموضعين سواء، فعلم أن ذلك نوع من تقابل السلب والإيجاب، وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل: إنه لا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر، فإن الاستحالة هنا ممكنة كإمكانها إذا عبر بلفظ «العمى» .
الشرح
يمكن تلخيص جواب ابن تيمية على مسألة التقابل في جانبين:
الجانب الأول: الجانب اللغوي.
قال ابن تيمية: "هذا اصطلاح لكم، وإلا فاللغة العربية لا فرق فيها، والمعاني
العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات"
(1)
.
وقال أيضًا: "لفظ التنافي والتضاد والتناقض والتعارض ألفاظ (متقاربة) في أصل اللغة، وإن كانت تختلف فيها الاصطلاحات، فكل مضاد فهو مستلزم للتناقض اللغوي.
ولهذا يسمي أهل اللغة أحد الضدين نقيض الآخر، وكل تعارض فهو مستلزم للتناقض اللغوي، لأن أحد الضدين ينقض الآخر، أي يلزم من ثبوته عدم الآخر، كما يلزم من ثبوت السواد انتفاء البياض.
وأما أهل اللغة فالنقيضان عندهم أعم من هذا كله، كالمتنافيين، فكل ما نفى أحدهما الآخر فقد نقضه وأزاله وأبطله، فيسمونه نقيضه"
(2)
.
وقال أيضًا: "والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، فكيف يمكن أن يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين، أو متضادين؟
ولفظ التنافي والتضاد والتناقض والتعارض ألفاظ (متقاربة) في أصل اللغة، وإن كانت تختلف فيها الاصطلاحات، فكل مضاد فهو مستلزم للتناقض اللغوي.
ولهذا يسمي أهل اللغة أحد الضدين نقيض الآخر، وكل تعارض فهو مستلزم للتناقض اللغوي، لأن أحد الضدين ينقض الآخر، أي يلزم من ثبوته عدم الآخر، كما يلزم من ثبوت السواد انتفاء البياض
(3)
.
وقال أيضًا: "وأما أهل اللغة فالنقيضان عندهم أعم من هذا كله، كالمتنافيين،
(1)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 221 - 224.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 272 - 277.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 272 - 277
فكل ما نفى أحدهما الآخر فقد نقضه وأزاله وأبطله، فيسمونه نقيضه"
(1)
.
الجانب الثاني: الجانب الاصطلاحي.
أولًا: أن أهل الاصطلاح ليسوا على قول واحد في تعريف النقيضين.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والنقيضان: في اصطلاح كثير من أهل النظر هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان.
والضدان: لا يجتمعان لكن قد يرتفعان.
وفي اصطلاح آخرين منهم هما: النفي والإثبات فقط، كقولك، إما أن يكون، وإما أن لا يكون.
ولهذا يقولون: التناقض: اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب، على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى.
فالتناقض في عرف أولئك أعم منه في عرف هؤلاء، فإن ما لا يجتمعان ولا يرتفعان قد يكونان ثبوتيين، وقد يكونان عدميين، وقد يكونان ثبوتاً وانتفاءً، ولو كان أحدهما وجوداً والآخر عدماً، فقد يعبر عنهما بصيغة الإثبات التي لا تدل بنفسها على التناقض الخاص، كما إذا قيل للموجود: إما أن يكون قائماً بنفسه، وإما أن يكون قائماً بغيره، وإما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً بنفسه، وإما أن يكون قديماً، وإما أن يكون محدثاً، ونحو ذلك.
فمن المعلوم أن تقسم الموجود إلى قائم بنفسه وغيره، وواجب وممكن، وقديم ومحدث، تقسيم حاصر كتقسيم المعلوم إلى الثابت والمنفي.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 272 - 277
وهذان القسمان لا يجتمعان ولا يرتفعان كما أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان.
(1)
"
ثانيًا: لما أراد المخالف التفريق بين نوعين من المتقابلين وهما:
تقابل (تقابل النقيضين) أو ما يسمى كذلك تقابل السلب والإيجاب وأن هذا النوع -كما تقدم تعريفه- هو تقابل أمرين وجودي وعدمي، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، ولا واسطة بينهما.
وأن هناك (تقابل العدم والملكة): وهما «أمران وجودي وعدمي لا يجتمعان ويجوز أن يرتفعا في موضع لا تصح فيه الملكة»
والفرق بينهما: أن النقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، وأما في تقابل العدم والملكة فهما يرتفعان. وإن كان يمتنع اجتماعهما.
واعترض على هذا الفرق بأنه للتشابه القريب بين تقابل الملكة وعدمها من جهة، وبين تقابل الضدين من جهة أخرى، جعل بعض كتب المنطق لا تعدها ضمن التقابل، إذ نجد تقابل الملكة هي تقابلات أضداد، في حين أن الذين ميزوا تقابل الضدين عن تقابل الملكة عللوا بالقول:
1 -
أن تعقل أحد الضدين لا يجب أن يتوقف على الآخر عكس تقابل الملكة. 2 - كما أن تقابل الملكة وعدمها لا يفترض لهما ثالث عكس الضدين اللذين قد يكون لهما ثالث: فالنعومة والخشونة قد ترتفعا معا بحيث يكون الموضع أملس مثلا .. وهكذا.
واعتراض هؤلاء يتمثل بأنه يمتنع نفي النقيضين عن الشيء الذي يكون قابلًا لهذين النقيضين أن يرتفع عنه أحدهما فيمتنع الآخر، فهذا الجدار لا يصدق عليه أنه
(1)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 272 - 277
مبصر أو أعمى، أو أنه حي أو ميت، وكلاهما نقيضان، لكنه ليس بقابل لهما أصلًا. فهم عدوا أن التقابل هنا هو من تقابل العدم والملكة.
والجواب على هذا الاعتراض بعدة أجوبة:
أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب، باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر".
فيرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن التقابل هنا هو من باب تقابل السلب والإبجاب-كما تقدم تعريفه-هو تقابل أمرين وجودي وعدمي، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، ولا واسطة بينهما، ولذلك عبر المصنف بقوله:"فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر" وليس من تقابل العدم والملكة. والفرق بينهما: أن النقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، وأما في تقابل العدم والملكة فهما يرتفعان. وإن كان يمتنع اجتماعهما.
ثانيًا: "أن ما ذكره هؤلاء في الحياة والموت، والعلم والجهل، هذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ • أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل الآيات: 20 - 21 [فسمى الجماد ميتًا، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم".
ثالثًا: وأما الاعتراض بعدم وصف الجدار بالحياة والموت ونحو ذلك، فيمكن أن يجاب عليه بأن القول بتقابل العدم والملكة هو اصطلاح اصطلحه أهل المنطق، وإلا فكل ما لا حياة فيه يسمى مواتًا.
قال الله تعالى: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون. أموات غير أحياء)] النحل الآيات: 20، 21]. فسمى الأصنام الجامدات
أمواتًا، وتسمى الأرض مواتًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له))
(1)
.
وعليه يمكن أن يقال: كل عين من الأعيان تقبل الحياة، فإن الله قادر على خلق الحياة وتوابعها في كل شيء"
(2)
.
وقال أيضًا: "لا نسلم أن في الأعيان ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم، وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات.
وقد قال تعالى {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون * أموات غير أحياء} [النحل الآيات: 20، 21].
وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة وإلا فمن كان مصدقاً بأن الله قلب عصا موسى وهي جماد ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصي لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى.
وإذا كان سبحانه قادراً على أن يثبت هذه الصفات صفات الكمال لما كان جماداً من مخلوقاته وكان كل مخلوق يقبل ذلك بقدرة الله تعالى فهو أحق بقبول ذلك، بل بوجود به له، إذ ما كان ممكناً في حقه من صفات الكمال كان واجباً، فإنه لا يستفيد صفات الكمال من غيره بل هو مستحق لها بذاته فهي من لوازم ذاته. "
(3)
المتن
قال المصنف رحمه الله: "الوجه الثالث- أن يقال: التقسيم الحاصر أن يقال: المتقابلان إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب، وإما أن لا يختلفا بذلك، بل يكونان
(1)
أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم عن عمر في الحرث والمزارعة (5/ 23).
(2)
الرسالة الصفدية - قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة ص 69.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 4/ 38 - 42.
إيجابين أو سلبين.
فالأول: هو النقيضان.
والثاني: إما أن يمكن خلو المحل عنهما، وإما أن لا يمكن، والأول: هما الضدان كالسواد والبياض.
والثاني هما في معنى النقيضين وإن كانا ثبوتَين كالوجوب والإمكان، والحدوث والقدم، والقيام بالنفس والقيام بالغير، والمباينة والمجانبة، ونحو ذلك.
ومعلوم أن الحياة والموت، والصمم والبكم والسمع، ليس مما إذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما كالحمرة بين السواد والبياض، فعُلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما فإذا انتفى تعين الآخر".
الشرح
قال ابن تيمية: "أن يقال هب أنهما متقابلان تقابل العدم والملكة فقولكم لا يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلاً
جوابه أن يقال:
الموجودات نوعان:
• نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان.
• وصنف لا يقبل ذلك كالجماد.
ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما أكمل ممن لا يقبل واحداً منهما وإن كان موصوفاً بالعمى والصم والخرس فإن الحيوان الذي هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا، إذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال، وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال.
فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال، فلأن يقدس عن كونه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى. وهذا معلوم ببداهة العقول"
(1)
.
وقال أيضًا: "أن يقال: هب أنهما متقابلان تقابل العدم والملكة فقولكم لا يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلاً.
جوابه: أن يقال الموجودات نوعان:
نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان.
وصنف لا يقبل ذلك كالجماد.
ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما أكمل ممن لا يقبل واحداً منهما وإن كان موصوفاً بالعمى والصم والخرس فإن الحيوان الذي هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا، إذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال، وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال.
فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال، فلان يقدس عن كونه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى.
وهذا معلوم ببداهة العقول"
(2)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 4/ 38 - 42.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 4/ 34 - 40.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "الوجه الرابع- المحل الذي لا يقبل الاتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها، أنقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها، ولهذا كان الحجر ونحوه أنقص من الحي الأعمى.
وحينئذ فإذا كان البارئ منزها عن نفي هذه الصفات- مع قبوله لها- فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أَوْلَى وأحرى، إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين، واتصافه بالنقائص ممتنع، فيجب اتصافه بصفات الكمال، وبتقدير عدم قبوله لا يمكن اتصافه لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص، وهذا أشد امتناعا، فثبت أن اتصافه بذلك ممكن، وأنه واجب له، وهو المطلوب، وهذا في غاية الحسن".
الشرح
يشير المصنف رحمه الله هنا إلى إصل المسألة وهو هل كون الاتصاف بالصفات كمال أم نقص وهذا أصل النزاع بخلاف مسألة التقابل فهي مسألة عارضة، وهذه عادة المصنف في مناقشة هذا الموضوع في أكثر من كتاب من كتبه فهو أحيانًا يناقش أصل المسألة وأحيانًا يناقش الاعتراض الذي أورده المعارض في دعواه أن التقابل هنا هو من باب تقابل العدم والملكة وليس من تقابل السلب والإيجاب. فالمصنف يبين هنا أن مالا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال، والحي الجاهل الأعمى الأصم لقبوله للعلم والسمع والبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك ن فإذا كان يمتنع كون الواجب يقبل صفات الكمال
ولا يتصف بها، فلأن يمتنع كونه لا يقبلها بطريق الأولى"
(1)
وقال ابن تيمية في موضع آخر: "ما لا يقبل هذه الصفات كالجماد أنقص مما يقبلها ويتصف بالناقص منها، فالحي الأعمى أكمل من الجماد الذي لا يوصف ببصر ولا عمى، وهذا بعينه يقال فيما يقوم به من الأفعال ونحوها التي يقدر عليها ويشاؤها، فإنه لو لم يتصف بالقدرة على هذه الأفعال لزم اتصافه بالعجز عنها، وذلك نقص ممتنع كما تقدم، والقادر على الفعل والكلام أكمل من العاجز عن ذلك
(2)
.
وقال أيضًا: "أن ما لا يقبل صفات الكمال أنقص مما يقبلها ولم يتصف بها، فإن الجماد أنقص من الحيوان الأعمى والأصم والأبكم، فإذا كان اتصافه بصفات النقص، مع إمكان اتصافه بصفات الكمال، نقصاً وعيباً يجب تنزيهه عنه، فعدم قبوله لصفات الكمال أعظم نقصاً وعيباً.
ولهذا كان منتهى أمر هؤلاء تشبيهه بالجمادات ثم بالمعدومات، ثم بالممتنعات".
(3)
المتن
قال المصنف رحمه الله: "الوجه الخامس- أن يقال: أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت، فإن عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي، وهو أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج، كان هذا باطلا من وجهين:
أحدهما- أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لا حيّة ولا ميتة، ولا ناطقة ولا صامتة، وهو قولكم، لكن هذا اصطلاح محض، وإلا [فالعرب]
(1)
درء تعارض العقل والنقل 3/ 367 - 370.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 221 - 224.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 272 - 277.
يصفون هذه الجمادات بالموت والصمت.
وقد جاء القرآن بذلك، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ • أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، فهذا في الأصنام وهي من الجمادات، وقد وصفت بالموت.
والعرب تقسم الأرض إلى الحيوان والمَوَتان، قال أهل اللغة: المَوَتان، بالتحريك: خلاف الحيوان، يقال: اشْتَرِ المَوَتان ولا تَشْتَر الحيوان، أي: اشتر الأرضين والدّور، ولا تشتر الرقيق والدّواب. وقالوا أيضا: المَوَات: ما لا روح فيه. فإن قيل: فهذا إنما سمي مواتا باعتبار قبوله للحياة، التي هي إحياء الأرض.
قيل: وهذا يقتضي أن الحياة أعم من حياة الحيوان، وأن الجماد يوصف بالحياة إذا كان قابلا للزرع والعمارة.
والخرس ضد النطق، والعرب تقول: لبن أخرس، أي خاثر لا صوت له في الإناء، وسحابة خرساء، ليس فيها رعد ولا برق، وعَلَم أخرس، إذا لم يُسمع له في الجبل صوت صدى، ويقال: كتيبة خرساء، قال أبو عبيد: هي التي صمتت من كثرة الدروع ليس لها قعاقع.
وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت، فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه، بخلاف الخرس، فإنه عجز عن النطق، ومع هذا فالعرب تقول: ما له صامت ولا ناطق، فالصامت الذهب والفضة، والناطق الإبل والغنم، والصامت من اللبن: الخاثر، والصَمُوت: الدرع التي إذا صُبَّت لم يسمع لها صوت.
ويقولون: دابة عجماء، وخرساء، لما لا ينطق ولا يمكن منه النطق في العادة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(العجماء جبار).
وكذلك في العمى، تقول العرب: عَمَى الموجُ يَعْمِي عَمْيًا إذا رمى القذى والزَبَدَ، والأعميان: السيل والجمل الهائج، وعَمِيَ عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ} .
وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها: إنه عدم ما يقبل المحل الاتصاف به كالصوت، ولكن فيها ما لا يقبل كموت الأصنام.
الثاني- أن الجامدات يمكن اتصافها بذلك، فإن الله سبحانه قادر أن يخلق في الجمادات حياة، كما جعل عصى موسى حيّة تبلع الحبال والعصي. وإذا كان في إمكان العادات كان ذلك مما قد علم بالتواتر، وأنتم أيضا قائلون به في مواضع كثيرة.
وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة وتوابع الحياة ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك، فيكون الخالق أَوْلَى بهذا الإمكان.
وإن عنيتم الإمكان الذهني، وهو عدم العلم بالامتناع فهذا حاصل في حق الله، فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع والبصر والكلام.
الشرح
أي أن ما ذكروه من التفريق بين السلب والإيجاب، والعدم والملكة، بتسمية هذا ميتاً دون هذا، اصطلاح لهم لا يجب اتباعه والله قد سمى الجماد مواتاً في مثل قوله تعالى {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء} [النحل الآيات: 20، 21]. وفي قوله تعالى {وآية لهم الأرض الميتة} [يس الآية: 33 [وأمثال ذلك"
(1)
وقال ابن تيمية: أن يقال: هذا اصطلاح لكم، وإلا فما ليس بحي يسمى ميتًا، كما
(1)
درء تعارض العقل والنقل 3/ 367 - 370.
قال تعالى: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء} [النحل: 20 - 21]، وقال تعالى:{وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} [يس الآية: 33]، وقال:{اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها} [الحديد الآية: 17]
(1)
.
وقال أيضًا: "أن يقال لهؤلاء قولكم إن هذين يتقابلان تقابل العدم والملكة اصطلاح اصطلحتموه وإلا فكل ما لا حياة فيه يسمى مواتا وميتا قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل الآيات: 20، 21]. فسمى الأصنام الجامدات أمواتا وتسمى الأرض مواتا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضا ميتة فهي له)) "
(2)
.
وقال أيضًا: "نقول: لا نسلم أن في الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم، وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات.
وقد قال تعالى {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون * أموات غير أحياء} [النحل الآيات: 20، 21].
وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة وإلا فمن كان مصدقاً بأن الله قلب عصا موسى وهي جماد ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصي لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى.
وإذا كان سبحانه قادراً على أن يثبت هذه الصفات صفات الكمال لما كان جماداً من مخلوقاته وكان كل مخلوق يقبل ذلك بقدرة الله تعالى فهو أحق بقبول
(1)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 272 - 277.
(2)
الصفدية 1/ 88 - 99.
ذلك، بل بوجود به له، إذ ما كان ممكناً في حقه من صفات الكمال كان واجباً، فإنه لا يستفيد صفات الكمال من غيره بل هو مستحق لها بذاته فهي من لوازم ذاته"
(1)
.
وقال أيضًا: "أن يقال كل عين من الأعيان تقبل الحياة فإن الله قادر على خلق الحياة وتوابعها في كل شيء"
(2)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "الوجه السادس- أن يقال: هب أنه لا بد من العلم بالإمكان الخارجي، فإمكان الوصف للشيء يُعلم تارة بوجوده له، أو بوجوده لنظيره، أو بوجوده لما هو الشيء أَوْلَى بذلك منه".
الشرح
قال ابن تيمية: "والإنسان يعلم الإمكان الخارجي:
تارة بعلمه بوجود الشيء،
وتارة بعلمه بوجود نظيره،
وتارة تعلمه بوجود ما الشيء أولي بالوجود منه، فإن وجود الشيء دليل على أن ما هو دونه أولي بالإمكان منه، ثم إنه إذا تبين كون الشيء ممكناً فلا بد من بيان قدرة الرب عليه، وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه، إن لم يعلم قدرة الرب علي ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك:
قوله تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر الآية: 57] فإنه من
(1)
درء تعارض العقل والنقل 4/ 38 - 42.
(2)
الصفدية 1/ 88 - 99.
المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ، وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك. "
(1)
وقال أيضًا: "إن كل ما أمكن اتصاف الرب سبحانه فهو واجب له، لامتناع توقف شيء من صفاته على غيره"
(2)
وقال أيضًا: "أن يقال الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه الممكن للموجود إما أن يكون ممكنا للواجب، وإما أن يكون ممتنعا عليه فإن كان ممتنعا عليه لزم أن يكون الموجود غير قابل للكمال فإن الموجود إما واجب وإما ممكن والواجب إذا لم يقبل الكمال فالممكن أولى ونحن قد ذكرنا الكمال الممكن للموجود الذي لا نقص فيه فيمتنع أن يكون الكمال الممكن للموجود غير ممكن للموجود وإذا كان ذلك ممكنا له فإما أن يكون لازما أو يكون جائزا فإن كان لازما له ثبت أن الكمال الممكن للموجود لازم للقديم تعالى واجب له وهو المطلوب وإن كان جائزا كان مفتقرا في حصوله إلى غيره وحينئذ فذلك الغير أكمل منه لأن معطي الكمال أكمل من الآخذ له وذلك المعطي إن كان مخلوقا له لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق وأيضا فشرط إعطائه الكمال اتصافه بصفات الكمال والكمال إنما يستفيده من الكامل فيمتنع أن يكون معطيا له لئلا يلزم الدور في الفاعلين والعلل الفاعلة فإنه ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء
وإن كان الغير ليس مخلوقا له كان واجب الوجود بنفسه وحينئذ فإن كان متصفا بصفات الكمال بنفسه فهو الرب الخالق والأول مفعول له ليس له من نفسه صفات الكمال فهو عبد لا رب وإن لم يكن متصفا بصفات الكمال بنفسه بل هذا يستفيد الكمال من هذا وهذا يستفيده من هذا كان هذا دورا ممتنعا وهذا من أعظم ما يحتج به على توحيد
(1)
درء تعارض العقل والنقل 1/ 31.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 3/ 367 - 370.
الربوبية وأنه يمتنع أن يكون للعالم صانعان فإن الصانعين إما أن يكون كل منهما فاعلا لجميع العالم وهذا ممتنع بالضرورة فإنه إذا كان هذا فاعلا للجميع لم يكن الآخر فاعلا لشيء منه فضلا عن أن يكون فاعلا لجميعه فلو كان هذا فاعلا لجميعه وهذا فاعلا لجميعه كان كل منهما فاعلا غير فاعل وإن كانا متشاركين فإن كان كل منهما قادرا حين الانفراد لزم امتياز مفعول كل منهما عن الآخر فذهب كل إله بما خلق ولهذا كل مشاركين فلا بد أن يكون فعل كل منهما مميزا عن الآخر وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا لزم أن يقدر أحدهما على فعل العالم حين قدرة الآخرة عليه فيلزم كون كل منهما قادرا على فعله كله حال قدرة الآخر على فعله كله وهذا ممتنع كما تقدم فامتنع أن يكون أحدهما قادرا على فعله حال قدرة الآخر على فعله كما هو المعروف في القادرين على تحريك شيء ولا يقدر أحدهما على تحريكه إلا حال ما لا يكون الآخر محركا له فإذن لا يكون أحدهما قادرا إلا عند تمكين الآخر له فلا يكون أحدهما قادرا إلا بأقدار الآخر له فلا يكون قادرا حال الانفراد وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا حال الانفراد أمكن أن يفعل ضد مفعول الآخر وأن يريد خلاف مراده مثل أن يريد هذا تحريك جسم والآخر تسكينه فيمتنع وجود المرادين جميعا لامتناع اجتماع الضدين فيلزم تمانعهما فلا يكون واحد منهما قادرا فثبت أنه يمتنع كون كل منهما قادرا حين الانفراد وإن لم يكن واحد منهما قادرا إلا عند الاجتماع كان كل منهما مؤثرا في جعل الآخر قادرا فلا يكون هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له ولا هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له فيلزم كون كل منهما مؤثرا في الآخر وهذا هو الدور في الفاعلين والعلل وهو ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه كثيرة فإن كون الشيء فاعلا لنفسه ممتنع فكيف يكون فاعلا لفاعله ولأن الفاعل متقدم بذاته على المفعول فيلزم تقدم هذا بذاته على هذا وهذا بذاته على هذا فيلزم تقدم الشيء على نفسه بدرجتين والدور كما هو ممتنع في المؤثر فهو ممتنع في تمام كونه مؤثرا
كما أن التسلسل لما امتنع في المؤثر امتنع في تمام كونه مؤثرًا
وهذا بخلاف الدور المعي في الآثار فإنه جائز باتفاق العقلاء، وأما التسلسل في الآثار ففيه نزاع مشهور، وهذه الأمور كلها مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن الكمال الذي لا نقص فيه الممكن للموجود هو واجب لواجب الوجود لازم له لا يجوز أن يكون ممتنعا عليه مع كونه ممكنا للموجود، فلا يجوز أن يكون ممكن الوجود والعدم لأنه حينئذ يفتقر في اتصافه به إلى غيره لأنه إما أن يكون كل منهما معطيًا للآخر الكمال، وإما أن يكون هذا الثاني هو المعطي، فإن كان هذا فذلك الغير المتصف بصفات الكمال هو حينئذ الرب الكامل المعطي لغيره الكمال، وإن كان الأول لزم كون كل منهما معطيا للآخر صفات الكمال وهو يقتضي كون كل منهما مؤثرا في الآخر مثل أن يكون كل منهما فاعلًا للآخر عالما قادرًا حيًا وذلك دور ممتنع كما تبين فثبت أن اتصافه بصفات الكمال أمر لازم له يمتنع زواله عنه وهو المطلوب"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ومعلوم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ثابتة للموجودات المخلوقة، وممكنة لها، فإمكانها للخالق تعالى أَوْلَى وأحرى، فإنها صفات كمال، وهو قابل للاتصاف بالصفات، وإذا كانت ممكنة في حقه فلو لم يتصف بها لاتصف بأضدادها".
الشرح
استعمل المصنف هنا قياس الأولى واستخدام هذا الدليل يكون في جانبين
(1)
الصفدية 1/ 88 - 99.
الجانب الأول: في جانب إثبات الكمال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً: ((فكل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أحق به من وجهين:
أحدهما: أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم أكمل من المخلوق القابل للعدم المحدث المربوب.
الثاني: أن كل كمال فيه فإنما استفاده من ربه وخالقه؛ فإذا كان هو مبدعاً للكمال، وخالقاً له، كان من المعلوم بالاضطرار أن معطي الكمال وخالقه ومبدعه أولى بأن يكون متصفاً به من المستفيد المبدع المعطي))
(1)
.
والجانب الثاني: في جانب نفي النقص.
ويقال أيضاً في الأولوية في جانب النقص، أنها من وجهين:
الأول: أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم منزه عن النقائص والعيوب.
الثاني: أن كل نقص تنزه عنه المخلوق المربوب فإنما نزَّهَهُ عنه ربه وخالقه، فإذا كان الله عز وجل هو المُنَزِّهُ غيره عن النقص، كان معلوماً بالاضطرار أن الذي ينزه غيره عن النقائص أولى بالتنزه عنها من غيره.
وهناك احتراز مهم في هذه القاعدة إن هذه القاعدة التي يذكرها أهل العلم، لا بد فيها من مراعاة مفهوم النقص في حق الله عز وجل، الذي يجب أن ينزه عنه؛ لأن هناك أمور هي نقص في حق المخلوق، ولكنها كمالٌ في حق الخالق، ومن ذلك:
الكبرياء والعظمة، فإنها نقص في حق المخلوق لكنها كمال في حق الخالق، فإن الله عز وجل يسمى بالمتكبر، ويوصف بالكبرياء، قال تعالى: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
(1)
شرح العقيدة الأصفهانية ص (117 - 118).
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:((العِزُّ إِزَارُهُ، وَالكِّبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ))
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((
…
فاحترازٌ عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصاً، كالأكل والشرب مثلاً، فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان، أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل والشرب؛ لأن قوامه بالأكل والشرب، فإذا قُدِّرَ غير قابلٍ له، كان ناقصاً عن القابل لهذا الكمال، لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره، وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب، وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات، وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه، أكمل ممن يحتاج إلى دخول شيء فيه، وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج
في كماله إلى غيره؛ فإن الغني عن شيء أعلى من الغني به، والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره.
ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق وهو نقص بالنسبة إلى الخالق، وهو كل ما كان مستلزماً لإمكان العدم عليه، المنافي لوجوبه وقيوميته، أو مستلزماً للحدوث المنافي لقدمه، أو مستلزماً لفقره المنافي لغناه))
(3)
.
وقال في موضع آخر: ((إن الذي يستحقه الرب هو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأنه الكمال الممكن للموجود، ومثل هذا لا ينتفي عن الله أصلاً، والكمال النسبي، هو المستلزم للنقص، فيكون كمالاً، من وجه دون وجه، كالأكل للجائع كمالٌ له، وللشبعان نقص فيه، لأنه ليس بكمال محض، بل هو مقرون بالنقص.
(1)
الآية [23] من سورة الحشر.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (16/ 389 مع النووي)، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكبر، برقم (6623).
(3)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 240).
والتعالي والتكبر والثناء على النفس، وأمر الناس بعبادته ودعائه والرغبة إليه، ونحو ذلك، مما هو من خصائص الربوبية، هذا كمال محمود من الرب تبارك وتعالى، وهو نقص مذموم من المخلوق))
(1)
.
((فالكبرياء والعظمة له، بمنزلة كونه حياً قيوماً قديماً واجباً بنفسه، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه العزيز الذي لا ينال، وأنه قهار لكل ما سواه.
فهذه كلها صفات كمال لا يستحقها إلا هو، فما لا يستحقه إلا هو، كيف يكون كمالاً من غيره وهو معدوم لغيره؟ فمن ادعاه كان مفترياً منازعاً للربوبية في خواصِّها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: العَظَمَةُ إِزَارِي، وَالكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مِنْهُمَا عَذَبْتُهُ))
(2)
، وجملة ذلك أن الكمال المختص بالربوبية ليس لغيره فيه نصيب، فهذا تحقيق اتصافه بالكمال الذي لا نصيب لغيره فيه، ومثل هذا الكمال لا يكون لغيره، فادعاؤه منازعة للربوبية، وفرية على الله))
(3)
.
فهذا القيد مهم جداً في تطبيق هذه القاعدة وفهمها، واحتراز بالغ الأهمية تجب مراعاته والاعتناء بفهمه ودركه؛ لئلا ينسب إلى الله عز وجل شيء من النقص الذي يتنزه عنه.
وقال أيضًا: "إن كل صفة من صفات الكمال إذا لم تستلزم نقصاً فالواجب أولى بها من الممكن، واتصافه بها أولى من الممكن لأنه أكمل، ولأن كل كمال حصل
(1)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 239).
(2)
أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود في سننه (4/ 226 - 227)، كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، برقم (4090)، وابن ماجه في سننه (4/ 457)، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر، والتواضع، برقم (4174).
(3)
تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 240).
للممكن فهو من الواجب، وهم يسلمون أن كل كمال حصل للمعلوم فهو من علته، فالمعلول أولى بذلك"
(1)
.
وقال أيضًا: "أن يقال كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه، لأن الموجود الواجب القديم أكمل من الموجود الممكن والمحدث ولأن كل كمال في المفعول المخلوق هو من الفاعل الخالق وهم يقولون: كمال المعلول من كمال العلة فيمتنع وجود كمال في المخلوق إلا من الخالق فالخالق أحق بذلك الكمال.
ومن المعلوم بضرورة العقل أن المعدوم لا يبدع موجودا والناقص لا يبدع ما هو أكمل منه فإن النقص أمور عدمية ولهذا لا يوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورا وجودية وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه كما قال تعالى {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة الآية: 255 [فنزه نفسه عن السنة والنوم لأن ذلك يتضمن كمال الحياة والقيومية وكذلك قوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق الآية: 38]، يتضمن كمال القدرة وقوله {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ الآية: 3 [يتضمن كمال العلم وكذلك قوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام الآية: 103]، فمعناه على قول الجمهور لا تحيط به ليس معناه لا تراه فإن نفي الرؤية يشاركه فيه المعدوم فليس هو صفة مدح بخلاف كونه لا يحاط به ولا يدرك فإن هذا يقتضي أنه من عظمته لا تدركه الأبصار وذلك يقتضي كمالا عظيما تعجز معه الأبصار عن الإحاطة فالآية دالة على إثبات رؤيته ونفي الإحاطة به نقيض ما تظنه الجهمية من أنها دالة على نفي رؤيته"
(2)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 3/ 367 - 370.
(2)
الصفدية 1/ 88 - 99.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "الوجه السابع- أن يقال: مجرد سلب هذه الصفات نقص لذاته، سواء سميت عمى وصممًا وبكمًا، أو لم تُسَمَّ، والعلم بذلك ضروري، فإنا إذا قدرنا موجودَين:
أحدهما: يسمع ويبصر ويتكلم.
والآخر: ليس كذلك.
كان الأول أكمل من الثاني.
ولهذا عاب الله سبحانه من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات، فقال تعالى عن إبراهيم الخليل:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم الآية: 42]، وقال أيضا في قصته:{فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء الآية: 63]، وقال تعالى عنه:{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ • أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ • قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ • قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ • أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ • فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء الآيات: 72 - 77].
وكذلك في قصة موسى في العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف الآية: 148]، وقال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل الآية: 76]، فقابل بين الأبكم العاجز وبين الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم".
الشرح
قال ابن تيمية: "أن نفي هذه الصفات نقص، وإن لم يسم جهلاً وصماً
وبكماً"
(1)
.
وقال أيضًا: "إن نفس عدم الحياة والعلم والقدرة نقص لكل ما عدم عنه ذلك، سواء فرض قابلاً أو غير قابل، بل ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله، كما أن نفس الحياة والعلم والقدرة صفات كمال فنفس وجود هذه الصفات كمال، ونفس عدمها نقص، سواء سمي موتاً وجهلاً وعجزاً أو لم يسم، وكذلك السمع والبصر والكلام كمال، وعدم ذلك نقص
(2)
.
وقال أيضًا: "فإذا قال النافي: (إنما يلزم اتصافه بنقيض ذلك لو كان قيام الأفعال به ممكناً، فأما ما لا يقبل لك كالجدار فلا يقال: هو قادر على الحركة ولا عاجز عنها).
فيقال: هذا نزاع لفظي كما تقدم، ويقال أيضاً: فما لا يقبل قيام الأفعال الاختيارية به والقدرة عليها كالجماد أنقص مما يقبل ذلك كالحيوان، فالحيوان الذي يقبل أن يتحرك بقدرته وإرادته إذا قدر عجزه هو أكمل مما لا يقبل الاتصاف بذلك كالجماد، فإذا وصفتموه بعدم قبول ذلك كان ذلك أنقص من أن تصفوه بالعجز عن ذلك، وإذا كان وصفه بالعجز عن ذلك صفة نقص، مع إمكان اتصافه بالقدرة على ذلك، فوصفه بعدم قبول الأفعال والقدرة عليها أعظم نقصاً
(3)
.
وقال أيضًا: أن يقال هب أنكم لا تسمونه ميتا ولا جاهلا ولا عاجزا لكن يجب أن يقال ليس بحي ولا عالم ولا قادر ونفس سلب هذه الصفات فيه من النقص ما في قولنا ميت وجاهل وعاجز وزيادة ولهذا كان نقص الجماد أعظم من نقص الأعمى فكل محذور في عدم الملكة هو ثابت في السلب العام وزيادة"
(4)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 3/ 367 - 370.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 272 - 277.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 221 - 224.
(4)
الصفدية 1/ 88 - 99.
وأعطى المصنف عدة أمثلة تؤكد على أن اتصاف الله عز وجل بالصفات التي وصف بها نفسه هي صفات كمال له عز وجل على اعتبار أن الشيء إما أن يوصف بتلك الصفة وإما أن يوصف بضدها. ولا شك أن الله مستحق لأن يوصف بصفات الكمال وأن ينفى عنه أضدادها، وفي تقرير هذا الأمر يقول: "فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ وَحَوَادِثُ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفِعْلِ وَالْبَطْشِ.
وَالْآخَرُ: يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضُ وَحَوَادِثُ.
كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ كَمَا أَنَّ الْحَيَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ: أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادَاتِ. وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ "اثْنَانِ":
أَحَدُهُمَا: يُحِبُّ نُعُوتَ الْكَمَالِ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيَرْضَاهَا.
وَالْآخَرُ: لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ؛ فَلَا يُحِبُّ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَرْضَى لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَفْرَحُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا.
كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُقْسِطِينَ وَيَرْضَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ.
وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ اثْنَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِبَعْضِ الْمُتَّصِفِ بِضِدِّ الْكَمَالِ كَالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
وَالْآخَرُ: لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْجَاهِلِ الْكَاذِبِ الظَّالِمِ وَبَيْنَ الْعَالِمِ الصَّادِقِ الْعَادِلِ لَا يُبْغِضُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَغْضَبُ لَا عَلَى هَذَا وَلَا عَلَى هَذَا.
كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ.
وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ اثْنَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِيَدَيْهِ وَيُقْبِلَ بِوَجْهِهِ.
وَالْآخَرُ: لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ: إمَّا لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ وَيَدَانِ وَإِمَّا لِامْتِنَاعِ الْفِعْلِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ.
كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ. فَالْوَجْهُ وَالْيَدَانِ: لَا يُعَدَّانِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَوَجْهُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ مَا يُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ مَمْدُوحٌ بِهِ لَا مَذْمُومٌ كَوَجْهِ النَّهَارِ وَوَجْهِ الثَّوْبِ وَوَجْهِ الْقَوْمِ وَوَجْهِ الْخَيْلِ وَوَجْهِ الرَّأْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ الْوَجْهُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِهِ هُوَ نَفْسُ الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ قُدِّرَ الِاسْتِعْمَالُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِكَلَامِهِ أَوْ بِقُدْرَتِهِ بِدُونِ يَدَيْهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَفْعَلُ بِيَدَيْهِ. قِيلَ: مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ إذَا شَاءَ وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ: هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْيَدِ. وَلِهَذَا كَانَ "الْإِنْسَانُ" أَكْمَلَ مِنْ الْجَمَادَاتِ الَّتِي تَفْعَلُ بِقُوَى فِيهَا كَالنَّارِ وَالْمَاءِ
فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُوَّةِ فِيهِ.
وَالْآخَرُ: يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ فَهَذَا أَكْمَلُ.
فَإِذَا قُدِّرَ آخَرُ يَفْعَلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ فَهُوَ أَكْمَلُ وَأَكْمَلُ.
وَأَمَّا صِفَاتُ النَّقْصِ:
فَمِثْلَ النَّوْمِ فَإِنَّ الْحَيَّ الْيَقْظَانَ أَكْمَلُ مِنْ النَّائِمِ وَالْوَسْنَانِ. وَاَللَّهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ يَحْفَظُ الشَّيْءَ بِلَا اكْتِرَاثٍ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكْرُثُهُ ذَلِكَ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا.
وَكَذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُ وَلَا يَتْعَبُ: أَكْمَلُ مِمَّنْ يَتْعَبُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّهُ مِنْ لُغُوبٍ.
وَلِهَذَا وُصِفَ الرَّبُّ بِالْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ، وَالْقُدْرَةِ دُونَ الْعَجْزِ، وَالْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ، وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ دُونَ الصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبُكْمِ، وَالضَّحِكِ دُونَ الْبُكَاءِ، وَالْفَرَحِ دُونَ الْحُزْنِ".
واسستثنى المصنف من ذلك من الصفات ما يكون الكمال في اجتماع الأمرين ومن ذلك قوله: "وَأَمَّا الْغَضَبُ مَعَ الرِّضَا وَالْبُغْضُ مَعَ الْحُبِّ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مِنْهُ إلَّا الرِّضَا وَالْحُبُّ دُونَ الْبُغْضِ وَالْغَضَبُ لِلْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُبْغَضَ. وَلِهَذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِأَنَّهُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، أَكْمَلَ مِنْ اتِّصَافِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْطَاءِ وَالْإِعْزَازِ وَالرَّفْعِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْآخَرَ-حَيْثُ تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ ذَلِكَ-أَكْمَلُ مِمَّا لَا يَفْعَلُ إلَّا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ وَيُخِلُّ بِالْآخَرِ فِي الْمَحَلِّ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَمَنْ اعْتَبَرَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَهُ عَلَى قَانُونِ الصَّوَابِ وَاَللَّهُ الْهَادِي لِأُولِي الْأَلْبَابِ"
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 88 - 94.
الأصل الثاني من نوعي التوحيد
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فصل: وأما الأصل الثاني، وهو التوحيد في العبادات، المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعًا.
فنقول: إنه لا بدّ من الإيمان بخلق الله وأمره، "
الشرح
لما فرغ المصنف من الكلام عن الأصل الأول في هذا الرسالة وهو (باب التوحيد والصفات) شرع هنا في بيان الأصل الثاني من الكتاب وهو (باب الشرع والقدر).
وقد سبق أن ذكر المصنف في أول الكتاب الهدف من تأليف هذا الكتاب فبين أنه موضوع لبيان أصلين كبيرين:
الأصل الأول: التوحيد والصفات.
الأصل الثاني: الشرع والقدر.
ثم بين أن آيات القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين:
- آيات تشتمل على الأخبار.
- آيات تشتمل على الأوامر.
فأما الأصل الأول (وهو التوحيد والصفات) فإنه من باب الأخبار.
وأما الأصل الثاني (وهو الشرع والقدر) فإنه من باب الأوامر.
قال المصنف رحمه الله تعالى في بداية الرسالة التدمرية: «فَالْكَلَامُ فِي بَابِ (التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ) هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْكَلَامُ فِي (الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ) هُوَ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ»
(1)
.
وقول المصنف: "فنقول: إنه لا بدّ من الإيمان بخلق الله وأمره"
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أننا مأمورون بالإيمان بشيئين:
1 -
الخلق.
2 -
الأمر.
وقد جمع بينهما الله تعالى في سورة الأعراف فقال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
فالخلق: هو القضاء والقدر.
والأمر: هو الشرع والعبادة.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما سيكون قبل أن يكون، وقدّر المقادير وكتبها حيث شاء"
الشرح
شرع المصنف في بيان القسم الأول من هذا الأصل وهو ما عبر عنه في الآية
(1)
التدمرية (ص: 3).
بلفظ (الخلق) والمقصود به هنا القدر.
وأشار المصنف في هذا النص إلى مراتب القدر الأربعة، وهي:
1 -
الخلق.
2 -
المشيئة.
3 -
العلم.
4 -
الكتابة.
فقول المصنف: "فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه" هذه مرتبة الخلق.
وقول المصنف: "وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا حول ولا قوة إلا بالله" هذه مرتبة المشيئة.
وقول المصنف: "وقد علم ما سيكون قبل أن يكون" هذه مرتبة العلم.
وقول المصنف: "وقدّر المقادير وكتبها حيث شاء" هذه مرتبة الكتابة.
وأما تعريف القدر:
فالقدر في اللغة: هو القضاء والحكم ومبلغ الشيء، والتقدير: التروية والتفكر في تسوية الأمر
(1)
.
والقدر في الاصطلاح: "هو ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه- عز وجل قدَّر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها"
(2)
.
(1)
القاموس المحيط للفيروزآبادي (ص 591).
(2)
عقيدة السفاريني) 1/ 348).
وقال ابن حجر في تعريفه: "المراد أنّ الله- تعالى- علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثمّ أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) ".
الشرح
أشار المصنف-رحمه الله تعالى-هنا إلى بعض أدلة مرتبة العلم ومرتبة الكتابة.
وأما الأدلة على الإيمان بالقدر:
فنصوص القرآن والسنة متواترة في وجوب الإيمان بالقدر، وصريحة في أن كل شيء خلقه الله بقدر.
فأما أدلة القرآن، فمنها ما يلي:
- قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر الآية: 49].
(1)
فتح الباري (1/ 118).
- وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب الآية: 38].
- وقال تعالى: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال الآية: 42].
- وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان الآية: 2].
- وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى الآيات: 1 - 3].
وأما أدلة السنة، فمنها ما يلي:
- عن عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال (أي: جبريل عليه السلام: صدقت "
(1)
.
- وعن طاووس أنه قال: أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس»
(2)
.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر الآيات: 48: 49]
(3)
.
وأما
أدلة مراتب الإيمان بالقدر:
فالإيمان بالقدر له أربعة أركان، ويسميها بعض العلماء أيضًا:(مراتب القدر)،
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر، وعلامة الساعة (1/ 36 رقم 8).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب القدر باب كل شيء بقدر (4/ 2045 رقم 2655).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب القدر باب كل شيء بقدر (4/ 2046 رقم 2656).
وهذه الأركان الأربعة هي:
الركن الأول: العلم:
الركن الأول- أو المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر- هو العلم، فيجب الإيمان بأن الله يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فالله يعلم القدر قبل وقوعه، ولكن قد أنكر هذا الركن وهذه المرتبة فرقة من الفرق الضالة في باب القدر، وهم القائلون بأنه:(لا قدر، والأمر أُنف) أي: مستأنف، أي أن الله لا يعلم الأمر إلا بعد أن يقع، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا،
والأدلة على علم الله تعالى بالمقادير كثيرة، منها:
- قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر الآية: 22].
- وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق الآية: 12].
- وقال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سبأ الآية: 3].
- وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} [النحل الآية: 125].
- وقال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم الآية: 32].
وقال الله تعالى- مقررًا علمه بما لم يكن لو كان كيف سيكون -: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام الآية: 28]، فالله يعلم أن هؤلاء المكذبين الذين يتمنون في يوم القيامة الرجعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجعوا إلى تكذيبهم وضلالهم.
وقال في الكفار الذين لا يطيقون سماع الهدى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال الآية: 23].
ومن علمه تبارك وتعالى بما هو كائن: علمه بما كان الأطفال الذين توفوا صغارًا عاملين لو أنهم كبروا قبل مماتهم، وبيانه فيما يلي:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين "
(1)
.
- وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: توفي صبيٌّ، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَوَلَا تدرين أن الله خلق الجنة والنار، فخلق لهذه أهلًا ولهذه أهلًا؟ "
(2)
.
وفي رواية عند مسلم- أيضًا- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبي لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: «أَوَغَير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم"
(3)
.
الركن الثاني: الكتابة:
الركن الثاني- أو المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر- هو الكتابة، فيجب الإيمان بأن الله تعالى كتب كل المقادير في اللوح المحفوظ وسطر فيها كل ما هو
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب القدر باب الله أعلم بما كانوا عاملين (8/ 122 رقم 6597).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2050 رقم 2662).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2050 رقم 2662).
كائن إلى يوم القيامة.
واللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق سماه القرآن بالكتاب، وبالكتاب المبين، وبالإمام المبين وبأم الكتاب، والكتاب المسطور.
- قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج الآيات: 21، 22]، وقال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج الآية: 70]، وقال تعالى:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس الآية: 12]، وقال تعالى:{وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} [الطور الآية: 1 - 3]، وقال تعالى:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف الآية: 4]، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنَّ الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء»
(1)
.
الركن الثالث: المشيئة:
الركن الثالث- أو المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر- المشيئة، أي: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته التامة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئته، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد.
والنصوص المصرحة بهذا الركن المقررة له كثيرة، منها:
- قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَّشَاءَ اللهُ} [التكوير الآية: 29].
- وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المْوتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَّشَاءَ اللهُ} [الأنعام الآية: 111].
- وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام الآية: 112].
(1)
أخرجه مسلم كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى برقم (2653).
- وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس الآية: 36].
- وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام الآية: 39].
ومشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان وما سيكون، ويفترقان فيما لم يكن ولا هو كائن، فما شاء الله تعالى كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ الله تعالى إياه لا يكن لعدم مشيئة الله تعالى ليس لعدم قدرته عليه.
- قال تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) [البقرة الآية: 253]،
- وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة الآية: 48].
- وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام الآية: 35].
- وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) [الأنعام الآية: 107].
- وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} [يونس الآية: 99].
الركن الرابع: الخلق:
الركن الرابع- أو المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر- الخلق، أي: خلق الله تبارك وتعالى لكل موجود، لا شريك لله في خلقه.
وقد قررت النصوص أن الله خالق كل شيء، فهو الذي خلق الخلق وكوَّنهم وأوجدهم، فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق
- قال تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر الآية: 62].
- وقال تعالى: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس الآية: 81].
- وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام الآية: 1].
- وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء الآية: 1].
- وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء الآية: 33].
فهذه مراتب القدر وأركانه الأربعة التي يجب على العبد أن يؤمن بها حتى يكون مؤمنًا بالقدر.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له، كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه".
الشرح
شرع المصنف في بيان القسم الثاني من الأصل الثاني: (الأمر) وهو الشرع
وأعظم الأوامر هو توحيد الله تعالى في أولوهيته ووجوب إفراده بالعبادة، ولذا بدأ المصنف ببيان هذا النوع من التوحيد، وهو توحيد الألوهية.
والجدير ذكره أن القرآن كله دعوة للتوحيد:
قال ابنُ القيم رحمه الله: «كلُّ سُورة في القرآن هي متضمنة للتوحيد، بل نقول قولًا كليًّا: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه.
فإن القرآن:
1 -
إمَّا خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري.
2 -
وإمَّا دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو
التوحيد الإرادي الطلبي.
3 -
وإمَّا أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته.
4 -
وإمَّا خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يُكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
5 -
وإمَّا خبر عن أهل الشرك، وما فُعل بهم في الدنيا من النِّكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم توحيده.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجَزائهم»
(1)
.
وأما تعريف توحيد الألوهية
فتوحيد الألوهية: هو إفراد الله بأفعال العباد التعبدية؛ كالصلاة، والصوم، والدعاء
(2)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وعبادته تتضمن كمال الذّل له والحب له، وذلك يتضمن كمال طاعته، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} "[آل عمران: 31].
الشرح
يندرج تحت هذا النص جملة مسائل؛ نذكر منها:
(1)
«مدارج السَّالكين» (3/ 449، 450).
(2)
القول المفيد شرح كتاب التوحيد لابن عثيمين (1/ 14).
المسألة الأولى: تعريف العبادة لغة:
العبادة في اللغة: مَصدر عَبَدَ.
وفي «القاموس» : «العَبْدِيَّةُ والعُبودِيَّةُ والعُبودَةُ والعِبادَةُ: الطَّاعَةُ»
(1)
.
وفي «الصِّحاح» : «أصلُ العُبودية: الخُضوع والذُّل، والتَّعبيد: التَّذليل.
يقال: طريق مُعَبَّد، والبَعير المُعبد: المَهنوء بالقَطْرَان المُذَلَّل.
والعبادة: الطاعة، والتعبد: التَّنَسُّك».
فتفترق المعاني بحسب الاشتقاق.
«وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر الآية: 29]، أي: في حِزبي»
(2)
، فأضاف إليها معنى جديدًا، وهو الولاء.
وفي «المخصص» : «أصل العبادة: التَّذليل، من قولهم: طريق مُعَبَّد، أي: مُذَلَّل بكثرة الوطءِ عليه
…
ومنه أُخِذ (العبد) لِذِلَّتِه لمَولاه.
والعبادة والخضوع والتَّذَلُّل والاستكانة قَرائب في المعاني؛ يقال: تعَبَّد فلان لفلان: إذا تذلل له، وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة؛ طاعة كان للمعبود أو غيرَ طاعة، وكل طاعة لله على جهة الخُضوع والتَّذَلُّل فهي عبادة، والعبادة نوع من الخضوع، لا يَستحقه إلا الُمنعم بأعلى أجناس النِّعَم؛ كالحياة والفَهم والسَّمع والبَصر»
(3)
.
وفي «اللِّسان» : «أصل العبودية: الخضوع والتذلل
…
، وفي حديث أبي هريرة:
(1)
«القاموس المحيط» للفيروزآبادي (ص 296).
(2)
انظر: «الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» للجوهري (2/ 503، 504).
(3)
انظر: «المخصص» ، لابن سيده (4/ 62).
«لا يَقل أحدكم لمملوكه: عَبدي وأَمَتي، وليقل: فتاي وفتاتي»
(1)
؛ هذا على نفي الاستكبار عليهم، وأن يَنسب عبوديتهم إليه، فإنَّ المستحق لذلك الله تعالى، هو رب العباد كلهم والعبيد»
(2)
.
وجعل بعضهم العبادة لله، بخلاف العبودية وغيرها فهي تجعل لله وللمخلوقين.
قال الأزهري: «ولا يقال: عبد يَعبد عبادة، إلَّا لمن يعبد الله، ومَن عَبَدَ من دونه إلهًا فهو من الخاسرين، قال: وأمَّا عَبْدٌ خَدَمَ مَولاه، فلا يُقال: عَبَدَه
…
قال الليث: ويُقال للمشركين: هم عَبَدَة الطاغوت.
ويقال للمسلمين: عباد الله، يَعبدون الله
…
، والعابد: المُوحِّد»
(3)
.
وعلى هذا، فتعريف العبادة في لغة العرب: هو أن العبادة هي الذلُّ والخضوع المُستلزِم طاعة المَعبود أمرًا ونهيًا، ولذا سُمِّي الرقيق «عبدًا» ؛ لأنَّه يَذِلُّ ويخضع لسيده أمرًا ونهيًا فيما يَختص بشئون الحياة.
فمدار كلمة (العبادة) - في اللغة- على التذلل والخضوع والاستكانة، وهي معان متقاربة.
الفرق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للعبادة:
لكن هذه اللفظة لما استعملت في الشَّرع أُضيف إليها مع الخضوع كمال المحبة، فانتقلت إلى المعنى الشرعي بإضافة المحبة مع الخضوع. ولذلك لما عرَّفها ابنُ كثير رحمه الله قال: «العبادة في اللغة: مِنْ الذِّلَّة، يُقال: طريق مُعَبَّد، وبَعير مُعَبَّد، أي:
(1)
أخرجه البخاري (2552)، ومسلم (2249).
(2)
«لسان العرب» لابن منظور (3/ 271).
(3)
«تهذيب اللغة» للأزهري (2/ 139، 140).
مُذَلَّل. وفي الشرع: عِبارة عمَّا يَجمع كمال المحبة والخُضوع والخَوف»
(1)
، فعند تعريفها في الشرع زاد فيها معنى آخر، وهو المحبة.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذُّلِّ؛ فالعابد محبٌّ خاضع، بخلاف مَنْ يحب مَنْ لا يخضع له، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر، وبخلاف مَنْ يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم؛ فإنَّ كلًّا مِنْ هذين ليس عبادة محضة»
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: «والعبودية مَدَارها على قاعدتين هما أصلها: حُبٌّ كاملٌ وذُلٌّ تامٌّ، ومنشأ هذين الأصلين
…
هما مُشاهدة المِنَّة التي تُورث المحبة ومطالعة عيب النَّفس والعمل التي تورث الذل التَّام، وإذا كان العبد قد بَنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يَظفر عدوه به إلا على غِرَّة وغِيلة، وما أسرع ما يُنعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته»
(3)
.
المسألة الثانية: استعمالات كلمة (عبد) في الشرع.
استُعملت كلمة (عبد) في الشرع على عِدَّة أقسام:
القسم الأول: عبودية الرِّقِّ، كما جاء في قوله:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل الآية: 75]، فالمراد بالعبد هنا: العَبد الرَّقيق المملوك؛ فتُطلق العبودية ويُراد بها عبودية الرِّقِّ.
القسم الثاني: العبودية العامَّة؛ حيث تُطلق العبودية ويُراد بها العبودية العامَّة؛ أي: عبودية الربوبية، كما في قوله:{إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا}
(1)
«تفسير ابن كثير» (1/ 134).
(2)
«قاعدة في المحبة» لابن تيمية (ص 98).
(3)
«الوابل الصَّيِّب من الكلم الطيب» لابن القيم (ص 8).
[مريم الآية: 93]، فالعبد هنا: عَبد القَهر والمُلك لله سبحانه وتعالى، وكلُّنا عبيدٌ لله عز وجل.
وعند جمع كلمة (عبد) يَظهر الفرق بين عبودية الربوبية لله عز وجل، وكذلك عبودية الرق، فتقول في جمعها: عَبيد، وأمَّا في عبودية الألوهية فتقول: عِباد، ولذلك قال تعالى:{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان الآية: 63].
القسم الثالث: العبودية الخاصة، أي: عبودية التَّأَلُّه، كما في قوله تعالى:{واذكر عبدنا داود ذا الأيدي} [ص الآية: 17]، {واذكر عبدنا أيوب} [ص الآية: 41]، {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء الآية: 1]، فهذه العبودية الخاصة.
القسم الرابع: عبودية الأشياء؛ كعبد الدنيا وشهواتها، وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم:«تَعِس عبدُ الدِّينار والدِّرهم، والقَطيفة، والخَمِيصة؛ إن أُعطي رَضِي، وإن لم يُعط لم يَرْضَ»
(1)
، فهذا فِيمَن استعبدته الدنيا وملذَّاتها فأصبح لها عبدًا.
لذا يلزم التفريق في استعمالات هذه الكلمة، حتى يتضح المراد بها.
وهذه المعاني مما يجدر مَعرفتها والعناية بها؛ لأنها سترد خلال سياق هذه الرِّسالة المباركة.
المسألة الثالثة: تعريف العبادة شرعًا:
مع اختلاف عبارات العلماء- رحمهم الله في تعريف العِبادة شرعًا إلا أنَّ الجميع يدور حول معنى واحد، والفرق بين تعريفاتهم إنما يقع في الشمول، وسنعرض بعضًا منها:
1 -
قال الإمام القرطبيُّ رحمه الله: «العبادة: عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه،
(1)
أخرجه البخاري (6435). والقطيفة: كساء أو فراش له أهداب. والخميصة: ثَوب أسود أو أحمر له أعلامٌ.
وأصل العبادة: الخضوع والتَّذَلُّل»
(1)
.
2 -
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: «العبادة في الشرع: عِبارة عمَّا يَجمع كمال المحبة والخُضوع والخَوف»
(2)
؛ وعليه فَمن اتصف بذلك فإنه يُطلق عليه أنَّه عابد لله عز وجل.
3 -
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هنا: «العبادة: هي اسم جامعٌ لكلِّ ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة» .
وعلى هذا يتضح أنَّ للعبادة تعريفين.
أحدهما: باعتبار العابد، وهو كمال الذُّلِّ مع كمال الحب لله عز وجل.
والآخر: باعتبار المُتَعَبَّد به، وهو ما يُحِبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ لكونه عز وجل شَرَعَه وعُمِل وَفْقَ مُراده.
قال شيخ الإسلام: "العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف
من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله
(1)
.
والعبادة هي الغاية التي خلق الله من أجلها جميع الجن والإنس.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات الآية: 56]، وهي تتضمن كمال الذّل لله مع كمال الحب له سبحانه وتعالى، وذلك يتضمن كمال طاعته، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله.
- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء الآية: 64]، قال جل وعلا:{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران الآية: 31].
(1)
العبودية لشيخ الإسلام (ص: 44).
معنى حديث الأنبياء اخوة لعلاة
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وقد قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف الآية: 45].، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء الآية: 25].، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى الآية: 13]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ • وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون الآيات: 51 - 52]، فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:((إنّا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعَلاَّت، وأنا أَوْلَى الناس بابن مريم، لأنه ليس بيني وبينه نبي))
(1)
".
الشرح
أورد المصنف النصوص الدالة على أن وظيفة الرسل والأنبياء جميعًا هي الدعوة لدين الله الذي هو التوحيد، فالرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا أقوامهم إلى توحيد الله عز وجل والخلوص من الشرك بشتى صوره، فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بعبادته وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فوظائف الرُّسل هي:
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} [مريم: 16] حديث رقم (3443).
أولًا: تعريف الناس بربِّهم.
ثانيًا: تعريفهم بالطريق الذي يُوَصِّلهم إلى ربِّهم، أي: بعبادته وطاعته.
ثالثًا: بيان حالهم ومآلهم.
يعني: ما هو المآل؟ وما هي العاقبة التي تعود على الناس بإيمانهم واتِّباعهم الشرع المُنزل، فهذه هي وظيفة الرسل.
فدعوة الرُّسل- كما هو معلوم- تقوم على دعوة الناس للعبادة، فنوح وغيره من الأنبياء ممن ذكر الله تعالى في القرآن إنما أَمَروا أقوامهم بهذا الأمر:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف الآية: 59].
فالعِبادة هي ما بُعث به الرسل، ولذلك كان بَعثُ الرسل من أَجْل هذا، قال سبحانه:{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل الآية: 36]، فدعوة الرسل قائمة على تحقيق العبادة لله عز وجل وحده.
ومعلوم أنَّ الحكمة والغاية مِنْ خلق الله عز وجل للجِنَّ والإنس هي عبادته وحده جل جلاله؛ قال الله عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات الآية: 56]؛ لذلك بَيَّن لهم عن طريق الرسل والكتب ما يُحبه ويرضاه منهم ليَفعلوه، وما يُبغضه ليَجتنبوه.
والعبادة كذلك هي حقُّ الله على العبيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟» . قال معاذ: اللهُ ورسوله أعلمُ. قال: «حَقُّ الله على العباد: أن يَعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»
(1)
، فمَن أراد أن يُحَقِّق العبادة عليه أن يقوم بحقِّ الله عز وجل عليه من فِعل الأوامر واجتناب النواهي؛ مخلصًا في ذلك عمله لوجه الله؛ قال جل وعلا:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة الآية: 5].
والعبادة هي الصلة بين العبد وبين الله عز وجل فعلاقة العبد بربِّه لا تكون إلا من
(1)
أخرجه البخاري (2856) ومسلم (30).
طريق عبادته عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي:«وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه»
(1)
.
فمحبة الله لعبده لا تحصل إلا بأن يحقق العبد العبادة لله عز وجل، وذلك بفعل الفرائضه واجتناب النواهي، والإكثار من النَّوافل.
والعبادة: هي معنى لا إله إلا الله؛ فالإله: هو المعبود، وقيام العبد بحقِّ لا إله إلا الله لا يتأتى إلَّا بإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
والعبادة: شَطر الإسلام وأوله وآخره؛ فالإنسان لا يدخل الإسلام إلا بعد أن ينطق بالشهادتين؛ (شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله)؛ فلا إله إلا الله، معناها: لا معبود بحقٍّ إلا الله، ومحمد رسول الله معناها لا متبوع في أداء العبادة ولا قُدوة للنَّاس إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال جل وعلا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب الآية: 21].
فمن أراد السعادة في الدنيا والآخرة فعليه باقتفاء أثره صلى الله عليه وسلم، والعَض على ما جاء به، وأن لا يَعبد اللهَ إلا بما شرع رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر الآية: 7]، وكذلك من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله وَجَبت له الجنَّةُ، كما جاء في الحديث
(2)
.
والعبادة ظاهر الدِّين وباطنه، لأنَّ الدِّين يشمل العبادات الظاهرة والعبادات القلبية الباطنة، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند بيان تعريف العبادة؛ وأنها أول الدِّين وآخره وظاهره وباطنه.
(1)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (22034) وأبو داود (3116) بلفظ: «دخل الجَنَّة» من حديث معاذ رضي الله عنه وحسنه الألبانيُّ في «الإرواء» (687).
ومما يجب أن يُعلم: أن الانحراف في هذا الباب- باب العبادة- أعظم من الانحراف في سائر الأبواب؛ فانحراف الناس في باب العبادة أكثر من انحرافهم في باب الأسماء والصفات.
وسبب ذلك- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله: «لأنَّ الانحراف في أمر العبادة انحراف في أمر الإرادة، أمَّا الانحراف في باب الأسماء والصفات فهو انحراف في باب العِلم، وباب العلم كما هو معلوم قد لا يَناله كثيرٌ من الناس، بينما أمر الإرادة أمر مُشترك؛ حتى البهائم لها إرادة، وبالتالي يقع الانحراف كثيرًا في باب العبادة أكثر من وقوع الانحراف في باب الأسماء والصفات، وعلى هذا فالبدع في باب العبادة أكثر من البِدع في باب الأسماء والصفات، وهذا أمرٌ ملموس مشاهد؛ فمن يتأمل أحوال الناس يجد أن عندهم من الانحرافات في باب توحيد العِبادة ما هو أعظم من الانحرافات في باب الأسماء والصفات، وأنواع البدع تشهد بذلك.
فعلى العبد أن يحقق العبادة؛ التي هي غاية الأمور المحبوبة لله سبحانه وتعالى، والتي مِنْ أجلها خَلَقَ الخَلْقَ، وبها أرسل الرسل، وأَنزل الكتب، حتى إن أول أمر نزل في القرآن هو قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة:{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة الآية: 21].
فإذا كانت العبادة بهذه المنزلة- فعلينا أن نحذر ممن يعمل على إسقاطها، أو مَنْ يُقلل من شأنها، وأن نعمل جاهدين لتحقيق العبادة على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه، وأن نسعى كذلك في تعليمها للناس، وفي غرسها في نفوسنا ونفوس أبنائنا ونفوس طُلَّابنا؛ فهي مسئولية عظمى.
وعلى المسلم أن يُرَتِّب طريقةَ تعليمه للمسلمين على أولويات الدين، إذ هناك مَنْ يسعى لترتيب مسائل وأبواب الاعتقاد بترتيب منكوس؛ فيأتي بمسائل هي من
لواحق أمور العقيدة ويجعلها أساسًا، ويأتي بمسائل- مثلًا- في الأسماء والأحكام ويُقَدِّمها على مسائل التوحيد، فليس هذا من الحق في شيء، فأوليَّات وأولويات هذا الدِّين مرتبة، كما نبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا على ذلك؛ فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا بعث معاذًا ? على اليَمن، قال: «إنَّك تَقْدُمُ على قومٍ أهل كتاب؛ فَلْيَكُن أولَّ ما تَدعوهم إليه: عبادة الله، فإذا عَرفوا الله، فأخبرهم أنَّ الله قد فَرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فَعلوا، فأخبرهم أنَّ اللهَ فرض عليهم زكاة من أموالهم وتُرد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فَخُذ منهم وتَوَقَّ كرائمَ أموال الناس»
(1)
.
وأيضًا هذا المقام- مقام العِبادة- مَقام عظيم، وهو شَرف لمن حَقَّقه وانتسب إليه؛ فهو شرفٌ لملائكة الله تعالى المُقربين الذين لهم من المنزلة ما ذكر الله سبحانه وتعالى من أوصافهم؛ فقال:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء الآيات: 20، 19].
فمع ما وضع اللهُ فيهم مِنْ عِظم الخلق، وما جعل لهم من المنزلة، إلا أنَّهم لا يستكبرون عن عبادته سبحانه وتعالى!
فلذلك حق على كل مسلم أن يَعتني بهذا الأمر حق الاعتناء، وان يهتم به غاية الاهتمام؛ علمًا وعملًا، وكذلك دعوة وتطبيقًا.
وجميع الأنبياء بعثوا بدين واحد وهو الإسلام: وهو إسلام الوجه لله، وإفراد الله بالعبادة، وقد أورد الله سبحانه وتعالى هذا الأصل في القرآن في مواضع كثيرة، فبين جل وعلا أنه بعث جميع الأنبياء بدين واحد، وهو إفراد الله بالعبادة، وإليك بعض الأدلة على ذلك:
- قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً
(1)
أخرجه البخاري (1458) ومسلم (19).
يُعْبَدُونَ} [الزخرف الآية: 45].
فهذه الآية توضح أن جميع الرسل قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءوا بتوحيد العبادة لله تعالى، وأن لا تتخذ من دونه آلهة.
- وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء الآية: 25].
وهذه الآية يخبر الله تعالى فيها أنه أوحى إلى جميع الأنبياء بتوحيده وإفراده بالعبادة.
- وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى الآية: 13].
فبين ربنا جل وعلا في هذه الآية أنه وصى بهذا الدين أولي العزم من الرسل، وأمرهم بإقامته وعدم التفرق والاختلاف فيه.
- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون الآيات: 51 - 52].
وفي هذه الآية أمر الله الرسل بالأكل من الطيبات وأمرهم بالعمل الصالح، وأمرهم بإقامة الدين الذي ارتضاه لهم جميعًا، وهو الإسلام.
- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»
(1)
.
وفي هذا الحديث بين نبينا صلى الله عليه وسلم بأن جميع الأنبياء إخوة لعلات، وهم الإخوة من
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} [مريم: 16] حديث رقم (3443).
الأب، فكان ذلك تنبيهًا على أن أصل الدين واحد لجميع الأنبياء، ولكن الشرائع مختلفة، وهذا المقصود بأن أمهاتهم شتى.
قال النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء: أولاد لعلات بفتح العين المهملة وتشديد اللام هم الإخوة لأب من أمهات شتى، وأما الإخوة من الأبوين فيقال لهم أولاد الأعيان قال جمهور العلماء معنى الحديث: أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة فإنهم متفقون في أصول التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف"
(1)
(1)
شرح صحيح مسلم للنووي: 8/ 111.
دين الأنبياء واحد
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وهذا الدين هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال تعالى عن نوح:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ • فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس الآيات: 71 - 72]، وقال عن إبراهيم:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ • إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ • وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [البقرة الآيات: 130 - 133]، وقال عن موسى:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّسْلِمِينَ} ، وقال في خبر المسيح:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة الآية: 111]، وقال فيمن تقدم من الأنبياء:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة الآية: 44]، وقال عن بلقيس أنها قالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل الآية: 44].
الشرح
فجميع الرسل قد أمروا بعبادة الله وحده، والرغبة إليه، والتوكل عليه وطاعتهم في ذلك، وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو
الدِّين الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، وهو حقيقة العبادة لربِّ العالمين.
وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن تبين أن جميع الرسل ديانتهم هي الإسلام، ومن هذه النصوص ما يلي:
- وقال عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84].
- وقال في خبر المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة الآية: 111].
- وقال فيمن تقدم من الأنبياء: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} . [المائدة الآية: 44].
- وقال عن بلقيس أنها قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل الآية: 44].
فدين الأنبياء واحد، وإن كان لكل نبي شرعة ومنهاجٌ إلا أنهم متفقون على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وهو عام في كل زمان ومكان، فمن لم يسلم لله
عز وجل واستكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] لأن الله عز وجل قد أخذ الميثاق على جميع الأنبياء وعلى أممهم أن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لأن رسالته عامة إلى الثقلين الإنس والجن، وهو خاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد أتى بالحنيفية السمحة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعه لم يكن على دين الله الذي رضيه لعباده ولم يكن مؤمنًا بأحد من أنبياء الله ورسله لأنهم أمة واحدة ودينهم واحد، فمن كفر بواحد منهم كان كافراً بجميعهم وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52].
وقال تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
فبين أنهم أمة واحدة ودينهم واحد وإن اختلفت شرائعهم وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13].
فبين سبحانه وتعالى أن دين هؤلاء جميعاً واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له فهو الدين الذي شرعه لرسله الأخيار المذكورين في الآية وهم صفوة الصفوة وأولوا العزم من الرسل فلو كان دينًا آخر خير منه لما شرع الله لهم هذا الدين الكامل الذي به سعادة الدنيا والأخرة.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده".
الشرح
حقيقة الإسلام هي: الاستسلام لله، ومعنى الاستسلام لله: الخضوع والتسليم له جل جلاله، فأخبار الشرع حقها التصديق، وأوامر الشرع حقها الرضا بها والعمل بمقتضاها، ونواهي الشرع حقها القبول لها واجتنابها.
وبين المصنف أن
ما يضاد الإسلام يعود في إصله إلى أمرين هما:
أولًا: الكبر.
ثانيًا: الشرك.
وتفصل ذلك
أما الكبر: فإن الاعتراض على ما ثبت أنه من دين الإسلام فأصله من الكبر ويوصل إلى الزندقة، وإبليس أول من فعل هذا، حينما أمره الله سبحانه وتعالى بالسجود لآدم فاعترض وأَبَى أن يسجد، قال الله تعالى:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 12، 13]، فأخرجه الله عز وجل من الجنة، ولعنه وطرده؛ لمَّا أظهر كِبره واستعلن بكفره، وكذلك كل من سار على دربه.
وفارق بين الاعتراض على الحكم وتركه كبرًا وجحودًا وبين الإذعان للحكم وتركه تهاونًا وكسلًا، فالأول كفر، والثاني معصية.
لخطورة الكبر قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَدخل الجَنَّة مَنْ كان في قلبه مثقال ذَرَّة من كبر» . فقال رجل: إنَّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة! قال: «إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال، الكبرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس»
(1)
، فكَما أَنَّ النَّار لَا يُخَلَّد فِيهَا
(1)
أخرجه مسلم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
مَنْ كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان فكذلك لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ إذ الكبرُ مناف للإيمَان؛ مباعد عن حَقِيقَةِ العُبُودِيَّة؛ لأنَّه مِنْ خصائص الربوبية.
وكل مَنْ استكبر عن عبادة الله ولم يكن الله منتهى حبه وإرادته، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله؛ فيكون عبدًا ذليلًا لذلك المراد المحبوب، وسيذوق وبال ذلك في الدنيا والآخرة؛ قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وكلما كان الإنسان أعظم استكبارًا عن عبادة الله كان أعظم إشراكًا بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقرًا وحاجةً إلى مراده المحبوب الذي هو مقصود القلب بالقصد الأول؛ فيكون مشركًا بما استعبده من ذلك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارًا عن عبادة الله وأشدهم إشراكًا وجحودًا؛ قال الله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27]، إلى قوله:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما الشرك: فإن فهم هذا الأمر يتوقف على فهم موضوع المحبة فأصل المَحابِّ المحمودة: محبة الله تعالى، بل وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تَبَعٌ لها.
كما أنَّ المحبةَ مع الله أصلُ الشرك، والمحاب المذمومة والنوعان الآخران تَبَعٌ لها
(1)
.
والمقصود بالمحبة الشرعية: محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وكل ما يدخل في
(1)
راجع: «إغاثة اللهفان» (2/ 140، 141)، و «جامع الرسائل» (2/ 202).
فَلَكها ويدور مع محورها.
فهذه المحبة مِنْ أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله، بل ومن أوجب العِبادات المُناطة بقلب المؤمن، ذلك لأنَّه لابد في إيمان القلب من حب الله ورسوله، وأن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه مما سواهما.
فهي أصلُ كلِّ عمل من أعمال الإيمان والدِّين، كما أن التصديق به أصل كلِّ قول من أقوال الإيمان والدِّين؛ فإنَّ كل حركة في الوجود إنما تَصدر عن محبة؛ إمَّا عن محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة.
فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تَصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة: هي محبة الله سبحانه وتعالى؛ إذ العملُ الصادر عن محبة مذمومة لا يكون عملًا صالحًا عند الله، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله؛ فإنَّ الله تعالى لا يَقبل مِنْ العمل إلا ما أُريد به وجهه؛ كما ثبت في «الصَّحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَرويه عن ربِّه أنه قال:«أنا أغنى الشُّركاء عن الشرك؛ مَنْ عَمِل عملًا أَشرك فيه معي غيري تَرَكْتُه وشِرْكَه»
(1)
.
فإخلاصُ الدِّين لله هو الدِّين الذي لا يَقبل الله سواه، وهو الذي بَعث به الأَوَّلين والآخرين من الرُّسل، وأنزل به جميع الكتب، واتَّفق عليه أهلُ الإيمان.
وهذا هو خلاصةُ الدَّعوة النبوية، وهو قُطب القرآن الذي تدور عليه رَحاه
(2)
، فأصلُ الدِّين وقاعدته يتضمن أن يكون اللهُ هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه، والإله: ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك.
(1)
أخرجه مسلم في «صحيحه» ، كتاب (الزهد)، باب (مَنْ أشرك في عمله غير الله)(8/ 223).
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (12/ 48، 49).
والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو؛ فتَخلو القلوب عن محبة ما سواه بِمَحَبَّته، وعن رجاء ما سواه برجائه، وعن سؤال ما سواه بسؤاله، وعن العمل لما سواه بالعمل له، وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به
(1)
.
فإذا كان أصلُ العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، ولكن أكثر ما جاء المطلوب باسم العبادة؛ كقوله تعالى:{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات الآية: 56]، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة الآية: 21]، وأمثال هذا.
والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يُعَظَّم ولا يُذَلُّ له لا يكون معبودًا، والمُعَظَّم الذي لا يُحَبُّ لا يكون معبودًا، ولهذا قال تعالى:{ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة الآية: 165].
فبَيَّن- سبحانه- أنَّ المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادًا وإن كانوا يُحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا أشدُّ حُبًّا لله منهم لله ولأوثانهم؛ لأنَّ المؤمنين أعلم بالله، والحب يَتبع العِلم، ولأن المؤمنين جعلوا جميع حُبِّهم لله وحده، وأولئك جعلوا بعضَ حُبِّهم لغيره، وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل؛ قال تعالى:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر الآية: 29].
واسم المحبة فيه إطلاق وعموم؛ فإنَّ المؤمن يحب الله ويحب رُسلَه وأنبياءه وعبادَه المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقُّها غيرُه. ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مَقرونة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه
(1)
«مجموع الفتاوى» (11/ 523، 524).
والتبتُّل له، ونحو ذلك. فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى.
وكما أنَّ محبته هي أصلُ الدِّين، فكذلك كمال الدين يكون بكمالها ونقصه بنقصها
(1)
.
وكمال هذه المحبة هو بالعبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب سبحانه وتعالى؛ فالحق الذي خُلِق به ولأجله الخلقُ: هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له، ولوازم عبوديته من الأمر والنهي والثواب والعقاب، ولأجل ذلك أرسل الرسلَ، وأنزل الكتبَ، وخَلَقَ الجَنَّةَ والنارَ
(2)
.
وقد بين الله عز وجل أنه قد خلقَ الناس للابتلاء؛ فقال جل وعلا: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَيَاةَ لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك الآية: 2]، وقال تعالى:{إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف الآية: 7]، وقال سبحانه:{وهُو الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود الآية: 7].
فأخبر جل وعلا في هذه الآيات أنَّ خلق العالم والموت والحياة وتَزَيُّنَ الأرض بما عليها: أنه للابتلاء والامتحان؛ ليختبر خلقه أيهم أحسن عملًا، فيكون عمله موافقًا لمحابِّ الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خُلِق هو لها وخلق لأجلها العالَم، وهي عبوديته المتضمنة لمحبَّته وطاعته، وهي العمل الأحسن وهو مواقع محبته ورضاه، وقَدَّر سبحانه مقادير تُخالفها بحكمته في تقديرها، وامتحن خلقَه بين أَمْرِه وقَدَرِه؛ ليَبلوهم أيُّهم أحسن عملًا.
وأصل الشرك الذي لا يَغفره الله هو الشرك في هذه المحبة؛ فإنَّ المشركين لم يزعموا أنَّ آلهتهم وأوثانهم شاركت الربَّ سبحانه في خلق السموات والأرض، وإنَّما
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 56، 57).
(2)
انظر: «روضة المحبين» (ص 59).
كان شِركهم بها من جهة محبتها مع الله؛ فَوَالَوْا عليها وعادوا عليها وتألَّهوها، وقالوا: هذه آلهة صِغار تُقَرِّبنا إلى الإله الأعظم؛ قال تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه} [البقرة الآية: 165]، وهذا منهم كحال عبادتهم لهم؛ قال جل جلاله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر الآية: 3].
ففرق بين محبة الله أصلًا، والمحبة له تبعًا، والمحبة معه شركًا، وعليك بتحقيق هذا الموضع فإنه مَفرق الطرق بين أهل التوحيد وأهل الشرك
(1)
.
أقسام المحبة مِنْ حيث العموم:
تنقسم المحبة من حيث العموم إلى قسمين: (المحبة المشتركة والمحبة الخاصة).
القسم الأول: المحبة المشتركة.
وهي ثلاثة أنواع:
أحدها: محبَّة طبيعية؛ كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، ونحو ذلك، وهذه لا تَستلزم التعظيم.
الثاني: محبَّة رحمة وإشفاق؛ كمحبَّة الوالد لولده الطفل، وهذه- أيضًا- لا تستلزم التعظيم.
الثالث: محبة أُنس وإِلْف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو عِلم أو مُرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضًا.
فهذه الأنواع الثلاثة التي تَصلح للخَلْق؛ بعضهم من بعض، ووجودها فيهم
(1)
انظر: «روضة المحبين» (ص 293).
لا يكون شِرْكًا في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ الحلواء والعَسل
(1)
، وكان يحبُّ نِساءه
(2)
، وعائشة أحبُّهن إليه، وكان يُحِبُّ أصحابَه، وأحبهم إليه الصِّدِّيق رضي الله عنه
(3)
.
القسم الثاني: المحبة الخاصَّة التي لا تَصلح إلا لله.
ومتى أحبَّ العبدُ بها غيرَه، كان شركًا لا يَغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره.
فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلًا
(4)
، بل يجب إفرادُ الله بهذه المحبة الخاصة التي هي توحيد الإلهية، بل الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشأ عن المحبة ولأجلها، فهي الحقُّ الذي خُلقت به السموات والأرض، وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي، وهي سِرُّ التأله، وتوحيدها: هو شهادة أن لا إله إلا الله.
وليس كما يزعم المنكرون: أن الإله هو الربُّ الخالق؛ فإن المشركين كانوا مُقِرِّين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه، ولم يكونوا مُقرين بتوحيد الإلهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله الذي تألهه القلوب حُبًّا وذُلًّا وخوفًا ورجاء وتعظيمًا وطاعة.
(1)
أخرجه البخاري (5431) ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال القاضي عياض عن هذا الحديث: هذا «حُجَّةٌ فى استعمال مباحات الدنيا، وأكل لذيذ الأطعمة. والحلواء هنا: كل طعام مُستحلى» . «إكمال المُعْلِم بفوائد مُسْلِم» (5/ 28).
(2)
أخرج النسائي (3939) عن أنس ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُبِّب إليَّ من الدنيا: النِّساء والطِّيب، وجُعل قُرَّة عَيني في الصلاة» . وحسنه الألباني في «المشكاة» (5261).
(3)
أخرج البخاري (3662) ومسلم (2384) عن عمرو بن العاص ? أنه قال: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: «عائشة» . فقلت: مِنْ الرجال؟ فقال: «أبوها» . قلت: ثم مَن؟ قال: «ثم عمر بن الخطاب» ، فعَدَّ رجالًا».
(4)
انظر: «تيسير العزيز الحميد» (ص 411).
وإله بمعنى مألوه، أي: محبوب معبود، وأصله من التأله، وهو التعبُّد الذي هو آخر مَراتب المحبة، فالمحبة حقيقة العبودية
(1)
، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا القسم.
وتنقسم المحبة باعتبار متعلقها ومحبوبها إلى قسمين: (نافعة محمودة. مذمومة ضارة).
القسم الأول: المحبة النافعة
وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة وهي ثلاثة أنواع:
أ- محبة الله.
ب- محبة في الله.
ج- محبةُ ما يُعين على طاعة الله واجتناب معصيته.
فيحبُّ الله تعالى حبًّا لا يُشاركه فيه أحد، ويكون الله عز وجل هو المحبوب المراد الذي لا يُحب لذاته ولا يُراد لذاته إلا هو، وهو المحبوب الأعلى الذي لا صَلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو محبوبه ومراده وغاية مطلوبه. وتكون هذه المحبة مُستلزمة لما يتبعها من عبادته تعالى وخضوعه له، وتعظيمه عز وجل.
والمحبة في الله: بأن يحب المؤمنين لا يحبهم إلا لله، ويكون هواه تبعًا لحبِّ الله تعالى ورضاه؛ فلا يُحب إلا ما يحبه اللهُ تعالى.
ومحبةُ ما يُعين على طاعة الله أنواعٌ كثيرة تَندرج فيها جميع العبادات.
القسم الثاني: المحبة الضارَّة:
وهي المحبة المَذمومة التي تَجلب لصاحبها ما يضرُّه، وهو الشقاء.
وهي ثلاثة أنواع أيضًا:
(1)
انظر: «مدارج السالكين» (3/ 20)، و «روضة المحبين» (ص 59)، و «تيسير العزيز الحميد» (ص 412).
النوع الأول: المحبة مع الله. ومنها: محبة المشركين آلهتهم كحبِّ الله.
النوع الثاني: محبة ما يُبغضه الله. ومنها: محبة الفواحش والمنكرات التي يُبغضها الله.
النوع الثالث: محبة ما تَقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها. ومنها: عِشق النساء الذي يزيد عن حَدِّه حتى يُضيع الأوامر ويُدخل في النواهي، وفي مقدمة ذلك عِشق الفاسقات والعاهرات والوِلْدَان.
فهذه سِتَّةُ أنواع عليها مدارُ محابِّ الخلق.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره".
الشرح
يتكلم المصنف عن الإسلام بمفهومه العام وهو المقصود بقول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران الآية: 19. [
فيخبر عز وجل أنه لا دين مقبول عنده إلا الإسلام، الذي هو الإذعان والاستسلام والخضوع لله تعالى، وعبادته وحده، والإيمان به وبرسله وبما جاءوا به من عند الله، مع كون هذا الإسلام لا يمنع أن يكون لكل رسول شرعة ومنهاجًا، حتى ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأرسله للناس كافة، فلا يقبل الله من أحد دينا بعده إلا الإسلام، الذي جاء به صلى الله عليه وسلم وهذا هو الإسلام الخاص.
فدين الأنبياء واحد، وإن تنوعت شرائعهم، فالمؤمنون من أتباع الأنبياء السابقين كلهم كانوا مسلمين بالمعنى العام، يدخلون الجنة بإسلامهم، فإذا أدرك أحدهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقبل منه إلا اتباعه.
قال قتادة في تفسير الآية: "الإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به".
وقال أبو العالية: "الإسلام: الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له".
(1)
وقال ابن كثير رحمه الله: قَوْلُهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران الآية: 19. [إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا دِينَ عِنْدَهُ يَقْبَلُهُ مِنْ أَحَدٍ سِوَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ، حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، الَّذِي سَدَّ جَمِيعَ الطُّرُقِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ بَعْدَ بِعْثَتِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بدِين عَلَى غَيْرِ شَرِيعَتِهِ، فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران الآية: 85 [وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْبِرًا بِانْحِصَارِ الدِّينِ الْمُتَقَبَّلِ عِنْدَهُ فِي الْإِسْلَامِ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ] آل عمران الآية: 19.].
(2)
{
وقال ابن الجوزي رحمه الله": قال الزجاج: الدين: اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، وبه يجزيهم.
وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الدين: ما التزمه العبد لله عز وجل.
وقال ابن قتيبة: الإسلام الدخول في السلم، أي: في الانقياد والمتابعة، ومثله الاستسلام، يقال: سلم فلان لأمرك، واستسلم، وأسلم "
(3)
وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران الآية: 85]، عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
(1)
"تفسير الطبري" (6/ 275 (.
(2)
"تفسير ابن كثير"(2/ 25).
(3)
"زاد المسير"(1/ 267).
فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمْ دِينُهُمْ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس الآية: 71 [إلَى قَوْلِهِ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس الآية: 72]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة الآية: 130]، {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة الآية: 131 [{وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [البقرة الآية: 132]، وَقَالَ السَّحَرَةُ:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف الآية: 126]، وَقَالَ يُوسُفُ عليه السلام {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف الآية: 101]، وَقَالَتْ بلقيس:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل الآية: 44]، وَقَالَ تَعَالَى:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة الآية: 44]، وَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران الآية: 52].
فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " {إنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} [الشورى الآية: 13]، وَقَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون الآية: 51]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون الآية: 52]، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون الآية: 53]،.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمر ثانيا باستقبال الكعبة، كان كل من الفعلين حين أمر به داخلا في دين الإسلام، فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين، وإنما تنوّع بعض صور الفعل وهو وجهة المصلِّي، فكذلك الرسل دينهم واحد، وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجهة والمنسك، فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدِّين واحدا، كما لم يمنع ذلك في شرعة الرسول الواحد".
الشرح
قال الله سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة الآية: 48].
قال ابن جرير الطبري: "لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق يؤمُّه، وسبيلاً واضحًا يعمل به.
قال قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: سبيلاً وسُنّة.
والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل. وعن علي قال: الإيمان منذُ بَعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم: شهادةُ أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، لكلّ قوم ما جاءَهم من شرعة أو منهاج"
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحد، وإنما تنوعت الشرائع؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد" "الأنبياء إخوة
(1)
تفسير الطبري (10/ 384 - 385).
لعلات" "وأنا أولى الناس بابن مريم، فإنه ليس بيني وبينه نبي" فدينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت.
وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة، فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو دين واحد، مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة، كما أمر المسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة، ويحرم استقبال الصخرة فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته، فهكذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت، ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجباً إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة، وحرم الاجتماع يوم السبت. فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلما، ومن لم يدخل في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد النسخ لم يكن مسلما"
(1)
.
"ققد يشرع الله في وقت أمرًا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرًا لحكمة، فالعمل بالمنسوخ، قبل نسخه: طاعة لله، وبعد النسخ يجب العمل بالناسخ، فمن تمسك بالمنسوخ وترك الناسخ؛ ليس هو على دين الإسلام، ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ولهذا كفر اليهود والنصارى؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ.
والله تعالى يشرع لكل أمة ما يناسب حالها ووقتها، ويكون كفيلاً بإصلاحها، متضمنا لمصالحها، ثم ينسخ الله ما يشاء من تلك الشرائع لانتهاء أجلها، إلى أن بعث نبيه محمدًا خاتم النبيين إلى جميع الناس على وجه الأرض، وعلى امتداد الزمن إلى
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 378 - 379.
يوم القيامة، وشرع له شريعة شاملة صالحة لكل زمان ومكان؛ لا تبدل ولا تنسخ؛ فلا يسع جميع أهل الأرض إلا اتباعه والإيمان به صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف الآية: 158 ["
(1)
.
(1)
"الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد"(ص: 194).
يبشر أول الرسل بآخرهم
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والله تعالى جعل من دين الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران الآية: 81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمد وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
الشرح
جميع الرسل قد جاءهم الأمر من الله تعالى أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ عليهم الميثاق بذلك.
"فمن الأمور التي تدل على عظيم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه ما أخذه الله من العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على أنه لو بعث صلى الله عليه وسلم وهم أحياء أو أحد منهم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه. قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران الآية: (81)].
وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قولهما: "ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه".
(1)
فهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس
(2)
.
ولهذا فقد كان عند أهل الكتاب علم تام به صلى الله عليه وسلم وبمبعثه ومكان بعثته ومهاجره، كما ورد وصفه في كتبهم حتى إنهم ليعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة الآية: 146 [
وقال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} [الأعراف الآية (157)].
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حينما سئل عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، فأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر،
(1)
أخرجهما ابن جرير في تفسيره (3/ 332) وأوردهما ابن كثير في تفسيره (1/ 378).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 378).
ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا "
…
(1)
.
(2)
.
قال السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله المنزل، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال، إنه إن بعث الله رسولًا مصدًقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان، فهم كالشيء الواحد"
(3)
.
- وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة الآية: 48].
فقد بين الله- جل وعلا- في هذه الآية أنه جعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصدقًا لجميع الرسل الذين بعثوا من قبله.
فَإِنَّ أَصْلَ الْأُصُولِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ وَعَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ مُلُوكِهِمْ وَسُوقَتِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ عز وجل لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَهُ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق. انظر: فتح الباري (4/ 342) ح 2125"
(2)
انظر: حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة 2/ 395 - 396.
(3)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 136).
ولأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فقد جعل الله شريعته خاتمة الشرائع وناسخة لها؛ فلا يحل لأحد بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يترك الإيمان به زاعمًا أنه يؤمن بنبي سابق، بل يجب الإيمان بهم جميعًا، من تمام الإيمان برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بأنه ناسخ لكل من سبقه من الرسل.
وهذا ما دلت عليه نصوص القرآن والسنة والإجماع.
أولًا: الأدلة من القرآن:
- قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران الآية: 85].
قال القاضي عياض: "كما أن الإيمان به واجب متعين لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه"
(1)
.
- قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة الآية: 3].
قال ابن كثير عند تفسيرها: "هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن
…
"
(2)
.
(1)
الشفا للقاضي عياض (2/ 538) بتصرف.
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 12).
وقال تعالى في حق من لم يؤمن: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} [الفتح الآية: (13). [
ثانيًا: الأدلة من السنة:
وردت في السنة أحاديث كثيرة جدا تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم على الجن والإنس الذين أدركتهم رسالته، سواء كانوا أهل كتاب، أم ليسوا بأهل كتاب، ويستوي في ذلك عربهم وعجمهم، وذكرهم وأنثاهم، فلا يسع أحدا من هؤلاء الخروج عن شريعته أو التعبد لله بغير ما جاء به. لأن الله لا يقبل من أحد عملا يخالف شرع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وسأورد ههنا بعضا من تلك الأحاديث الواردة في هذا الشأن:
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال": أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"
(1)
.
ب- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"
(2)
.
ج- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يَسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي
(1)
أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 39).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان: باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، انظر: فتح الباري (1/ 75) ح 25. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، انظر (1/ 39) ..
أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار»
(1)
.
د- وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم": أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس .... " الحديث 3
(2)
.
ثالثًا: دليل الإجماع.
إن الإجماع منعقد من أئمة المسلمين وعامتهم على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأمم-أهل الكتاب وغير أهل الكتاب-
(3)
فإن الذي يدين به المسلمون هو أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث رسولا إلى الثقلين الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله، مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه، وبينه النبي أيضا في سنته.
وهذا الإجماع تواترت في نقله كتب أهل العلم وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة. وكتب التوحيد السنة مليئة بهذا.
والأدلة والنصوص تثبت عموم رسالته وشمولها كما يعلم كذلك انتفاء كل دعوى تخالف هذا الأمر أو تطعن فيه كدعوى أنه رسول للعرب خاصة، أو دعوى أن
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب وجوب إيمان أهل الكتاب برسالة الإسلام (1/ 134 رقم 153).
(2)
أخرجه البخارى في صحيحه واللفظ له: كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان. انظر: فتح الباري (1/ 129) ح 53، وأخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه (1/ 35 - 36).
(3)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 124).
رسالته ليست ناسخة لما قبلها من الرسالات وأنه يسع الناس التدين بما جاء في قبله من الرسالات.
فنصوص القرآن والسنة والإجماع ترد هذه الدعاوى وتفندها وتبطلها.
ولا يتسع المجال هنا لإيراد تلك الشبه وتفنيدها
(1)
كما أن معرفة الحق تغني وكما قيل: بضدها تتميز الأشياء.
وإن الواجب على كل مسلم اعتقاد عموم رسالته وشموليتها وعالميتها لجميع المكلفين وإنه لا يسع أحدا الخروج عنها أو أن يدين لله بغيرها.
كما أنه لا يسع المسلم أن يجهل مثل هذا الأمر لأنه من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، ومن الواجب عليه كذلك أن يرد على كل من يطعن في هذا الأمر أو يشكك فيه سواء ممن ينتسبون إلى الإسلام أو من غيرهم، وبالخصوص أننا أصبحنا في زمان ظهرت فيه الدعوة إلى وحدة الأديان وتقاربها بدعوى أنها جميعا تدعو إلى عبادة إله واحد وأن مصدرها واحد إلى غير ذلك من الأمور التي يروج لها أصحاب هذه الدعوة والتي لا تنطلي إلا على ساذج لا يعي الأمور الضرورية من دينه.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وجعل الإيمان بهم متلازمًا، وكفَّر من قال: إنه آمن ببعض وكفر ببعض، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا • أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء الآيات: 151 - 152]، وقال تعالى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
(1)
لمزيد من التفصيل في هذا الموضوع: انظر كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 128) وما بعدها.
الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة الآية: 85]، وقد قال لنا:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ • فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة الآيات: 136 - 137]، فأمرنا أن نقول آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون، فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا، بل يكون كافرا، وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن.
الشرح
أكد الإسلام وجوب الإيمان بالأنبياء جميعًا وإكرامهم ورفع درجتهم وجعلهم في مكانة ومنزلة سامية. فأوجب الإيمان بهم.
قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة الآية: 285. [
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد، فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه.
ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق
ظاهرين"
(1)
.
وفي مقابل ذلك فقد عد تكذيب واحد منهم كفرًا ولو ادعى الإيمان بالله ورسله جميعا إلا ذلك، فإيمان من هذا حاله إيمان زائف لا وزن له ولا خير فيه وصاحبه موسوم بالكفر.
قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء الآيتان: (150، 151)].
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبى بعثه الله إلى أهل الأرض فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًا إنما هو عن غرض وهوى وعصبية"
(2)
.
فلا يقبل الله الإيمان من أحد إلا بأن يؤمن بجميع الرسل، وبين أنه لن يقبل من أحد أن يفرق بين الرسل، فيؤمن ببعضهم ويكفر ببعضهم.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران الآية: 85]. قالت اليهود والنصارى: فنحن مسلمون، فأنزل الله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران الآية: 97]، فقالوا: لا نحج، فقال تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران الآية: 97].
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 342).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 572).
فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده من حج البيت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت))، ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة الآية: 3].
الشرح
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: لَمَّا أَنْزَلَ الله هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ مُسْلِمُونَ. فَقَالَ - تَعَالَى -: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فَقَالُوا: لَا نَحُجُّ فَقَالَ - تَعَالَى -: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرَ حَجَّ الْبَيْتِ وَاجِبًا عَلَيْهِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.
وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَرَوْنَهُ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ حَتَّى أَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ الله وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» وَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ وُجُوبَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ
شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ»
(1)
. اهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لِأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَحُجُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُصَلُّونَ، وَإِنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً»
(2)
. اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فالمقصود من الحج: عبادة الله وحده في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، ولهذا كان الحج شعار الحنيفية، حتى قال طائفة من السلف: «حنفاء لله، أي حجاجا» . فإن اليهود والنصارى لا يحجون البيت»
(3)
. اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقال الأصمعي من عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب.
قلت: ولهذا يوجد في كتب بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرهم وفي كلامهم معاداة الحنيف وهم هؤلاء العرب الذين كانوا يحجون ويختتنون وهم مشركون، فإن النصارى لا يحجون ولا يختتنون ولا يتعبدون بالختان بل أكثرهم ينهى عنه وفيهم من يختتن»
(4)
. اهـ
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران الآيات: 96 - 97].
يُخْبر تَعَالَى أَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضع لِلنَّاسِ، أَيْ: لِعُمُومِ النَّاسِ، لِعِبَادَتِهِمْ ونُسُكهم، يَطُوفون بِهِ ويُصلُّون إِلَيْهِ ويَعتكِفُون عِنْدَهُ {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} يَعْنِي: الْكَعْبَةَ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ [عليه السلام] الَّذِي يَزْعم كُلٌّ مِنْ طَائِفَتَيِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ
(1)
«الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (2/ 125)
(2)
«شرح العمدة» (1/ 214)
(3)
«اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 370).
(4)
«جامع المسائل» (ص: 184)
ومنهجِه، وَلَا يَحجُّون إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ عَنْ أَمْرِ الله لَهُ فِي ذَلِكَ وَنَادَى النَّاسَ إِلَى حَجِّهِ. وَلِهَذَا قَالَ:{مُبَارَكًا} أَيْ وُضع مُبَارَكًا {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} »
(1)
. اهـ
(2)
اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: " وَالْمُشْرِكُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ يَحُجُّونَ إلَى آلِهَتِهِمْ كَمَا يَحُجُّونَ إلَى سمناة وَغَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى يَحُجُّونَ إلَى قُمَامَةَ وَبَيْتِ لَحْمٍ وَيَحُجُّونَ إلَى الْقَوْنَة الَّتِي بصيدنايا وَالْقَوْنَة الصُّورَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَنَائِسِهِمْ الَّتِي بِهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا وَيَدْعُونَهَا وَيَسْتَشْفِعُونَ بِهَا. "
(3)
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «
تَنْبِيهٌ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، بَعْدَ قَوْلِهِ:{وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران الآية: 97]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ كَافِرٌ، وَالله غَنِيٌّ عَنْهُ.
وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ {أَوْجُهٌ لِلْعُلَمَاءِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ أَيْ: وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، فَقَدْ كَفَرَ وَالله غَنِيٌّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّهُمَا قَالَا لَمَّا نَزَلَتْ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران الآية: 85]، قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَقَالُوا: لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا، وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا» . قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران الآية: 97].
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ} ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ الْبَالِغِ فِي الزَّجْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ كَقَوْلِهِ لِلْمِقْدَادِ الثَّابِتِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ فِي الْحَرْبِ: «لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ» .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ فَقَدْ كَفَرَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً، وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ الله فَلَا يَضُرُّهُ، مَاتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا; وَذَلِكَ بِأَنَّ الله قَالَ: وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» [آل عمران الآية: 97].
ثم ذكر رحمه الله تضعيف الحديث فقال: «رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ
(1)
..... وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَنْ
(1)
جاء حديث مرفوع «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» ، وقد استدلال بعض أهل العلم بهذا الحديث على ذلك، وهذا الحديث قد
جاء عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ الله وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ الله يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران الآية: 97]» رواه الترمذي في «جامعه» (3/ 167)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 443) وغيرهما.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=
والحديث ضعيف جدا إن لم يكن موضوعا: فيه هلال بن عبد الله مولى ربيعة، قال البخاري منكر الحديث، وقال ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث، وليس بالمحفوظ. وقال العُقَيْلي:«لا يتابع عليه» ، وقال البيهقي «شعب الإيمان (5/ 443) «تَفَرَّدَ بِهِ هِلَالٌ أَبُو هَاشِمٍ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاق» اهـ، وقال الحافظ ابن حجر «متروك» ، وأيضا فيه الحارث الأعور كَذَّبَهُ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمَدِيَنِيِّ، وقد ضعف الحديث الإمام الألباني رحمه الله.
وجاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنِ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» رواه الدارمي في «سننه» (2/ 1122)، وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 196)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 443).
وهذا حديث ضعيف: فيه لَيْثٌ ابن أبي سليم ضعِيف، وشريك سيءُ الحفظ، وعبد الرحمن لم يسمع من أبي أمامة وهو كثير الإرسال.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في «ميزان الاعتدال» (3/ 169): «هذا منكر عن شريك» . اهـ
وقال ابن عدي رحمه الله في «الكامل» (6/ 138): «وهذان الحديثان عَنْ أبي هلال وشَرِيك، غير محفوظين» . اهـ
وقال العراقي رحمه الله في «تحفة التحصيل» (ص: 197): «عبد الرَّحْمَن بن سابط عَنْ أبي بكر الصّديق قَالَ أَبُو زرْعَة مُرْسل وَعَنْ سعد بن أبي وَقاص وَأبي أمامة وَجَابِر، قَالَ ابْن معِين هُوَ مُرْسل لم يسمع مِنْهُم، قَالَ العلائي أرسل عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أبي بكر ومعاذ وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة كثيرا قَالَه فِي التَّهْذِيب وَأثبت لَهُ ابْن أبي حَاتِم السماع من جَابر» اهـ وهو هنا عن أبي أمامة رضي الله عنه.
وقد جاء مرسلا:
رواه الإمام ابن أبي شيبة رحمه الله في «مصنفه «(3/ 305) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ مرسلا: فقال: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أخرجه الإمام الخلال رحمه الله في «السنة» (5/ 46): فقال: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ عن رسوله الله صلى الله وسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «التلخيص الحبير» (2/ 486): «لَيْثٌ ضَعِيفٌ، وَشَرِيكٌ سيء الْحِفْظِ، وَقَدْ خَالَفَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَأَرْسَلَهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ ابْنِ سَابِطٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ
…
» فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ لَيْثٍ مُرْسَلًا» اهـ.
فالحديث ضعيف مرفوعًا فيه عدة علل لا يصلح بعضها شواهد ومتابعات لبعض.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=
وقد جاء موقوفًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
رواه الإمام ابن أبي شيبة رحمه الله في «مصنفه» : (3/ 306): قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا»
وقَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَمٍ، عَنْ عُمَرَ، مِثْلَهُ».
ورواه الإمام الخلال رحمه الله في «السنة» (5/ 45) فقال: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الله، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: ثنا مَنْصُورٌ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَرْزَمٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رحمه الله: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» .
وهذا أثر صحيح إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد صحح الموقوف عدد من الأئمة:
قال الإمام البيهقي رحمه الله في «السنن الكبرى» (4/ 546)«وَهَذَا وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُهُ غَيْرَ قَوِيٍّ- أبي المرفوع- فَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه» اهـ
والذي يظهر أن تلك الطرق ليست محفوظة، ولا تنفع في الشواهد والمتابعات، فهي ضعيفة فيها عدة علل كما تقدم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «التلخيص الحبير» (2/ 426): «وَلَهُ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ؛ إلَّا أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ رَوَاهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ.
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ، فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ لَهُ جَدَّةٌ وَلَمْ يَحُجَّ، فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ» . لَفْظُ سَعِيدِ، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيّ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ: «لِيَمُتْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، رَجُلٌ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَوَجَدَ لِذَلِكَ سَعَةً وَخَلَّيْت سَبِيلَهُ» اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما سبق: «وَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه» اهـ
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» (2/ 73): «وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ الله بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ، فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه» . اهـ وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/ 252).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في «أضواء البيان» (1/ 205): «وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَسَوَاءٌ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ الله تَعَالَى» . اهـ
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: «الضعيفة» (10/ 166): «وإنما ثبت ذلك من قول عمر بن الخطاب موقوفاً عليه» . اهـ
المصدر: بحث هل كان اليهود والنصارى يحجون البيت الحرام ـ من موقع: أبو حمزة محمد بن حسن السوري.
أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَسَوَاءٌ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ الله تَعَالَى»
(1)
اهـ.
(1)
«أضواء البيان» (1/ 203).
تنازع الناس في إسلام من تبقى من أمة موسى وعيسى
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، المتضمن لشريعة القرآن- ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام، المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا من الأنبياء- فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء".
الشرح
اختلف العلماء في أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا؟
وأشار المصنف إلى أن النزاع لفظي، فإن الإسلام يطلق ويقصد به أمران:
أحدهما: الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، المتضمن لشريعة القرآن ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا.
والثاني: الإسلام العام، المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيًّا من الأنبياء، فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء.
وبهذا المعنى العام للإسلام يصح أن يقال: كان هناك دين اسمه الإسلام قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فجميع الأنبياء المرسلين مسلمون، وأتباعهم على دينهم الصحيح قبل أن يحرف أن ينسخ هم مسلمون. وكان قبل النبي صلى الله عليه وسلم يوجد أفراد قليلون من النصارى على الدين الصحيح الذي بعث الله به عيسى عليه السلام.
ويدل لذلك ما ورد عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك
…
الحديث»
(1)
قال النووي رحمه الله: "المقت: أشد البغض، والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل" اهـ.
وأما الإسلام بالمعنى الخاص فهو الدين الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم. وبهذا المعنى الخاص للإسلام لا يصح أن يقال كان هناك دين اسمه الإسلام قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ويرى آخرون: أنّه لم توصف به الأمم السّابقة، وإنّما وصف به الأنبياء فقط، وشرّفت هذه الأمّة بأن وصفت بما وصف به الأنبياء، تشريفاً لها وتكريماً.
ووجه اختصاص الأمّة المحمّديّة بهذا الاسم " الإسلام " هو: أنّ الإسلام اسمٌ للشّريعة المشتملة على العبادات المختصّة بهذه الأمّة، من الصّلوات الخمس، وصوم رمضان، والغسل من الجنابة، والجهاد، ونحوها. وذلك كلّه مع كثيرٍ غيره خاصٍّ بهذه الأمّة، ولم يكتب على غيرها من الأمم، وإنّما كتب على الأنبياء فقط. ويؤكّد هذا المعنى - وهو اختصاص الأمّة المحمّديّة باسم الإسلام - قوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج الآية: 78]. فالضّمير (هو) يرجع لإبراهيم عليه السلام، كما يراه علماء السّلف لسابقيّة قوله في الآية الأخرى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ] {البقرة الآية: 128]. فدعا بذلك لنفسه ولولده، ثمّ دعا لأمّةٍ من ذرّيّته، وهي هذه الأمّة فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ] {البقرة الآية: 128].
(1)
رواه مسلم (2865).
الآية، وهو سيّدنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم فاستجاب اللّه دعاءه، فبعث محمّداً إليهم، وسمّاهم مسلمين. فاتّفق أئمّة السّلف على أنّ اللّه تعالى لم يذكر أمّةً بالإسلام غير هذه الأمّة، ولم يسمع بأمّةٍ ذكرت به غيرها.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ورأس الإسلام مطلقًا شهادة أن لا إله إلا الله، وبها بعث الله جميع الرسل".
الشرح
يتحدث المصنف هنا عن الإسلام العام الذي يشترك فيه جميع الأنبياء والرسل وجميع الرسالات قبل أن يحصل الانحراف والتبديل فدعوة الأنبياء واحدة
فالإسلام العامّ المتناول لكلّ شريعةٍ بعث اللّه بها نبيّاً، فإنّه إسلام كلّ أمّةٍ متّبعةٍ لنبيٍّ من الأنبياء.
وعلى هذا الأساس يمكن أن تفهم كلّ الآيات الكريمة الّتي تعرّض فيها القرآن الكريم لهذه الكلمة مستعملةً بالنّسبة للأمم الأخرى:
إمّا على أنّها تشير إلى المعنى اللّغويّ لمادّة أسلم.
أو أنّها تشير إلى المعنى المشترك بين الشّرائع السّماويّة كلّها الّذي بعث اللّه به جميع الرّسل، وإليه الإشارة في كثيرٍ من الآيات، ومنها قوله تعالى:{ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت} [النحل الآية: 36].
وتوحيد العبادة هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن معناها أنه لا معبود بحق إلا الله، وبها بعث الله جميع الرسل.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل الآية: 36].
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء الآية: 25].
وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ • إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ • وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف الآيات: 26 - 27 - 28].
وقال تعالى عنه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ • أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ • فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء الآيات: 75 - 76 - 77].
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة الآية: 4].
وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف الآية: 45].
وذكر عن رسله: كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
وقال عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً • وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَّدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا • هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف الآيات: 13 - 14 - 15].
وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء الآية: 48]، ذكر ذلك في موضعين من كتابه.
وقد بَيَّن في كتابه الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام.
وأصل الشرك، الشرك بالشيطان- فقال عن النصارى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة الآية: 31 [
وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ • وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران الآيات: 79 - 80]، فبيَّن أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفر".
الشرح
يشير المصنف إلى الآيات الدالة على أن رسالة جميع الأنبياء والرسل متفقة على الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده والخلوص من الشرك.
فليس للعبد إلا أن يحقق عبودية الله سبحانه وتعالى، وهذا وحده هو سبيل الكمال وسبيل
النَّجاة، وهو أساس دعوة الرُّسل.
فإخلاصُ الدِّين لله هو الدِّين الذي لا يَقبل الله سواه، وهو الذي بَعث به الأَوَّلين والآخرين من الرُّسل، وأنزل به جميع الكتب، واتَّفق عليه أهلُ الإيمان.
وهذا هو خلاصةُ الدَّعوة النبوية، وهو قُطب القرآن الذي تدور عليه رَحاه
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومعلوم أن أحدًا من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان أو المسيح ابن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض، بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهًا مساويًا لله في جميع صفاته، بل عامة المشركين بالله مقرّون بأنه ليس شريكه مثله، بل عامتهم مقرون أن الشريك مملوك له سواء كان ملكًا أو نبيًّا أو كوكبًا أو صنمًا، كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، فقال:(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
وقد ذكر أرباب المقالات ما جَمعوا من مقالات الأَوَّلين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع الصفات، بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية، الذين يقولون بالأصلين: النور والظلمة، وأن النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين: أحدهما أنها محدثة، فتكون من جملة
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (12/ 48، 49).
المخلوقات له، والثاني أنها قديمة، لكنها لم تفعل إلا الشر، فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بيّنه في كتابه، فقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر الآية: 38]، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ • قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ • قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون الآيات: 84 إلى 89]، إلى قوله:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون الآية: 91]، وقد قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} "] يوسف الآية: 106].
الشرح
بين المصنف أن الخصومة بين الرسل وأقوامهم لم تكن أبدًا في أن الكفار يزعمون أن آلهتهم تخلق أو ترزق، ولم يزعموا أن الأنبياء والأحبار والرهبان أو المسيح بن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض، بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهًا مساويًا لله في جميع صفاته، بل عامة المشركين بالله مقرّون بأنه ليس شريكه مثله، بل عامتهم مقرون أن الشريك مملوك له سواء كان ملكًا أو نبيًا أو كوكبًا أو صنمًا، كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا
هو لك، تملكه وما ملك.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلكم، قد قد» فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت»
(1)
.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات وهو الذي يرزقهم، ونحو ذلك من أفعال الربوبية.
- قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس الآية: 31].
- وقال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر الآية: 38].
- وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون الآية: 91].
- وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف الآية: 106].
فهذه الآيات السابقة تبين أن المشركين كانوا مقرين بأن الله هو الذي يخلق
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الحج باب التلبية وصفتعا ووقتها (2/ 843 رقم 1185).
ويرزق ويدبر الأمر، ومع ذلك لم يقبل الله منهم إلا أن يضيفوا إلى ذلك إفراده بالعبادة وهو توحيد الألوهية.
والشرك شركان: شركٌ أكبر، وشركٌ أصغر.
والشرك الأصغر لا يكون إلا في نوعٍ واحد من أنواع التوحيد، وهو توحيد العبادة؛ فتوحيد العبادة فقط هو الذي فيه أكبر وأصغر.
أمَّا الشرك في توحيد الربوبية وفي توحيد الأسماء والصفات. هذان ما فيهما أكبر وأصغر، فينبغي كذلك أن يتصور ما هو الشرك الأكبر؟ وما هو الشرك الأصغر؟
فعلى طالب العلم أن يعلم أن كلام أهل العلم في الشرك الأصغر إنما يقصدون به: الشرك في العبادات وتوحيد الألوهية، ويقولون في تعريفه: كل وسيلةٍ تؤدي إلى الشرك الأكبر ولم تبلغ رُتبة العبادة؛ لأنها متى ما بلغت رتبة العبادة فإن ذلك يَنقلها إلى الشرك الأكبر في توحيد العبادة.
أمَّا الشرك في توحيد الربوبية وفي توحيد الأسماء والصفات، فليس فيهما أكبر وأصغر، إذ كله أكبر.
لذلك يقول الإمامُ ابنُ القَيِّم رحمه الله: «الشِّرك شِركان: شرك يتعلق بذات المَعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وشِرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه-سبحانه-لا شريكَ له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
والشِّرك الأول نوعان:
أحدهما: شرك التَّعطيل: وهو أقبحُ أنواع الشرك؛ كشرك فرعون إذ قال: {وما رب العالمين} [الشعراء: 23].
وقال-تعالى-مُخبرًا عنه أنه قال لهامان: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ
الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا} [غافر: 36، 37]، فالشرك والتعطيل متلازمان: فكل مُشرك مُعَطِّل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل يكون المشركُ مقرًّا بالخالق-سبحانه-وصفاته، ولكنه مُعطل حق التوحيد.
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها: هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه.
القسم الثاني: تعطيل الصانع-سبحانه-عن كماله المقدس؛ بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله.
القسم الثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.
ومِن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثَمَّ خالق ومخلوق ولا هاهنا شيئان، بل الحق المُنَزَّه هو عين الخلق المشبه. ومنه شرك الملاحدة القائلين بقِدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدومًا أصلًا، بل لم يَزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مُستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، ويسمونها بالعقول والنفوس. ومن هذا شرك مَنْ عَطَّل أسماء الرب-تعالى-وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يُثبتوا له اسمًا ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه؛ إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
النوع الثاني: شِرك مَنْ جعل معه إلهًا آخر، ولم يُعَطِّل أسماءه وصفاته وربوبيته؛ كشرك النَّصارى الذين جعلوه ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهًا، وأمه إلهًا.
ومِن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشَّرِّ إلى الظلمة.
ومِن هذا شرك القدرية القائلين بأنَّ الحيوان هو الذي يَخلق أفعال نفسه، وأنها
تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ولهذا كانوا من أشباه المجوس.
ومِن هذا شرك الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه؛ {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة الآية: 258].
فهذا جعل نفسه ندًّا لله؛ يُحيي ويميت بزعمه، كما يُحيي الله ويميت، فألزمه إبراهيم أن طَرْدَ قولِك: أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي بها الله منها، وليس هذا انتقالًا، كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزامًا على طرد الدليل إن كان حقًّا.
ومِن هذا شرك كثير ممن يُشرك بالكواكب العُلويات، ويجعلها أربابًا مُدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مُشركي الصابئة وغيرهم.
ومِن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم.
ومِن هؤلاء مَنْ يزعم أنَّ معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم مَنْ يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خَصَّه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يُقربه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقاني يقربه إلى مَنْ هو فوقه، حتى تُقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى، فتارة تكثر الوسائط وتارة تقل.
وأمَّا الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك، وأخف أمرًا، فإنه يُصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره، ولا ربَّ سواه، ولكن لا يخص الله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظِّ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله مِنْ عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحَظِّه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، وهذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه
ابن حبان في «صحيحه» : «الشِّركُ في هذه الأمة أَخفى مِنْ دَبِيب النمل» . قالوا: كيف ننجو منه يا رسول الله؟ قال: قل: «اللهم إني أعوذ بك أن أشركُ بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم»
(1)
.
فالرياء كله شرك؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
أي: كما أنَّه إله واحد، ولا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفَرَّد بالإلهية يجب أن يُفرد بالعبودية؛ فالعمل الصالح هو الخالي من الرِّياء المقيد بالسُّنَّة.
وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا» .
وهذا الشرك في العبادة يُبطل ثواب العمل، وقد يُعاقب عليه إذا كان العمل واجبًا، فإنه يُنَزِّله منزلة مَنْ لم يعمله، فيُعاقب على ترك الأمر، فإن الله-سبحانه-إنما أمر بعبادته عبادة خالصة؛ قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة الآية: 5].
فمن لم يُخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به، فلا يصح ولا يُقبل منه، ويقول الله:«أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريءٌ»
(2)
.
وهذا الشركُ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر، والنوع الأول ينقسم
(1)
رواه البخاري في «الأدب المفرد» (716)، وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 60)، وصححه الألباني في «صحيح الأدب المفرد» (266).
(2)
رواه بهذا اللفظ ابنُ ماجه (4202) ومسلم (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ مسلم:«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ مَنْ عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَه» .
إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفور؛ فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم: أن يحب مخلوقًا كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يَغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة الآية: 165]، وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعهم الجحيم:{تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين} [الشعراء الآيات: 97، 98].
ومعلوم أنهم ما سَوُّوهم به-سبحانه-في الخلق والرِّزق والإماتة والإحياء والمُلك والقدرة، وإنما سوُّوهم به في الحبِّ والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم؛ فكيف يُسَوَّى الترابُ بربِّ الأرباب، وكيف يُسَوَّى العبيد بمالك الرِّقاب، وكيف يسوى الفقير بالذات الضعيف بالذات العاجز بالذات المحتاج بالذات، الذي ليس له مِنْ ذاته إلا العدم؛ بالغني بالذات، القادر بالذات، الذي غِناه وقدرته وملكه وجُوده وإحسانه وعِلمه ورحمته وكماله المطلق التام مِنْ لوازم ذاته؟!
فأيُّ ظلم أقبح مِنْ هذا؟ وأيُّ حكم أشد جَوْرًا منه؟ حيث عَدَل مَنْ لا عِدْلَ له بخلقه، كما قال تعالى:{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور * ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} [الأنعام الآية: 1].
فعدل المشركُ مَنْ خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، بِمَنْ لا يَملك لنفسه ولا لغيره مِثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ فيَا لَكَ مِنْ عَدْل تَضَمَّن أكبرَ الظُّلْم وأقبحَه»
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى
(1)
«الجواب الكافي» (ص 129 - 133).
«التوحيد» ، فإن عامة المتكلمين الذين يقرّرون التوحيد في كتب الكلام والنظر- غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث: وهو توحيد الأفعال وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى قد يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع".
الشرح
الخلاف في مسألة التوحيد يعود في أصله إلى الخلاف في قضية الإيمان وفي هذا الشأن يبين شيخ الإسلام ابن تيمية أصل هذه المسألة فيقول: «وأصلُ الإيمان: قولُ القلب الذي هو التَّصديق. وعمل القلب الذي هو المحبة على سبيل الخضوع؛ إذ لا مُلائمة لأرواح العباد أتم من ملاءمة إلهها؛ الذي هو الله الذي لا إله إلا هو» .
ولذلك كان منهج السلف يقوم على أمرين؛ هما:
1 -
العلم بالله.
2 -
والعمل لله.
فجمعوا بذلك بين التصديق العِلمي والعَمل الحُبِّي، وبذلك تميز منهج أهل السنة والجماعة (السلف) عن المناهج الأخرى.
وحققوا كِلا الأمرين؛ من القول التصديقي المعتمد على معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة. والعمل الإرادي، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي وفق ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان كلامهم وعملهم باطنًا وظاهرًا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونًا بالآخر، وهؤلاء هم المسلمون حقًّا؛ الذين سَلِموا من آفات منحرفة
المتكلمة والمتصوفة.
فوقعت كل طائفة من هاتين الطائفتين المنحرفتين في مفسدتين:
إحداهما: القول بلا علم إن كان متكلمًا، والعمل بلا علم إن كان متصوفًا.
والمفسدة الثانية: فوت المتكلم العمل، وفوت المتصوف القول والكلام
(1)
.
وهو ما وقع من البدع الكلامية والعملية المخالفة للكتاب والسنة.
فالكلاميون: غالب نظرهم وقولهم في الثبوت والانتفاء، والوجود والعدم، والقضايا التصديقية؛ فغايتهم مجرد التصديق والعلم والخبر؛ فاعتنوا بجانب علمي لم يَنْبَنِ على الكتاب والسنة؛ لذلك عَطَّلوا أسماء الله تعالى، وعَطَّلوا صفاتِه عز وجل.
وعندما عَرَّفوا التوحيد؛ قالوا: «واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله» . وأهملوا جانب توحيد العبادة: «واحد في ذاته» قالوا: «لا شريكَ له» . و «واحد في صفاته» : «لا نظير له» . و «واحد في أفعاله» : «لا نِدَّ له» . فهذا تقسيمهم للتوحيد
(2)
، ويُلاحظ أنه قد خلا في هذه الثلاثة من الجانب العملي، فلا يوجد عمل، ثم إذا تحدثوا عن ذات الله تعالى تحدثوا بالتعطيل؛ فقالوا بما قالوا:«ليس في جهة، ولا في عُلو، ولا في مكان، ولا في حيز» ولا إلى غير ذلك؛ فجعلوه والعدم سواء، وإذا تحدثوا عن صفات الله تعالى تحدثوا عن سبع صفات فقط، وإذا تحدثوا عن أفعال الله تعالى هذا هو الذي سَلِم لهم:«توحيد الربوبية» ؛ فلم يَسلم لهم إلا توحيد الربوبية، ونحن نعلم أن كفار قريش كانوا مُقِرِّين بتوحيد الربوبية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
(1)
«مجموع الفتاوى» (2/ 41) بتصرف.
(2)
انظر في ذلك من كتب الأشاعرة: ((مجرد مقالات الأشعري)) لابن فروك (ص: 55)، ورسالة الحرة للباقلاني - المطبوعة باسم ((الإنصاف)) - (ص: 33 - 34)، و ((الاعتقاد للبيهقي)) (ص: 63)، و ((شرح أسماء الله الحسنى)) للقشيري (ص: 215)، و ((الشامل)) (ص: 345 - 348)، و ((الإرشاد)) (ص: 52)، و ((لمع الأدلة)) (ص: 86)، و ((إحياء علوم الدين)) (1/ 33)، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 49)، و ((نهاية الإقدام)) (ص: 90) ((المِلل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/ 42). وغيرها.
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]؛ فهذا حاصل توحيد هؤلاء.
وأمَّا الصُّوفيون: فغالب طلبهم وعملهم في المحبة والبغضة، والإرادة والكراهة، والحركات العملية؛ فاعتنوا بجانب العمل، وأهملوا جانب العلم، وكذلك عملهم لم ينبنِ على السنة، وإنَّما انبنى على البدعة؛ إذ غايتهم المحبة والانقياد والعمل والإرادة.
وهكذا إذا جئنا إلى أهل التصوف لم نجد عندهم من حقيقة التوحيد شيء.
أمَّا توحيدُ أهل السُّنَّة فيقوم على هذين الأصلين العظيمين: أن تَعرف اللهَ، وذاك بمعرفة أسمائه وصفاته التي وردت في الكتاب والسُّنَّة. وأن تعبد الله، وهذا باتِّباع شرع الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالتوحيد الذي يقرره أهل السنة يقوم على معرفة أسماء الله وصفاته، الإقرار بربوبيته وإفراده بالعبادة، فلا بد من هذه الأمور مجتمعة، فلا يتم توحيد العبد حتى يكون مؤمنًا بأسماء الله تعالى وصفاته، مؤمنًا بربوبيته ومفردًا له بالعبادة والألوهية.
أما التوحيد الذي عند الأشاعرة
(1)
-على سبيل المثال-فهو منحصر في مسألة
(1)
الأشاعرة يخالفون أهل السنة في الكثير من مسائل الاعتقاد.
ومنها على سبيل المثال:
1 ـ أن مصدر التلقي عندهم في قضايا الإلهيات (أي التوحيد) والنبوات هو العقل وحده، فهم يقسمون أبواب العقيدة إلى ثلاثة أبواب: إلهيات، نبوات، سمعيات، ويقصدون بالسمعيات ما يتعلق بمسائل اليوم الآخر من البعث والحشر والجنة والنار وغير ذلك.
وسموها سمعيات لأن مصدرها عندهم النصوص الشرعية وأما ما عداها أي الإلهيات والنبوات فمصدرهم فيها العقل.
2 ـ زعمهم أن الإيمان هو مجرد التصديق، فأخرجوا العمل من مسمى الإيمان.
3 ـ بناءً على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا توحيد الألوهية من تقسيمهم للتوحيد، فالتوحيد عندهم هو أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا نظير له. وهذا التعريف خلا من الإشارة إلى توحيد الألوهية، فلذلك فإن أي مجتمع أشعري تجد فيه توحيد الإلهية مختلاً، وسوق الشرك والبدعة رائجة لأن الناس لم يعلّموا أن الله واحد في عبادته لا شريك له.
4 ـ وبناءً كذلك على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا الاتباع من تعريفهم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فحصروا الإيمان بالنبي في الأمور التصديقية فقط، ومن أجل ذلك انتشرت البدع في المجتمعات الأشعرية.
5 ـ خالفوا أهل السنة في أسماء الله وصفاته.
6 ـ خالفوا أهل السنة في باب القدر، فقولهم موافق لقول الجبرية.
7 ـ خالفوا أهل السنة في مسألة رؤية الله من جهة كونهم يقولون يرى لا في مكان.
8 ـ خالفوا أهل السنة في مسألة الكلام، فهم لا يثبتون صفة الكلام على حقيقتها بل يقولون بالكلام النفسي. إلى غير ذلك من أنواع المخالفات.
واحدة وهي قضية الربوبية، فيعرفون التوحيد بقولهم: إن الله واحد في ذاته لا شريك له، وواحد في أفعاله لا ند له، وواحد في صفاته لا نظير له فقولهم: واحد في ذاته؛ فهذا إذا نظرت فيه وتأملت فيه تجد فيه إنكار لأن يكون لله وجوداً يتميز به عن غيره، فهم يحشون هذا الجانب بمسائل إنكار الجهة وإنكار الحيز وإنكار المكان إلى غير ذلك من النفي الذي لو جئت تتأمل فيه تجد أنهم لا يثبتون لله وجودًا يتميز به عن غيره، فإذا كان قائلهم يقول: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا مباينًا له ولا محايدًا له
(1)
. وهذا وصف المعدوم، فهذا حقيقة قولهم "واحد في ذاته".
وأما قولهم "واحد في أفعاله" فهذا الذي يسلم لهم من التوحيد، وهذا القدر الموجود عندهم وهو الإقرار بربوبيته.
وأما واحد في صفاته فهو عند المتأخرين سبع صفات وإن أوصلوها إلى عشرين صفة وهو عدد زائف لا يخلص منه إلا هذه السبع التي ذكروها وإن كان في إثبات صفة الكلام مخالفة للحق.
أما توحيد الألوهية فلا ذكر له، ولذلك انظر إلى أي مجتمع أشعري أو ماتريدي تجد أن الشرك قد تفشى فيه.
(1)
انظر كتاب درء تعارض العقل والنقل الجزء الخامس صفحة (128).
إذًا أي توحيد هذا الذي يقرر ويعلم، وفي الوقت نفسه تجد معالم الشرك موجودة ومنتشرة، ولا تجد من يردع ذلك حتى بين بعض علمائهم، وليس الأمر مقتصرًا على جهالهم، لو كان الأمر مقتصرًا على جهالهم لقلنا هذا لجهلهم، ولكن حتى علماؤهم يَدْعون إلى هذا الشرك ولا يرون فيه مخالفةً أو مناقضةً للتوحيد.
فإذًا فرقٌ بين توحيد أهل السنة وتوحيد الأشاعرة؛ فإن توحيد أهل السنة يعني إفراد الله بأسمائه وصفاته كلها وإفراد الله بربوبيته وإفراد الله بعبادته، فلا يتم توحيد العبد حتى يوحد الله في هذه الأمور مجتمعة، ولذلك تجد أن أهل السنة أبعد الناس عن الشرك ومظاهره حتى عند عوامِّهم، تجد أن العامِّي يعرف أن فعل هذه الأمور يؤدي إلى الشرك ولذلك تختفي معالم الشرك متى ما وجد اعتقاد أهل السنة.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما التوحيد الذي ذكر الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة، فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة، الآية: 163]. فأخبر أن الإله إله واحد لا يجوز أن يتخذ إلهًا غيره، فلا يعبد إلا إياه، كما قال في السورة الأخرى:{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل، الآية: 51]. وكما قال: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} إلى: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء، الآيات: 22 - 39].
وكما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآيات: 1 - 3].
وكما قال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان، الآية: 68].
والشرك الذي ذكره الله في كتابه، إنما هو عبادة غيره من المخلوقات كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم أو قبورهم، أو
غيرهم من الآدميين، ونحو ذلك مما هو كثير في هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محقق في التوحيد، وهو من أعظم الناس إشراكًا"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بُعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولا- لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرّون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر أيضا، وهم مع هذا مشركون".
الشرح
يناقش المصنف تعريف المتكلمين للتوحيد بشكل مفصل ويبين غلطهم في ذلك التعريف على وجه التفصيل، فأهل الكلام يحصرون التوحيد في الأمور الثلاثة التي سبق ذكرها، ومن هذه الثلاثة قولهم "واحد في أفعاله لا شريك له"
قال ابن تيمية رحمه الله: "هذا المعنى من معاني التوحيد -عند هؤلاء الأشعرية، كالقاضي أبي بكر (4) وغيره- هو أنه سبحانه لا شريك له في الملك، بل هو رب كل شيء، وهذا معنى صحيح، وهو حق، وهو أجود ما اعتصموا به من الإسلام في أصولهم، حيث اعترفوا فيها بأن الله خالق كل شيء ومربه، ومدبره.
والمعتزلة وغيرهم يخالفون في ذلك، حيث يجعلون بعض المخلوقات لم يخلقها الله ولم يحدثها، لكن مع هذا قد ردوا قولهم ببدع غلوا فيها، وأنكروا ما خلقه الله من الأسباب، وأنكروا ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله يخلق الأشياء بعضها ببعض، وغير ذلك مما ليس هذا موضعه. "
(2)
(1)
التسعينية 3/ 797.
(2)
التسعينية 3/ 796.
ومعلوم أن هذا القدر من التوحيد يقر به المشركون كما تقدم ذكره مما دلت عليه النصوص الشرعية من أن مشركي العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وتوحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد، ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.
ولذا يقول الله تعالى}: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، والمعنى أي: ما يقر أكثرهم بالله رباً وخالقاً ورازقاً ومدبراً- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع.
وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون".
وقال عِكْرِمَة: "تسألهم من خلقهم، ومن خلق السماوات والأرض، فيقولون الله، فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره".
وقال مجاهد: "إيمانهم قولهم: الله خالقنا، ويرزقنا، ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: (ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الشعراء:] 75 - 77.
(1)
" [
(1)
((تفسير ابن جرير)) (16/ 289).
والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله رباً خالقًا رازقًا مدبرًا، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء، يدعونهم، ويستغيثون بهم، وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم.
وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت الآية: 61]، وقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت الآية: 63]، وقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف الآية: 87]، وقوله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون الآيات: 84 - 89].
فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً استقلالاً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، ولا تسمع، ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق، والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله، ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر الآية: 3]، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام، بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون، وتوعدهم بالنار والخلود فيها، واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة.
وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة. فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال"
(1)
.
وهذا التوحيد - أي توحيد الربوبية - لا يكفي العبد في حصول الإسلام بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس الآية: 31 [وقال تعالى}: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف الآية: 87 [وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت الآية: 63 [وقال تعالى}: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل الآية: 62 [فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف الآية: 106 [قال مجاهد: في الآية: إيمانهم بالله قولهم: الله [خالقنا] ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون
(1)
المصدر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص 15:
له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران الآية: 67 [وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر كما قال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
…
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وقال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهرب
…
إن كان ربي في السماء قضاها
ومثل هذا يوجد في أشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الإقرار والمعرفة وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله
(1)
.
قال ابن القيم: "فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجي من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده، فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته"
(2)
(4)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقا لغير
(1)
المصدر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله آل الشيخ - ص 17.
(2)
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - ص 35.
الله، كالقدرية وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إنهم خالقوا أفعالهم.
وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، فهم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون إنها غنيّة عن الخالق، مشاركة له في الخلق.
فأما من أنكر الصانع فذلك جاحد معطِّل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون، والكلام الآن مع المشركين بالله المقرِّين بوجوده، فإذًا هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون، بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام".
الشرح
المصنف يتكلم عن نوع من أنواع الشرك كما سيأتي بيانه ومما ينبغي معرفته أن الشرك في أصل تقسيمه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شرك يتعلق بذات المعبود، أي: ما يتعلق بأفعاله وأسمائه وصفاته.
القسم الثاني: شرك يتعلق بعبادته سبحانه وتعالى.
ثم الشرك الذي يتعلق بذات الخالق-سبحانه وتعالى-نوعان:
النوع الأول: شرك تمثيل.
النوع الثاني: شرك تعطيل.
ففي توحيد الربوبية شركان، وفي توحيد الأسماء والصفات-كذلك-شركان.
فلذلك ضدُّ التوحيد: الشرك، والشرك-كما قلنا-: شركٌ في الربوبية وشرك في الأسماء والصفات وشرك في الألوهية.
أما الذي في الربوبية وفي الأسماء والصفات، فهو ينقسم إلى قسمين: شرك في التمثيل، وشرك في التعطيل.
فالربوبية-مثلًا-الشرك فيها شركان:
الأول: شرك التمثيل.
وهذا النوع هو ما قصده المصنف هنا بقوله: ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقا لغير الله"
وتعريفه هو:
أن يَصرف فعلًا من أفعال الله تعالى لغير الله، مع جعل هذا الفعل لله تعالى؛ كالذي يعتقد أن الله يرزق وصاحب القبر يرزق، أو أن لله قدرة وأنَّ للكواكب قدرة؛ فهذا نسميه شِركًا في الربوبية.
فمثلًا الذين يعتقدون أن للنجوم وللكواكب تأثيرًا في مجريات الأحداث بالكون، فإن هؤلاء أشركوا شركَ تمثيلٍ في الربوبية؛ لأنهم جعلوا مع الله مُماثلًا في هذا الفعل؛ فاعتقدوا أن الله يؤثر في الكون وأن الكواكب تؤثر كذلك.
وكالذي يقع فيه بعضُ عُبَّادِ القبور الذين يعتقدون أن صاحب القبر يستطيع أن ينفع وأن يَضر بنفسه، وأنه يرزق بنفسه، وأنه يأتي بالولد بنفسه، وهكذا، فهذا نسميه شركَ التمثيل.
والمصنف هنا أشار لبعض الأمثلة على هذا النوع من الشرك:
المثال الأول: قوله: " كالقدرية وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إنهم خالقوا أفعالهم".
المثال الثاني: قوله: "وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، فهم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات
مصنوعة مخلوقة، لا يقولون إنها غنيّة عن الخالق، مشاركة له في الخلق".
ولمزيد من التوضيح لهذا النوع من الشرك يقول ابن القيم: "حقيقة الشرك هو:
1 ـ التشبه بالخالق.
2 ـ التشبيه للمخلوق به.
هذا هو التشبيه في الحقيقة"
(1)
.
وإذا كان التشبيه هو حقيقة الشرك كما ذكر ابن القيم، فإنه يمكن توضيح صوره بناءً على أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة وذلك على النحو التالي:
أولاً: التمثيل في جانب الربوبية
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومثاله:
1 ـ شرك القدرية القائلين بأن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته.
2 ـ شرك غلاة عباد القبور الذين يعتقدون في أصحاب القبور أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون من دون الله.
ولا شك أن من خصائص الرب التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، -فضلاً عن غيره-شبيهاً لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي
(1)
الجواب الكافي (159).
لما منع.
فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات
(1)
.
القسم الثاني: التشبه بالخالق، ومن أمثلته:
1 ـ من تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم
(2)
.
ففي الصحيح عنه رضي الله عنه قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته".
ثانياً: التمثيل في جانب الألوهية.
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومن أمثلة ذلك:
السجود لغير الله، والذبح لغير الله، والتوبة لغير الله، والحلف بغير الله.
فمن خصائص الإلهية، العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما:
1 ـ غاية الحب
2 ـ مع غاية الذل
هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه.
فإذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
(1)
الجواب الكافي (ص 159 - 160).
(2)
المصدر السابق (ص 161).
ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به.
ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً له، فمن حلف بغيره فقد شبهه به
(1)
.
القسم الثاني: التشبه به، ومثاله:
من دعا الناس إلى تعليق القلب به خوفاً، ورجاءً، وتوكلاً، والتجاءً، واستعانةً
(2)
، كما يفعله بعض مشايخ طرق الصوفية مع مريديهم.
أقسام التمثيل في باب الأسماء والصفات:
ينقسم التمثيل في باب الأسماء والصفات إلى قسمين:
القسم الأول: تمثيل المخلوق بالخالق.
وهذا ما زعمه النصارى في شأن عيسى عليه السلام إذ أعطوه خصائص الخالق عز وجل وجعلوه إلهاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، وقالوا المسيح ابن الله"
(3)
.
ومن هذا القسم كذلك السبيئة
(4)
من غلاة الروافض: الذين شبهوا علياً رضي الله عنه بالله، وجعلوه إلهاً، وقالوا: أنت الله حتى حرقهم، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له.
(1)
انظر الجواب الكافي (ص 160 - 161).
(2)
المصدر السابق (ص 161).
(3)
منهاج السنة (5/ 169).
(4)
السبيئة: نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أظهر الإسلام، وكاد للمسلمين كيداً عظيماً، وهو الذي قال لعلي: أنت الله. انظر: الفرق بين الفرق (ص 233)، والملل والنحل (1/ 174).
فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو. قال: من أنا؟ قالوا: أنت الله الذي لا إله إلا هو.
فقال: ويحكم هذا كفر، فارجعوا عنه، وإلا ضربت أعناقكم، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك، فأخرهم ثلاثة أيام -لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام-فلما لم يرجعوا، أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كندة، وقذفهم في تلك النار، وروي عنه أنه قال:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً
…
أججت ناري ودعوت قنبراً"
(1)
القسم الثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق
وهذا ما زعمه اليهود قاتلهم الله إذ وصفوا الخالق ببعض صفات المخلوقين، كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه العزيز حيث قال:{لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران الآية: 181]، وقال تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة الآية: 64].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فاليهود تصف الرب بصفات النقص التي يتصف بها المخلوق، كما قالوا: إنه بخيل، وإنه فقير، وإنه لما خلق السموات والأرض تعب"
(2)
.
وإنّه رمد وعادته الملائكة وإنّه بكى على طوفان نوح عليه السلام
(3)
.
ويدخل في هذا القسم المشبهة الذين جعلوا ما ورد من صفات الله جل وعلا مماثلاً ومشابهاً لصفات المخلوقين كقولهم له يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري.
(1)
منهاج السنة (1/ 307).
(2)
منهاج السنة (5/ 168).
(3)
منهاج السنة (2/ 627).
هذا ما يتعلق ببيان هذا النوع من الشرك الذي هو شرك التمثيل.
وأما ما يتعلق بشرك التعطيل، فهذا النوع هو الذي أشار له المصنف بقوله:"فأما من أنكر الصانع فذلك جاحد معطِّل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون".
فالنوع الثاني: وهو شرك تعطيل:
فتعريفه:
1 -
أن يَجحد الخالق سبحانه وتعالى وهو أن ينكر جميع أفعال الخالق، وهذا الذي نسمِّيه: الملحد.
2 -
أو أن يُعَطِّل أفعاله إمَّا تعطيلًا كليًّا، وإمَّا تعطيلًا جزئيًّا، فهناك مَنْ يعطِّل بعض أفعال الخالق؛ كالذي يُنكر قدرة الله تعالى في فِعل العبد، فقدرة الله فِعْلٌ من أفعاله، فإذا أنكره يكون بذلك معطِّلًا لهذا الفعل من أفعاله؛ لذلك فالتعطيل إمَّا أن يكون تعطيلًا كليًّا، وإمَّا أن يكون تعطيلًا جزئيًا.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكذلك النوع الثاني، وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته، فإنه ليس في الأمم من أثبت قديما مماثلا له في ذاته سواء قال: إنه مشاركه، أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبّه به شيئا من مخلوقاته فإنما يشبّهه به في بعض الأمور.
وقد عُلم بالعقل امتناع أن يكون له مِثْلٌ في المخلوقات، يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم، وعلم أيضا بالعقل أن كل موجودَيْن قائمين بأنفسهما فلا بدّ بينهما من قدر مشترك، كاتفاقهما في مسمى «الوجود» و «القيام بالنفس» و «الذات» ونحو ذلك، وأن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لا بدّ من إثبات خصائص الربوبية. وقد تقدم الكلام على ذلك.
ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى «التوحيد» ، فصار من قال: إن لله علما أو قدرة، أو إنه يُرى في الآخرة، أو إن القرآن كلام الله منزّل غير مخلوق- يقولون: إنه مشبِّه ليس بموحد.
وزاد عليهم غلاة الجهمية والفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى، وقالوا: من قال: إن الله عليم قدير عزيز حكيم، فهو مشبِّه ليس بموحد.
وزاد غلاة الغلاة، وقالوا: لا يوصف بالنفي ولا الإثبات، لأن في كل منهما تشبيها له.
وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر ممّا فروا منه، فإنهم شبّهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات فرارا من تشبيههم- بزعمهم- له بالأحياء.
ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له على حد ما يثبت لمخلوق أصلًا، وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات، فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك. فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيدا، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه، ويسمون نفوسهم «الموحِّدين» .
الشرح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من معاني الواحد عندهم-أي المتكلمين-هو الذي لا شبيه له، وهذه الكلمة أقرب إلى الإسلام، لكن أجملوها فجعلوا نفي الصفات أو بعضها داخلًا في نفي التشبيه، واضطربوا في ذلك على درجات لا تنضبط، والمعتزلة تزعم: أن نفي العلم والقدرة وغير ذلك من التوحيد ونفي التشبيه والتجسيم.
والصفاتية تقول: ليس ذلك من التوحيد ونفي التجسيم والتشبيه، ثم هؤلاء مضطربون فيما ينفونه من ذلك، لكن أولئك على أن ما نفوه من [التشبيه وما نفوه من] المعنى الذي سموه تجسيمًا هو التوحيد الذي لا يتم الدين إلا به، وهو أصل الدين عندهم.
وكل من سمع ما جاءت به الرسل يعلم بالاضطرار أن هذه الأمور ليست مما بعث الله به رسوله، ولم يكن الرسول يعلم أمته هذه، الأمور، ولا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، فكيف يكون هذا التوحيد الذي هو أصل الدين لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون؟ بل يعلم بالاضطرار أن الذي جاء به الرسول من الكتاب والسنة يخالف هذا المعنى الذي سماه هؤلاء الجهمية توحيدًا.
ولهذا ما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون ذلك، كما روى الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، في ذم الكلام قال:"سمعت عبد الرحمن بن جابر السلمي قال: سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه يقول: جاء رجل إلى المزني فسأله عن شيء من الكلام، فقال: إني أكره هذا، بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، ولقد سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام في التوحيد. قال مالك: محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء، ولم يعلمهم التوحيد، فالتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"
(1)
[فما] عصم به
(1)
الحديث بهذا اللفظ رواه الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت
…
سنن الترمذي 5/ 439 كتاب تفسير القرآن- باب 78 - تفسير سورة الغاشية - الحديث/ 3341.
وأخرجه البخاري مع اختلاف في الألفاظ في كتاب الإيمان- باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم-".
وفي كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} - 8/ 162.
ومسلم -كتاب الإيمان- باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة .. 1/ 51 - 53 - الأحاديث/ 32 - 36. "
الدم والمال فهو حقيقة التوحيد.
وقد روى ذلك [شيخ الإسلام] أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب ذم الكلام، والشيخ أبو الحسن الكرجي في كتاب الفصول في الأصول"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكذلك النوع الثالث، وهو قولهم: هو واحد لا قسيم له في ذاته، أو لا جزء له، أو لا بعض له- لفظ مجمل، فإن الله سبحانه وتعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فيمتنع أن يتفرق، أو يتجزأ، أو يكون قد رُكِّب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد.
فقد تبين أن ما يسمونه «توحيدًا» فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقا، فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا فيه من الشرك الذي وصفهم الله به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لا بدّ أن يعترفوا بأنه لا إله إلا الله".
الشرح
يقول شيخ الإسلام: "وكان كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد، والتوحيد، بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية، ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك"
(2)
ولاشك أن أئمة الأشاعرة المتقدمين
(1)
التسعينية 3/ 781 - 782.
(2)
نقلاً عن ((نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 468 - 469).
كالأشعري وغيره يثبتون لله صفات العلو، والاستواء، والصفات الخبرية، ولا تقتضي عندهم تشبيهاً، كما أن إثباتها لا يعارض ما يقولون به من التوحيد لله تعالى.
فقولهم: إن الواحد هو الذي لا ينقسم ولا يتجزأ وليس بجسم، ليس معروفاً في لغة العرب، بل المعروف في لغة العرب أنهم يطلقون على كثير من المخلوقات أنه واحد وهو جسم، بل لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد، الأحد، الوحيد إلا فيما يسمونه هم جسماً ومنقسماً، كقوله تعالى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر الآية: 11]، وقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء الآية: 11]، وقوله:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف الآية: 32 - [إلى قوله-} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف الآية: 37]، وقوله}: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَّخِيلٍ} [البقرة الآية: 266]، وقوله تعالى}: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف الآية: 49 [والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وفرس واحد، وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد
…
فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسماً منقسماً، لأن ما لا يسمونه هم جسماً منقسماً ليس هو شيئاً يعقله الناس، ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه"
(1)
.
وفي موضع آخر يذكر شيخ الإسلام نصوصاً عديدة من الكتاب والسنة، ويعلق عليها. فيقول في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء الآية: 1 [ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم، وحواء خلقت من ضلع آدم القصيراء، من جسده خلقت، لم تخلق من روحه، حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها. وإذا كانت حواء خلقت من
(1)
((درء التعارض)) (7/ 114 - 116).
جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام، وقد سماها الله نفساً واحدة، علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة"
(1)
.
ويقول معلقاً على استدلال الإمام أحمد: "وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر الآية: 11]، فإن الوحيد مبالغة في الواحد، فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام"
(2)
، ثم يذكر بعد ذكر نصوص القرآن نصوص عديدة من السنة، منها أحاديث الصلاة في الثوب الواحد، مثل ما ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم)) سئل: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان
(3)
، وحديث ((نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء))
(4)
، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كان يصلي في واحد))
(5)
، وحديث مروره- صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال:((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة))
(6)
وغيرها من الأحاديث كثير
(7)
، وهي تدل على استخدام لفظ الواحد فيما هو جسم، خلافاً لما يزعمه هؤلاء.
وإذا كان الأمر كذلك من أن الغالب في اللغة أن اسم الواحد يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة الآية: 163 [وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 1]، ونحو ذلك مما أنزله الله
(1)
نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 488).
(2)
((نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 488).
(3)
((نقض التأسيس)) (1/ 489) والحديث رواه البخاري (358).
(4)
رواه البخاري (359) ومسلم (516).
(5)
رواه البخاري (355) ومسلم (517).
(6)
رواه البخاري (1361) ومسلم (292).
(7)
انظر: ((نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 489 - 492).
بلغة العرب، وأخبرنا فيه أنه واحد، وأنه إله واحد - على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحداً مما ليس معروفاً في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر، كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديماً بنفسه، متصفاً بالصفات، مبايناً لغيره، مشاراً إليه. وما لم يكن مشاراً إليه أصلاً، ولا مبايناً لغيره، ولا مداخلاً له، فالعرب لا تسميه واحداً ولا أحداً، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، لا على مطلوبهم"
(1)
.
وشيخ الإسلام بهذه الأدلة الكثيرة إنما يقرر قاعدة من القواعد المهمة في باب الصفات وغيرها، وهي أن تفسير النصوص - في الصفات وغيرها - إنما يرجع فيه إلى لغة الذين خوطبوا به أول مرة، وماذا فهموا من النصوص، أما أن تنشأ مصطلحات جديدة، وتحمل النصوص عليها فهذا مخالف لما هو متواتر من أن القرآن هدى للناس، وفيه البيان التام. وهذه من المسائل الكبرى في الخلاف بين مذهب السلف وغيرهم من أهل البدع، لأنه إذا وقع خلاف حول نص من النصوص، فقال قائل: هذا يدل على إثبات الصفات لله، وقال الآخر: لا يدل، فمن الذي يفصل في المسألة، ويبين الحق فيها، وكل يدعي أن الحق معه؟ أهل البدع من النفاة يرجعون في ذلك إلى عقولهم، أو على أقوال شيوخهم، أو إلى شواذ اللغة، أو إلى مصطلحات أهل الفلسفة التي تلقوها عن غير المسلمين.
أما السلف فيرجعون إلى النصوص الأخرى، من الكتاب، والسنة التي تبين هذا النص وتوضحه، ويرجعون إلى لغة العرب، وفهم الصحابة والسلف من خير القرون، وما قالوه في بيان معنى هذا النص، ولذلك يقول شيخ الإسلام - في معرض
(1)
((درء التعارض)) (7/ 117).
رده على الرازي حول استدلاله بالواحد والأحد على نفي الصفات-: "إن الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها، وقد نزل بلغة قريش كما قال تعالى}: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم الآية: 4 [وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء الآية: 195 [فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص - بل ولا يحمله إلا على معاني عنوها بها، إما (أخص) من المعنى اللغوي أو أعم، أو مغايراً له، لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو، بل يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته، ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفاً للكلام عن مواضعه، ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها، كما أن من المتكلمين من يقول: الأحد هو الذي لا ينقسم، وكل جسم منقسم، ويقول: الجسم هو مطلق المتحيز، القابل للقسمة، حتى يدخل في ذلك الهواء وغيره، لكن ليس له أن يحمل كلام الله، وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته، وهي لغة العرب عموماً، ولغة قريش خصوصاً.
ثم يطبق هذا على المثال المطروح فيقول: "ومن المعلوم المتواتر في اللغة، الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون: درهم واحد، ودينار واحد، ورجل واحد، وامرأة واحدة، وشجرة واحدة، وقرية واحدة، وثوب واحد، وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد، فيقولون: رجل واحد، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وأربعة رجال. وهذا من أظهر اللغة، وأشهرها، وأعرفها، فكيف يجوز أن يقال: إن الوحدة لا يوصف بها شيء من الأجسام، وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام؟ "
(1)
.
فهذه الاصطلاحات الحادثة، التي يحدثها الناس، أو أرباب العلوم المختلفة في
(1)
((نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 492 - 493).
كل عصر، هي اصطلاحات لهم-ولا مشاحة في أن يتفق أهل فن أو علم على اصطلاح معين يتعارفون عليه-ولكن الخطأ أن يجعل هذا المصطلح الحادث هو المرجع في تفسير النصوص التي نزلت، وتلاها الناس، وفسروها، وفهموها في زمن سابق قبل أن تنشأ تلك المصطلحات الحادثة، فكيف إذا كانت هذه المصطلحات تصادم المعنى الحق الذي دلت عليه النصوص، وقد أورد شيخ الإسلام اعتراضاً حول موضوع الواحد مضمونه: أنه قد يقال: إنه يجوز أن يستعمل لفظ الواحد فيما قصده المتكلمون عن طريق المجاز، أو المشترك اللفظي، أو غيره وقد أجاب بقوله:"هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك، لكن نحن نعلم أنهم (أي العرب الذين نزل بلغتهم القرآن) لم يستعملوه في ذلك، لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى"
(1)
، ثم يحسم شيخ الإسلام بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعاه هؤلاء في مسمى التوحيد من وجوه عشرة مهمة
(2)
قال في آخرها: "فتبين أن لفظ التوحيد، والواحد، والأحد في وضعهم واصطلاحهم غير التوحيد، والواحد، والأحد في القرآن، والسنة، والإجماع، وفي اللغة التي جاء بها القرآن، وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي لفظ التوحيد على ما يدعونه هم، لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون، بعد انقراض عصره، وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته
…
"
(3)
. وهذا ينطبق على مسألة الواحد، والتوحيد، وعلى غيرها مما جاء به القرآن الكريم مما يتعلق بأسماء الله وصفاته.
ثم إن لفظ "الأحد" لم يجئ اسماً في الإثبات إلا لله تعالى، أما في حق غيره فلم
(1)
((درء التعارض)) (7/ 119).
(2)
انظرها في ((درء التعارض)) (7/ 120 - 121).
(3)
انظرها: في ((درء التعارض)) (7/ 122 - 223).
يستعمل إلا مع الإضافة، أو في غير الموجب، كالنفي، والشرط، والاستفهام.
فاستعماله في الإثبات لله كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 1].
أما استخدامه في حق غير الله مضافاً فكقوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف الآية: 36].
وفي النفي كقوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف الآية: 49].
والشرط كقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة الآية: 6].
والاستفهام كما تقدم قريباً في حديث: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ ويقال: هل عندك أحد؟. ونكتة الرد هنا أن لفظ الأحد لم يستعمل فيما ادعاه هؤلاء لا في النفي، ولا في الإثبات، ولو فرض أن معناه - ما ليس بجسم كما يزعم هؤلاء - لوقع تناقض عظيم؛ فإنه يقال: إذا كان في الإثبات معناه إن الله أحد أي ليس بجسم، فهل يكون في النفي كذلك؟ هل يقال: إن معنى قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 4 [لم يكن ما ليس بجسم كفواً له، ومعنى قوله تعالى:{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف الآية: 26 [لا يشرك في حكمه ما ليس بجسم، ومعنى قوله:{لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [الجن الآية: 22 [أي لن يجيرني من الله ما ليس بجسم؟ هل يكون مفهوم هذه النصوص أنه قد يكون ما هو جسماً كفواً له، وقد يشرك في حكمه ما هو جسم وهكذا؟. هل يقول هذا عاقل، وهل يمكن أن تكون النصوص قد جاءت بمثل هذا التناقض والباطل.
(1)
كما أن قولهم باطل من جهة العقل أيضاً، يقول شيخ الإسلام: "أما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء، وأهل الفطر السليمة: إنه أمر
(1)
انظر: ((تفسير سورة الإخلاص، مجموع الفتاوى)) (17/ 235)، و ((درء التعارض)) (7/ 121)، و ((نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 493 - 494).
لا يعقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن، ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر، ولا يتميز منه شيء عن شيء، بحيث يمكن أن لا يرى، ولا يدرك، ولا يحاط به، وإن سماه المسمى جسماً، وأيضاً فإن التوحيد إثبات لشيء واحد، فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها، ويتميز بها عما سواه، حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية، ومجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم، فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحداً"
(1)
، فهؤلاء ظنوا أن ما يتصورونه في أذهانهم موجود في الخارج، وهذا من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها أهل الكلام، والتصوف، والفلسفة، ونبه شيخ الإسلام عليها كثيراً، مثل قول غلاة الصوفية إن الوجود واحد، وإن وجود الله هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، ومثل قول الفلاسفة، بالجواهر، والمجردات العقلية، حيث يزعمون أن الحقائق الموجودة في الخارج كالإنسان، والفرس، مكونة من المادة الكلية، والصورة الجوهرية، ويزعمون أنهما جوهران عقليان، وهذا كله في الذهن، لأن الموجود لا يوجد إلا معيناً، فيقال وجود الواجب، وهو الله، ووجود الممكن، كفلان وفلان، وكذلك هذه العقليات المجردة إنما تتصور في الأذهان، أما في الحقيقة والواقع فليس إلا الموجودات بأعيانها"
(2)
.
كما أن قول هؤلاء معارض للشرع، يقول شيخ الإسلام في بيان بطلان قولهم لغة، وعقلاً، وشرعاً: "وأما الشرع فنقول: مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن، والسنة، وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم تعرف مسميات تلك الأسماء، حتى يعطوها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم
(1)
((نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 483).
(2)
انظر: ((درء التعارض)) (7/ 124 - 127).
يقصد به سلب الصفات، وسلب إدراكه بالحواس، ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم، ولا يوجد نفيها في كتاب، ولا سنة، ولا عن صاحب، ولا أئمة المسلمين"
(1)
.
وبعد أن ينقل شيخ الإسلام نصاً للدارمي في نقضه على المريسي يقول: "وهذا النفي الذي يذكره النفاة ويفسرون به اسم الله "الواحد" وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم العدم، مناف لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد، الصمد، وأنه العلي، العظيم، وأنه الكبير المتعال، وأنه استوى على العرش، وأنه يصعد إليه، ويوقف عليه، وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر، وأنه يكلم عباده، وأنه السميع البصير"
(2)
.
فمصادمة قولهم لهذه النصوص الشرعية الكثيرة-مع أنه أيضاً لا يقوم على دليل صحيح-دليل على فساد قولهم
(3)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وليس المراد «بالإله» هو القادر على الاختراع، كما ظنّه من ظنّه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أنه لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرُّون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه. بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يُعبَد فهو إلهٌ بمعنى مألوه، لا إله بمعنى آلِه. والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهًا آخر".
(1)
نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 484).
(2)
((نقض التأسيس)) - المطبوع - (1/ 487).
(3)
المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود - 3/ 946.
الشرح
عرف كثير من الأشعرية كلمة (إله) بأنه القادر على الاختراع، فمن ذلك ما نسبه البغدادي إلى أبي الحسن الأشعري فقال:"واختلف أصحابنا في معنى الإله: فمنهم من قال إنه مشتق من الألهية، وهي: قدرته على اختراع الأعيان، وهو اختيار أبي الحسن الأشعري"
(1)
، ثم اختار البغدادي القول بأنه غير مشتق!
وقد حكى الرازي هذا القول ذاكراً دليله دون أن يسمي قائله، فقال في صدد حكاية مذاهب الناس في أصل اشتقاق اسم الله تعالى (الله) قال:"القول السابع: الإله من له الإلهية، وهي القدرة على الاختراع، والدليل عليه أن فرعون لما قال}: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء الآية: 23 [قال موسى في الجواب}: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشعراء الآية: 24 [فذكر في الجواب عن السؤال الطالب لماهية الإله: القدرة على الاختراع، ولولا أن حقيقة الإلهية هي القدرة على الاختراع لم يكن هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال"
(2)
.
والجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إن فرعون كان متظاهراً بإنكار وجود رب العالمين بل كان يدعي أنه رب العالمين بقوله}: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات الآية: 2 [وقال تعالى}: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف الآية: 54 [وقال: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر الآية: 37]، ولذلك كان سؤاله بقوله}: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ {سؤالاً عن وصف الرب تعالى وليس سؤالاً عن الماهية، إذ السؤال عن ماهية الشيء فرع الإقرار به، -وهو
(1)
((أصول الدين للبغدادي)) (ص: 123).
(2)
((شرح أسماء الله الحسنى للرازي)) (ص 124).
لا يقر بالله متظاهراً-فمن لم يقر بشيء لا يسأل عن ماهيته
(1)
، فمن سأل عن ماهية الإنسان فقال: ما الإنسان؟ فإن ذلك فرع إقراره بوجوه، وكذلك هنا
(2)
.
ولذلك فإن فرعون لم يكن قد سأل عن حقيقة الإلهية إنما سأل عن وصف الرب الذي يتظاهر بإنكاره. ويوضح هذا آية أخرى وهي}: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه الآية: 49]، ومعلوم أن "مَنْ" لا يسأل بها عن ماهية الشيء وحقيقته، وإنما حقيقة معنى الإلهية هي: استحقاق الله للعبادة بما له من صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، وقد دلت الأدلة على ذلك.
الوجه الثاني: إنه لو كان معنى إله: القادر على الاختراع كان معنى لا إله إلا الله أي: لا خالق إلا الله ولا قادر على الاختراع إلا هو، وهذا المعنى كان يقول به المشركون، ولذلك يحتج الله عليهم بمعرفتهم هذه بقوله:{فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة الآية: 22 [أي تعلمون أنه لا رب لكم غيره، كما نقل ذلك عن جمع من المفسرين
(3)
.
فلو كان المعنى ما ذكره هؤلاء المتكلمون، لما استقام الإنكار على المشركين الذين يقرون بأن الله هو خالقهم وخالق كل شيء. وإنما كان شركهم في الألوهية
(4)
.
الوجه الثالث: إن هذا القول غير معروف عند أهل اللغة، ولذلك لم يحتج من قال بهذا القول بشاهد من شواهد لغة العرب ولا بنقل إمام معتبر من أئمة اللغة
(5)
.
(6)
(1)
انظر ((تفسير ابن كثير)) (3/ 332).
(2)
((مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (16/ 334).
(3)
((جامع البيان للطبري)) (1/ 1/ 163).
(4)
انظر ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 76).
(5)
انظر ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 76).
(6)
المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف 1/ 154.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإذا تبين أن غاية ما يقرّره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدر، المنتسبون إلى السنة، إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرّين بذلك مع أنهم مشركون"
الشرح
أي خلاصة القول: ليس المراد (بالإله) هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو
(1)
ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشاً تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيراً من فهم هؤلاء المتكلمين، والمنتسبين للإسلام.
فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف الآية: 59 [؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، فالواجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكاراً حقيقياً، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم
(1)
الرسالة التدمرية - مجمل اعتقاد السلف لأحمد بن عبدالحليم ابن تيمية - ص 108
بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء، ويعبد هواه، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابداً، وقال الله عز وجل} أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية الآية: 23 ["
(1)
.
والجواب عن قول من قال: بأن معنى الإله القادر على الاختراع، ونحو هذه العبارة قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا قول مبتدع، لا يعرف أحد قاله من العلماء، ولا من أئمة اللغة، وكلام العلماء، وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم. فيكون هذا القول باطلاً.
الثاني: على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الح،، فإن اللازم له أن يكون خالقاً، قادراً على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق، وإن سمي إلهاً، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام، وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلا،، فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين، ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطئ، يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية"
(2)
وهذا التفسير الذي ذكره أولئك الأشعرية له مفاسد كثيرة، منها أن هذا التفسير يصير توحيد الربوبية هو أول الواجبات، مما يؤدي إلى عدم الاعتناء بتوحيد الألوهية اعتناءاً جيداً، بل يؤدي إلى عدم معرفته حق المعرفة، إذ يتصور كثير من عوامهم بل من نسب إلى العلم من المتأخرين منهم أن شرك المتقدمين كان لاعتقادهم بعض صفات الربوبية في الأصنام والأوثان، فغفل كثير منهم عن حقيقة الشرك وبعض
(1)
القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 70
(2)
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبدالله آل الشيخ - ص 60
مظاهره، فوقعوا في الشرك بالله من الاستغاثة بغير الله والذبح لغيره وغير ذلك
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فكذلك طوائف من أهل التصوف، المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا سيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى مَنْ لم يكن، ويبقى من لم يزل. فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها، ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما، فضلًا عن أن يكون وليًّا لله أو من سادات الأولياء".
الشرح
من أهل التصوف؛ مَنْ يقول كالهروي: إنَّ «التوحيد: تنزيه الله تعالى عن الحدث، وإنما نطق العلماء بما نطقوا به، وأشار المحققون بما أشاروا إليه في هذا الطريق؛ لقصد تصحيح التوحيد، وما سواه مِنْ حال أو مقام فكله مصحوب العلل.
والتوحيد على ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: توحيد العامة الذي يصح بالشواهد.
والوجه الثاني: توحيد الخاصَّة، وهو الذي يثبت بالحقائق.
والوجه الثالث: توحيد قائم بالقِدم، وهو توحيد خاصَّة الخاصَّة.
(1)
المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف - 1/ 154
فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن {لا إله إلا الله} وحده لا شريكَ له، الأحد الصَّمَد، الذي لم يَلد ولم يُولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد»
(1)
.
فمن المتصوفة مَنْ اعتبروا توحيد العِبادة الذي هو توحيد الرُّسُل هو توحيدُ العَوَام، وجعلوه في المنزلة الدُّنيا، وجعلوا توحيد الربوبية فوق توحيد العبادة، ولذلك جعلوا توحيد الخاصَّة هو شهود الربوبية، والفناء بشهوده عن مشهوده، وبوجوده عن موجوده، بمعنى: أنهم حصروا هذا المقام من التوحيد في شهود مقام الربوبية.
وتوحيد خاصَّة الخاصة عندهم هو توحيد أهل وحدة الوجود، الذين يقولون: إنَّه ما ثَمَّت خالق ولا مخلوق، ولا عابد ولا معبود، وإنَّ الوجود كله واحد.
فإذًا كلٌّ من الفريقين (أهل الكلام والمتصوفة) لم يُقم وزنًا لتوحيد العبادة، ولم يُلق له بالًا، ولم يُعطه اهتمامًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العَبْد يُرَاد بِهِ المعبَّد الَّذِي عبَّده الله، فذلَّلَه ودبَّره وصرَّفه.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَار: فالمخَلوقون كلهم عباد الله: الْأَبْرَار مِنْهُم والفجار، والمؤمنون وَالكفَّار، وَأهل الجَنَّة وَأهل النَّار؛ إِذْ هُوَ رَبُّهم كلهم ومليكُهم، لَا يخرجُون عَنْ مَشِيئَته وَقُدرته، وكلماته التَّامَّات الَّتِي لَا يُجاوزهن بَرٌّ وَلَا فَاجر؛ فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لم يشاءوا. وَمَا شَاءُوا إِنْ لم يشأه لم يكن، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله أسلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وَإِلَيْهِ يرجعُونَ} [آل عمران الآية: 83]. فَهُوَ سُبْحَانَهُ ربُّ الْعَالمين، وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومُميتهم، ومقلب قُلُوبهم ومصرف أُمُورهم، لَا ربَّ لَهُمْ غَيره، وَلَا مَالك لَهُمْ سواهُ، وَلَا خَالق لَهُمْ إِلَّا هُوَ؛ سَوَاء اعْتَرَفُوا بذلك أَوْ أنكروه، وَسَوَاء علمُوا ذَلِك أَوْ جهلوه؛ لَكِن أهل الْإِيمَان
(1)
«منازل السائرين» لأبي إسماعيل الهروي (135 - 138)، دار الكتب العلمية- بيروت.
مِنْهُم عرفُوا ذَلِك وآمنوا بِهِ؛ بِخِلَاف مَنْ كَانَ جَاهِلًا بذلك؛ أَوْ جاحدًا لَهُ مستكبرًا على ربِّه، لَا يُقِرُّ وَلَا يخضع لَهُ؛ مَعَ علمه بِأَنَّ الله ربه وخالقه. فالمعرفة بِالْحَقِّ إِذا كَانَتْ مَعَ الاستكبار عَنْ قبُوله والجحد لَهُ- كَانَ عذَابًا على صَاحبه، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} [النَّمل الآية: 14]، وَقَالَ تَعَالَى:{الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَإِنْ فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} [البقرة الآية: 146]، وَقَالَ تَعَالَى الآية:{قد نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} [الأنعام الآية: 33].
فَإِذا عَرف العَبْدُ أَنَّ اللهَ ربَّه وخالقه، وَأَنَّه مُفتقر إِلَيْهِ مُحْتَاج إِلَيْهِ- عرف الْعُبُودِيَّة الْمُتَعَلِّقَة بربوبية الله. وَهَذَا العَبْد يَسْأَل ربَّه ويتضرع إِلَيْهِ ويتوكل عَلَيْهِ، لَكِن قد يُطِيع أمره وَقد يَعصيه، وَقد يعبده مَعَ ذَلِك، وَقد يعبد الشَّيْطَانَ والأصنامَ. وَمثل هَذِه الْعُبُودِيَّة لَا تُفَرِّق بَين أهل الجَنَّة وَأهل النَّار، وَلَا يَصير بهَا الرجلُ مُؤمنًا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} [يوسف الآية: 106]؛ فَإِنْ الْمُشْركين كَانُوا يُقِرُّونَ أَنْ الله خالقهم ورازقهم وهم يَعْبدُونَ غَيره؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلتهمْ مَنْ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} [لقمان الآية: 25]، وَقَالَ تَعَالَى:{قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ * سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ * قل من رب السَّمَاوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم * سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون * قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ * سيقولون لله قل فَأنى تُسحرون} [المؤمنون الآيات: 84 - 89].
وَكثير مِمَّنْ يتَكَلَّم فِي الْحَقِيقَة فيشهدها، لَا يَشْهد إِلَّا هَذِه الْحَقِيقَة، وَهِي الحَقِيقَة الكونية الَّتِي يَشْتَرك فِيهَا وَفِي شهودها وَفِي مَعْرفَتهَا الْمُؤمنُ وَالْكَافِرَ وَالْبَرُّ والفاجر. بل وإبليس معترف بِهَذِهِ الْحَقِيقَة وَأهل النَّار؛ قَالَ إِبْلِيس:{رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون} [الحجر الآية: 36]، و {قَالَ رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُمْ فِي الأَرْض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ}
[الحجر الآية: 39]، وقال:{فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ} [ص الآية: 82]، وَقَالَ:{أرأيتك هَذَا الَّذِي كرمت عَليّ لَئِنْ أخرتن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لأحتنكن ذُريَّته إِلَّا قَلِيلا} [الإسراء الآية: 62]، وأمثال هَذَا من الْخطاب الَّذِي يُقِرُّ فِيهِ بِأَنَّ الله ربه وخالقه وخالق غَيره، وَكَذَلِكَ أهل النَّار قَالُوا:{رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ} [المؤمنون الآية: 106]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم:{وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا} [الأنعام الآية: 30].
فَمن وقف عِنْد هَذِه الْحَقِيقَة وَعند شهودها، وَلم يقم بِمَا أَمر الله بِهِ مِنْ الحَقِيقَة الدِّينِيَّة الَّتِي هِيَ عِبَادَته الْمُتَعَلّقَة بألوهيته وَطَاعَة أمره وَأمر رَسُوله، كَانَ من جنس إِبْلِيس وَأهل النَّار.
فَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِك: أَنَّه من خَواص أَوْلِيَاء الله وَأهل الْمعرفَة وَالتَّحْقِيق، الَّذين سَقط عَنْهُم الْأَمر وَالنَّهي الشَّرعيان، كَانَ مِنْ أشر أهل الكفر والإلحاد.
وَمَنْ ظن أَنْ الخَضِرَ وَغَيره سقط عَنْهُم الْأَمر؛ لمشاهدة الْإِرَادَة وَنَحْو ذَلِك- كَانَ قَوْلُه هَذَا من شَرِّ أَقْوَال الْكَافرين بِاللَّه وَرَسُوله، حَتَّى يَدْخل فِي النَّوْع الثَّانِي من معنى العَبْد، وَهُوَ العَبْد بِمَعْنى العابد؛ فَيكون عابدًا لله، لَا يَعبد إِلَّا إِيَّاه؛ فيطيع أمرَه وَأمرَ رُسُله، ويُوالي أولياءه الْمُؤمنِينَ الْمُتَّقِينَ ويُعادي أعداءه.
وَهَذِه الْعِبَادَة مُتَعَلِّقَة بالإلهيَّة لله تَعَالَى، وَلِهَذَا كَانَ عنوان التَّوْحِيد:(لَا إِلَه إِلَّا الله)، بِخِلَاف مَنْ يُقر بربوبيته وَلَا يَعبده، أَوْ يَعبد مَعَه إِلَهًا آخر.
فالإله: هُوَ الَّذِي يألهه الْقلب بِكَمَال الْحبِّ والتعظيم والاجلال وَالْإِكْرَام وَالْخَوْف والرجاء، وَنَحْو ذَلِك.
وَهَذِه الْعِبَادَة هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ ويَرضاها، وَبهَا وصف المُصطفين مِنْ عباده، وَبهَا بعثَ رُسله.
وَأمَّا العَبْد- بِمَعْنى المعبَّد- سَوَاء أقرَّ بذلك أَوْ أنكرهُ، فَهَذَا الْمَعْنى يَشْتَرك فِيهِ
الْمُؤمنُ وَالْكَافِر.
وبالفرق بَين هذَيْن النَّوْعَيْنِ يعرف الْفرق بَين الْحَقَائِق الدِّينِيَّة الدَّاخِلَة فِي عبَادَة الله وَدينه وَأمره الشَّرْعِيّ الَّتِي يُحِبهَا ويَرضاها ويُوالى أَهلهَا ويُكرمهم بجنته، وَبَين الْحَقَائِق الكونية الَّتِي يَشْتَرك فِيهَا الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالْبر والفاجر الَّتي مَنْ اكْتفى بهَا وَلم يَتَّبع الْحَقَائِق الدِّينِيَّة كَانَ مِنْ أَتبَاع إِبْلِيس اللعين والكافرين بِرَبِّ الْعَالمين، وَمن اكْتفى فِيهَا بِبَعْض الْأُمُور دون بعضٍ أَوْ فِي مقَام دون مقَام أَوْ حَال دون حَال نقص من إيمَانه وولايته لله بِحَسب مَا نقص من الْحَقَائِق الدِّينِيَّة»
(1)
.
وأراد شيخ الإسلام هنا أن يُقَسِّم العبودية إلى قسمين: القسم الأول: العبودية الاضطرارية. والقسم الثاني: العبودية الاختيارية.
وذلك أنَّ العبد قد يُطلق ويراد به المُعَبَّد، وقد يطلق ويراد به العابد، فإذا أُطلق وأريد به المُعَبَّد، فإن العبودية تكون حينئذ بمعنى: الخلق، وبمعنى الإيجاد والربوبية، وهذا النوع يُطلق عليه (العبودية الاضطرارية)، وهي عبودية الذل والخضوع لله سبحانه وتعالى قهرًا واضطرارًا، وليس اختيارًا من الإنسان، وهذه العبودية حاصلة لكل مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فكل المخلوقات من الإنسن والجن والملائكة والأشجار والأحجار وجميع المخلوقات هي عابدة لله سبحانه وتعالى بهذا الاعتبار.
حتى الكفار فهم عابدون لله عز وجل اضطرارًا، أي: خاضعون وذليلون له، وهم في خضوعهم وذلهم هذا ليسوا مختارين، وإنما هم مضطرون إلى ذلك.
وهذه العبودية الاضطرارية بهذا المعنى هي موافقة لربوبية الله سبحانه وتعالى، أي: أنه رب كل شيء، وأنه خالق كل شيء.
وهذه العبودية الاضطرارية لا تُفَرِّق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير
(1)
العبودية: 9
الإنسان بها مؤمنًا.
ومشركو مكة مقرون بهذه العبودية الاضطرارية؛ فإنهم كانوا يَعترفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، ومع ذلك كانوا يشركون في عبادتهم معه غيره؛ قَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلتهمْ مَنْ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} [لقمان: 25]، وَقَالَ تَعَالَى:{قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ * سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ * قل من رب السَّمَاوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم * سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون * قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ * سيقولون لله قل فَأنى تُسحرون} [المؤمنون: 84 - 89].
ومع ذلك لم تنفعهم هذه العبودية وحدها، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف الآية: 106]؛ فأثبت لهم إيمانًا، لكن هذا الإيمان لم يَنفعهم وحده، بل لا بد أن يُضاف إليه إيمان آخر، وهو عبودية الله سبحانه وتعالى مختارين منقادين لأوامره الشرعية.
قال شيخ الإسلام: «ومعلوم أنَّ المشركين من العرب الذين بُعِث إليهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يخالفونه في هذا [أي: في توحيد الربوبية]، وهم مع هذا مشركون»
(1)
.
ولهذا جاء عن بعض السلف أنه سمى الإقرار بالربوبية فقط دون الإلهية: إيمان المشركين، وذلك أن الإقرار بالربوبية والإقرار بالعبودية الاضطرارية من الإيمان، لكن ليس هو كل الإيمان، وليس هو الإيمان الذي ينجي الإنسان يوم القيامة، وليس هو الإيمان الذي يُدخل الإنسان الجنة، ويجعله يخرج من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام، بل لابد من الإتيان بالعبودية الاختيارية التي سيأتي الكلام عنها.
وهذه العبودية الاضطرارية (الجبرية) هي التي جاءت في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ
(1)
«مجموع الفتاوى» (3/ 98) باختصار.
مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم الآية: 93] يعني: إلا سيأتي إلى الله عز وجل وهو خاضع مُقر، ولن يستطيع الهرب يوم القيامة.
فهذه العبودية الاضطرارية هي التي يُتعب الصوفية أنفسهم في الوصول إليها، فهم يعتبرونها الغاية التي يصل إليها العابد، ويفنون أعمارهم في شهود الحقيقة الكونية، مع أنه يشترك في معرفتها وشهودها المؤمن والكافر والبر والفاجر، حتى إبليس- الشيطان الرجيم- مُعترف بهذه الحقيقة؛ حيث قال إبليس فيما قصَّه الله في كتابه عنه:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر الآية: 36]، فهو مقر بالربوبية، ولكنه لما استكبر عن تنفيذ الأمر ما نفعه هذا الإقرار؛ فكفر، وتوعده الله بالعذاب الأليم؛ قال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة الآية: 34].
وكذلك أهل النار قَالُوا: {رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ} [106 المؤمنون الآية: 106]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم:{وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا} [الأنعام الآية: 30]، فهم معترفون بربوبية الله تعالى، ولكنهم لم يقوموا بعبودية الألوهية (الاختيارية).
لذلك كان الاشتغال بهذا النوع من العبودية اشتغال بأمر قد فُطر الناس عليه.
وأما النوع الآخر وهو (العبودية الاختيارية)؛ فهي العبودية التي يفعلها الإنسان عن اختيار وإرادة، ولو شاء لتركها.
وهذه العبودية لا تكون إلا من المكلفين الذين كلفهم الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي؛ فهؤلاء هم الذين يعبدون الله عز وجل، وهم المختارون لهذه العبادة عن رضا وطواعية.
ومن أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؛ وقد قص القرآن أن جميع الرسل قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف الآية: 59]، أي: هو وحده المستحق للعبادة دون سواه، ولا يَقبل أن تُشركوا معه غيره فيها.
فهي التي يسمى بها الإنسان مؤمنًا، وبها ينجو من عذاب الآخرة، ويفوز بالنعيم في الجنة.
قال ابنُ أبي العِزِّ الحنفي رحمه الله: «وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كَذَّبوا الرسل. كما حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين تَقاسموا بالله، أي: تحالفوا بالله؛ لنَبيتنَّه وأهله. فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله على قَتل نَبِيِّهم وأهلِه، وهذا بَيِّنٌ أنَّهم كانوا مؤمنين بالله إيمانَ المشركين.
فَعُلِم أنَّ التوحيدَ المطلوبَ هو توحيدُ الإلهيَّةِ، الذي يتضمن توحيد الربوبية؛ قال تعالى:{فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم الآية: 30]»
(1)
وعلى العبد ألا يخلط بين (الإرادة الكونية القدريَّة) وبين (الإرادة الدِّينية الشرعية).
فالإرادة الكونية القدريَّة: هي ما يقع في الكون بقدر الله وتدبيره. ويشترك في شهودها البَر والفاجر.
وأمَّا الإرادة الدِّينية الشرعية: فهي ما شرعه وأمر به سبحانه، ورضيه وأحبَّه من عباده.
(1)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 33).
وعدم التفريق بين هذين النوعين جَرَّ طوائف إلى الوقوع في أنواع الإلحاد والكفر؛ يقول شيخ الإسلام رحمه الله هنا: «فَمن وَقف عِنْد هَذِه الْحَقِيقَة وَعند شهودها، وَلم يقم بِمَا أَمر الله بِهِ مِنْ الحَقِيقَة الدِّينِيَّة الَّتِي هِيَ عِبَادَته الْمُتَعَلّقَة بألوهيته وَطَاعَة أمره وَأمر رَسُوله، كَانَ من جنس إِبْلِيس وَأهل النَّار.
فَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِك: أَنَّه من خَواص أَوْلِيَاء الله وَأهل الْمعرفَة وَالتَّحْقِيق، الَّذين سَقط عَنْهُم الْأَمر وَالنَّهي الشَّرعيان، كَانَ مِنْ أشر أهل الكفر والإلحاد».
فبعضُ الصوفية وبعضُ أهل الكلام قد فَسَّروا (لا إله إلا الله) بأنه لا خالق إلا الله.
ويزعمُ أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة، ويفرقون بين العامة والخاصة، وخلاصة قولهم: أنهم يرون أن العامة هم الذين لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهودًا كافيًا، وأن الخاصة هم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهودًا كافيًا.
ووصفهم للمسلمين بأنهم (العامة) وصف انتقاص؛ لأنهم يقولون: إنهم الذين لم يصلوا إلى شهود الحقيقة الكونية، وهي- عندهم- أن يعلم أن الإنسان لا صفات له ولا أفعال له، وإنما الفاعل على الحقيقة هو الله، وأنه عبارة عن محل لفعل الله؛ مثل الإناء عندما يكون محلًّا للماء، وكالريشة التي يحركها الهواء، يعني: ليس فاعلًا فعلًا اختياريًّا، وإنما الله عز وجل هو الذي يحركه، والإنسان مسلوب الإرادة، مجبور على فعله.
ويترتب على هذا القول: أن القول الذي يقوله الإنسانُ ليس قولَه؛ بل هو قولُ الله، وأنَّ الفعل الذي يقوم به الإنسان ليس فعلَه، وإنما هو فعلُ الله.
ويترتب على هذا أيضًا: أنه بسبب شهوده لهذه الحقيقة تَسقط عنه التكاليف؛ لأنه لا فِعل له؛ فالتكليف يحصل عندما يكون للإنسان فِعل، ثم يحاسب على هذا
الفعل، ولكن إذا لم يكن له فعل؛ فكيف يحاسب عليه؟ وكيف يجازى على فعله مع أنه ليس هو فاعله حقيقة؟ وإنما الفعل الذي فيه هو فِعل الله؛ لذلك أسقطوا التكاليف الشرعية.
وهذا- لا شكَّ- قولٌ في غاية الكفر، والسبب هو: أنهم جعلوا هذه الأفعال القبيحة التي تَصدر عنهم من كفر أو فسق- هي فعل الله؛ فجَرَّدوا الإنسان من إرادته.
مع أنَّ هذا مخالف لحقيقة الإنسان في الدنيا الآن، ومخالف لشعوره، ومخالف للواقع الذي يعيشه، وهو أنَّ له إرادة وله عمل، وهو محاسب على إرادته وعمله، بالإضافة إلى النصوص المتوافرة من الكتاب والسنة المثبتة للإنسان إرادة ومشيئة واختيارًا وسعيًا وكسبًا.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقرّون هذا التوحيد مع إثبات الصفات، فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات الخالق للعالم المبائن لمخلوقاته.
وآخرون يضمّون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا. وهذا شرّ من حال كثير من المشركين".
الشرح
بعد أن ذكر المصنف قول المتصوفة في التوحيد عمومًا وأنهم يقتصرون فيه على توحيد الربوبية أو ما يسمى الفناء في ذات الله، أراد المصنف هنا أن يبين موقفهم من توحيد الأسماء والصفات وبين أن من انتسب إلى المتصوفة على قسمين فقسم منهم يقرون بتوحيد الأسماء والصفات فيثبتون أن الله مباين لخلقه متصف بصفات
تخصه وتميزه عن غيره، وإن كانوا قد خالفوا في مفهوم التوحيد وقصروه على توحيد الربوبية،
والقسم الثاني من المتصوفة هم الذين ضموا لانحرافهم في مفهوم التوحيد انحرافهم في باب الصفات والمقصود بهم باطمية المتصوفة من الاتحادية كابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وابن الفارض وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.
ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:
"عين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى".
وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود.
(1)
وقد تقدم الحديث عنهم بشكل مفصل في مواطن متعددة من هذا الشرح.
(1)
-بغية المرتاد ص 473.
معنى الجبر
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكان جهم ينفي الصفات، ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فارق المشركين من هذا الوجه، لكنّ جهمًا ومَن اتبعه يقول بالإرجاء، فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده.
الشرح
شرع المصنف في بيان عقيدة عدد من الطوائف المخالفة لمنهج أهل السنة وبيان مواقفهم من باب الصفات، وباب القدر، وباب الأمر والنهي، وبدأ المصنف بذكر معتقد الجهمية
من أشهر معتقداتهم:
1 ـ إنكارهم لجميع الأسماء والصفات كما سيأتي تفصيله.
2 ـ أنهم في باب الإيمان مرجئة، يقولون: إن الإيمان يكفي فيه مجرد المعرفة القلبية، وهذا شر أقوال المرجئة.
3 ـ أنهم في باب القدر جبرية، ينكرون قدرة العبد واختياره في فعله.
4 ـ ينكرون رؤية الخلق لله يوم القيامة.
5 ـ يقولون إن القرآن مخلوق.
6 ـ يقولون بفناء الجنة والنار.
إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة التي قال بها الجهمية.
المتن
قال ال مصنف رحمه الله تعالى: "والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان، مع مقاربتهم له أيضا في نفي الصفات".
النجارية:
وهم أتباع حسين بن محمد بن عبد الله النجار المتوفى سنة (220 هجرية) تقريباً
وكان يزعم أن الله سبحانه لم يزل جواداً بنفي البخل عنه، وأنه لم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام، وأن كلام الله سبحانه محدث مخلوق، وكان يقول بقول المعتزلة في التوحيد، إلا في باب الإرادة والجود، وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء.
(1)
الضرارية:
وهم أتباع ضرار بن عمرو الغطفاني المتوفى سنة (190 هجرية) تقريباً وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر أنه ليس بجاهل ولا عاجز وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه)
(2)
فكل من النجارية والضرارية يحملون النصوص الثبوتية على المعاني السلبية، كما قال البغدادي عنهم: (من غير إثبات معنى أو فائدة سوى نفي الوصف بنقيض
(1)
-مقالات الإسلاميين 1/ 341 - 342، وانظر الفرق بين الفرق ص 207، والملل والنحل 1/ 89، 90.
(2)
-مقالات الإسلاميين 1/ 339.
تلك الأوصاف عنه)
(1)
وكان الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية هم خصوم أهل السنة زمن فتنة القول بخلق القرآن.
(2)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والكُلاَّبية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما في باب القدر، ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة".
الشرح
الكلابية ومعهم قدماء الأشاعرة، إثباتهم أكثر من إثبات المتأخرين، فهم يثبتون الصفات ما عدا الصفات الاختيارية، صفات الأفعال مثل: النزول، والاستواء، والغضب، والرضا، والضحك، وغير ذلك هذه يحرِّفونها، وأما الصفات الذاتية فإنهم يثبتونها.
القسم الثاني: متأخرو الأشاعرة لأن الأشاعرة ينقسمون إلى قسمين: متقدمين، ومتأخرين. فمن طبقة الجويني ومن بعده كالغزالي والرازي، إلى يومنا هذا هؤلاء هم المتأخرون الذين يقولون بإثبات سبع صفات فقط، ونفي ما عدا السبع.
قال ابن تيمية: " فَالْأَشْعَرِيَّةُ " وَافَقَ بَعْضُهُمْ فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَجُمْهُورُهُمْ وَافَقَهُمْ فِي الصِّفَاتِ الحديثية؛
(1)
-الفرق بين الفرق ص 215.
(2)
-مجموع الفتاوى 14/ 351، 352.
وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فَلَهُمْ قَوْلَانِ:
o فَالْأَشْعَرِيُّ والْبَاقِلَانِي وَقُدَمَاؤُهُمْ يُثْبِتُونَهَا.
o وَبَعْضُهُمْ يُقِرُّ بِبَعْضِهَا؛
وَفِيهِمْ تَجَهُّمٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى:
• فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ شَرِبَ كَلَامَ الجبائي شَيْخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنِسْبَتُهُ فِي الْكَلَامِ إلَيْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ؛
• وَابْنُ الْبَاقِلَانِي أَكْثَرُ إثْبَاتًا بَعْدَ الْأَشْعَرِيِّ فِي " الْإِبَانَةِ ".
• وَبَعْدَ ابْنِ الْبَاقِلَانِي ابْنُ فورك فَإِنَّهُ أَثْبَتَ بَعْضَ مَا فِي الْقُرْآنِ.
• وَ " أَمَّا الجُوَيْنِي " وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَتَهُ: فَمَالُوا إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا الْمَعَالِي كَانَ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ لِكُتُبِ أَبِي هَاشِمٍ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْآثَارِ فَأَثَّرَ فِيهِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ.
• والقشيري تِلْمِيذُ ابْنِ فورك؛ فَلِهَذَا تغلظ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ حِينَئِذٍ وَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَنْبَلِيَّةِ تَنَافُرٌ بَعْدَ أَنْ كَانُوا متوالفين أَوْ مُتَسَالِمِينَ"
(1)
.
وقول المصنف: "وأما في باب القدر، ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة".
والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام وجبرية في باب القدر، وأما الصفات فليسوا جهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم، ولا يرون الخروج على الأئمة بالسيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب المتكلمين
(1)
مجموع الفتاوى: 6/ 51 - 56.
إلى أهل السنة والحديث
(1)
.
والأشعرية قولهم في الإيمان أقرب إلى قول الجهمية، فالجهمي يقول: إيمان المعرفة، والأشعري يقول إيمان التصديق، وهو في حقيقته قول الجهمية.
لو جئت في القدر لوجدت أن المعتزلة قدرية والجهمية جبرية، والأشاعرة كذلك جبرية، فبعض مسائل الاعتقاد الأشاعرة أقرب إلى الجهمية.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والكلابية هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاّب، الذي سلك الأشعرى خلفه، وأصحاب ابن كلاب، كالحارث المحاسبي وأبى العباس القلانسي ونحوهما- خير من الأشعرية في هذا وهذا، فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل".
الشرح
الكلابية: هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان
(2)
(ت 243 هـ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين:
فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 55).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 555).
وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري وغيرهما.
وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله"
(1)
.
فهذا النهج الذي أحدثه ابن كلاب هو ما صار يعرف فيما بعد بمنهج متكلمة الصفاتية لأن ابن كلاب كان في طريقته يميل إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن كان في طريقته نوع من البدعة، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله، ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته.
وقد كانت له جهود في الرد على الجهمية
(2)
ولكنه ناظرهم بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولاً هم واضعوها من امتناع تكلمه تعالى بالحروف، وامتناع قيام الصفات الاختيارية بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك.
(3)
فأصبح بعد ذلك قدوة وإماماً لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها، لكن شاركوهم في بعض أصولهم الفاسدة التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول".
(4)
فابن كلاب أحدث مذهباً جديداً، فيه ما يوافق السلف وفيه ما يوافق المعتزلة والجهمية. وبذلك يكون قد أسس مدرسة ثالثة وهي مدرسة «الصفاتية» التي
(1)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 1).
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 366).
(3)
مجموع الفتاوى (12/ 376).
(4)
مجموع الفتاوى (12/ 366).
اشتهرت بمذهب الإثبات، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية.
(1)
وقد سار على هذا النهج القلانسي، والأشعري، والمحاسبي، وغيرهم، وهؤلاء هم سلف الأشعري والأشاعرة القدماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي سليمان الدمشقي، وأبي حاتم البستي"
(2)
فابن كلاب هو إمام الأشعرية الأول، وكان أكثر مخالفة للجهمية، وأقرب إلى السلف من الأشعري
(3)
.
ولكن هذا النهج الكلابي ابتعد شيئاً فشيئاً عن منهج السلف، وأصبح يقرب أكثر فأكثر إلى نهج المعتزلة وذلك على يد وارثيه من الأشاعرة.
فابن كلاب كما أسلفنا كان أقرب إلى السلف من أبي الحسن الأشعري، وأبو الحسن الأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي الجويني وأتباعه
(4)
.
ولهذا يوجد في كلام الرازي والغزالي ونحوهما من الفلسفة مالا يوجد في كلام أبي المعالي الجويني وذويه، ويوجد في كلام الرازي والغزالي والجويني من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه، ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقته.
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 206).
(2)
منهاج السنة (2/ 327).
(3)
مجموع الفتاوى (12/ 202، 203).
(4)
مجموع الفتاوى (12/ 203).
ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة. وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل إلى هذا المآل والسعيد من لزم السنة
(1)
.
وقد تلاشت الكلابية كفرقة، لكن أفكارها حملت بواسطة الأشاعرة، فقد احتفظ الأشعري وقدماء أصحابه بأفكار الكلابية ونشروها، وبذلك اندرست المدرسة الكلابية الأقدم تاريخاً والأسبق ظهوراً في الأشعرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكلابية هم مشايخ الأشعرية، فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب، وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمناً وطريقة. وقد جمع أبو بكر بن فورك (ت 406 هـ) كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول"
(2)
.
فالكلابية أسبق في الظهور من الأشاعرة والماتريدية، فقد نشأت الكلابية في منتصف القرن الثالث، وهي أول الفرق الكلامية بعد الجهمية والمعتزلة، فقد توفي ابن كلاب سنة (243 هـ).
قولهم في الصفات.
الكلابية: أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وقول الحارث المحاسبي
(3)
وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري في طوره الثاني،
(1)
بغية المرتاد (ص 451).
(2)
الاستقامة (1/ 105).
(3)
-قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان الحارث المحاسبي يوافقه -أي يوافق ابن كلاب -ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإن أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك، كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقى بعض كلام الحارث؛ فذكروا أن الحارث رحمه الله تاب من ذلك. وكان له من العلم والفضل والزهد والكلام في الحقائق ما هو مشهور وحكى عنه أبوبكر الكلاباذي صاحب (مقالات الصوفية): (أنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت)، وهذا يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب). مجموع الفتاوى 6/ 521، 522.
وقدماء الأشاعرة كأبي الحسن الطبري والباقلاني وابن فورك، وأبي جعفر السمناني ومن تأثر بهم من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني والتميميين وغيرهم.
(1)
وهؤلاء يجمعهم أنهم نفاة الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة.
وهؤلاء يسموْن الصفاتية لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافاً للمعتزلة، لكنهم لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته.
(2)
وأصلهم الذي أصلوه في هذا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته
(3)
لا فعل ولا غير فعل.
(4)
والفرق بينهم وبين المعتزلة:
أن المعتزلة تقول: (لا تحله الأعراض والحوادث) فالمعتزلة لا يريدون [بالأعراض] الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات. ولا يريدون [بالحوادث] المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل ونحو ذلك -مما يريده الناس بلفظ الحوادث-بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
(1)
-مجموع الفتاوى 5/ 411، 6/ 52، 53، 4/ 147، شرح الأصفهانية ص 78
(2)
-مجموع الفتاوى 6/ 520.
(3)
-مجموع الفتاوى 6/ 524.
(4)
-مجموع الفتاوى 6/ 522.
ولكن ابن كلاب ومن وافقه خالفوا المعتزلة في قولهم: "لا تقوم به الأعراض" وقالوا: "تقوم به الصفات ولكن لا تسمى أعراضاً".
ووافقوا المعتزلة على ما أرادوا بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته.
(1)
ففرقوا بين الأعراض -أي الصفات-والحوادث-أي الأمور المتعلقة بالمشيئة.
(2)
فالكلابية ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله
(3)
، ويقولون: "لو قامت به لكان محلاً للحوادث. والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به.
(4)
ولتوضيح قولهم نقول: إن المضافات إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة لا تخلو من ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إضافة الصفة إلى الموصوف
كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء مِنْ علمه}
(5)
وقوله: {إن الله هو الرَّزَّاق ذو القوَّة}
(6)
فهذا القسم يثبته الكلابية ولا يخالفون فيه أهل السنة، وينكره المعتزلة.
والقسم الثاني: إضافة المخلوق.
كقوله تعالى: {ناقة الله وسقياها}
(7)
وقوله تعالى: {وطهر بيتي
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 520، 521.
(2)
-مجموع الفتاوى 6/ 525.
(3)
-الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، أو التي تنفك عن الذات: كالاستواء، والنزول، والضحك، والإتيان، والمجيء، والغضب والفرح. مجموع الفتاوى 6/ 68، 5/ 410.
(4)
-مجموع الفتاوى 6/ 69، وانظر الرد على هذه الشبهة 6/ 105.
(5)
-الآية 255 من سورة البقرة.
(6)
-الآية 58 من سورة الذاريات.
(7)
-الآية 13 من سورة الشمس.
للطائفين}
(1)
وهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق.
والقسم الثالث: -وهو محل الكلام هنا-ما فيه معنى الصفة والفعل.
كقوله تعالى: {وكلَّم الله موسى تكليما}
(2)
وقوله تعالى: {إن الله يحكم ما يريد}
(3)
وقوله تعالى: {فَبَاءُوا بغضب على غضب}
(4)
فهذا القسم الثالث لا يثبته الكلابية ومن وافقهم على زعم أن الحوادث لا تحل بذاته. فهو على هذا يلحق عندهم بأحد القسمين قبله فيكون:
1 -
إما قديماً قائماً به.
2 -
وإما مخلوقاً منفصلاً عنه.
ويمتنع عندهم أن يقوم به نعت أو حال أو فعل ليس بقديم ويسمون هذه المسألة: ((مسألة حلول الحوادث بذاته))
(5)
وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول والإتيان، وغيرها. وبالتالي هم يؤولون النصوص الواردة في ذلك على أحد الوجوه التالية:
(1)
-إرجاعها إلى الصفات الذاتية واعتبارها منها، فيجعلون جميع تلك الصفات قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه وإتيانه، وفرحه، وغضبه، ورضاه، ونحو ذلك: قديم أزلي
(6)
وهذه الصفات جميعها صفات ذاتية لله، وإنها قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته واختياره.
(7)
(2)
-وإما أن يجعلوها من باب «النسب» و «الإضافة» المحضة بمعنى أن الله خلق العرش بصفة تحت فصار مستوياً عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه
(1)
-الآية 26 من سورة الحج.
(2)
-الآية 164 من سورة النساء.
(3)
-الآية 1 من سورة المائدة.
(4)
-الآية 90 من سورة البقرة.
(5)
-مجموع الفتاوى 6/ 144، 147.
(6)
-مجموع الفتاوى 5/ 412.
(7)
-مجموع الفتاوى 5/ 410.
فيصير جائياً إليهم ونحو ذلك. وأن التكليم إسماع المخاطب فقط.
(1)
فهذه الأمور من صفات الفعل منفصلة عن الله بائنة وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به. ولهذا يقول كثير منهم: "إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات.
(2)
(3)
-أو يجعلوها «أفعالاً محضة» في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة.
(3)
مثل قولهم في الاستواء إنه فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم بالله فعل اختياري.
(4)
وكقولهم في النزول إنه يخلق أعراضاً في بعض المخلوقات يسميها نزولاً.
(5)
ونفاة الصفات الاختيارية يثبتون الصفات التي يسمونها عقلية وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. واختلفوا في صفة البقاء.
ويثبتون في الجملة الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعين ولكن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية، على أن بعضهم إثباته لها من باب التفويض.
وأما الصفات الخبرية الواردة في السنة كاليمين، والقبضة، والقدم، والأصابع فأغلب هؤلاء يتأولها.
(6)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأئمة
(1)
-مجموع الفتاوى 6/ 149.
(2)
-مجموع الفتاوى 5/ 411، 412.
(3)
-مجموع الفتاوى 6/ 149.
(4)
-مجموع الفتاوى 5/ 437، الأسماء والصفات للبيهقي ص 517.
(5)
-مجموع الفتاوى 5/ 386.
(6)
-مجموع الفتاوى 6/ 52، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 1034، 1036.
أصحابه: كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله تعالى. وعماد المذهب عندهم: إثبات كل صفة في القرآن.
وأما الصفات التي في الحديث فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها.
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمنا، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم.
وأما في الصفات والقدر، والوعد والوعيد، فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة".
الشرح
الكرامية
(2)
هم أتباع محمد بن كرام بن عراق بن حزبة السجستاني المتوفى سنة (255 هـ).
يقول شيخ الإسلام: "وقام أيضا أبو عبدالله محمد بن كرام بسجستان ونواحيها
(1)
-مجموع الفتاوى 4/ 147، 148.
(2)
يبلغ عدد طوائف الكرامية اثنتا عشرة فرقة وأصولها ستة هي:
1 -
العابدية، 2 - النونية، 3 - الزرينية، 4 - الإسحاقية، 5 - الواحدية، 6 - الهيصمية.
وانظر الكلام عن الكرامية في الفصل لابن حزم (4/ 45، 204 - 205)، لسان الميزان (5/ 353 - 356)، والفرق بين الفرق (ص 130 - 137)، والملل والنحل (1/ 180 - 193).
ينصر مذهب أهل السنة والجماعة، والمثبتة للصفات والقدر وحب الصحابة وغير ذلك، ويرد على الجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم، ويوافقهم على أصول مقالاتهم التي بها قالوا ما قالوا، ويخالفهم في لوازمها، كما خالفهم ابن كلاب والأشعري، لكن هؤلاء منتسبون إلى السنة والحديث، وابن كرام منتسب إلى مذهب أهل الرأي. "
ثم ذكر مخالفته للجماعة في جملة من مسائل الاعتقاد منها مسألة الإيمان وختم كلامه بأن موافقة ابن كرام لأهل السنة أعظم من موافقة المعتزلة والرافضة.
(1)
وهنا تكلم المصنف عن أقوال الكرامية في عدة مسائل من مسائل العقيدة ومن ذلك قولهم في الإيمان "فهم في باب الإيمان مرجئة يقولون: إن الإيمان هو القول فقط فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقراً بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً مؤمناً من أهل النار، وبعض الناس يحكي عنهم أنه من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون إنه مؤمن كامل الإيمان وإنه من أهل النار"
(2)
.
فالمرجئة: هم من قالوا بمقالة الإرجاء: وهي تأخير العمل عن مسمَّى الإيمان، فالمرجئة ليسوا صنفًا واحدًا، وإنما هم أصناف خمسة وهي: الجهمية، والكرامية، والأشاعرة، والماتريدية، ومرجئة الفقهاء، فهم خمسة أصناف، ومقالة الإرجاء تشمل كل هؤلاء.
والمرجئة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهؤلاء يسمون
(1)
((شرح الأصبهانية)) (2/ 328)
(2)
انظر مجموع الفتاوى (13/ 56).
مرجئة الفقهاء. وهم علماؤهم وأئمتهم وأحسنهم قولاً.
وقد استقر إرجاء الفقهاء على ثلاثة أسس هي:
1 -
زعمهم أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان وأن الإيمان هو التصديق.
2 -
زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
3 -
زعمهم أنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان.
القسم الثاني: الذين قالوا: "هو تصديق القلب فقط وإن لم يتكلم به".
وهذا قول الجهمية، وهو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه. فالجهم كان يقول إن الإيمان مجرد تصديق القلب وإن لم يتكلم به. وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووكيع وغيرهما كفروا من قال بهذا القول. ولكن هذا هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه؟! ولكن قالوا مع ذلك إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره واستدللنا على تكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة.
القسم الثالث: الذين يقولون: "الإيمان هو القول فقط".
فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقراً بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً مؤمناً من أهل النار، وهذا قول الكرامية.
وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان، وبعض الناس يحكى عنهم أن من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون إنه مؤمن كامل الإيمان، وإنه من أهل النار.
(1)
وهذا ما أشار إليه المصنف هنا بقوله: "فيجعلون المنافق مؤمنا، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم".
(1)
مجموع الفتاوى 13/ 38، 48 - 55، 56.
وقد بين شيخ الإسلام أن المرجئة فيما أثبتوه من إيمان أهل الذنوب، والرحمة لهم أحسنوا، لكن إنما أصل إساءتهم من جهة ما نفوه من دخول الأعمال في الإيمان وعقوبات أهل الكبائر
(1)
.
فالمرجئة مع قولهم بأن الله فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرم الفواحش
(2)
، إلا أن قولهم بالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم
(3)
).
وأما قول المصنف: "وأما في الصفات والقدر، والوعد والوعيد، فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة".
بين المصنف أن مذهب الكرامية أقرب إلى الحق من مذهب المعطلة؛ لأنهم وافقوا أهل الإثبات وأهل السنة في إثبات موجود قائم بنفسه، وإن كانوا أخطؤوا في مسائل، فإن شيخ الإسلام لم يصوب مذهب الكرامية بل بين أنهم أقرب إلى الحق من المعطلة، حيث إنهم أثبتوا موجوداً قائماً بنفسه، والمعطلة لم يثبتوا شيئاً.
ويبين رحمه الله أن ما يحمدون عليه أحد أمرين:
إما موافقة أهل السنة.
وإما الرد على المبتدعة.
فقال: "وكذلك متكلمة أهل الإثبات، مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية، إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة، بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات
(1)
مجموع الفتاوى: 20/ 111.
(2)
مجموع الفتاوى: 17/ 105.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 105)؛ ومجموع الفتاوى (3/ 102)؛ و ((درء التعارض)) (8/ 23)؛ و ((جامع المسائل)) (5/ 37).
الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وبيان تناقض حججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة، فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث، وإما الرد على من خالف السنة والحديث بيان تناقض حججهم"
(1)
.
ومع ذلك فإن الكرامية لهم وعليهم كما سيأتي بيانه.
وأما عن قول الكرامية في الصفات فهم في باب الصفات يثبتونها ولكنهم خالفوا أهل السنة في مسألتين:
المسألة الأولى: أنهم يبالغون في الإثبات ويخوضون في شأن الكيفية، ودخل عليهم ذلك من جهة إطلاقهم لألفاظ مبتدعة كلفظ (الجسم)، و (المماسة).
ومن بدع الكرامية أنهم يقولون في المعبود إنه جسم لا كالأجسام
(2)
.
ومن بدعهم قولهم: إن الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا
(3)
.
ويقولون: إن الله جسم قديم أزلي، وإنه لم يزل ساكناً ثم تحرك لما خلق العالم، ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة، فهي تقبل الاجتماع والافتراق، ولا تخلوا من اجتماع وافتراق، وهي أعراض حادثة لا تخلو منها، ومالا يخلو من الحوادث فهو حادث.
وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق، ولكنه لم يزل ساكناً. والسكون عندهم أمر عدمي، وهو عدم الحركة عمَّا من شأنه أن يتحرك، كما يقول
(1)
مجموع الفتاوى 2/ 10.
(2)
لسان الميزان (5/ 354).
(3)
درء تعارض العقل والنقل (3/ 6).
ذلك من يقوله من المتفلسفة. وهؤلاء يقولون: إن الباري لم يزل خالياً من الحوادث حتى قامت به، بخلاف الأجسام المركَّبة من الجواهر المفردة، فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق
(1)
.
ويقولون: إن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك
(2)
.
ويقول ابن كرام: إن الله مماس للعرش من الصفحة العليا
(3)
.
ويقول كذلك: له حد من الجانب الذي ينتهي إلى العرش ولا نهاية له
(4)
.
وقد غالى أتباع ابن كرام في شأن الكيفية فزعم بعضهم أنه تعالى على بعض أجزاء العرش
(5)
.
وادعى بعضهم أن العرش امتلأ به بحيث لا يزيد على عرشه من جهة المماسة، ولا يفضل منه شيء على العرش
(6)
.
المسألة الثانية: إن الكرامية يثبتون الصفات بما فيها أن الله تعالى تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك عندهم حادث بعد أن لم يكن، أنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 227).
(2)
المصدر السابق (5/ 246).
(3)
الفرق بين الفرق (ص 198)، والملل والنحل (1/ 108 - 109).
(4)
التبصير في الدين (ص 112).
(5)
الملل والنحل (1/ 109).
(6)
الفرق بين الفرق (ص 199)، وأصول الدين للبغدادي (ص 73، 112)، والملل والنحل (1/ 109).
فعندهم أن الله يتكلم بأصوات تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه تقوم به الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته، لكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأن الله في الأزل لم يكن متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام، وأنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك
(1)
.
ومعلوم أن عقيدة السلف تقوم على إثبات جميع الصفات الذاتية منها والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة
(2)
.
وأما عن قول الكرامية في باب القدر:
فقد وافقوا أهل السنة في إثبات القدر إجمالاً: ففي مسألة الظلم وافقوا الجمهور في أن الظلم مقدور لله عز وجل، وأن الله تعالى منزه عنه، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه: 122 [
وفي مسألة المحبة والمشيئة: وافقوا السلف في التفريق بينهما.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موافقتهم السلف في الموقف من الخلفاء الراشدين، وتفضيل عثمان رضي الله عنه.
قال رحمه الله: "والكرامية وأمثالهم هم - أيضاً - من القائلين بالقدر، المثبتين لخلافة الخلفاء، والمفضلين لأبي بكر، وعمر، وعثمان"
(3)
.
وفي مسألة الإمامة، ذكر أنهم: يرون أن علياً ومعاوية رضي الله عنهما كلاهما مصيب،
(1)
انظر مجموع الفتاوى (6/ 524 - 525)، ودرء تعارض العقل والنقل (2/ 76).
(2)
انظر مجموع الفتاوى (6/ 149، 520 - 525).
(3)
منهاج السنة 1/ 50.
وعليه: فيجوز عقد البيعة لإمامين في وقت واحد عند الحاجة
(1)
.
وأما عن قولهم في مسألة الوعد والوعيد فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على مسألة إثابة الله تعالى للطائع، وعفوه عن العاصي، أو معاقبته:
"فهذا مذهب أهل السنة الخاصة، وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة، كالكلابية، والكرامية، والأشعرية، والسالمية، وسائر فرق الأمة من المرجئة، وغيرهم.
والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة، فإنهم يقولون بتخليد أهل النار"
(2)
.
(1)
منهاج السنة 2/ 294.
(2)
منهاج السنة: (2/ 302)؛ ونحوه في (4/ 570).
مذهب القدرية والجهمية في الوعد والوعيد
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظموا الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغلو فيه، فهم يكذِّبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب".
الشرح
المعتزلة وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وهم فرق كثيرة يجمعها ما يسمونه بأصولهم الخمسة وهي شرط في الانتساب إليهم فيقولون: إن الذي يكون على الاعتزال عليه أن يقول بالأصول الخمسة، وهي:
1.
العدل.
2.
والتوحيد.
3.
والمنزلة بين المنزلتين.
4.
والوعد والوعيد.
5.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالتوحيد عندهم: نفي الصفات.
والعدل: هو القول بالقدر.
والوعد والوعيد: هو قولهم في مسائل الإيمان.
والمنزلة بين المنزلتين: هذه في مسألة مرتكب الكبيرة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا هو الأصل الخامس عند هؤلاء.
فلابد لمن يكون معتزلياًّ أن يكون على هذا.
والاعتزال في حقيقته يحمل خليطاً من الآراء الباطلة التي كانت موجودة في ذلك العصر، فقد جمع المعتزلة بين أفكار الجهمية، والقدرية، والخوارج، والرافضة.
فقد شاركوا الجهمية في بعض أصولهم، فوافقوهم في إنكار الصفات، فزعموا أن ذات الله لا تقوم بها صفة ولا فعل، كما سيأتي تفصيله. وقالوا بإنكار رؤية الله يوم القيامة وقالوا إن القرآن مخلوق إلى غير ذلك.
كما شاركوا القدرية في إنكارهم لقدرة الله في أفعال العباد، وأخذوا عنهم القول بأن العباد يخلقون أفعالهم.
كما شاركوا الخوارج في مسألة الإيمان، وقالوا بقولهم إن الإيمان قول، واعتقاد، وعمل، لا يزيد ولا ينقص، وأنه إذا ذهب بعضه زال كلّه.
وبناءً على ذلك شاركوهم في مسألة مرتكب الكبيرة، فالمعتزلة وإن قالوا بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، لكنهم وافقوا الخوارج في قولهم بأن مرتكب الكبيرة في الآخرة خالد مخلد في النار.
وأخذوا كذلك عن الخوارج رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعلى هذا فأفكار المعتزلة إنما هي خليط من آراء الفرق المخالفة في عصرهم.
وأفكار المعتزلة يحملها اليوم كل من: الرافضة الإمامية، والزيدية، والإباضية، وكذلك من يسمون بالعقلانيين.
فالمعتزلة ومعهم النجارية والضرارية والرافضة الإمامية والزيدية
والإباضية وغيرهم. وهؤلاء مشتركون مع الجهمية والفلاسفة في نفي الصفات
(1)
وإن كان بين الفلاسفة والمعتزلة نوع فرق
(2)
والمعتزلة تعطيلهم أقل درجة، لأنهم يقتصرون على نفي الصفات، ويثبتون الأسماء، وإن كان ينبغي أن تفهم أن إثباتهم للأسماء إنما هو إثبات شكلي، لأنهم يثبتون ألفاظها وينفون معانيها، وهم يقولون: سميع بلا سمع، ويثبتون الأسماء إثباتًا شكليًّا وينفون الصفات.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والإقرار بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، مع إنكار القدر، خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد"
الشرح
يعقد المصنف مقارنة بين حال المرجئة وحال القدرية، ومعلوم أن القدرية عظموا الأمر والنهي وهذا ظاهر من خلال قولهم في الإيمان وقولهم في حكم مرتكب الكبيرة فهم يدخلون العمل في مسمى الإيمان ويقولون إن الإيمان قول واعتقاد وعمل وكذلك يقولون بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتين في الدنيا وهو في الآخرة مخلد في النار، وهذه الأقوال يظهر فيها تعظيم الأمر والنهي وإن كانت أقوالًا خاطئة من جهة أخرى. "وقول القدرية والْخَوَارِجِ فِي عُمُومِ الْأُمَّةِ يقوم على أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ ذَنْبٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ كَانَ عِنْدَهُمْ كَافِرًا مُخَلَّدًا فِي النَّارِ. وَهَذَا
(1)
-مجموع الفتاوى 13/ 131.
(2)
-مجموع الفتاوى 6/ 51.
بَاطِلٌ خِلَافَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ، وَخِلَافَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ. "
(1)
أما المرجئة فإنهم لم يعظموا الأمر والنهي بإخراجهم العمل عن مسمى الإيمان، وقد بين شيخ الإسلام أن المرجئة فيما أثبتوه من إيمان أهل الذنوب، والرحمة لهم أحسنوا، لكن إنما أصل إساءتهم من جهة ما نفوه من دخول الأعمال في الإيمان وعقوبات أهل الكبائر.
(2)
فالمرجئة مع قولهم بأن الله فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرم الفواحش
(3)
، إلا أن قولهم بالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم.
(4)
ومن المرجئة من تسترسل نفسه في المحرمات وترك الواجبات، حتى يكون من شر الخلق.
(5)
فخلاصة الأمر أن المرجئة قصروا في النهي عن المنكر، وفي الأمر بكثير من المعروف.
(6)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكان قد نبغ فيهم القدرية، كما نبغ فيهم
(1)
- منهاج السنة النبوية 6/ 367.
(2)
انظر: ((الفتاوى)) (20/ 111).
(3)
انظر: ((الفتاوى)) (17/ 105).
(4)
انظر: ((الفتاوى)) (8/ 105)؛ و ((التدمرية))، (ص 189 - 190)((الفتاوى)) (3/ 102)؛ و ((درء التعارض)) (8/ 23)؛ و ((جامع المسائل)) (5/ 37).
(5)
انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 327).
(6)
انظر: ((الفتاوى)) (20/ 111).
الخوارج الحرورية، وإنما يظهر من البدع أولًا ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة".
الشرح
يشير المصنف إلى ترتيب ظهور المقالات من حيث التسلسل الزمني فمقالة الخوارج ومقالة التشيع وكذلك مقالة مرتكب الكبيرة وكذلك مقالة القَدَر، فهذه المقالات أسبق ظهوراً من مقالةِ الإرجاء
مقالة الخوارج
فقد كان المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر وصدراً من خلافة عثمان متفقين لا تنازع بينهم، وكانوا على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول.
(1)
إلى أن حدث في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه أمور أوجبت نوعاً من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة فقتلوا عثمان رضي الله عنه سنة (35 هـ)، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ووقعت الفتنة، وأدى ذلك إلى اقتتالهم بصفين سنة (37 هـ)، واتفقوا على تحكيم حكمين، فخرجت الخوارج من ذلك الحين على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وفارقوا جماعة المسلمين.
إلى مكان يقال له: "حروراء" فكف عنهم إلى أن استحلوا دماء المسلمين وأموالهم، فعلم علي رضي الله عنه أنهم الطائفة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم فهم الفرقة المارقة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:"تمرق مارقة عند فُرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق".
(2)
وكانت بدعتهم إنما هي من سوء فهمهم للقرآن؛ ولم يقصدوا معارضته، ولكن
(1)
منهاج السنة 1/ 306.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 3/ 113 ط 1، دار المعرفة
فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب، إذ المؤمن هو البر والتقي، فقالوا: فمن لم يكن براً تقياً فهو كافر، وهو مخلد في النار؛ ثم قالوا: وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله، فكانت بدعتهم لها مقدمتان:
"الأولى": أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر.
"الثانية": أن عثمان وعلياً ومن والاهما كانوا كذلك.
(1)
وبذلك خرجت الخوارج بجهلهم وعتوهم وتكفيرهم للمسلمين وقتلهم إياهم.
(2)
وكانت آراؤهم مفرعة على الجهل وقوة النفوس والاعتقاد الفاسد.
مقالة الشيعة
وحدثت أيضاً في خلافة علي رضي الله عنه (35 - 40 هـ) بدعة (التشيع) لكن أصحابها كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف.
الطائفة الأولى:
"الغلاة" المدعين لإلهية علي، وهؤلاء لما ظهر عليهم أحرقهم بالنار، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له، فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو. قال: من أنا؟ قالوا: أنت الله الذي لا إله إلا هو. فقال: ويحكم هذا كفر فارجعوا عنه وإلا ضربت أعناقكم، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك، فأخرهم ثلاثة أيام -لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام-فلما لم يرجعوا أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كنده، وقذفهم في تلك النار، وروى عنه أنه قال:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً
…
أججت ناري ودعوت قنبراً
والطائفة الثانية:
(1)
مجموع الفتاوى 13/ 31، 32.
(2)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري 1/ 10.
"السابة" الذين يسبون أبا بكر وعمر، فإن علياً لما بلغه ذلك طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك عنه، وقيل إنه أراد قتله فهرب منه إلى أرض قرقيسيا أي ما تسمى اليوم (قرغيزيا).
والطائفة الثالثة:
"المفضلة" الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فأمر بجلدهم، فقد روى عنه أنه قال:
"فلا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري.
وقد تواتر عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبوبكر ثم عمر، روى هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً ورواه البخاري
(1)
وغيره)
قال الهروي: (وأما فتنة قصب السلف [أي الرفض] فإن الكوفة دارها التي حرفتها، ثم طار في الأفاق شررها، واستطار فيها ضررها، وإنما هاجتها أحلام فيها ضيق، وأشربتها قلوب فيها حمق، ولها عروق خفية، السلامة للقلوب في ترك إظهار بعضها، وأربابها أحمق خلق الله تعالى، عرضت تساوى بين علي بن أبي طالب وأبي بكر وعمر، ثم أخذت تفضله عليهما وتخاصمهما وتضلهما وتوليه حقهما، ثم جاءت تعدله بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وتشركه في وحي السماء، ثم خطأت جبريل عليه السلام في نزوله، فخلّت الأمة من النبوة، وأحوجتها إلى علي رضي الله عنه، ثم ادعت له الإلهية ثم ادعتها لولده.
قال الإمام المطلبي: "لو كانوا دواباً لكانوا حُمُراً، ولو "كانوا طيراً لكانوا رخماً".
(2)
فاستظهرت بهؤلاء الغالية أرباب القلوب المريضة، فتظاهرت على قصب
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب حدثنا الحميدي وعبد الله. 5/ 7
(2)
منهاج السنة 1/ 307، 308، مجموع الفتاوى 13/ 33، 34.
السلف الذين هم الناقلون وفيهم قانون الدين والملة، فهؤلاء الذين قالوا في السلف الصالح بالقول السيئ أرادوا القدح في الناقل لأن القدح في الناقل إبطال المنقول، فأرادوا إبطال الشرع الذي نقلوا، وإنما تعلقوا بعلي بن أبي طالب تسلحاً.
ولم تكابد الأمة من شؤم شيء ما كابدت من شؤم تلك الفتنة. لم يكد قلب مسلم يسلم من شرب منها إلا من رحم ربك فعصم.
(1)
ومنذ أن ظهر التشيع واليهود
(2)
والمجوس
(3)
يوقدون ناره تحت دعوى أن للرسول صلى الله عليه وسلم وصياً هو علي بن أبي طالب، ولكن الصحابة تمالؤا على ظلمه وكتمان الوصية على حد زعمهم الكاذب.
ولم يزل التشيع يتطور بتطرفه وتشيعه، حتى صار ملجأً لكل من يريد أن يحارب الإسلام والمسلمين، فقد دخل في الرافضة أهل الزندقة والإلحاد من "النصيرية" و "الإسماعيلية" وأمثالهم من الملاحدة "القرامطة" وغيرهم ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك.
(4)
ومن شنيع عقائدهم القول بأن القرآن مبدل ومحرف ومزيد فيه ومنقوص منه، وأن معظم الصحابة ارتدوا بعد إسلامهم إن لم يكونوا كلهم ماعدا علي بن أبي طالب ونفر قليل معهم.
وقد وصل الضلال ببعضهم والجراءة على الله تعالى، إلى أن يقول بخيانة جبريل للرسالة، وأنه أرسل إلى علي فعدل إلى محمد.
ولم يزل الرفض يبتعد بأهله عن الدين والعقل والفطرة إلى يومنا هذا.
(5)
(1)
ذم الكلام للهروي ص 304، 305 «بتصرف»
(2)
انظر كتاب بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود، لعبد الله الجميلي.
(3)
انظر كتاب «وجاء دور المجوس» لعبد الله الغريب.
(4)
مجموع الفتاوى 28/ 528.
(5)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري 1/ 10.
فهاتان البدعتان: بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة،
(1)
بعد مقتل عثمان رضي الله عنه فلما قتل ذو النورين بين ظهراني المسلمين في الشهر الحرام، وفي حرم الرسول صلى الله عليه وسلم بأعين المسلمين، وانشقت العصا وتفرقت الجماعة، تشاءمت الأعين، وتخاذلت الأنفس، اختلفت الآراء، وتباعدت القلوب، وساءت الظنون، واستعلت الريب، واستقوت التهم، وجدت كل فتنة فرصتها، فلفظت غصتها، واشتغل الرعاع، وأسلم الشارك، وتزاحف أئمة الهدى رغبة في زهرة الدنيا، فأخذت الغواة أزمة الضلالة، فتهوست لها من قلوب أهل الغفلة.
(2)
مقالة القدرية
ثم حدثت بعد ذلك بدعة "القدرية" في آخر عصر الصحابة
(3)
وكان القدر قد حدث أهله قبل أهل النفي للصفات، فمقالة القدر ظهرت في خلافة عبد الله الزبير (64 - 73 هـ) بعد موت معاوية.
(4)
ولهذا تكلم فيهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع.
(5)
رضي الله عنهم.
وابن عباس مات (68 هـ) قبل ابن الزبير وابن عمر مات عقب موته (74 هـ).
وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين، فبقي الناس يخوضون في القدر بالحجاز، والشام، والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق بالبصرة، وأقله كان بالحجاز.
(6)
(1)
منهاج السنة 1/ 308.
(2)
ذم الكلام للهروي ص 303
(3)
منهاج السنة 1/ 308.
(4)
الحسنة والسيئة ص 103.
(5)
منهاج السنة ص 103.
(6)
الحسنة السيئة ص 103.
وأول من عرف بنفي القدر، رجل مجوسي يقال سيسويه من الأساورة، وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به معبد الجهني.
(1)
قال الهروي: (فأما القدر فأول من تكلم به معبد الجهني رجل من أهل البصرة، كان عنده حظ من العلم يقال له "معبد بن خالد، ويقال معبد ابن عبد الله بن عويم، مات بعد الهزيمة وكان يومئذ مع ابن الأشعث، وأصابته جراحة، وهو أول من تكلم بالقدر، وهو الذي تبرأ منه عبد الله ابن عمر بن الخطاب.
(2)
مات قبل التسعين
(3)
قتله الحجاج بن يوسف وقيل صلبه عبد الملك بن مروان سنة ثمانين.
(4)
وأخذ غيلان الدمشقي عن معبد الجهني
(5)
قال الهروي: (فتكلم عليه عمرو بن عبيد، وجادل به غيلان بن مسلم الدمشقي وغيلان هو ابن أبي غيلان أبو مروان من موالي عثمان، وكان عنده حظ من العلم، تكلم به أيام عبد الملك بن مروان، واستتابه عمر بن عبد العزيز، ثم ظهر منه تكذيب التوبة
(6)
زمن يزيد بن عبد الملك ثم لما ولى هشام بن عبد الملك سنة (106 هـ) أرسل إلى غيلان وأحضر له الأوزاعي لمناظرته، ثم قتله
(7)
فصلب على باب الشام بأخزى حالة لقيها بشر.
(8)
(وأما عمرو بن عبيد فهو عمرو بن كيسان أبو عثمان مولى بني تميم البصري،
(1)
تهذيب التهذيب 10/ 225.
(2)
ذم الكلام ص 303.
(3)
سير أعلام النبلاء 4/ 187.
(4)
تهذيب التهذيب 10/ 225، سير أعلام النبلاء 4/ 187.
(5)
سير أعلام النبلاء 4/ 187.
(6)
ذم الكلام ص 303.
(7)
الشريعة للآجري ص 228، التنبيه والرد للملطي ص 168.
(8)
ذم الكلام ص 303.
مات سنة ثلاث وأربعين ومائة في طريق مكة فإنه أول من بسط أساسه فأصبح رأسه، ونظم له كلاما ونصبه إماماً، ودعا إليه ودل عليه، فصار مذهباً يسلك، وهو إمام الكلام وداعية الزندقة الأولى رأس المعتزلة، سموا به لاعتزاله حلقة الحسن البصري، وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر مالك بن أنس الأصبحي، وإمام أهل الرأي النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة، وحذر منه إمام أهل الشرق عبد الله بن المبارك الحنظلي، فسلط الله عليه وعلى من استتبع واخترع، سيفاً من سيوف الإسلام وهو أبوبكر أيوب بن أبي تميمة السختياني، فهتك استاره، وأظهر عواره، ورسمه باللعنة وألحق به بلاء تلك الفتنة)
(1)
.
ونفاة القدر أرادوا منازعة الله في الربوبية فضاهوا بذلك المجوسية الأولى وهم الزنادقة.
(2)
وأصل بدعة القدرية كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع؛ وكانوا قد آمنوا بدين الله وآمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصي، لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه، وظنوا أيضاً أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يفسد.
فلما بلغ قولهم بإنكار القدر الصحابة أنكروه إنكاراً عظيماً وتبرؤا منهم. ثم كثر الخوض في القدر فصار مقتصدوهم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار النزاع في الإرادة وخلق أفعال العباد فصاروا في ذلك حزبين:
1 -
"النفاة": يقولون لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد.
(1)
ذم الكلام ص 303.
(2)
ذم الكلام ص 305.
2 -
"المجبرة" كالجهم بن صفوان وأمثاله، قابلوا الفريق الأول فقالوا ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا العبد لا فعل له البتة ولا قدرة، بل الله هو الفاعل القادر فقط.
(1)
مقالة المعتزلة
ثم أحدثت المعتزلة القول بالمنزلة بين المنزلتين وقالوا بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد في النار، وأن النار لا يخرج منها من دخلها.
(2)
وكانت "الخوارج" قد تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا: "إنهم كفار مخلدون في النار، فخاض الناس في ذلك
(3)
وخاض في ذلك المعتزلة بعد موت الحسن البصري (110 هـ) في أوائل المائة الثانية، ولم يكن الناس إذ ذاك قد أحدثوا شيئاً من نفي الصفات.
(4)
فقال عمرو عبيد (143 هـ) وأصحابه لا هم مسلمون ولا كفار بل هم في منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار. فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنهم ليس معهم من الإسلام والإيمان شيء، ولكن لم يسموهم كفاراً. واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل قتادة وأيوب السختياني وأمثالهما، فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن، وقيل إن قتادة كان يقول: أولئك المعتزلة.
(5)
والمعتزلة الذين كانوا في زمن عمرو بن عبيد وأمثاله لم يكونوا جهمية، وإنما كانوا يتكلمون في الوعيد وإنكار القدر، وإنما حدث فيهم نفي الصفات بعد هذا، ولهذا لما ذكر الإمام أحمد قول جهم في رده على الجهمية قال: (فاتبعه قوم
(1)
مجموع الفتاوى 13/ 36، 37.
(2)
كتاب الحسنة والسيئة ص 103.
(3)
مجموع الفتاوى 13/ 37.
(4)
كتاب الحسنة والسيئة ص 103.
(5)
مجموع الفتاوى 13/ 37، 38.
من أصحاب عمرو بن عبيد وغيره، واشتهر هذا القول عن أبي الهذيل العلاف والنظام وأشباههم من أهل الكلام.
(1)
مقالة المرجئة
وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة فقالوا إن الأعمال ليست من الإيمان.
(2)
وأول ما ظهرت بدعة الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث سنة (83 هـ) وقيل إن أول من قال به هو ذر بن عبد الله المرهبي الهمداني (توفي قبل المائة).
فقد أخرج عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن سلمة بن كهيل (قال: وصف "ذر" الإرجاء وهو أول من تكلم فيه، ثم قال إني أخاف أن يتخذ هذا ديناً، فلما أتته الكتب من الأفاق قال فسمعته يقول بعد وهل أمر غير هذا)
وقال أبو داود: كان مرجئاً وهجره إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير بالإرجاء.
(3)
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: (أن حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) هو أول من قال بالإرجاء)
(4)
وكانت بدعة الإرجاء مقتصرة في بدايتها على إرجاء الفقهاء ولذلك كانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم،
(5)
إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما مع سائر أهل السنة متفقين على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر
(1)
شرح الأصفهانية ص 65.
(2)
مجموع الفتاوى 13/ 38.
(3)
السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 329 رقم 677).
(4)
تهذيب التهذيب 3/ 218.
(5)
مجموع الفتاوى 7/ 297، 311، 5/ 507.
بالنار ثم يخرجهم بالشفاعة، وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب. فكان الخلاف معهم في الأعمال هل هي من الإيمان؟، وفي الاستثناء ونحو ذلك عامته نزاع لفظي.
(1)
وصارت المرجئة بعد ذلك على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهؤلاء يسمون مرجئة الفقهاء. وهم علماؤهم وأئمتهم وأحسنهم قولاً.
وقد استقر إرجاء الفقهاء على ثلاثة أسس هي:
1 -
زعمهم أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان وأن الإيمان هو التصديق.
2 -
زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
3 -
زعمهم أنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان.
القسم الثاني: الذين قالوا: "هو تصديق القلب فقط وإن لم يتكلم به".
وهذا قول الجهمية، وهو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه. فالجهم كان يقول إن الإيمان مجرد تصديق القلب وإن لم يتكلم به. وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووكيع وغيرهما كفروا من قال بهذا القول. ولكن هذا هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه؟! ولكن قالوا مع ذلك إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره واستدللنا على تكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة.
القسم الثالث: الذين يقولون: "الإيمان هو القول فقط".
فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقراً بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً مؤمناً من أهل النار، وهذا قول الكرامية.
وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان، وبعض الناس يحكى عنهم أن من
(1)
مجموع الفتاوى 13/ 38، 48.
تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون إنه مؤمن كامل الإيمان، وإنه من أهل النار.
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية، مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، أولئك يشبَّهون بالمجوس، وهؤلاء يشبَّهون بالمشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام الآية: 148]، والمشركون شر من المجوس".
الشرح
يشير المصنفُ بهذا إلى بعض كبار شيوخ المتصوفة المُدَّعين للتحقيق والتوحيد والعرفان؛ إذ وقع هؤلاء في هذا المزلق الخطير، وهو إقصاؤهم للأمور الشرعية، وتركيزهم على الحقائق الكونية القدرية، وإن كان نظرهم كذلك هو نظر الجبرية.
فالصوفية والجبرية يتكلمون بلسان واحد في باب القَدَر، فإذا ذكر الصوفية في هذه المسائل فاعلم أنَّهم جبرية؛ فهم والجهمية في خندق واحد، مع تعطيلهم لباب الحقائق الدينية، ومع تعطيلهم للأوامر والنواهي، فما أراده الجَهْمُ- وهو أول مَنْ برز بعد الجعد في مسائل الكلام- أراد هؤلاء أن يحققوه، فالهدف عندهم واحد، والطريق واحد، والمؤدَّى واحد، فانظر كيف يلتقي أهل الباطل مع بعضهم في هذه المسائل.
وقول المصنف: وهؤلاء يشبَّهون بالمشركين".
(1)
مجموع الفتاوى 13/ 38، 48 - 55، 56.
أي أنهم قد يشهدون ما يُقَدَّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يُقَدَّر على الناس من ذلك؛ بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخل في حُكم رُبوبيته ومقتضى مَشيئته؛ فيَظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرِّضا به ونَحْو ذَلِك دينًا وطريقًا وعبادَة؛ ويقولون بأن هذا هو شهود الحقيقة الكونية.
وهذا وجه الغلط عندهم.
أنهم يقررون أن الكُفَّار لا يُلامون على كفرهم، وأنَّ العُصاة لا يلامون على معصيتهم؛ لأنهم- كما يزعمون- قد حَقَّقوا قدرَ الله تعالى!
فأصبح حالهم كحال القدرية من المشركين الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} [الأنعام: 148]، وكذلك في قولهم:{أنطعم مَنْ لو يشاء الله أطعمه} [يس: 47]، وقوله:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]؛ فمقولة هؤلاء وحالهم هي نفس مقولة أولئك وحالهم.
ومعلوم عن طائفة من أهل التصوف أنهم عطلوا العبودية عن معناها الحق؛ فجعلوا أمر التوحيد مقصورًا على الإيمان بالحقائق الكونية القدرية؛ فلهم انحراف في باب القَدَر، وخلاصته أنهم جبرية.
وكذلك في مقام التوكل أسقطوا الأسباب، ولم يُفَرِّقوا بين مشيئة الله عز وجل الكونية القدرية وبين مشيئته الدينية الشرعية؛ فلم يفرقوا بين ما شاءه الله كونًا وقدرًا، وبين ما أحبَّه دينًا وشرعًا، وجعلوا الأمرين على حدٍّ سواء؛ فتخبطوا وضَلُّوا في هذا الباب.
ونفاة القدر أرادوا منازعة الله في الربوبية فضاهوا بذلك المجوسية الأولى وهم الزنادقة.
(1)
(1)
ذم الكلام ص 305.
وأصل بدعة القدرية كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع؛ وكانوا قد آمنوا بدين الله وآمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصي، لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه، وظنوا أيضاً أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يفسد.
فلما بلغ قولهم بإنكار القدر الصحابة أنكروه إنكاراً عظيماً وتبرؤا منهم. ثم كثر الخوض في القدر فصار مقتصدوهم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار النزاع في الإرادة وخلق أفعال العباد فصاروا في ذلك حزبين:
1 -
"النفاة": يقولون لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد.
2 -
"المجبرة" كالجهم بن صفوان وأمثاله، قابلوا الفريق الأول فقالوا ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا العبد لا فعل له البتة ولا قدرة، بل الله هو الفاعل القادر فقط.
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فهذا أصل عظيم، على المسلم أن يعرفه، فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله".
الشرح
فلا يدخل الإنسان الإسلام إلا بعد أن ينطق بالشهادتين؛ (شهادة أن لا إله إلا
(1)
مجموع الفتاوى 13/ 36، 37.
الله وأنَّ محمدًا رسول الله)؛ فلا إله إلا الله، معناها: لا معبود بحقٍّ إلا الله، ومحمد رسول الله معناها لا متبوع في أداء العبادة ولا قُدوة للنَّاس إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال جل وعلا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فمن أراد السعادة في الدنيا والآخرة فعليه باقتفاء أثره صلى الله عليه وسلم، والعَض على ما جاء به، وأن لا يَعبد اللهَ إلا بما شرع رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر الأية: 7]، وكذلك من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله وَجَبت له الجنَّةُ، كما جاء في الحديث
(1)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر. "
(2)
وقال أيضاً" "(فأما الشهادتان) إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها"
(3)
وقال أيضاً: "إن الذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة، وأن القول من القادر عليه شرط في صحة الإيمان"
(4)
(1)
أخرجه أحمد (22034) وأبو داود (3116) بلفظ: «دخل الجَنَّة» من حديث معاذ ?، وحسنه الألبانيُّ في «الإرواء» (687).
(2)
((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 302).
(3)
((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 609 (.
(4)
((الصارم المسلول)) (ص 525) والمقصود بالقول هنا: شهادة ألا إله إلا الله. قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 46): (فأما القول المراد به النطق بالشهادتين). اهـ. وهذا ليس حصراً لقول اللسان بالشهادتين وإنما الكلام عن القول الذي هو شرط في الإيمان ..
قال الإمام النووي تعليقاً على حديث ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله))
(1)
"وفيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم"
(2)
وقال أيضاً: "واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا"
(3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وجماع الدَّين أصلان:
أَلَّا نَعْبد إِلَّا اللهَ، ولَا نَعبدُه إِلَّا بِمَا شرع، لَا نَعبده بالبدع، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه فليعمل عملا صَالحا ولَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدًا} [الكَهْف: 110].
وذَلِكَ تَحْقِيق الشَّهَادَتَيْنِ: شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله، وشَهَادَة أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله.
فَفِي الأولى: أَلَّا نَعْبد إِلَّا إِيَّاه.
وفِي الثَّانِيَة: أَنَّ مُحَمَّدًا هُو رَسُوله المبلِّغ عَنهُ، فعلينا أَنْ نصدق خَبره ونُطيع أمره.
وقد بَيَّن لنا مَا نَعْبد الله بِهِ، ونهانا عَنْ محدثات الأُمُور، وأخْبر أَنَّهَا ضَلَالَة؛ قَالَ تَعَالَى:{بلَى من أسلم وجهه لله وهُو محسن فَلهُ أجره عِنْد ربه ولَا خوف عَلَيْهِم ولَا هم يَحْزَنُونَ} [البَقَرَة الآية: 112].
وكما أنَّنا مأمورون أَلَّا نَخَاف إِلَّا الله، ولَا نتوكل إِلَّا على الله، ولَا نَرغب إِلَّا إِلَى الله، ولَا نستعين إِلَّا بالله، وألَّا تكون عبادتنا إِلَّا لله، فَكَذَلِك نَحن مأمورون أَنْ نَتَّبع الرَّسُول ونُطيعه ونتأسى بِهِ؛ فالحلال مَا حَلَّله، والَحرَام مَا حَرَّمه، والدِّين مَا شَرعه؛ قَالَ الله تَعَالَى: {ولَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله ورَسُولهوقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله ورَسُوله
(1)
رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(2)
((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 212).
(3)
((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 149).
إِنَّا إِلَى الله راغبون} [التَّوْبَة الآية: 59]، فَجعل الإيتاء لله ولِلرَّسُولِ، كَمَا قَالَ:{ومَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ ومَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} [الحَشْر الآية: 7]، وجعل التَّوكُّل على الله وحده بقوله:{وقَالُوا حَسبنَا الله} [التوبة الآية: 59]، ولم يقل: ورَسُوله- كَمَا قَالَ فِي وصف الصَّحَابَة رضي الله عنهم فِي الآيَة الأُخْرَى: {الَّذين قَالَ لَهُمْ النَّاس إِنْ النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا وقَالُوا حَسبنَا الله ونعم الوكِيل} [آل عمرَان الآية: 173]، ومثله قَوْله:{يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله ومن اتبعك من المُؤمنِينَ} [الأَنْفَال الآية: 64]، أَي: حَسبك وحسب المُؤمنِينَ، كَمَا قَالَ:{أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} [الزمر الآية: 36]- ثمَّ قَالَ: {سيؤتينا الله من فَضله ورَسُوله} [التوبة الآية: 59]، فَجعل الإيتاء لله ولِلرَّسُولِ، وقدم ذكر الفضل لله؛ لِأَن {الفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء والله ذُو الفضل العَظِيم} [الحديد الآية: 29]، وله الفضل على رَسُوله وعَلى المُؤمنِينَ، وقَالَ:{إِنَّا إِلَى الله راغبون} [التوبة الآية: 59]؛ فَجعل الرَّغْبَة إِلَى الله وحده، كَمَا فِي قَوْله:{فَإِذا فرغت فانصب * وإِلَى رَبك فارغب} [الشَّرْح الآية: 7، 8].
وقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاس: «إِذا سَأَلت فاسأل الله، وإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ باللهِ»
(1)
، والقُرْآنُ يدلُّ على مِثل هَذَا فِي غير مَوضِع.
فَجعل العِبَادَة والخشية والتَّقوى لله، وجعل الطَّاعَة والمحبة لله ورَسُوله، كَمَا فِي قَول نوح عليه السلام:{أَنْ اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} [نوح الآية: 3]، وقَوله:{ومن يطع الله ورَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون} [النُّور الآية: 52]، وأمثال ذَلِك.
فالرسل أمروا بِعِبَادَتِهِ وحده، والرَّغْبَة إِلَيْهِ، والتوكل عَلَيْهِ وطاعته، والطَّاعَة لَهُم، فأضَلَّ الشَّيْطَانُ النَّصَارَى وأشباهَهم؛ فأشركوا باللهِ وعصوا الرَّسُول، فـ {اتَّخذُوا أَحْبَارهم ورُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم} [التوبة الآية: 31]، فَجعلُوا يرغبون إِلَيْهِم ويتوكلون عَلَيْهِم، ويَسْأَلُونَهُمْ مَعَ معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسُنَّتهم.
(1)
أخرجه أحمد (2669) والترمذي (2516)، وصححه الألباني في «المشكاة» (5302).
وهدى الله المُؤمنِينَ المخلصين لله؛ أهلَ الصِّرَاط المُسْتَقيم الَّذين عَرفُوا الحقَّ واتَّبعوه، فَلم يَكُونُوا من المَغضوب عَلَيْهِم ولَا الضَّالِّين؛ فأخلصوا دينهم لله، وأَسْلمُوا وُجُوههم لله، وأنابوا إِلَى رَبِّهم، وأحبوه ورَجوه، وخافوه وسألوه، ورَغبُوا إِلَيْهِ، وفَوَّضوا أُمُورهم إِلَيْهِ، وتوكلوا عَلَيْهِ، وأطاعوا رسله وعَزَّروهم ووقَّروهم، وأحبُّوهم ووالوهم، واتَّبَعوهم واقتفوا آثَارهم واهتدَوا بمنارهم.
وذَلِكَ هُو دينُ الإِسْلَام الَّذِي بعث الله بِهِ الأَوَّلين والآخرين من الرُّسُل، وهُو الدِّين الَّذِي لَا يَقبل اللهُ من أحد دينًا إِلَّا إِيَّاه، وهُو حَقِيقَة العِبَادَة لربِّ العَالمين"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين، أو أحدهما، مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة، فإقرار المرء بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمدًا رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فلا بد من الكلام في هذين الأصلين".
الشرح
تقدم ذكر هذه المسألة وشرحها وبيان أن نظار أهل الكلام لما عرَّفوا التوحيد وقَسَّموه قالوا: إنَّ الله واحد في ذاته لا قَسِيم له، وواحدٌ في صِفاته لا نَظِير له، وواحدٌ في أفعاله لا شريكَ له.
وهم بهذا التعريف أسقطوا ذِكر وعَدَّ توحيد العبادة، ولم يجعلوه قِسْمًا من أقسام التوحيد؛ بل إنهم زيادة على ذلك فسَّرُوا معنى: لا إله إلا الله بقولهم: لا لا ربَّ
(1)
مجموع الفتاوى: 6/ 137 - 128.
ولا مالك ولا خالق، ولا قادر على الاختراع إلا الله سبحانه وتعالى، ولمَّا عرفوا الإله حصروا معنى الألوهية في الربوبية، وقالوا: إن الإله هو: القادر على الاختراع والخَلْقِ
(1)
.
وقد تقدم بيان أن هذا القدر من التوحيد لم ينفع كفار قريشـ وأنه لابد من يجتمع مع هذا الإقرار بتوحيد الألوهية، وبهذا يتضح إخلال نظار أهل الكلام بالأصل الأول الذي هو "شهادة أن لا إله إلا الله".
وأما عن الإخلال بالأصل الثاني الذي هو "شهادة أن محمدًا رسول الله" فهذا هو ما وقع فيه طوائف من المتصوفة بابتداعهم أمورًا ما أنزل الله بها من سلطان؛ فحالهم يدور بين البِدعة وإحداث شرع لم يَأذن به الله؛ حيث لا دليل عليه ولا مُستمسك، وإنما هم على باطل.
(1)
انظر: «أصول الدين» للبغدادي (ص 123)، و «المِلل والنِّحل» للشهرستاني (1/ 100)، و «مجرد مقالات الأشعري» لابن فورك (ص 47).
تحقيق التوحيد
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "الأصل الأول: توحيد الإلهية، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين- كما تقدم- بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء من دون الله تعالى، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس الآية: 18]، فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء الشفعاء مشركون، وقال تعالى عن مؤمن يس:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ • أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ • إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ • إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس الآيات: 22 إلى 25]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام الآية: 94]، فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء، وقال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ • قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر الآيات: 43 - 44]، وقال تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة الآية: 4]، وقال تعالى:{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام الآية: 51].
وقد قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة الآية 255]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ • لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ • يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْخَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء الآيات: 26 - 27 - 28]، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم الآية: 26]، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِنْ ظَهِيرٍ • وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ الآيات: 22 - 23].
وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا • أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء الآيات: 56 - 57]، قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون عزيرًا والمسيح والملائكة، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيّن فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه".
الشرح
إذا تأملنا قصص المرسلين التي وردت في القرآن الكريم، وما حدث لهم مع أممهم، نجد أنهم اتفقوا جميعاً على دعوة واحدة، هي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب الشرك، وإن اختلفت شرائعهم
(1)
بل إن مسألة الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله هي القضية الأولى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم بين الرسل وأممهم قال الله -تعالى- مخبراً عما أرسل به جميع الرسل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء الآية: 25].
(1)
انظر: ((تطهير الاعتقاد)) للصنعاني (ص: 5).
وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل الآية: 36].
وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} [النحل الآية: 2].
فجميع الرسل كان أول وأهم ما دعوا إليه هو التوحيد، توحيد الله بالعبادة وتقواه وطاعته وطاعة رسله.
فالدعوة إلى التوحيد، والتحذير من الشرك، وصحة العقيدة وسلامتها هما الأصل الأول في دعوة المرسلين، من لدن نوح إلى محمد، عليهم السلام، وهذا هو الغاية الأولى التي بها تصلح كل شئون الدنيا والدين، فإذا صحت العقيدة أذعن الناس لله وحده وأطاعوا رسله واستقاموا على شرعه على هدى وبصيرة، ومن ثم يصلح كل شيء من أمورهم الدينية والدنيوية.
وهذا لا يعني أن الرسل لم يهتموا بإصلاح المفاسد الأخرى، ولا أنهم لم يدعوا إلى الفضائل الأخرى، بل جاءوا بشرائع ومناهج تسير عليها الأمم وتصلح شئون حياتها الدنيا، وأمروا بالمعروف والإصلاح والعدل، ونهوا عن المنكر والفساد والظلم، وأمروا بكل خير وفضيلة، ونهوا عن كل شر ورذيلة تفصيلاً وإجمالاً.
لكن أعظم الفضائل توحيد الله - تعالى - وتقواه، وأعظم المفاسد الشرك بالله، وهو الظلم العظيم. فكان ذلك أعظم أول ما أرسل الله به الرسل.
وهكذا كل دعوة لا تقوم على هذا الأساس - في أي زمان وأي مكان - فإنها دعوة قاصرة وناقصة، ويخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معاً، لأن هذا أصل عظيم من أصول الدين متى غفلت عنه
الأمم وقعت في كارثة الشرك والابتداع، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك
(1)
.
فأرسل الله الرسل ليدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وتوحيده، وكانوا يدعوهم أول ما يدعوهم إلى توحيد الله فإذا تم ذلك ووحدوه دعوهم إلى باقي العبادات، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذ جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)
(2)
.
وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم توجيه إلى التدرج في دعوة الناس إلى الإسلام، فيبدأ في الأهم فالمهم ولما كان التوحيد هو أصل الاسلام ولا يصح بدونه زكاة ولا صلاة كان هو أول ما يدعى إليه غير المسلم فإن أجاب دُعي إلى باقي العبادات.
ويقول ابن ابي العز الحنفي: "اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل"
(3)
.
وقد تقدم بيان أن الشرك الذي وقع فيه من أشرك من مشركي العرب وما شابههم هو شرك التمثيل وهو أن يَصرف فعلًا من أفعال الله تعالى لغير الله، مع جعل هذا الفعل لله تعالى؛ كالذي يعتقد أن الله يرزق وصاحب القبر يرزق، أو أن لله قدرة وأنَّ للكواكب قدرة؛ فهذا نسميه شِركًا في الربوبية.
(1)
انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر العقل - ص: 22
(2)
أخرجه البخاري (1458) ومسلم (19).
(3)
شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العزّ الحنفي: (77 (.
فمثلًا الذين يعتقدون أن للنجوم وللكواكب تأثيرًا في مجريات الأحداث بالكون، فإن هؤلاء أشركوا شركَ تمثيلٍ في الربوبية؛ لأنهم جعلوا مع الله مُماثلًا في هذا الفعل؛ فاعتقدوا أن الله يؤثر في الكون وأن الكواكب تؤثر كذلك.
وكالذي يقع فيه بعضُ عُبَّادِ القبور الذين يعتقدون أن صاحب القبر يستطيع أن ينفع وأن يَضر بنفسه، وأنه يرزق بنفسه، وأنه يأتي بالولد بنفسه، وهكذا، فهذا يسمى شركَ التمثيل.
وبهذا المعتقد الفاسد صرفوا لهؤلاء المعبودات أصنافًا من العبادات
المتن
قال المصنف رحمه الله: "ومن تحقيق التوحيد: أن يُعلم أن الله تعالى أثبت له حقًّا لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والتوكل والخوف والخشية والتقوى، قال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء الآية: 22]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ • أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر الآيات: 2 - 3]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر الآية: 11]، وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ • وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ • بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر الآيات: 64 - 66]، وكل من أرسل من الرسل يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف الآية: 65]. وقد قال تعالى في التوكل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [المائدة الآية: 23]، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 13]، وقال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر الآية: 38 ["
الشرح
دين الحق دين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسله كما يدل عليه قولنا: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".
فهذان الأصلان:
1 -
توحيد الرب بالعبادة.
2 -
الإيمان برسله.
لابد منهما، ولهذا لا يدخل أحد في الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ذلك لأن دين الإسلام مبني على هذين الأصلين ومن خرج عن واحد منهما فلا عمل له ولا دين.
فلا إله إلا الله معناها أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا.
فإن الإله: هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيمًا وخوفًا ورجاءً وإجلالاً وإكرامًا.
وهو سبحانه له حق لا يشركه فيه غيره، فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله.
وأما شهادة أن محمدًا رسول الله فهي تعني ألا نعبد الله إلا بما شرعه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ عن الله طاعته وأمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فهو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده.
فتحقيق التوحيد إفراد الله بجميع أنواع العبادة فالعبادة حق الله تعالى على
العباد، ومَن صرف شيئًا من أنواع العبادات لغير الله تعالى فقد أشرك بالله تعالى.
- قال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء الآية: 22]، وقال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ • أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر الآيات: 2 - 3]، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر الآية: 11]، وقال تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ • وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ • بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر الآيات: 64 - 66].
فبين الله تعالى أنه أمر بالتوحيد وهو إفراده بالعبادة، ونهى عن الشرك، وبَيَّن أن الشرك محبط لجميع الأعمال الصالحة.
من أنواع العبادات:
ذكر الله في القرآن عدة أنواع من العبادات، وبين أن العبادة لا يجوز صرف شيء منها لغير الله تعالى، وأن صرف شيء منها لغير يعد شركًا في عبادة الله تعالى، ومن هذه العبادات ما يلي:
1 - التوكل:
التوكل: "هو اعتماد القلب على الله تعالى واستناده إليه وسكونه إليه"
(1)
.
قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [المائدة الآية: 23]، وقال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران الآية: 122]، وَقَالَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل الآية: 79]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ- فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ-: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ،
(1)
مدارج السالكين (2/ 121).
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»
(1)
.
2 - الخوف والخشية:
ومن أنواع العبادة التي أوجب الله تعالى أن يفرد بها وحده، وأن لا تصرف لغيره سبحانه عبودية الخوف والخوف:"هُوَ تَوَقُّعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَجَارِي الْأَنْفَاسِ"
(2)
؛ قال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران الآية: 175].
و (الخشية) أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر الآية: 28] فهي خوف مقرون بمعرفة؛ قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة الآية: 44].
فالعبادة والإستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء والاستغاثة والخشية والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستغفار كل، هذا لله وحده لا شريك له. فالعبادة متعلقة بألوهيته، والاستعانة متعلقة بربوبيته، والله رب العالمين لا إله إلا هو، ولا رب لنا غيره، لا ملك ولا نبي ولا غيره، بل أكبر الكبائر الإشراك بالله وأن تجعل له ندا وهو خلقك، والشرك أن تجعل لغيره شركا أى نصيئا في عبادتك، وتوكلك، واستعانتك كما قال من قال {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر الآية:(3)].
وأصناف العبادات: الصلاة بأجزائها مجتمعة، وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها من السجود والركوع والتسبيح والدعاء والقراءة والقيام لا يصلح إلا لله وحده.
ولا يجوز أن يتنفل عن طريق العبادة إلا لله وحده، لا الشمس ولا القمر
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل مَنْ لم يكتو (7/ 126 رقم 5705). وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1/ 199 رقم 220).
(2)
مدارج السالكين (1/ 507).
ولا الملك ولا لنبي ولا صالح ولا قبر نبي ولا صالح، وهذا في جميع ملل الأنبياء وقد ذكر في شريعتنا حتى نهي أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات، ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا أن يسجد له وقال:"لو كنت آمرًا أن يُسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها"
(1)
.
وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة لا يتصدق إلا لله كما قال تعالى {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الإنسان: الآية: (9)].
فلا يجوز فعل ذلك عن طريق الدين لا لملك ولا لشمس ولا لقمر ولا لنبي ولا لصالح، كما يفعل بعض السوال والمعظمين كرامة لفلان وفلان، يقسمون بأشياء إما من الأنبياء وإما من الصحابة وإما من الصالحين.
وكذلك الحج لا يحج إلا إلى بيت الله، فلا يطاف إلا به، ولا يحلق الرأس إلا به، ولا يوقف إلا بفنائه، ولا يفعل ذلك بنبي ولا صالح ولا بقبر نبي ولا صالح، ولا بوثن.
وكذلك الصيام لا يصام إلا عبادة لله، فلا يصام لأجل الكواكب والشمس والقمر، ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/ 381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى (5/ 227 - 228) من حديث معاذ (6/ 76) من حديث عائشة. وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (2/ 604 - 605) ح 2140 من حديث قيس بن سعد وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (46513) ح 1159 من حديث أبى هريرة وقال: وفي الباب عن معاذ بن جبل وسراقة بن مالك وعائشة وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وطلق بن على وأم سلمة وأنس وابن عمر. انتهي كلامه. وأخرجه ابن ماجه فى السنن كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (1/ 341 - 342) ح 1857 من حديث عائشة، و 1858 من حديث عبد الله بن أبي أوفى. وأخرجه ابن حبان فى صحيحه. انظر موارد الظمآن (ح 1290) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.
وهذا كله تفصيل الشهادتين: اللتين هما أصل الدين "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله".
والإله: من يستحق أن يألهه العباد ويدخل فيه حبه وخوفه.
فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله.
وما كان من أمور الرسالة فهو حق الرسول
(1)
.
ونصوص القرآن والسنة مليئة بتقريرهذا الأمر {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}
(2)
.
فالعبادة والاستعانة لله وحده لا شريك له كما قال {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء الآية: (36)].
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة الآية: (5)].
{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة الآية: (5)].
وقد جمع منهما في مواضع كقوله {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود الآية: (123)].
وقوله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان الآية: (58)].
والدعاء لله وحده سواء كان دعاء عبادة أو دعاء المسألة والاستعانة كما قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [الجن الآيات: (من 18 إلى 20)].
وتوحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته في القرآن كثير جدًا، بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن
(1)
مجموع الفتاوى (1/ 66، 76) بتصرف يسير.
(2)
الآية (42) من سورة الأنفال.
محمدًا رسول الله"
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم "من كان آخر كلامه لا إلى إلا الله دخل الجنة"
(2)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله: "وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: الآية (59)]، فقال في الإيتاء:{مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: الآية (59)].، وقال في التوكل:{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة: الآية (59)]. ولم يقل: ورسوله، لأن الإيتاء هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما حلله، والحرام ما حرّمه، والدين ما شرعه، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر الأية: 7]. وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كافٍ عبده، كما قال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: الآية (173)]، فهو وحده حسبهم كلهم.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: الآية (64)]، أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم. وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين، إذ هو وحده كافٍ نبيه وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول. وهذا في اللغة كقول الشاعر:
(1)
تقدم تخريجه ص 45.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 233).
وأخرجه أبر داود في السنن، كتاب الجنائز، باب في التلقين (3/ 486) ح 3116 وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 351) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار -كما في الفتوحات الربانية (4/ 109 - 110) وذكر له شواهد.
فحسبك والضحاكَ سيف مهند
وتقول العرب: حسبك وزيدًا درهم، أي يكفيك وزيدًا جميعًا درهم. وقال في الخوف والخشية والتقوى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور الآية: 52]، فأثبت الطاعة لله وللرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام:{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ • أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [هود الآيات: 25 - 26]، فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة الآية: 44]، وقال تعالى:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران الآية 175]، وقال الخليل عليه السلام:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام الآية: 81]، قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام الآية: 82].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان الآية: 13]، وقال تعالى:{وَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة الآية: 40]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} البقرة الآية: 41].
ومن هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «مَنْ يطع الله ورسوله فقد رشد، ومَن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا» ، وقال:«لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد» . ففي الطاعة قرن اسم الرسول باسمه بحرف «الواو» ، وفي المشيئة أمر أن يجعل ذلك بحرف «ثم» ، وذلك
لأن طاعة الرسول طاعة لله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة للرسول. بخلاف المشيئة، فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إلا أن يشاء الله".
الشرح
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة الآية: (129)].
وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال الآية: (62)]. إلى قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: الآية (64)].
والمعنى: أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين كما قاله جمهور أهل العلم. ومن قال إن الله ومن اتبعك حسبك فقد غلط، ولم يجعل الله وحده حسبه بل جعله وبعض المخلوقين حسبه، وهذا مخالف لسائر آيات القرآن.
وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: الآية (36)]. فهو وحده كاف عبده.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: الآية (3)].
فلهذا قال تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقل ورسوله ثم قال {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ولم يقل ورسوله بل جعل الرغبة إلى الله وحده كما قال {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: الآيتان (7 - 8)].
فالرغبة تتضمن التوكل وقد أمر أن لا نتوكل إلا عليه كقوله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: الآية (23)]. وقوله {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
] النحل: الآية (99)].
فالتوكل على الله وحده، والرغبة إليه وحده، والرهبة منه وحده.
ليس لمخلوق لا الملائكة ولا الأنبياء في هذا حق كما ليس لهم حق في العبادة ولا يجوز أن نعبد إلا الله وحده ولا نخشى ولا نتقى إلا الله وحده كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: الآية (2)].
فإذا قال القائل لا يجوز التوكل إلا على الله وحده، ولا العبادة إلا لله وحده ولا يتقى ولا يخشى إلا الله وحده لا الملائك ولا الأنبياء ولا غيرهم كان هذا تحقيقا للتوحيد.
ولم يكن، هذا سبًا لهم ولا تنقصًا بهم ولا عيبًا لهم وإن كان فيه بيان نقص درجتهم عن درجة الربوبية فنقص المخلوق عن الخالق من لوازم كل مخلوق. ويمتنع أن يكون المخلوق مثل الخالق.
والملائكة والأنبياء كلهم عباد الله يعبدونه كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: الآية (172)].
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: الآيات (26، 27، 28، 29)].
فإذا نفي عن مخلوق ملك أو نبي أو غيرهما ما كان من خصائص الربوبية وبين أنه عبد الله كان هذا حقا واجب القبول، وكان إثباته إطراء للمخلوق فإن دفعه عن ذلك كان عاصيا بل مشركا.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله ".
فالله تعالى قد وصفه بالعبودية حين أرسله، وحين تحدى، وحين أسرى به فقال تعالى {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: الآية (19)].
وقال تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: الآية (23)].
وقال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: الآية (1)].
وأهل الباطل يقولون لمن وصفهم بالعبودية إنه عابهم وسبهم ونحو ذلك.
ولهذا لما سأل النجاشي جعفر بن أبي طالب رضي لله عنه ما تقول في المسيح عيسى؟ فقال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه رفع النجاشي عودًا وقال: ما زاد المسيح على ما قلت هذا العود فنخرت بطارقته
(1)
. فقال: وإن نخرتم"
(2)
.
فهم يجعلون قول الحق في المخلوق سبًا له، وهم يسبون الله ويصفونه بالنقائص والعيوب كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. أما تكذبه إياي أن يقول: إني لن أعيده كما بدأته، وأما شتمه إياي أن يقول: اتخذ الله ولذا، وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم
(1)
أي تكلمت، وكأنه كلام مع غضب ونفور. النهاية (5/ 32).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 201 - 203)(5/ 290 - 292).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 24 - 27) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 293 - 295).
وهو في سيرة ابن هشام (1/ 289 - 291).
يكن له كفوا أحد "
(1)
.
فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء يسبونه، وقد كان معاذ بن جبل يقول عن النصارى: لا ترحموهم فقد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر. وهذا نظير ما ذكره الله تعالى عن المشركين بقوله {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: الآية (36)].
فكانوا ينكرون على محمد عليه السلام أن يذكر آلهتهم بما تستحقه وهم يكفرون بذكر الرحمن ولا ينكرون ذلك كما قال تعالى {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: الآية (108)].
المتن
قال المصنف رحمه الله: "الأصل الثاني: حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نؤمن به، ونطيعه، ونتبعه، ونرضيه، ونحبه، ونسلم لحكمه، وأمثال ذلك، قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء الآية: 80]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنكَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة الآية: 62]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة الآية: 24]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء الآية: 65]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران الآية: 31]، وأمثال ذلك".
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
…
} الآية (6/ 287) ح 3193 وكذلك في كتاب التفسير، تفسير سورة الإخلاص. انظر فتح الباري (8/ 739) ح 4974، 4975.
الشرح
على المسلم أن يفرق بين ما هو حق لله وحده وبين ما هو حق لرسله.
فالله أمرنا أن نؤمن بالأنبياء وما جاؤا به وفرض علينا طاعة الرسول الذي بعث إلينا ومحبته وتعزيره وتوقيره والتسليم لحكمه.
وأمرنا أيضا أن لا نعبد إلا الله وحده لا نشرك به شيئا ولا نتخذ الملائكة والنبيين أربابًا.
وفرق بين حقه الذي يختص به الذي لا يشركه فيه لا ملك ولا نبي.
وبين الحق الذي أوجبه علينا لملائكته وأنبيائه عمومًا ولمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وخير مرسل الذي جاءه بالوحي خصوصا، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، فاصطفي من الملائكة جبريل لرسالته واصطفي من البشر محمدا صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن هذا القرآن الذي نزل به هذا الرسول إلى هذا الرسول مبلغا له عن الله قال تعالى {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: الآية (97)]، وقال تعالى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: الآيات (192 إلى 195)].
فالله أوجب علينا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا وبالملك الذي جاءه بالقرآن. وأمرنا بالإيمان بالأنبياء كلهم وبجميع ما أوتوا كما قال تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: الآية (136)].
وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: الآية (177)].
وقال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: الآية (285)].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النساء: الآية (136)].
فالأنبياء وسائط بين الله عز وجل وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، وما أخبر به عن نفسه وملائكته وغير ذلك مما كان وسيكون. وسائر الأنبياء علينا أن نؤمن بهم، مجملا وذلك بأن كل ما أخبروا به عن الله فهو حق وأن طاعتهم فرض على من أرسلوا إليهم.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي أرسل إلينا وإلى جميع الخلق وقد ختم الله به الأنبياء وآتاه من الفضائل ما فضله به على غيره وجعله سيد ولد آدم وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة لا يسعها هذا الموضع.
وقد أوجب الله علينا أن نطيعه في كل ما أوجبه وأمر به وأن نصدقه في كل ما أخبر به، كما سبق ذكر ذلك في الباب الأول من هذه الرسالة.
وهو سبحانه مع هذا كله نهانا عن الشرك بهم والغلو فيهم، وميز بين حقه تعالى وحقهم.
فقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران الآيتان (79، 80)]. فهذا بيان أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر مع وجوب الإيمان بهم ما لم يحصل بعبادة الأوثان، فإن الأوثان تستحق الإهانة وأن تكسر كما كسر إبراهيم
الأصنام وكما حرق موسى العجل ونسفه وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكسر الأصنام ويهدم صوتها وقد قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء الآية (98)]. فإهانتها من تمام التوحيد والإيمان.
والملائكة والأنبياء بل الصالحون يستحقون المحبة والموالاة والتكريم والثناء. مع أنه يحرم الغلو فيهم والشرك بهم، فلهذا صار بعض الناس يزيد في التعظيم على ما يستحقونه فيصير شركا، وبعضهم يقصر عما يجب لهم من الحق فيصير فيه نوع من الكفر.
والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهو القيام بما أمر الله به ورسله في هذا وهذا.
فالرسل كلهم نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم يبينون أن العبادة والتقوى حق لله وحده، وحق الرسل طاعتهم.
قال نوح عليه السلام {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح الآيتان (2 - 3)].
وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف الآيات (65 - 73 - 85)].
وقال تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: الآيات (من 105 إلى 108)].
وكذلك قال سائر الرسل هود وصالح وشعيب كل يقول {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: الآيات (126 - 131 - 144 - 163 - 179)].
وكذلك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: الآية (52)].
فجعل الطاعة لله والرسول. وجعل الخشية والتقوى لله وحده.
وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: الآية (9)] ..
فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره، نصره ومنعه.
والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله وحده والعبادة هي لله وحده.
وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل: الآيتان (51، 52)]. فأنكر سبحانه أن يتقى غيره كما أمر أن لا يرهب إلا إياه.
وقال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: الآية (150)].
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: الآية (18)]. فقد أمر الله تعالى في غير موضع بأن يخشى ويخاف ولا يخشى ويخاف غيره. وقال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: الآية (59)].
ففي الإيتاء قال {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر الأية: 7] لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.
فما أعطاه الرسول للناس فهو حقهم بالقول والعمل كالفرائض التي قسمها الله وأعطى كل ذي حق حقه وكذلك من الفيء والصدقات ما أعطى فهو حقه، وما
أباحه له فهو مباح، وما نهاه عنه فهو حرام عليه فلهذا قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة: الآية (59)[ولم يقل هنا ورسوله لأن الله تعالى وحده حسب عبده أي كافيه. لا يحتاج الرب في كفايته إلى أحد لا رسول ولا نبي، ولهذا لا تجئ هذه الكلمة إلا الله وحده كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: الآية (173)].
وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: الآية (129)].
وليس للرسول واسطة في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية، والإغناء ونحو ذلك.
فالله تعالى هو المتفرد بذلك فهو سبحانه الذي يسمع ويرى ويعلم السر والنجوى وهو القادر على إنزال النعم وإزالة الضر من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده أو يعينه على قضاء حوائجهم.
والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها، فهو مسبب الأسباب التي يحصل بها ذلك ولهذا فرض سبحانه على المصلى أن يقول في صلاته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: الآية (5)].
فالله سبحانه أجل وأعظم وأغني وأعلى من أن يفتقر إلى شيء، بل هو الأحد الصمد وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول وعظم أمره قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يارسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له ركاء، يقول يارسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك
شيئا، قد أبلغتك" الحديث
(1)
.
فهؤلاء الذين بلغهم أخبر أنهم إذا استغاثوا به يوم القيامة وسألوه الشفاعة يقول لهم لا أملك لكم من الله شيئا قد أبلغتكم
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب الغلول.
انظر: فتح الباري (6/ 185) ح 3073.
وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب غلظ تحريم الغلول (6/ 10).
(2)
انظر: الرد على البكري (ص 52 - 54) بتصرف.
القدر
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية.
فالمجوسية الذين كذَّبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدتهم أنكروا عموم مشيئة الله وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم".
الشرح
قال ابن تيمية: " الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ": الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي خَلْقِهِ كَمَا جَعَلَ الْأَوَّلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي عِبَادَتِهِ. فَيَقُولُونَ: خَالِقُ الْخَيْرِ، غَيْرُ خَالِقِ الشَّرِّ، وَيَقُولُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مِلَّتِنَا: إنَّ الذُّنُوبَ الْوَاقِعَةَ لَيْسَتْ وَاقِعَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُبَّمَا قَالُوا: وَلَا يَعْلَمُهَا أَيْضًا وَيَقُولُونَ: إنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ وَاقِعٌ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَلَا صُنْعِهِ فَيَجْحَدُونَ مَشِيئَتَهُ النَّافِذَةَ وَقُدْرَتَهُ الشَّامِلَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ سَلْبَ الصِّفَاتِ، وَيُسَمُّونَهُ التَّوْحِيدَ كَمَا يُسَمِّي الْأَوَّلُونَ التلحيد التَّوْحِيدَ فَيُلْحِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا حَالًا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ. كَمَا وَقَعَ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَالشِّيعَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَابْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ
الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَقَدْ يُبْتَلَى بِهِ حَالًا لَا اعْتِقَادًا بَعْضُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. وَلِمَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ التَّنَافِي تَجِدُ الْمُعْتَزِلَةَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الصُّوفِيَّةِ وَيَمِيلُونَ إلَى الْيَهُودِ وَيَنْفِرُونَ عَنْ النَّصَارَى وَيَجْعَلُونَ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ هُوَ قَوْلُ النَّصَارَى بِالْأَقَانِيمِ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَذُمُّونَ النَّصَارَى أَكْثَرَ كَمَا يَفْعَلُ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ يَمِيلُونَ إلَى النَّصَارَى أَكْثَرَ. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا كَانَ الْأَوَّلُونَ فِي الْأَصْوَاتِ وَالْعَمَلِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا اقْتَسَمَ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ وَالْيَهُودُ غَالِبُهُمْ قَدَرِيَّةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرِيعَةٍ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ. وَلِهَذَا تَجِدُ أَرْبَابَ الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ يُوجِبُونَ طَرِيقَتَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ مَا سِوَاهَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ لَاحِقَةٌ مَنْ خَالَفَهَا حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ: بِتَخْلِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ مِنْ فِرَقِ الْأُمَّةِ وَهَذَا التَّشْدِيدُ وَالْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ شِبْهُ دِينِ الْيَهُودِ. وَتَجِدُ أَرْبَابَ الصَّوْتِ وَالْعَمَلِ الْمُبْتَدَعِ لَا يُوجِبُونَ وَلَا يُحَرِّمُونَ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ فَيُعَظِّمُونَ طَرِيقَهُمْ وَيُفَضِّلُونَهُ وَيُرَغِّبُونَ فِيهِ حَتَّى يَرْفَعُوهُ فَوْقَ قَدْرِهِ بِدَرَجَاتِ. فَطَرِيقُهُمْ رَغْبَةٌ بِلَا رَهْبَةٍ إلَّا قَلِيلًا كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ رَهْبَةٌ فِي الْغَالِبِ بِرَغْبَةِ يَسِيرَةٍ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنْ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا مَعَ انْحِلَالِهِمْ مِنْ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَكِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتِ كَثِيرَةٍ وَيَبْقَوْنَ أَزْمَانًا كَثِيرَةً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَالْفَلَاسِفَةُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا الطَّرِيقُ كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ"
(1)
.
فنفاة القدر أرادوا منازعة الله في الربوبية فضاهوا بذلك المجوسية الأولى وهم
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 258 - 259.
الزنادقة.
(1)
وأول من عرف بنفي القدر، رجل مجوسي يقال سيسويه من الأساورة، وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به معبد الجهني.
(2)
وشرك القدرية القائلين بأنَّ الحيوان هو الذي يَخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ولهذا كانوا من أشباه المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشَّرِّ إلى الظلمة، فالنور عندهم خَلَقَ الخَيْرَ، والظلمة خلقتِ الشَّرَّ، فصاروا بذلك ثَنَوِيَّةً، وهؤلاء القدرية جعلوا خالقًا مع الله، فزعموا أن العبادَ يَخْلُقُونَ أَفْعَالهم بدون إرادةِ الله ومشيئته.
وأصل بدعة القدرية كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع؛ وكانوا قد آمنوا بدين الله وآمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصي، لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه، وظنوا أيضاً أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يفسد.
فالقدرية يقولون: إن الله سبحانه وتعالى ليس له قدرة ولا تصرُّف في فعل العبد وإنما العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، وليس لله تعالى قدرة أو تصرُّف في فعل العبد.
القدرية الذين ينكرون قدرة الله عز وجل في فعل العبد، تراهم يَحتج بنصوص الأوامر، ويقولون: كيف يأمر الله عز وجل بأمر، ويكون مع ذلك هو الذي يَخلق هذا الأمر أو يُقَدِّره على عبده؟! فلا بد أن العبد هو الذي يَخلق فعله.
وهكذا نجد أن بعضًا من أهل الباطل يأتون إلى النصوص فيَبترونها من سياقها،
(1)
ذم الكلام ص 305.
(2)
تهذيب التهذيب 10/ 225.
ويحتجُّون بشيء من الآيات ويتركون البعض الآخر، بينما لو جاء هؤلاء إلى بعض النصوص ونظروا فيها نظرةً شاملةً لوجدوا أنها وازنت بين الأمرين؛ كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير الآيات: 29: 28]، فإذًا الله عز وجل لا شك أنه كلَّف العباد وأمرهم، ومعلوم أن هذا الأمر فيه قدرة واختيار للعبد.
وكذلك هذه القدرة لا تَخرج عن قدرة الله عز وجل وإرادته؛ ويُفهم من هذا أن الإرادة نوعان: إرادة كونية قَدَرِيَّة، وإرادة دينية شرعية؛ فالإرادة الكونية القدرية هي التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في مثل قوله:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام الآية: 125]، وأمثاله، فهذا في الإرادة الكونية القدرية، بمعنى: أنه لا يكون في مُلك الله عز وجل ما لا يَشاء وما لا يريد.
ومن مشيئته سبحانه وتعالى: أن جعل للعبد قدرة واختيارًا.
فإذًا هناك ما يتعلق بخلق الله عز وجل وقَدَره الكوني، وهناك ما يتعلق بأمر الله-عز وجل-ومشيئته وإرادته الدينية الشرعية، فالله-سبحانه وتعالى-أمر بتلك الأوامر الشرعية، ولذلك يقول الله عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة الآية: 185].
فهذه إرادة لكنَّها إرادة شرعية؛ لأن أوامر الشرع مَبنية على التيسير.
وكمقارنة بين ما عليه هؤلاء القدرية الذين هم المعتزلة-فقد تلقَّف المعتزلة مقالة القدرية حتى بعد ذلك أصبح إذا قيل: القدرية، فإن الذي يعنى بذلك هم المعتزلة في ذلك الحين-وبين ما عليه هؤلاء الصوفية الجبرية الذين تقدم ذكرهم في الصنف الأول، فإن المقارنة تكون في ناحيتين:
1 ـ من ناحية الحقيقة الكونية القدرية.
2 ـ ومن ناحية الحقيقة الدينية الشرعية.
مع الأخذ في الاعتبار أنَّ المعتزلة عَظَّموا الأمر والنهي، لكن المتصوفة لم يُعَظِّموه.
ففي الجانب الكوني القَدَري:
فالقدرية الذين هم المعتزلة: لم يعظموا الجانب الكوني القدري؛ لأنهم أنكروا قدرة الله في فعل العبد.
وهؤلاء الصوفية الجبرية: وافقوا المعتزلة في هذا الجانب، وبالتالي ضاق نطاقهم عن كون العبد يُؤمر بما يُقَدَّر عليه خلافه، فهم لم يَفهموا هذه المسألة وهي: كيف أن العبد يؤمر ثم لا يفعل؛ فكيف يُقَدَّر عليه خلاف هذا الأمر؟
فلم يُفَرِّقوا بين ما أراده الله كونًا وما أراده دينًا وشرعًا؛ فقد يأمر الله عز وجل بأمر دينًا وشرعًا، ولكن يُقَدِّر على العبد خلافه، فالله أمر العبد أن يصلي، ولكن العبد قد يَعصي ويترك الصلاة، فهؤلاء ضاقت عقولهم عن التفريق بين ما أراده كونًا وما أحبَّه شرعًا، فليس كلُّ ما أراده أحبَّه، وليس كل ما أحبَّه أراده، فيجب التفريق بين البابين.
فهؤلاء لم يستوعبوا هذه المسألة، كما ضاق في المقابل على المعتزلة ونحوهم من القدرية فَهم ذلك؛ فلم يستوعبوا هذا الأمر في الفرق بين ما أحبَّه وبَيْن ما أراده.
وأمَّا في الجانب الديني الشرعي:
فالمعتزلة: أثبتت الأمر والنهي الشَّرعيين؛ فَعُرف عنهم إثبات الأمر والنهي الشرعيين؛ فعَظَّموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم في باب الإيمان ليسوا بمرجئة؛ فظهر منهم تعظيم الأمر والنهي، وإن كانوا قد أخطأوا من وجه آخر، ففي القضاء والقدر هم قَدَرية، إذ أنكروا قدرة الله في فعل العبد، لكنهم عظموا الأمر والنهي الشرعيين، فقالوا: الإيمان: قول واعتقاد وعمل.
وهؤلاء المتصوفة: أثبتوا القضاء والقدر، ولكن نفوا الأمر والنهي في حقِّ مَنْ
شَهِد القَدَر.
فعندهم إذا وصل الواحد منهم إلى مرحلة الشهود، فعند ذلك لا أمر ولا نهي عليه.
ولمَّا لم يُمكنهم نفي ذلك مطلقًا، أبقوه للعوام كأمر ونهي، وأسقطوه عن الخواص.
فإذن: قول هؤلاء شر من قول المعتزلة، لأن إسقاط الأوامر والنواهي إسقاط للدِّين، وإذا أسقطت شعائر الدين الظاهرة .. ماذا يبقى من حال الأمة؟!
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والفرقة الثانية: المشركية، الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام الآية: 148]، فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدّعي الحقيقة من المتصوفة".
الشرح
قال ابن تيمية: "فَأَمَّا " القَدَرِيَّةٌ المشركية ": فَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُوَافِقُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَقَالُوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الآنعام الآية: 148]، إلَى آخِرِ الْكَلَامِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل الآية: 35]، فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف الآية: 20].
فَهَؤُلَاءِ يَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى تَعْطِيلِ الشَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا رَبِّي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، وَهُوَ الَّذِي يَبْتَلِي بِهِ كَثِيرًا -
إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا حَالًا - طَوَائِفُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ إلَى الْإِبَاحَةِ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ وَرَفْعِ الْعُقُوبَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَسْتَتِبُّ لَهُمْ وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ مُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ كَفِعْلِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ إذَا خُولِفَ هَوَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَامَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ مُتَعَدِّيًا لِلْحُدُودِ غَيْرَ وَاقِفٍ عِنْدَ حَدٍّ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ أَيْضًا. إذْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَتَنَاقَضُ عِنْدَ تَعَارُضِ إرَادَاتِ الْبَشَرِ. فَهَذَا يُرِيدُ أَمْرًا وَالْآخَرُ يُرِيدُ ضِدَّهُ، وَكُلٌّ مِنْ الْإِرَادَتَيْنِ مُقَدَّرَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا أَوْ غَيْرِهِمَا أَوْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ وَإِلَّا لَزِمَ الْفَسَادُ.
وَقَدْ يَغْلُو أَصْحَابُ هَذَا الطَّرِيقِ حَتَّى يَجْعَلُوا عَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ هِيَ اللَّهُ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَيَتَمَسَّكُونَ بِمُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ فِي السَّيِّئَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى، وَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لَمَّا دَعَاهُ مكاس فَقِيلَ لَهُ هُوَ مكاس فَقَالَ: إنْ كَانَ قَدْ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ وَقَوْلُ ابْنِ إسْرَائِيلَ:
أَصْبَحْت مُنْفَعِلًا لِمَا يَخْتَارُهُ
…
مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ
وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ الْكَائِنَةُ أَوْ الْحَقِيقَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَلَمَّا كَانَ فِي هَؤُلَاءِ شَوْبٌ مِنْ النَّصَارَى وَالنَّصَارَى فِيهِمْ شَوْبٌ مِنْ الشِّرْكِ تَابَعُوا الْمُشْرِكِينَ فِي مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالْقَدَرِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ.
هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ الَّذِي قَدَّرَ الْكَائِنَاتِ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ شَوْبٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا اتَّسَعَ زَنَادِقَتُهُمْ الَّذِينَ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ إذْ لَا مَوْجُودَ غَيْرَهُ.
وَقَالَ رَئِيسٌ لَهُمْ إنَّمَا كَفَرَ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ خَصَّصُوا، فَيُشَرِّعُونَ عِبَادَةَ كُلِّ مَوْجُودٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَيُقَرِّرُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَحْجَارِ؛ لَكِنَّهُمْ يستقصرونهم حَيْثُ خَصَّصُوا الْعِبَادَةَ بِبَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا
حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَفَنِّنُونَ فِي الْآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الشِّرْكِ؛ هَذَا يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَهَذَا يَعْبُدُ اللَّاتَ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْعُزَّى وَهَذَا يَعْبُدُ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَعْبُدُ مَا يَسْتَحْسِنُ، وَكَذَلِكَ فِي عِبَادَةِ قُبُورِ الْبَشَرِ كُلٌّ يُعَلِّقُ عَلَى تِمْثَالِ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ"
(1)
وقد فصَّل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» باستفاضة أوجه الشبه بين المشركين والفِرق الضالة المنحرفة عن منهج الكتاب والسنة، وهنا يُشَبِّه أعمال المتصوفة المبتدعة بأعمال المشركين.
فهذه الطائفة تشبَّهت بالمشركين في خصلتين:
الخصلة الأولى: الابتداع.
والخصلة الثانية: الاحتجاج بالقدر.
فأمَّا الخصلة الأولى: الابتداع؛ ومعناه: الإحداث، فكان المشركون إذا فعلوا فاحشة {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف الآية: 28]؛ فنسبوها إلى الله سبحانه وتعالى، فردَّ الله عز وجل عليهم؛ فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف الآية: 28]، ولهذا فمن وقع في البدع فقد شابه المشركين؛ لأنهم أول من ابتدعوا.
وهذا الخطاب يَصلح أن يُوَجَّه للمتصوفة، فإذا فعل المتصوف فاحشة وشرب خمرًا وادعى أنه من أهل الحقيقة؛ قيل له:{إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف الآية: 28].
فهذا الجواب الذي بَكَّت اللهُ به أهلَ الشِّرك يَصلح أن يكون جوابًا لأهل التصوف، فهذا الربط العجيب يبين لك أنَّ أصل ما عند هؤلاء هو
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 256 - 257.
أصل ما عند هؤلاء؛ لأنها بضاعة شيطانية، والشيطان يأمر بالفحشاء، والله سبحانه لا يأمر بالفحشاء، والشيطان تَقَوَّل على الله، ولذلك حَرَّم الله سبحانه وتعالى التَّقَوُّل عليه.
وكذلك ابتدعوا في الشرع تحليل الحرام وتحريم الحلال، وعبادة الله بما لم يشرع، كما ذكر الله عنهم؛ فقد كانوا يجعلون قسمًا مِنْ زروعهم وحُرُوثهم لله، وقسمًا لأصنامهم لا يأكلونه ويقولون: هذا لله، يتعبدون لله؛ فابتدعوا ما لم يَشرع لهم؛ قال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 139]؛ فيجعلون من الزروع والمواشي قسمين: قسمًا لله، وقسمًا للأصنام، كل هذا تحكُّم من عندهم، والأنعام التي يملكونها جعلوا منها البَحيرة والوَصِيلة والحامي، أشياء لم يشرعها الله له سبحانه وتعالى.
وهذا منهم زعم! ولو ترك لكل واحد أن يزعم ما يشاء لصار الدين ألعوبة في أيدي الناس.
فالله خلق بهيمة الأنعام لمصالحنا ومنافعنا؛ نأكل منها ونشرب من لبنها ونركبها ونستعملها في حاجاتنا ونحمل عليها، ولم يأمرنا أن نسيب منها شيئًا للأصنام أو لله، ونقول: هذه لا تركب، وهذه لا تحلب وهذه لا تؤكل، كل هذ تخبُّط في الحلال والحرام لم يَشرعه الله
(1)
.
والخصلة الثانية: الاحتجاج بالقدر.
فالمشركون كذبوا على الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عنهم:{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف الآية: 28]، أي: أن الله قدَّرها علينا فاحتجوا بالقدر على فعل الفواحش، وأن الله راض عنهم في ذلك، فرد الله عليهم بقوله:{قل إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف الآية: 28]، والله سبحانه وتعالى نهى عن كشف العورات، وسمى ذلك فاحشة،
(1)
انظر: «شرح العبودية» للفوزان (ص 76، 77).
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف الآية: 29].
أي: أخلصوا الله عز وجل؛ فإقامة الوجوه معناها: الإخلاص لله عز وجل بالعمل، فالله أمر بالقسط، وهو العدل، ولم يأمر بالجور وهو الظلم، وأمر بإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى، ولم يأمر بالشرك والفواحش.
وكذلك في قوله سبحانه عن المشركين: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حَرَّمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} [الأنعام الآية: 148]، فردَّ عليهم بهذا السؤال:{قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام الآية: 148]؛ فالذي يَدَّعي هذه الدعوة بمجرد أن يُسأل هذا السؤال سيفر؛ لأن ادَّعاءه أنه من أهل الحقيقة وتخصيصه بترك التكاليف- ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة .. فهي دعوى زائفة وباطلة.
وانظر هذا السَّرد كيف يوضح هذه العلاقة؟ فهذه الأصناف من المتصوفة فيها شَبَه من المشركين، وكذلك أهل الكلام فيهم شَبَه بالمشركين من هذا الوجه؛ لأن الجهميَّة- أيضًا- جبرية يحتجون بالقَدَر على كفرهم ومعاصيهم، وقد قال الله عن المشركين:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل الآية: 35]
(1)
.
فكل مخالفة لأوامر الله عز وجل واحتجاج بالقدر- قد أنكره الله على المشركين، وإذا كان هذا مردودًا على المشركين؛ فكيف يصبح جائزًا لهؤلاء المتصوفة؟!
فقول المصنف هنا ربط للمقولة المتأخرة بالمقولة المتقدمة، والمقولة المتقدمة
(1)
انظر: «شرح العبودية» للفوزان (ص 76، 77).
للمشركين والمقولة المتأخرة للمتصوفة؛ فالمشركين الذين كذَّبوا الرسول صلى الله عليه وسلم يَترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله.
فهنا نَبَّه المصنف على مسألة في غاية الأهمية، وهي أن المقولات قد تكون واحدة؛ ولكن تطبيقاتها تتعدد، فكل قول لأهل الباطل فهو مفند في نص كتاب الله عز وجل ونص كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ كلَّ ما يَدَّعيه أهل الباطل قديمًا وحديثًا فهو مردود عليه في نصوص الكتاب والسنة.
فعلى العاقل المُتبصر أن يعرف أن مَعين هؤلاء ومعين هؤلاء واحد، ومصدرهم واحد، والرد على هؤلاء من جنس الرد على هؤلاء، وفي كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يُغنينا، فهؤلاء قد يسمون ما يُحدثوه من البدع حقيقة، كما يسمون ما يشهدون من القَدَر حقيقة، وفي حقيقته إنما هو من جنس ما عند أهل الباطل من أهل الشرك، فالبضاعة واحدة والمصدر واحد، والله لم يُقر المشركين على باطلهم، فكيف يقر هؤلاء؟!
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذَّنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل وسائر العقلاء؛ فإنَّ هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النُّفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر"
(1)
قال ابن تيمية: "وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا): أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَرَى الْقَدَر حُجَّةً لِلْعَبْدِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً لِلْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِلْعَبْدِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْقَدَرِ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُنْكِرَ عَلَى مَنْ يَظْلِمُهُ وَيَشْتُمُهُ وَيَأْخُذُ مَالَهُ وَيُفْسِدُ حَرِيمَهُ
(1)
مجموع الفتاوى: 8/ 179 ..
وَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ كَذَّابُونَ مُتَنَاقِضُونَ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَزَالُ يَذُمُّ هَذَا وَيُبْغِضُ هَذَا وَيُخَالِفُ هَذَا حَتَّى إنَّ الَّذِي يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ يُبْغِضُونَهُ وَيُعَادُونَهُ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِمَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرَكَ الْوَاجِبَاتِ لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَذُمُّوا أَحَدًا وَلَا يُبْغِضُوا أَحَدًا وَلَا يَقُولُوا فِي أَحَدٍ: إنَّهُ ظَالِمٌ وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَحَدًا فِعْلُهُ وَلَوْ فَعَلَ النَّاسُ هَذَا لَهَلَكَ الْعَالَمُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمْ فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا أَنَّهُ كُفْرٌ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّهُمْ كَذَّابُونَ مُفْتَرُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَدَرَ حُجَّةٌ لِلْعَبْدِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي): إنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَكُلُّ مَنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِ مَعْذُورًا وَهَذَا مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْمِلَلِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ): أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَلَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَلَا أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَمِيعَهُمْ سَبَقَتْ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ السَّوَابِقُ وَكَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَهُمْ مَعَ هَذَا قَدْ انْقَسَمُوا إلَى سَعِيدٍ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى شَقِيٍّ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ لَيْسَ بِحُجَّةِ لِأَحَدِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ.
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ): أَنَّ الْقَدَرَ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَحْتَجُّ بِهِ فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِالْقَدَرِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ مَقْبُولًا لَقُبِلَ مِنْ إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُصَاةِ وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِلْعِبَادِ لَمْ يُعَذَّبْ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ لَا فِي الدُّنْيَا
وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ وَلَا قُتِلَ قَاتِلٌ وَلَا أُقِيمَ حَدٌّ عَلَى ذِي جَرِيمَةٍ وَلَا جُوهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا أُمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نُهِيَ عَنْ الْمُنْكَرِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ): أَنَّ النَّبِيَّ سُئِلَ عَنْ هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ، وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ بِهِ الصُّحُفُ؟ أَمْ فِيمَا يَسْتَأْنِفُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ؟ - أَوْ كَمَا قِيلَ - فَقَالَ: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ بِهِ الصُّحُفُ فَقِيلَ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} .
(الْوَجْهُ السَّادِسُ): أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَلِمَ الْأُمُورَ وَكَتَبَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَتَبَ أَنَّ فُلَانًا يُؤْمِنُ وَيَعْمَلُ صَالِحًا فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَفُلَانًا يَعْصِي وَيَفْسُقُ فَيَدْخُلُ النَّارَ؛ كَمَا عَلِمَ وَكَتَبَ أَنَّ فُلَانًا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَيَطَؤُهَا فَيَأْتِيهِ وَلَدٌ وَأَنَّ فُلَانًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَشْبَعُ، وَيُرْوَى وَأَنَّ فُلَانًا يَبْذُرُ الْبَذْرَ فَيَنْبُتُ الزَّرْعُ. فَمَنْ قَالَ: إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَنَا أَدْخُلُهَا بِلَا عَمَلٍ صَالِحٍ كَانَ قَوْلُهُ قَوْلًا بَاطِلًا مُتَنَاقِضًا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فَلَوْ دَخَلَهَا بِلَا عَمَلٍ كَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ. وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا لَا أَطَأُ امْرَأَةً فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى اللَّهُ لِي بِوَلَدِ فَهُوَ يُولَدُ فَهَذَا جَاهِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْوَلَدِ قَضَى أَنَّ أَبَاهُ يَطَأُ امْرَأَةً فَتَحْبَلُ فَتَلِدُ، وَأَمَّا الْوَلَدُ بِلَا حَبَلٍ وَلَا وَطْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْهُ وَلَمْ يَكْتُبْهُ كَذَلِكَ الْجَنَّةُ إنَّمَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا إيمَانٍ كَانَ ظَنُّهُ بَاطِلًا وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَهَا أَوْ لَا يَعْمَلَهَا كَانَ كَافِرًا وَاَللَّهُ قَدْ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ
فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ النَّارَ. "
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والفرقة الثالثة: الإبليسية، وهم الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا تناقضًا من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، كما يُذكر مثل ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب.
والمقصود: أن هذا مما يقوله أهل الضلال".
الشرح
هذا الفرقة من المخالفين في باب القدر أقروا بالأمر والنهي وبالقضاء النافذ والقدر السابق ولكن جعلوا الجمع بين هذا وذاك تناقضا من الرب-تعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا-فطعنوا في حكمة الرب عز وجل وعدله.
قال ابن تيمية: "الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية الَّذِينَ صَدَّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ صَدَرَ عَنْهُ الْأَمْرَانِ. لَكِنَّ عِنْدَهُمْ هَذَا تَنَاقُضٌ وَهُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
وَهَؤُلَاءِ كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مِنْ سُفَهَاءِ الشُّعَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ كَقَوْلِ أَبِي الْعَلَاءِ المعري:
صرف الزمان مفرق الإلفين
…
فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
أنهيت عن قتل النفوس تعمدا
…
وبعثت أنت لقبضها ملكين
وزعمت أن لها معادا ثانيا
…
ما كان أغناها عن الحالين
وقول بَعْضِ السُّفَهَاءِ الزَّنَادِقَةِ:
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 262 - 265.
يَخْلُقُ نُجُومًا وَيَخْلُقُ بَيْنَهَا أَقْمَارًا
…
يَقُولُ يَا قَوْمُ غُضُّوا عَنْهُمْ الْأَبْصَارَ.
تَرْمِي النسوان وَتَزْعَقُ مَعْشَرَ الْحُضَّارَ
…
اُطْفُوا الْحَرِيقَ وَبِيَدِك قَدْ رَمَيْت النَّارَ.
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ كُفْرَ صَاحِبِهِ وَقَتْلِهِ"
(1)
.
وقول المصنف: "كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب".
يشير إلى ما حكاه أرباب المقالات كالشهرستاني فقد ذكر في كتابه (الملل والنحل (ما نصه: "المقدمة الثالثة:
في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، ومن مصدرها في الأول ومن مظهرها في الآخر:
اعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة: شبهة إبليس لعنه الله، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم عليه السلام وهي الطين.
وانشعبت من هذه الشبهة سبع شبهات، وسارت في الخليقة، وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلالة، وتلك الشبهات مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة: إنجيل لوقا، ومارقوس، ويوحنا، ومتى، ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرات بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود، والامتناع منه.
قال كما نقل عنه؛ إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق، عالم قادر، ولا يسأل عن قدرته ومشيئته، وأنه مهما أراد شيئا قال له كن فيكون، وهو حكيم، إلا أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة، قالت الملائكة: ما هي؟ وكم هي؟ قال لعنه الله: سبعة.
الأول منها: أنه قد علم قبل خلقي أي شيء يصدر عني ويحصل مني، فلم
(1)
مجموع الفتاوى: 8/ 260.
خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟
والثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته؛ فلم كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة، ولا يتضرر بمعصية؟
والثالث: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي إياه؟
والرابع: إذ خلقني وكلفني على الإطلاق، وكلفني بهذا التكليف على الخصوص، فإذا لم أسجد لآدم، فلم لعنني وأخرجني من الجنة؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحا إلا قولي: لا أسجد إلا لك؟
والخامس: إذ خلقني وكلفني مطلقا، وخصوصا؛ فلم أطع فلعنني وطردني، فلم طرقني
(1)
إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيا وغررته بوسوستي، فأكل من الشجرة المنهي عنها، وأخرجه من الجنة معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة لاستراح مني آدم، وبقي خالدا فيها؟
والسادس: إذ خلقني وكلفني عموما، وخصوصا، ولعنني، ثم طرقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين آدم؛ فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني، وتؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر في حولهم وقوتهم، وقدرتهم واستطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يحتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين، كان أحرى بهم، وأليق بالحكمة؟
والسابع: سلمت هذا كله: خلقني وكلفني مطلقا ومقيدا، وإذ لم أطع لعنني وطردني وإذ أردت دخول الجنة مكنني وطرقني، وإذ عملت عملي أخرجني ثم
(1)
طرقني: جعل لي طريقًا.
سلطني على بني آدم، فلم إذ استمهلته أمهلني، فقلت:{أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} . وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح آدم والخلق مني وما بقي شر ما في العالم؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟!
قال: فهذه حجتي على ما ادعيته في كل مسألة.
قال شارح الإنجيل: فأوحى الله تعالى إلى الملائكة عليهم السلام، قولوا له: إنك في تسليمك الأول أني إلهك وإله الخلق غير صادق ولا مخلص، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي بلم، فأنا الله الذي لا إله إلا أنا، لا أسأل عما أفعل، والخلق مسئولون. وهذا الذي ذكرته مذكور في التوراة، ومسطور في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته"
(1)
.
وقد تكلم شيخ الإسلام على هذه القصة ونقدها فقال: "وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَقَالَاتِ كالشَّهْرَستَانِي أَنَّهُ نَاظَرَ الْمَلَائِكَةَ فِي ذَلِكَ مُعَارِضًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ بَيْنَ إبْلِيسَ وَالْمَلَائِكَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي أَوَّلِ الْمَقَالَاتِ وَنَقَلَهَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَوْ وَجَدْنَاهَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ أَنْ نُصَدِّقَهَا لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُونَهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُونَهُ} .
وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ إمَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَّا مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
والشَّهْرَستَانِي نَقَلَهَا مِنْ كُتُبِ الْمَقَالَاتِ وَالْمُصَنِّفُونَ فِي الْمَقَالَاتِ يَنْقُلُونَ كَثِيرًا مِنْ الْمَقَالَاتِ مِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَا نَقَلَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ مَا
(1)
الملل والنحل 1/ 14 - 16.
نَقَلَهُ فِي الْمَقَالَاتِ مِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ وَأَوَّلِهَا تَصْنِيفًا فِي هَذَا الْبَابِ وَلِهَذَا تُوجَدُ الْمَقَالَاتُ مَنْقُولَةً بِعِبَارَاتِهِمْ فَوَضَعُوا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ عَلَى لِسَانِ إبْلِيسَ كَمَا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهُمْ يَضَعُ كِتَابًا أَوْ قَصِيدَةً عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْيَهُودِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ يَقُولُونَ إنَّ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ؛ كَمَا وَضَعُوا فِي مَثَالِبِ ابْنِ كُلَّابٍ أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ وَعِنْدَهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ فَقَدْ أَشْبَهَ النَّصَارَى وَتُتَلَقَّى أَمْثَالُ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ بِالْقَبُولِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ أَمْرِهَا"
(1)
والله سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه وله فيما خلقه حكمة بالغة ونعمة سابغة ورحمة عامة وخاصة وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا لمجرد قدرته وقهره بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته فإنه سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما أهل الهدى والفلاح فيؤمنون بهذا وهذا، فيؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين.
ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته، ومشيئته، ووحدانيته، وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه ما هو من أصول الإيمان".
الشرح
يؤمن أهل السنة بأن ما في هذا الكون مسخرٌ ومخلوقٌ من الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل كما
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 114 - 115.
قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، ويؤمنون بأن
الإيمان بالقدر ركنٌ من أركان الإيمان، والقدر له أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم.
والمرتبة الثانية: الكتابة.
والمرتبة الثالثة: المشيئة.
والمرتبة الرابعة: الخلق.
ف
المرتبة الأولى: مرتبة العلم.
فيجب أن تعلم وتوقن بأن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء قبل خلقها، وعلم ما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيءٍ علما، ولذلك لما ذكر الله تعالى الخلق استدل به على العلم والقدرة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق الآية: 12]، ثم قال بعدها:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق الآية: 12].
فتأمل السياق في الحديث عن الخلق، الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن هذا حديث عن الخلق، لكنه دلالة على أمرين هم؟ لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، فالخلق دليل على القدر، فكيف يخلق من لا يقدر، فهل الذي لا يقدر يستطيع أن يخلق؟ فبما أنه هو الخالق فهو قادر، وكيف يخلق ما لا يعلم؟ فبالتالي استشهد بخلقه على قدرته وعلى علمه، لذلك قال:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق الآية: 12]،.
فالله سبحانه وتعالى علم الأشياء قبل خلقها، وهو سبحانه وتعالى يعلم ما سيكون، بل ما لم يكن لو كان كيف يكون، فالله سبحانه وتعالى عندما ذكر أصحاب النار قال عنهم:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام الآية: 28]، فلو أُخرج أهل النار من النار وعادوا إلى الدنيا لعادوا
إلى كفرهم.
فِإذاً يعلم مالم يكن لو كان كيف يكون، فعلمه سبحانه وتعالى محيطٌ بكل شيء، وكان أول من أنكره القدرية فأنكروا علم الله السابق، فزعم القدرية الأوائل أن الله سبحانه وتعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، فهذا أول حال القدرية، ثم إن القدرية بعد ذلك تراجعوا عن إنكار العلم السابق وأثبتوا العلم السابق، ولكن أنكروا قدرة الله في فعل العبد، فالله سبحانه وتعالى علم الأشياء قبل كونها.
وأما
المرتبة الثانية: فهي أن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
فعندما خلق الله القلم قال له أكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء، فأمره بكتابة كل شيء، كما ورد في حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب ماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة
…
" الحديث"
(1)
.
و
المرتبة الثالثة: المشيئة فالله سبحانه وتعالى كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
[التكوير الآية: 29]، فمشيئة الله عز وجل نافذة وتامة وواقعة ولا يقع في هذا الكون ما لا يشاء سبحانه وتعالى،
و
المرتبة الرابعة: الخلق كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
[الزمر الآية: 62]، وكما قال تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات الآية: 96]، فهو سبحانه وتعالى خالق الأشياء.
فإذاً لابد أن نؤمن بأن من مراتب القدر العلم السابق، وأن الله سبحانه وتعالى أحاط بكل شيءٍ علما، فلابد من الايقان بذلك واعتقاد ذلك، وأن الذي قال إن الله لا يعلم فقد كفر بالله العظيم.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 317). وأبو داود في سننه (5/ 76، رقم 4700). الترمذي في سننه (5/ 424، رقم 3319).
وأما أنواع التقدير:
فقد ذكر ابنُ القيِّم أقسامَ التَّقدير الخمسة، وأَوْضَحَها بأدلَّتِها، وهي باختصار:
التقدير الأول: تقدير المَقادير قبل خَلق السَّماوات والأرض، وهو التقدير العام الشَّامل لكل شيءٍ في اللوح المحفوظ، وقد سبق ذِكر بعض الأدلة عليه.
التقدير الثاني: تقدير الرَّبِّ-تبارك وتعالى-شقاوة العِباد وسَعادتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم قبل خَلْقِهم، وهو تقديرٌ ثَان بعد التقدير الأَوَّل، فعن عِمران بن حُصين قال:«قيل: يا رسول الله، عُلِمَ أهلُ الجَنَّة من أهل النَّار؟ فقال: «نَعَمْ» . قيل: فَفِيم يعملُ العاملون؟ قال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له»
(1)
.
التقدير الثالث: المُتَعَلِّق بالجنين وهو في بطن أُمِّه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حَدَّثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو الصَّادقُ المَصدوقُ: «إنَّ أحدَكم ليُجمع خَلْقُه في بَطن أُمِّه أربعين يومًا، ثُمَّ يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثُمَّ يكون في ذلك مُضغةً مثل ذلك، ثُمَّ يُرسل اللهُ إليه المَلك؛ فيَنفخ فيه الرُّوح، ويُؤمر بأربع كلماتٍ؛ بكتبِ رزقِه وأجلِه وعملِه وشقي أو سعيد، فوالذي لا إلهَ غيرُه، إنَّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتَّى ما يكون بينه وبينها إلَّا ذراع فيَسبق عليه الكتابُ فيَعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنَّ أحدَكم لَيعمل بعمل أهلِ النَّار حتى ما يكون بينه وبينها إلَّا ذِرَاع فيَسبق عليه الكتابُ فيَعمل بعمل أهلِ الجَنَّة فيَدخلها»
(2)
.
التقدير الرابع: التقدير في ليلة القَدْر؛ قال الله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا
(1)
أخرجه البخاري (7551) ومسلم (2649) واللفظ له.
(2)
أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643).
مُرْسِلِينَ} [الدخان الآيات: 1 - 5].
قال أبو عبد الرَّحمن السُّلَمِيُّ: «يُقَدِّر أمرَ السَّنَة كلها في ليلة القَدْر» ، وهذا هو الصَّحيح: أنَّ القَدْر مَصدر قَدَرَ الشيء يَقْدُرُهُ قَدْرًا، فهي ليلة الحُكم والتقدير.
التقدير الخامس: التقدير اليَومي؛ قال تَعَالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن الآية: 29].
قال مجاهدٌ والكلبيُّ وعُبيد بن عمير وأبو ميسرة وعطاء ومقاتل: «مِنْ شأنِه: أن يُحيي ويُميت، ويَرزق ويَمنع، ويَنصر، ويُعزُّ ويُذلُّ، ويَفك عانيًا، ويَشفي مريضًا، ويجيب داعيًا، ويُعطي سائلًا، ويَتوب على قومٍ، ويكشف كربًا، ويَغفر ذنبًا، ويضع أقوامًا، ويَرفع آخرين. دخل كلامُ بعضهم في بعض
…
».
(1)
.
قال الإمامُ النَّوويُّ رحمه الله: "واعلم أنَّ مَذهبَ أهلِ الحَقِّ إثباتُ القَدَر، ومعناه: أنَّ الله-تبارك وتعالى-قَدَّر الأشياء في القِدَم، وعَلِمَ-سبحانه-أنَّها ستقع في أوقاتٍ معلومة عنده عز وجل، وعلى صفاتٍ مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قَدَّرها عز وجل، وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه عز وجل لم يُقَدِّرها، ولم يتقدم علمُه عز وجل بها، وأنَّها مُستأنفة العلم، أي: إنَّما يَعلمها-سبحانه-بعد وقوعِها، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى وجَلَّ
(1)
«شفاء العليل» (ص 31 - 49).
عن أقوالهم الباطلة علوًّا كبيرًا"
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومع هذا لا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف الآية: 57]، وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة الآية: 16]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة الآية: 26]، فأخبر أنه يفعل بالأسباب".
الشرح
يناقش المصنف هنا الحلاف في مسألة الأسباب فالناس في هذا الباب طرفان ووسط نعرض أقوالهم هنا على سبيل الإجمال ومن ثم يتم عرض كل قول على سبيل التفصيل.
فالأقوال على سبيل الإجمال ثلاثة:
القول الأول: قول أهل السنة والجماعة.
وهم يثبتون فاعلية لقدرة الإنسان، وأثرًا للأسباب الطبيعية ولكن يشترطون عدم استقلالية الفاعلية والأثر وهذا هو ظاهر القرآن الذي أثبت للإنسان فعلاً، وللماء أثرًا وهكذا
…
والجميع في النهاية يكون بخلق الله، فالخلق يتم في بعض صوره بوسائط هي قوى أودعها الله في مخلوقاته، فهو يخلق الأسباب ببعضها.
ومعنى ذلك أنه لا غنى للأسباب عن المسببات ولا المسببات في غنى عن الأسباب، لكن الأسباب ليست علة تامة تستقل بإحداث المسببات" .. ومعلوم أنه
(1)
شرح مسلم للنووي 1/ 138. ط: دار الكتب العملية.
ليس في المخلوقات شيء وحده علة تامة وسببًا تامًا للحوادث بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا لمشيئة الله خاصة".
القول الثاني: قول بعض الأشاعرة.
من قال: إن الله يفعل عند الأسباب، ولا يفعل بالأسباب.
وهؤلاء قد خالفوا ما جاء به القرآن، وأنكروا ما خلقه الله من القوى والطبائع، وقولهم شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان، التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد.
القول الثالث: قول الفلاسفة.
من جعل الأسباب هي المبدعة لهذا الكون، فمن قال هذا فهو مشرك بالله، وأضاف فعل الله إلى غيره.
أما على سبيل التفصيل:
القول الأول: قول أهل السنة والجماعة
فمذهب سلف الأمة وأئمتها يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل، ولا يقولون القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها تأثيرًا.
يقول ابن تيمية: "والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدورًا، حصل بدون السبب وإلا لم يحصل جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدورًا بدون السبب .. ودلل على ذلك بالأدلة"
وهذا هو الإنصاف الذي جاء به القرآن في نسبة الفعل والإحداث، فهو لم يغلُ في نسبته إلى الطبيعة بإنكار صنع الإله الحق كما أنه لم يقض على ما يشاهده الناس
بعيونهم ويجربونه بأنفسهم بإلغاء أثر القوى الكامنة في الطبيعة فأثبت الجميع وقال للإنسان: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [الإنسان الآية: 30]، أي لا يتحقق لك صنع وعمل باستقلال حتى أشاء أنا (وهو الذي قدر الأشياء وقضاها ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ".
فالحوادث:
تضاف إلى خالقها باعتبار. قال تعالى: {كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء الآية: 78]. وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث.
وإلى أسبابها باعتبار. كما قال الله تعالى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص الآية: 15]، وقال} وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف الآية: 63].
وأخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويفسقون
…
وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم: في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها.
والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل السنة إن الله تعالى خلق قدرة الإنسان وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلاً له محدثًا له".
يقول السفاريني: "وأمّا مذهب السلف الصالح المثبتون للقدر من جميع الطوائف فإنهم يقولون: إنَّ العبد فاعلٌ لفعله حقيقةً، وإن له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة، ولا ينكرون تأثيرَ الأسباب الطبيعية، بل يقرّون بما دلَّ عليه الشرع والعقل من أن اللَّه تعالى ينبت النبات بالماء، وأن اللَّه يخلق السحابَ بالرياح وينزل الماء بالسحاب، ولا يقولون: القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل
يقرُّون بأنَّ لها أثرًا لفظًا ومعنى، ولكن يقولون: هذا التأثير هو تأثيرُ الأسباب في مسبّباتها، واللَّه تعالى خالق السبب والمسبب"
(1)
.
فقول أهل السنة والجماعة يقوم على أنه لا بد للإنسان أن يقوم بأسباب العمل
سواءً كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الدينية.
ففي الأمور الدنيوية: يعلم الإنسان أنه من غير الممكن أن يترك الأسباب ويحصِّل نتائجها، ومن فعل ذلك سخر الناس منه واستهزئوا به؛ كمن يُريد الولد بلا زواج، وكمن يريد المال بدون عمل، وفرق كبير بين التوكل والتواكل؛ فالتواكل يكون بترك الأخذ بالأسباب. وهو مذموم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومِمَّا يَنبغي أن يُعلم: ما قاله طائفة من العلماء؛ قالوا: الالتفات إلى الأسباب شِرك في التوحيد. ومحوُ الأسباب أن تكون أسبابًا- نقصٌ في العقل. والإعراضُ عن الأسباب بالكلية قَدْحٌ في الشَّرع. وإنَّما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع"
(2)
وفي الأمور الدينية: لابد للإنسان أن يقوم بأسباب العمل الصالح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد ركَّب في الإنسان من المشيئة والإرادة ما هو تَبَع لمشيئته وإرادته جلَّ وعلا، لكن الإنسان يُختبر بهذه الأسباب، فلا يجوز له تعطيلها بأي حال من الأحوال.
وعلى العبد أن يأخذ بالأسباب الشرعية التي شرعها الله سبحانه وتعالى؛ لكي ينال ما كتبه الله عليه في أمر القَدَر، وقد يناله وقد لا يناله، لكنه مُطالب بأن يأخذ بهذه الأسباب التي أرادها الله سبحانه وتعالى.
فإنَّ مِنْ خَلْقِ الله تعالى أن ركَّب للأمور أسبابًا، ومِن خلق الله عز وجل أن جعل للعبد
(1)
لوائح الأنوار السنية (2/ 142).
(2)
«مجموع الفتاوى» (8/ 169).
إرادة ومشيئة، وهذه الإرادة والمشيئة لا تخرج عن إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، فعلى هذا أمر الله تعالى العباد واختبرهم وابتلاهم؛ فمنهم مَنْ أطاع-بمعنى: أنه أخذ بأسباب السعادة وقام بهذه الأسباب، وطلبها من الله تعالى؛ فأعانه عليها-ومنهم مَنْ حُرم مِنْ هذا.
والفضل مِنْ قبل ومن بَعد لله سبحانه وتعالى الذي هيَّأ للعبد هذه الأسباب من جهة، والذي أعانه على هذه الأمور من جهة، فعلى العبد أن يُوازن بين هذا وهذا، فالله قد أمر العبد وخَلق له إرادة، كما قال:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان الآية: 3 [؛ فهداه السبيل وركَّب فيه من أسباب الهداية ما ركَّب، وشاء أن يمتحنه؛ فإما أن يقوم بالطاعة أو يقوم بالمعصية، وكلا العبدين قد أوتي من القوة والصحة والأسباب ما يُعينه على فعل ما أراد، لكن هذا أعان على نفسه فاتَّبع أسباب الهداية فسار عليها، وذاك حَرَم نفسه فَوُكِل إليها، فالعبد بالتالي في حال جهاد مع نفسه، وفي حال مجاهدة مع قَدَر الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يعلم ما خاتمته التي يموت عليها، ولكنه يعلم أن الله تعالى قد جعل للجنة أسبابًا، وأمره بالأخذ بهذه الأسباب، فسبب دخول الجنة: الاستقامة على أوامر الله سبحانه وتعالى، ولذلك ذكر العلماء أن الباء في قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة الآية: 17]، هي باء السبب، وليست باء المقابلة والعِوض، فالجنة ليست ثمنًا لعمل العبد؛ قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:«{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة الآية: 17]، أي: بعملهم، أو بالذي كانوا يعملونه لأن (ما) في قوله: {بما كانوا يعملون} يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون اسمًا موصولًا، والباء هنا للسببية»
(1)
.
وقال لأهل النار: {جزاء وفاقًا} ، فكلٌّ يجازيه الله سبحانه وتعالى بحسب عمله.
(1)
«تفسير العلامة محمد العثيمين» ، تفسير سورة الواقعة.
ومدار الثواب والعقاب على العمل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
(1)
.
فعلى الإنسان أن يحقق أسباب السعادة ونيل رضوان الله سبحانه وتعالى، فالجنة لا تحصل بالجسم ولا بالمال ولا بالحسب والنسب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء الآية: 214]، قال:«يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مَناف، لا أُغني عنكم مِنْ الله شيئًا، يا عبَّاس بن عبد المطلب، لا أُغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمَّة رسول الله، لا أُغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سَلِيني ما شئتِ من مالي؛ لا أُغني عنك من الله شيئًا»
(2)
.
ففاطمة رضي الله عنها مع كونها بنت النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم الخلق عند الله سبحانه وتعالى، إلا أن هذا النسب لا يُغني عنها من الله شيئًا، حتى تؤمن وتعمل صالحًا.
فعلى هذا يقصد بهذه المنازعة: أن يسعى العبد لأسباب السعادة؛ ويسأل الله القبول، ويحسن ظنه بالله؛ لأنه سبحانه قال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف الآية: 30]، وبعد الإيمان والعمل الصالح يرجو أن يكون من أهل الجنة، ولا يقولَنَّ-مثلًا-أنا على قَدَر الله تعالى؛ فإن شاء هداني وإن لم يشأ لم يهدني. فيترك أسباب نَيل الخير.
ويقول شارح «العقيدة الطحاوية» : "قد ظَنَّ بعضُ الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مُقَدَّرة فلا حاجة إلى الأسباب! وهذا فاسد؛ فإن الاكتساب: منه فرض، ومنه مُستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه
(1)
أخرجه مسلم (2564)، وأيضًا بلفظ:«إنَّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» ، وأشار بأصابعه إلى صدره».
(2)
أخرجه البخاري (2753) ومسلم (206) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
حرام، كما قد عُرف في موضعه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين-يَلبس لَأْمَةَ الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان الآية: 7]. ولهذا تجد كثيرًا ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يُرزقون على يد مَنْ يُعطيهم؛ إمَّا صدقة، وإمَّا هدية
…
"
(1)
.
فالتوكل المشروع يكون بالأخذ بالأسباب، مع سؤال الله عز وجل العون والتوفيق والهداية والسداد على فعل الطاعات.
وقال ابنُ القيم: "وفي الأحاديث الصَّحيحة الأمر بالتَّداوي، وأنَّه لا يُنافي التوكل، كما لا يُنافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتمُّ حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نَصَبَها الله مقتضيات لمسبباتها قَدَرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يَقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويُضعفه من حيث يظنُّ مُعطلها أنَّ تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يَضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلَّا كان معطلًا للحكمة والشرع؛ فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا»
(2)
.
وقال ابنُ حَجَر: «المراد بالتوكل: اعتقاد ما دَلَّت عليه هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود الآية: 6]، وليس المراد به: ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين؛ لأنَّ ذلك قد يَجُرُّ إلى ضِد ما يَرَاه من التوكل، وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد، وقال: لا أعمل شيئًا حتى يَأتيني رزقي! فقال: هذا
(1)
«شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز (ص 270)، دار السلام، الطبعة المصرية الأولى، 1426 هـ-2005 م.
(2)
«زاد المعاد في هدي خير العباد» (4/ 15)، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415 هـ/ 1994 م.
رجل جَهِل العلمَ؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله جعل رزقي تحت ظلِّ رُمحي))
(1)
، وقال:((لو تَوكلتم على الله حقَّ تَوكله لرزقكم كما يَرزق الطير تَغدو خماصًا، وتَروح بِطانًا))
(2)
، فذكر أنَّها تَغدو وتروح في طلب الرزق، قال: وكان الصحابة يَتَّجِرون ويَعملون في نَخيلهم، والقدوةُ بهم"
(3)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومن قال: يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان، التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد".
الشرح
يتكلم المصنف هنا عن أصحاب القول الثاني القائلين إن الله يفعل عند الأسباب، ولا يفعل بالأسباب.
وممن قال بهذا القول بعض أئمة الأشاعرة ومنهم أبو حامد الغزالي حيث يقول: "الاقتران بين ما يُعتَقد في العادَة سببًا وبين ما يُعتقد مُسَبَّبًا ليس ضروريًّا، بل كلُّ شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمِّنًا لإثبات الآخر، ولا نفيه
(1)
جزء من حديث؛ أورده البخاري تعليقًا في باب (مَا قِيل فِي الرِّمَاحِ)(4/ 40)، وأخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (19401)، وأحمد في «المسند» (5114)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «الإرواء» (1269). ولابن رجب الحنبلي رسالة ماتعة في شرح هذا الحديث، بعنوان:«الحِكَم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بُعِثتُ بالسَّيف بين يدي السَّاعة» .
(2)
أخرجه أحمد في «المسند» (205)، والترمذي (2344) من حديث عمر رضي الله عنه وصححه الألباني في «الصحيحة» (310).
(3)
«فتح الباري» (11/ 305، 306)، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ.
متضمِّنًا لنفي الآخر، فليس مِنْ ضرورة وجودِ أحدهما وجود الآخر، ولا مِنْ ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل: الرِّي والشرب، والشِّبَع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجَزِّ الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل، وهلمَّ جرًّا، إلى كلِّ المشاهدات من المقترنات في الطبّ والنجوم والصناعات والحِرَف، فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقها على التساوُق لا لكونه ضَروريًّا في نفسِه غير قابل للفوت، بل في المقدور خلق الشِّبع دون الأكل، وخلق الموتِ دون جَزِّ الرقبة، وإدامَة الحياة مع جَزِّ الرقبة، وهلمَّ جرًّا إلى جميع المقترنات"
(1)
.
ويحدثنا شيخ الإسلام عن أصل هذه المقولة ودخولها على الأشاعرة فيقول: "وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " اسْتَطَالُوا عَلَى " الْأَشْعَرِيَّةِ " وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ بِمَا وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَنَقَضُوا بِذَلِكَ أَصْلَهُمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْكَلَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأُمُورِ إذَا خُلِقَ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ. وَاسْتَطَالُوا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ " وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَنْ جَعَلُوا نَفْسَ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْقَبِيحِ فِعْلًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دُونَ الْعَبْدِ ثُمَّ أَثْبَتُوا كَسْبًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْفِعْلِ؛ وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَسْخَرُونَ بِمَنْ قَالَ هَذَا وَيَقُولُونَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا: طَفْرَةُ النِّظَامِ وَأَحْوَالُ أَبِي هَاشِمٍ وَكَسْبُ الْأَشْعَرِيِّ. وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَنْ فَسَّرُوا تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ فِي الْمَقْدُورِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ وَالِاقْتِرَانُ الْعَادِيُّ يَقَعُ بَيْنَ كُلِّ مَلْزُومٍ وَلَازِمِهِ وَيَقَعُ بَيْنَ الْمَقْدُورِ وَالْقُدْرَةِ فَلَيْسَ جَعْلُ هَذَا مُؤَثِّرًا فِي هَذَا بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ وَيَقَعُ بَيْنَ الْمَعْلُولِ وَعِلَّتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ قُدْرَةَ الْعِبَادِ عِنْدَهُ لَا تَتَجَاوَزُ
(1)
تهافت الفلاسفة (ص: 239) بتصرف يسير.
مَحَلَّهَا. وَلِهَذَا فَرَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى قَوْلٍ وَأَبُو إسْحَاقَ الإسفراييني إلَى قَوْلٍ وَأَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي إلَى قَوْلٍ؛ لَمَّا رَأَوْا مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ التَّنَاقُضِ"
(1)
وقد رد شيخ الإسلام هذه المقولة من عدة وجوه في أكثر من موضع في كتبه ومن ذلك:
قال ابن تيمية: "وَمَنْ قَالَ إنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ أَسْبَابًا أَوْ أَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا مُجَرَّدُ اقْتِرَانٍ عَادِيٍّ كَاقْتِرَانِ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ؛ فَقَدْ جَحَدَ مَا فِي خَلْقِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ وَالْعِلَلِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً تَمْتَازُ بِهَا عَنْ الْخَدِّ تُبْصِرُ بِهَا وَلَا فِي الْقَلْبِ قُوَّةً يَمْتَازُ بِهَا عَنْ الرَّجُلِ يَعْقِلُ بِهَا وَلَا فِي النَّارِ قُوَّةً تَمْتَازُ بِهَا عَنْ التُّرَابِ تُحْرِقُ بِهَا وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ مَا فِي الْأَجْسَامِ الْمَطْبُوعَةِ مِنْ الطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: تَكَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ النَّاسِ فِي إبْطَالِ الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالطَّبَائِعِ فَأَضْحَكُوا الْعُقَلَاءَ عَلَى عُقُولِهِمْ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ شَبِعَ بِالْخُبْزِ وَرُوِيَ بِالْمَاءِ بَلْ يَقُولُ شَبِعْت عِنْدَهُ وَرُوِيت عِنْدَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَادِثِ عِنْدَ هَذِهِ الْمُقْتَرِنَاتِ بِهَا عَادَةً؛ لَا بِهَا.
وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف الآية: 57 [وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة الآية: 164]، وَقَالَ تَعَالَى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة الآية: 14]، وَقَالَ:{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة الآية: 52]،
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 128.
وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق الآية: 9]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام الآية: 99]، وَقَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر الآية: 27]، وَقَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل الآية: 10]، {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل الآية: 11 [وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} - إلَى قَوْلِهِ - {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة الآية: 26]، وَقَالَ:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة الآية: 15]، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة الآية: 16]، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِهِ: ((لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ؛ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ بِصَلَاتِي عَلَيْهِ بَرَكَةً وَرَحْمَةً)). وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ عَلَى أَهْلِهَا ظُلْمَةً وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ نُورًا)) وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَنَظِيرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْأَسْبَابَ الْمُقَدَّرَةَ فِي خَلْقِ اللَّهِ مَنْ أَبْطَلَ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ فِي أَمْرِ اللَّهِ؛ كَاَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ بِالدُّعَاءِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرَاتِ إنْ كَانَ مُقَدَّرًا حَصَلَ بِدُونِ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ كَاَلَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ((أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ لَا. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)). وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ ((قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نسترقي بِهَا؛ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا؛ هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ)) وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ:
الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا تَغْيِيرٌ فِي وَجْهِ الْعَقْلِ؛ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ؛ وَجَعَلَ هَذَا سَبَبًا لِهَذَا فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ إنْ كَانَ هَذَا مُقَدَّرًا حَصَلَ بِدُونِ السَّبَبِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ؛ جَوَابُهُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالسَّبَبِ وَلَيْسَ مُقَدَّرًا بِدُونِ السَّبَبِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ؛ وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ)). وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ)). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: ((إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ. قَالَ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا)) فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ وَيُخْتَمُ لَهُ بِهِ وَهَذَا يَدْخُلُ النَّارَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ وَيُخْتَمُ لَهُ بِهِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)) وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ تُحْبَطُ بِالرِّدَّةِ وَجَمِيعُ السَّيِّئَاتِ تُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَنْ
صَامَ ثُمَّ أَفْطَرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَوْ صَلَّى وَأَحْدَثَ عَمْدًا قَبْلَ كَمَالِ الصَّلَاةِ بَطَلَ عَمَلُهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ فَيُؤْمِنُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ بِحُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ وَحُكْمِهِ الدِّينِيِّ وَإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام الآية: 125]، وَقَالَ نُوحٌ عليه السلام:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود الآية: 34]، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة الآية: 185]، وَقَالَ:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء الآية: 26]، وَقَالَ:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة الآية: 6]. وَهُمْ مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَيُطِيعُونَهُ وَيُطِيعُونَ رُسُلَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَرْجُونَهُ وَيَخْشَوْنَهُ وَيَتَّكِلُونَ عَلَيْهِ وَيُنِيبُونَ إلَيْهِ وَيُوَالُونَ أَوْلِيَاءَهُ وَيُعَادُونَ أَعْدَاءَهُ وَيُقِرُّونَ بِمَحَبَّتِهِ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَرِضَاهُ بِذَلِكَ وَبُغْضِهِ لِمَا نَهَى عَنْهُ وَلِلْكَافِرِينَ وَسُخْطِهِ لِذَلِكَ وَمَقْتِهِ لَهُ وَيُقِرُّونَ بِمَا اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ((أَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضِ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَطَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إذَا بِدَابَّتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ)). فَهُوَ إلَهُهُمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ وَرَبُّهُمْ الَّذِي يَسْأَلُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة الآية: 2]، إلَى قَوْلِهِ:{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة الآية: 5]، فَهُوَ الْمَعْبُودُ
الْمُسْتَعَانُ. وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ. فَهُمْ يُحِبُّونَهُ أَعْظَمَ مِمَّا يُحِبُّ كُلُّ مُحِبٍّ مَحْبُوبَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة الآية: 165]، وَكُلُّ مَا يُحِبُّونَهُ سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحِبُّونَهُ لِأَجْلِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ: وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)) وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ ((أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ)). وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَمَالُ الْحُبِّ هُوَ الْخِلَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ. فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَاسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ ((إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)) وَقَالَ ((لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ)) يَعْنِي نَفْسَهُ وَلِهَذَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ يُحَبُّ وَيُحِبُّ"
(1)
.
وقال أيضًا في بيان المقصود بلفظ التأثير: "وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ التَّأْثِيرَ إذَا فُسِّرَ بِوُجُودِ شَرْطِ الْحَادِثِ أَوْ سَبَبٍ يَتَوَقَّفُ حُدُوثُ الْحَادِثِ بِهِ عَلَى سَبَبٍ آخَرَ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ-وَكُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى-فَهَذَا حَقٌّ وَتَأْثِيرُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي مَقْدُورِهَا ثَابِتٌ بِهَذَا
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 137 - 141.
الِاعْتِبَارِ.
وَإِنْ فُسِّرَ التَّأْثِيرُ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ مُعَاوِنٍ وَلَا مُعَاوِقٍ مَانِعٍ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُؤَثِّرًا بَلْ اللَّهُ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر الآية: 2]، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ الآية: 22]، قال تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ الآية: 23 [قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر الآية: 38]، وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
فَإِذَا عُرِفَ مَا فِي لَفْظِ " التَّأْثِيرِ " مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ وَعُرِفَ الْعَدْلُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ سَوَاءٌ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِيمَانِ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِقُدْرَةِ وَلَا إرَادَةٍ آمَنَ بِهَا وَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا فَعَلَ لَمْ تَحْدُثْ لَهُ مَعُونَةٌ مِنْ اللَّهِ وَإِرَادَةٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الْفِعْلِ: فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ. وَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ: فِعْلُ الْعَبْدِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ وَالْمُمْكِنَاتِ فَكُلُّ مَا بِهِ يُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْدَثَ غَيْرَهُ يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ. فَكَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ مُمْكِنٌ حَادِثٌ فَإِنْ أَمْكَنَ صُدُورُ هَذَا الْمُمْكِنِ الْحَادِثِ بِدُونِ مُحْدِثٍ وَاجِبٍ يُحْدِثُهُ وَيُرَجِّحُ وُجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ فَانْتَقَضَ دَلِيلُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَإِذَا فُسِّرَ التَّأْثِيرُ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفَارِقُ فِي الْمَحَلِّ أَوْ خَارِجًا عَنْ الْمَحَلِّ.
وَأَيْضًا قَالَ لَهُمْ الْمُنَازِعُونَ: مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ النَّاسِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ فَهُوَ عَادِلٌ وَمَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ فَهُوَ ظَالِمٌ وَمَنْ
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 134 - 135.
فَعَلَ الْكَذِبَ فَهُوَ كَاذِبٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فَاعِلًا لِكَذِبِهِ وَظُلْمِهِ وَعَدْلِهِ بَلْ اللَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَّصِفَ بِالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ قَالُوا: وَهَذَا كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُمْ وَسَائِرُ الصفاتية: مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ النَّاسِ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ فَهُوَ عَالِمٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ فَهُوَ قَادِرٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ وَمَنْ قَامَ بِهِ التَّكَلُّمُ فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ فَهُوَ مُرِيدٌ وَقُلْتُمْ إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا كَانَ كَلَامًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْمُطَّرِدَةُ فِيمَنْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ نَظِيرُهَا أَيْضًا مَنْ فَعَلَ الْأَفْعَالَ. وَقَالُوا أَيْضًا: الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ إضَافَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إلَى الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة الآية: 17]، وَقَوْلِهِ:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت الآية: 40]، وَقَوْلِهِ:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة الآية: 105]، وَقَوْلِهِ:{إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف الآية: 107]، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَقَالُوا "أَيْضًا إنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُحْمَدُ وَيُذَمُّ عَلَى فِعْلِهِ وَيَكُونُ حَسَنَةً لَهُ أَوْ سَيِّئَةً فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلُ غَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمَحْمُودَ الْمَذْمُومَ عَلَيْهَا"
(1)
وقد تنبَّه شيخ الإسلام رحمه الله ونبَّه إلى خطر هذا القول في الأسباب بالعادة، وأنَّ فيه إبطالًا للشرع ونفيًا للحكمة، فمن قال: إن وجود الشيء وعدمه سيان فقد أدخل العقلَ في محارات وقال على الشرع بقول لا ينفكّ في جوابه عنه من قول باطل آخر، وقد تنبّه الإمام ابن تيمية إلى خطر هذا المسلك فقال: "ومن قال: إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسبابا، أو إن وجودها كعدمها وليس هناك إلا مجرد اقتران عاديّ كاقتران الدليل بالمدلول؛ فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخدّ تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 119 - 120.
التراب تحرق بها، وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز. قال بعض الفضلاء: تكلَّم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع فأضحَكوا العقلاء على عقولهم. ثم إنَّ هؤلاء يقولون: لا ينبغي للإنسان أن يقول: إنه شبع بالخبز ورَوِي بالماء، بل يقول: شبعتُ عندَه ورَوِيت عندَه؛ فإن الله يخلق الشبع والرِّيَّ ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة، لا بها"
(1)
.
ويضيف أيضا ابن تيمية لهذا القول لازمًا من اللوازم التي تلزم من يقول بالعادة فيقول: "وكذلك أيضًا لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسبابًا وقوى وطبائع، ويقول: إن الله يفعل عندها لا بها، فلزمه أن لا يكونَ فرق بين القادر والعاجز، وإن أثبتَ قدرةً وقال: إنها مقترنة بالكسب، قيل له: لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل، ولا بين القادر والعاجز، إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته، فإذا لم يكن للقدرة تأثيرٌ إلا مجرَّد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها"
(2)
.
ويمكن القول: بإنَّ القول في السببية كانت سببًا في نسبة الدين إلى معاداة العقل والتجارب؛ لأن فيها تعطيلا لها ونفيا للحكمةِ؛ مما جعل ضعافَ العقول ومن ليس لهم علم بالشرع ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم حين يرون مكابرةَ هذه النظرية للواقع والحسّ يرونَ أنهم بتبنِّيهم للدين يركبون أمواجًا طامية ويخوضون لجَّة سحيقة، يبحرون فيها ضدَّ العقل، وقد لا يجدون في النقل بُلغة تطمئِنهم، بل هم في أمر مريج من مخالفة صريح العقل وعدم وجود النقل القاطع الذي ينضبط القول به في المسألة.
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 136 - 137).
(2)
منهاج السنة (3/ 113).
وقد أدَّى رأي الغزالي إلى نفيِ الحكمة والتعليل، وهو ما يصطدم بالنصوص الشرعية.
كما أن الغزاليَّ بقوله هذا يميل إلى الجبر، ونفى تأثير الأسباب والعلاقة بينها وبين مسبباتها، وجعلها مجردَ تساوقٍ فقط، وأغفل الشروطَ والموانع، فجعل قدرة العبد في مقابل قدرة الربِّ فأبطلها.
قال ابن تيمية: "تكلم قومٌ من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم".
قال ابن القيم: "فإنَّ ضعفاء العقول إذا سمعوا أنَّ النار لا تحرق، والماء لا يغرق، والخبر لا يشبع، والسيف لا يقطع، ولا تأثيرَ لشيء من ذلك البتة، ولا هو سبب لهذا الأثر، وليس فيه قوة، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كلَّ أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا، قالت: هذا هو التوحيد وإفراد الربّ بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أنَّ هذا إساءة ظن بالتوحيد وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به، كما تراه عيانًا في كتبهم، ينفِّرون به الناسَ عن الإيمان، ولا ريب أنَّ الصَّدِيقَ الجاهل قد يضرُّ ما لا يضرُّه العدو العاقل"
(1)
وهذا الذي به يلتئِم العقلُ الصريح والنقل الصحيح، ويتواطَآن مع الفطرة، وبه يُفهم نظام الكون وسنةُ الله التي لا تتغير ولا تتبدَّل.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره"
(1)
شفاء العليل (ص: 189).
الشرح
هؤلاء هم أصحاب القول الثالث وهم الفلاسفة الذين جعلوا الأسباب هي المبدعة لهذا الكون باعتبار أن الكون عندهم هو مجموعة العناصر والعوالم الكونية التي يزعمون أنها تؤثر في بعضها تأثيرا مستقلا عن إرادة الخالق سبحانه، أو كما يزعم الملاحدة: أنها هي وحدها الوجود، وهي وحدها المؤثر والمؤثر فيه، وليس لها خالق مدبر متصرف، تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.
والفلسفة تعود في جذورها إلى الفلسفة اليونانية، وفلسفة ما بعد أرسطو هي فلسفة إلحادية لا تؤمن بإله، ولا تؤمن برب ولا بمعبود، فالفلاسفة يزعمون أن للعالم صانعاً ليس بعالم ولا قادر ولا حي
(1)
.
وينكرون حقيقة الإيمان بالله وباليوم الآخر ويتعاملون مع نصوصهما كما يتعاملون مع كل أمر غيبي باعتبار أنه عندهم مجرد وهم وخيال لا حقيقة له.
"والفلسفة، اسم جنس لمن يُحِبُ الحكمة ويُؤثِرُها.
وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه.
وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المَشَّاؤُون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها. وهي التي يعرفها، بل لا يعرفُ سواها، المتأخرون من المتكلمين"
(2)
.
أما الفلاسفة فإن إيمانهم بالله تبارك وتعالى لا يكاد يتعدى الإيمان بوجوده المطلق، -أي بوجوده في الذهن والخيال دون الحقيقة-، وأما ما عدا ذلك
(1)
مقالات الإسلاميين (2/ 177)، وموقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
(2)
إغاثة اللهفان 2/ 257).
فلا يكادون يتفقون على شيء، فالمباحث العقدية عندهم من أسخف وأفسد ما قالوا به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة، وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلاً عن أن تكون قضايا صادقة"
(1)
.
ويتجلى فساد معتقد الفلاسفة في الله أكثر عندما نعرض لك بعض أقوالهم في ذات الله وصفاته.
فالفلاسفة يطلقون على الله مسمى (واجب الوجود)، وتوحيد واجب الوجود عندهم يكفي مجرد تصوره للعلم الضروري بفساده.
فالتوحيد عندهم يقتضي تجريده من كل صفات الكمال اللازمة له، فهو ليس له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام، ولا غير ذلك من الصفات، ويقولون بدلاً من ذلك:(إنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعالم ومعلوم وعلم)، وجعلوا كل ذلك أموراً عدمية.
ودفعهم إلى ذلك زعمهم أن تعدد الصفات موجب للتركيب في حق الله، وفساد هذا القول جلي واضح.
فالله وصف نفسه بالصفات، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك في الكتاب والسنة نقلاً.
كما أن العقل يشهد بفساد قولهم، فإن تعدد الصفات لم تقل لغة ولا شرع ولا عقل سليم إنه يوجب تركيب الموصوف إلا عند الفلاسفة
(2)
.
ومن شنيع كلامهم كذلك زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات، فهو عندهم
(1)
الرد على المنطقيين (ص 114).
(2)
انظر الرد على المنطقيين ص 314.
لا يعرف عين موسى، ولا عيسى، ولا محمداً عليهم الصلاة والسلام، فضلاً عن الوقائع التي قصها القرآن وغيرها من أمور المخلوقات. وفساد هذا القول واضح جلي في النقل والعقل.
أما النقل فالله يقول: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام الآية: 59]. وكذا العقل أيضاً شاهد بفساد هذا المعتقد، فكيف يجهل الله أموراً سيرها بأمره وأجراها بقدره وأخبر عنها في كتابه
(1)
.
ومن شنيع قولهم ما قالوه في قدرة الله من أنه فاعل بالطبع لا بالاختيار لأن الفاعل بالطبع يتحد فعله، والفاعل بالاختيار يتنوع فعله، وما دروا أنهم بهذا جعلوا الإنسان الفاعل بالاختيار أكمل من الله الفاعل بالطبع على حد زعمهم. وهذا القول مردود بقول الله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَار} [القصص الآية: 68]. ومردود بالعقل لأن الله هو أكمل الفاعلين فكيف يُشبَّه فعله بفعل الجماد.
والفلاسفة يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نَعْتَ، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئاً.
ولا شك أن الذي كان عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون من هذا، فعباد الأصنام كانوا يثبتون رباً خالقاً عالماً قادراً حياً، وإن كانوا يشركون معه في العبادة.
ففساد أقوال الفلاسفة في الله لا يضاهيه فساد، فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل.
(1)
انظر الرد على المنطقيين ص 461.
قال ابن تيمية: "وَشِرْكُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَتَعْطِيلُهُمْ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ شِرْكِ الْقَدَرِيَّةِ وَتَعْطِيلِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْفَلَكَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، فَلَمْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ شَيْئًا أَحْدَثَهُ، بِخِلَافِ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُمْ أَخْرَجُوا عَنْ إِحْدَاثِهِ أَفْعَالَ الْحَيَوَانِ وَمَا تَوَلَّدَ عَنْهَا. فَقَدْ لَزِمَهُمُ التَّعْطِيلُ مِنْ إِثْبَاتِ حَوَادِثَ بِلَا مُحْدِثٍ وَتَعْطِيلِ الرَّبِّ عَنْ إِحْدَاثِ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَإِثْبَاتِ شَرِيكٍ فَعَلَ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الرَّبَّ مَا زَالَ عَاطِلًا عَنِ الْفِعْلِ حَتَّى أَحْدَثَ الْعَالَمَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: مَا زَالَ وَلَا يَزَالُ مُعَطَّلًا عَنِ الْإِحْدَاثِ، بَلْ عَنِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ مَا لَزِمَ ذَاتَهُ كَالْعَقْلِ وَالْفَلَكِ لَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلًا لَهُ؛ إِذِ الْفِعْلُ لَا يُفْعَلُ إِلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَأَمَّا مَا لَزِمَ الذَّاتَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ بِمَنْزِلَةِ لَوْنِ الْإِنْسَانِ وَطُولِهِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَهُ، بِخِلَافِ حَرَكَاتِهِ فَإِنَّهَا فِعْلٌ لَهُ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَحَرِّكًا كَمَا يُقَالُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ: إِنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَإِنَّ الْقَلْبَ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا، فَكَوْنُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ يَقُومُ بِهِ فِعْلُهُ يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعْقُولٍ، بِخِلَافِ مَا لَزِمَهُ لَازِمٌ يُقَارِنُهُ فِي الْأَزَلِ، فَهَذَا لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُثْبِتُونَ لِلرَّبِّ فِعْلًا أَصْلًا، فَهُمْ مُعَطِّلَةٌ حَقًّا.
وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ إِنَّمَا أَثْبَتُوا الْعِلَّةَ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عِلَّةً غَائِيَّةً، كَحَرَكَةِ الْفَلَكِ، فَإِنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ بِالِاخْتِيَارِ كَحَرَكَةِ الْإِنْسَانِ، وَالْحَرَكَةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ، فَيَكُونُ هُوَ مَطْلُوبَهَا.
وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْفَلَكَ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى كَحَرَكَةِ الْمُؤْتَمِّ بِإِمَامِهِ وَالْمُقْتَدِي بِقُدْوَتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى تَشْبِيهِهِ بِحَرَكَةِ الْمَعْشُوقِ لِلْعَاشِقِ، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ ذَاتَ اللَّهِ مُحَرِّكَةٌ لِلْفَلَكِ، إِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ مُرَادَ الْفَلَكِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا
بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ.
فَقَالُوا: إِنَّ الْعِلَّةَ الْأُولَى وَهِيَ الَّتِي يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِأَجْلِهَا عِلَّةٌ لَهُ تُحَرِّكُهُ كَمَا تَحَرَّكَ الْعَاشِقُ لِلْمَعْشُوقِ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ الَّذِي اشْتَهَى طَعَامًا، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ أَوْ رَأَى مَنْ يُحِبُّهُ، فَسَعَى إِلَيْهِ فَذَاكَ الْمَحْبُوبُ هُوَ الْمُحَرِّكُ؛ لِكَوْنِ الْمُتَحَرِّكِ أَحَبَّهُ، لَا لِكَوْنِهِ أَبْدَعَ الْحَرَكَةَ وَلَا فَعَلَهَا. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ قَدْ أَثْبَتُوا لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ مُحْدِثًا أَحْدَثَهَا"
(1)
.
قال ابن القيم حاكيًا قول الفلاسفة: "فطائفة جعلت الموجب لذلك مجرد ما رأوه علة وسببا من الحركات الفلكية والقوى الطبيعية والنفوس والعقول فليس عندهم لذلك فاعل مختار مريد"
(2)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولا بدّ له من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إلا الله وحده، قال تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات الآية: 49]، أي: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد.
ولهذا من قال: إن الله لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد- كان جاهلا، فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنان، إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون"
(1)
منهاج السنة النبوية 3/ 282 - 285.
(2)
شفاء العليل 1/ 206.
الشرح
قبل الخوض في شرح هذه العبارة يحسن التطرق لقول الفلاسفة في معنى الواحد عندهم فأقول موضحا
يقول ابن سينا: "إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه، فهو ليس بجسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة في الكلم ولا في المبادئ المقومة له، ولا في قول الشارح ولا غير ذلك مما ينافي وحدة واجب الوجود وبساطته المطلقة"
(1)
.
والمتأمل لهذه العبارات التي أوردها ابن سينا يعرف أنها إنما هي مجرد اصطلاحات اصطلحها هو وأمثاله من الفلاسفة الذين تأثروا بفلسفة اليونان، فجعلوا من تلك العبارات المبتدعة ما أسموه بالتوحيد، وادعوا أن ما تضمنته هو التنزيه، مع أنها في الحقيقة متضمنة لنفي جميع الصفات بما فيها العلو والاستواء.
فقوله: "إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه" يعني به أنه ليس لله تعالى صفة ولا قدر، لأن ذلك على رأيه يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب فيلزم نفيه، لأنه يلزم من ذلك الحدوث والافتقار وذلك ينافي واجب الوجود.
فابن سينا وأمثاله من الفلاسفة يعتمدون في نفي الصفات على حجة التركيب والتي هي: "أنه لو كان له صفة لكان مركباً، والمركب يفتقر إلى جزئيه، وجزؤه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه" وهم بهذا الكلام تجدهم قد نفوا صفات الباري جميعها.
(1)
النجاة لابن سينا (ص 37).
ولو توقفنا عند العبارة السابقة وهي قوله: "أن واجب الوجود بذاته واحد بسيط
…
" من أجل بيان ما فيها من مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحتى مخالفتها للعقل الذي يقدمه هؤلاء على كل شيء. لوجدنا هذه العبارة هي تفسير للواحد بما لا أصل له في الكتاب أو السنة، بل هو تفسير باطل شرعاً وعقلاً ولغة.
أما في اللغة: فإن أهل اللغة مطبقون على أن هذا القول ليس هو معنى الواحد في اللغة، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيراً من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسماً، إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض عند من يجعلها غيرها أو زائدة عليها.
وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحداً، امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء، ولا يوجد في اللغة اسم الواحد إلاّّ على ذي صفة ومقدار لقوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء 1]، ومعلوم أن النفس الواحدة المراد بها هنا آدم عليه السلام، وحواء خلقت من ضلع آدم، فمن جسده خلقت لا من روحه حتى لا يقول القائل: الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها، وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام التي سماها الله نفساً واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة. وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر الآية: 11]، فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد من باب أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام.
وأما في العقل:
فإن الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر
لا يعقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن، فليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز من شيء عن شيء بحيث يمكن أن يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن سماه المسمى جسماً.
وأما في الشرع:
فنقول: إن مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم، تعرف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم (الواحد) في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدعها هؤلاء
(1)
.
وأما قولهم: الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ فهذه قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ: إِنْ أَدْرَجُوا فِيهَا مَا سِوَى اللَّهِ فَذَاكَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَا إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ فَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ وَلَا كَيْفِيَّةَ الصُّدُورِ عَنْهُ؟.
وَأَيْضًا: فَالْوَاحِدُ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ، هُوَ وُجُودٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ عند [بَعْضِهِمْ]-كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ-أَوْ عَنِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، بَلْ يُمْتَنَعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ، كَمَا تُقَدَّرُ الْمُمْتَنَعَاتُ. وَلِهَذَا كَانَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَيْسَ [هُوَ] قَوْلُ [أَئِمَّةِ] الْفَلَاسِفَةِ، وَإِنَّمَا ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ أَحْدَثُوهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ أَبُو الْبَرَكَاتِ صَاحِبُ " الْمُعْتَبَرِ "، وَهُوَ مِنْ أَقْرَبِ هَؤُلَاءِ إِلَى اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ الصَّحِيحَةِ بِحَسَبِ نَظَرِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْ تَقْلِيدِ سَلَفِهِمْ، مَعَ أَنَّ أَصْلَ
(1)
انظر نقض التأسيس (1/ 482، 484، 488).
أَمْرِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ أَنَّ الْعَقْلِيَّاتِ لَا تَقْلِيدَ فِيهَا.
وَأَيْضًا: فَإِذَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ - كَمَا يَقُولُونَهُ فِي الْعَقْلِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ الصَّادِرُ الْأَوَّلُ إِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَزِمَ أَنْ لَا يَصْدُرَ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَهَلُمَّ جَرًّا.
وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَثْرَةٌ مَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ - وَالْكَثْرَةُ وُجُودِيَّةٌ - كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنِ الْأَوَّلِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَمِيَّةً لَمْ يَصْدُرْ عَنْهَا وُجُودٌ، فَلَا يَصْدُرُ عَنِ الصَّادِرِ الْأَوَّلِ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ صَدَرَ عَنْهُ شَيْئَانِ، لَكَانَ مَصْدَرُ هَذَا غَيْرَ مَصْدَرِ ذَلِكَ، وَلَزِمَ التَّرْكِيبُ.
فَيُقَالُ أَوَّلًا: لَيْسَ الصُّدُورُ عَنِ الْبَارِي كَصُدُورِ الْحَرَارَةِ عَنِ النَّارِ، بَلْ هُوَ فَاعِلٌ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَلَوْ قُدِّرَ تَعَدُّدُ الْمَصْدَرِ فَهُوَ تَعَدُّدُ أُمُورٍ إِضَافِيَّةٍ، وَتَعَدُّدُ الْإِضَافَاتِ وَالسُّلُوبِ ثَابِتَةٌ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ تَعَدُّدُ صِفَاتٍ، فَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الصِّفَاتِ، وَهَذَا حَقٌّ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذَا تَرْكِيبٌ، وَالتَّرْكِيبُ مُمْتَنَعٌ، قَدْ بَيَّنَّا [فَسَادَهُ] بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ [فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ] وَبَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ التَّرْكِيبِ وَالِافْتِقَارِ وَالْجُزْءِ وَالْغَيْرِ أَلْفَاظٌ مُشْتَرَكَةٌ مُجْمَلَةٌ، وَأَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ بِالْمَعْنَى الَّذِي لَا يَنْفِيهِ الدَّلِيلُ، بَلْ يُثْبِتُهُ الدَّلِيلُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ إِذَا فُسِّرَ بِهَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِذَا فُسِّرَ الْمُوجِبُ بِالذَّاتِ [بِأَنَّهُ] الَّذِي يُوجِبُ مَفْعُولَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى مُنَافِيًا لِكَوْنِهِ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، بَلْ يَكُونُ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، مُوجِبًا بِذَاتِهِ الَّتِي هِيَ فَاعِلٌ قَادِرٌ مُخْتَارٌ، وَهُوَ مُوجِبٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فَاعِلًا
بِمَشِيئَتِهِ [وَقُدْرَتِهِ].
وَالْآخَرُ: يُنَافِي كَوْنَهُ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
فَمَنْ قَالَ: الْقَادِرُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ - كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ - يَجْعَلُ الْفِعْلَ بِالِاخْتِيَارِ مُنَافِيًا لِلْإِيجَابِ، لَا يُجَامِعُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ لَا يَكُونُ قَادِرًا [مُخْتَارًا] إِلَّا إِذَا فَعَلَ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ لَا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ.
وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: الْقَادِرُ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَفْعَلْ، لَكِنَّهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ قُدْرَتِهِ، لَزِمَ وُجُودُ فِعْلِهِ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْمَشِيئَةِ الْجَازِمَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ.
وَلِهَذَا صَارَتِ الْأَقْوَالُ ثَلَاثَةً:
فَالْفَلَاسِفَةُ يَقُولُونَ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الصِّفَاتِ، أَوِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَهُ مُوجِبُهُ الْمُعَيَّنُ أَزَلًا وَأَبَدًا.
وَالْقَدَرِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ [مِنَ الْجَهْمِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ]، يَقُولُونَ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ لَا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَفْعَلُ لَا بِإِرَادَةٍ، بَلِ الْمُرِيدُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْفَاعِلُ الْعَالِمُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ، وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ إِرَادَةٍ أَوْ فِعْلٍ فَهُوَ يُحْدِثُهُ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عِنْدَهُمْ يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ.
ثُمَّ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ، وَقَدْ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ، بخلاف المجبرة
وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمُ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ وَالصِّفَاتِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ، وَإِذَا شَاءَ شَيْئًا كَانَ، وَإِرَادَتُهُ وَقُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، سَوَاءٌ قَالُوا بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ قَدِيمَةٍ، أَوْ بِإِرَادَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، أَوْ بِإِرَادَاتٍ قَدِيمَةٍ تَسْتَوْجِبُ حُدُوثَ إِرَادَاتٍ أُخَرَ. فَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ وُجُودُ مُرَادِهِ.
وَإِذَا فُسِّرَ الْإِيجَابُ بِالذَّاتِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، فَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ بِلَفْظِ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ، وَلَفْظِ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَلَفْظِ الْمُؤَثِّرِ وَالْأَثَرِ، وَلَفْظِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ يُبَيِّنُ امْتِنَاعَ قِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، وَوُجُوبَ حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ.
وَهُنَا أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ: هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ إِرَادَتُهُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَيُمْتَنَعُ مُقَارَنَتُهَا لَهُ؟ أَمْ يَجِبُ مُقَارَنَةُ إِرَادَتِهِ - الَّتِي هِيَ الْقَصْدُ - لِلْفِعْلِ، وَمَا يَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ يَكُونُ عَزْمًا لَا قَصْدًا؟ أَمْ يَجُوزُ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ: قَوْلُ مَنْ يُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ، [وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ] مُمْتَنَعَةٌ، وَقَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ. "
وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْقُدْرَةِ: هَلْ يَجِبُ مُقَارَنَتُهَا لِلْمَقْدُورِ [وَيُمْتَنَعُ تَقْدِيمُهَا]؟ أَمْ يَجِبُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَقْدُورِ وَيُمْتَنَعُ مُقَارَنَتُهَا؟ أَمْ تَتَّصِفُ بِالتَّقَدُّمِ وَالْمُقَارَنَةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَيْضًا.
وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفِعْلِ وَمُقَارِنَةٌ لَهُ، فَلَا يَكُونُ [الْفِعْلُ] بِمُجَرَّدِ قُدْرَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ غَيْرِ مُقَارِنَةٍ، وَلَا بِمُجَرَّدِ إِرَادَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ غَيْرِ مُقَارِنَةٍ، بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ مِنْ وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ، وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ بِفَاعِلٍ مَعْدُومٍ حِينَ الْفِعْلِ، وَلَا بِقُدْرَةٍ مَعْدُومَةٍ حِينَ الْفِعْلِ، وَلَا بِإِرَادَةٍ مَعْدُومَةٍ حِينَ الْفِعْلِ، وَقَبْلَ [الْفِعْلِ] لَا تَجْتَمِعُ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفِعْلِ، فَلَا يُوجَدُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، لَكِنْ قَدْ يُوجَدُ قَبْلَ الْفِعْلِ قُدْرَةٌ بِلَا إِرَادَةٍ، وَإِرَادَةٌ بِلَا قُدْرَةٍ، كَمَا قَدْ يُوجَدُ عَزْمٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ، فَإِذَا حَضَرَ وَقْتُ الْفِعْلِ قَوِيَ الْعَزْمُ فَصَارَ قَصْدًا، فَتَكُونُ الْإِرَادَةُ حِينَ الْفِعْلِ أَكْمَلَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَهُ، [وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ حِينَ الْفِعْلِ أَكْمَلُ مِمَّا
كَانَتْ قَبْلَهُ [وَبِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا قَبْلَ الْفِعْلِ الْقُدْرَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ الَّتِي بِهَا يُفَارِقُ الْعَاجِزَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُنِ الآية: 16]، وَقَوْلِهِ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آلِ عِمْرَانَ الآية: 97]، وَقَوْلِهِ:{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [الْمُجَادَلَةِ الآية: 4]. فَإِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ [إِلَّا] مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلَا وَجَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ، وَلَكَانَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَصُمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ لِلصِّيَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَخِلَافُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
فَمَنْ نَفَى هَذِهِ الْقُدْرَةَ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ، وَزَعَمَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، فَقَدْ بَالَغَ فِي مُنَاقَضَةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَكُونُ الِاسْتِطَاعَةُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ.
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَخْطَئُوا حَيْثُ زَعَمُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ كُلَّ مَا يَقْدِرُ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَقَدْ سَوَّى اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلْعَبْدِ مِمَّا بِهِ يُؤْمِنُ وَيُطِيعُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي جَمِيعِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ، لَكَانَ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِالْفِعْلِ دُونَ الْآخَرِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. وَهَذَا هُوَ أَصْلُ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْفَاعِلَ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ طَرَفَيْ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ وَإِنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ.
وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ لِلْقَدَرِ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، قَالُوا: إِنَّ الْقَادِرَ لَا يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ
إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، لَكِنْ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ فِعْلِ اللَّهِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوجِبِ وَالْمُخْتَارِ، وَمُنَاظَرَةِ الدَّهْرِيَّةِ، تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُنَاظِرُهُمْ مُنَاظَرَةَ مَنْ قَالَ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ بِأَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ بِلَا مُرَجِّحٍ.
وَبِهَذَا ظَهَرَ اضْطِرَابُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ [الْكِبَارِ]، الَّتِي يَدُورُونَ فِيهَا بَيْنَ أُصُولِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ الْمُعَطِّلَةِ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَلِصِفَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَبَيْنَ أُصُولِ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ.
(1)
"
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فالنار التي جعل الله فيها حرارة، لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على السَّمَنْدَل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وقد يُطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون عنها الشعاع لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع".
الشرح
بالنسبة لتأثير الأسباب في مسبّباتها فقد فقال ابن تيمية رحمه الله: "لفظ (التأثير) فيه إجمال، فإن القدرة مع مقدورها كالسبب مع المسبب والعلة مع المعلول والشرط مع المشروط.
فإن أريد بالقدرة القدرةُ الشرعية المصحِّحة للفعل المتقدِّمة عليه فتلك شرط للفعل وسبب من أسبابه وعلَّة ناقصة له.
وإن أريد بالقدرة القدرة المقارنة للفعل المستلزمة له فتلك علَّة للفعل وسبب
(1)
منهاج السنة النبوية 1/ 402 - 409.
تامٌّ، ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحدَه علَّة تامَّة وسبب تامّ للحوادث، بمعنى أن وجودَه مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصَّة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق والشمس في الإشراق والطعام والشراب في الإشباع والإرواء ونحو ذلك، فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحدَه، بل لا بدَّ من أن ينضمَّ إليه سبب آخَر، ومع هذا فلهما موانعُ تمنعهما عن الأثر، فكلُّ سبب فهو موقوفٌ على وجود الشروطِ وانتفاءِ الموانع، وليس في المخلوقات واحدٌ يصدُر عنه وحده شيء.
وهذا مما يبيِّن لك خطأَ المتفلسفة الذين قالوا: الواحِد لا يصدر عنه إلا واحدٌ، واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعيَّة كالمسخن والمبرد ونحو ذلك. فإن هذا غلطٌ؛ فإنَّ التسخينَ لا يكون إلا بشيئين: أحدهما: فاعِل كالنار، والثاني: قابل كالجسم القابل للسخونة والاحتراق، وإلا فالنار إذا وقعت على السَمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس فإن شعاعَها مشروط بالجسم المقابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك، فهذا الواحِد الذي قدَّروه في أنفسهم لا وجودَ له في الخارج"
(1)
.
وشيخ الإسلام ابن تيمية ضرب مثالًا موضحًا للمسألة فقال: "وبالتمييز بين هاتين القدرتَين يظهر لك قول من قال: القدرةُ مع الفعل، ومن قال: قبله، ومن قال: الأفعال كلُّها تكليف ما لا يطاق، ومن منَع ذلك؛ وتقف على أسرار المقالات، وإذا أشكل عليك هذا البيانُ فخذ مثلا من نفسك: أنت إذا كتبتَ بالقلم وضربتَ بالعصا ونجرت بالقدوم هل يكون القلَم شريكَك أو يضافُ إليه شيءٌ من نفس الفعل
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 133).
وصفاته؟ أم هل يصلح أن تلغيَ أثره وتقطَع خبرَه وتجعل وجوده كعدمه؟ أم يقال: به فعل وبه صنع -ولله المثل الأعلى- فإنَّ الأسباب بيد العبد ليسَت من فعلِه، وهو محتاج إليها لا يتمكَّن إلا بها، والله سبحانه خلق الأسبابَ ومسبباتها، وجعل خلق البعضِ شرطًا وسببًا في خلق غيره، وهو مع ذلك غنيٌّ عنِ الاشتراط والتسبُّب، ونظم بعضها ببعض، لكن لحكمة تتعلَّق بالأسباب وتعود إليها، والله عزيز حكيم"
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والمقصود هنا: أنه لا بدَّ من الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحَّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده
(2)
.
ولا بدَّ من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه".
الشرح
قال ابن القيم: "النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلي أمرين هما سببا السعادة:
1 -
الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد.
2 -
والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع.
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 391 (.
(2)
قول ابن عباس: "القدر نظام التوحيد" أخرجه الفريابي في القدر صفحة (143)، وضعفه الشيخ الألباني انظر ضعيف الجامع الصغير صفحة (602).
فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر.
فأبى المنحرفون إلا القدح بإنكاره في أصل التوحيد
أو القدح بإثباته في أصل الشرع
ولم تتسع عقولهم التي لم يلق الله عليها من نوره للجمع بين ما جمعت الرسل جميعهم بينه وهو القدر والشرع والخلق والأمر، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والنبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة وقد تقدم قوله: ((أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)). وإن العاجز من لم يتسع للأمرين"
(1)
قال ابن القيم: "وبالجملة فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد قال ابن عباس: ((الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه التوحيد)) "
(2)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لا بدّ له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميِّز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميِّزون به بين ما يفعلونه ويتركونه".
(1)
شفاء العليل 1/ 26.
(2)
شفاء العليل 1/ 65.
الشرح
بين المصنف رحمه الله هنا أهمية الشريعة المُلِحَّة بالنسبة للناس؛ فقال: "والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا".
قال ابن تيمية: "فَالنُّفُوسُ أَحْوَجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهَا إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ هَذَا إذَا فَاتَ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا. وَذَاكَ إذَا فَاتَ حَصَلَ الْعَذَابُ.
فَحَقَّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَذْلُ جُهْدِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِهِ إذْ هَذَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالسَّعَادَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ. وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ. إذْ لَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ"
(1)
وقال ابن القيم رحمه الله: "حَاجَة النَّاس إِلَى الشَّرِيعَة ضَرُورِيَّة فَوق حَاجتهم إِلَى كل شَيْء، وَلَا نِسْبَة لحاجتهم إِلَى علم الطِّبّ إِلَيْهَا، ألا ترى أَنْ أَكثر الْعَالم يعيشون بِغَيْر طَبِيب، وَلَا يكون الطَّبِيب إِلَّا فِي بعض المدن الجامعة، وَأما أهل البدو كلهم وَأهل الكفور كلهم وَعَامة بني آدم فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى طَبِيب، وهم أصح أبدانًا، وَأقوى طبيعة مِمَّنْ هُوَ متقيد بالطبيب، وَلَعَلَّ أعمارهم مُتَقَارِبَة، وَقد فطر الله بني آدم على تنَاول مَا يَنْفَعهُمْ وَاجْتنَاب مَا يضرهم، وَجعل لكل قوم عَادَة وَعرفًا فِي اسْتِخْرَاج مَا يهجم عَلَيْهِم من الأدواء، حَتَّى إن كثيرًا من أصُول الطِّبّ إِنَّمَا أخذت عَنْ عوائد النَّاس وعرفهم وتجاربهم.
وَأما الشَّرِيعَة فمبناها على تَعْرِيف مواقع رضى الله وَسخطه فِي حركات الْعباد الاختيارية، فمبناها على الْوَحْي الْمَحْض، وَالْحَاجة إِلَى [الشريعة أكثر من الحاجة إلى] التنفس فضلًا عَنْ الطَّعَام وَالشرَاب؛ لِأَن غَايَة مَا يقدر فِي عدم التنفس وَالطَّعَام وَالشرَاب موت الْبدن وتعطل الرّوح عَنهُ، وَأما مَا يقدر عِنْد عدم الشَّرِيعَة ففساد الرّوح وَالْقلب جملَة"
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى 1/ 5.
(2)
مفتاح دار السعادة (2/ 2).
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لا بدّ له من فعل وترك، فإن الإنسان همّام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أصدق الأسماءُ: حارثٌ وهَمَّام» ، وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة هو متحرك بها، فلا بد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟
وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم إياهم".
الشرح
الله عز وجل ركب ركَّب في الإنسان:
- قوةً في التفكير والعلم والنظر.
- وقوةً في الإرادة والعمل.
بيان القوة العلمية والقوة العملية في القلب
القلب معناه: الباطن، ومنه سمي البئر قليبًّا؛ لأنه يحتوي على الماء في باطنه.
وهل القلب هو الباطن فقط أم يتعلق به الأفكار التي هي في الدماغ؟
عندما ننظر نجد أنه يقصد به مجموع الأمرين، فعندما زكى ربنا تعالى النبي صلى الله عليه وسلم
زكاه بأمرين فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2].
وعندما زكى النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء زكاهم بقوله: «الرَّاشدين المهديين»
(1)
، فعندما تجمع بين الآية والحديث تجد أنهما متقابلين فنفي الضلال هو ضد الرشد ونفي الغواية هي ضد الهدى.
والرشد يكون في العقل، قال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء الآية: 6].
وهاتان القوتان (قوة العلم وقوة العمل) جمع بينهما النبي بقوله (أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ"
(2)
لأن معنى (حارث) أي: عامل، ومعنى (همام): مريد.
قال ابن القيم رحمه الله: "وينبغي أن يعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به، وإلا استعملها في ضده، فالإنسان حارث هَمَّام بالطبع، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ"، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: المريد، فإن النفس متحركة بالإرادة، وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها، والإرادة تستلزم مرادًا يكون متصوَّرًا لها، متميزًا عندها، فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته، وأرادته ولا بد"
(3)
.
وقال رحمه الله تعليقًا على سورة العصر-: "ولما كان الإنسان له قوتان قوة العلم وقوة العمل وله حالتان حالة يأتمر فيها بأمر غيره وحالة يأمر فيها غيره استثنى
(1)
أخرجه الترمذي (5/ 44 رقم 2676) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أبو داود (4/ 287 رقم 4950).
(3)
إغاثة اللهفان (1/ 25).
سبحانه من كمل قوته العلمية بالإيمان وقوته العملية بالعمل الصالح وانقاد لأمر غيره له بذلك وأمر غيره به من الإنسان الذي هو في خسر، فإن العبد له حالتان حالة كمال في نفسه وحالة تكميل لغيره وكماله وتكميله موقوف على أمرين علم بالحق وصبر عليه فتضمنت الآية جميع مراتب الكمال الإنساني من العلم النافع والعمل الصالح والإحسان إلى نفسه بذلك وإلى أخيه به وانقياده وقبوله لمن يأمره بذلك"
(1)
.
فبين ابن القيم- رحمه الله أن مدار كمال العبد وسعادته وصلاحه في الدنيا والآخرة متوقف على الأمور الأربعة التي في سورة العصر، وهي الإيمان بالله (الذي هو قوته العلمية) والعمل الصالح (الذي هو قوته العملية)، والتواصي بالحق، (وهو الدعوة إلى الله)، والتواصي بالصبر، وهذه الأمور الأربعة هي مدار الشريعة.
وقال ابن القيم عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأعراف الأيات: 29 - 30].
"هذه الآية تضمنت قواعد الدين علمًا وعملًا واعتقادًا.
فقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ {أمر سبحانه فيها بالقسط هو الذي هو حقيقة شرعه ودينه، وهو يتضمن التوحيد فإنه أعدل العدل، والعدل في معاملة الخلق، والعدل في العبادة، وهو الاقتصاد في السنة.
وقوله} وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ {يتضمن الأمر بالإقبال على الله وإقامة عبوديته في ثبوته، ويتضمن الإخلاص له وهو عبوديته وحده لا شريك له فهذا ما فيها من العمل.
(1)
التبيان في أقسام القرآن (ص: 86).
ثم أخبر بمبدأهم ومعادهم فتضمن ذلك حدوث الخلق وإعادته فذلك الإيمان بالمبدأ والمعاد فقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} .
ثم أخبر عن القدر الذي هو نظام التوحيد فقال {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} فتضمنت الآية الإيمان بالقدر والشرع والمبدأ والمعاد والأمر بالعدل والإخلاص.
ثم ختم الآية بذكر حال من لم يصدق هذا الخبر ولم يطع هنا الأمر بأنه قدوا للشيطان دون ربه وأنه على ضلال وهو يحسب أنه على هدى فقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ} . والله أعلم"
(1)
(1)
شفاء العليل 1/ 292 بتصرف يسير.
اتفاق الناس على أن الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يعرف حسنها وقبحها بالعقل، أم ليس لها حسن وقبح يعرف بالعقل؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبيّنا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه، فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سببًا لما يحبّه الفاعل ويلتذّ به، وسببًا لما يبغضه ويؤذيه.
وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعا أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعلم إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك.
وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب هو مما دل عليه قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى الآية: 52]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ الآية: 50]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء الآية: 45].
ولكن طائفة توهمت أن للحسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل،
وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا، فكلتا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح والعقليين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت.
ثم إن كلتا الطائفتين لما كانت تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلت عليه الشواهد العقلية- تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته وأنه لا تتصور قدرته على ما هو قبيح، أو أنه سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لا يفعله لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه؟ على قولين.
والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محمودًا على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة أو تركه من العذاب والنقمة. والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يؤمر به وينهى عنه".
الشرح
سبق الكلام على مسألة التحسين والتقبيح عند قول المصنف: "فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل".
وتم ذكر الخلاف والأقوال في هذه المسألة، لكن الحاجة تمس هنا إلى أعادة ذكر الأقوال في المسألة لكون المصنف أشار إليها هنا على وجه التفصيل.
قبل الشروع في بيان الحكم الشرعي لمسألة التحسين والتقبيح، لا بد من بيان
محل النزاع في هذه المسألة، وبيان ذلك فيما يلي:
الحسن والقبح له اعتبارات ثلاثة:
- الاعتبار الأول: بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته، فما لاءم الطبع فهو حسن؛ كإنقاذ الغريق، وما نافر الطبع فهو قبيح؛ كاتهام البريء.
- الاعتبار الثاني: بمعنى الكمال والنقص، فالحسن: ما أشعر بالكمال؛ كصفة العلم، والقبيح: ما أشعر بالنقص؛ كصفة الجهل.
والحسن والقبح بهذين الاعتبارين: لا خلاف أنهما عقليان، بمعنى أن العقل يستقل بإدراكهما من غير توقف على الشرع.
- الاعتبار الثالث: بمعنى المدح والثواب، والذم والعقاب.
والحسن والقبح بهذا الاعتبار: محل نزاع بين الطوائف
(1)
، فقد وقع الخلاف حول هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، والفعل حسن أو قبيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبين لتلك الصفات فقط.
وهذا هو مذهب المعتزلة والكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم
(2)
.
القول الثاني: أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد
(1)
معالم أصول الفقه للجيزاني (ص: 330).
(2)
انظر ((المغني)) لعبدالجبار (جـ 6 - القسم الأول - ص: 26 - 34، 59 - 60)، و ((المعتمد في أصول الفقه)) لأبي الحسين البصري (1/ 363)، و ((البحر الزخار)) لابن المرتضي (1/ 59)، و ((العقل عند المعتزلة)) (ص: 98 - 100)، و ((المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية)) (ص: 137).
شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: ولو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا.
وهذا قول الأشاعرة ومن وافقهم
(1)
.
القول الثالث: التفصيل، لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها، غير صحيح، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذا توضيحا كاملا، فيقسم الأفعال إلى ثلاثة أنواع:
"أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبًا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولا، وهذا خلاف النص، قال تعالى:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)] الإسراء الآية: 15
…
[
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء يمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
(1)
انظر ((الإرشاد)) (ص: 258 وما بعدها)، و ((المحصل)) للرازي (ص: 202)، و ((شرح المواقف)) (8/ 181 - 182).
لِلْجَبِينِ)] الصافات الآية: 103 [حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك:((أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك))
(1)
، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به.
وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع.
والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع.
وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب"
(2)
.
وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقا فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان:
أحدهما: كون الفعل ملائمًا للفاعل نافعًا له، أو كونه ضارًا له منافرًا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل
(3)
.
الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف:
• فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.
• والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قيل فيه افعل، والقبيح ما قيل لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.
(1)
رواه البخاري (3464)، ومسلم (2964) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
((مجموع الفتاوى)) (8/ 434 - 436).
(3)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 90، 309 - 301)، و ((منهاج السنة)) (1/ 364) - مكتبة الرياض الحديثة.
• جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول"
(1)
.
(1)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 677 - 686، 11/ 676 - 677).
خطأ من شهد الربوبية العامة فقط
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فمن نظر إلى القدر فقط، وعظّم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميّز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشد والغي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار، وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه، فهم مخالفون أيضًا لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لا بد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء، فيميّز بين ما يؤكل ويشرب، وما لا يؤكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية.
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوى عنده الأمران دائمًا فقد افترى، وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغله عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع، فإن النائم لم يسقط إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسره تارة وما يسوؤه أخرى، فالأحوال التي يُعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقًا.
ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقًا، وعظّم هذا المقام فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدرًا وشرعًا: غلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن وجود هذا،
ولا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز والعقل والمعرفة.
وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد أن لا أريد، أو إن العارف لا حظّ له، أو إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل، ونحو ذلك- فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.
ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل، ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدِّين والعقل".
الشرح
فهذه العبودية الاضطرارية هي التي يُتعب الصوفية أنفسهم في الوصول إليها، فهم يعتبرونها الغاية التي يصل إليها العابد، ويفنون أعمارهم في شهود الحقيقة الكونية، مع أنه يشترك في معرفتها وشهودها المؤمن والكافر والبر والفاجر، حتى إبليس- الشيطان الرجيم- مُعترف بهذه الحقيقة؛ حيث قال إبليس فيما قصَّه الله في كتابه عنه:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر الآية: 36]، فهو مقر بالربوبية، ولكنه لما استكبر عن تنفيذ الأمر ما نفعه هذا الإقرار؛ فكفر، وتوعده الله بالعذاب الأليم؛ قال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة الآية: 34].
وكذلك أهل النار قَالُوا: {رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ} [المؤمنون الآية: 106]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم:{وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا} [الأنعام الآية: 30]، فهم معترفون بربوبية الله تعالى، ولكنهم لم يقوموا بعبودية الألوهية (الاختيارية).
لذلك كان الاشتغال بهذا النوع من العبودية اشتغال بأمر قد فُطر الناس عليه.
وأما النوع الآخر وهو (العبودية الاختيارية)؛ فهي العبودية التي يفعلها الإنسان عن اختيار وإرادة، ولو شاء لتركها.
وهذه العبودية لا تكون إلا من المكلفين الذين كلفهم الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي؛ فهؤلاء هم الذين يعبدون الله عز وجل، وهم المختارون لهذه العبادة عن رضا وطواعية.
ومن أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؛ وقد قص القرآن أن جميع الرسل قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف الآية: 59]، أي: هو وحده المستحق للعبادة دون سواه، ولا يَقبل أن تُشركوا معه غيره فيها.
فهي التي يسمى بها الإنسان مؤمنًا، وبها ينجو من عذاب الآخرة، ويفوز بالنعيم في الجنة.
قال ابنُ أبي العِزِّ الحنفي رحمه الله: «وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كَذَّبوا الرسل. كما حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين تَقاسموا بالله، أي: تحالفوا بالله؛ لنَبيتنَّه وأهله. فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله على قَتل نَبِيِّهم وأهلِه، وهذا بَيِّنٌ أنَّهم كانوا مؤمنين بالله إيمانَ المشركين.
فَعُلِم أنَّ التوحيدَ المطلوبَ هو توحيدُ الإلهيَّةِ، الذي يتضمن توحيد الربوبية؛ قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك
الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم الآية: 30]»
(1)
وعلى العبد ألا يخلط بين (الإرادة الكونية القدريَّة) وبين (الإرادة الدِّينية الشرعية).
فالإرادة الكونية القدريَّة: هي ما يقع في الكون بقدر الله وتدبيره. ويشترك في شهودها البَر والفاجر.
وأمَّا الإرادة الدِّينية الشرعية: فهي ما شرعه وأمر به سبحانه، ورضيه وأحبَّه من عباده.
وعدم التفريق بين هذين النوعين جَرَّ طوائف إلى الوقوع في أنواع الإلحاد والكفر؛ يقول شيخ الإسلام رحمه الله هنا: «فَمن وَقف عِنْد هَذِه الْحَقِيقَة وَعند شهودها، وَلم يقم بِمَا أَمر الله بِهِ مِنْ الحَقِيقَة الدِّينِيَّة الَّتِي هِيَ عِبَادَته الْمُتَعَلّقَة بألوهيته وَطَاعَة أمره وَأمر رَسُوله، كَانَ من جنس إِبْلِيس وَأهل النَّار.
فَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِك: أَنَّه من خَواص أَوْلِيَاء الله وَأهل الْمعرفَة وَالتَّحْقِيق، الَّذين سَقط عَنْهُم الْأَمر وَالنَّهي الشَّرعيان، كَانَ مِنْ أشر أهل الكفر والإلحاد».
فبعضُ الصوفية وبعضُ أهل الكلام قد فَسَّروا (لا إله إلا الله) بأنه لا خالق إلا الله.
ويزعمُ أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة، ويفرقون بين العامة والخاصة، وخلاصة قولهم: أنهم يرون أن العامة هم الذين لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهودًا كافيًا، وأن الخاصة هم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهودًا كافيًا.
ووصفهم للمسلمين بأنهم (العامة) وصف انتقاص؛ لأنهم يقولون: إنهم الذين
(1)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 33).
لم يصلوا إلى شهود الحقيقة الكونية، وهي- عندهم- أن يعلم أن الإنسان لا صفات له ولا أفعال له، وإنما الفاعل على الحقيقة هو الله، وأنه عبارة عن محل لفعل الله؛ مثل الإناء عندما يكون محلًّا للماء، وكالريشة التي يحركها الهواء، يعني: ليس فاعلًا فعلًا اختياريًّا، وإنما الله عز وجل هو الذي يحركه، والإنسان مسلوب الإرادة، مجبور على فعله.
ويترتب على هذا القول: أن القول الذي يقوله الإنسانُ ليس قولَه؛ بل هو قولُ الله، وأنَّ الفعل الذي يقوم به الإنسان ليس فعلَه، وإنما هو فعلُ الله.
ويترتب على هذا أيضًا: أنه بسبب شهوده لهذه الحقيقة تَسقط عنه التكاليف؛ لأنه لا فِعل له؛ فالتكليف يحصل عندما يكون للإنسان فِعل، ثم يحاسب على هذا الفعل، ولكن إذا لم يكن له فعل؛ فكيف يحاسب عليه؟ وكيف يجازى على فعله مع أنه ليس هو فاعله حقيقة؟ وإنما الفعل الذي فيه هو فِعل الله؛ لذلك أسقطوا التكاليف الشرعية.
وقال ابن تيمية: "وَالْحَقُّ الْمُبِينُ: أَنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَهَؤُلَاءِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُمْ الَّذِينَ زَكُّوا نُفُوسَهُمْ وَكَمَّلُوهَا كَمَّلُوا الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْإِرَادِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص الآية: 45]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النجم الآيات: 1 إلى 4 [وَقَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة الآيات: 6 - 7 [وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه الآية: 123]، وَقَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة الآية: 5]، وَقَالَ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر الآية: 10]، وَقَالَ تَعَالَى:{إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر الآية: 3]. "
(1)
.
وعرف عن بعض الصوفية المتأخرين انحرافهم في باب الاتباع وهذا خلاف ما كان عليه قدماؤهم وفي هذا قال ابن تيمية: "وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ كَلَامُهُ كُلُّهُ يَدُورُ عَلَى اتِّبَاعِ الْمَأْمُورِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ وَلَا يُثْبِتُ طَرِيقًا تُخَالِفُ ذَلِكَ أَصْلًا لَا هُوَ وَلَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَيُحَذِّرُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْقَدَرِ الْمَحْضِ بِدُونِ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا أَصَابَ أُولَئِكَ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْقَدَرَ وَتَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَغَابُوا عَنْ الْفَرْقِ الْإِلَهِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَمَكْرُوهِهِ، وَيُثْبِتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَجِبُ رِعَايَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ زَاغَ عَنْهُ فَضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ هَذَا مَنْ تَوَجَّهَ بِقَلْبِهِ وَانْكَشَفَتْ لَهُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَصَارَ يَشْهَدُ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ والقيومية الشَّامِلَةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْفُرْقَانُ حَتَّى يَشْهَدَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَبَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ وَبَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَإِلَّا خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ خُرُوجِهِ عَنْ هَذَا فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ قَدْ أَقَرَّ بِهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . وَإِنَّمَا يَصِيرُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا حَنِيفًا مُوَحِّدًا إذَا شَهِدَ: أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بِحَيْثُ لَا يُشْرِكُ مَعَهُ أَحَدًا فِي تَأَلُّهِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَعُبُودِيَّتِهِ وَإِنَابَتِهِ إلَيْهِ وَإِسْلَامِهِ لَهُ وَدُعَائِهِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَمُوَالَاتِهِ فِيهِ؛ وَمُعَادَاتِهِ فِيهِ؛ وَمَحَبَّتِهِ مَا يُحِبُّ؛ وَبُغْضِهِ مَا يُبْغِضُ وَيَفْنَى بِحَقِّ التَّوْحِيدِ عَنْ بَاطِلِ الشِّرْكِ؛ وَهَذَا فَنَاءٌ يُقَارِنُهُ الْبَقَاءُ فَيَفْنَى عَنْ تَأَلُّهِ مَا سِوَى اللَّهِ بِتَأَلُّهِ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ:
(1)
مجموع الفتاوى 2/ 96.
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَنْفِي وَيَفْنَى مِنْ قَلْبِهِ تَأَلُّهَ مَا سِوَاهُ؛ وَيُثْبِتُ وَيُبْقِي فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهَ اللَّهِ وَحْدَهُ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ -: ((مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ((مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)) وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ: ((لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهَا حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مَاتَ مُسْلِمًا)). وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَلَّا نَمُوتَ إلَّا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران الآية: 102]، وَقَالَ الصِّدِّيقُ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف الآية 101]، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ الْمَوْتَ وَلَمْ يَتَمَنَّهُ. وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ يَمُوتُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ فَسَأَلَ الصِّفَةَ لَا الْمَوْصُوفَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ؛ وَأَمَرَ بِهِ خَلِيلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ؛ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ"
(1)
.
وهذا- لا شكَّ- قولٌ في غاية الكفر، والسبب هو: أنهم جعلوا هذه الأفعال القبيحة التي تَصدر عنهم من كفر أو فسق- هي فعل الله؛ فجَرَّدوا الإنسان من إرادته.
مع أنَّ هذا مخالف لحقيقة الإنسان في الدنيا الآن، ومخالف لشعوره، ومخالف للواقع الذي يعيشه، وهو أنَّ له إرادة وله عمل، وهو محاسب على إرادته وعمله، بالإضافة إلى النصوص المتوافرة من الكتاب والسنة المثبتة للإنسان إرادة ومشيئة واختيارًا وسعيًا وكسبًا.
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 368 - 370.
المراد بالفناء
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والفناء يُراد به ثلاثة أمور:
أحدها: وهو الفناء الديني الشرعي، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، هو أن يَفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به، فيَفنى عن عبادة غيره بعبادته، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه، بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة الآية: 24]، فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله.
وأما الفناء الثاني- وهو الذي يذكره بعض الصوفية: وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى؛ فيفنى بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، بحيث قد يغيب عن شعوره بنفسه وبما سوى الله- فهذا حال ناقص، قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله، ولهذا لم يعرض مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين.
ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضالٌّ ضلالا مبينًا، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك.
وأما الثالث: فهو الفناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين، فهذا قول أهل الإلحاد والاتحاد، الذين هم من أضل العباد".
الشرح
يوجد في الصوفية مَنْ يكون عنده شيء من الشرك الأصغر، ويوجد منهم من يكون عنده من الشرك الأكبر مع إقراره بالنبوة وبالإلهية لله عز وجل في الجملة، ويوجد منهم من هو أشد من ذلك، وأمَّا أعلاهم زندقة فهم القائلون بالحلول وأصحاب وحدة الوجود.
ولقد كثرت المصطلحات عند المتأخرين كثرة كبيرة، وأغلبها أراد بها أصحابها التلبس بالحق للوصول إلى الباطل؛ تحقيقًا لأهوائهم المريضة، وعقولهم السقيمة، وأكثر من جاء بهذه المصطلحات هم أهل البدع المحدثة، الذين أرادوا التلبيس على أهل المنهج الحق، ومن هذه المصطلحات مصطلح (الفناء)، وقد بَيَّن شيخُ الإسلام هنا هذا المصطلح، وحقيقته وأقسامه، وما يجوز منه وما لا يجوز.
والفناء: اصطلاح صوفي، وهو متعلق بالتعبد ونتيجته عند الصوفية، ونتيجة التعبد عندما يَشتغل به الإنسان- حسب فهمهم وطريقتهم- أن يصل إلى مرحلة الفناء.
والمقصود بالفناء: الغَيْبَة، أي: أن يَغيب عقل الإنسان الخارجي وحِسُّه الظاهري الذي يستشعر به من حوله، فلا تكون عنده قدرة على استشعار ما حوله من الأشخاص والأماكن والأحوال التي حوله.
فما أتى به الصوفية من كون الإنسان يمكن له أن يترك الشريعة لوجود الحقيقة، أو يترك الأحكام، أو تلغى ظواهر النصوص الشرعية من أجل الحقيقة- فاسد
وباطل، وهذا يُشبه قول الباطنية: بأن النصوص لها ظاهر وباطن، ثم يفسرون الباطن بالطريقة التي يَرونها.
وليس الفناء كله مذموم، وإن كان الاصطلاح أصلًا اصطلاحًا صوفيًّا، ولكن كون الإنسان يغيب عمن حوله هذا في حد ذاته ليس مذمومًا؛ لأنه قد يَستغرق الإنسان في التعبد إلى درجة أنَّه لا يشعر بمن حوله، وهذا الاستغراق في التعبد وفق ما أمر الله سبحانه وتعالى به وعلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة ليس فيه إشكال، كما يروى عن بعض الصالحين: أنه كان يصلي في المسجد وسقط الجدار فيه، وفَزع أهل السوق لصوت سقوط الجدار، وهو قائم يصلي في المسجد لم يَنتبه لذلك من خشوعه في صلاته.
ولكن الطامة أن يُعَرَّف الفناء بأنه: اختفاء عن الأمور الظاهرية؛ لاندماجه بها، وأن هذه هي حقيقة الألوهية، كما يقول دعاة وحدة الوجود.
قال ابن تيمية: "فَإِنْ الفناء ثَلَاثَة أَنْواع:
نوع للكاملين من الأَنْبِيَاء والأولياء.
ونَوع للقاصدين من الأَوْلِيَاء والصَّالِحِينَ.
ونَوع لِلمُنَافِقين المُلحِدِينَ المشبهين.
فَأَما الأول: فَهُو الفناء عَنْ إِرَادَة مَا سوى الله؛ بِحَيْثُ لَا يُحب إِلَّا الله، ولَا يعبد إِلَّا إِيَّاه، ولَا يتوكل إِلَّا عَلَيْهِ، ولَا يطْلب من غَيره. وهُو المَعْنى الَّذِي يجب أَنْ يقْصد بقول الشَّيْخ أبي يزِيد؛ حَيْثُ قَالَ:(أُرِيد ألَّا أُرِيد إِلَّا مَا يُرِيد)، أَي: المُرَاد المحبوب المرضي، وهُو المُرَاد بالإرادة الدِّينِيَّة. وكَمَال العَبْد: أَلا يُرِيد ولَا يُحب ولَا يرضى إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله ورَضِيَه وأحبه، وهُو مَا أَمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَوْ اسْتِحْبَاب، ولَا يُحب إِلَّا مَا يُحِبهُ الله؛ كالملائكة والأنبياء والصَّالِحِينَ، وهَذَا معنى قَوْلهم فِي قَوْله:{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشُّعَرَاء الآية: 89]، قَالُوا: هُو السَّلِيم مِمَّا سوى الله، أَوْ مِمَّا سوى عبَادَة
الله، أَوْ مِمَّا سوى إِرَادَة الله، أَوْ مِمَّا سوى محبَّة الله، فَالمَعْنى واحِد، وهَذَا المَعْنى إِنْ سُمِّي فنَاء أَوْ لم يسم، هُو أول الإِسْلَام وآخره، وباطن الدَّين وظَاهره.
وأمَّا النَّوْع الثَّانِي: فَهُو الفناء عَنْ شُهُود السِّوى، وهَذَا يحصل لكثير من السَّالكين؛ فَإِنَّهُم لفرط انجذاب قُلُوبهم إِلَى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قُلُوبهم عَنْ أَنْ تَشهد غير مَا تعبد، وترى غير مَا تقصد- لَا يخْطر بقلوبهم غير الله، بل ولَا يَشْعُرُونَ إِلَّا بِهِ، كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى:{وأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا إِنْ كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَنْ ربطنا على قَلبهَا} [القَصَص الآية: 10]، قَالُوا: فَارغًا من كل شَيْء إِلَّا من ذكر مُوسَى. وهَذَا كثيرًا مَا يعرض لمن دهمه أَمر من الأُمُور؛ إِمَّا حب، وإِمَّا خوف، وإِمَّا رَجَاء؛ يبْقى قلبه منصرفًا عَنْ كل شَيْء، إِلَّا عَمَّا قد أحبَّه أَوْ خافه أَوْ طلبه؛ بِحَيْثُ يكون عِنْد استغراقه فِي ذَلِك لَا يشْعر بِغَيْرِهِ.
فَإِذا قوي على صَاحب الفناء هَذَا، فَإِنَّهُ يَغيب بموجوده عَنْ وجوده، وبمشهوده عَنْ شُهُوده، وبمذكوره عَنْ ذِكره، وبمعروفه عَنْ مَعْرفَته، حَتَّى يَفنى مَنْ لم يكن، وهِي المَخْلُوقَات؛ العَبْد فَمن سواهُ، ويبقى مَنْ لم يزل، وهُو الرب تَعالَى. والمرَاد: فناؤها فِي شُهُود العَبْد وذِكره، وفناؤه عَنْ أَنْ يُدْرِكهَا أَوْ يشهدها، وإِذا قوي هَذَا ضعف المُحب حَتَّى يضطرب فِي تَمْيِيزه، فقد يظنُّ أَنه هُو محبوبه، كَمَا يُذكر «أَنْ رجلًا ألقى نَفسه فِي اليم، فَألقى مُحِبُّه نَفسه خَلفه، فَقَالَ: أَنا وقعتُ، فَمَا أوقعك خَلفي؟ قَالَ: غِبْتُ بك عني؛ فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي» .
وهَذَا الموضع زَلَّت فِيهِ أَقوامٌ، وظنوا أَنَّه اتِّحَاد، وأَنَّ المُحب يتحد بالمحبوب، حَتَّى لَا يكون بَينهمَا فرقٌ فِي نفس وجودهما. وهَذَا غلط؛ فَإِنْ الخَالِق لَا يتحد بِهِ شَيْء أصلًا، بل لَا يُمكن يَتَّحد شَيْء بِشَيءٍ، إِلَّا إِذا استحَالَا وفسدت حَقِيقَة كلٍّ مِنْهُمَا، وحصل مِنْ اتحادهما أَمر ثَالِث لَا هُو هَذَا ولَا هَذَا، كَمَا إِذا اتَّحد المَاء واللَّبن، والمَاء
والخمر، ونَحْو ذَلِك، ولَكِن يتحد المُرَاد والمحبوب، والمرَاد والمَكْرُوه، ويتفقان فِي نوع الإِرَادَة والكَرَاهَة؛ فيحب هَذَا مَا يحب هَذَا ويُبغض هَذَا مَا يُبغض هَذَا، ويَرضى مَا يرضى، ويسخط مَا يسْخط، ويَكرهُ مَا يكره، ويُوالي مَنْ يوالي، ويُعادي من يعادي.
وهَذَا الفناء كُله فِيهِ نقص.
وأكابر الأَوْلِيَاء- كَأبي بكر وعُمَر والسَّابقين الأَولين من المُهَاجِرين والأَنْصَار- لم يقعوا فِي هَذَا الفناء؛ فضلًا عَمَّن هُو فَوْقهم من الأَنْبِيَاء، وإِنَّمَا وقع شَيْء من هَذَا بعد الصَّحَابَة.
وكَذَلِكَ كل مَا كَانَ من هَذَا النمط مِمَّا فِيهِ غيبَة العقل وعدم التَّمْيِيز لما يَرِدُ على القلب مِنْ أَحْوال الإِيمَان.
فَإِنَّ الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَانُوا أكمل وأقوى وأثبت فِي الأَحْوال الإيمانية من أَنْ تغيب عُقُولهمْ، أَوْ يحصل لَهُمْ غَشي أَوْ صَعْق أَوْ سُكر أَوْ فنَاء أَوْ وَلَه أَوْ جُنُون.
وإِنَّمَا كَانَ مبادئ هَذِه الأُمُور فِي التَّابِعين من عُبَّاد البَصْرَة؛ فَإِنَّهُ كَانَ فيهم مَنْ يُغشى عَلَيْهِ إِذا سَمِع القُرْآن، ومِنْهُم مَنْ يَمُوت؛ كَأبي جهير الضَّرِير، وزُرارة بن أوفى قَاضِي البَصْرَة.
وكَذَلِكَ صَار فِي شُيُوخ الصُّوفِيَّة مَنْ يَعرض لَهُ من الفناء والسُّكر مَا يضعف مَعَه تَمْيِيزه، حَتَّى يَقُول فِي تِلكَ الحَال من الأَقْوال مَا إِذا صَحا عرف أَنه غالطٌ فِيهِ، كَمَا يحْكى نَحْو ذَلِك عَنْ مثل أبي يزِيد وأبي الحُسَيْن النوري وأبي بكر الشبلي وأمثالهم، بِخِلَاف أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي، ومعروف الكَرْخِي، والفضيل بن عِيَاض، بل وبِخِلَاف الجُنَيْد وأَمْثَاله، مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولهمْ وتمييزهم يَصحبهم فِي أَحْوالهم، فَلَا يَقعون فِي مثل هَذَا الفناء والسُّكر ونَحْوه، بل الكُمَّل تكون قُلُوبهم لَيْسَ فِيهَا سوى محبَّة الله وإرادته وعبادته، وعِنْدهم من سَعَة العلم والتمييز مَا يشْهدُونَ [بِهِ] الأُمُور على مَا هِيَ عَلَيْهِ، بل
يَشْهدُونَ المَخْلُوقَات قَائِمَة بِأَمْر الله مُدبَّرَة بمشيئته، بل مُستجيبة لَهُ قانتة لَهُ؛ فَيكون لَهُمْ فِيهَا تَبصرة وذكرى، ويكون مَا يَشهدونه مِنْ ذَلِك مؤيدًا ومُمِدًّا لما فِي قُلُوبهم من إخلاص الدِّين، وتَجْرِيد التَّوْحِيد لَهُ والعِبَادَة لَهُ وحده لَا شريك لَهُ.
وهَذِه هِيَ الحَقِيقَة الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا القُرْآن، وقَامَ بهَا أهلُ تَحْقِيق الإِيمَان والكُمَّل من أهل العرْفَان، ونَبِينَا صلى الله عليه وسلم إِمَام هَؤُلَاءِ وأكملهم، ولِهَذَا لما عُرج بِهِ إِلَى السَّمَاوات وعاين مَا هُنَالكَ من الآيَات، وأُوحي إِلَيْهِ مَا أُوحِي من أَنْواع المُنَاجَاة- أصبح فيهم وهُو لم يَتَغَيَّر حَاله، ولَا ظهر عَلَيْهِ ذَلِك، بِخِلَاف مَا كَانَ يظْهر على مُوسَى من التَّغَشِّي صلَّى الله عَلَيْهِم وسَلَّم أَجْمَعِينَ.
وأمَّا النَّوْع الثَّالِث: مِمَّا قد يُسَمَّى فنَاء، فَهُو أَنْ يَشْهد أَنْ لَا مَوْجُود إِلَّا الله، وأَن وجود الخَالِق هُو وجود المَخْلُوق، فَلَا فرق بَين الربِّ والعَبْد، فَهَذَا فنَاء أهل الضلال والإلحاد الواقعين فِي الحُلُول والاتحاد، وهَذَا يبرأ مِنْهُ المَشَايِخ، إِذْ قَالَ أحدهم: مَا أرى غيرَ الله، أَوْ لَا أنظر إِلَى غير الله، ونَحْو ذَلِك؛ فمرادهم بذلك مَا أرى رَبًّا غَيره، ولَا خَالِقًا ولَا مُدبرًا غَيره، ولَا إِلَهًا لي غَيره، ولَا أنظر إِلَى غَيره محبَّة لَهُ، أَوْ خوفًا مِنْهُ، أَوْ رَجَاء لَهُ؛ فَإِنْ العين تَنظر إِلَى مَا يتَعَلَّق بِهِ القلب؛ فَمن أحبَّ شَيْئًا أَوْ رجاه أَوْ خافه التفت إِلَيْهِ، وإِذا لم يكن فِي القلب مَحبَّة لَهُ ولَا رَجَاء لَهُ ولَا خوف مِنْهُ ولَا بغض لَهُ ولَا غير ذَلِك مِنْ تعلق القلب لَهُ- لم يقْصد القلب أَنْ يلتَفت إِلَيْهِ، ولَا أَنْ ينظر إِلَيْهِ، ولَا أَنْ يرَاهُ، وإِن رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَة مُجَرَّدَة- كَانَ كمن لَو رأى حَائِطًا ونَحْوه مِمَّا لَيْسَ فِي قلبه تعلُّق بِهِ.
والمشايخ الصَّالحون رضي الله عنهم يذكرُونَ شَيْئا من تَجْرِيد التَّوْحِيد وتَحْقِيق إخلاص الدَّين كُله؛ بِحَيْثُ لَا يكون العَبْدُ مُلتفتًا إِلَى غير الله، ولَا نَاظرًا إِلَى مَا سواهُ؛ لَا حبًّا لَهُ، ولَا خوفًا مِنْهُ، ولَا رَجَاء لَهُ، بل يكون القلب فَارغًا من المَخْلُوقَات، خَالِيا مِنْهَا لَا ينظر
إِلَيْهَا إِلَّا بِنور الله، فَبِالحقِّ يَسمع، وبالحق يبصرُ، وبالحق يبطش، وبالحق يَمشي؛ فيحب مِنْهَا مَا يُحِبهُ الله، ويُبغض مِنْهَا مَا يبغضه الله، ويوالي مِنْهَا مَا والَاهُ الله، ويُعادي مِنْهَا مَا عَادَاهُ الله، ويخَاف الله فِيهَا، ولَا يخافها فِي الله، ويرجو الله فِيهَا، ولَا يرجوها فِي الله، فَهَذَا هُو القلب السَّلِيم الحنيف المُوَحِّد المُسلم المُؤمن المُحَقق العَارِف بِمَعْرِفَة الأَنْبِيَاء والمُرْسلِينَ وبحقيقهم وتوحيدهم.
فَهَذَا النَّوْع الثَّالِث- الَّذِي هُو الفناء فِي الوُجُود- هُو تَحْقِيق آل فِرْعَوْن ومَعرفتهم وتوحيدهم؛ كالقَرَامطة
(1)
وأمثالهم.
وأما النَّوْع الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاع الأَنْبِيَاء فَهُو الفناء المَحْمُود؛ الَّذِي يكون صَاحبه بِهِ مِمَّنْ أثنى الله عَلَيْهِم من أوليائه المُتَّقِينَ، وحِزبه المُفلحين وجنده الغالبين.
ولَيْسَ مُرَاد المَشَايِخ والصَّالِحِينَ بِهَذَا القَوْل: أَنْ الَّذِي أرَاهُ بعيني من المَخْلُوقَات هُو رب الأَرْض والسَّمَاوات، فَإِنْ هَذَا لَا يَقُوله إِلَّا مَنْ هُو فِي غَايَة الضلال والفساد؛ إِمَّا فَسَاد العقل، وإِمَّا فَسَاد الِاعْتِقَاد؛ فَهُو مُتَرَدِّدٌ بَين الجُنُون والإلحاد"
(2)
.
(1)
القرامطة: حركة باطنية، تَنتسب إلى شخص اسمه حمدان بن الأشعث، ويُلَقَّب بقرمط؛ لقصر قامته وساقيه، وهو من خوزستان في الأهواز، ثم رحل إلى الكوفة. وقد اعتمدت هذه الحركة التنظيم السري العسكري، وكان ظاهرها التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وحقيقتها: الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية.
(2)
مجموع الفتاوى 6/ 119.
مخالفة الجبرية للعقل والقياس
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله، فإنه إذا كان مشاهدًا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور، فعومل بموجب ذلك مثل أن يُضرب ويجاع حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع- فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد نقض قوله، وخرج عن أصل مذهبه، وقيل له: هذا الذي فعله مقضي مقدور، فخلق الله وقدره ومشيئته متناول لك وله وهو يعمّكما، فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له. فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر، ويعرض عن الأمر والنهي".
الشرح
قال ابن تيمية: "فَإِنَّ الْقَدَرَ إنْ كَانَ حُجَّةً فَهُوَ حُجَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ حُجَّةً لِأَحَدِ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ شَتَمَهُ شَاتِمٌ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ أَوْ أَفْسَدَ أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَمَتَى لَامَهُ أَوْ ذَمَّهُ أَوْ طَلَبَ عُقُوبَتَهُ أَبْطَلَ الِاحْتِجَاجَ بِالْقَدَرِ.
وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَرْضَاهُ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى بَلْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَقْلِ مُحَالٌ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الْجَائِعَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْخُبْزِ وَالتُّرَابِ وَالْعَطْشَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالسَّرَابِ فَيُحِبُّ مَا يُشْبِعُهُ وَيُرْوِيهِ؛ دُونَ مَا لَا يَنْفَعُهُ وَالْجَمِيعُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْحَيُّ - وَإِنْ كَانَ مَنْ كَانَ - لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَيُنَعِّمُهُ وَيَسُرُّهُ وَبَيْنَ مَا يَضُرُّهُ وَيُشْقِيهِ وَيُؤْلِمُهُ. وَهَذَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ. "
(1)
قال ابن القيم: "فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهادا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه.
وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه.
وإذا قدر له أن يرزق الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح أو التسري والوطء.
وإذا قدر له أن يستغل من أرضه من المغل كذا وكذا لم ينله إلا بالبذر وفعل أسباب الزرع.
وإذا قدر الشبع والري فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب واللبس.
وهذا شأن أمور المعاش والمعاد فمن عطل العمل اتكالا على القدر السابق فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالا على ما قدر له.
وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية بل فطر الله على ذلك سائر الحيوانات، فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم فإنه سبحانه رب الدنيا والآخرة وهو الحكيم بما نصه من الأسباب في المعاش والمعاد وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة فهو مهيأ له ميسر له.
فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 106.
اجتهادا في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه وقد فقه هذا كل الفقه من قال: ((ما كنت أشد اجتهادا مني الآن))، فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يقضي به إلى رياض مونقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه.
ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدرها وهيأ له أسبابها لتوصله إليها.
فالأمر كله من فضله وجوده السابق فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها فالمؤمن أشد فرحا بذلك من كون أمره مجعولا إليه كما قال بعض السلف: "والله ما أحب أن يجعل أمري إلي إنه إذا كان بيد الله خيرا من أن يكون بيدي" فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتض لها لا أنه مناف لها وصاد عنها وهذا موضع مزلة قدم من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم"
(1)
قال ابن القيم: "وَأَمَّا إذَا ظَلَمَ رَجُلٌ رَجُلًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَظْلِمَتَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ وَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "
(2)
.
(1)
شفاء العليل 1/ 25.
(2)
مجموع الفتاوى 8/ 108 - 115.
المؤمن مأمور أن يفعل المأمور ويترك المحذور
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران الآية: 120]، وقال تعالى في قصة يوسف:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف الآية: 90]، فالتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ولهذا قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر الآية: 55]، فأمره مع الاستغفار بالصبر، فإن العباد لا بدّ لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:((يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))، وقال:((إنه ليُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة))، وكان يقول:((اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدّي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)).
وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربَّه وتاب إليه، فاجتباه ربُّه فتاب عليه
وهداه، وعن إبليس أبي الجن أنه أصرَّ متعلقًا بالقَدَر؛ فلَعَنَه وأقصاه، فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه، ومن أشبه أباه فما ظلم؛ قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا • لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب الآيات: 72 - 73] ..
ولهذا قرن سبحانه وتعالى بين التوحيد والاستغفار في غير آية، كما قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد الآية: 19]، وقال تعالى:{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت الآية: 6]، وقال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ • أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ • وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود الآيات: 1 - 2 - 3].
وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره: ((يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا)).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن ذي النون أنه نادى في الظلمات: {أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء الآية: 87]، قال تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء الآية: 88]، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرَّج الله بها كربه)).
الشرح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَلَا بُد للْإنْسَان من شَيْئَيْنِ:
• طَاعَته بِفعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور.
• وَصَبره على مَا يُصِيبهُ من الْقَضَاء الْمَقْدُور.
فَالْأول: هُوَ التَّقْوَى.
وَالثَّانِي هُوَ الصَّبْر.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا} [آل عمران الآية: 119]، إِلَى قَوْله:{وَإِنْ تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا إِنْ الله بِمَا يعْملُونَ مُحِيط} [آل عمران الآية: 120]، وَقَالَ تَعَالَى {بلَى إِنْ تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين} [آل عمران الآية: 125].
وَقَالَ تَعَالَى: {لتبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِنْ تصبروا وتتقوا فَإِنْ ذَلِك من عزم الْأُمُور} [آل عمران الآية: 186]، وَقد قَالَ يُوسُف:{أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي قد من الله علينا إِنَّه من يتق ويصبر فَإِنْ الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} [يوسف الآية: 90].
وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلاني وَنَحْوه من المشائخ المستقيمين يوصون فِي عَامَّة كَلَامهم بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ المسارعة إِلَى فعل الْمَأْمُور والتقاعد عَنْ فعل الْمَحْظُور وَالصَّبْر وَالرِّضَا بِالْأَمر الْمَقْدُور.
وَذَلِكَ أَنْ هَذَا الْموضع غلط فِيهِ كثير من الْعَامَّة بل وَمن السالكين:
فَمنهمْ من يشْهد الْقدر فَقَط وَيشْهد الْحَقِيقَة الكونية دون الدِّينِيَّة فَيرى أَنْ الله خَالق كل شَيْء وربه وَلَا يفرق بَين مَا يُحِبهُ الله ويرضاه وَبَين مَا يسخطه ويبغضه وَإِنْ قدره وقضاه وَلَا يُمَيّز بَين تَوْحِيد الألوهية وَبَين تَوْحِيد الربوبية فَيشْهد الْجمع الَّذِي يشْتَرك فِيهِ جَمِيع الْمَخْلُوقَات سعيدها وشقيها مشْهد الْجمع الَّذِي يشْتَرك فِيهِ الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالْبر والفاجر وَالنَّبِيّ الصَّادِق والمتنباء الْكَاذِب وَأهل الْجنَّة وَأهل النَّار وأولياء الله وأعداؤه وَالْمَلَائِكَة المقربون والمردة الشَّيَاطِين
فَإِنْ هَؤُلَاءِ كلهم يشتركون فِي هَذَا الْجمع وَهَذِه الْحَقِيقَة الكونية وَهُوَ أَنْ الله رَبهم وخالقهم ومليكهم لَا رب لَهُمْ غَيره.
وَلَا يشْهد الْفرق الَّذِي فرق الله بِهِ بَين أوليائه وأعدائه وَبَين الْمُؤمنِينَ والكافرين والأبرار والفجار وَأهل الْجنَّة وَالنَّار وَهُوَ تَوْحِيد الألوهية وَهُوَ عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ وطاعته رَسُوله وَفعل مَا يُحِبهُ ويرضاه وَهُوَ مَا أَمر بِهِ وَرَسُوله أَمر إِيجَاب أَوْ أَمر اسْتِحْبَاب وَترك مَا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله
وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنكر وَجِهَاد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ بِالْقَلْبِ وَالْيَد وَاللِّسَان فَمن لم يشْهد هَذِه الْحَقِيقَة الدِّينِيَّة الفارقة بَين هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء وَيكون مَعَ أهل الْحَقِيقَة الدِّينِيَّة وَإِلَّا فَهُوَ من جنس الْمُشْركين وَهُوَ شَرّ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
فَإِنْ الْمُشْركين يقرونَ بِالْحَقِيقَةِ الكونية إِذْ هم يقرونَ بِأَنْ الله رب كل شَيْء كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر ليَقُولن الله} [العنكبوت الآية: 61].
وَقَالَ تَعَالَى: {قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ قل من رب السَّمَاوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ سيقولون لله قل فَأنى تسحرون} [المؤمنون: 84 - 89] ..
وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} [يوسف الآية: 106]
قَالَ بعض السّلف: تَسْأَلهُمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَيَقُولُونَ الله وهم مَعَ هَذَا يعْبدُونَ غَيره
فَمن أقرّ بِالْقضَاءِ وَالْقدر دون الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين فَهُوَ أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَإِنْ أُولَئِكَ يقرونَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرسل الَّذين جاؤوا بِالْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين لَكِن آمنُوا بِبَعْض وَكَفرُوا بِبَعْض كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنْ الَّذين يكفرون بِاللَّه وَرُسُله ويريدون أَنْ يفرقُوا بَين الله وَرُسُله وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَنْ يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا} [النساء الآيتان: (150، 151)].
وَأما الَّذِي يشْهد الْحَقِيقَة الكونية وتوحيد الربوبية الشَّامِل للخليقة ويقر أَنْ الْعباد كلهم تَحت الْقَضَاء وَالْقدر ويسلك هَذِه الْحَقِيقَة فَلَا يفرق بَين الْمُؤمنِينَ والمتقين الَّذين أطاعوا أَمر الله الَّذِي بعث بِهِ رسله وَبَين من عصى الله وَرَسُوله من الْكفَّار والفجار فَهَؤُلَاءِ أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
لَكِن من النَّاس من قد لمحوا الْفرق فِي بعض الْأُمُور دون بعض بِحَيْثُ يفرق بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر وَلَا يفرق بَين الْبر والفاجر
أَوْ يفرق بَين بعض الْأَبْرَار وَبَين بعض الْفجار وَلَا يفرق بَين آخَرين اتبَاعا لظَنّه وَمَا يهواه فَيكون نَاقص الْإِيمَان بِحَسب مَا سوى بَين الْأَبْرَار والفجار وَيكون مَعَه من الْإِيمَان بدين الله تَعَالَى الْفَارِق بِحَسب مَا فرق بَين أوليائه وأعدائه
وَمن أقرّ بِالْأَمر وَالنَّهْي الدينيين دون الْقَضَاء وَالْقدر كَانَ من الْقَدَرِيَّة كالمعتزلة وَغَيرهم الَّذين هم مجوس هَذِه الْأمة فَهَؤُلَاءِ يشبهون الْمَجُوس وَأُولَئِكَ يشبهون الْمُشْركين الَّذين هم شَرّ من الْمَجُوس
وَمن أقرّ بهما وَجعل الرب متناقضا فَهُوَ من أَتبَاع إِبْلِيس الَّذِي اعْترض على الرب سُبْحَانَهُ وخاصمه كَمَا نقل ذَلِك عَنهُ.
فَهَذَا التَّقْسِيم فِي القَوْل والاعتقاد
وَكَذَلِكَ هم فِي الْأَحْوَال وَالْأَفْعَال فَالصَّوَاب مِنْهَا حَالَة الْمُؤمن الَّذِي يَتَّقِي الله فيفعل الْمَأْمُور وَيتْرك الْمَحْظُور ويصبر على مَا يُصِيبهُ من الْمَقْدُور فَهُوَ عِنْد الْأَمر وَالنَّهْي وَالدّين والشريعة ويستعين بِاللَّه على ذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} [الفاتحة الآية: 5].
وَإِذا أذْنب اسْتغْفر وَتَابَ لَا يحْتَج بِالْقدرِ على مَا يَفْعَله من السَّيِّئَات وَلَا يرى للمخلوق حجَّة على رب الكائنات بل يُؤمن بِالْقدرِ وَلَا يحْتَج بِهِ كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي فِيهِ سيد الاسْتِغْفَار أَنْ يَقُول العَبْد ((اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت خلقتني وَأَنا عَبدك وَأَنا على عَهْدك وَوَعدك مَا اسْتَطَعْت أعوذ بك من شَرّ مَا صنعت أَبُوء لَك بنعمتك عَليّ وأبوء بذنبي فَاغْفِر لي فَإِنَّهُ لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت)) فَيقر بِنِعْمَة الله عَلَيْهِ فِي الْحَسَنَات وَيعلم أَنه هُوَ هداه ويسره لليسرى ويقر بذنوبه من السَّيِّئَات وَيَتُوب مِنْهَا كَمَا قَالَ بَعضهم: أطعتك بِفَضْلِك والْمنَّة لَك وعصيتك بعلمك وَالْحجّة لَك فأسألك بِوُجُوب حجتك عَليّ وَانْقِطَاع حجتي إِلَّا غفرت لي.
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح الإلهي ((يَا عبَادي إِنَّمَا هِيَ أَعمالكُم أحصيها لكم
ثمَّ أوفيكم إِيَّاهَا فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه)).
وَهَذَا لَهُ تَحْقِيق مَبْسُوط فِي غير هَذَا الْموضع
وَآخَرُونَ قد يشْهدُونَ الْأَمر فَقَط فتجدهم يجتهدون فِي الطَّاعَة حسب الِاسْتِطَاعَة لَكِن لَيْسَ عِنْدهم من مُشَاهدَة الْقدر مَا يُوجب لَهُمْ حَقِيقَة الِاسْتِعَانَة والتوكل وَالصَّبْر.
وَآخَرُونَ يشْهدُونَ الْقدر فَقَط فَيكون عِنْدهم من الِاسْتِعَانَة والتوكل وَالصَّبْر مَا لَيْسَ عِنْد أُولَئِكَ لكِنهمْ لَا يلتزمون أَمر الله وَرَسُوله وَاتِّبَاع شَرِيعَته وملازمة مَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة من الدّين فَهَؤُلَاءِ يستعينون الله وَلَا يعبدونه وَالَّذين من قبلهم يُرِيدُونَ أَنْ يعبدوه وَلَا يستعينوه وَالْمُؤمن يعبده ويستعينه.
وَالْقسم الرَّابِع شَرّ الْأَقْسَام وَهُوَ من لَا يعبده وَلَا يستعينه فَلَا هُوَ مَعَ الشَّرِيعَة الأمرية وَلَا من الْقدر الكوني وانقسامهم إِلَى هَذِه الْأَقْسَام هُوَ فِيمَا يكون قبل وُقُوع الْمَقْدُور من توكل واستعانة وَنَحْو ذَلِك وَمَا يكون بعده من صَبر ورضا وَنَحْو ذَلِك فهم فِي التَّقْوَى وَهِي طَاعَة الْأَمر الديني وَالصَّبْر على مَا يقدر عَلَيْهِ من الْقدر الكوني أَرْبَعَة أَقسَام:
أَحدهَا: أهل التَّقْوَى وَالصَّبْر وهم الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من أهل السَّعَادَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَالثَّانِي: الَّذين لَهُمْ نوع من التَّقْوَى بِلَا صَبر مثل الَّذين يمتثلون مَا عَلَيْهِم من الصَّلَاة وَنَحْوهَا ويتركون الْمُحرمَات لَكِن إِذا أُصِيب أحدهم فِي بدنه بِمَرَض وَنَحْوه
أَوْ فِي مَاله أَوْ فِي عرض أَوْ ابْتُلِيَ بعدو يخيفه عظم جزعه وَظهر هلعه.
وَالثَّالِث: قوم لَهُ نوع من الصَّبْر بِلَا تقوى مثل الْفجار الَّذين يصبرون على مَا يصيبهم فِي مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الَّذين يصبرون على الآلام فِي مثل مَا يطلبونه من الْغَصْب وَأخذ الْحَرَام؛ وَالْكتاب وَأهل الدِّيوَان الَّذين يصبرون على ذَلِك فِي طلب مَا يحصل لَهُمْ من الْأَمْوَال بالخيانة وَغَيرهَا؛ وَكَذَلِكَ طلاب الرِّئَاسَة والعلو على غَيرهم يصبرون من ذَلِك على أَنْوَاع من الْأَذَى الَّتِي لَا يصبر عَلَيْهَا أَكثر النَّاس؛ وَكَذَلِكَ أهل الْمحبَّة للصور الْمُحرمَة من أهل الْعِشْق وَغَيرهم يصبرون فِي مثل مَا يهوونه من الْمُحرمَات على أَنْوَاع من الْأَذَى والآلام وَهَؤُلَاء هم الَّذين يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض أَوْ فَسَادًا من طلاب الرِّئَاسَة والعلو على الْخلق وَمن طلاب الْأَمْوَال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور الْمُحرمَة نظرا أَوْ مُبَاشرَة وَغير ذَلِك يصبرون على على أَنْوَاع من المكروهات وَلَكِن لَيْسَ لَهُمْ تقوى فِيمَا تَرَكُوهُ من الْمَأْمُور وفعلوه من الْمَحْظُور وَكَذَلِكَ قد يصبر الرجل على مَا يُصِيبهُ من المصائب كالمرض والفقر وَغير ذَلِك وَلَا يكون فِيهِ تقوى إِذا قدر.
وَأما الْقسم الرَّابِع: فَهُوَ شَرّ الْأَقْسَام لَا يَتَّقُونَ إِذا قدرُوا وَلَا يصبرون إِذا ابتلوا بل هم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِنْ الْإِنْسَان خلق هلوعا إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا} [المعارج الآيات: 19 - 20 - 21]، فَهَؤُلَاءِ تجدهم من أظلم النَّاس وأجبرهم إِذا قدرُوا وَمن أذلّ النَّاس وأجزعهم إِذا قهروا إِنْ قهرتهم ذلوا لَك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فِيمَا يدْفَعُونَ بِهِ عَنْ أنفسهم من أَنْوَاع الْكَذِب والذل وتعظيم المسؤول وَإِنْ قهروك كَانُوا من أظلم النَّاس وأقساهم قلبا وَأَقلهمْ رَحْمَة وإحسانا وعفوا كَمَا قد جربه الْمُسلمُونَ فِي كل من كَانَ عَنْ حقائق الْإِيمَان أبعد مثل التتار الَّذين قَاتلهم الْمُسلمُونَ وَمن يشبههم فِي
كثير من أُمُورهم وَإِنْ كَانَ متظاهرا بلباس جند الْمُسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق فَإِنْ الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وَإِنَّمَا ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ فَمن كَانَ قلبه وَعَمله من جنس قُلُوب التتار وأعمالهم كَانَ شَبِيها لَهُمْ من هَذَا الْوَجْه وَكَانَ مَا مَعَه من الْإِسْلَام أَوْ مَا يظهره مِنْهُ بِمَنْزِلَة مَا مَعَهم من الْإِسْلَام وَمَا يظهرونه مِنْهُ بل يُوجد فِي غير التتار المقاتلين من المظهرين لِلْإِسْلَامِ من هُوَ أعظم ردة وَأولى بالأخلاق الْجَاهِلِيَّة وَأبْعد عَنْ الْأَخْلَاق الإسلامية من التتار.
وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي خطبَته: ((خير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل بِدعَة ضَلَالَة وَإِذا كَانَ خير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد)) فَكل من كَانَ إِلَى ذَلِك أقرب وَهُوَ بِهِ أشبه كَانَ إِلَى الْكَمَال أقرب وَهُوَ بِهِ أَحَق وَمن كَانَ عَنْ ذَلِك أبعد وَشبهه بِهِ أَضْعَف كَانَ عَنْ الْكَمَال أبعد وبالباطل أَحَق والكامل هُوَ من كَانَ لله أطوع وعَلى مَا يُصِيبهُ أَصْبِر فَكلما كَانَ أتبع لما يَأْمر الله بِهِ وَرَسُوله وَأعظم مُوَافقَة لله فِيمَا يُحِبهُ ويرضاه وصبرا على مَا قدره وقضاه كَانَ أكمل وَأفضل وكل من نقص عَنْ هذَيْن كَانَ فِيهِ من النَّقْص بِحَسب ذَلِك
وَقد ذكر الله تَعَالَى الصَّبْر وَالتَّقوى جَمِيعًا فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَبَين أَنه ينتصر العَبْد على عدوه من الْكفَّار الْمُحَاربين المعاندين وَالْمُنَافِقِينَ وعَلى من ظلمه من الْمُسلمين ولصاحبه تكون الْعَاقِبَة قَالَ الله تَعَالَى {بلَى إِنْ تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين} [آل عمران الآية: 125]. وَقَالَ الله تَعَالَى: {لتبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من
قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِنْ تصبروا وتتقوا فَإِنْ ذَلِك من عزم الْأُمُور} آل عمران الآية: 186]، وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا ودوا مَا عنتم قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم وَمَا تخفي صُدُورهمْ أكبر قد بَينا لكم الْآيَات إِنْ كُنْتُم تعقلون هَا أَنْتُم أولاء تحبونهم وَلَا يحبونكم وتؤمنون بِالْكتاب كُله وَإِذا لقوكم قَالُوا آمنا وَإِذا خلوا عضوا عَلَيْكُم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إِنْ الله عليم بِذَات الصُّدُور إِنْ تمسسكم حَسَنَة تسؤهم وَإِنْ تصبكم سَيِّئَة يفرحوا بهَا وَإِنْ تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا إِنْ الله بِمَا يعْملُونَ مُحِيط} آل عمران الآيات: 119 - 120]،.
وَقَالَ إخْوَة يُوسُف لَهُ {أئنك لأَنْت يُوسُف قَالَ أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي قد من الله علينا إِنَّه من يتق ويصبر فَإِنْ الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} [يوسف الآية: 90 [
وَقد قرن الصَّبْر بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة عُمُوما وخصوصا فَقَالَ تَعَالَى {وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك واصبر حَتَّى يحكم الله وَهُوَ خير الْحَاكِمين} [يونس الآية: 109]، وَفِي اتِّبَاع مَا أُوحِي إِلَيْهِ التَّقْوَى كلهَا تَصْدِيقًا لخَبر الله وَطَاعَة لأَمره.
وَقَالَ تَعَالَى {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِنْ الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ واصبر فَإِنْ الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} [هود الآية: 114].
وَقَالَ تَعَالَى {فاصبر إِنْ وعد الله حق واستغفر لذنبك وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي وَالْإِبْكَار} [غافر الآية: 55]،.
وَقَالَ تَعَالَى {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا وَمن آنَاء اللَّيْل} [طه الآية: 130].
وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لكبيرة إِلَّا على الخاشعين} .
وَقَالَ تَعَالَى {اسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة إِنْ الله مَعَ الصابرين} [البقرة الآية: 153]، فَهَذِهِ مَوَاضِع قرن فِيهِ الصَّلَاة وَالصَّبْر.
وَقرن بَين الرَّحْمَة وَالصَّبْر فِي مثله قَوْله تَعَالَى {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة} [البلد الآية: 17].
وَفِي الرَّحْمَة وَالْإِحْسَان إِلَى الْخلق بِالزَّكَاةِ وَغَيرهَا فَإِنْ الْقِسْمَة أَيْضا ربَاعِية:
إِذْ من النَّاس من يصبر وَلَا يرحم كَأَهل الْقُوَّة وَالْقَسْوَة.
وَمِنْهُم من يرحم وَلَا يصبر كَأَهل الضعْف واللين مثل كثير من النِّسَاء وَمن يشبههن.
وَمِنْهُم من لَا يصبر وَلَا يرحم كَأَهل الْقَسْوَة والهلع.
والمحمود هُوَ الَّذِي يصبر وَيرْحَم كَمَا قَالَ الْفُقَهَاء فِي الْمُتَوَلِي
يَنْبَغِي أَنْ يكون قَوِيا من غير عنف لينًا من غير ضعف فبصبره يقوى وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العَبْد فَإِنْ النَّصْر مَعَ الصَّبْر وبالرحمة يرحمه الله تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء وَقَالَ من لَا يرحم لَا يرحم وَقَالَ لَا تنْزع الرَّحْمَة إِلَّا من شقي وَقَالَ الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء وَالله أعلم انْتهى"
(1)
(1)
دقائق التفسير 2/ 294 - 301.
لابد للعبد في الأمر من أصلين وفي القدر من أصلين
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وجماع ذلك: أنه لا بدّ له في الأمر من أصلين، ولا بدّ له في القدر من أصلين، ففي الأمر عليه الاجتهاد في الامتثال علما وعملا، فلا يزال يجتهد في العلم بما أمر الله به، والعمل بذلك، ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور، وتعديه الحدود.
ولهذا كان من المشروع أن تختتم جميع الأعمال بالاستغفار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقد قال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران الآية: 187]، فقاموا الليل ثم ختموا بالاستغفار، وآخر سورة نزلت قوله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ • وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا • فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر الآيات: 1 - 2 - 3]، وفي الحديث الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)) يتأول القرآن.
وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه، ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعيذ به، فيكون مفتقرًا إليه في طلب الخير وترك الشر، وعليه أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدَّر عليه".
الشرح
"وَالنَّاسُ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ عَلَى " أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ "
الصنف الأول: فَشَرُّ الْخَلْقِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَرَاهُ حُجَّةً لِغَيْرِهِ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فِي الذُّنُوبِ والمعائب وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَيْهِ فِي الْمَصَائِبِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ.
الصنف الثاني: وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ خَيْرُ الْخَلْقِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنْ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر الآية: 55]، وَقَالَ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد الآيات: 22 - 23]، وَقَالَ تَعَالَى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران الآية: 135]. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ عليه السلام أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ قَالَ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف الآية: 23]، وَعَنْ إبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر الآية: 39]، فَمَنْ تَابَ أَشْبَهَ أَبَاهُ آدَمَ وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ أَشْبَهَ إبْلِيسَ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى عليهما السلام لَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى. ((أَنْتَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ
فَبِكَمْ وَجَدْت مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه الآية: 121]، قَالَ: بِكَذَا وَكَذَا سَنَةً قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى)).
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه. فَآدَمُ عليه السلام إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَامَهُ عَلَى مَا فَعَلَ لِأَجْلِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْمُصِيبَةِ بِسَبَبِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ لَمْ يَكُنْ لَوْمُهُ لَهُ لِأَجْلِ حَقِّ اللَّهِ فِي الذَّنْبِ. فَإِنَّ آدَمَ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة الآية: 37]، وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه الآية: 122]، وَمُوسَى-وَمَنْ هُوَ دُونَ مُوسَى-عليه السلام يَعْلَمُ أَنَّهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ لَا يَبْقَى مَلَامٌ عَلَى الذَّنْبِ وَآدَمُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ وَمُوسَى عليه السلام أَعْلَمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَقْبَلَ هَذِهِ الْحُجَّةَ فَإِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ حُجَّةً عَلَى الذَّنْبِ لَكَانَتْ حُجَّةً لإبليس عَدُوِّ آدَمَ وَحُجَّةً لِفِرْعَوْنَ عَدُوِّ مُوسَى وَحُجَّةً لِكُلِّ كَافِرٍ وَفَاجِرٍ وَبَطَلَ أَمْرُ اللَّهِ وَنَهْيُهُ؛ بَلْ إنَّمَا كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِآدَمَ عَلَى مُوسَى لِأَنَّهُ لَامَ غَيْرَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِفِعْلِ ذَلِكَ وَتِلْكَ الْمُصِيبَةُ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن الآية: 11]. وَقَالَ أَنَسٌ:)) خَدَمْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ وَلَا قَالَ لِشَيْءِ فَعَلْته: لِمَ فَعَلْته؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ: لِمَ لَا فَعَلْته؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَاتَبَنِي عَلَى شَيْءٍ يَقُولُ دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ))، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا
اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ)). وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم ((لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا)).
فَفِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ يُسَارِعُ إلَى الطَّاعَةِ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَإِذَا آذَاهُ مُؤْذٍ أَوْ قَصَّرَ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّهِ عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ نَظَرًا إلَى الْقَدَرِ.
فَهَذَا سَبِيلُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وَهَذَا وَاجِبٌ فِيمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ كَالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ بِفِعْلِ لَا سَبِيلَ فِيهِ إلَى الْعُقُوبَةِ كَفِعْلِ آدَمَ عليه السلام فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى لَوْمِهِ شَرْعًا-لِأَجْلِ التَّوْبَةِ-وَلَا قَدَرًا؛ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. وَأَمَّا إذَا ظَلَمَ رَجُلٌ رَجُلًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَظْلِمَتَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ وَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة الآية: 45].
وَأَمَّا "الصِّنْفُ الثَّالِثُ": فَهُمْ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ إلَى الْقَدَرِ لَا فِي المعائب وَلَا فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بَلْ يُضِيفُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى الْعَبْدِ وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا وَهَذَا حَسَنٌ؛ لَكِنْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ الْعَبْدِ لَمْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ الَّذِي مَضَى بِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقُولُونَ لِمَنْ قَصَّرَ فِي حَقِّهِمْ دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ فَلَا يَنْظُرُونَ إلَيْهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران الآية: 165]، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى الآية: 30]، وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى الآية: 48]. وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء الآية: 78]، {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء الآية: 79]. فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَازَعَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ مُثْبِتِي الْقَدَرِ ونفاته: هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا مِنْ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء الآية: 78]. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ نَفْسِك لِقَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء الآية: 79]. وَقَدْ يُجِيبُهُمْ الْأَوَّلُونَ بِقِرَاءَةِ مَكْذُوبَةٍ {فَمنْ نَفْسِكَ} بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَرُبَّمَا قَدَّرَ بَعْضُهُمْ تَقْدِيرًا: أَيْ أَفَمِنْ نَفْسِك؟ وَرُبَّمَا قَدَّرَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ} فَيَقُولُونَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء الآية: 78 [يَقُولُونَ فَيُحَرِّفُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ وَيَجْعَلُونَ مَا هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ-قَوْلَ الصِّدْقِ-مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَنْكَرَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ وَيُضْمِرُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ بَلْ سِيَاقُ الْكَلَامِ يَنْفِيهِ؛ فَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ جَاهِلَةٌ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ وَبِحَقِيقَةِ الْمَذْهَبِ الَّذِي تَنْصُرُهُ.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران الآية: 120]، وَكَقَوْلِهِ:{إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة الآية: 50]، {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا} [التوبة الآية: 51]، الْآيَةَ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف الآية: 168]، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء الآية: 35]، أَيْ بِالنِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام الآية: 160]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى إشْكَالٌ؛ بَلْ هُوَ مُبِينٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ:{مَا أَصَابَكَ} وَمَا {مِسْكٌ} وَنَحْوَ
ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِك بِك كَمَا قَالَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء الآية: 79]. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة الآية: 50]، وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء الآية: 78].
وَإِذَا قَالَ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام الآية: 160]، كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْجَائِي بِهَا فَهَذَا يَكُونُ فِيمَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ لَا فِيمَا فُعِلَ بِهِ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَذَمِّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء الآية: 71 [{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء الآية: 72 [{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء الآية: 73]. فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْجِهَادِ وَذَمَّ الْمُثَبِّطِينَ وَذَكَرَ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ تَارَةً مِنْ الْمُصِيبَةِ فِيهِ وَتَارَةً مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيهِ كَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مُصِيبَةٌ فَقَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران الآية: 165]. وَأَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ بِنَصْرِهِ لَهُمْ وَتَأْيِيدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران الآية: 123]. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء الآية: 74]، {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء الآية: 75]، -إلَى قَوْلِهِ- {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء الآية: 79]، فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إذَا أَصَابَهُمْ نَصْرٌ وَغَيْرُهُ مِنْ النِّعَمِ قَالُوا هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ أَصَابَهُمْ ذُلٌّ وَخَوْفٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَائِبِ قَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ بِسَبَبِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ يُضِيفُونَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَصَائِبِ إلَى فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
وَقَدْ ذَكَرَ نَظِيرَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف الآية: 130]، {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف الآية: 130]. وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ يس {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس الآية: 16]، {وَمَا عَلَيْنَا إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس الآية: 17 [{قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس الآية: 18]، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ جَعَلُوهُ بِسَبَبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْخَيْرِ جَعَلُوهُ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ عز وجل فَقَالَ تَعَالَى {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء الآية: 78]، وَاَللَّهُ تَعَالَى نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فَلَوْ فَهِمُوا الْقُرْآنَ لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ أَمَرَ بِالْخَيْرِ وَنَهَى عَنْ الشَّرِّ فَلَيْسَ فِيمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّرِّ بَلْ الشَّرُّ حَصَلَ بِذُنُوبِ الْعِبَادِ فَقَالَ تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء الآية: 79]، أَيْ مَا أَصَابَك مِنْ نَصْرٍ وَرِزْقٍ وَعَافِيَةٍ فَمِنْ اللَّهِ نِعْمَةً أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْك وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ أَعْمَالِك الصَّالِحَةِ فَهُوَ الَّذِي هَدَاك وَأَعَانَك ويسرك لِلْيُسْرَى وَمَنَّ عَلَيْك بِالْإِيمَانِ وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِك وَكَرَّهَ إلَيْك الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى ((يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ)) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {وَمَا
أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء الآية: 79]، مِنْ ذُلٍّ وَخَوْفٍ وَهَزِيمَةٍ كَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ {فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ بِذُنُوبِك وَخَطَايَاك وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا مُقَدَّرًا عَلَيْك فَإِنَّ الْقَدَرَ لَيْسَ حُجَّةً لِأَحَدِ لَا عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى خَلْقِهِ وَلَوْ جَازَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ لَمْ يُعَاقَبْ ظَالِمٌ وَلَمْ يُقَاتَلْ مُشْرِكٌ وَلَمْ يُقَمْ حَدٌّ وَلَمْ يَكُفَّ أَحَدٌ عَنْ ظُلْمِ أَحَدٍ وَهَذَا مِنْ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً فَسَادُهُ لِلْعَالَمِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الْمُطَابِقِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.
فَالْقَدَرُ يُؤْمِنُ بِهِ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ،
فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ ضَارَعَ الْمَجُوسَ.
وَمَنْ احْتَجَّ بِهِ ضَارَعَ الْمُشْرِكِينَ.
وَمَنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ وَالْقَدَرِ وَطَعَنَ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ كَانَ شَبِيهًا بإبليس.
فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ طَعَنَ فِي حِكْمَتِهِ وَعَارَضَهُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَأَنَّهُ قَالَ {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} "
(1)
.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى، لما قال:((يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، فبكم وجدت مكتوبًا علي قبل أن أخلق {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؟ قال: بكذا وكذا سنة، قال: فحجّ آدم موسى)). وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب، فإن آدم كان قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له- ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك، وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب، كما قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [غافر الآية: 55].
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 108 - 115.
الشرح
قال ابن تيمية: "وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَمَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ" "كُلِّ شَيْءٍ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ فَهَلْ وَجَدْتَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى)).
وَآدَمُ عليه السلام لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ ظَنًّا أَنَّ الْمُذْنِبَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا عُذْرًا لَكَانَ عُذْرًا لإبليس وَقَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَكُلِّ كَافِرٍ وَلَا مُوسَى لَامَ آدَمَ أَيْضًا لِأَجْلِ الذَّنْبِ، فَإِنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ إلَى رَبِّهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَى.
وَلَكِنْ لَامَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ بِالْخَطِيئَةِ وَلِهَذَا قَالَ: ((فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَأَجَابَهُ آدَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ)).
فَكَانَ الْعَمَلُ وَالْمُصِيبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا وَمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاَللَّهِ رَبًّا.
وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ فَيَتُوبُ مِنْ المعائب وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر الآية: 55].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ
شَيْئًا} [آل عمران الآية: 120].
وَقَالَ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران الآية 186].
وَقَالَ يُوسُفُ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف الآية: 90].
وَكَذَلِكَ ذُنُوبُ الْعِبَادِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهَا أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ - وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِيَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة الآية 1]، إلَى قَوْلِهِ:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة الآية: 4].
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة الآية: 22]، إلَى قَوْلِهِ:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة الآية: 22]،.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم الآية: 35].
وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص الآية: 28].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية الآية: 21].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر الآية: 19].
وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر الآية: 29].
وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} إلَى قَوْلِهِ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل الآية: 75].
وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل الآية: 76].
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر الآية: 20].
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَأَهْلِ الْبِرِّ وَأَهْلِ الْفُجُورِ وَأَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَأَهْلِ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.
فَمَنْ شَهِدَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ " الدِّينِيَّةِ " سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا غَايَةَ التَّفْرِيقِ حَتَّى يَئُولَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهَ بِالْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء الآية: 97]، بَلْ قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِهَؤُلَاءِ إلَى أَنْ سَوَّوْا اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَجَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ حَقًّا لِكُلِّ مَوْجُودٍ إذْ جَعَلُوهُ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِرَبِّ الْعِبَادِ.
وَهَؤُلَاءِ يَصِلُ بِهِمْ الْكُفْرُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابِدُونَ؛ إذْ يَشْهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ كَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ
وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودِ لِحَقِيقَةِ؛ لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ؛ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ"
(1)
.
وقال ابن القيم: "في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم.
[أولًا: روايات الحديث].
1 -
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:)) احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج آدم موسى)).
2 -
وفي رواية ((كتب لك التوراة بيده)).
3 -
وفي لفظ آخر: ((تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى فقال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم قال أفتلومني على أمر قدر على قبل أن أخلق")).
4 -
وفي لفظ آخر: ((احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى فقال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 159 - 162.
كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم هل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى)).
5 -
وفي لفظ آخر: ((احتج آدم وموسى فقال له موسى أنت الذي أخرجتنا خطيئتك من الجنة)) وذكر الحديث.
متفق على صحته، وهذا التقدير بعد التقدير الأول السابق بخلق السماوات بخمسين ألف سنة.
[ثانيًا: موقف المعتزلة ومن وافقهم من الحديث].
موقفهم: وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك وقال لو صح لبطلت نبوات الأنبياء فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه.
الرد عليهم: وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنًا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله وحكموا بصحته فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن.
ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة كما ردوا أحاديث الرؤية وأحاديث
علو الله على خلقه وأحاديث صفاته القائمة به وأحاديث الشفاعة وأحاديث نزوله إلى سمائه ونزوله إلى الأرض للفصل بين عباده وأحاديث تكلمه بالوحي كلاما يسمعه من شاء من خلقه حقيقة إلى أمثال ذلك.
وكما ردت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها. وكما ردت الرافضة أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة.
وكما ردت المعطلة أحاديث الصفات والأفعال الاختيارية.
وكما ردت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق.
وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها.
فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول فهو أصلهم الذي عليه يعولون وجنتهم التي إليها يرجعون.
ثالثًا: الأقوال في بيان معنى الحديث.
ثم اختلف الناس في فهم هذا الحديث ووجه الحجة التي توجهت لآدم على موسى:
فقالت فرقة: إنما حجه لأن آدم أبوه فحجه كما يحج الرجل ابنه.
[والجواب على قولهم]: هذا الكلام لا محصل فيه البتة فإن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو الابن أو العبد أو السيد ولو حج الرجل أباه بحق وجب المصير إلى الحجة.
وقالت فرقة: إنما حجه لأن الذنب كان في شريعة واللوم في شريعة.
[والجواب على قولهم]: هذا من جنس ما قبله إذ لا تأثير لهذا في الحجة بوجه وهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة لرسلها المتقدمة عليها وإن كان لم تجمعهم شريعة واحدة ويقبل الله شهادتهم عليهم وإن كانوا من غير أهل شريعتهم.
وقالت فرقة أخرى: إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولا يجوز لومه.
] والجواب على قولهم]: هذا وإن كان أقرب مما قبله فلا يصح لثلاثة أوجه:
أحدها: أن آدم لم يذكر ذلك الوجه ولا جعله حجة على موسى ولم يقل أتلومني على ذنب قد تبت منه.
الثاني: أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله واجتباه بعده وهداه فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلا عن كليم الرحمن.
الثالث: أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة واعتبار ما ألغاه فلا يلتفت إليه.
وقالت فرقة أخرى: إنما حجه لأنه لامه في غير دار التكليف ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه.
] والجواب على قولهم]: هذا أيضا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن آدم لم يقل له لمتني في غير دار التكليف وإنما قال أتلومني على أمر قدر عليّ قبل أن أخلق فلم يتعرض للدار وإنما احتج في القدر السابق.
الثاني: أن الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف فيلومهم بعد الموت ويلومهم يوم القيامة.
وقالت فرقة أخرى: إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة وتفرد
الرب سبحانه بربوبيته وإنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه وأنه لا راد لقضائه وقدره وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قالوا ومشاهدة العبد الحكم لا يدع له استقباح سيئة لأنه شهد نفسه عدما محضا والأحكام جارية عليه معروفة له وهو مقهور مربوب مدبر لا حيلة له ولا قوة له قالوا ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم.
] والجواب على قولهم]: هذا المسلك أبطل مسلك سلك في هذا الحديث وهو شر من مسلك القدرية في رده وهم إنما ردوه إبطالا لهذا القول وردا على قائليه وأصابوا في ردهم عليهم وإبطال قولهم وأخطأوا في رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا المسلك لو صح لبطلت الديانات جملة وكان القدر حجة لكل مشرك وكافر وظالم ولم يبق للحدود معنى ولا يلام جان على جنايته ولا ظالم على ظلمه ولا ينكر منكر أبدا ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في إشارته العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله تعالى في القدر.
وهذا كلام منسلخ من الملل ومتابعة الرسل وأعرف خلق الله به رسله وأنبياؤه وهم أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر، فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر لبصرته بالأمر والقدر، فإن الأمر يوجب عليه الإنكار، والقدر يعينه عليه وينفذه له فيقوم في مقام:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة الآية: (5)]. وفي مقام} فاعبده وتوكل عليه} [هود الآية: (123)]، فنعبده بأمره وقدره ونتوكل عليه في تنفيذ أمره بقدره فهذا حقيقة المعرفة وصاحب هذا المقام هو العارف بالله وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم وأما من يقول:
أصبحت منفعلا لما يختاره
…
منى ففعلي كله طاعات
ويقول: أنا وإن عصيت أمره فقد أطعت إرادته ومشيئته
ويقول: العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر فخارج عما عليه الرسل قاطبة وليس هو من أتباعهم وإنما حكى الله سبحانه الاحتجاج في القدر عن المشركين أعداء الرسل:
فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام الآية: 148]، إلى قوله:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام الآية: 149]،
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} [النحل الآية: 35]، إلى قوله:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل الآية: 35]،
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس الآية: 47]،
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف الآية: 20].
فهذه أربع مواضع حكى فيها الاحتجاج بالقدر عن أعدائه وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الأحقر إبليس حيث احتج عليه بقضائه فقال:: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر الآية: 39]، فإن قيل قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم} سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام الآية: 148]،} وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} [النحل الآية: 35 [} وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف الآية: 20]، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام الآية: 112]، وقال:{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة الآية: 13]، فكيف أكذبهم ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الخرص فيما هم فيه صادقون.
وأهل السنة جميعا يقولون لو شاء الله ما أشرك به مشرك ولا كفر به كافر ولا عصاه أحد من خلقه فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون.
قيل: أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين وأفجر الفاجرين ولم ينكر عليهم صدقا ولا حقا بل أنكر عليهم أبطل الباطل فإنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتا لقدره وربوبيته ووحدانيته وافتقارا إليه وتوكلا عليه واستعانة به ولو قالوا كذلك لكانوا مصيبين، وإنما قالوه معارضين به لشرعه ودافعين به لأمره فعارضوا شرعه وأمره ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر.
وأيضا فإنهم احتجوا بمشيئتة العامة وقدره على محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه فجمعوا بين أنواع من الضلال معارضة الأمر بالقدر ودفعه به والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم ويرضاه حيث شاءه وقضاه وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.
وقد ورثهم في هذا الضلال وتبعهم عليه طوائف من الناس ممن يدعي التحقيق والمعرفة أو يدعي فيه ذلك وقالوا: العارف إذا شاهد الحكم سقط عنه اللوم وقد وقع في كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ما يوهم ذلك وقد أعاذه الله منه فإنه قال في باب التوبة من منازل السائرين ولطائف التوبة ثلاثة أشياء:
أولها: أن ننظر في الجناية والقضية فنعرف مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لأحد معنيين:
أن يعرف عبرته في قضائه وبره في مسيره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته.
والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته.
واللطيفة الثانية: أن يعلم أن طلب البصير الصادق سنته لم تبق له حسنه بحال لأنه يسير بين مشاهدة المنة ويطلب عيب النفس والعمل.
واللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبد الحكم لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم.
فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا واستقباح هذا بل مشاهدة الحكم تزيد البصير استحسانا للحسن واستقباحا للقبيح وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباله فإنه يوافق في ذلك ربه ورسله ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العلى وقد كان شيخ الإسلام في ذلك موافقا للأمر وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة وكلامه المتقدم بين في رسوخ قدمه في استقباح ما قبحه الله واستحسان ما حسنه الله وهو كالمحكم فيه وهذا متشابه فيرد إلى محكم كلامه والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي في شرحه فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام فقال الفناء عبارة عن اصطلام العبد لغلبة وجود الحق وقوة العلم به في العبد فيزيد بذلك يقينه به ومعرفته به وبصفاته سبحانه فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من الأمور المهمة مثاله رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض فأذهله ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به وهذا تقريب والأمر فوق ذلك فكيف بمن أشهده الله عز وجل فردانيته حيث كان ولا شيء معه فرأى الأشياء مواتا لا قوام لها إلا بقدرته فشهدها خيالا كالهباء بالنسبة إلى وجود الحق تعالى وذلك في البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد التصفية والتدرب في القيام بأعباء الشريعة وحمل أثقالها والتخلق بأخلاقها وصفى الله عبده من درنه ويكشف لقلبه فيرى حقائق الأشياء فمتى تجلت على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالة على عظمة الفردانية تلاشى الوجود الذي للعبد واضمحل كما يتلاشى الليل إذا أسفر عليه الصباح ويكون العبد في
ذلك آكلا شاربا فلا يظهر عليه شيء مغاير لما اعتاده لكن يزداد إيمانه ويقينه حتى ربما غطى إيمانه عن قلبه كل شيء في أوقات سكره ويبقى وجوده كالخيال قائما بالعبودية في حضرة ذي الجلال وتعود عليه البصائر الصحيحة في معرفة الأشياء عند صحوه ثم يزول عنه عدم التمييز ويقوى على حاله فيتصرف وذلك هو البقاء بحيث يتصرف في الأشياء ولا يحجب عنه ما وجده من الإيمان والإيقان في حال البقاء بل يعود عليه شعوره الأول بوجود آخر يتولاه الله عز وجل مشهده فيه قيامه عليه بتدبيره ويصل إلى مقام المراد بعد عبوره على مقام المريد فيصير به يسمع وبه ينطق كما جاء في الحديث الصحيح.
ووجه آخر وهو أن الفاني في حال فنائه قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحوة والتمييز فيستر من قلبه محل الزهد والصبر والورع لا بمعنى أن تلك المقامات ذهبت وارتفع عنها العبد لكن بمعنى أن الشهود ستر محلها من القلب وانطوت واندرجت في ضمن ما وجده اندراج الحال النازل في الحال العالي فصارت فيما وجده الواجد من وجود الحق ضمنا وتبعا وصار القلب مشتغلا بالحال الأعلى عن الحال الأدنى بحيث لو فتش قلب العبد لوجد فيه الزهد والورع وحقائق الخوف والرجاء مستورا بأمثال الجبال من الأحوال الوجودية التي يضيق القلب عن الاتساع لمجموعها وفي حال البقاء والصحو والتمييز تعود عليه تلك المقامات بالله لا بوجود نفسه إذا علمت ذلك انحل إشكال قوله إن مشاهدة العبد لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده إلى معنى الحكم أي أن صفة حكم الله حشت بصيرته وملأتها فشهد قيام الله على الأشياء وتصرفه فيها وحكمه عليها فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه وتقديره وإرادته القدرية فغاب بما لاحظ من الجمع عن التمييز والفرق ويسمى هذا جمعا لأن العبد اجتمع نظره إلى مولاه في كل حكم وقع في الكون وفي ملاحظة هذا الحكم الذي صدرت عنه التصرفات
اجتمع قلبه ولضعف قلبه حين هذا الاجتماع لم يتسع للتمييز الشرعي بين الحسن والقبيح بمعنى أنه انطوى حكم معرفته بالحسن والقبيح في طي هذه المعرفة الساترة له عن التمييز لا بمعنى أنه ارتفع عن قلبه حكم التحسين والتقبيح بل اندرج في مشهده وانطوى بحيث لو فتش لوجد حكم التحسين والتقبيح مستورا في طي مشهده ذلك وبالله التوفيق.
وتلخيص ما ذكره شيخنا رحمه الله أن للفعل وجهين:
وجه قائم بالرب تعالى وهو قضاؤه وقدره له وعلمه به والعبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول وملاحظة للوجه الثاني والكمال أن لا يغيب بأحد الملاحظتين عن الأخرى بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته فيشهد الربوبية والعبودية فيجتمع في قلبه معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير الآية: 28] مع قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} [التكوير الآية: 29] وقوله: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر الآيات: 54 - 55 - 56]، فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه وضعف المحل فيغيب بشهود العبودية والكسب وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالرب تعالى من غير إنكار له فلا يظهر عليه إلا أثر الفعل وحكمه الشرعي وهذا لا يضره إذا كان الإيمان بالحكم قائما في قلبه ومنهم من يغيب بشهود الحكم وسبقه وأولية الرب تعالى وسبقه للأشياء عن جهة عبوديته وكسبه وطاعته ومعصيته فيغيب بشهود الحكم عن المحكوم به فضلا عن صفته فإذا لم يشهد له فعلا فكيف يشهد كونه حسنا أو قبيحا وهذا أيضا لا يضره إذا كان علمه بحسن الفعل وقبحه قائما في قلبه وإنما توارى عنه لاستيلاء شهود الحكم على قلبه وبالله التوفيق،
فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه وعباد هؤلاء الكفرة يشهدون أفعالهم كلها طاعات لموافقتها المشيئة السابقة ولو أغضبهم غيرهم وقصر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة مع أنه وافق فيه المشيئة فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي الآمن هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام الآية: 149]، فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه ثم قرر تمام الحجة بقوله:{فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام الآية: 149]، فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه وأنه لا رب غيره ولا إله سواه فكيف يعبدون معه إلها غيره فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم وأن الأمر كله لله وأن كل شيء ما خلا الله باطل فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك فكانت حجة الله هي البالغة وحجتهم هي الداحضة وبالله التوفيق،
رابعًا: القول الراجح في معنى الحديث.
إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة المحنة التي نالت الذرية ولهذا قال له أخرجتنا ونفسك من الجنة وفي لفظ خيبتنا فاحتج آدم بالقدر على المصيبة وقال أن هذه
المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة هذا جواب شيخنا رحمه الله.
وقد يتوجه جواب آخر: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع ويضر في موضع فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع لأنه لا يدفع بالقدر أمرا ولا نهيا ولا يبطل به شريعة بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى أتلومني على أن عملت عملا كان مكتوبا علي قبل أن أخلق فإذا أذنب الرجل ذنبا ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول هذا أمر كان قد قدر عليّ قبل أن أخلق فإنه لم يدفع بالقدر حقا ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلا محرما أو يترك واجبا فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره فيبطل بالاحتجاج به حقا ويرتكب باطلا كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام الآية: 148]، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف الآية: 20]، فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم يقروا بفساده فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود فإذا لامه لائم بعد ذلك قال كان ما كان بقدر الله، ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل،
فإن قيل فقد احتج عليّ بالقدر في ترك قيام الليل وأقره النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن علي: "أن رسول الله صلى الله عيه وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال لهم ألا تصلون قال فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} "، قيل علي لم يحتج بالقدر على ترك واجب ولا فعل محرم وإنما قال أن نفسه ونفس فاطمة بيد الله فإذا شاء أن يوقظها ويبعث أنفسها بعثها وهذا موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ناموا في الوادي:((إن الله قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء)) وهذا احتجاج صحيح صاحبه يعذر فيه فالنائم غير مفرط واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الاحتجاج به فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله ما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان)). فتضمن هذا الحديث الشريف أصولا عظيمة من أصول الإيمان:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة.
الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها فهو القوي ويحب المؤمن القوي، وهو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف
يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين،
ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض.
ومنها أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به فإن حرص على مالا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك فالخير كله في الحرص على ما ينفع ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة الآية: (5)]. فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولا تتم إلا بمعونته فأمره بأن يعبده وأن يستعين به ثم قال ولا تعجز فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه وينافي استعانته بالله فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجز فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى لو ولا فائدة في لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح.
وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده فلهذا قال فإن غلبك أمر فلا تقل
لو أني فعلت لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين حالة حصول مطلوبة وحالة فواته فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا بل هو أشد شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام والعبودية ظاهرا وباطنا في حالتي حصول المطلوب وعدمه وبالله التوفيق"
(1)
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فمن راعى الأمر والقدر- كما ذكر- كان عابدًا لله، مطيعًا له، مستعينًا به، متوكلًا عليه، من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في غير موضع، كقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة الآية: (5)]، وقوله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود الآية: (123)]، وقوله تعالى:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود الآية: 88]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا • وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق الآيات: 2 - 3]، فالعبادة له والاستعانة به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية:((اللهم منك ولك))، فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم".
الشرح
قال ابن تيمية: "وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ عَوَامُّهُمْ وَخَوَّاصُهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ((إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ)) قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ((قَالَ
(1)
شفاء العليل 1/ 13 - 19.
أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ)) فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ.
وَيَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَيُطِيعُوا أَمْرَهُ وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة الآية: (5)] ..
وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.
فَيَجْتَهِدُونَ فِي إقَامَةِ دِينِهِ مُسْتَعِينِينَ بِهِ دَافِعِينَ مُزِيلِينَ بِذَلِكَ مَا قُدِّرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ دَافِعِينَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُزِيلُ الْإِنْسَانُ الْجُوعَ الْحَاضِرَ بِالْأَكْلِ وَيَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ الْمُسْتَقْبَلَ وَكَذَلِكَ إذَا آنَ أَوَانُ الْبَرْدِ دَفَعَهُ بِاللِّبَاسِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَطْلُوبٍ يُدْفَعُ بِهِ مَكْرُوهٌ. كَمَا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} . وَفِي الْحَدِيثِ {إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ"
(1)
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 162 - 163.
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا بد في عبادته من أصلين:
أحدهما: إخلاص الدين له.
والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله.
ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا". وقال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، قال:"أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنَّة".
ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدِّين الذي لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدِّين، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى الآية: 21]، كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، والدّين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله".
الشرح
من حكمة الله وهو أحكم الحاكمين أنه لَمَّا فرض عليهم عبادته وجعلها مبنيةً على محبَّته ورجائه وخوفه، أوضح لهم بعد ذلك شروط صحة تلك العبادة، وأنها لا تكون صحيحة ومقبولة عنده إلا إذا توافرت فيها هذه الشروط، التي دلَّ عليها الكتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ الأمَّة، وهي:
شروط صحة العبادة:
الشرط الأول: الإخلاص، وهو لُبُّ الدِّين، وعموده الأعظم.
تعريف الإخلاص:
الإخلاص لغة:
وهو لغةً: «تصفية الشيء وتنقيته؛ يقال: خلص الشيء من الشوائب: إذا صفا، وأخلص الشيء: نَقَّاه، وخلَّصه: أزال عنه ما يكدره
(1)
.
الإخلاص شرعًا:
تَنَوَّعت عباراتُ العلماء في المراد به شرعًا:
فقيل: هو «قصد المعبود وحده بالعبادة» كما قال تعالى: {ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف الآية: 110]
(2)
.
وقيل: تخليص القلب من كلِّ شوب يُكدِّر صفاءه
(3)
.
وقيل: أن يكون الداعي إلى الإتيان بالمأمور وإلى ترك المنهي إرضاء الله سبحانه وتعالى
(4)
.
والتعريفات متقاربة، ومدارها على أن يريد العبد بطاعته التقرُّب إلى الله سبحانه دون أيِّ شيءٍ آخر من تصنُّعٍ لمخلوقٍ أو اكتساب محمدةٍ عند الناس، أو محبة مدحٍ من الخلق، أو معنى من المعاني سِوى التقرُّب به إلى الله تعالى
(5)
.
(1)
انظر: «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس (2/ 208)، و «المصباح المنير» للفيومي (94).
(2)
عمدة الحفاظ (1/ 600).
(3)
التوقيف على مهمات التعريف ص (43).
(4)
التحرير والتنوير (23/ 318).
(5)
انظر: «العبادة .. تعريفها. أركانها. شروطها. مبطلاتها» لسليمان العثيم (ص 39، 40).
أهل الإخلاص:
أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم هم: مَنْ كانت أعمالهم كلُّها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومَنعهم لله، وحُبهم لله وبُغضهم لله؛ فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكورًا، ولا ابتغاء الجاه عندهم وطلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هربًا من ذمِّهم، بل قد عدُّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور لا يَملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا ولا حياةً ولا نشورًا
(1)
.
الأدلة على شرط الإخلاص:
وردت أدلَّةٌ كثيرةٌ في الكتاب والسُّنَّة مُقَرِّرةً هذا الشرط؛ فمن الكتاب:
قوله تعالى آمرًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يُوضِّح لأمته ما أُمر به من قِبل الله عز وجل، فقال:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ولَا أُشْرِكَ بِهِ} [الرعد الآية: 36]، وقال جل جلاله:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر الآية: 11]، وقال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر الآية: 14]، وقال جل وعلا مُوَضِّحًا ما أُمر به المؤمنون: {ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
…
} [البينة الآية: 5]، وقال تعالى:{ومَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * ولَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل الآيات: 19 - 21]، وقال عز وجل:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ولَا دِمَاؤُهَا ولَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ} [الحج الآية: 37]، وقال جل وعلا:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعْمَل عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف الآية: 10].
ومن السُّنَّة:
قال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّما الأعمال بالنِّيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى؛ فمَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه))
(2)
.
(1)
«مدارج السالكين» لابن القَيِّم (1/ 83)، دار الكتاب العربي، بيروت.
(2)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب ?.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم))
(1)
.
وعن أبي موسى الأشعري ? قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل شَجاعة ويقاتل حَمِيَّة ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((مَنْ قَاتَلَ لِتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))
(2)
.
فهذه الأدلة تدلُّ على وجوب إخلاص النية في جميع العبادات.
أهمية الإخلاص:
الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله إن كان عبادة محضة؛ كالصَّلاة والزكاة والصيام والحج والطواف وقراءة القرآن، وشرط لحصول الثواب إن كان غير ذلك؛ كالأكل والشرب والنوم والكسب ونحو ذلك.
وما أعظم مقام الإخلاص عند الله! وما أشقَّه على النفس! لذا جديرٌ بالمسلم أن يجاهد نفسه ويحاسبها في كلِّ قول وعمل، بل وفي كلِّ مقام ولحظة.
قال سهل بن عبد الله: «ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيب»
(3)
.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: «أعزُّ شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه يَنبت فيه على لون آخر»
(4)
.
فعمل القلب هو رُوح العبودية ولُبُّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه كان كالجسد
(1)
أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البخاري (2810) ومسلم (1904)، وهذا لفظ مسلم.
(3)
ذكره عنه ابنُ رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/ 84).
(4)
المصدر السابق.
الميت بلا رُوح، والنية هي عمل القلب.
والكلام في مسألة النِّيَّة شديد الارتباط بأعمال القلوب ومعرفة مراتبها وارتباطها بأعمال الجوارح وبنائها عليها وتأثيرها فيها صحةً وفسادًا، وإنَّما هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تَبَعٌ ومكمِّلة ومتمِّمة، وأنَّ النية بمنزلة الرُّوح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فمَوَات، وكذلك العمل إذا لم تَصحبه النية فحركة عابث؛ فمعرفة أحكام القلوب أهم مِنْ معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هو أصلُها، وأحكام الجوارح متفرِّعة عنها.
والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبودية ظاهرًا وباطنًا، وقدَّموا قلوبهم في الخدمة، وجعلوا الأعضاء تبعًا لها، وهي حقيقة العبودية، ومن المعلوم أنَّ هذا هو مقصود الربِّ بإرسال رُسُله وإنزال كُتُبه وشرعه شرائعه. ومَن تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأنَّ أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كلِّ واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما، وهل يمكن لأحدٍ الدخول في الإسلام إلَّا بعمل قلبه قبل جوارحه؛ فعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كلِّ وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان، فمركب الإيمان القلب، ومركب الإسلام الجوارح
(1)
.
إن أساس القبول لأيِّ عبادة هو إخلاص القلب فيها لله تعالى؛ فإن حقيقة العبادة ليست شكلًا فقط، وإنَّما هي سِرٌّ يتعلق بالقلب، ويَنبع من الرُّوح، فإذا لم يَصْدُق قلب المسلم في عبادته، ولم يُخلص لله في طاعته- صارت كالجسد بلا رُوح، وساعتها
(1)
انظر «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (3/ 187 - 193).
يردُّها الله عليه؛ قال تعالى: {ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة الآية: 5]، وقال:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وقال:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر الآية: 11]، وقال:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر الآية: 14].
فالقلبُ هو الأساس في الإسلام، وهو مَوضع نظر الله تعالى، ومحل عنايته، وهو مُستند القبول والفلاح في الآخرة، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم))
(1)
، ويقول:((ألا إن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب))
(2)
، ويقول الله تعالى:{وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وجَاءَ بِقَلبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ} [ق الآيات: 31 - 34].
أثر الإخلاص في الأعمال:
إنَّ الإخلاصَ يشترط في كلِّ عمل شرعه الله ليُتعبد به ويُتقرب به إليه، وقد هاجر أحدُ المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من أجل امرأة يريد الزواج بها تُعرف بأم قيس، فسُمِّي «مهاجر أم قيس»
(3)
.
وفي هذا الشأن حَدَّثهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث الجامع الذي عَدَّه بعض المُحَدِّثين ربع الإسلام أو ثُلُثه أو نصفه، والذي افتتح به الإمام البخاري «جامعه الصحيح»: ((إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة
(1)
أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة ?، وقد تقدم.
(2)
أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير ?.
(3)
انظر: «شرح الأربعين النووية» لابن دقيق العيد (ص 27).
ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه))
(1)
.
وهذا الحديث أجمع علماء الإسلام في كل اختصاص على تلقيه بالقبول
(2)
.
وقيمة (النية) في الإسلام لا تعتمد على هذا الحديث وحده، وإنما تعتمد على نصوص وأحاديث كثيرة مستفيضة، تُعطي في مجموعها يقينًا جازمًا بأن الأعمال بالنيات، وأنَّ لكل امرئ ما نوى، ولو أخذنا كتابًا كـ «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري مثلًا لوجدناه يَذكر في فضل النية الصالحة أحد عشر حديثًا، وفي الترغيب في الإخلاص ثلاثة عشر حديثًا، وفي الترهيب من الرياء أكثر من ثلاثين.
فهذه المجموعة من الأحاديث وما شابهها- مع ما جاء في القرآن من آيات- هو السند اليقين لقيمة النية في الأعمال.
الشرط الثاني: المتابعة:
تعريف المتابعة:
معنى المتابعة: أن تكون عبادة المسلم تابعةً لِما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تحقيق شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، وهو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أَخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألَّا يُعبد الله إلَّا بما شرع عليه الصلاة والسلام.
الأدلة على وجوب هذا الشرط:
أوَّلًا: من القرآن:
قوله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر الآية: 7]، وقوله جل وعلا: {ومَا أَرْسَلنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
…
} [النساء الآية: 64]، وقوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
…
} [النساء الآية: 80]، وقوله جل وعلا: {ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولَا
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب ?، وقد تقدم.
(2)
انظر: «شرح الأربعين النووية» لابن دقيق العيد (ص 24، 25).
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب الآية: 36].
ثانيًا: ومِن السُّنَّة:
ما رواه مسلم في «صحيحه» عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ عَمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ))
(1)
.
وفي رواية عنها- رضي الله عنها أيضًا: ((مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ))
(2)
، أي: مردود عليه غير مُتَقَبَّل منه كائنًا مَنْ كان.
وفي معرض ذكر أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة قال ابن القيم رحمه الله: «وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ولِما يُحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يَقبل الله من عاملٍ سواه، وهو الذي ابتلى عباده بالموت والحياة لأجله؛ قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَيَاةَ لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك الآية: 2]. وجعل ما على الأرض زينة لها؛ ليَختبرهم أيهم أحسن عملًا.
…
فلا يَقبل الله من العمل إلَّا ما كان خالصًا لوجهه، على متابعة أمره، وما عدا ذلك فهو مردودٌ على عامله، يُرد عليه أحوج ما هو إليه هباءً منثورًا»
(3)
.
جماع هذه الشروط:
(1)
أخرجه مسلم (1718).
(2)
أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) من حديث أبي هريرة ?.
(3)
«مدارج السالكين» (1/ 104، 105)، دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة الثالثة، 1416 هـ- 1996 م.
وقد جمع الله بين هذه الشروط الثلاثة في آية واحدة؛ فقال تعالى: {ومَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُو مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا واتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء الآية: 125].
وبيان ذلك:
الشرط الأول: الإخلاص، ودليله: قوله تعالى: {أَسْلَمَ وجْهَهُ للهِ
…
} [النساء الآية: 125] الآية.
والشرط الثاني: المتابعة، ودليلها: قوله سبحانه: {وهُو مُحْسِنٌ} [النساء الآية: 125]، والمحسن: هو ما كان عمله وَفْق ما جاء عن اللهِ وعن رسولِه صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثالث: صحَّة المعتقَد، ودليله قوله جل جلاله: {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
…
} [النساء الآية: 125] الآية.
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أي: لا أحدَ أحسن من دينِ مَنْ جَمَع بين الإخلاص للمعبود، وهو إسلام الوجه لله، الدَّال على استسلام القلب وتوجُّهه وإنابته وإخلاصه، وتوجُّه الوجه وسائر الأعضاء لله. {وهو} [النساء الآية: 125] مع هذا الإخلاص والاستسلام {مُحسِن} [النساء الآية: 125] أي: مُتَّبِع لشريعة الله التي أَرسل الله بها رُسله، وأنزل بها كتُبه، وجعلها طريقًا لخواص خلقه وأتباعه.
{واتبع ملة إبراهيم} [النساء الآية: 125] أي: دينه وشرعه.
{حنيفًا} [النساء الآية: 125] أي: مائلًا عن الشرك إلى التوحيد وعن التوجُّه للخلق، إلى الإقبال على الخالق"
(1)
.
فلا بدَّ من توفُّر هذه الشروط في العبادة حتى تكون صالحةً مقبولةً عند الله عز وجل.
(1)
«تفسير السعدي» المسمى: «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» (ص 206)، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ- 2000 م.
أمَّا إذا اختلَّ شرطٌ من هذه الشروط فإنَّها لا تصحُّ، وبالتالي لا تنفع صاحبها، بل تكون وبالًا عليه في الدِّين والدُّنيا والآخرة
(1)
.
(1)
انظر: «العبادة .. تعريفها. أركانها. شروطها. مبطلاتها» لسليمان العثيم (ص 48 - 51).
انقسام الناس في عبادة الله والاستعانة إلى أربعة أقسام
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام
فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه.
وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحرِّيًا للطاعة والورع، ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع.
وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر، من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة، فقد يمكَّن أحدهم، ويكون له نوع من الحال باطنًا وظاهرًا، ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول، ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين، والعاقبة للتقوى، فالأولون لهم دين ضعيف، ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حال وقوة، ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر، واتبع فيه السنة.
وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فهو لا يشهد أن علمه لله، ولا أنه بالله".
الشرح
أقسام النَّاس في شروط صحة العبادة
الناس مُنقسمون في هذا الباب إلى أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة:
(الإخلاص): إذ إنَّ أعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاءهم لله، ومنعهم لله، وحُبَّهم لله، وبُغضهم لله؛ فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يُريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربًا من ذَمِّهم، بل قد عَدُّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؛ فالعمل لأجل الناس، وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، ورجاؤهم للضر والنفع منهم- لا يكون مِنْ عارف بهم البتة، بل من جاهل بشأنهم، وجاهل بربِّه؛ فمَن عرف الناس أنزلهم منازلهم، ومَن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله، وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه، ولا يُعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق، وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثرَ معاملة الله على معاملتهم.
(المتابعة): وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يَقبل الله مِنْ عامل سواه، وهو الذي ابتلى عباده بالموت والحياة لأجله؛ فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، على متابعة أمره، وما عدا ذلك فهو مردود على عامله، يُرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورًا، وكل عمل بلا اقتداء؛ فإنَّه لا يزيد عامله من الله إلا بُعدًا، فإنَّ الله تعالى إنما يُعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء.
القسم الثاني: مَنْ لَا إِخْلَاصَ لَهُ ولَا مُتَابَعَةَ:
فَلَيْسَ عَمَلُهُ مُوافِقًا لِشَرْعٍ، ولَيْسَ هُو خَالِصًا لِلمَعْبُودِ؛ كَأَعْمَالِ المُتَزَيِّنِينَ لِلنَّاسِ، المُرَائِينَ لَهُمْ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ ورَسُولُهُ؛ فَإِنَّهُمْ يَرْتَكِبُونَ الأمور التي لم يَشرعها الله، ويجمعون معها الرِّيَاءَ والسُّمْعَةَ، فَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ مِنَ الِاتِّبَاعِ والإِخْلَاصِ والعِلمِ.
القسم الثالث: مَنْ هُو مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ، لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الأَمْرِ:
بعض الناس يَظهر عليه الإخلاص في عمله، لكنه يفعل أمورًا مخالفةً للشرع؛ كمن يَظُنُّ أَنَّ مُواصَلَةَ صَوْمِ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ قُرْبَةٌ، وأَنَّ صِيَامَ يَوْمِ فِطْرِ النَّاسِ قُرْبَةٌ، وأَمْثَالِ ذَلِكَ، وقد جاء الشرعُ بالنَّهي عن مواصلة الصوم؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الوِصَالِ؛ قَالُوا: إنَّكَ تُواصِلُ. قَالَ: «إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمَ وأُسْقَى»
(1)
.
وأمَّا صيام يوم العيد؛ فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفِطر))
(2)
.
(3)
.
القسم الرابع: مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الأَمْرِ، لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ:
كَطَاعَةِ المُرَائِينَ، وكَالرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً وحَمِيَّةً وشَجَاعَةً، ويَحُجُّ لِيُقَالَ، ويَقْرَأُ القُرْآنَ لِيُقَالَ؛ فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ ظَاهِرُهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، لَكِنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال:{ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة الآية: 5]؛ فَكُلُّ أَحَدٍ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ
(1)
أخرجه مسلم (1102).
(2)
أخرجه مسلم (1138).
(3)
أخرجه البخاري (5063) واللفظ له، ومسلم (1401).
بِمَا أَمَرَ، والإِخْلَاصِ لَهُ فِي العِبَادَةِ
(1)
.
ودليله: حديث أبي هريرة ? قال: ((حَدَّثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة يَنزل إلى العباد؛ ليَقضي بينهم وكل أمة جاثية؛ فأَوَّل مَنْ يَدعو به رجلٌ جَمَعَ القرآنَ، ورجلٌ يُقتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال؛ فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: أَلَم أُعَلِّمْك ما أَنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا ربِّ. قال: فماذا عملتَ فِيما عُلِّمْتَ؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله تبارك وتعالى له: كَذَبْتَ، وتقول له الملائكة: كَذَبْتَ، ويقول الله: بل أردتَ أن يُقال: فلان قارئ؛ فقد قيل ذاك! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: أَلَم أُوَسِّع عليك حتى لَم أَدَعَك تحتاج إلى أحدٍ؟ قال: بلى يا ربِّ. قال: فماذا عملتَ فيما آتيتك؟ قال: كنت أَصِل الرَّحم وأتصدق! فيقول الله له: كَذَبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله: بل إنَّما أردتَ أن يُقال: فلان جَوَاد فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قُتِل في سبيل الله؛ فيقال له: في ماذا قتلتَ؟ فيقول: أُمرت بالجهاد في سبيلِك، فقاتلتُ حتى قُتلت! فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردتَ أن يُقال: فلان جَرِيء؛ فقد قيل ذاك». ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم رُكبتي؛ فقال: «يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أَوَّلُ خَلق الله تُسَعَّر بهم النَّار يوم القيامة»
(2)
.
فإذا أراد الإنسان أن يُحَقِّق عبادة الله عز وجل، وأن يَصل إلى هذه الغاية: أن يكون مِنْ أهل هذه الطاعة والعبادة ومِن أهل صِراط الله المستقيم، ممن استقام على شرع الله عز وجل؛ فعليه أن يحقق هذين الشرطين-: الإخلاص والمتابعة- في كل عمل.
(1)
«مدارج السالكين» (1/ 104 - 106).
(2)
أخرجه الترمذي (2382) والنسائي في «الكبرى» (2382)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1713).
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فالمعتزلة ونحوهم من القدرية الذين أنكروا القدر هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهي، والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية خير من المعتزلة، ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي، والوعد والوعيد، حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك، فيصيرون أيضًا معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم، فهم معتزلة من هذا الوجه، وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرًّا من بدعة أولئك المعتزلة، وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة".
الشرح
عقد المصنف مقارنة بين المعتزلة القدرية وبين المتصوفة في جانبين هما:
جانب القدر.
وجانب الأمر والنهي.
والمعروف عن المعتزلة أنهم في باب القدر كانوا قدرية يقولون: إن الله سبحانه وتعالى ليس له قدرة ولا تصرُّف في فعل العبد وإنما العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، وليس لله تعالى قدرة أو تصرُّف في فعل العبد.
وأما في باب الأمر والنهي فقد أحدثت المعتزلة القول بالمنزلة بين المنزلتين وقالوا بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد في النار، وأن النار لا يخرج منها من دخلها.
(1)
(1)
كتاب الحسنة والسيئة ص 103.
وكانت "الخوارج" قد تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا: "إنهم كفار مخلدون في النار، فخاض الناس في ذلك
(1)
وخاض في ذلك المعتزلة بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية، ولم يكن الناس إذ ذاك قد أحدثوا شيئاً من نفي الصفات.
(2)
فقال عمرو عبيد وأصحابه لا هم مسلمون ولا كفار بل هم في منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار. فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنهم ليس معهم من الإسلام والإيمان شيء، ولكن لم يسموهم كفاراً. واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل قتادة وأيوب السختياني وأمثالهما، فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن، وقيل إن قتادة كان يقول: أولئك المعتزلة.
(3)
وأصل بدعة القدرية كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع؛ وكانوا قد آمنوا بدين الله وآمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصي، لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه، وظنوا أيضاً أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يفسد".
وعلى هذا الأساس فالمعتزلة ونحوهم من القدرية الذين أنكروا القدر هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهي.
أما المتصوفة فهم في باب القدر جبرية وهم على صنفين:
(1)
مجموع الفتاوى 13/ 37.
(2)
كتاب الحسنة والسيئة ص 103.
(3)
مجموع الفتاوى 13/ 37، 38.
أمَّا الصنف الأول المغالي: فهو يشهد أنه مجبور على أفعاله، وأن الله هو المتصرف فيه، كما يحرك سائر المحركات، ويزعم أنه لما شهد ذلك ارتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد، لأنه وصل إلى مرتبة في التصوف؛ بحيث لا يرى لنفسه فعلًا، ويرى أنه متحرك كسائر المتحركات، فعند هذا لا يلزمه الأمر والنهي.
يحتجون بالحقيقة الكونية لا يطردون هذا القول، أي: لا يستمرون عليه، ولا يلتزمونه في كل أمورهم، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم؛ فمتى ما كان القدر يناسب آراءهم وأهواءهم أخذوا به، وأما إذا كان القدر لا يناسب آراءهم وأهواءهم لم يأخذوا به، كما قال بعض العلماء:«عند الطاعة قدرية، وعند المعصية جبرية» ، فأي مذهب وافق أهواءهم تمذهبوا به.
فترى الواحد منهم عند الأمر يحتج بالقدر؛ فيقول: لو شاء الله أن أُصَلِّي سأصلي، وإن لم يشأ أن أُصلي فلن أصلي!
وأمَّا في جانب المعصية، فيقول: أنا مجبور على فِعلها، لا أستطيع أن أخالف فِعل الله فيَّ!
فلماذا لا يقول: أنا مجبور على الطاعة؛ سأقوم وأُصلي؛ لأنني مجبور.
فهو إذا جاء باب الطاعة أصبح قدريًّا؛ فيحتج بالقدر على تركها.
وإذا جاء باب المعصية أصبح جبريًّا؛ يزعم أنه مجبور على فعلها ..
فيتمذهب بالمذهب الذي يُوافق هواه؛ لينسلخ من الأوامر، وليقترف من النواهي ما شاء، والعياذ بالله.
وأمَّا الصنف الثاني: وهم الذين يدعون التحقيق والمعرفة، ويزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه أفعالًا وأثبت له صفات، يعني: إذا كان العبد لم يصل إلى الدرجة المطلوبة من التصوف؛ بحيث يرى أنه فاعل لهذه الأشياء، وأن في هذه
النفس هذه الصفات، فيقولون: هذا يلزمه أن يأتي بالأوامر والنواهي، بمعنى: أنه إذا كان من المريدين، أو كان من عوام الناس فعليه أن يلتزم بالأوامر والنواهي؛ لأن هذا لم يصل إلى درجة ورتبة من هذا الشهود؛ بحيث إنه لا يشهد لذات نفسه فعلًا، فقال: يزعمون أن الأمر والنهي لازم لهذا الصنف من الناس، لمن شهد لنفسه أفعالًا، وأثبت لها صفات.
فالمتصوفة يرون أنه في حال وصول هذا الشخص إلى رُتبة مُعينة- تسقط عنه الأوامر والنواهي، وقد يقولون:(مَنْ شهد الإرادة سقط عنه التكليف).
فإذا وصل إلى مرحلة شهود الله عز وجل وأنه الفاعل لكل شي على الحقيقة وأنهم لا فعل لهم ولا مشيئة، على حدِّ زعمهم- فهذا لا تكليف عليه، وكما سيأتي أنهم يقولون في هذا: إنه يصبح مثل البَحر؛ لا تضره الذنوب، كما أن الأوساخ لا تؤثر في البحر الخضم. أي: لا يتأثر بذنب ولا ينتفع بطاعة، وهذا من استدراج الشيطان لهم، والعياذ بالله.
ويزعمون أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة؛ لأنه- من الأولياء، والأولياء لهم مَرتبة تُسقط عنهم التكاليف.
فيُفرقون بين العامَّة والخاصة؛ فالخواص تسقط عنهم الأوامر والنواهي، ويكتفون بشهود الحقيقة الكونية، قال المصنف:«وقد يفرقون بين مَنْ يعلم ذلك علمًا وبين مَنْ يراه شهودًا» ، أي: لا يكتفون بمجرد العلم؛ فبعضهم قال: إذا كان هذا الشخص علم هذه الأمور دون أن يشهد ذلك شهودًا، أي: تُكشف له الحجب، ويكون مع الحضرة الإلهية مشافهة، فإذا لم يصل إلى مرحلة الكشف، فيظل على التزام بالأوامر والنواهي، بمعنى: أنه لا يسقط عنه التكليف حتى يُكشف له الحجاب، وحتى يرى الله مشاهدة.
فلا يُسقطون التكليف عمن يعلم ذلك ويؤمن به فقط، وإنما لا بد من شهوده للحضرة الإلهية، على حدِّ زعمهم.
ولا شك أن هذا من استدراج الشيطان لهم؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد قال: ((تَعَلَّمُوا؛ أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ- عز وجل حَتَّى يَمُوتَ))
(1)
، فلا سبيل إلى رؤية الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا، فهي أمر ممتنع، ولكن الشيطان يستدرج هؤلاء، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما تكلم مع ابن صياد، فقال له النبي:«ما ترى؟» . قال: أرى عرشًا على الماء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تَرى عرشَ إبليس على البَحر))
(2)
، فهذا الذي يراه هؤلاء إنَّما هو شيطان من الشياطين يَتمثل لهم، ويستدرجهم بهذه الأمور والأحوال؛ ليخرجهم عن الدين، مِنْ طريق ترك العبادة؛ فأصبح هؤلاء لا دين لهم، والعياذ بالله.
وعليه فإن الصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية خير من المعتزلة، ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي، والوعد والوعيد، حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك، فيصيرون أيضًا معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم، فهم معتزلة من هذا الوجه، وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرًّا من بدعة أولئك المعتزلة.
قول المصنف: "وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة"
أما المعتزلة فأول ما تأسَّست على يد واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيدـ وكانت البصرة مركزاً للمعتزلة، وكانت كما يقولون: البصرة عشَّ القدرية، والكوفة عشَّ التشيُّع، فكانت مقالة القدرية أظهر في البصرة.
وكان من أشهر مقالات واصل بن عطاء مسألة المنزلة بين المنزلتين، ومقالة
(1)
أخرجه مسلم (2930) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم (2925) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
القدرية، وكذلك ميله في مسائل الإيمان إلى قول الخوارج في ذلك لأنهم يقولون:"إن الإيمان قول واعتقاد وعمل لكن لا يزيد ولا ينقص"
(1)
.
فقد جاء واصل بقول في مرتكب الكبيرة يوافق فيه الخوارج من حيث النتيجة؛ لأن الفرق بين مقالة الخوارج ومقالة المعتزلة في هذه المسألة هو أنهم اختلفوا في حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا، وإنما في المآل أي في الآخرة هم على قول واحد، إذ إن كلًّا من الخوارج والمعتزلة يقول: إنه خالد مخلد في النار، لكن المعتزلة يجعلونه في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، ويقولون في منزلة بين المنزلتين.
فأظهر واصل بن عطاء هذه المقالة واعتزل مجلس الحسن البصري، ومن هنا من بعد ذلك سمي أتباعه المعتزلة. فنشأ الاعتزال في البصرة، وكانت في ذلك الوقت مرتع للبدع فكان فيها الخوارج والقدرية والمرجئة، وكذلك كان فيها شيء من التشيُّع.
فمن هنا كان الاعتزال مركباً من عدة مقالات، فأخذ شيئًا من القدرية، وأخذ شيئًا من الخوارج، وأخذ كذلك شيئًا من الجهمية وإن كان هذا بعد ذلك. فمثلاً تأثرهم بالخوارج لأن واصل بن عطاء كان يقول في مسألة أهل صفين، ومسألة التحكيم كان يقول: إن أحد الطائفتين يعني فاسق لا بعينه، فيفسق ولكن بدون تحديث أو تعيين أي الطائفتين كذلك. وكان يقال عنه:"لو جاء علي وأصحابه ومعاوية أصحابه يشهدون عندي على حزمة بقل، لرددت شهادة الاثنين"
(2)
.
فبالتالي هذا يظهر مدى العلاقة بين الخوارج وبين المعتزلة فيما بعد، لأنه لا يزال إلى اليوم فكر الاعتزال موجوداً عند بقية الخوارج وهم الإباضية، والإباضية
(1)
انظر كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، صفحة (43).
(2)
انظر كتاب العرش للذهبي الجزء الأول، صفحة (51).
اليوم في مسائل الصفات وفي بعض المسائل على عقيدة الاعتزال، يدعون إليها بنفس الكلام الذي يقوله المعتزلة. وللاعتزال كذلك صلة بالتشيُّع لأن المعتزلة لو درسْت في تاريخهم، يزعمون أن واصل بن عطاء تتلمذ على الحسن والحسين ابني عليٍّ رضي الله عنهم، يزعمون ذلك، يدَّعون ذلك.
وبالتالي بعد هذا كان هناك تقارب بين المعتزلة والروافض، ولذلك الروافض اليوم الإمامية الاثنا عشرية، والزيدية في مسائل الأسماء والصفات يحملون فكر الاعتزال، فلو جئت إلى الزيدية، ولو جئت إلى الروافض تناقشهم في مسائل الصفات تجد أن ما عندهم هو ما عند المعتزلة.
وأما التصوف فكان أول ظهوره في البصرة، وكان ممن اشته فيها طلق بن حبيب العنزي، وعطاء السلمي الذي بكى حتى عمش
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوف، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وظهر أحمد بن عطاء الهجيمي ت 200 هـ، تلميذ عبد الواحد بن زيد تلميذ الحسن البصري، وكان له كلام في القدر، وبنى دويرة للصوفية ـ وهي أول ما بني في الإسلام ـ أي داراً بالبصرة غير المساجد للالتقاء على الذكر والسماع ـ صار لهم حال من السماع والصوت ـ إشارة إلى الغناء. وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل، وَأَمَّا " الشَّامِيُّونَ فَكَانَ غَالِبُهُمْ مُجَاهِدِينَ وَأَهْلَ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ أَقْرَبَ إلَى الْحَالِ الْمَشْرُوعِ مِنْ صُوفِيَّةِ الْبَصْرِيِّينَ إذْ ذَاكَ. وَلِهَذَا تَجِدُ كُتُبَ "الْكَلَامِ؛ وَالتَّصَوُّفِ" إنَّمَا
(1)
((سير أعلام النبلاء)) الذهبي (14/ 601).
خَرَجَتْ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْبَصْرَةِ.
فَمُتَكَلِّمَةُ الْمُعْتَزِلَةِ أَئِمَّتُهُمْ بَصْرِيُّونَ: مِثْلُ أَبِي الهذيل الْعَلَّافِ وَأَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
…
وَأَبِي الْحُسَيْنِ، الْبَصْرِيِّ وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ؛ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَصَاحِبِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَاهِلِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِمْ.
وَكَذَلِكَ كُتُبُ "الْمُتَصَوِّفَةِ وَمَنْ خَلَطَ التَّصَوُّفَ بِالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ" كَكُتُبِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ المحاسبي وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ. وَقَدْ شَرَكَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ والْخُراسانِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ خَلْقٌ. لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ الْأُصُولَ مِنْ ثَمَّ"
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 358 - 360 بتصرف.
دين الله هو ما بعث به رسله
المتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم، وهو طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير القرون، وأفضل الأمة، وأكرم الخلق على الله بعد النبيين، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة الآية: 100]، فرضي عن السابقين الأولين رضاء مطلقًا، ورضي عن التابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة:((خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)).
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "من كان منكم مُسْتنّا فليستنّ بمن قد مات، فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبرّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه؛ فاعرفوا لهم حقَّهم، وتَمَسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"
(1)
. وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا معشر القراء استقيموا وخُذوا طريق مَنْ كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولأن أخذتُم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا.
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخَطَّ خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: ((هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان
(1)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 96)
يدعو إليه، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الآنعام الآية: 153]).
وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نقول في صلاتنا: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ • صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة الآيات: 6 - 7 [قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون))، وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه، والنصارى عبدوا الله بغير علم.
ولهذا كان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. وقال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه الآية: 123]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"تكفّل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة"، وقرأ هذه الآية.
وكذلك قوله تبارك وتعالى: {الم • ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ • الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ • والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ • أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة الآية: 1 إلى 4]، فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء مهتدون مفلحون، وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين.
فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين".
الشرح
شرع المصنف هنا في ذكر خاتمة هذا الكتاب في بيان فضل التمسك بما كان عليه السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله عليهم، ومن اتبعهم بإحسان.
فأهل السنة يتميزون باعتقادهم أن الصحابةَ-رضوان الله عليهم-لم يكن أحدٌ منهم على بدعة.
وما عُرفوا بذلك برغمِ ظهورِ بعض الفرقِ في زمانهم كالخوارجِ والقَدَرِيَة والشيعةِ ونحو ذلك، ومع ذلك ما عُرِفَ عن أحدٍ من أصحاب النبي أنه قد حادَ عن هذا الطريق.
ونؤمنُ بأن أصحابَ النبي كما وصفهم ابن مسعود حينما قال: "من كانَ مُسْتَنًّا، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنة"، وكما أُثِر عنه حيث قال: "إنا نقتدي ولا نبتدئ، ونتبعُ ولا نبتدع
(1)
. "
فأصحابُ النبي خيرُ هذه الأمة، والله تعالى قد زكَّاهم في كتابه وأمرَ بلزومِ سبيلهم حيث قال:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة الآية: 100]، فرضيَ الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار رضاءً مطلقا بدونِ قيد، ورضيَ عنهم بعدهم رضاءً مقيَّداً .. مقيَّداً بأي أمر؟ باتباعهم بإحسان {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} .
ونهى الله سبحانه وتعالى عن الافتراقِ عنهم {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء الآية: 115].
نهى عن الافتراقِ عن هذا الطريقِ وهذا السبيل، والمعالم بحمد لله تعالى واضحة، مرجعيةٌ استقامَ عليها الأوائل وحفظوها لنا بأسانيدها الصحيحةِ الثابتة ونقلوها لنا، وأصبحت-بحمد الله تعالى-ميراثاً سليماً من كل بدعةٍ ومن كل شائبة يتوارثه أهل السنَّةِ جيلاً بعدَ جيل، وينقله الخيارُ من هذه الأمة، ينقله ورثةُ الأنبياء
(1)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 96)
لكلِّ جيلٍ من هذه الأجيال.
فلذلك لا عجبَ أن يتسمَ هذا المنهج بثباته وعدمِ اضطرابه، ولا عجبَ أن يتسمَ هذا المنهج بلزومِ كلام الله وبلزومِ كلام رسوله، ولا عجبَ أن يستمرَ هذا الإسناد محفوظاً جيلاً بعدَ جيل.
فهذه هي مرجعيةُ أهل السنَّة التي بحمد الله تعالى نُقلِت لنا في كتبِ الاعتقاد، ولزِمَها أهلُ السنَّةِ على مدى هذه الأزمانِ وعلى هذه الأعصار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، يدور على ذلك، ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخصٍ انتصارًا مطلقًا عامًا، إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصارًا مطلقًا عامًا، إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا؛ فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء فإنهم قد يجمعون على خطأ، بل كل قولٍ قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ؛ فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مُسَلَّمًا إلى عالِمٍ واحدٍ وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم.
ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول، قبل وجود المتبوعين الذين تُنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف
الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة، فلابد أن يكون قوله إن كان حقًّا مأخوذًا عمَّا جاء به الرسول، موجودًا فيمن قبله، وكل قول قِيلَ في دين الإسلام، مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه، فإنه قول باطل
(1)
.
قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة الآية: 100]
وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر الآية: 10].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((فقد تبين أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، ومعرفة ما أراد بذلك كما كان على ذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم، فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم، فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا، فكيف بأصول التوحيد والإيمان، ثم إذا عرف ما بينه الرسول نظر في أقوال الناس، وما أرادوه بها، فعرضت على الكتاب والسنة))
(2)
.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل الأمة على الإطلاق، ومحبتهم من كمال الإيمان، وبغضهم والوقيعة فيهم من علامات أهل البدع، وقد وردت نصوص كثيرة تبين فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه النصوص ما يلي:
(1)
منهاج السنة ج 5/ 261 - 263.
(2)
مجموع الفتاوى 443/ 17.
ومن الأدلة على فضل الصحابة من القرآن الكريم:
- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة الآية: 100].
أدلة فضل الصحابة من السنة النبوية:
- عن أبي موسى رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ قَالَ فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:«مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ، قَالَ «أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ» قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:«النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»
(1)
.
- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ
(1)
أخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة (4/ 1961 رقم 2531).
صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ"
(1)
.
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ: تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ "
(2)
.
- وعن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- قَالَ عِمْرَانُ: فَمَا أَدْرِي: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ "
(3)
.
- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ»
(4)
.
أدلة فضل الصحابة من أقوال السلف:
- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: " إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ
(1)
أخرجه البخاري كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 2 رقم 3649). وأخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/ 1962 رقم 2532).
(2)
أخرجه البخاري كتاب القدر باب إذا قال: أشهد بالله، أو شهدت بالله (8/ 134 رقم 6658).
وأخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/ 1962 رقم 2533).
(3)
أخرجه البخاري كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 2 رقم 3650). وأخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/ 1964 رقم 2535).
(4)
أخرجه البخاري كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلًا» (5/ 8 رقم 3673). وأخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة 54 - باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (4/ 1967 رقم 2540).
مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ "
(1)
.
- وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: "مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَبَرَّهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَقْلِ دِينِهِ، فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ، فَهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ"
(2)
.
- وقال الشعبي: قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم قالوا: أصحاب محمد. لم يستثنوا إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة"
(3)
.
- وقال الإمام مالك بن أنس: "من يبغض أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين ثم قرأ قول الله سبحانه وتعالى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر الآية: 7]، إلى قوله {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر الآية: 10]، وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح الآية: 29].، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فقد أصابته
(1)
أخرجه أحمد بسند حسن (6/ 84 رقم 3600).
(2)
حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 305). وشرح السنة للبغوي (1/ 214).
(3)
شرح أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي (8/ 1549).
الآية"
(1)
.
- وقال الطحاوي رحمه الله: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"
(2)
.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر الآية: 10]، وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله:((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))
(3)
.
وأهل السنة يتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم
(1)
شرح السنة للبغوي (1/ 229).
(2)
العقيدة الطحاوية (ص: 81).
(3)
العقيدة الواسطية (ص: 115).
من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات.
ورحم الله القحطاني حين قال:
قل خير قول في صحابة أحمد
…
وامدح جميع الآل والنسوان
دع ما جرى بين الصحابة في الوغى
…
بسيوفهم يوم التقى الجمعان
فقتيلهم منهم وقاتلهم لهم
…
وكلاهما في الحشر مرحومان
والله يوم الحشر ينزع كل ما
…
تحوي صدورهم من الأضغان
(1)
.
تم شرح التدمرية
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(1)
نونية القحطاني (ص: 28).