الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الْقُرْآنِ]
[بَاب الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِمَنْ مَسَّ الْقُرْآنَ]
بَاب الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِمَنْ مَسَّ الْقُرْآنَ
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ الْمُصْحَفَ بِعِلَاقَتِهِ وَلَا عَلَى وِسَادَةٍ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَحُمِلَ فِي خَبِيئَتِهِ وَلَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ لِأَنْ يَكُونَ فِي يَدَيْ الَّذِي يَحْمِلُهُ شَيْءٌ يُدَنِّسُ بِهِ الْمُصْحَفَ وَلَكِنْ إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ يَحْمِلُهُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ إِكْرَامًا لِلْقُرْآنِ وَتَعْظِيمًا لَهُ قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي عَبَسَ وَتَوَلَّى قَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
15 -
كِتَابُ الْقُرْآنِ
1 -
بَابُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِمَنْ مَسَّ الْقُرْآنَ
468 -
470 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو (بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ الْأَنْصَارِيِّ، شَهِدَ الْخَنْدَقَ فَمَا بَعْدَهَا وَكَانَ عَامِلَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، عَلَى نَجْرَانَ، مَاتَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، وَقِيلَ: فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَهُوَ وَهْمٌ: (أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ) أَيْ مُتَوَضِّئٌ، قَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا أَصْلٌ فِي كِتَابَةِ الْعِلْمِ وَتَحْصِينِهِ فِي الْكُتُبِ، وَصِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُنَاوَلَةِ ; لِأَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ صَالِحٍ، وَهُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ، عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ، مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً يُسْتَغْنَى بِهَا فِي شُهْرَتِهَا عَنِ الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُتَوَاتِرَ فِي مَجِيئِهِ لِتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بِالْقَبُولِ، وَلَا يَصِحُّ عَلَيْهِمْ تَلَقِّي مَا لَا يَصِحُّ، انْتَهَى.
وَتَابَعَ مَالِكًا عَلَى إِرْسَالِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ فِيهِ أَحْكَامٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، مَوْصُولًا بِزِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَقَصَ عَمَّا ذَكَرْنَا
(قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ الْمُصْحَفَ بِعِلَاقَتِهِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ: حَمَالَتِهِ الَّتِي يُحْمَلُ بِهَا، (وَلَا عَلَى وِسَادَةٍ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ) ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ
(وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَحُمِلَ فِي خَبِيئَتِهِ) جِلْدِهِ الَّذِي يُخَبَّأُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَقِيَاسُهُ مَنْعُهُ بِالْعِلَاقَةِ وَالْوِسَادَةِ إِذْ لَا فَارِقَ (وَلَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ لَأَنْ) أَيْ لَيْسَتْ عِلَّةُ الْكَرَاهَةِ بِمَعْنَى التَّحْرِيمِ لِأَجْلِ أَنْ (يَكُونَ فِي يَدَيِ الَّذِي يَحْمِلُهُ شَيْءٌ يُدَنِّسُ بِهِ الْمُصْحَفَ) ; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ إِذَا كَانَتَا نَظِيفَتَيْنِ لِانْتِفَاءِ الْمَعْلُولِ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، (وَلَكِنْ إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ) كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ (لِمَنْ يَحْمِلُهُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، إِكْرَامًا لِلْقُرْآنِ وَتَعْظِيمًا لَهُ) ، فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَنْ فِي يَدَيْهِ دَنَسٌ وَمَنْ لَا، (قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ) الَّتِي هِيَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي عَبَسَ) : تَطْلُبُ وَجْهَهُ، (وَتَوَلَّى) : أَعْرَضَ، وَهِيَ (قَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى:(كَلَّا) : لَا تَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ (إِنَّهَا) : أَيِ السُّورَةَ أَوِ الْآيَاتِ (تَذْكِرَةٌ) : عِظَةٌ لِلْخَلْقِ {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 12] : حَفِظَ ذَلِكَ فَاتَّعَظَ بِهِ {فِي صُحُفٍ} [عبس: 13] : خَبَرٌ ثَانٍ ; لِأَنَّهَا وَمَا قَبْلَهُ اعْتِرَاضٌ (مُكَرَّمَةٍ) : عِنْدَ اللَّهِ (مَرْفُوعَةٍ) : فِي السَّمَاءِ (مُطَهَّرَةٍ) : مُنَزَّهَةٍ عَنْ مَسِّ الشَّيَاطِينِ (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) : كَتَبَةٍ يَنْسَخُونَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] : مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
قَالَ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ فِي تَأْوِيلِ آيَةِ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79](سُورَةُ الْوَاقِعَةِ: الْآيَةُ: 79) إِلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَصَاحِفُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّاسِ، وَأَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ ; لِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ خِلَافَهُ، وَقَدْ وُجِدَ مَنْ يَمَسُّهُ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ، قَالَ: وَأَدْخَلَ مَالِكٌ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَيْسَ يَقْتَضِي تَأْوِيلَهُ لَهَا بِالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَدْخَلَ أَوَّلَ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِمَسِّ الْقُرْآنِ، وَأَدْخَلَ فِي آخِرِهِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مُخَالِفُهُ، فَأَتَى بِهِ وَبَيَّنَ وَجْهَ ضَعْفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِجَاجِ لِمَذْهَبِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَعَظَّمَهُ، وَالْقُرْآنُ الْمَكْنُونُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هُوَ الْمَكْتُوبُ فِي مَصَاحِفِنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَمْتَثِلَ فِيهَا مَا وَصَفَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِهِ، انْتَهَى.
[بَاب الرُّخْصَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ فِي قَوْمٍ وَهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَسْتَ عَلَى وُضُوءٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَنْ أَفْتَاكَ بِهَذَا أَمُسَيْلِمَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 -
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
469 -
471 - (مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، كَيْسَانَ (السَّخْتِيَانِيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ فَوْقِيَّةٍ فَتَحْتَانِيَّةٍ فَأَلِفٍ فَنُونٍ، أَبِي بَكْرٍ الْبَصْرِيِّ، ثِقَةٍ، ثَبْتٍ، حُجَّةٍ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ الْعُبَّادِ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَلَهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) الْأَنْصَارِيِّ الْبَصْرِيِّ، ثِقَةٍ، ثَبْتٍ، عَابِدٍ، كَبِيرِ الْقَدْرِ، لَا يَرَى الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى، مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ فِي قَوْمٍ وَهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) فَذَهَبَ عُمَرُ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ كَانَ آمَنَ بِمُسَيْلِمَةَ ثُمَّ تَابَ وَأَسْلَمَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي قَتَلَ زَيْدَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَلِذَا كَانَ عُمَرُ يَسْتَثْقِلُهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَبُو مَرْيَمَ الْحَنَفِيُّ، وَأَبَى ذَلِكَ آخَرُونَ ; لِأَنَّ عُمَرَ وَلَّى أَبَا مَرْيَمَ بَعْضَ وِلَايَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَسْتَ عَلَى وُضُوءٍ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَفْتَاكَ بِهَذَا أَمُسَيْلِمَةُ؟ !) بِكَسْرِ اللَّامِ، الْكَذَّابُ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ وَحَارَبَ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ فَقُتِلَ، وَأَصْلُ الْحُجَّةِ فِي الْجَوَازِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَاسْتَيْقَظَ، صلى الله عليه وسلم، وَمَسَحَ النُّوَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ فَتَوَضَّأَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: كَانَ، صلى الله عليه وسلم، لَا يَحْجُبُهُ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةُ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ مِمَّنْ هُوَ مَحْجُوجٌ بِهِمْ
[بَاب مَا جَاءَ فِي تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَقَرَأَهُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ أَوْ كَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ
470 -
472 - (مَالِكٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، الْأُمَوِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ إِلَّا فِي
عِكْرِمَةَ، وَرُمِيَ بِرَأْيِ الْخَوَارِجِ، وَرَوَى لَهُ الْجَمِيعُ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
(عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) بِلَا إِضَافَةِ اسْمِ أَبِيهِ (الْقَارِيِّ) بِشَدِّ الْيَاءِ نِسْبَةً إِلَى الْقَارَةِ، بَطْنٍ مِنْ خُزَيْمَةَ بْنِ مَدْرَكَةَ، يُقَالُ لَهُ: رُؤْيَةُ، وَذَكَرَهُ الْعِجْلِيُّ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ فِيهِ: فَقَالَ تَارَةً لَهُ صُحْبَةٌ وَتَارَةً تَابِعِيٌّ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ. (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ) بِنَحْوِ نَوْمٍ، وَالْحِزْبُ: الْوِرْدُ يَعْتَادُهُ الشَّخْصُ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، (فَقَرَأَهُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ) (أَوْ) قَالَ:(كَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ) بِالشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا وَهْمٌ مِنْ دَاوُدَ ; لِأَنَّ الْمَحْفُوظَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، عَنْ عُمَرَ:" مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ ". وَمِنْ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ مَنْ رَفَعَهُ عَنْهُ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ حِينَ جَعَلَهُ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ ضَيِّقٌ قَدْ لَا يَسَعُ الْحِزْبَ، وَرُبَّ رَجُلٍ حِزْبُهُ نِصْفُ الْقُرْآنِ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ رُبُعُهُ وَنَحْوُهُ، وَلِأَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَتْقَنُ حِفْظًا وَأَثْبَتُ نَقْلًا، انْتَهَى.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ جَالِسَيْنِ فَدَعَا مُحَمَّدٌ رَجُلًا فَقَالَ أَخْبِرْنِي بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ فَقَالَ الرَّجُلُ أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ أَتَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ لَهُ كَيْفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي سَبْعٍ فَقَالَ زَيْدٌ حَسَنٌ وَلَأَنْ أَقْرَأَهُ فِي نِصْفٍ أَوْ عَشْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ وَسَلْنِي لِمَ ذَاكَ قَالَ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ قَالَ زَيْدٌ لِكَيْ أَتَدَبَّرَهُ وَأَقِفَ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
471 -
473 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْمُوَحَّدَةِ، ابْنِ مُنْقِذٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٍ، ثَبْتٍ، فَقِيهٍ، (جَالِسِينَ فَدَعَا مُحَمَّدٌ رَجُلًا فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ أَتَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) ابْنِ الضَّحَّاكِ بْنِ لَوْذَانَ الْأَنْصَارِيَّ النَّجَّارِيَّ، صَحَابِيٌّ كَتَبَ الْوَحْيَ، قَالَ مَسْرُوقٌ: كَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَقِيلَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ
(فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي سَبْعٍ؟ فَقَالَ زَيْدٌ: حَسَنٌ) لِقَوْلِهِ، صلى الله عليه وسلم، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:" «اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» "، (وَلَأَنْ أَقْرَأَهُ فِي نِصْفٍ) مِنَ الشَّهْرِ (أَوْ عَشْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ) قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى، وَأَظُنُّهُ وَهْمًا، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ بُكَيْرٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ:" لَأَنْ أَقْرَأَهُ فِي عِشْرِينَ أَوْ نِصْفِ شَهْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ ". وَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ (وَسَلْنِي لَمْ ذَاكَ؟ قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ، قَالَ زَيْدٌ: لِكَيْ أَتَدَبَّرَهُ وَأَقِفَ عَلَيْهِ) وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29](سُورَةُ ص: الْآيَةُ 29)، وَقَالَ تَعَالَى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4](سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ: الْآيَةُ 4)، وَقَالَ تَعَالَى:{لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106](سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 106)، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْهُ» ". وَقَالَ:" «لَا يُخْتَمُ الْقُرْآنُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» ". وَقَالَ حَمْزَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي سَرِيعُ الْقِرَاءَةِ إِنِّي أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ، قَالَ:" لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ أَتَدَبَّرُهَا وَأُرَتِّلُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ حَدْرًا كَمَا تَقُولُ، وَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاقْرَأْ مَا تَسْمَعُهُ أُذُنُكَ وَيَفْهَمُهُ قَلْبُكَ ".
وَسُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنْ رَجُلَيْنِ قَرَأَ أَحَدُهُمَا الْبَقَرَةَ وَقَرَأَ الْآخَرُ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ رُكُوعُهُمَا وَسُجُودُهُمَا وَجُلُوسُهُمَا سَوَاءً، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: الَّذِي قَرَأَ الْبَقَرَةَ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106](سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 106) قَالَ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَفْضِيلِ التَّرْتِيلِ، وَكَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: " كَانَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا "، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُ مَالِكٍ: مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا حَدَرَ كَانَ أَخَفَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا رَتَّلَ أَخْطَأَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْحَدْرَ، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَخِفُّ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ وَاسِعٌ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُلَازَمَةُ مَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ وَيَخِفُّ عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا تَكَلَّفَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَقْطَعُهُ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَوِ الْإِكْثَارِ مِنْهَا فَلَا يُخَالِفُ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّرْتِيلُ لِمَنْ تَسَاوَى فِي حَالِهِ الْأَمْرَانِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ «سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسِلْهُ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُهَا فَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ
472 -
474 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) ابْنِ الْعَوَّامِ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) بِلَا إِضَافَةٍ (الْقَارِيِّ) بِشَدِّ الْيَاءِ، نِسْبَةً إِلَى الْقَارَةِ، بَطْنٍ مِنْ خُزَيْمَةَ بْنِ مَدْرَكَةَ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَعُدَّ فِي الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهِ أُتِيَ بِهِ لِلنَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ صَغِيرٌ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَزَايٍ، ابْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ الْأَسَدِيِّ، صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ، وَمَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ بَأَجْنَادِينَ (يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ) وَغَلِطَ مَنْ قَالَ سُورَةَ الْأَحْزَابِ (عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا) وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ: " «فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم» "، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيَانُ أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا كَانَ فِي حُرُوفٍ مِنَ السُّورَةِ لَا فِي السُّورَةِ كُلِّهَا وَهِيَ تَفْسِيرٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ ; لِأَنَّ سُورَةً وَاحِدَةً لَا تُقْرَأُ حُرُوفُهَا كُلُّهَا عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، بَلْ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِثْلَ:{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19](سُورَةُ سَبَأٍ: الْآيَةُ 19) وَ {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 60) وَ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 70) وَ {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165](سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 165) وَنَحْوُهُ، (فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ " أُعَجِّلُ " بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مُشَدَّدَةٍ أَيْ أُخَاصِمُهُ وَأُظْهِرُ بَوَادِرَ غَضَبِي عَلَيْهِ، (ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ) مِنَ الصَّلَاةِ فَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ. وَأُسَاوِرُهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ آخُذُ بِرَأْسِهِ أَوْ أُوَاثِبُهُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ انْصَرِفُ مِنَ الْقِرَاءَةِ كَمَا زَعَمَ الْكَرْمَانِيُّ، (ثُمَّ لَبَّبْتُهُ) بِمُوَحَّدَتَيْنِ أُولَاهُمَا مُشَدَّدَةٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ: التَّخْفِيفُ أَعْرَفُ (بِرِدَائِهِ) : أَيْ أَخَذْتُ بِمَجَامِعِهِ وَجَعَلْتُهُ فِي عُنُقِهِ وَجَرَرْتُهُ بِهِ لِئَلَّا يَنْفَلِتَ، مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّبَةِ بِفَتْحِ اللَّامِ ; لِأَنَّهُ يَقْبِضُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا فَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ اعْتِنَاءً بِالْقُرْآنِ وَذَبًّا عَنْهُ وَمُحَافَظَةً عَلَى لَفْظِهِ كَمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ عُدُولٍ إِلَى مَا تَجَوَّزَهُ الْعَرَبُ مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.
زَادَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: " فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ ". وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْكَذِبِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ اجْتِهَادًا مِنْهُ لِظَنِّهِ أَنَّ هِشَامًا خَالَفَ الصَّوَابَ، وَسَاغَ لَهُ ذَلِكَ لِرُسُوخِ قَدَمِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَسَابِقَتِهِ، بِخِلَافِ هِشَامٍ فَإِنَّهُ مِنْ مُسْلَمَةِ الْفَتْحِ فَخَشِيَ أَنْ لَا يَكُونَ أَتْقَنَ الْقِرَاءَةَ، وَلَعَلَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ حَدِيثَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ قَبْلَ ذَلِكَ (فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ:" «فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم "(فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا) » ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ:" عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا ". (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، أَرْسِلْهُ)
بِهَمْزَةِ قَطْعٍ أَيْ أَطْلِقْهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوكًا مَعَهُ (ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ) يَا هِشَامُ، (فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ) بِهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ) يَا عُمَرُ (فَقَرَأْتُهَا)، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ:" فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي "(فَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ) ثُمَّ قَالَ، صلى الله عليه وسلم، تَطْيِيبًا لِقَلْبِ عُمَرَ لِئَلَّا يُنْكِرَ تَصْوِيبَ الْأَمْرَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) جَمْعُ حَرْفٍ مِثْلُ فَلْسٍ وَأَفْلُسٍ (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) أَيِ الْمُنَزَّلِ بِالسَّبْعَةِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حِكْمَةَ التَّعَدُّدِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْقَارِئِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ تَفْسِيرُ الْأَحْرُفِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا عُمَرُ وَهِشَامٌ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، نَعَمِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَمَنْ دُونَهُمْ فِي أَحْرُفٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي التَّمْهِيدِ بِمَا يَطُولُ، وَوَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ مَعَ هِشَامٍ، كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَعَ رَجُلٍ فِي آيَةٍ مِنَ الْفُرْقَانِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ رَجُلٍ فِي سُورَةٍ مِنْ آل حم، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ رَفَعَهُ " «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ» " رَوَاهُ الْحَاكِمُ قَائِلًا: تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِالسَّبْعَةِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو شَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُ أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَجَذْوَةٍ وَالرَّهْبِ، أَوْ أَرَادَ أُنْزِلَ ابْتِدَاءً عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ ثُمَّ زِيدَ إِلَى سَبْعَةٍ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهَا مَحْصُورَةٌ فِي السَّبْعَةِ، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ بَلِ التَّسْهِيلَ وَالتَّيْسِيرَ وَالشَّرَفَ وَالرَّحْمَةَ وَخُصُوصِيَّةَ الْفَضْلِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ لَفْظَ سَبْعَةٍ يُطْلَقُ عَلَى إِرَادَةِ الْكَثْرَةِ فِي الْآحَادِ كَمَا يُطْلَقُ السَّبْعُونَ فِي الْعَشَرَاتِ وَالسَّبْعُمِائَةِ فِي الْمِئِينَ وَلَا يُرَادُ الْعَدَدُ الْمُعَيَّنُ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَرُدَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ " «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ". وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ:" «إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ". وَلِلنَّسَائِيِّ: " «إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَلَى يَمِينِي وَمِيكَائِيلُ عَلَى يَسَارِي، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ» ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: " «فَنَظَرْتُ إِلَى مِيكَائِيلَ فَسَكَتَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدِ انْتَهَتِ الْعِدَّةُ» ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْعَدَدِ وَانْحِصَارِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعِينَ قَوْلًا أَكْثَرُهَا غَيْرُ مُخْتَارٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَلَا أَثَرٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ: هَذَا مِنَ الْمُشْكِلِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ ; لِأَنَّ الْحَرْفَ يَأْتِي لِمَعَانٍ لِلْهِجَاءِ وَلِلْكَلِمَةِ وَلِلْمَعْنَى وَالْجِهَةِ، انْتَهَى.
وَأَقْرَبُهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ لُغَاتٍ، وَعَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَثَعْلَبُ وَالزُّهْرِيُّ وَآخَرُونَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لُغَاتِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَفْصَحُهَا
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ نَحْوَ أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَهَلُمَّ وَعَجِّلْ وَأَسْرِعْ، وَعَلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ وَهْبٍ وَخَلَائِقُ، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّ الْإِبَاحَةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَقَعْ بِالتَّشَهِّي، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُغَيِّرُ الْكَلِمَةَ بِمُرَادِفِهَا مِنْ لُغَتِهِ، بَلْ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ مِنْهُ، صلى الله عليه وسلم، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ كُلٍّ مِنْ عُمَرَ وَهِشَامٍ: أَقْرَأَنِي النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، وَلَئِنْ سَلِمَ إِطْلَاقُ الْإِبَاحَةِ بِقِرَاءَةِ الْمُرَادِفِ وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ، لَكِنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ زَمَنَ عُثْمَانَ الْمُوَافِقَ لِلْعُرْضَةِ الْأَخِيرَةِ يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ هَلِ السَّبْعَةُ بَاقِيَةٌ إِلَى الْآنِ يُقْرَأُ بِهَا أَمْ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ عَلَى الْأَمْرِ بَعْضُهَا؟ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى الثَّانِي كَابْنِ عُيَيْنَةَ وَابْنِ وَهْبٍ وَالطَّبَرِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ، وَهَلِ اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ أَمْ بَعْدَهُ؟ الْأَكْثَرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَاخْتَارَهُ الْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمْ ; لِأَنَّ ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَمَشَقَّةَ نُطْقِهِمْ بِغَيْرِ لُغَتِهِمُ اقْتَضَتِ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَأُذِنَ لِكُلٍّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى حَرْفِهِ أَيْ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي اللُّغَةِ حَتَّى انْضَبَطَ الْأَمْرُ وَتَدَرَّبَتِ الْأَلْسُنُ وَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَارَضَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ وَاسْتَقَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ فَنَسَخَ اللَّهُ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ الْمَأْذُونَ فِيهَا بِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا النَّاسُ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْمُرَادَ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ
وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ ظَنَّ أَنَّ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ كَعَاصِمٍ وَنَافِعٍ هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ مِمَّا ثَبَتَ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَوَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَنْ لَا يَكُونُ قُرْآنًا، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ إِنَّمَا هُوَ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنَ السَّبْعَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
473 -
475 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ) : أَيِ الَّذِي أَلِفَ تِلَاوَتَهُ. وَالْمُصَاحَبَةُ الْمُؤَالَفَةُ، وَمِنْهُ فُلَانٌ صَاحِبُ فُلَانٍ، وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَصْحَابُ الصُّفَّةِ وَأَصْحَابُ إِبِلٍ وَغَنَمٍ وَأَصْحَابُ كَنْزٍ وَعِبَادَةٍ قَالَهُ عِيَاضٌ.
(كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ الثَّقِيلَةِ أَيِ الْمُشَدَّدَةِ بِالْعِقَالِ، وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يَشُدُّ فِي رَقَبَةِ الْبَعِيرِ (إِنْ عَاهَدَ
عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا) أَيِ اسْتَمَرَّ إِمْسَاكُهُ لَهَا (وَإِنْ أَطْلَقَهَا) مِنْ عَقْلِهَا (ذَهَبَتْ) أَيِ انْفَلَتَتْ، وَالْحُصْرُ فِي " إِنَّمَا " حَصْرٌ مَخْصُوصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسْيَانِ وَالْحِفْظِ بِالتِّلَاوَةِ وَالتَّرْكِ شَبَّهَ دَرْسَ الْقُرْآنِ وَاسْتِمْرَارَ تِلَاوَتِهِ بِرَبْطِ الْبَعِيرِ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَشْرُدَ، فَمَا دَامَ التَّعَاهُدُ مَوْجُودًا فَالْحِفْظُ مَوْجُودٌ، كَمَا أَنَّ الْبَعِيرَ مَا دَامَ مَشْدُودًا بِالْعِقَالِ فَهُوَ مَحْفُوظٌ، وَخَصَّ الْإِبِلَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْحَيَوَانَاتِ الْإِنْسِيَّةِ نِفَارًا، وَفِيهِ حَضٌّ عَلَى دَرْسِ الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا:" «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» ". وَقَالَ، صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْوَمَ» ". أَيْ مُنْقَطِعَ الْحُجَّةِ. وَقَالَ. " «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أُوتِيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا» ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «بِئْسَ مَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ» ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ وَأَبَاحَ أَنْ يَقُولَ أُنْسِيتُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63](سُورَةُ الْكَهْفِ: الْآيَةُ 63) وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: النِّسْيَانُ الْمَذْمُومُ هُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ وَلَيْسَ مَنِ انْتَهَى حِفْظُهُ وَتَفَلَّتَ مِنْهُ بِنَاسٍ لَهُ إِذَا عَمِلَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا نَسِيَ، صلى الله عليه وسلم، شَيْئًا مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى - إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7](سُورَةُ الْأَعْلَى: الْآيَةُ 6، 7) وَقَالَ، صلى الله عليه وسلم،:" «ذَكَّرَنِي هَذَا آيَةً أُنْسِيتُهَا» ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 67) أَيْ تَرَكُوا طَاعَتَهُ فَتَرَكَ رَحْمَتَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 44) أَيْ تَرَكُوا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
474 -
476 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) الْمَخْزُومِيَّ، شَقِيقَ أَبِي جَهْلٍ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَاسْتُشْهِدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَدْ تُكْتَبُ الْحَارِثُ بِلَا أَلْفٍ تَخْفِيفًا
(سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم،) قَالَ الْحَافِظُ: هَكَذَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ عَنْ عُرْوَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ عَائِشَةَ حَضَرَتْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فَأَخْرَجُوهُ فِي مُسْنَدِ عَائِشَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحَارِثَ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ بَعْدُ، فَيَكُونُ
مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَحْكُومٌ بِوَصْلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ. وَعَامِرٌ فِيهِ ضَعْفٌ لَكِنْ لَهُ مُتَابِعٌ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ
(كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟) أَيْ صِفَةُ الْوَحْيِ نَفْسِهِ أَوْ صِفَةُ حَامِلِهِ أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَى الْوَحْيِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ حَقِيقَةٌ مِنْ وَصْفِ حَامِلِهِ، وَيُسَمَّى مَجَازًا فِي الْإِسْنَادِ لِلْمُلَابَسَةِ الَّتِي بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمَحْمُولِ، أَوْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ ; شُبِّهَ الْوَحْيُ بِرَجُلٍ وَأُضِيفُ إِلَى الْمُشَبَّهِ الْإِتْيَانُ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لِطَلَبِ الطُّمَأْنِينَةِ لَا يَقْدَحُ فِي الْيَقِينِ، وَجَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: أَحْيَانًا) جَمْعُ حِينٍ يُطْلَقُ عَلَى كَثِيرِ الْوَقْتِ وَقَلِيلِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مُجَرَّدُ الْوَقْتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ:" أَوْقَاتًا "، وَنَصَبَ ظَرْفًا عَامُلُهُ (يَأْتِينِي) مُؤَخَّرٌ عَنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ إِذَا كَانَ ذَا أَقْسَامٍ يَذْكُرُ الْمُجِيبُ فِي أَوَّلِ جَوَابِهِ مَا يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ، (فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ، أَصْلُهُ صَوْتُ وُقُوعِ الْحَدِيدِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى صَوْتٍ لَهُ طَنِينٌ، وَقِيلَ صَوْتٌ مُتَدَارَكٌ لَا يُدْرَكُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ. (الْجَرَسِ) بِجِيمٍ وَمُهْمَلَةٍ الْجُلْجُلُ الَّذِي يُعَلَّقُ فِي رُءُوسِ الدَّوَابِّ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْجَرْسِ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ الْحِسُّ، قِيلَ: الصَّلْصَلَةُ صَوْتُ الْمَلَكِ بِالْوَحْيِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ صَوْتٌ مُتَدَارَكٌ يَسْمَعُهُ وَلَا يُثْبِتُهُ أَوَّلَ مَا يَسْمَعُهُ حَتَّى يَفْهَمَهُ بَعْدُ، وَلَمَّا كَانَ الْجَرَسُ لَا تَحْصُلُ صَلْصَلَتُهُ إِلَّا مُتَدَارَكَةً وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ آلَاتٍ، وَقِيلَ: صَوْتُ حَفِيفِ أَجْنِحَةِ الْمَلَكِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَقَدُّمِهِ أَنْ يَقْرَعَ سَمْعَهُ الْوَحْيُ فَلَا يَبْقَى فِيهِ مَكَانٌ لِغَيْرِهِ. (وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ) ; لِأَنَّ الْفَهْمَ مِنْ كَلَامٍ مِثْلِ الصَّلْصَلَةِ أَشَدُّ مِنَ الْفَهْمِ مِنْ كَلَامِ الرَّجُلِ بِالتَّخَاطُبِ الْمَعْهُودِ، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الشِّدَّةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَشَقَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الزُّلْفَى وَالدَّرَجَاتِ، وَأَفْهَمُ أَنَّ الْوَحْيَ كُلَّهُ شَدِيدٌ وَهَذَا أَشَدُّهُ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْقَائِلِ وَالسَّامِعِ، وَهِيَ هُنَا إِمَّا بِاتِّصَافِ السَّامِعِ بِوَصْفِ الْقَائِلِ فَغَلَبَتِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَإِمَّا بِاتِّصَافِ الْقَائِلِ بِوَصْفِ السَّامِعِ، وَهُوَ الْبَشَرِيَّةُ وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ بِلَا شَكٍّ، وَقَالَ السَّرَّاجُ الْبَلْقِينِيُّ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَظِيمَ لَهُ مُقَدَّمَاتٌ تُؤْذِنُ بِتَعْظِيمِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَانَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً.
وَقِيلَ: كَانَ يَنْزِلُ هَكَذَا إِذَا نَزَلَتْ آيَةُ وَعِيدٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ كَمَا فِي حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ لَابِسِ الْجُبَّةِ الْمُتَضَمِّخِ بِالطِّيبِ فِي الْحَجِّ، فَفِيهِ أَنَّهُ رَآهُ، صلى الله عليه وسلم، حَالَةَ نُزُولِ الْوَحْيِ وَأَنَّهُ لِيَغُطُّ.
(فَيَفْصِمُ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ يُقْطَعُ (عَنِّي) وَيَتَجَلَّى مَا يَغْشَانِي، وَيُرْوَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ
بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الصَّادَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَأَصْلُ الْفَصْمِ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 256)، وَقِيلَ: الْفَصْمُ بِالْفَاءِ الْقَطْعُ بِلَا إِبَانَةٍ، وَبِالْقَافِ الْقَطْعُ بِإِبَانَةٍ، فَذِكْرُهُ يَفْصِمُ بِالْفَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلَكَ فَارَقَهُ لِيَعُودَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا بَقَاءُ الْعَلَقَةِ.
(وَقَدْ وَعَيْتُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ حَفَظْتُ (مَا قَالَ) أَيِ الْقَوْلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَفِيهِ إِسْنَادُ الْوَحْيِ إِلَى قَوْلِ الْمَلَكِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25](سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ: الْآيَةُ 25) ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْوَحْيَ وَيُنْكِرُونَ مَجِيءَ الْمَلَكِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَحْمُودُ لَا يُشَبَّهُ بِالْمَذْمُومِ إِذْ حَقِيقَةُ التَّشْبِيهِ إِلْحَاقُ نَاقِصٍ بِكَامِلٍ، وَالْمُشَبَّهُ: الْوَحْيُ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ: صَوْتُ الْجَرَسِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْ مُرَافَقَةِ مَا هُوَ مُعَلَّقٌ فِيهِ، وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ لَا تَصْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَ شَبَّهَ فِعْلَ الْمَلَكِ بِأَمْرٍ تَنْفِرُ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي التَّشْبِيهِ تُسَاوِي الْمُشَبَّهِ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الصِّفَاتِ كُلِّهَا، بَلْ وَلَا فِي أَخَصِّ وَصْفِ لَهُ، بَلْ يَكْفِي اشْتِرَاكُهُمَا فِي صِفَةٍ مَا، فَالْقَصْدُ هُنَا بَيَانُ الْحِسِّ، فَذَكَرَ مَا أَلِفَ السَّامِعُونَ سَمَاعَهُ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِهِمْ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّوْتَ لَهُ جِهَتَانِ: جِهَةُ قُوَّةٍ وَبِهَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ، وَجِهَةُ طَنِينٍ وَبِهَا وَقَعَ النَّفِيرُ عَنْهُ، وَعُلِّلَ بِكَوْنِهِ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ، وَاحْتِمَالُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ وَقَعَ بَعْدَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ فِيهِ نَظَرٌ، وَهَذَا النَّوْعُ شَبِيهٌ بِمَا يُوحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا:" «إِذَا قَضَى اللَّهُ فِي السَّمَاءِ أَمْرًا ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهَا سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» ". وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ أَبِي عَاصِمٍ مَرْفُوعًا: " «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاءَ رَجْفَةٌ أَوْ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، فَإِذَا سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صَعِقُوا وَخَرُّوا سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلَهُمْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ فَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ أَهْلُهَا مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ قَالَ: الْحَقَّ، فَيَنْتَهِي بِهِ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا: "«إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ يَسْمَعُ أَهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَيَفْزَعُونَ» ".
(وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ) يَتَصَوَّرُ (لِيَ) أَيْ لِأَجْلِي، فَاللَّامُ تَعْلِيلِيَّةٌ (الْمَلَكُ) جِبْرِيلُ، كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ، فَأَلْ عَهْدِيَّةٌ (رَجُلًا) نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ مِثْلَ رَجُلٍ أَوْ بِهَيْئَةِ رَجُلٍ، فَهُوَ حَالٌ، وَإِنْ لَمْ تُئَوَّلْ بِمُشْتَقٍّ لِدَلَالَةِ رَجُلٍ عَلَى الْهَيْئَةِ بِلَا تَأْوِيلٍ أَوْ عَلَى تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ لَا تَمْيِيزِ الْفَرْدِ ; لِأَنَّ الْمَلَكَ لَا إِبْهَامَ فِيهِ، وَكَوْنُ تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ مُحَوَّلًا عَنِ الْفَاعِلِ كَتَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقًا أَوِ الْمَفْعُولِ كَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا، أَمْرٌ غَالِبٌ لَا دَائِمٌ بِدَلِيلِ امْتَلَأَ الْإِنَاءُ مَاءً، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِتَضْمِينِ " يَتَمَثَّلُ " مَعْنَى " يَتَّخِذُ " أَيِ الْمَلَكُ رَجُلًا مِثَالًا، وَاسْتُبْعِدَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِاتِّحَادِ الْمُتَّخِذِ وَالْمُتَّخَذِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثَالٍ بِلَا دَلِيلٍ
قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْمَلَائِكَةُ أَجْسَامٌ عُلْوِيَّةٌ لَطِيفَةٌ تَتَشَكَّلُ أَيَّ شَكْلٍ أَرَادُوا. وَزَعَمَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهَا جَوَاهِرٌ
رُوحَانِيَّةٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَمَثُّلَ الْمَلَكِ رَجُلًا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَاتَهُ انْقَلَبَتْ رَجُلًا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ظَهَرَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ تَأْنِيسًا لِمَنْ يُخَاطِبُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ لَا يَزُولُ وَلَا يَفْنَى بَلْ يَخْفَى عَلَى الرَّائِي فَقَطْ، وَتَقَدَّمَ مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ (فَيُكَلِّمُنِي) بِالْكَافِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ:" فَيُعَلِّمُنِي " بِالْعَيْنِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ فَإِنَّهُ فِي الْمُوَطَّأِ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ بِالْكَافِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ وَغَيْرِهِ.
(فَأَعِي مَا يَقُولُ) زَادَ أَبُو عَوَانَةَ: " «وَهُوَ أَهْوَنُهُ عَلَيَّ» "، وَعَبَّرَ هُنَا بِالِاسْتِقْبَالِ وَفِيمَا قَبْلَهُ بِالْمَاضِي ; لِأَنَّ الْوَحْيَ حَصَلَ فِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْفَصْمِ وَفِي الثَّانِي حَالَ الْمُكَالَمَةِ، أَوْ أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ تَلَبَّسَ بِصِفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَى جِبِلَّتِهِ كَانَ حَافِظًا لِمَا قِيلَ لَهُ فَعَبَّرَ بِالْمَاضِي، بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ عَلَى حَالَتِهِ الْمَعْهُودَةِ.
وَأَوْرَدَ عَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ حَصْرِ الْوَحْيِ فِي الْحَالَتَيْنِ حَالَاتٍ أُخْرَى، أَمَّا مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ بِمَجِيئِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَالنَّفْثِ فِي الرَّوْعِ وَالْإِلْهَامِ وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ وَالتَّكْلِيمِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَأَمَّا فِي صِفَةِ حَامِلِ الْوَحْيِ كَمَجِيئِهِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرُؤْيَتِهِ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ فِي الْحَالَيْنِ، وَحَمْلُهُمَا عَلَى الْغَالِبِ أَوْ حَمْلُ مَا يُغَايِرُهُمَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ السُّؤَالِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِصِفَتَيْ الْمَلَكِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِنُدُورِهِمَا، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ كَذَلِكَ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، أَوْ لَمْ يَأْتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِوَحْيٍ، أَوْ أَتَاهُ بِهِ وَكَانَ عَلَى مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِهَا صِفَةَ الْوَحْيِ لَا صِفَةَ حَامِلِهِ
وَأَمَّا فُنُونُ الْوَحْيِ فَدَوِيُّ النَّحْلِ لَا يُعَارِضُ صَلْصَلَةَ الْجَرَسِ ; لِأَنَّ سَمَاعَ الدَّوِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَاضِرِينَ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ يُسْمَعُ عِنْدَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَالصَّلْصَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، صلى الله عليه وسلم، فَشَبَّهَهُ عُمَرُ بَدَوِيِّ النَّحْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّامِعِينَ، وَشَبَّهَهُ هُوَ، صلى الله عليه وسلم، بِصَلْصَلَةِ الْجَرَسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ.
وَأَمَّا النَّفْثُ فِي الرَّوْعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ، فَإِذَا أَتَاهُ فِي مِثْلِ الصَّلْصَلَةِ نَفَثَ حِينَئِذٍ فِي رَوْعِهِ، وَأَمَّا الْإِلْهَامُ فَلَمْ يَقَعِ السُّؤَالُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ صِفَةِ الْوَحْيِ الَّذِي يَأْتِي بِحَامِلٍ، وَكَذَا التَّكْلِيمُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
وَأَمَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا تَرِدُ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ عَنِ النَّاسِ وَالرُّؤْيَا قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، انْتَهَى.
وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَإِنْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ فَهِيَ بِاعْتِبَارِ صِدْقِهَا، وَإِلَّا لَسَاغَ أَنْ يُسَمَّى صَاحِبُهَا نَبِيًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلَ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَمَّا فِي الْيَقَظَةِ، وَلِكَوْنِ حَالِ الْمَنَامِ لَا يَخْفَى عَلَى السَّائِلِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ ظُهُورُ ذَلِكَ لَهُ، صلى الله عليه وسلم، فِي الْمَنَامِ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا غَيْرَ، قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ عَلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ نَوْعًا فَذَكَرَهَا، وَغَالِبُهَا مِنْ صِفَاتِ الْوَحْيِ، وَمَجْمُوعُهَا يَدْخُلُ فِيمَا ذُكِرَ، انْتَهَى.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) بِالْإِسْنَادِ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَتِيقِ بْنِ
يَعْقُوبَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْهَا، مَفْصُولًا عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. وَكَذَا فَصَلَهُمَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، وَنُكْتَتُهُ هُنَا اخْتِلَافُ التَّحَمُّلِ ; لِأَنَّهَا فِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَتْ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَارِثِ، وَفِي الثَّانِي أَخْبَرَتْ عَمَّا شَاهَدَتْهُ تَأْيِيدًا لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ
(وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ) بِوَاوِ الْقَسَمِ وَاللَّامِ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْصَرْتُهُ (يَنْزِلُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهُ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِضَمِّ أَوَّلِهُ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ (عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ) الشَّدِيدِ صِفَةٌ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ لَهُ ; لِأَنَّهُ صِفَةُ الْبَرْدِ لَا الْيَوْمِ (فَيَفْصِمُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَوْ بِضَمِّهَا وَكَسْرِ الصَّادِ، مِنْ أَفْصَمَ، رُبَاعِيٌّ، وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، أَوْ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، رِوَايَاتٌ كَمَا مَرَّ، أَيْ يَقْلَعُ (عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لِيَتَفَصَّدُ) بِالْيَاءِ ثُمَّ التَّاءِ وَفَاءٍ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ ثَقِيلَةٍ، مِنَ الْفَصْدِ، وَهُوَ قَطْعُ الْعِرْقِ لِإِسَالَةِ الدَّمِ، شُبِّهَ جَبِينُهُ بِالْعِرْقِ الْمَفْصُودِ مُبَالَغَةً فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ لَيَسِيلُ (عَرَقًا) تَمْيِيزٌ، زَادَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ:" وَإِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ فَتَضْرِبُ جِرَانَهَا مِنْ ثِقَلِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ "، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَثْرَةِ مُعَانَاةِ التَّعَبِ وَالْكَرْبِ ثُمَّ نُزُولِ الْوَحْيِ لِمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ، وَهُوَ كَثْرَةُ الْعَرَقِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ فَيَشْعُرُ بِأَمْرٍ طَارِئٍ زَائِدٍ عَلَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ.
وَحَكَى الْعَسْكَرِيُّ فِي كِتَابِ التَّصْحِيفِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ بِالْقَافِ مِنَ التَّقْصِيدِ، قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: فَإِنْ ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِمْ تَقَصَّدَ الشَّيْءُ إِذَا تَكَسَّرَ وَتَقَطَّعَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، انْتَهَى.
وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا التَّصْحِيفِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْمُؤْتَمِنُ السَّاجِيُّ بِالْفَاءِ، فَأَصَرَّ عَلَى الْقَافِ
وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ أَنَّهُ رَدَّ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ لَمَّا قَرَأَهَا بِالْقَافِ، قَالَ: فَكَابَرَنِي، قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ وَجَّهَهُ بِمَا قَالَ الْعَسْكَرِيُّ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ هِشَامٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ «أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ اسْتَدْنِينِي وَعِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ وَيَقُولُ يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا فَيَقُولُ لَا وَالدِّمَاءِ مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا فَأُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
475 -
477 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ) لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِهِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:(أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) الْقُرَشِيِّ الْعَامِرِيِّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَمْرٌو بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ ابْنُ قَيْسِ بْنِ زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَمْرُو بْنُ زَائِدَةَ نِسْبَةً لِجَدِّهِ، وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ الْحُصَيْنَ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ عَبْدَ اللَّهِ، حَكَاهُ ابْنُ حِبَّانَ
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ: اسْمُهُ عَمْرٌو، وَاسْمُ أُمِّهِ أُمُّ مَكْتُومٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّةُ، أَسْلَمَ قَدِيمًا
بِمَكَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِقَلِيلٍ
وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّسَبِ وَالسِّيَرِ أَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، اسْتَخْلَفَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَلَهُ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ، وَخَرَجَ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ فَشَهِدَ الْقِتَالَ فَاسْتُشْهِدَ، وَقِيلَ بَلْ شَهِدَهَا وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ بِهَا، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ ذِكْرٌ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِيهِ نَزَلَ:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95](سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 95) كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1](سُورَةُ عَبَسَ.: الْآيَةُ 1)(جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ (فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ) قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ نِدَائِهِ بِاسْمِهِ ; لِأَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ (اسْتَدْنِينِي) بِيَاءٍ بَيْنَ النُّونَيْنِ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَضَّاحٍ:" اسْتَدْنِنِي " بِحَذْفِهَا، أَيْ أَشِرْ لِي إِلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْكَ أَجْلِسُ فِيهِ (وَعِنْدَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ) جَمْعُ عَظِيمٍ (الْمُشْرِكِينَ) وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ، وَلِابْنِ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ، صلى الله عليه وسلم، يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَبَا جَهِلَ وَالْعَبَّاسَ
وَلَهُ مِنْ مُرْسَلِ قَتَادَةَ: وَهُوَ يُنَاجِي أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَحَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَاجِيُّ خِلَافًا فِي تَفْسِيرِ الْمُبْهَمِ، وَزَادَ قَوْلًا أَنَّهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ (فَجَعَلَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، يُعْرِضُ عَنْهُ) ثِقَةً بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، لَا سِيَّمَا وَالَّذِي طَلَبَهُ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لَا يَفُوتُ.
فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقَالَ: " «عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ» "(وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ) رَجَاءَ إِسْلَامِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ إِسْلَامَ الْخَلْقِ، إِذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْذَارِ وَبِالدُّعَاءِ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (وَيَقُولُ: يَا أَبَا فُلَانٍ) خَاطَبَهُ بِالْكُنْيَةِ اسْتِئْلَافًا (هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟ فَيَقُولُ: لَا وَالدِّمَاءِ) بِالْمَدِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رِوَايَةُ طَائِفَةٍ عَنْ مَالِكٍ بِضَمِّ الدَّالِّ أَيِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ وَيُعَظِّمُونَ وَاحِدَتُهَا دُمْيَةٌ، وَطَائِفَةٍ بِكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ دِمَاءُ الْهَدَايَا الَّتِي كَانُوا يَذْبَحُونَهَا بِمِنًى لِآلِهَتِهِمْ، قَالَ تَوْبَةُ بْنُ الْحَيْرِ:
عَلَيَّ دِمَاءُ الْبُدْنِ إِنْ كَانَ بَعْلُهَا
…
يَرَى لِي ذَنَبًا غَيْرَ أَنِّي أَزُورُهَا
وَقَالَ آخَرُ:
أَمَا وَدِمَاءِ الْمُزْجِيَاتِ إِلَى مِنًى
…
لَقَدْ كَفَرَتْ أَسْمَاءُ غَيْرَ كَفُورِ
(مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا) شِدَّةً بَلْ هُوَ رُوحُ الْأَرْوَاحِ (فَأُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى) أَعْرَضَ (أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) زَادَ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ: " «فَكَانَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ» "، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «فَكَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مُقْبِلًا بَسَطَ إِلَيْهِ رِدَاءَهُ حَتَّى يُجْلِسَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ
مِنَ الْمَدِينَةِ اسْتَخْلَفَهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَتَّى يَرْجِعَ» " وَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَاتَبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ قَالَتْ: وَلَوْ كَتَمَ مِنَ الْوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذَا. وَإِنَّمَا حَصَلَتْ صُورَةُ الْعِتَابِ مَعَ أَنَّ فِعْلَهُ، صلى الله عليه وسلم، كَانَ طَاعَةً لِرَبِّهِ وَتَبْلِيغًا عَنْهُ وَاسْتِئْلَافًا لَهُ كَمَا شَرَعَهُ لَهُ ; لِأَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ بِسَبَبِ عَمَاهُ اسْتَحَقَّ مَزِيدَ الرِّفْقِ، وَالْمُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ إِعْلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ الْمُتَصَدِّيَ لَهُ لَا يَتَزَكَّى، وَأَنَّهُ لَوْ كُشِفَ لَهُ حَالُ الرَّجُلَيْنِ لَاخْتَارَ الْإِقْبَالَ عَلَى الْأَعْمَى، فَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى التَّرْحِيبِ بِالْفُقَرَاءِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَعَدَمِ إِيثَارِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ وَفِي الْحَدِيثِ: الِاعْتِنَاءُ بِعِلْمِ السِّيَرِ وَمَا ارْتَبَطَ بِهَا مِنْ عِلْمِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَمَتَى نَزَلَ وَفِي مَنْ نَزَلَ وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ «يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ عُمَرُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي حَتَّى إِذَا كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي قَالَ فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ قَالَ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
476 -
478 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ (عَنْ أَبِيهِ) أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، ثِقَةٌ، مُخَضْرَمٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةِ سَنَةٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) هُوَ سَفَرُ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ إِلَّا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتِّصَالِ ; لِأَنَّ أَسْلَمَ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ مَوْصُولًا، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، قَالَ الْحَافِظُ: هَذَا السِّيَاقُ صُورَتُهُ الْإِرْسَالُ ; لِأَنَّ أَسْلَمَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ لِقَوْلِهِ فِي أَثْنَائِهِ: قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي.
وَقَدْ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: سَمِعْتُ عُمَرَ. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ عَنْ مَالِكٍ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ هَكَذَا إِلَّا ابْنَ عَثْمَةَ وَابْنَ غَزْوَانَ، وَرِوَايَةُ ابْنِ غَزْوَانَ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، وَإِسْحَاقَ الْحُنَيْنِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ عَلَى الِاتِّصَالِ
(وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا) فَفِيهِ إِبَاحَةُ السَّيْرِ عَلَى الدَّوَابِّ لَيْلًا، وَحَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْ لَا يَمْشِي بِهَا نَهَارًا، أَوْ قَلَّ مَشْيُهُ بِهَا نَهَارًا ; لِأَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ بِالرِّفْقِ بِهَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
(فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ) لِاشْتِغَالِهِ، صلى الله عليه وسلم، بِالْوَحْيِ (ثُمَّ سَأَلَهُ) ثَانِيًا (فَلَمْ يَجُبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ) ثَالِثًا (فَلَمْ يَجُبْهُ) وَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ (فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ، أَيْ فَقَدَتْكَ (أُمُّكَ) يَا (عُمَرُ) فَهُوَ مُنَادَى بِحَذْفِ الْيَاءِ، وَثَبَتَتْ فِي رِوَايَةٍ: دَعَا عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْإِلْحَاحِ خَوْفَ غَضَبِهِ وَحِرْمَانَ فَائِدَتِهِ
قَالَ أَبُو عُمَرَ فَمَا غَضِبَ عَالِمٌ إِلَّا حُرِمَتْ فَائِدَتُهُ
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ وَالْمَوْتُ يَعُمُّ كُلَّ
أَحَدٍ، فَإِذًا: الدُّعَاءُ كَلَا دُعَاءٍ (نَزَرْتَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ مُخَفَّفَةً فَرَاءٍ سَاكِنَةٍ (رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم أَيْ أَلْحَحْتَ عَلَيْهِ وَبَالَغْتَ فِي السُّؤَالِ، أَوْ رَاجَعْتَهُ أَوْ أَتَيْتَهُ بِمَا يَكْرَهُ مِنْ سُؤَالِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَهُوَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، أَيْ أَقْلَلْتَ كَلَامَهُ إِذْ سَأَلْتَهُ مَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ، وَالتَّخْفِيفُ هُوَ الْوَجْهُ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ: سَأَلْتُ عَنْهُ مِمَّنْ لَقِيتُ أَرْبَعِينَ فَمَا قَرَؤُهُ قَطُّ إِلَّا بِالتَّخْفِيفِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ) فَفِيهِ أَنَّ سُكُوتَ الْعَالِمِ يُوجِبُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ تَرْكَ الْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ، وَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْكُتَ عَمَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يُجِيبَ فِيهِ (قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي حَتَّى إِذَا كُنْتُ أَمَامَ) بِالْفَتْحِ، قُدَّامَ (النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ) بِشَدِّ الْيَاءِ (قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَفَوْقِيَّةٍ، فَمَا لَبِثْتُ وَمَا تَعَلَّقْتُ بِشَيْءٍ (أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا) لَمْ يُسَمَّ (يَصْرُخُ بِي قَالَ) عُمَرُ (فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَرَى أَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ يُؤْنِسُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ (قَالَ) عُمَرُ:(فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ) بَعْدَ رَدِّ السَّلَامِ ( «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ» ) بِلَامِ التَّأْكِيدِ ( «أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ) لِمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْفَتْحِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَفْعَلُ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا الْمُفَاضَلَةُ (ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَالْبَرَاءُ: هُوَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَوُقُوعُ الصُّلْحِ. قَالَ الْحَافِظُ: فَإِنَّ الْفَتْحَ لُغَةً فَتْحُ الْمُغْلَقِ، وَالصُّلْحُ كَانَ مُغْلَقًا حَتَّى فَتَحَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ فَتْحِهِ صَدُّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ، فَكَانَتِ الصُّورَةُ الظَّاهِرَةُ ضَيْمًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاطِنَةِ عِزًّا لَهُمْ، فَإِنَّ النَّاسَ لِلْأَمْنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِمُ اخْتَلَطَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَأَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآنَ وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمِنِينَ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُونَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا خُفْيَةً فَظَهَرَ مَنْ كَانَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ، فَذَلَّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْعِزَّةَ وَقُهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْغَلَبَةَ، وَقِيلَ: هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، نَزَلَتْ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةَ عِدَةً لَهُ بِفَتْحِهَا، وَأُتِيَ بِهِ مَاضِيًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَخَامَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِ الْمُخْبَرِ بِهِ مَا لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: الْمَعْنَى قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً بَيِّنًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ تَدْخُلَهَا أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ قَابِلًا مِنَ الْفُتَاحَةِ وَهِيَ الْحُكُومَةُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَاتِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: 1](سُورَةُ الْفَتْحِ: الْآيَةُ 1) فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى الصُّلْحِ مِنَ الْأَمْنِ وَرَفْعِ الْحَرْبِ، وَتَمَكُّنُ مَنْ كَانَ يَخْشَى الدُّخُولَ
فِي الْإِسْلَامِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْهُ، وَتَتَابُعُ الْأَسْبَابِ إِلَى أَنْ كَمُلَ الْفَتْحُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا فَالْمُرَادُ فَتْحُ خَيْبَرَ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1](سُورَةُ النَّصْرِ: الْآيَةُ 1)، وَقَوْلُهُ:" «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» " فَفَتْحُ مَكَّةَ بِاتِّفَاقٍ فَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ وَتَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَدْخَلَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَعْرِيفًا بِأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي الْأَحْيَانِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَمَا يَعْرِضُ، انْتَهَى. وَلِإِفَادَةِ أَنَّ مِنْهُ لَيْلِيٌّ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ تَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا تَرَى شَيْئًا وَتَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا تَرَى شَيْئًا وَتَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا تَرَى شَيْئًا وَتَتَمَارَى فِي الْفُوقِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
477 -
479 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ التَّابِعِيِّ، وَلِجَدِّهِ قَيْسٍ الْبَغَوِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ) بْنِ خَالِدٍ الْقُرَشِيِّ (التَّيْمِيِّ) تَيْمِ قُرَيْشٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ، مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَجَدُّهُ الْحَارِثُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ، الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: يَخْرُجُ فِيكُمْ) أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي أَصْحَابَهُ، أَيْ يَخْرُجُ عَلَيْكُمْ (قَوْمٌ) هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ فَقَتَلَهُمْ فَهُمْ أَصْلُ الْخَوَارِجِ، وَأَوَّلُ خَارِجَةٍ خَرَجَتْ، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ طَائِفَةً كَانَتْ مِمَّنْ قَصَدَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الدَّارِ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، وَسُمُّوا خَوَارِجَ مِنْ قَوْلِهِ يَخْرُجُ، قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ
(تَحْقِرُونَ) بِكَسْرِ الْقَافِ تَسْتَقِلُّونَ ( «صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ» ) ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ النَّهَارَ وَيَقُومُونَ اللَّيْلَ.
وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ مُنَاظَرَتِهِ لِلْخَوَارِجِ قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَخَلْتُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ أَرَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ (وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ) مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ كَقَوْلِهِ: {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28](سُورَةُ نُوحٍ: الْآيَةُ 28)(يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:" «يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا» " أَيْ لِمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ، فَلَا يَزَالُ لِسَانُهُمْ رَطْبًا بِهَا أَوْ هُوَ مَنْ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِهَا (وَلَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) جَمْعُ حَنْجَرَةٍ، وَهِيَ آخِرُ الْحَلْقِ مِمَّا يَلِي الْفَمَ، وَقِيلَ: أَعْلَى الصَّدْرِ عِنْدَ طَرَفِ الْحُلْقُومِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ قِرَاءَتَهُمْ لَا يَرْفَعُهَا اللَّهُ وَلَا يَقْبَلُهَا، وَقِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِالْقُرْآنِ فَلَا يُثَابُونَ عَلَى
قِرَاءَتِهِمْ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ إِلَّا سَرْدُهُ، وَقِيلَ: لَا تَفْقَهُهُ قُلُوبُهُمْ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ بِهِ، فَلَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا مُرُورُهُ عَلَى لِسَانِهِمْ، لَا يَصِلُ إِلَى حُلُوقِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يَتَدَبَّرُوهُ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ رَشِيقٍ: الْمَعْنَى لَا يَنْتَفِعُونَ بِقِرَاءَتِهِ كَمَا لَا يَنْتَفِعُ الْآكِلُ وَالشَّارِبُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إِلَّا بِمَا يُجَاوِزُ حَنْجَرَتَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكَانُوا لِتَكْفِيرِهِمُ النَّاسَ لَا يَقْبَلُونَ خَبَرَ أَحَدٍ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَعْرِفُوا بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ سُنَّتِهِ وَأَحْكَامِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِمُجْمَلِ الْقُرْآنِ وَالْمُخْبِرَةِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْمُرَادِ بِهَا إِلَّا بِبَيَانِ رَسُولِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44](سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ 44) وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ مُجْمَلَةً بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، فَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ أَخْبَارَ الْعُدُولِ ضَلَّ وَصَارَ فِي عِمِّيَّا.
(يَمْرُقُونَ) بِضَمِّ الرَّاءِ يَخْرُجُونَ سَرِيعًا (مِنَ الدِّينِ) قِيلَ: الْمُرَادُ الْإِسْلَامُ، فَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ كَفَّرَ الْخَوَارِجَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْوَذِيِّ مُحْتَجًّا بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. " «يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ» "، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الطَّاعَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِكُفْرِهِمْ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ الْإِسْلَامُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الزَّجْرِ وَأَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ (مُرُوقَ السَّهْمِ) وَفِي رِوَايَةٍ:" «كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ» "(مِنَ الرَّمِيَّةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ الطَّرِيدَةُ مِنَ الصَّيْدِ، فَعِيلَةٌ مِنَ الرَّمْيِ بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ، دَخَلَتْهَا الْهَاءُ إِشَارَةً إِلَى نَقْلِهَا مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، شَبَّهَ مُرُوقَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالسَّهْمِ الَّذِي يُصِيبُ الصَّيْدَ فَيَدْخُلُ فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ وَمِنْ شِدَّةِ سُرْعَةِ خُرُوجِهِ لِقُوَّةِ الرَّامِي لَا يَعْلَقُ مِنْ جَسَدِ الصَّيْدِ بِشَيْءٍ (تَنْظُرُ) أَيُّهَا الرَّامِي (فِي النَّصْلِ) بِنُونٍ فَصَادٍ، حَدِيدَةُ السَّهْمِ، هَلْ تَرَى فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَثَرِ الصَّيْدِ دَمٍ أَوْ نَحْوِهِ؟ (فَلَا تَرَى شَيْئًا) فِيهِ (وَتَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ، خَشَبُ السَّهْمِ أَوْ مَا بَيْنَ الرِّيشِ وَالسَّهْمِ، هَلْ تَرَى أَثَرًا؟ (فَلَا تَرَى شَيْئًا) فِيهِ (وَتَنْظُرُ فِي الرِّيشِ) الَّذِي عَلَى السَّهْمِ (فَلَا تَرَى شَيْئًا) فِيهِ (وَتَتَمَارَى) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّتَيْنِ، أَيْ تَشُكُّ (فِي الْفُوقِ) بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَتَرِ مِنَ السَّهْمِ، أَيْ تَتَشَكَّكُ هَلْ عَلِقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَنْظُرُ وَيَتَمَارَى، بِالتَّحْتِيَّةِ أَيِ الرَّامِي، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ يَخْرُجُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ بَغْتَةً كَخُرُوجِ السَّهْمِ إِذَا رَمَاهُ رَامٍ قَوِيُّ السَّاعِدِ فَأَصَابَ مَا رَمَاهُ فَنَفَذَ بِسُرْعَةٍ بِحَيْثُ لَا يَعْلَقُ بِالسَّهْمِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ مِنَ الْمُرْمِيِ شَيْءٌ، فَإِذَا الْتَمَسَ الرَّامِي سَهْمَهُ لَمْ يَجِدْهُ عَلِقَ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّمِ وَلَا غَيْرِهِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ: " «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ الْإِسْلَامِ خُرُوجَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، عَرَضَتْ لِلرِّجَالِ فَرَمَوْهَا، فَانْمَرَقَ سَهْمُ أَحَدِهِمْ مِنْهَا فَخَرَجَ، فَأَتَاهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَصْلِهِ مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْقِدْحِ» ". الْحَدِيثَ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:
" «آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدٌ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةً مِنَ النَّاسِ» ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، الَّذِي نَعَتَهُ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ:" «فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ قَالَ: انْظُرُوا فَلَمْ يَنْظُرُوا شَيْئًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ» ". قَالَ الْبَاجِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ، وَفِي التَّمْهِيدِ: يَتَمَارَى فِي الْفُوقِ، أَيْ يَشُكُّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُقْطَعَ عَلَى الْخَوَارِجِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُشَكَّ فِي أَمْرِهِمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُشَكُّ فِيهِ فَسُبُلُهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ دُونَ الْقَطْعِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:" «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي» " فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فَقَدْ جَعَلَهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَاهُمْ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: لَمْ نُقَاتِلْ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ عَلَى الشِّرْكِ، وَسُئِلَ عَنْهُمْ أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا، قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ فَعَمُوا فِيهَا وَصَمُّوا وَبَغَوْا عَلَيْنَا وَحَارَبُونَا وَقَاتَلُونَا فَقَتَلْنَاهُمْ.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: رَأَى مَالِكٌ قَتْلَ الْخَوَارِجِ وَأَهْلَ الْقَدَرِ لِلْفَسَادِ الدَّاخِلِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ إِفْسَادُهُمْ بِدُونِ إِفْسَادِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُحَارِبِينَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ، لَكِنَّهُ يَرَى اسْتِتَابَتَهُمْ لَعَلَّهُمْ يُرَاجِعُونَ الْحَقَّ فَإِنْ تَمَادَوْا قُتِلُوا عَلَى إِفْسَادِهِمْ لَا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ قَتْلَهُمْ وَاسْتِتَابَتَهُمْ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ بِاسْتِتَابَةٍ وَغَيْرِهَا مَا اسْتَتَرُوا وَلَمْ يَبْغُوا وَلَمْ يُحَارِبُوا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ: هُمْ كُفَّارٌ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهَا غَيْرُهَا فِي مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَيُرِيدُ بِعَمَلِهِ وَجْهَهُ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُكْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَالنَّظَرُ يَشْهَدُ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِضِدِّ الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِيمَانُ فَهُمَا ضَرَّتَانِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَبَالَغَ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَجَازُوا مُنَاكَحَتَهُمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَقَبُولَ شَهَادَتِهِمْ، وَهَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
477 -
480 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِي سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا) لَيْسَ ذَلِكَ لِبُطْءٍ مَعَاذَ اللَّهِ، بَلْ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّمُ فَرَائِضَهَا وَأَحْكَامَهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَقَدْ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، كَرَاهَةُ الْإِسْرَاعِ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ دُونَ التَّفَقُّهِ فِيهِ، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ خَلَطَ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ أَبْوَابًا غَيْرَهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عُمَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّمُهَا بِأَحْكَامِهَا وَمَعَانِيهَا وَأَخْبَارِهَا، وَهَذَا الْبَلَاغُ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ مَيْمُونٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَعَلَّمَ الْبَقَرَةَ فِي ثَمَانِ سِنِينَ.
وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَعَلَّمَ عُمَرُ الْبَقَرَةَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمَّا خَتَمَهَا نَحَرَ جَزُورًا.
[بَاب مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ «قَرَأَ لَهُمْ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فِيهَا فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِيهَا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ
وَهُوَ سُنَّةٌ أَوْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت: 37](سُورَةُ فُصِّلَتْ: الْآيَةُ 37) وَقَوْلِهِ: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19](سُورَةُ الْعَلَقِ: الْآيَةُ 19) وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَنَا:" «أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، (وَالنَّجْمِ) فَلَمْ يَسْجُدْ» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَقَوْلُ عُمَرَ: " «أُمِرْنَا بِالسُّجُودِ يَعْنِي لِلتِّلَاوَةِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ، وَمِنْ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَمِنْهَا مَا هُوَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي الَّتِي بِصِيغَةِ الْأَمْرِ: هَلْ فِيهَا سُجُودٌ أَمْ لَا؟ وَهِيَ ثَانِيَةُ الْحَجِّ وَالنَّجْمِ وَاقْرَأْ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ مَا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَوْلَى أَنْ يُتَّفَقَ عَلَى السُّجُودِ فِيهِ مِمَّا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ.
478 -
481 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) الْمَخْزُومِيِّ الصَّحَابِيِّ الْمَدَنِيِّ الْمُقْريِّ الْأَعْوَرِ، مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ (مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ) الْمَخْزُومِيِّ الصَّحَابِيِّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ لَهُمْ) قَالَ الْبَاجِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي لِقَوْلِهِ: قَرَأَ لَهُمْ، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا انْصَرَفَ، وَجَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ: صَلَّيْتُ خَلَفَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعِشَاءَ فَقَرَأَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ فِيهَا فَلَمَّا انْصَرَفَ) مِنَ السُّجُودِ (أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، سَجَدَ فِيهَا) وَبِهَذَا قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَجَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْجُمْهُورُ لَا سُجُودَ ; لِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا سَجَدَ: لَقَدْ سَجَدْتَ فِي سُورَةٍ مَا رَأَيْتُ النَّاسَ يَسْجُدُونَ فِيهَا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّاسَ تَرَكُوهُ وَجَرَى الْعَمَلُ بِتَرْكِهِ، وَرَدَّهُ أَبُو عُمَرَ بِمَا حَاصِلُهُ أَيُّ عَمَلٍ يُدَّعَى مَعَ مُخَالَفَةِ الْمُصْطَفَى وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ فَسَجَدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
479 -
482 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ، فَسَجَدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ) أُولَاهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 17) ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 77) فَلَمْ يَقُلْ بِهَا مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ فِيهَا السُّجُودَ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
480 -
483 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ) وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا: لَوْ سَجَدْتُ فِيهَا وَاحِدَةً كَانَتِ السَّجْدَةُ الْأَخِيرَةُ أَحَبَّ إِلَيَّ.
وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا: «فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» ، يُرِيدُ لَا يَقْرَأْهُمَا إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ، وَالتَّعَلُّقُ بِهِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَرَدَّهُ ابْنُ زُرْقُونَ بِأَنَّ ابْنَ حَنْبَلٍ احْتَجَّ بِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِإِسْنَادِهِ، وَهَذَا رَدٌّ بِالصَّدْرِ مِنْ فَقِيهٍ عَلَى مُحَدِّثٍ حَافِظٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ احْتِجَاجِهِ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ ضَعِيفًا فَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِسْنَادِهِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الْأَعْرَجِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى فَسَجَدَ فِيهَا ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
481 -
484 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ) فِي الصَّلَاةِ
(بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى فَسَجَدَ فِيهَا) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا» "(ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى) لِيَقَعَ رُكُوعُهُ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الرُّكُوعِ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ.
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ عُمَرَ: " أَنَّهُ قَرَأَ النَّجْمَ فِي صَلَاةٍ فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتِ ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سَجْدَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ ثُمَّ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ عَلَى رِسْلِكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ فَلَمْ يَسْجُدْ وَمَنَعَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْإِمَامُ إِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيَسْجُدَ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ قَالَ مَالِكٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ يَقْرَأُ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ شَيْئًا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَلَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَالسَّجْدَةُ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ سَجْدَةً فِي تَيْنِكَ السَّاعَتَيْنِ سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ قَرَأَ سَجْدَةً وَامْرَأَةٌ حَائِضٌ تَسْمَعُ هَلْ لَهَا أَنْ تَسْجُدَ قَالَ مَالِكٌ لَا يَسْجُدُ الرَّجُلُ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَّا وَهُمَا طَاهِرَانِ وَسُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ قَرَأَتْ سَجْدَةً وَرَجُلٌ مَعَهَا يَسْمَعُ أَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا إِنَّمَا تَجِبُ السَّجْدَةُ عَلَى الْقَوْمِ يَكُونُونَ مَعَ الرَّجُلِ فَيَأْتَمُّونَ بِهِ فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُونَ مَعَهُ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَمِعَ سَجْدَةً مِنْ إِنْسَانٍ يَقْرَؤُهَا لَيْسَ لَهُ بِإِمَامٍ أَنْ يَسْجُدَ تِلْكَ السَّجْدَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
482 -
485 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ) فِيهِ انْقِطَاعٌ، فَعُرْوَةُ وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَلَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ (بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سَجْدَةً) أَيْ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ، وَهِيَ سُورَةُ النَّحْلِ (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ) هَكَذَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ الَّتِي عِنْدَ أَبِي عُمَرَ، وَيَقَعُ فِي نُسَخٍ: وَسَجَدْنَا مَعَهُ. قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ عُرْوَةَ أَرَادَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَأَضَافَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَنْ جُمْلَتِهِمْ، وَإِلَّا فَهُوَ غَلَطٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
(ثُمَّ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ هَيْئَتِكُمْ (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا) لَمْ يَفْرِضْهَا (عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ الْمَرْءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:(فَلَمْ يَسْجُدْ وَمَنَعَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا) وَفِي عَدَمِ إِنْكَارِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلَعَلَّ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فَبَادَرَ إِلَى حَسْمِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ. " أَنَّهُ حَضَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّجْدَةُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ " وَزَادَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ "، قَالَ الْحَافِظُ: اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ نَشَاءَ، عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ مُخَيَّرٌ فِي السُّجُودِ فَيَكُونُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَجَابَ مَنْ أَوْجَبَهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ نَشَاءَ
قِرَاءَتَهَا فَيَجِبُ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَيَرُدُّهُ تَصْرِيحُ عُمَرَ بُقُولِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْإِثْمِ عَمَّنْ تَرَكَ الْفِعْلَ مُخْتَارًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْإِمَامُ إِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيَسْجُدَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: رَوَى عَلِيٌّ يُكْرَهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْمِنْبَرِ يَسْجُدُ سَجْدَةً قَرَأَهَا.
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ) أَيْ مَا وَرَدَتِ الْعَزِيمَةُ عَلَى فِعْلِهِ كَصِيَغِهِ الْأَمْرِ مَثَلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْوُجُوبِ (إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً) آخِرُ الْأَعْرَافِ، وَ (الْآصَالِ) فِي الرَّعْدِ، وَ (يُؤْمَرُونَ) فِي (النَّحْلِ) ، وَ (خُشُوعًا) فِي سُبْحَانَ، وَ (بُكِيًّا) فِي مَرْيَمَ، وَ (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) فِي الْحَجِّ، وَ (نُفُورًا) فِي الْفُرْقَانِ، وَ (الْعَظِيمِ) فِي النَّمْلِ، وَ (لَا يَسْتَكْبِرُونَ) فِي الم السَّجْدَةِ، وَ (أَنَابَ) فِي ص، وَ (تَعْبُدُونَ) فِي فُصِّلَتْ.
(لَيْسَ فِي الْمُفَصُّلِ مِنْهَا شَيْءٌ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَ (النَّجْمِ) فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا» .
وَحَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سَجْدَةٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَأُبَيٌّ وَزَيْدٌ فِي الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا يَجْهَلُ أَحَدٌ، زَيْدٌ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم عَامَ مَاتَ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ عَلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، مَرَّتَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أُبَيٍّ وَهُمْ مَنْ لَا يُشَكُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَهُ إِلَّا بِالْإِحَاطَةِ مَعَ قَوْلِ مَنْ لَقِينَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ، وَكَيْفَ يَجْهَلُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ سُجُودَ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ، صلى الله عليه وسلم، لَهُ:" «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ» ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ثُمَّ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ بِإِثْبَاتِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ، قَالَ غَيْرُهُ: وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَضَعَّفَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِضَعْفٍ فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ وَاخْتِلَافٍ فِي إِسْنَادِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي.
وَتَقَدَّمَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، سَجَدَ فِي إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» " وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «لَوْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، يَسْجُدُ لَمْ أَسْجُدْ» ". وَلِلْبَزَّارِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، سَجَدَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَسَجَدْنَا مَعَهُ» ". وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ يَقْرَأُ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ شَيْئًا) فَيَسْجُدُ (بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَلَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ) فَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ (وَ) دَلِيلُ (ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» ) كَمَا أَسْنَدَهُ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ (وَالسَّجْدَةُ مِنَ الصَّلَاةِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ سَجْدَةً فِي تَيْنِكَ السَّاعَتَيْنِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: مَنَعَهَا فِي الْمُوَطَّأِ فَقَاسَهَا عَلَى صَلَاةِ النَّوَافِلِ، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ يَسْجُدُ لَهَا بَعْدَ الصُّبْحِ مَا لَمْ يُسْفِرْ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، فَرَآهَا صَلَاةً اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَقَاسَهَا عَلَيْهَا.
(سَأَلَ مَالِكٌ عَمَّنْ قَرَأَ سَجْدَةً وَامْرَأَةٌ حَائِضٌ تَسْمَعُ، هَلْ لَهَا أَنْ تَسْجُدَ؟ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَسْجُدُ الرَّجُلُ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَّا وَهُمَا طَاهِرَانِ) أَيِ الطَّهَارَةَ الْكَامِلَةَ بِالْوُضُوءِ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ يُوَافِقِ ابْنَ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا الشَّعْبِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " لَا يَسْجُدُ الرَّجُلُ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ " فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَرَادَ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى أَوِ الثَّانِي عَلَى حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَالْأَوَّلُ عَلَى الضَّرُورَةِ.
(وَسَأَلَ مَالِكٌ عَنِ امْرَأَةٍ قَرَأَتْ سَجْدَةً وَرَجُلٌ مَعَهَا يَسْمَعُ، أَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا؟ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ لَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ ; إِذْ لَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهَا، فَمَنِ اسْتَمَعَ لِقَارِئٍ فَقَدِ ائْتَمَّ بِهِ وَلَزِمَهُ حُكْمُهُ، فَإِنْ صَلَحَ لِلْإِمَامَةِ سَجَدَ الْمُسْتَمِعُ (إِنَّمَا تَجِبُ السَّجْدَةُ) أَيْ تُسَنُّ (عَلَى الْقَوْمِ يَكُونُونَ مَعَ الرَّجُلِ فَيَأْتَمُّونَ بِهِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: الِائْتِمَامُ أَنْ يَجْلِسَ لِلِاسْتِمَاعِ مِنْهُ (فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُونَ مَعَهُ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَمِعَ) بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَلِابْنِ وَضَّاحٍ " يَسْمَعُ " مُضَارِعٌ (سَجْدَةً مِنْ إِنْسَانٍ) أَيْ رَجُلٍ (يَقْرَؤُهَا لَيْسَ لَهُ بِإِمَامٍ أَنْ يَسْجُدَ تِلْكَ السَّجْدَةَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْجُدُ السَّامِعُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: " «أَنَّ غُلَامًا قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، السَّجْدَةَ فَانْتَظَرَ الْغُلَامُ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَسْجُدَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْجُدُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ فِي هَذِهِ السَّجْدَةِ سُجُودٌ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّكَ كُنْتَ إِمَامَنَا فِيهَا، وَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا مَعَكَ» " مُرْسَلٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَرُوِيَ عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: بَلَغَنِي فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْقَارِئَ الْمَذْكُورَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ; لِأَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَسْجُدْ، وَلِأَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ رَوَى الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
6 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]
483 -
486 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بِصَادَيْنِ قَبْلَ كُلِّ عَيْنٍ مُهْمَلَاتٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَازِنِيِّ، ثِقَةٌ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ (عَنْ أَبِيهِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ، قَالَ الْحَافِظُ: هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ. وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ مَالِكٍ فَقَالُوا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ (الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا) هُوَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ أَخُو أَبِي سَعِيدٍ لِأُمِّهِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَكَانَا مُتَجَاوِرَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا فَكَأَنَّهُ أَبْهَمَ نَفْسَهُ وَأَخَاهُ (يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] كُلَّهَا حَالَ كَوْنِهِ (يُرَدِّدُهَا) ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ غَيْرَهَا أَوْ لِمَا رَجَاهُ مِنْ فَضْلِهَا وَبَرَكَتِهَا، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ (فَلَمَّا أَصْبَحَ) أَبُو سَعِيدٍ (غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ) الَّذِي سَمِعَهُ (لَهُ وَكَانَ) فِعْلٌ مَاضٍ، وَبِشَدِّ النُّونِ (الرَّجُلَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ الَّذِي جَاءَ وَذُكِرَ، وَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ (يَتَقَالُّهَا) بِشَدِّ اللَّامِ أَيْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا قَلِيلَةٌ فِي الْعَمَلِ لَا فِي التَّنْقِيصِ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ الطَّبَّاعِ «عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارًا يَقُومُ بِاللَّيْلِ فَمَا يَقْرَأُ إِلَّا بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إَنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) » بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ ; لِأَنَّهُ أَحْكَامٌ وَأَخْبَارٌ وَتَوْحِيدٌ فَاشْتَمَلَتْ عَلَى الثَّانِي فَهِيَ ثُلُثُهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ كَثِيرَةً أَكْثَرُ مِمَّا فِيهَا مِنَ التَّوْحِيدِ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآخِرِ الْحَشْرِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهَا ذَلِكَ. وَأَجَابَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى اسْمَيْنِ مِنْ
أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَضَمِّنَيْنِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ لَمْ يُوجَدَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ وَهُمَا: الْأَحَدُ الصَّمَدُ ; لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ ; لِأَنَّ الْأَحَدَ يُشْعِرُ بِوُجُوبِ الْخَاصِّ الَّذِي لَا يُشَارِكُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالصَّمَدُ يُشْعِرُ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي انْتَهَى مَوْرِدُهُ، فَكَانَ يَرْجِعُ مَرْجِعَ الطَّلَبِ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ إِلَّا لِمَنْ حَازَ جَمِيعَ فَضَائِلِ الْكَمَالِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمَامِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ ثُلُثًا.
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي الثَّوَابِ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عُقَيْلٍ بِحَدِيثِ:" «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» ". وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَوْ قَرَأَهَا مِائَتَيْ مَرَّةٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَهُ فِي الثَّوَابِ لَا أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا كَمَنْ قَرَأَهُ كُلَّهُ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى بَلَغَ تَرْدِيدُهُ لَهَا بِالْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفِ وَالْآيَاتِ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشِبْهِهَا أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا وَأَسْلَمُ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِلَى هَذَا نَحَا جَمَاعَةٌ كَابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ وَإِيَّاهُ أَخْتَارُ، انْتَهَى.
وَنَقَلَ ابْنُ السَّيِّدِ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ عَنِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْأُبِّيُّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَخَبَرُ مُسْلِمٍ:" «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » " ظَاهِرٌ بَلْ نَصٌّ فِي ذَلِكَ. وَكَذَا حَدِيثُ: احْشُدُوا أَيِ اجْتَمِعُوا، قَالَ: وَلَمْ يُؤْثِرِ الْعُلَمَاءُ قِرَاءَتَهَا عَلَى السُّوَرِ الطِّوَالِ ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّدَبُّرُ وَالِاتِّعَاظُ وَاقْتِبَاسُ الْأَحْكَامِ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَهُ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ غَيْرَهَا وَمَنَعَهُ مِنْ تَعَلُّمِهِ عُذْرٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَجْرَهَا مَعَ التَّضْعِيفِ يَعْدِلُ أَجْرَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بِلَا تَضْعِيفٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الِاعْتِنَاءَ لِذَلِكَ الْقَارِي أَوِ الْقَارِئِ عَلَى صِفَةٍ مَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّدَبُّرِ وَتَجْدِيدِ الْإِيمَانِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَمَعْنَى بِلَا تَضْعِيفٍ أَيْ ثَوَابِ خَتْمَةٍ لَيْسَ فِيهَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، قَالَ الْأُبِّيُّ: يُرِيدُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِيهَا تَسَلْسُلٌ. وَفِي مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ، صلى الله عليه وسلم:" «احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ فَقَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ: أَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ فَقَالَ: " إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . وَإِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهَلْ ذَلِكَ الثُّلُثُ مُعَيَّنٌ أَوْ أَيُّ ثُلُثٍ كَانَ، فِيهِ نَظَرٌ، وَعَلَى الثَّانِي مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا كَانَ كَمَنْ قَرَأَ خَتْمَةً كَامِلَةً. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ «أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَبَتْ فَسَأَلْتُهُ مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْجَنَّةُ» فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ ثُمَّ فَرِقْتُ أَنْ يَفُوتَنِي الْغَدَاءُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَآثَرْتُ الْغَدَاءَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ فَوَجَدْتُهُ قَدْ ذَهَبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
484 -
487 - (مَالِكٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَلِلْقَعْنَبِيِّ وَمُطَرِّفٍ عَبْدِ اللَّهِ بِفَتْحِهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ (عَنْ عُبَيْدِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ مُصَغَّرٍ (بْنِ حُنَيْنٍ) بِنُونٍ مُصَغَّرٍ الْمَدَنِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، ثِقَةٌ قَلِيلُ الْحَدِيثِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً وَيُقَالُ أَكْثَرُ (مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ) أَخِي عُمَرَ صَحَابِيٍّ، قَدِيمِ الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَحَزِنَ عَلَيْهِ عُمَرُ شَدِيدًا، قَالَ: سَبَقَنِي إِلَى الْحُسْنَيَيْنِ أَسْلَمَ قَبْلِي وَاسْتُشْهِدَ قَبْلِي. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: عِنْدَ ابْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ « (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] السُّورَةَ بِتَمَامِهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ، فَسَأَلْتُهُ: مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ وَجَبَتْ (فَقَالَ: الْجَنَّةُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ) » بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الْعَظِيمَةِ الْجَنَّةِ (ثُمَّ فَرِقْتُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، خِفْتُ ( «أَنْ يَفُوتَنِي الْغَدَاءُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم» ) زَعَمَ ابْنُ وَضَّاحٍ أَنَّهُ صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا الْغَدَاءُ مَا يُؤْكَلُ بِالْغَدَاةِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَلْزَمُ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، لِشِبَعِ بَطْنِهِ فَكَانَ يَتَغَذَّى مَعَهُ وَيَتَعَشَّى مَعَهُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ (فَآثَرْتُ الْغَدَاءَ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ فَدَالٍّ مُهْمَلَةٍ مَمْدُودٍ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا أَضْعُفَ عَنِ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا أَتَغَدَّى بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا جِدًّا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ (ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ) لِأُبَشِّرَهُ فَأَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ (فَوَجَدْتُهُ قَدْ ذَهَبَ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، يَعْنِي وَهُوَ إِمَامٌ حَافِظٌ فَلَا يَضُرُّهُ التَّفَرُّدُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَأَنَّ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
485 -
488 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ) بِضَمِّ الْحَاءِ (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ)
الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ، أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ فِي التَّمْهِيدِ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: سَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لَا فِي سِنِّهِ وَلَا فِي رِوَايَتِهِ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ، يَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، انْتَهَى. (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) وَهَذَا لَا يُؤْخَذُ بِالرَّأْيِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ: (وَأَنَّ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا) أَيْ كَثْرَةُ قِرَاءَتِهَا تَدْفَعُ غَضَبَ الرَّبِّ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا، فَقَامَتْ مَقَامَ الْمُجَادَلَةِ عَنْهُ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ خَاصَمَتْ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » ) "، وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ» : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1](سُورَةُ الْمُلْكِ: الْآيَةُ 1)، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: اقْرَأْ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] فَإِنَّهَا الْمُنْجِيَةُ وَالْمُجَادِلَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لِقَارِئِهَا وَتَطْلُبُ لَهُ أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَيَنْجُو بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي» ". وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ إِنَّ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةً تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا فِي الْقَبْرِ تَكُونُ ثَلَاثِينَ آيَةً، فَنَظَرُوا فَوَجَدُوهَا تَبَارَكَ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: فَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّهَا تُجَادِلُ عَنْهُ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْقِيَامَةِ لِتَدْفَعَ عَنْهُ الْعَذَابَ وَتُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تبارك وتعالى]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
7 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تبارك وتعالى
486 -
489 - (مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ (مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ) ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ)
ذَكْوَانَ (السَّمَّانِ) كَانَ يَجْلِبُ السَّمْنَ إِلَى الْكُوفَةِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) قِيلَ التَّقْدِيرُ لَا إِلَهَ لَنَا أَوْ فِي الْوُجُودِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً أَعَمُّ مِنْ نَفْيِهَا مُقَيَّدَةً لِانْتِفَائِهَا مَعَ كُلِّ قَيْدٍ، فَإِذَا نُفِيَتْ مُقَيَّدَةً دَلَّتْ عَلَى سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ التَّقْيِيدِ الْمَخْصُوصِ فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُهَا مَعَ قَيْدٍ آخَرَ.
وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيِّ فِي رَيِّ الظَّمْآنِ فَقَالَ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ الْعَرَبِ فَإِنَّ " إِلَهَ " فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ اسْمُ " لَا "، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ خَبَرٍ لِلْمُبْتَدَأِ أَوْ لِـ (لَا) فَإِنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْإِضْمَارِ فَاسِدٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ يُضْمَرُ كَانَ نَفْيًا لِلْإِلَهِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ هِيَ نَفْيُ الْوُجُودِ، وَلَا تُتَصَوَّرُ الْمَاهِيَّةُ عِنْدَنَا إِلَّا مَعَ الْوُجُودِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَا مَاهِيَّةَ وَلَا وُجُودَ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْمَاهِيَّةَ عَرِيَّةً عَنِ الْوُجُودِ وَهُوَ فَاسِدٌ، وَقَوْلُهُ " إِلَّا اللَّهُ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنْ " لَا إِلَهَ " لَا خَبَرٍ ; لِأَنَّ " لَا " لَا تَعْمَلُ فِي الْمَعَارِفِ، وَلَوْ قُلْنَا الْخَبَرُ لِلْمُبْتَدَأِ أَوْ لِـ " لَا " فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَنْكِيرِ الْمُبْتَدَأِ وَتَعْرِيفِ الْخَبَرِ، لَكِنْ قَالَ السَّفَاقِسِيُّ: قَدْ أَجَازَ الشَّلَوْبِينِيُّ أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ يَكُونُ مَعْرِفَةً وَيُسَوَّغُ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ، ثُمَّ أَكَّدَ الْحَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِقَوْلِهِ:(وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ) مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ وَخَبَرُ لَا مُتَعَلَّقُ قَوْلِهِ (لَهُ) مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ حَسَنَاتِ الذَّاكِرِ فَوَحْدَهُ حَالٌ مُئَوَّلَةٌ بِمُنْفَرِدٍ ; لِأَنَّ الْحَالَ لَا تَكُونُ مَعْرِفَةً وَ " لَا شَرِيكَ لَهُ " حَالٌ ثَانِيَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى الْأُولَى (لَهُ الْمُلْكُ) بِضَمِّ الْمِيمِ (وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْضًا، وَمَنْ مَنَعَ تَعَدُّدَ الْحَالِ جَعَلَ " لَا شَرِيكَ لَهُ " حَالًا مِنْ ضَمِيرِ " وَحْدَهُ " الْمُئَوَّلَةِ " بِـ " مُنْفَرِدًا "، وَكَذَا " لَهُ الْمُلْكُ " حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي " لَهُ " وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَعْطُوفَاتٌ (فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ) وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ أَيِ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ لَهُ (عَدْلَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، أَيْ مِثْلَ ثَوَابِ إِعْتَاقِ (عَشْرِ رِقَابٍ) بِسُكُونِ الشِّينِ (وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنِةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالزَّايِ، حِصْنًا (مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ) نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلَ فَإِنَّهُ يَزِيدُ عَلَيْهِ، أَوْ مُتَّصِلٌ بِتَأْوِيلٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمِائَةَ غَايَةٌ فِي الذِّكْرِ، وَأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِلَّا أَحَدٌ؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ كَتَكْرَارِ
الْعَمَلِ فِي الْوُضُوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْ سَائِرِ أَبْوَابِ الْبِرِّ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ مِنْ عَمَلِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذِكْرُ الْمِائَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَايَةٌ لِلثَّوَابِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ " إِلَّا أَحَدٌ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ فَيَكُونُ لِقَائِلِهِ مِنَ الْفَضْلِ بِحِسَابِهِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ اعْتِدَائِهَا، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا كَمَا فِي رَكَعَاتِ السُّنَنِ الْمَحْدُودَةِ وَأَعْدَادِ الطَّهَارَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَادَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الذِّكْرِ وَغَيْرِهِ أَيْ إِلَّا أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَمَلًا آخَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لِمَنْ قَالَ هَذَا التَّهْلِيلَ فِي الْيَوْمِ مُتَوَالِيًا أَوْ مُفَرَّقًا فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ فِي آخِرِهِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُتَوَالِيًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِيَكُونَ لَهُ حِرْزًا فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ، وَكَذَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لِيَكُونَ لَهُ حِرْزًا فِي جَمِيعِ لَيْلِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الدَّعَوَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَمُسْلِمٌ فِي الدَّعَوَاتِ عَنْ يَحْيَى، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
487 -
490 - (مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ) أَيْ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، فَيَلْزَمُ نَفْيُ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَجَمِيعِ الرَّذَائِلِ، وَيُطْلَقُ التَّسْبِيحُ وَيُرَادُ بِهِ جَمِيعُ أَلْفَاظِ الذِّكْرِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ صَلَاةُ النَّافِلَةِ، وَ " سُبْحَانَ " اسْمٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ سَبَّحْتُ اللَّهَ سُبْحَانًا كَسَبَّحْتُ اللَّهَ تَسْبِيحًا، وَلَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا مُضَافًا، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ سَبَّحْتُ اللَّهَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَجَاءَ غَيْرَ مُضَافٍ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا أُنَزِّهُهُ
(وَبِحَمْدِهِ) الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ سُبْحَانَ اللَّهِ مُلْتَبِسًا بِحَمْدِهِ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَوْفِيقِهِ لِي لِلتَّسْبِيحِ (فِي يَوْمٍ) وَاحِدٍ. وَفِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ عَنْ سُمَيٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ (مِائَةَ مَرَّةٍ) مُتَفَرِّقَةً بَعْضُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ وَبَعْضُهَا آخِرَهُ أَوْ مُتَوَالِيَةً، وَهُوَ أَفْضَلُ خُصُوصًا فِي أَوَّلِهِ (حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ) الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لَهُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114](سُورَةُ هُودٍ: الْآيَةُ 114)(وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) كِنَايَةً عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ نَحْوَ: مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، قَالَ
عِيَاضٌ: وَقَدْ يُشْعِرُ هَذَا بِفَضْلِ التَّسْبِيحِ عَلَى التَّهْلِيلِ ; لِأَنَّ عَدَدَ زَبَدِ الْبَحْرِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الْمِائَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي مُقَابَلَةِ التَّهْلِيلِ، فَيُعَارِضُ قَوْلَهُ فِيهِ:" وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ " فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّهْلِيلَ أَفْضَلُ بِمَا زِيدَ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَكَتْبِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ مَا جُعِلَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ عِتْقِ الرِّقَابِ قَدْ يَزِيدُ عَلَى فَضْلِ التَّسْبِيحِ وَتَكْفِيرِ الْخَطَايَا ; لِأَنَّهُ جَاءَ:" «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» ". فَحَصَلَ بِهَذَا الْعِتْقِ تَفْكِيرُ الْخَطَايَا عُمُومًا بَعْدَ حَصْرِ مَا عُدِّدَ مِنْهَا خُصُوصًا مَعَ زِيَادَةِ مِائَةِ دَرَجَةٍ، وَمَا زَادَهُ عِتْقُ الرِّقَابِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ:" «أَفْضَلُ الذِّكْرِ التَّهْلِيلُ» ". وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ وَهُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَالتَّهْلِيلُ صَرِيحٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَالتَّسْبِيحُ مُتَضَمِّنٌ لَهُ، فَمَنْطُوقُ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْزِيهٌ، وَمَفْهُومُهُ تَوْحِيدٌ، وَمَنْطُوقُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَوْحِيدٌ، وَمَفْهُومُهُ تَنْزِيهٌ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ التَّسْبِيحِ ; لِأَنَّ التَّوْحِيدَ أَصْلٌ وَالتَّنْزِيهَ يَنْشَأُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالْفَضَائِلُ الْوَارِدَةُ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ وَالْكَمَالِ كَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَنْ أَدْمَنَ الذِّكْرَ وَأَصَرَّ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ شَهَوَاتِهِ، وَانْتَهَكَ دِينَ اللَّهِ وَحُرُمَاتِهِ، أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْمُطَهَّرِينَ الْأَقْدَسِينَ، وَيَبْلُغَ مَنَازِلَ الْكَامِلِينَ بِكَلَامٍ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لَيْسَ مَعَهُ تَقْوَى، وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، لَكِنَّ مُسْلِمَ وَصَلَهُ بِالْحَدِيثِ قَبْلَهُ ; لِاتِّحَادِ إِسْنَادِهِمَا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ كَمَا مَرَّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَخَتَمَ الْمِائَةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
488 -
491 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، الْمَذْحِجِيِّ (مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ) وَحَاجِبِهِ، قِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقِيلَ حَيٌّ، وَقِيلَ حُيَيٌّ، وَقِيلَ حَوِيٌّ، ثِقَةٌ، مَاتَ بَعْدَ الْمِائَةِ.
(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ) الْمَدَنِيِّ، نَزِيلِ الشَّامِ، ثِقَةٍ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ خَمْسٍ وَمِائَةٍ وَقَدْ جَازَ الثَّمَانِينَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ) مَوْقُوفًا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِثْلُهُ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ صَحَّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ثَابِتَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَغَيْرِهِمْ، عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، (مَنْ سَبَّحَ) أَيْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ (دُبُرَ) بِضَمِّ الدَّالِّ وَالْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تُسَكَّنُ، أَيْ عَقِبَ (كُلِّ صَلَاةٍ) ظَاهِرُهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْفَرْضِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَكْتُوبَةٍ فَحَمَلُوا الْمُطْلَقَاتِ عَلَيْهَا، قَالَ الْحَافِظُ: وَعَلَيْهِ، فَهَلْ تَكُونُ الرَّاتِبَةُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ فَاصِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الذِّكْرِ أَوْ لَا؟ مَحَلُّ نَظَرٍ، قَالَ:
وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ يُقَالُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَقَلَّ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مُعَرَّضًا أَوْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُتَشَاغِلًا بِمَا وَرَدَ أَيْضًا بَعْدَ الصَّلَاةِ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَلَا يَضُرُّ (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ) أَيْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ) قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) هَكَذَا بِتَقْدِيمِ التَّكْبِيرِ عَلَى التَّحْمِيدِ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.
وَفِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:«يُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ وَيُسَبِّحُ» ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ تَقْدِيمُ التَّسْبِيحِ عَلَى التَّحْمِيدِ وَتَأْخِيرُ التَّكْبِيرِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ دَالٌّ عَلَى أَنْ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا، وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ:" «الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» " لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْأَوْلَى الْبُدَاءَةُ بِالتَّسْبِيحِ لِتَضَمُّنِهِ نَفْيَ النَّقَائِصِ، ثُمَّ التَّحْمِيدِ لِتَضَمُّنِهِ إِثْبَاتَ الْكَمَالِ لَهُ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ النَّقَائِصِ إِثْبَاتُ الْكَمَالِ، ثُمَّ التَّكْبِيرِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ كَبِيرٌ آخَرُ، ثُمَّ يَخْتِمُ بِالتَّهْلِيلِ الدَّالِّ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ.
(وَخَتَمَ الْمِائَةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) عَلَى الْحَالِ، أَيْ مُنْفَرِدًا (لَا شَرِيكَ لَهُ) عَقْلًا وَنَقْلًا، وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] (سُورَةُ الْإِخْلَاصِ: الْآيَةُ 1){إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنعام: 19](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 19) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. (لَهُ الْمُلْكُ) بِضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ أَصْنَافُ الْمَخْلُوقَاتِ. (وَلَهُ الْحَمْدُ) زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ:" «يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ» "(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَالنَّسَائِيِّ فِي حَدِيثَيْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عُمَرَ: يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَيُخَالِفُهُ قَوْلُهُ وَيَخْتِمُ. . . إِلَخْ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَثْلِهِ لِأَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَلِجَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَيَقُولَ مَعَهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. . . إِلَخْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ يَجْمَعُ بِأَنْ يَخْتِمَ مَرَّةً بِزِيَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. . . إِلَخْ، عَلَى وَفْقِ مَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ. (غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ) الصَّغَائِرُ حَمْلًا عَلَى النَّظَائِرِ (وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) وَهُوَ مَا يَعْلُو عَلَيْهِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ.
وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مُتَوَالِيَةً، ثُمَّ كَذَلِكَ مَا بَعْدَهَا، وَقِيلَ: يَجْمَعُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى تَمَامِ الثَّلَاثَةِ وَثَلَاثِينَ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِلْإِتْيَانِ فِيهِ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَكِنَّ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةَ لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ أَرْجَحُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيَظْهَرُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ حَسَنٌ
لَكِنْ يَتَمَيَّزُ الْإِفْرَادُ بِأَنَّ الذَّاكِرَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَدَدِ، وَلَهُ عَلَى كُلِّ حَرَكَةٍ لِذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَصَابِعِهِ أَوْ بِغَيْرِهَا ثَوَابٌ لَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِ الْجَمْعِ مِنْهُ إِلَّا الثُّلُثُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ كُلًّا مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ أَحَدَ عَشَرَ، وَفِي رِوَايَاتٍ عَشْرًا عَشْرًا. وَجَمَعَ الْبَغَوِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صَدَرَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوَّلُهَا عَشْرًا ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ ثُمَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ أَوْ يَفْتَرِقُ بِافْتِرَاقِ الْأَحْوَالِ.
وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ: " «أَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا كُلَّ ذِكْرٍ مِنْهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَيَزِيدُوا فِيهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ» " رَوَاهُمَا النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَعْدَادُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَذْكَارِ كَالذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ إِذَا رُتِّبَ عَلَيْهَا ثَوَابٌ مَخْصُوصٌ فَزَادَ الْآتِي بِهَا عَلَى الْعَدَدِ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ الْمَخْصُوصُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ لِتِلْكَ الْأَعْدَادِ حُكْمًا وَخَاصِّيَّةً تُفُوتُ بِمُجَاوَزَةِ الْعَدَدِ، وَنَظَرِ فِيهِ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الَّذِي رُتِّبَ الثَّوَابُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فَحَصَلَ لَهُ ثَوَابٌ، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ كَيْفَ تُزِيلُ الزِّيَادَةُ ذَلِكَ الثَّوَابِ بَعْدَ حُصُولِهِ؟ قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَفْتَرِقَ الْحَالُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا نَوَى عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ امْتِثَالَ الْأَمْرِ الْوَارِدِ، ثُمَّ أَتَى بِالزِّيَادَةِ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ نَوَى الزِّيَادَةَ ابْتِدَاءً بِأَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ رُتِّبَ عَلَى عَشَرَةٍ مَثَلًا فَذَكَرَ هُوَ مِائَةً فَيَتَّجِهُ الْقَوْلُ الْمَاضِي، وَبَالَغَ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ فَقَالَ: مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ الْمَحْدُودَةِ شَرْعًا ; لِأَنَّ شَأْنَ الْعُظَمَاءِ إِذَا حَدُّوا شَيْئًا أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ، وَيُعَدُّ الْخَارِجُ عَنْهُ مُسِيئًا لِلْأَدَبِ، انْتَهَى.
وَمَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِالدَّوَاءِ يَكُونُ فِيهِ مَثَلًا أُوقِيَّةُ سُكَّرٍ فَلَوْ زِيدَ فِيهِ أُوقِيَّةٌ أُخْرَى تَخَلَّفَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأُوقِيَّةِ فِي الدَّوَاءِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ مِنَ السُّكَّرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ الِانْتِفَاعُ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَذْكَارَ الْمُتَغَايِرَةَ إِذَا وَرَدَ لِكُلٍّ مِنْهَا عَدَدٌ مَخْصُوصٌ مَعَ طَلَبِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهَا مُتَوَالِيَةً لَمْ تَحْسُنِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الْمُوَالَاةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ لِلْمُوَالَاةِ حِكْمَةً خَاصَّةً تَفُوتُ بِفَوَاتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ صَيَّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ إِنَّهَا قَوْلُ الْعَبْدِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
489 -
492 - (مَالِكٌ، عَنْ عُمَارَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّخْفِيفِ، ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ صَيَّادٍ) بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ، فَنَسَبُهُ إِلَى جَدِّهِ الْمَدَنِيِّ أَبِي أَيُّوبَ، ثِقَةٌ، فَاضِلٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَأَبُوهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُقَالُ أَنَّهُ الدَّجَّالُ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ) أَيْ عُمَارَةَ (سَمِعَهُ) أَيْ سَعِيدًا (يَقُولُ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ) الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [الكهف: 46](سُورَةُ الْكَهْفِ: الْآيَةُ 46) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَهَا بِالْفَانِيَاتِ الزَّائِلَاتِ فِي قَوْلِهِ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46](سُورَةُ الْكَهْفِ: الْآيَةُ 46)(إِنَّهَا قَوْلُ الْعَبْدِ) ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ
اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا حَوْلَ) أَيْ لَا تَحَوُّلَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ (وَلَا قُوَّةَ) عَلَى الطَّاعَةِ (إِلَّا بِاللَّهِ) وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ لِجَمْعِهَا الْمَعَارِفَ الْإِلَهِيَّةَ، فَالتَّكْبِيرُ اعْتِرَافٌ بِالتَّصَوُّرِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَالتَّسْبِيحُ تَقْدِيسٌ لَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَتَنْزِيهٌ عَنِ النَّقَائِصِ، وَالتَّحْمِيدُ مَبْنِيٌّ عَنْ مَعْنَى الْفَضْلِ وَالْإِفْضَالِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ، وَالتَّهْلِيلُ تَوْحِيدٌ لِلذَّاتِ وَنَفْيُ النِّدِّ وَالضِّدِّ، وَالْحَوْقَلَةُ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّبَرِّي عَنِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِهِ.
وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ، صلى الله عليه وسلم:" «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» "، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ". وَقَالَ مَسْرُوقٌ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَهُنَّ الْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَمِنْ بِدَعِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا الْبَنَاتُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
490 -
493 - (مَالِكٌ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ) مَيْسَرَةَ الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ، عَابِدٌ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَخَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ) عُوَيْمِرٌ مُصَغَّرٌ وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ، وَكَانَ عَابِدًا مَشْهُورًا بِكُنْيَتِهِ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقِيلَ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ (أَلَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ يُؤَكَّدُ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُصَدِّرَةُ بِهِ (أَخْبِرُكُمْ) وَفِي رِوَايَةٍ أُنْبِئُكُمْ (بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ) أَيْ أَفْضَلِهَا لَكُمْ (وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ) أَيْ مَنَازِلِكُمْ فِي الْجَنَّةِ (وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ) أَيْ أَنْمَاهَا وَأَطْهَرِهَا عِنْدَ رَبِّكُمْ وَمَالِكِكُمْ (وَخَيْرٍ) بِالْخَفْضِ (لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنْفَاقِ (الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، الْفِضَّةِ (وَخَيْرٍ لَكُمْ) بِالْخَفْضِ أَيْضًا عَطْفٌ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَذْلِ أَمْوَالِكُمْ وَنُفُوسِكُمْ؟ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ) الْكُفَّارَ (فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ) يَعْنِيَ تَقْتُلُوهُمْ وَيَقْتُلُوكُمْ بِسَيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ (قَالُوا: بَلَى) أَخْبِرْنَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: قَالُوا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى) ; لِأَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْأَنْفَالِ وَقِتَالِ الْعَدُوِّ وَسَائِلُ وَوَسَائِطُ
يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالذِّكْرُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَسْمَى، وَرَأْسُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا وَالْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَى الْإِسْلَامِ وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا أَرْكَانُهُ وَالشُّعْبَةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ، بَلْ هِيَ الْكُلُّ وَلَيْسَ غَيْرَهُ {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108] (سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: الْآيَةُ 108) أَيِ الْوَحْيُ مَقْصُورٌ عَلَى التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّهُ الْقَصْدُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْوَحْيِ، وَوَقَعَ غَيْرُهُ تَبَعًا وَلِذَا آثَرَهَا الْعَارِفُونَ عَلَى جَمِيعِ الْأَذْكَارِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْوِجْدَانِ وَالذَّوْقِ، قَالُوا: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ كَانَ أَفْضَلَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ، وَلَوْ خُوطِبَ شُجَاعٌ بَاسِلٌ يَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ الْإِسْلَامِ فِي الْقِتَالِ لَقِيلَ لَهُ الْجِهَادُ، أَوْ غَنِيٌّ يَنْتَفِعُ الْفُقَرَاءُ بِمَالِهِ لَقِيلَ الصَّدَقَةُ، أَوِ الْقَادِرُ عَلَى الْحَجِّ لَقِيلَ لَهُ الْحَجُّ، أَوْ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ قِيلَ بَرَّهُمَا، وَبِهِ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الذِّكْرُ الْكَامِلُ، وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ بِالشُّكْرِ وَاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ الرَّبِّ، وَهَذَا لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، وَفَضْلُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ الْمُجَرَّدِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَهُوَ ذِكْرُهُ عِنْدَ الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا وَالْمَعَاصِي بِاجْتِنَابِهَا، وَذِكْرُ اللِّسَانِ وَاجِبٌ كَالْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، وَمَنْدُوبٌ وَهُوَ سَائِرُ الْأَذْكَارِ، فَالْوَاجِبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْبَرِّ، وَالْمَنْدُوبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَضَّلَ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ وَهُدَاهُ لِطَرِيقِ الْخَيْرِ أَوْ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ، انْتَهَى.
وَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَيُعَارِضُهُ خَبَرُ:" «أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ» " وَجَمَعَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ لِعُمُومِ الْخَلْقِ، وَالذِّكْرَ أَفْضُلُ لِلذَّاهِبِ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فِي بِدَايَتِهِ وَنِهَايَتِهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى صُنُوفِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الطَّرِيقِ، فَمَا دَامَ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا إِلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى، فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ وَاسْتَوْلَى الذِّكْرُ عَلَى قَلْبِهِ فَمُدَاوَمَةُ الذِّكْرِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُجَاذِبُ خَاطِرَهُ وَيَسْرَحُ بِهِ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَالذَّاهِبُ إِلَى اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَجْعَلُ هَمَّهُ هَمًّا وَاحِدًا وَذِكْرَهُ ذِكْرًا وَاحِدًا لِيُدْرِكَ دَرَجَةَ الْفَنَاءِ وَالِاسْتِغْرَاقِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45](سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: الْآيَةُ 45) وَأَخَذَ ابْنُ الْحَاجِّ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ طَلَبِ الدُّنْيَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَخْذِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَأَيَّدَهُ بِمَا فِي الْقُوتِ عَنِ الْحَسَنِ: لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْ رَفْضِ الدُّنْيَا، وَبِمَا فِي غَيْرِهِ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الدُّنْيَا بِحَلَالِهَا فَأَصَابَهَا فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ وَقَدَّمَ فِيهَا نَفْسَهُ، وَتَرْكَ الْآخَرُ الدُّنْيَا. فَقَالَ: أَحَبُّهُمَا إِلَيَّ الَّذِي جَانَبَ الدُّنْيَا. (قَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ) مَيْسَرَةُ (وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةٌ (مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) ابْنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ وَالْقُرْآنِ، مَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ) وَفِي رِوَايَةٍ آدَمِيٌّ (مِنْ
عَمَلٍ) وَفِي رِوَايَةٍ عَمَلًا (أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ; لِأَنَّ حَظَّ الْغَافِلِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَارِهِمُ الْأَوْقَاتُ وَالسَّاعَاتُ الَّتِي عَمَّرُوهَا بِذِكْرِ اللَّهِ، وَسَائِرُ مَا عَدَاهُ هَدَرُ. كَيْفَ وَنَهَارُهُمْ شَهْوَةٌ وَنَوْمُهُمُ اسْتِغْرَاقٌ وَغَفْلَةٌ، فَيَقْدَمُونَ عَلَى رَبِّهِمْ فَلَا يَجِدُونَ مَا يُنْجِيهِمْ إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ.
زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تَضْرِبَ بِسَيْفِكَ حَتَّى يَنْقَطِعَ، ثُمَّ تَضْرِبَ بِسَيْفِكَ حَتَّى يَنْقَطِعَ، ثُمَّ تَضْرِبَ بِسَيْفِكَ حَتَّى يَنْقَطِعَ " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَضَائِلُ الذِّكْرِ كَثِيرَةٌ لَا يُحِيطُ بِهَا كِتَابٌ وَحَسْبُكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45](سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: الْآيَةُ 45) أَيْ ذِكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ الْعَبْدَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيثِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى:" إِنْ «ذَكَرَنِي عَبْدِي فِي الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَأَكْرَمَ» ".
وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ وَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ الْمُتَكَلِّمُ آنِفًا فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهُنَّ أَوَّلُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
491 -
494 - (مَالِكٌ، عَنْ نُعَيْمِ) بِضَمِّ النُّونِ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ) بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ بَيْنَهُمَا جِيمٌ سَاكِنَةٌ، وَالْخَفْضُ صِفَةٌ لِنُعَيْمٍ وَأَبِيهِ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادِ بْنِ رَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ الزُّرَقِيِّ) بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الرَّاءِ فَقَافٍ، الْأَنْصَارِيِّ، مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ ; لِأَنَّ نُعَيْمًا أَكْبَرُ سِنًّا مِنْ عَلِيٍّ وَأَقْدَمُ سَمَاعًا (عَنْ أَبِيهِ) يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، لَهُ رُؤْيَةٌ فَذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّهُ قِيلَ حَنَّكَهُ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، مَاتَ فِي حُدُودِ التِّسْعِينَ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ بَعْدَ الْمِائَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ، فَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، وَهُمْ مِنْ بَنِي مَالِكٍ وَالصَّحَابِيِّ (عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ) ابْنِ مَالِكِ بْنِ عَجْلَانَ الْأَنْصَارِيِّ، مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، مَاتَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَأَبُوهُ رَافِعٌ صَحَابِيٌّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ (أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا) مِنَ الْأَيَّامِ (نُصَلِّي وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ، كَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ (فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، رَأْسَهُ) أَيْ شَرَعَ فِي رَفْعِهِ (مِنَ الرَّكْعَةِ وَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) ظَاهِرُهُ وُقُوعُ التَّسْمِيعِ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ الرُّكُوعِ فَيَكُونُ مِنْ أَذْكَارِ الِاعْتِدَالِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ ذِكْرُ الِانْتِقَالِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، وَجُمِعَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَمَّا شَرَعَ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ ابْتَدَأَ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ وَأَتَمَّهُ بَعْدَ أَنِ اعْتَدَلَ (قَالَ رَجُلٌ) هُوَ رِفَاعَةُ رَاوِي الْحَدِيثِ، قَالَهُ ابْنُ بَشْكُوَالٍ مُسْتَدِلًّا بِمَا لِلنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ
رِفَاعَةَ: " «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، فَعَطَسْتُ فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ» ". الْحَدِيثَ، وَنُوزِعَ لِاخْتِلَافِ سِيَاقِ السَّبَبِ وَالْقِصَّةِ، وَالْجَوَابُ لَا يُعَارَضُ فَيُحْمَلُ وُقُوعُ عُطَاسِهِ عِنْدَ رَفْعِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبْهَمَ نَفْسَهُ لِقَصْدِ إِخْفَاءِ عَمَلِهِ أَوْ نَسِيَ بَعْضُ الرُّوَاةِ اسْمَهُ، وَأَمَّا مَا عَدَّا ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فَإِنَّمَا فِيهِ زِيَادَةٌ لَعَلَّ الرَّاوِيَ اخْتَصَرَهَا. (وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) بِالْوَاوِ (حَمْدًا) نُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ لَكَ الْحَمْدُ (كَثِيرًا طَيِّبًا) خَالِصًا عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (مُبَارَكًا) كَثِيرَ الْخَيْرِ (فِيهِ) زَادَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، قَالَ الْحَافِظُ: فَفِي قَوْلِهِ كَمَا. . . إِلَخْ، مِنْ حُسْنِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْقَصْدِ، وَأَمَا مُبَارَكًا عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ، وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْبَقَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10](سُورَةُ فُصِّلَتْ: الْآيَةُ 10) فَهَذَا يُنَاسِبُ الْأَرْضَ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ لَا الْبَقَاءُ ; لِأَنَّهُ بِصَدَدِ التَّغَيُّرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113](سُورَةُ الصَّافَّاتِ: الْآيَةُ 113) فَهَذَا يُنَاسِبُ الْأَنْبِيَاءَ ; لِأَنَّ الْبَرَكَةَ بَاقِيَةٌ لَهُمْ، وَلَمَّا نَاسَبَ الْحَمْدُ الْمَعْنَيَانِ جَمَعَهُمَا، كَذَا قِيلَ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
(فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّلَاةِ (قَالَ) كَمَا فِي النَّسَائِيِّ (مَنِ الْمُتَكَلِّمُ) فِي الصَّلَاةِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ كَلَامَهُ فَيَقُولُوا مِثْلَهُ (آنِفًا) بِالْمَدِّ وَكَسْرِ النُّونِ، يَعْنِي قَبْلَ هَذَا وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا قَرُبَ، زَادَ النَّسَائِيُّ: فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ: أَنَا، قَالَ: كَيْفَ؟ قُلْتُ: فَذَكَرَهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، الْحَدِيثَ. (فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ أَرْجُو الْخَيْرَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ) مُوَافِقَةً لِعَدَدِ حُرُوفِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا، وَالْبِضْعُ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى تِسْعَةٍ وَلَا يَعْكِرُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ الْمَارَّةُ ; لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الثَّنَاءُ الزَّائِدُ عَلَى الْمُعْتَادِ وَهُوَ حَمْدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى دُونَ مُبَارَكًا عَلَيْهِ فَإِنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ اثْنَيْ عَشَرَ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِعَدَدِ الْكَلِمَاتِ عَلَى رِوَايَةِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ. . . إِلَخْ. وَلِحَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ عَلَى اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ كَالْجَوْهَرِيِّ أَنَّ الْبِضْعَ يَخْتَصُّ بِمَا دُونَ الْعِشْرِينَ (مَلَكَا) غَيْرَ الْحَفَظَةِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطَّرِيقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ» " الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّ بَعْضَ الطَّاعَاتِ قَدْ يَكْتُبُهَا غَيْرُ الْحَفَظَةِ (يَبْتَدِرُونَهَا) أَيْ يُسَارِعُونَ إِلَى الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَةِ (أَيُّهُمْ يَكْتُبُهُنَّ) وَلِلنَّسَائِيِّ: " أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا " وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: " أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا " وَلَا تَعَارُضَ ; لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَهَا ثُمَّ يَصْعَدُونَ بِهَا (أَوَّلُ) رُوِيَ بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ ; لِأَنَّهُ ظَرْفٌ قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى
الْحَالِ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَأَمَّا (أَيُّهُمْ) فَرُوِّينَاهُ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ يَكْتُبُهُنَّ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ تَبَعًا لِأَبِي الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 44) قَالَ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ (يُلْقُونَ) ، وَأَيُّ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ مَقُولٌ فِيهِمْ أَيُهِمُّ يَكْتُبُهُنَّ، وَيَجُوزُ نَصْبُ (أَيُّهُمْ) بِأَنْ يُقَدَّرَ الْمَحْذُوفُ (يَنْظُرُونَ أَيَّهُمْ) عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ (أَيُّ) مَوْصُولَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ يَبْتَدِرُونَ الَّذِي يَكْتُبُهُنَّ أَوَّلُ، وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، وَاسْتَشْكَلَ تَأْخِيرُ رِفَاعَةَ إِجَابَةَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَرَّرَ سُؤَالَهُ ثَلَاثًا مَعَ أَنَّ إِجَابَتَهُ وَاجِبَةٌ، بَلْ وَعَلَى مَنْ سَمِعَ رِفَاعَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْأَلِ الْمُتَكَلِّمَ وَحْدَهُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ لَمْ تَتَعَيَّنِ الْمُبَادَرَةُ بِالْجَوَابِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا مِنْ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ فَكَأَنَّهُمُ انْتَظَرُوا بَعْضَهُمْ لِيُجِيبَ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَشْيَةُ أَنْ يَبْدُوَ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ، وَرَجَوْا أَنْ يُعْفَى عَنْهُ فَفَهِمَ، صلى الله عليه وسلم، ذَلِكَ فَقَالَ مَنِ الْقَائِلُ الْكَلِمَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، فَقَالَ: أَنَا قُلْتُهَا لَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا خَيْرًا كَمَا فِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ.
وَعِنْدَ ابْنِ قَانِعٍ قَالَ رِفَاعَةُ: فَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ مَالِي وَأَنِّي لَمْ أَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، تِلْكَ الصَّلَاةَ.
وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: فَسَكَتَ الرَّجُلُ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ هَجَمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، عَلَى شَيْءٍ كَرِهَهُ فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِلَّا صَوَابًا، قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتُهَا أَرْجُو بِهَا الْخَيْرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُصَلِّينَ لَمْ يَعْرِفُوهُ بِعَيْنِهِ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ أَوْ لِأَنَّهُ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ فِي حَقِّهِمْ، قَالَ الْبَاجِيُّ: لَمْ يَرَ مَالِكٌ الْعَمَلَ عَلَى حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، وَكَرِهَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَهُ، يُرِيدُ لَمْ يَرَهَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَشْرُوعَةِ كَالتَّكْبِيرِ وَسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ فِي الصَّلَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَأَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
8 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ
هُوَ مِنْ أَشْرَفِ الطَّاعَاتِ، أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فَضْلًا وَكَرَمًا وَمَا تَفَضَّلَ بِالْإِجَابَةِ فَقَالَ:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60](سُورَةُ غَافِرٍ: الْآيَةُ 60) . وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ» " وَلِأَبِي يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ فِي حَدِيثِ: وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَمِنْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْعِبَادَةُ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60](سُورَةُ غَافِرٍ: الْآيَةُ 60) وَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117](سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 117) وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ.
وَقَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ: الْأَوْلَى حَمْلُ الدُّعَاءِ عَلَى
ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَنْ عِبَادَتِي فَوَجْهُ الرَّبْطِ أَنَّ الدُّعَاءَ أَخَصُّ مِنَ الْعِبَادَةِ فَمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْهَا اسْتَكْبَرَ عَنِ الدُّعَاءِ. وَعَلَى هَذَا فَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ حَقُّ مَنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ اسْتِكْبَارًا وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَفَرَ، انْتَهَى.
وَتَخَلُّفُ الْإِجَابَةِ إِنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ شُرُوطِ الدُّعَاءِ الَّتِي مِنْهَا أَكْلُ الْحَلَالِ الْخَالِصِ وَصَوْنُ اللِّسَانِ وَالْفَرْجِ، وَاسْتَشْكَلَ حَدِيثُ:" «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتَيْ أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» " الْمُقْتَضِي لِفَضْلِ تَرْكِ الدُّعَاءِ حِينَئِذٍ مَعَ الْآيَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى تَرْكِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْلَ إِذَا اسْتَغْرَقَ فِي الثَّنَاءِ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الدُّعَاءِ ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ طَلَبُ الْجَنَّةِ، وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجَنَّةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ الِاسْتِغْرَاقُ فَالدُّعَاءُ أَوْلَى لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ تَرْكَهُ اسْتِسْلَامًا لِلْقَضَاءِ، وَقِيلَ: إِنْ دَعَا لِغَيْرِهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ خَصَّ نَفْسَهُ فَلَا. وَقِيلَ: إِنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ بَاعِثًا لِلدُّعَاءِ اسْتُحِبَّ وَإِلَّا فَلَا.
492 -
495 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ أَوْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ) مُسْتَجَابَةٌ (يَدْعُو بِهَا) بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ مَقْطُوعٌ فِيهَا بِالْإِجَابَةِ وَمَا عَدَاهَا عَلَى رَجَاءِ الْإِجَابَةِ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ وَلَا وَعْدٍ.
وَبِهَذَا أُجِيبَ عَنْ إِشْكَالٍ ظَاهِرُهُ بِمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمُجَابَةِ وَلَا سِيَّمَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ، صلى الله عليه وسلم، وَبِأَنَّ مَعْنَاهُ أَفْضَلُ دَعَوَاتِ كُلِّ نَبِيٍّ، وَلَهُمْ دَعَوَاتٌ أُخْرَى، وَبِأَنَّ مَعْنَاهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ مُسْتَجَابَةٌ فِي أُمَّتِهِ إِمَّا بِإِهْلَاكِهِمْ وَإِمَّا بِنَجَاتِهِمْ.
وَأَمَّا الدَّعَوَاتُ الْخَاصَّةُ فَمِنْهَا مَا يُسْتَجَابُ وَمِنْهَا مَا لَا يُسْتَجَابُ. وَقِيلَ: لِكُلٍّ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ تَخُصُّهُ لِدُنْيَاهُ أَوْ لِنَفْسِهِ كَقَوْلِ نُوحٍ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26](سُورَةُ نُوحٍ: الْآيَةُ 26)، وَقَوْلِ زَكَرِيَّا:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 38)، وَقَوْلِ سُلَيْمَانَ:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35](سُورَةُ ص: الْآيَةُ 35) حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُعْطِيَ أُمْنِيَةً يَتَمَنَّى بِهَا ; لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ نَبِيُّنَا أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُجَابُ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا دَعْوَةً وَاحِدَةً، وَمَا يَكَادُ أَحَدٌ يَخْلُو مِنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ إِذَا شَاءَ رَبُّهُ، قَالَ تَعَالَى:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 41) وَقَالَ، صلى الله عليه وسلم:" دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ لَا تُرَدُّ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ ". وَقَالَ عليه السلام: " «مَا مِنْ دَاعٍ إِلَّا كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِيمَا دَعَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ مِثْلُهُ،
وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ» .
وَجَاءَ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ لَا يَسْأَلُ فِيهَا عَبْدٌ رَبَّهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ. وَقَالَ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَعِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعِنْدَ الْغَيْثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّهَا أَوْقَاتٌ تُرْجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدُّعَاءِ.
(فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ) بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فَهَمْزَةٍ، أَيْ أَدَّخِرَ (دَعْوَتِي) الْمَقْطُوعَ بِإِجَابَتِهَا (شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ) فِي أَهَمِّ أَوْقَاتِ حَاجَتِهِمْ، فَفِيهِ كَمَالُ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ وَرَأْفَتُهُ بِهِمْ وَاعْتِنَاؤُهُ بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ، جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضِيلَةِ نَبِيِّنَا عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ حَيْثُ آثَرَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ بِدَعْوَتِهِ الْمُجَابَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا أَيْضًا دُعَاءً عَلَيْهِمْ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا مِنْ حُسْنِ تَصَرُّفِهِ، صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّعْوَةَ فِيمَا يَنْبَغِي، وَمِنْ كَثْرَةِ كَرَمِهِ ; لِأَنَّهُ آثَرَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ صِحَّةِ نَظَرِهِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِمْ أَحْوَجَ إِلَيْهَا مِنَ الطَّائِعِينَ، هَذَا وَقَوْلُ بَعْضِ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: جَمِيعُ دَعَوَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مُجَابَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ دَعَا عَلَى أُمَّتِهِ بِالْإِهْلَاكِ إِلَّا أَنَا فَلَمْ أَدْعُ فَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ لِلصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ لَا أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، تَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، دَعَا عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَعَلَى أُنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسْمَائِهِمْ، وَدَعَا عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَمُضَرَ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً تُسْتَجَابُ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ فَنَالَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا نَبِيُّنَا فَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا عَلَى بَعْضِ أَمَتِهِ نَزَلَ عَلَيْهِ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 128) فَأَبْقَى تِلْكَ الدَّعْوَةَ الْمُسْتَجَابَةَ مُدَّخَرَةً لِلْآخِرَةِ.
وَغَالِبُ مَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ لَمْ يُرِدْ إِهْلَاكَهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ رَدْعَهُمْ لِيَتُوبُوا. قَالَ: وَأَمَّا جَزْمُهُ أَوَّلًا بِأَنَّ جَمِيعَ أَدْعِيَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُجَابَةٌ فَغَفْلَةٌ عَنِ الْحَدِيثِ: " سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً ". الْحَدِيثَ، انْتَهَى.
وَفِيهِ إِثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79](سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 79) هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ جُلُوسُهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَرُوِيَ عَنْهُ كَالْجَمَاعَةِ فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ صَحَّ نَصًّا عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مُتَوَاتِرَةٌ صِحَاحٌ مِنْهَا: " «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ". وَقَالَ جَابِرٌ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَمَا لَهُ وَلِلشَّفَاعَةِ وَلَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ، انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ بِهِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِهِ فَلِمَالِكٍ فِيهِ إِسْنَادَانِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنْ الْفَقْرِ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
493 -
496 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي سَنَدِهِ وَلَا فِي مَتْنِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو شَيْبَةَ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ) وَهُوَ مُرْسَلٌ، فَمُسْلِمٌ تَابِعِيٌّ (اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ خَلَقَهُ وَابْتَدَأَهُ وَأَظْهَرُهُ (وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا) أَيْ يُسْكَنُ فِيهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: الْجَعْلُ لُغَةً الْخَلْقُ وَالْحُكْمُ وَالتَّسْمِيَةُ، فَإِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 1) وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالتَّسْمِيَةِ نَحْوُ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19](سُورَةُ الزُّخْرُفِ: الْآيَةُ 19) وَبِمَعْنَى الْخَلْقِ كَقَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي مُسْلِمًا.
فَقَوْلُهُ (وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا) يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ (وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا) قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَيْ حِسَابًا أَيْ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ يَكُونُ جَمْعَ حِسَابٍ كَشِهَابٍ وَشُهْبَانٍ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ يَحْسُبُ بِهِمَا الْأَيَّامَ وَالشُّهُورَ وَالْأَعْوَامَ، قَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5](سُورَةُ يُونُسَ: الْآيَةُ 5)(اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَظْهَرُ فِيهِ دُيُونُ النَّاسِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْحَدِيثِ:" «دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» ". (وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ) ; لِأَنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَهَذَا الْفَقْرُ هُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ مَعَهُ الْقُوتُ، وَقَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8](سُورَةُ الضُّحَى: الْآيَةُ 8) وَلَمْ يَكُنْ غِنَاهُ أَكْثَرَ مِنَ اتِّخَاذِ قُوتِ سَنَةٍ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَالْغِنَى كُلُّهُ فِي قَلْبِهِ ثِقَةً بِرَبِّهِ، وَقَالَ:" «اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا» ". وَلَمْ يُرِدْ بِهِمْ إِلَّا الْأَفْضَلَ. وَقَالَ: " «مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى» ". وَكَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ فَقْرٍ مُبْئِسٍ وَغِنًى مُطْغٍ، وَيَسْتَعِيذُ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَقَالَ:" «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ، وَلَا تَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا» ". وَالْمِسْكِينُ هُنَا الْمُتَوَاضِعُ لَا السَّائِلُ ; لِأَنَّهُ كَرِهَ السُّؤَالَ وَنَهَى عَنْهُ وَحَرَّمَهُ عَلَى مَنْ يَجِدُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ، وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ فِي بَعْضِهَا تَعَارُضٌ، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ تَتَقَارَبُ مَعَانِيهَا، فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ سَعَةً وَجَبَ شُكْرُهُ عَلَيْهَا، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِالْفَقْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ، إِلَّا أَنَّ الْفَرَائِضَ تَتَوَجَّهُ عَلَى الْغَنِيِّ وَهِيَ سَاقِطَةٌ عَنِ الْفَقِيرِ، وَلِلْقِيَامِ بِهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ، وَلِلصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ ثَوَابٌ جَسِيمٌ:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10](سُورَةُ الزُّمَرِ: الْآيَةُ 10) وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا أَشَارَ لَهُ أَبُو عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ
: قِيلَ أَرَادَ فَقَرَ النَّفْسِ، وَقِيلَ الْفَقْرُ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَقِيلَ الْفَقْرُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يُخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ نِسْيَانُ الْفَرَائِضِ وَذِكْرِ اللَّهِ، وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فَقْرٍ يُنْسِينِي وَغِنًى يُطْغِينِي.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَافَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى ; لِأَنَّهُمَا بَلِيَّتَانِ يَخْتَبِرُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ.
(وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي) لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَعُّمِ بِالذِّكْرِ وَسَمَاعِ مَا يَسُرُّ (وَبَصَرِي) لِمَا فِيهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ لِغَيْرِهِ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ. (وَ) أَمْتِعْنِي بِـ (قُوَّتِي) بِفَوْقِيَّةٍ قَبْلَ الْيَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، الْقُوَى، وَيُرْوَى: وَقَوِّنِي، بَنُونٍ بَدَلَ الْفَوْقِيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ عِنْدَ الرُّوَاةِ (فِي سَبِيلِكَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْجِهَادَ، وَأَنْ يُرِيدَ جَمِيعَ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ تَبْلِيغٍ وَغَيْرِهَا فَذَلِكَ كُلُّهُ سَبِيلُ اللَّهِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ قَالَ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، سُبُلُ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ يُوضَعُ فِي الْغَزْوِ فَخَصَّهُ بِالْعُرْفِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: " «إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَيْ عَبْدِي فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» " ; لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحَضِّ عَلَى الصَّبْرِ بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَلَا يُنَافِي الدُّعَاءَ بِالْإِمْتَاعِ قَبْلَ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الشُّكْرِ، قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
494 -
497 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّايِ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا) طَلَبَ مِنَ اللَّهِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ ; لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ يَتَأَتَّى إِكْرَاهُهُ عَلَى الشَّيْءِ فَيُخَفِّفُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ وَيُعْلِمُهُ بِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَّا بِرِضَاهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّعْلِيقِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهِ صُورَةُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَطْلُوبِ، وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِنْ شِئْتَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَحِيلٌ لَا وَجْهَ لَهُ إِذْ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَحَمَلَهُ النَّوَوِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَهُوَ أَوْلَى.
(لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَيْ يَجْتَهِدُ وَيُلِحُّ، وَلَا يَقُولُ إِنْ شِئْتَ كَالْمُسْتَثْنَى، وَلَكِنْ دُعَاءَ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ كَالْمُسْتَثْنَى إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ لَا يُمْنَعُ وَهُوَ
جَيِّدٌ قَالَهُ الْحَافِظُ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ يُخَلِّي سُؤَالَهُ وَدُعَاءَهُ مِنْ لَفْظِ الْمَشِيئَةِ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَفْعَلَ دُونَ أَنْ يَشَاءَ لِإِكْرَاهٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ سُؤَالَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ، صلى الله عليه وسلم، بِقَوْلِهِ:(فَإِنَّهُ) تَعَالَى (لَا مُكْرِهَ لَهُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِيهِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الدُّعَاءِ، وَيَكُونَ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَابَةِ، وَلَا يَقْنَطُ مِنَ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ يَدْعُو كَرِيمًا.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَا يَمْنَعْنَ أَحَدًا الدُّعَاءَ مَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، يَعْنِي مِنَ التَّقْصِيرِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَابَ دُعَاءَ شَرِّ خَلْقِهِ، وَهُوَ إِبْلِيسُ، حِينَ قَالَ:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يَبْعَثُونَ} [الحجر: 36](سُورَةُ الْحِجْرِ: الْآيَةُ 36) وَفِي التِّرْمِذِيِّ: وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ كُونُوا عَلَى حَالَةٍ تَسْتَحِقُّونَ فِيهَا الْإِجَابَةَ، وَذَلِكَ بِإِتْيَانِ الْمَعْرُوفِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُرَاعَاةِ أَرْكَانِ الدُّعَاءِ وَآدَابِهِ، حَتَّى تَكُونَ الْإِجَابَةُ عَلَى الْقَلْبِ أَغْلَبَ مِنَ الرَّدِّ، أَوِ الْمُرَادُ ادْعُوهُ مُعْتَقِدِينَ وُقُوعَ الْإِجَابَةِ ; لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا فِي الرَّجَاءِ لَمْ يَكُنْ رَجَاؤُهُ صَادِقًا، وَإِذَا لَمْ يَصْدُقْ رَجَاؤُهُ لَمْ يَكُنِ الرَّجَاءُ خَالِصًا وَالدَّاعِي مُخْلِصًا، فَإِنَّ الرَّجَاءَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الطَّلَبِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْفَرْعُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ الْأَصْلِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
495 -
498 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَنْوِينِ الدَّالِّ، وَاسْمُهُ سَعْدٌ، بِسُكُونِ الْعَيْنِ، ابْنُ عَبِيدٍ، ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقِيلَ لَهُ إِدْرَاكٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ (مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ بَيْنَهُمَا زَايٌ سَاكِنَةٌ آخِرُهُ رَاءٌ، عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ، صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ» ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالْجِيمِ، بَيْنَهُمَا عَيْنٌ سَاكِنَةٌ، مِنْ الِاسْتِجَابَةِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ ثُمَّ ذَاكَ مُجِيبُ
أَيْ يُجَابُ دُعَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ; لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُضَافَ مُفِيدٌ لِلْعُمُومِ عَلَى الْأَصَحِّ.
(فَيَقُولُ) بِالْفَاءِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ مَا لَمْ يَعْجَلْ (قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: يُسْتَجَابُ؛ الْإِخْبَارَ عَنْ وُجُوبِ وُقُوعِ الْإِجَابَةِ أَيْ تَحَقُّقِ وُقُوعِهَا
أَوِ الْإِخْبَارَ عَنْ جَوَازِ وُقُوعِهَا، فَإِنْ أُرِيدَ الْوُجُوبُ فَهُوَ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَعْجِيلُ مَا سَأَلَهُ، أَوْ يُكَفَّرُ عَنْهُ بِهِ، أَوْ يُدَّخَرُ لَهُ، فَإِذَا قَالَ دَعَوْتُ. . . إِلَخْ، بَطَلَ وُجُوبُ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَعُرِّيَ الدُّعَاءُ عَنْ جَمِيعِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ الْجَوَازُ فَيَكُونُ الْإِجَابَةُ بِفِعْلِ مَا دَعَا بِهِ، وَمَنْعِهِ قَوْلَهُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَالتَّسَخُّطِ. وَفِي مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ» "، قِيلَ: وَمَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ". وَيَسْتَحْسِرُ بِمُهْمَلَاتٍ اسْتِفْعَالٌ مِنْ حَسَرَ، إِذَا أَعْيَا وَتَعِبَ، وَتَكْرَارُ دَعَوْتُ لِلِاسْتِمْرَارِ أَيْ دَعَوْتُ مِرَارًا كَثِيرَةً. قَالَ الْمُظَهَّرِيُّ: مَنْ لَهُ مَلَالَةٌ مِنَ الدُّعَاءِ لَا يُقْبَلُ دُعَاؤُهُ ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ حَصَلَتِ الْإِجَابَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَمَلَّ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَتَأْخِيرُ الْإِجَابَةِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ وَقْتُهَا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدَّرْ فِي الْأَزَلِ قَبُولُ دُعَائِهِ فِي الدُّنْيَا لِيُعْطَى عِوَضَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَخَّرَ الْقَبُولُ لِيُلِحَّ وَيُبَالِغَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ، وَمَنْ يُكْثِرُ قَرْعَ الْبَابِ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ، وَمَنْ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ يُوشِكُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
496 -
499 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) سَلْمَانَ بِسُكُونِ اللَّامِ (الْأَغَرِّ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَشَدِّ الرَّاءِ، الْجُهَنِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْقُرَشِيِّ الزُّهْرِيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا) اخْتُلِفَ فِيهِ فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ مُنَزِّهِينَ لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ.
وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالسُّفْيَانَيْنِ وَالْحَمَّادَيْنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ أَسْلَمُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ الْمُعَيَّنَ لَا يَجِبُ فَحِينَئِذٍ التَّفْوِيضُ أَسْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: النُّزُولُ رَاجِعٌ إِلَى أَفْعَالِهِ لَا إِلَى ذَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مَلَكِهِ الَّذِي يَنْزِلُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَالنُّزُولُ حِسِّيٌّ صِفَةُ الْمَلَكِ الْمَبْعُوثِ بِذَلِكَ، أَوْ مَعْنَوِيٌّ بِمَعْنَى لَمْ يَفْعَلُ ثُمَّ فَعَلَ فَسُمِّيَ ذَلِكَ نُزُولًا عَنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ صَحِيحَةٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنَّ الْمَعْنَى يَنْزِلُ أَمْرُهُ أَوْ الْمَلَكُ، وَإِمَّا أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ بِمَعْنَى التَّلَطُّفِ وَالْإِجَابَةِ لَهُمْ وَنَحْوِهِ.
وَكَذَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَوَّلَهُ بِنُزُولِ رَحْمَتِهِ وَأَمْرِهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ، كَمَا يُقَالُ فَعَلَ الْمَلِكُ كَذَا أَيْ أَتْبَاعُهُ بِأَمْرِهِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ قَوْمٌ يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ يَنْزِلُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِلَا تَوْقِيتِ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَغْلَبَ فِي الِاسْتِجَابَةِ ذَلِكَ الْوَقْتُ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ إِجَابَةِ الدَّاعِي وَغُفْرَانِهِ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ الْوَقْتِ كَحَدِيثِ: " إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا. الْحَدِيثَ، لَمْ يُرِدْ قُرْبَ الْمَسَافَةِ لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَمَلَ مِنَ الْعَبْدِ وَمِنْهُ تَعَالَى الْإِجَابَةُ.
وَحَكَى ابْنُ فُورَكَ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ضَبَطَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُنْزَلُ مَلِكًا، قَالَ الْحَافِظُ: وَيُقَوِّيِهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ؟» " الْحَدِيثَ.
وَحَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ: " «يُنَادِي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟» الْحَدِيثَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَلَا يَعْكِرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ رِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ:" «يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي» " ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْزَالِهِ الْمَلَكَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صُنْعِ الْعِبَادِ، بَلْ يَجُوزُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْمُنَادَاةِ، وَلَا يَسْأَلُ الْبَتَّةَ عَمَّا بَعْدَهَا، فَهُوَ أَعْلَمُ سُبْحَانَهُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، انْتَهَى.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْإِشْكَالُ مَدْفُوعٌ حَتَّى عَلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الَّذِي هُوَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ. وَكُلٌّ مِنْ حَدِيثَيِ النَّسَائِيِّ وَأَحْمَدَ يُقَوِّي تَأْوِيلَهُ بِأَنَّهُ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ أَوْ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَمَّا ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ النُّزُولُ عَلَى مَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ أَخْفَضَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ دُنُوُّ رَحْمَتِهِ أَيْ يَنْتَقِلُ مِنْ مُقْتَضَى صِفَةِ الْجَلَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْغَضَبَ وَالِانْتِقَامَ إِلَى مُقْتَضَى صِفَةِ الْإِكْرَامِ الَّتِي تَقْتَضِي الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ.
تبارك وتعالى جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَظَرْفِهِ وَهُوَ (كُلَّ لَيْلَةٍ) لَمَّا أُسْنِدَ النُّزُولُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ إِسْنَادُهُ حَقِيقَةً إِلَيْهِ اعْتُرِضَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57](سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ 57)(إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ) بِرَفْعِهِ صِفَةُ (ثُلُثُ) ، وَتَخْصِيصُهُ بِاللَّيْلِ وَثُلُثُهُ الْآخِرُ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّهَجُّدِ وَغَفْلَةِ النَّاسِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ النِّيَّةُ خَالِصَةً وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَافِرَةً وَذَلِكَ مَظِنَّةُ الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ.
وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ، وَيُقَوِّيِهِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُخَالِفَةَ لَهُ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى رَاوِيهَا وَانْحَصَرَتْ فِي سِتَّةٍ هَذِهِ ثَانِيهَا: إِذَا مَضَى الثُّلُثُ الْأَوَّلُ. ثَالِثُهَا: الثُّلُثُ الْأَوَّلُ أَوِ النِّصْفُ. رَابِعُهَا: النِّصْفُ. خَامِسُهَا: الثُّلُثُ الْأَخِيرُ أَوِ النِّصْفُ. سَادِسُهَا: الْإِطْلَاقُ فَجَمَعَ بَيْنَهَا بِحْمِلِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ. وَأَمَّا الَّتِي بِأَوْ فَإِنْ كَانَتْ لِلشَّكِّ فَالْجَزْمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّكِّ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ فَيُجْمَعُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِحَسَبِ
اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ; لِأَنَّ أَوْقَاتَ اللَّيْلِ تَخْتَلِفُ فِي الزِّيَادَةِ، وَفِي الْأَوْقَاتِ بِاخْتِلَافِ تَقَدُّمِ اللَّيْلِ عِنْدَ قَوْمٍ وَتَأَخُّرِهِ عِنْدَ قَوْمٍ، أَوِ النُّزُولُ يَقَعُ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ، وَالْقَوْلُ يَقَعُ فِي النِّصْفِ، وَفِي الثُّلُثِ الثَّانِي، أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، أُعْلِمَ بِأَحَدِ الْأُمُورِ فِي وَقْتٍ، فَأَخْبَرَ بِهِ، ثُمَّ أُعْلِمَ بِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَأَخْبَرَ بِهِ، فَنَقَلَ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَنْهُ.
(فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ) أَيْ أُجِيبَ (لَهُ) دُعَاءَهُ، فَلَيْسَتِ السِّينُ لِلطَّلَبِ (مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ) مَسْئُولَهُ (مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) ذُنُوبَهُ، بِنَصْبِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَبِهِمَا قُرِئَ:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 245) وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِمَّا رَفْعُ الْمَضَارِّ أَوْ جَلْبُ الْمَسَارِّ، وَذَلِكَ إِمَّا دُنْيَوِيٌّ أَوْ دِينِيٌّ، فَفِي الِاسْتِغْفَارِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ، وَالدُّعَاءُ إِشَارَةٌ إِلَى الثَّانِي، وَالسُّؤَالُ إِشَارَةٌ إِلَى الثَّالِثِ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الدُّعَاءَ مَا لَا طَلَبَ فِيهِ، وَالسُّؤَالُ الطَّلَبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ، انْتَهَى.
وَزَادَ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «هَلْ تَائِبٌ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟» " وَزَادَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْهُ: " «مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَرْزِقُنِي فَأَرْزُقَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَكْشِفُ الضُّرَّ فَأَكْشِفَ عَنْهُ؟» " وَزَادَ عَطَاءٌ مَوْلَى أُمِّ صُبَيَّةَ، بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَةٍ، عَنْهُ:" أَلَا سَقِيمٌ يَسْتَشْفِي فَيُشْفَى؟ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَمَعَانِيهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَزَادُ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ عَنْهُ:" مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَةِ وَإِشَارَةٌ إِلَى جَزِيلِ ثَوَابِهَا.
وَزَادَ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: " حَتَّى الْفَجْرِ ".
وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: " حَتَّى الْفَجْرِ ". وَعَلَيْهِ اتَّفَقَ مُعْظَمُ الرِّوَايَاتِ. وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " حَتَّى تَحُلَّ الشَّمْسُ "، وَهِيَ شَاذَّةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ تَفْضِيلُ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 17) وَأَنَّ الدُّعَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتَ مُجَابٌ، وَلَا يُعْتَرَضُ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ بَعْضِ الدَّاعِينَ ; لِأَنَّ سَبَبَهُ وُقُوعُ الْخَلَلِ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الدُّعَاءِ كَالِاحْتِرَازِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ، أَوِ اسْتِعْجَالِ الدَّاعِي، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، أَوْ تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ وَيَتَأَخَّرُ وُجُودُ الْمَطْلُوبِ لِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ، أَوْ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا وَقَدْ حَمَلَ الْمُشَبِّهَةُ الْحَدِيثَ، وَأَحَادِيثَ التَّشْبِيهِ كُلَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ - وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ فَأَنْكَرُوا صِحَّتَهَا جُمْلَةً وَهُوَ مُكَابَرَةٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ أَوَّلُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا الْأَحَادِيثَ جَهْلًا أَوْ عِنَادًا، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ الْمُسْتَعْمَلِ لُغَةً، وَبَيْنَ الْبَعِيدِ الْمَهْجُورِ، فَأَوَّلَ فِي بَعْضٍ وَفَوَّضَ فِي بَعْضٍ، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: مَنَعَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ
التَّحْدِيثَ بِحَدِيثِ: " «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» "، وَحَدِيثِ:" «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» "، وَحَدِيثِ:" السَّاقِ " وَقَالَ: مَا يَدْعُو الْإِنْسَانَ إِلَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ وَهُوَ يَرَى مَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ، وَلَمْ يَرَ مِثْلَهُ حَدِيثَ:" إِنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ "، وَحَدِيثَ:" يَنْزِلُ رَبُّنَا "، فَأَجَازَ التَّحْدِيثَ بِهِمَا.
قَالَ: فَيُحْتَمَلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ حَدِيثَ التَّنَزُّلِ وَالضَّحِكِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، لَمْ يُطْعَنْ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا، وَحَدِيثُ الْعَرْشِ وَالصُّورَةِ وَالسَّاقِ لَا تَبْلُغُ أَحَادِيثُهَا فِي الصِّحَّةِ دَرَجَةَ التَّنَزُّلِ وَالضَّحِكِ، وَبِأَنَّ التَّأْوِيلَ فِي حَدِيثِ التَّنَزُّلِ أَقْرَبُ وَأَبْيَنُ، وَالْعُذْرَ بِسُوءِ التَّأْوِيلِ فِيهَا أَبْعَدُ، انْتَهَى. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّلَاةِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي الدَّعَوَاتِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيِّ، وَفِي التَّوْحِيدِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ. وَمُسْلِمٌ فِي الصَّلَاةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ «كُنْتُ نَائِمَةً إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَقَدْتُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَسْتُهُ بِيَدِي فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
497 -
500 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) تَيْمِ قُرَيْشٍ (أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِهِ، وَهُوَ مُسْنَدٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَطَرِيقُ الْأَعْرَجِ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ ( «قَالَتْ: كُنْتُ نَائِمَةً إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَفَقَدْتُهُ» ) بِفَتْحِ الْقَافِ، وَفِي رِوَايَةٍ افْتَقَدْتُهُ، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى لَمْ أَجِدْهُ (مِنَ اللَّيْلِ) وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ: وَكَانَ مَعِيَ عَلَى فِرَاشِي (فَلَمَسْتُهُ بِيَدِي) وَفِي رِوَايَةٍ: فَالْتَمَسْتُهُ فِي الْبَيْتِ، وَجَعَلْتُ أَطْلُبُهُ بِيَدِي (فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَهُمَا مُنْتَصِبَتَانِ (وَهُوَ سَاجِدٌ) وَفِيهِ أَنَّ اللَّمْسَ بِلَا لَذَّةٍ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ كَانَ فَوْقَ حَائِلٍ خِلَافَ الْأَصْلِ فَسَمِعْتُهُ (يَقُولُ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي ( «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ» ) أَيْ بِمَا يُرْضِيكَ مِمَّا يُسْخِطُكَ، فَخَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ بِإِقَامَةِ حُرْمَةِ مَحْبُوبِهِ، فَهَذَا لِلَّهِ، ثُمَّ الَّذِي لِنَفْسِهِ قَوْلُهُ:( «وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ» ) وَفِي إِضَافَتِهَا كَالسَّخَطِ إِلَيْهِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الشَّرِّ إِلَيْهِ تَعَالَى كَالْخَيْرِ، وَاسْتَعَاذَ بِهَا بَعْدَ اسْتِعَاذَتِهِ بِرِضَاهُ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْضَى مِنْ جِهَةِ حُقُوقِهِ، وَيُعَاقِبَ عَلَى حُقُوقِ غَيْرِهِ (وَبِكَ مِنْكَ) قَالَ عِيَاضٌ: تَرَقٍّ مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَى مُنْشِئِ الْأَفْعَالِ مُشَاهَدَةً لِلْحَقِّ وَغَيْبَةً عَنِ الْخَلْقِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ الْمَعْرِفَةِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ قَوْلٌ وَلَا يَضْبُطُهُ وَصْفٌ، فَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ، وَقَطْعُ
الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ وَإِفْرَادُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ وَغَيْرِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ ; لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُجِيرَهُ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ، وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالرِّضَا وَالسَّخَطُ ضِدَّانِ كَالْمُعَافَاةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَا لَا ضِدَّ لَهُ وَهُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى اسْتَعَاذَ بِهِ مِنْهُ لَا غَيْرَ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَارُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي بُلُوغِ الْوَاجِبِ مِنْ عِبَادَتِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ:( «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَيْ لَا أَبْلُغُ الْوَاجِبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْكَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لَا أُحَصِّلُ ثَنَاءً لِعَجْزِي عَنْهُ إِذْ هُوَ نِعْمَةٌ تَسْتَدْعِي شُكْرًا، وَهَكَذَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا أَعُدُّ كَمَا فِي الصِّحَاحِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْإِحْصَاءِ الْعَدُّ بِالْحَصَى كَمَا قَالَ:
وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى
…
وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ
وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ نَفْيِ الْمَلْزُومِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِحْصَاءِ الْمُفَسَّرِ بِالْعَدِّ وَإِرَادَةِ نَفْيِ اللَّازِمِ، وَهُوَ اسْتِيعَابُ الْمَعْدُودِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا أَسْتَوْعِبُ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ الْقُدْرَةِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الثَّنَاءَاتِ، أَوْ فَرْدٌ مِنْهَا يَفِي بِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ لَا عَدِّهَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ عَدُّ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الثَّنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِّينَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنِ اجْتَهَدْتُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْكَ فَلَنْ أُحْصِيَ نِعَمَكَ وَمِنَنَكَ وَإِحْسَانَكَ.
(أَنْتَ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كَمَا أَثْنَيْتَ) أَيِ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ هُوَ الْمُمَاثِلُ لِثَنَائِكَ (عَلَى نَفْسِكَ) وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْتَ تَأْكِيدٌ لِلْكَافِ مِنْ عَلَيْكَ بِاسْتِعَارَةِ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ لِلْمُتَّصِلِ، وَالثَّنَاءُ بِتَقْدِيمِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْمَدُّ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ عَلَى الْمَشْهُورِ لُغَةً، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ مَجَازٌ. وَقَالَ الْمَجْدُ: وَصْفٌ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ أَوْ خَاصٌّ بِالْمَدْحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ وَصْفَهُ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، انْتَهَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ عَنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بُلُوغِ حَقِيقَتِهِ، وَرَدُّ الثَّنَاءِ إِلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ، فَوَكَّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِصِفَاتِهِ لَا نِهَايَةَ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الثَّنَاءَ تَابِعٌ لِلْمُثْنَى عَلَيْهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَثْنَى عَلَيْهِ بِهِ وَإِنْ كَثُرَ وَطَالَ وَبُولِغَ فِيهِ، فَقَدْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ، وَسُلْطَانُهُ أَعَزُّ، وَصِفَاتُهُ أَكْثَرُ وَأَكْبَرُ، وَفَضْلُهُ أَوْسَعُ وَأَسْبَغُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
498 -
501 - (مَالِكٌ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ) مَيْسَرَةَ الْمَخْزُومِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةُ الْعَابِدُ، قَالَ مَالِكٌ: كَانَ يَلْبَسُ الصُّوفَ، وَيَكُونُ وَحْدَهُ وَلَا يُجَالِسُ أَحَدًا: لِمَالِكٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، رَوَاهُ هُنَا وَفِي الْحَجِّ، وَنَسَبَهُ فَزَادَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (بْنِ كَرِيزٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَزَايٍ
مَنْقُوطَةٍ، الْخُزَاعِيِّ أَبِي الْمُطَرِّفِ الْمَدَنِيِّ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ، قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: وَوَهِمَ مَنْ ظَنَّهُ أَحَدَ الْعَشَرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِهِ، وَلَا أَحْفَظُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ مُسْنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَمْرٍو، وَالْفَضَائِلُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ هُوَ وَحَدِيثَ ابْنِ عَمْرٍو الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ» ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ( «دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ» ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ أَعْظَمُهُ ثَوَابًا وَأَقْرَبُهُ إِجَابَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَوْمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْحَاجَّ خَاصَّةً ( «وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي» ) وَلَفْظُ حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَةَ ( «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) » زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ". وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ بِيَدِهِ الْخَيْرُ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَفِيهِ بِيَدِهِ الْخَيْرُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ أَنَّ الثَّنَاءَ دُعَاءٌ، وَفِي الْمَرْفُوعِ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل:" «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ". وَفِيهِ تَفْضِيلُ الدُّعَاءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَالْأَيَّامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَالتَّقْوَى.
وَقَالَ آخَرُونَ: أَفْضَلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الشُّكْرِ، وَفِيهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ مَا فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَافْتَتَحَ اللَّهُ كَلَامَهُ بِهِ وَخَتَمَ بِهِ، وَهُوَ آخِرُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَرَوَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ بِمَا قَالَتْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَسَاقَ جُمْلَةً مِنْهَا فِي التَّمْهِيدِ، وَوَقَعَ فِي تَجْرِيدِ الصِّحَاحِ لِرَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْأَنْدَلُسِيِّ زِيَادَةٌ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ. . . إِلَخْ. وَتَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ فَقَالَ: حَدِيثٌ لَا أَعْرِفُ حَالَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ صَحَابِيَّهُ وَلَا مَنْ خَرَّجَهُ، بَلْ أَدْرَجَهُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ هَذَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُوَطَّآتِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ احْتُمِلَ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبْعِينَ التَّحْدِيدُ أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْكَثْرَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْهُمَا ثَبَتَتِ الْمَزِيَّةُ، انْتَهَى.
وَفِي الْهَدْيِ لِابْنِ الْقَيِّمِ مَا اسْتَفَاضَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ أَنَّ وَقْفَةَ الْجُمُعَةِ تَعْدِلُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَجَّةً، فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
499 -
502 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (الْمَكِّيِّ) الْأَسَدِيِّ، مَوْلَاهُمْ صَدُوقٌ. وَقَالَ
ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: ثِقَةٌ، حَافِظٌ، مُتْقِنٌ، رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَالسُّفْيَانَانِ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ شُعْبَةَ فِيهِ، وَرَوَى لَهُ الْجَمِيعُ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ طَاوُسٍ) ابْنِ كَيْسَانَ (الْيَمَانِيِّ) الْحَضْرَمِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْفَارِسِيِّ، يُقَالُ اسْمُهُ ذَكْوَانَ وَطَاوُسٌ لَقَبٌ، ثِقَةٌ، فَقِيهٌ، فَاضِلٌ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ بَعْدَهَا (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ» ) تَشْبِيهٌ فِي تَحْفِيظِ حُرُوفِهِ وَتَرْتِيبِ كَلِمَاتِهِ وَمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ وَالدَّرْسِ لَهُ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ (يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ» ) أَيْ عُقُوبَتِهَا، وَالْإِضَافَةُ مَجَازِيَّةٌ، أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَظْرُوفِ إِلَى ظَرْفِهِ ( «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ) الْعَذَابُ اسْمٌ لِلْعُقُوبَةِ وَالْمَصْدَرُ التَّعْذِيبُ، فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ مَجَازًا، أَوِ الْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَظْرُوفِ إِلَى ظَرْفِهِ عَلَى تَقْدِيرِ فِي، أَيْ مِنْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ.
(وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ) امْتِحَانِ وَاخْتِبَارِ (الْمَسِيحِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَخِفَّةِ السِّينِّ الْمَكْسُورَةِ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَصَحَّفَ مَنْ أَعْجَمَهَا، يُطْلَقُ عَلَى الدَّجَّالِ وَعَلَى عِيسَى عليه السلام، لَكِنْ إِذَا أُرِيدَ الْأَوَّلُ قُيِّدَ كَمَا قَالَ (الدَّجَّالِ) وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: الْمَسِيحُ مُثَقَّلٌ الدَّجَّالُ وَمُخَفَّفٌ عِيسَى وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
وَنَقَلَ الْمُسْتَمْلِي عَنِ الْفَرَبْرِيِّ عَنْ خَلَفِ بْنِ عَامِرٍ الْهَمْدَانِيِّ أَحَدِ الْحُفَّاظِ: الْمَسِيحُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ وَاحِدٌ يُقَالُ لِلدَّجَّالِ وَلِعِيسَى لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى لَا اخْتِصَاصَ لِأَحَدِهِمَا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، لُقِّبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ أَوْ لِأَنَّ أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ خُلِقَ مَمْسُوحًا لَا عَيْنَ فِيهِ وَلَا حَاجِبَ أَوْ لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ إِذَا خَرَجَ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ مَنْ خَفَّفَهُ فَلِمَسْحِهِ الْأَرْضَ، وَمَنْ شَدَّدَ فَلِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ. وَأَمَّا عِيسَى فَقِيلَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، أَوْ لِأَنَّ زَكَرِيَّا مَسَحَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ، أَوْ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ بِسِيَاحَتِهِ، أَوْ لِأَنَّ رِجْلَهُ لَا أَخْمَصَ لَهَا، أَوْ لِلَبْسِهِ الْمُسُوحَ، وَقِيلَ هُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَاسِحٌ فَعُرِّبَ الْمَسِيحُ، وَقِيلَ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ.
( «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا» ) هِيَ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ، وَأَعْظَمُهَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ (وَ) فِتْنَةِ (الْمَمَاتِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: هِيَ فِتْنَةُ الْقَبْرِ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ يَحْتَمِلُ إِذَا احْتُضِرَ، وَيَحْتَمِلُ فِي الْقَبْرِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَجُوزُ أَنَّهَا الْفِتْنَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ لِقُرْبِهَا مِنْهُ، وَفِتْنَةُ الْمَحْيَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنَّهَا فِتْنَةُ الْقَبْرِ، وَقَدْ صَحَّ: إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ
قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ مَعَ قَوْلِهِ:(عَذَابِ الْقَبْرِ) ; لِأَنَّ الْعَذَابَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْفِتْنَةِ وَالسَّبَبُ غَيْرُ الْمُسَبَّبِ، وَقِيلَ: فِتْنَةُ الْمَحْيَا الِابْتِلَاءُ مَعَ زَوَالِ الصَّبْرِ، وَالْمَمَاتِ: السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ مَعَ الْحَيْرَةِ، وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ ; لِأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ دَاخِلٌ تَحْتَ فِتْنَةِ الْمَمَاتِ، وَفِتْنَةَ الدَّجَّالِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ فِتْنَةِ الْمَحْيَا.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا سُئِلَ، مَنْ رَبُّكَ؟ تَرَاءَى لَهُ الشَّيْطَانُ فَيُشِيرُ إِلَى نَفْسِهِ أَنَا رَبُّكَ، فَلِذَا وَرَدَ سُؤَالُ الثَّبَاتِ لَهُ حِينَ يُسْأَلُ، ثُمَّ رُوِيَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» " قَالَ الْحَافِظُ: فَهَذَا يُعَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ التَّشَهُّدِ فَيَكُونُ سَابِقًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ. وَمَا وَرَدَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ يَكُونُ بَعْدَ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ وَقَبْلَ السَّلَامِ، انْتَهَى. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَقَالَ مُسْلِمٌ بَعْدَهُ: بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لِابْنِهِ: أَدَعَوْتَ بِهَا فِي صَلَاتِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَعِدْ صَلَاتَكَ؛ لِأَنَّ طَاوُسًا رَوَاهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَهَذَا الْبَلَاغُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى وُجُوبَهُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
500 -
503 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَقُولُ) فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ كَانَ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَوَابُ (إِذَا) ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرُ كَانَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلَ مَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ.
وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ، صلى الله عليه وسلم، إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ قَالَ بَعْدَمَا يُكَبِّرُ:(اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ) وَالْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ عَلَى التَّفْضِيلِ وَأَلْ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ (أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مُنَوِّرُهُمَا وَبِكَ يَهْتَدِي مَنْ فِيهِمَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْتَ الْمُنَزَّهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، يُقَالُ فُلَانٌ مُنَوَّرٌ أَيْ مُبَرَّأٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَيُقَالُ هُوَ مَدْحٌ تَقُولُ: فُلَانٌ نُورُ الْبَلَدِ أَيْ مُزَيِّنُهُ. (وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ فَأَلِفٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ الْحَنْظَلِيِّ الْمَكِّيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ بِزِنَةِ فَعَّالٍ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ.
وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: (قَيِّمُ)، وَهُمَا وَالْقَيُّومُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ:" وَمَنْ فِيهِنَّ " أَيْ أَنْتَ الَّذِي تَقُومُ
بِحِفْظِهِمَا وَحِفْظِ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، تُؤْتِي كُلًّا مَا بِهِ قِوَامُهُ وَتُقَوِّمُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ بِمَا تَرَاهُ مِنْ تَدْبِيرِكَ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَرَأَ عُمَرُ الْقَيَّامُ أَيْ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَكِلَاهُمَا مَدْحٌ أَيْ بِخِلَافِ الْقَيِّمِ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَقِيلَ الْقَيِّمُ: الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرُ الْعَالَمِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَمِنْهُ قَيِّمُ الطِّفْلِ، وَالْقَيُّومُ وَالْقَيَّامُ: الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا لَا بِغَيْرِهِ، وَيَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ شَيْءٍ وَلَا دَوَامُ وَجُودِهِ إِلَّا بِهِ، فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ اسْتَرَاحَ عَنْ كَدِّ التَّدْبِيرِ وَتَعَبِ الِاشْتِغَالِ وَعَاشَ بِرَاحَةِ التَّفْوِيضِ، فَلَا يَضِنُّ بِكَرِيمَةٍ وَلَا يَجْعَلُ فِي قَلْبِهِ لِلدُّنْيَا كَثِيرَ قِيمَةٍ.
(وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ) عَبَّرَ بِمَنْ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَكَافِلُهُ وَمُغَذِّيهِ وَمُصْلِحُهُ الْعَوْدُ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ، وَتَكْرِيرُ الْحَمْدِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ وَلِيُنَاطَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ مَعْنًى آخَرُ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ إِفَادَةُ التَّخْصِيصِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْحَمْدَ بِاللَّهِ قِيلَ لَهُ: لِمَ خَصَصْتَنِي؟ قَالَ: لِأَنَّكَ الْقَائِمُ بِحِفْظِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (أَنْتَ الْحَقُّ) أَيِ الْمُتَحَقِّقُ الْوُجُودِ الثَّابِتُ بِلَا شَكٍّ فِيهِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْوَصْفُ لَهُ سبحانه وتعالى بِالْحَقِيقَةِ خَاصٌّ بِهِ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِ، إِذْ وَجُودُهُ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ وَلَا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْتَ الْحَقُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ إِلَهٌ، أَوْ بِمَعْنَى مَنْ سَمَّاكَ إِلَهًا فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ. (وَقَوْلُكَ الْحَقُّ) أَيْ مَدْلُولُهُ ثَابِتٌ (وَوَعْدُكَ الْحَقُّ) لَا يَدْخُلُهُ خُلْفٌ، وَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ وَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ. (وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ) الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَآلِ الْخَلْقِ فِي الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رُؤْيَتُكَ فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ لَا مَانِعَ، وَقِيلَ: الْمَوْتُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ بَاطِلٌ هُنَا. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا وَمَا بَعْدَهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعْدِ لَكِنَّ الْوَعْدَ مَصْدَرٌ وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ. (وَالْجَنَّةُ حُقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْجُودٌ (وَالسَّاعَةُ حَقٌّ) أَيْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَصْلُ السَّاعَةَ الْقِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَقِّ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا، وَأَنَّهَا مَا يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ بِهَا، وَتَكْرَارُ لَفْظِ (حَقٌّ) مُبَالَغَةٌ فِي التَّأْكِيدِ. زَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ عَنْ طَاوُسٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ:" «وَالنَّبِيُّونَ حُقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ» "، وَعُرِّفَ الْحَقُّ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لِلْحَصْرِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ وَمَا سِوَاهُ فِي مَعْرِضِ الزَّوَالِ، قَالَ لَبِيدٌ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
وَكَذَا قَوْلُهُ: وَكَذَا وَعْدُهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْجَازِ دُونَ وَعْدِ غَيْرِهِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْبَوَاقِي لِلتَّعْظِيمِ
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: التَّعْرِيفُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الِاسْمِ بِالْحَقِيقَةِ إِذْ هُوَ مُقْتَضَى الْأَدَاةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَوَعْدُهُ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ كَلَامُهُ، وَتُرِكَتْ فِي الْبَوَاقِي ; لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُحْدَثَةٌ وَالْمُحْدَثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْبَقَاءُ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، وَبَقَاءُ مَا يَدُومُ مِنْهُ عُلِمَ بِخَبَرِ الصَّادِقِ لَا مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ فَنَائِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُنَا سِرٌّ دَقِيقٌ وَهُوَ أَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْمَقَامِ الْإِلَهِيِّ وَمُقَرَّبِي حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَظَّمَ شَأْنَهُ وَفَخَّمَ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ ذَكَرَ النَّبِيِّينَ، وَعَرَّفَهَا بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ، ثُمَّ خَصَّ مُحَمَّدًا، صلى الله عليه وسلم، مِنْ بَيْنِهِمْ وَعَطَفَهُ عَلَيْهِمْ إِيذَانًا بِالتَّغَايُرِ، وَأَنَّهُ فَائِقٌ عَلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، فَإِنَّ تَغَايُرَ الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ اسْتِقْلَالًا بِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَرَّدَهُ عَنْ ذَاتِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ تَصْدِيقَهُ، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَنَظَرَ إِلَى افْتِقَارِ نَفْسِهِ نَادَى بِلِسَانِ الِاضْطِرَارِ فِي مَطَاوِي الِانْكِسَارِ فَقَالَ:(اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ) انْقَدْتُ وَخَضَعْتُ لِأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ (وَبِكَ آمَنْتُ) أَيْ صَدَّقْتُ (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أَيْ فَوَّضْتُ أُمُورِي تَارِكًا النَّظَرَ فِي الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) رَجَعَتْ إِلَيْكَ مُقْبِلًا بِقَلْبِي عَلَيْكَ (وَبِكَ) أَيْ بِمَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْبُرْهَانِ وَبِمَا لَقَّنْتَنِي مِنَ الْحُجَّةِ (خَاصَمْتُ) مَنْ خَاصَمَنِي مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ بِتَأْيِيدِكَ وَنَصْرِكَ قَاتَلْتُ (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) كُلَّ مَنْ جَحَدَ الْحَقَّ وَمَا أَرْسَلْتَنِي بِهِ لَا إِلَى مَنْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ كَاهِنٍ وَنَحْوِهِ، وَقَدَّمَ جَمِيعَ صِلَاتِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَيْهَا إِشْعَارًا بِالتَّخْصِيصِ وَإِفَادَةً لِلْحَصْرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَلَكَ الْحَمْدُ (فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ (وَأَخَّرْتُ) عَنْهُ (وَأَسْرَرْتُ) أَخْفَيْتُ (وَأَعْلَنْتُ) أَظْهَرْتُ، أَوْ مَا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي وَمَا تَحَرَّكَ بِهِ لِسَانِي، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ:" وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي " وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَقَالَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ إِمَّا تَوَاضُعًا وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، أَوْ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ، قَالَ الْحَافِظُ: كَذَا قِيلَ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّعْلِيمِ فَقَطْ لَكَفَى فِيهِ أَمْرُهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا زَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ عَنْ طَاوُسٍ: أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ، أَيِ الْمُقَدِّمِ لِي فِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُؤَخِّرِ لِي فِي الْبَعْثِ فِي الدُّنْيَا.
(أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْقَيِّمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْجَوَاهِرِ وَقِوَامَهَا مِنْهُ، وَالنُّورِ إِلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ أَيْضًا مِنْهُ، وَالْمُلْكِ إِلَى أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا إِيجَادًا وَعَدَمًا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَلِذَا قَرَنَ كُلًّا مِنْهَا بِالْحَمْدِ وَخَصَّصَ الْحَمْدَ بِهِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: أَنْتَ الْحَقُّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَبْدَأِ، وَالْقَوْلُ وَنَحْوُهُ إِلَى الْمَعَاشِ، وَالسَّاعَةُ وَنَحْوُهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعَادِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى النُّبُوَّةِ، وَإِلَى الْجَزَاءِ ثَوَابًا وَعِقَابًا، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ، انْتَهَى.
وَفِيهِ زِيَادَةُ مَعْرِفَتِهِ، صلى الله عليه وسلم، بِعَظَمَةِ رَبِّهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ، وَالِاعْتِرَافُ
لِلَّهِ بِحُقُوقِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِصِدْقِ وَعْدِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّلَاةِ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ كِلَيْهِمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ «فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْأَنْصَارِ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِكُمْ هَذَا فَقُلْتُ لَهُ نَعَمْ وَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا الثَّلَاثُ الَّتِي دَعَا بِهِنَّ فِيهِ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ فَقُلْتُ دَعَا بِأَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ فَأُعْطِيَهُمَا وَدَعَا بِأَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمُنِعَهَا» قَالَ صَدَقْتَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَنْ يَزَالَ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
501 -
504 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ) وَقِيلَ جَبْرٍ (بْنِ عَتِيكِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَكَافٍ، الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، مِنَ الثِّقَاتِ (أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ، هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى وَطَائِفَةٌ لَمْ يَجْعَلُوا بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخِ مَالِكٍ وَبَيْنَ ابْنِ عُمَرَ أَحَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا عَتِيكَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَتِيكٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُمَا جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ وَمُطَرِّفٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرِوَايَةُ يَحْيَى أَوْلَى بِالصَّوَابِ. (فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْأَنْصَارِ) بِالْمَدِينَةِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا الْمُعَاوِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ (فَقَالَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَضَّاحٍ " لِي "(هَلْ تَدْرُونَ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، مِنْ مَسْجِدِكُمْ هَذَا) لِأُصَلِّيَ فِيهِ وَأَتَبَرَّكَ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى اقْتِفَاءِ آثَارِهِ.
(فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، وَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ) مِنَ الْمَسْجِدِ (فَقَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي مَا الثَّلَاثُ) دَعَوَاتٍ (الَّتِي دَعَى بِهِنَّ فِيهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ) فِيهِ طَرْحُ الْعَالِمِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَنْ دُونَهُ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ. (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ، فَقُلْتُ: دَعَا بِأَنْ لَا يُظْهِرَ) اللَّهُ (عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ) أَيِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي يَسْتَأْصِلُ جَمِيعَهُمْ. (وَلَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ) أَيْ بِالْمَحَلِّ وَالْجَدْبِ وَالْجُوعِ (فَأُعْطِيَهُمَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (وَدَعَا بِأَنْ لَا يَجْعَلَ بِأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) أَيِ الْحَرْبَ وَالْفِتَنَ وَالِاخْتِلَافَ (فَمَنَعَهَا، قَالَ: صَدَقْتَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَنْ يَزَالَ الْهَرْجُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالْجِيمِ، الْقَتْلُ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَضَاءَنَا قَدْ مَنَّ اللَّهُ.
فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ رَفْعُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زَوَى لِي مِنْهَا» " الْحَدِيثَ وَفِيهِ: " «وَإِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يُهْلِكُ أُمَّتِي بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهَا عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَقَالَ: يَا
مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا» ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: دَعَا، صلى الله عليه وسلم، فِي مَسْجِدِ الْفَتْحِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ، قَالَ جَابِرٌ: فَمَا نَزَلْ بِي أَمْرٌ يُهِمُّنِي إِلَّا تَوَخَّيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ فَأَعْرِفُ الْإِجَابَةَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَّا كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
502 -
505 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَّا كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ) بِعَيْنِ مَا سَأَلَ (وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ) مِنَ الذُّنُوبِ فِي نَظِيرِ دُعَائِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا لَا يَكُونُ رَأْيًا بَلْ تَوْقِيفٌ وَهُوَ خَبَرٌ مَحْفُوظٌ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ:" «دُعَاءُ الْمُسْلِمِ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعْطَى مَسْأَلَتَهُ الَّتِي سَأَلَ، أَوْ يُرْفَعَ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ يُحَطُّ بِهَا عَنْهُ خَطِيئَةً، مَا لَمْ يَدْعُ بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ مَأْثَمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلُ» ".
قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِ لَا تُرَدُّ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ تُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِقَدْرِ مَا دَعَاهُ» ". وَهَذَا مِنَ التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60](سُورَةُ غَافِرٍ: الْآيَةُ 60) فَهَذِهِ كَلِمَةُ اسْتِجَابَةٍ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا تَنْقَضِي حِكْمَتُهُ، وَلِذَا لَا تَقَعُ الْإِجَابَةُ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَفِي الْحَدِيثِ:" «إِنَّ اللَّهَ لِيَبْتَلِيَ الْعَبْدَ وَهُوَ يُحِبُّهُ لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ» " انْتَهَى.
[بَاب الْعَمَلِ فِي الدُّعَاءِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَدْعُو وَأُشِيرُ بِأُصْبُعَيْنِ صَبْعٍ مِنْ كُلِّ يَدٍ فَنَهَانِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
9 -
بَابُ الْعَمَلِ فِي الدُّعَاءِ
503 -
506 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) ابْنِ الْخَطَّابِ (وَأَنَا أَدْعُو وَأُشِيرُ بِأُصْبُعَيْنِ أُصْبُعٍ مِنْ كُلِّ يَدٍ، فَنَهَانِي) ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ إِمَّا بِالْيَدَيْنِ
وَبَسْطِهِمَا عَلَى مَعْنَى التَّضَرُّعِ وَالرَّغْبَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَعْنَى التَّوْحِيدِ قَالَهُ الْبَاجِيُّ، أَيِ الْوَاجِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَدَبِ.
وَالنَّهْيُ مَأْخُوذٌ مِنْ «قَوْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: " مَرَّ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا أَدْعُو بِأُصْبُعِي فَقَالَ: أَحِّدْ أَحِّدْ " وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ» ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. " «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَدْعُو بِأُصْبُعَيْهِ فَقَالَ، صلى الله عليه وسلم: أَحِّدْ أَحِّدْ» " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ وَالْجَزْمِ، وَكَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْحَاكِمِ «عَنْ سَهْلٍ:" مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، شَاهِرًا يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَى مِنْبَرِهِ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا كَانَ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ بِحِذَاءِ مَنْكِبَيْهِ وَيَدْعُو» " ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ لَهُ حَالَاتٌ، أَوْ لِأَنَّ هَذَا إِخْلَاصٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كُلِّ يَدٍ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ سَعْدٍ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الرَّفْعِ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: الْمَسْأَلَةُ: رَفْعُ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ، وَالِاسْتِغْفَارُ: أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، وَالِابْتِهَالُ: أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي التَّشَهُّدِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَقَالَ بِيَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ فَرَفَعَهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
504 -
507 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَالَ) أَيْ أَشَارَ بِيَدَيْهِ (نَحْوَ السَّمَاءِ فَرَفَعَهُمَا) إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ وَهُوَ الدَّرَجَةُ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ جَاءَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُرْفَعُ الدَّرَجَةَ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بِمَ هَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: بِدُعَاءِ وَلَدِكَ مِنْ بَعْدِكَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " بِاسْتِغْفَارِ ابْنِكَ» ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] فِي الدُّعَاءِ قَالَ يَحْيَى وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ فِيهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
505 -
508 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110] جِدًّا فَتَنْقَطِعَ وَتَنْبَتَّ {وَلَا تُخَافِتْ} [الإسراء: 110] وَلَا تَخْفِضْ صَوْتَكَ {بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ} [الإسراء: 110] الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ (سَبِيلًا) وَسَطًا (فِي الدُّعَاءِ) أَرْسَلَهُ مَالِكٌ وَتَابَعَهُ عَلَى إِرْسَالِهِ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، وَوَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ سُعَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَتَابَعُهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ هِشَامٍ، وَأَطْلَقَتْ عَائِشَةُ الدُّعَاءَ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْ
خَارِجَهَا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْمَعْمَرِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ هِشَامٍ، فَزَادَ فِي التَّشَهُّدِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ قَالَ:" كَانَ أَعْرَابٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِذَا سَلَّمَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا مَالًا وَوَلَدًا ". وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110] » (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 110) أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110](سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 110) عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعَهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110](سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 110) وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لِأَنَّهُ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ فَوَافَقَ عَائِشَةَ.
وَعِنْدَهُ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدٍ وَمَكْحُولٍ مِثْلَهُ. وَأَسْنَدَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا قَالَ: يَقُولُ قَوْمٌ إِنَّهَا فِي الصَّلَاةِ وَقَوْمٌ إِنَّهَا فِي الدُّعَاءِ. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " كَانَ، صلى الله عليه وسلم، إِذَا صَلَّى عِنْدَ الْبَيْتِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ فَنَزَلَتْ " وَقِيلَ الْآيَةُ فِي الدُّعَاءِ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55](سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 55) ، انْتَهَى.
وَفِي الِاسْتِذْكَارِ قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيهِ، أَيْ لَا تَجْهَرْ بِقِرَاءَتِكَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ وَلَا تُخَافِتْ بِقِرَاءَتِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالصُّبْحِ، وَهَذَا نَصٌّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الصُّبْحَ مِنَ النَّهَارِ. (قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ فِيهَا) وَأَوْلَى فِي غَيْرِهَا بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَدْعُو إِلَّا بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ، صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . . . الْحَدِيثَ. وَقَالَ: «غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَلَّمَهَا اللَّهُ» ، وَغَيْرُ ذَلِكَ وَكُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
505 -
509 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَطَائِفَةٍ، مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَثَوْبَانَ وَأُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ) أَيْ أَطْلُبُ
مِنْكَ (فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) الْمَأْمُورَاتِ أَيِ الْإِقْدَارَ عَلَى فِعْلِهَا وَالتَّوْفِيقَ لَهُ (وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ) أَيِ الْمَنْهِيَّاتِ (وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ) يُحْتَمَلُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ وَإِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ أَنْسَبُ بِمَا قَبْلَهُ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُخْتَصُّ بِالتَّوَاضُعِ، وَفِيهِ أَنَّ فِعْلَ الثَّلَاثَةِ إِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ (وَإِذَا أَدَرْتَ) بِتَقْدِيمِ الدَّالِّ عَلَى الرَّاءِ مِنَ الْإِدَارَةِ: أَوْقَعْتَ (فِي النَّاسِ) وَيُرْوَى بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الدَّالِ مِنَ الْإِرَادَةِ (فِتْنَةً) بَلَايَا وَمِحَنَ (فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ) الْفِتْنَةُ لُغَةً الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ وَتُسْتَعْمَلُ عُرْفًا لِكَشْفِ مَا يُكْرَهُ قَالَهُ عِيَاضٌ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى طَلَبِ الْعَافِيَةِ وَاسْتِدَامَةِ السَّلَامَةِ إِلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى هُدًى إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ اتَّبَعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى ضَلَالَةٍ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
505 -
510 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) مِمَّا صَحَّ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَرِيرٍ وَغَيْرِهِمَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى هُدًى) أَيْ إِلَى مَا يُهْتَدَى بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَنُكِّرَ لِيَشِيعَ فَيَتَنَاوَلَ الْحَقِيرَ كَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ (إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ) سَوَاءٌ ابْتَدَعَهُ أَوْ سَبَقَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ لَهُ تَوَلَّدَ عَنْ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ (لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ) الْإِشَارَةُ إِلَى مَصْدَرِ كَانَ (مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) دَفَعَ بِهِ تَوَهُّمَ أَنَّ أَجْرَ الدَّاعِي إِنَّمَا يَكُونُ بِتَنْقِيصِ أَجْرِ التَّابِعِ وَضَمِّهِ إِلَى أَجْرِ الدَّاعِي، فَكَمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى مَا يُبَاشِرُهُ يَتَرَتَّبُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَا هُوَ سَبَبُ فِعْلِهِ كَالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهُدَى إِمَّا الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ أَوْ مُطْلَقُ الْإِرْشَادِ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُهْتَدَى بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ بِحَسَبِ التَّنْكِيرِ مُطْلَقٌ شَائِعٌ فِي جِنْسِ مَا يُقَالُ لَهُ هُدًى، يُطْلَقُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ وَالْعَظِيمِ وَالْحَقِيرِ، فَأَعْظَمُهُ هُدًى مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا، وَأَدْنَاهُ هُدًى مَنْ دَعَا إِلَى إِمَاطَةِ الْأَذَى، وَلِذَا عَظُمَ شَأْنُ الْفَقِيهِ الدَّاعِي الْمُنْذِرِ حَتَّى فَضُلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُمُّ الْأَشْخَاصَ وَالْأَعْصَارَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
(وَمَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى ضَلَالَةٍ) ابْتَدَعَهَا أَوْ سَبَقَ بِهَا (إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ) أَيْ مَنِ اتَّبَعَهُ لِتَوَلُّدِهِ عَنْ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ خِصَالِ الشَّيْطَانِ، وَالْعَبْدُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَى السَّبَبِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ كَمَا يُعَاقَبُ السَّكْرَانُ عَلَى
جِنَايَتِهِ حَالَ سُكْرِهِ لِمَنْعِ السَّبَبِ فَلَمْ يُعْذَرِ السَّكْرَانُ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا، وَلِذَا كَانَ عَلَى قَابِيلَ الْقَاتِلِ لِأَخِيهِ كِفْلٌ مِنْ ذَنْبِ كُلِّ قَاتِلٍ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ (لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا) ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ عَائِدٌ عَلَى (مِنْ) بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ، وَإِنَّ كَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ وَلَا مُقْتَضِيَةٍ لِلثَّوَابِ وَلَا لِلْعِقَابِ بِذَاتِهَا، لَكِنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِرَبْطِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِهَا ارْتِبَاطَ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ، وَفِعْلِ مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي صُدُورِهِ بِوَجْهٍ، وَلَمَّا كَانَتِ الْجِهَةُ الَّتِي اسْتَوْجَبَ بِهَا الْجَزَاءَ غَيْرَ الْجِهَةِ الَّتِي اسْتَوْجَبَ بِهَا الْمُبَاشِرُ لَمْ يَنْقُصْ أَجْرُهُ مِنْ أَجْرِهِ وَلَا مِنْ وِزْرِهِ شَيْئًا، انْتَهَى.
وَأَوْرَدَ إِذَا دَعَا وَاحِدٌ إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتَّبَعُوهُ لَزِمَ كَوْنُ السَّيِّئَةِ وَاحِدَةً وَهِيَ الدَّعْوَةُ مَعَ أَنَّ هُنَا أَوْزَارًا كَثِيرَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ فِي الْمَعْنَى مُتَعَدِّدَةٌ ; لِأَنَّ دَعْوَى الْجَمْعِ دَفْعَةُ دَعْوَةٍ لِكُلِّ مَنْ أَجَابَهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ التَّوْبَةُ مِمَّا تَوَلَّدَ وَلَيْسَ فِعْلَهُ، وَالْمَرْءُ إِنَّمَا يَتُوبُ مِمَّا فَعَلَهُ اخْتِيَارًا؟ أُجِيبَ بِحُصُولِهَا بِالنَّدَمِ وَدَفْعِهِ عَنِ الْغَيْرِ مَا أَمْكَنَ وَهُوَ إِقْنَاعِيٌّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَبْلَغُ شَيْءٍ فِي فَضْلِ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَإِلَى جَمِيعِ سُبُلِ الْخَيْرِ وَالْبَرِّ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَغَيْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5](سُورَةُ الِانْفِطَارِ: الْآيَةُ: 5) أَيْ مَا قَدَّمْتَ مِنْ خَيْرٍ يُعْمَلُ بِهِ بَعْدَهَا وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ شَرٍّ يُعْمَلُ بِهِ بَعْدَهَا.
وَقَالَهُ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13](سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: الْآيَةُ 13) وَعَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ: 166) ، انْتَهَى.
وَأُخِذَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ أَجْرٍ حَصَلَ لِلشَّهِيدِ أَوْ لِغَيْرِهِ حَصَلَ لِلنَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، مِثْلُهُ زِيَادَةً عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْخَاصِّ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تَصِلُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ إِلَى عِرْفِ نَشْرِهَا وَلَا تَبْلُغُ مِعْشَارَ عُشْرِهَا، فَجَمِيعُ حَسَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فِي صَحَائِفِهِ زِيَادَةً عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَعَ مُضَاعَفَةٍ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ ; لِأَنَّ كُلَّ مُهْتَدٍ وَعَامِلٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَهُ أَجْرٌ، وَلِشَيْخِهِ فِي الْهِدَايَةِ مِثْلُهُ، وَشَيْخِ شَيْخِهِ مِثْلَاهُ، وَلِلشَّيْخِ الثَّالِثِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلرَّابِعِ ثَمَانِيَةٌ، وَهَكَذَا تُضَعَّفُ كُلُّ مَرْتَبَةٍ بِعَدَدِ الْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَهُ إِلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَبِهِ يُعَرَفُ فَضْلُ السَّلَفِ عَلَى الْخَلْفِ، فَإِذَا فَرَضْتَ الْمَرَاتِبَ عَشَرَةً بَعْدَهُ، صلى الله عليه وسلم، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ أَلْفٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا اهْتَدَى بِالْعَاشِرِ الْحَادِي عَشَرَ صَارَ لَهُ، صلى الله عليه وسلم، أَلْفَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَهَكَذَا كَلَّمَا زَادَ وَاحِدٌ تَضَاعَفَ مَا كَانَ قَبْلَهُ أَبَدًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
505 -
511 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74](سُورَةُ الْفُرْقَانِ: الْآيَةُ 74) فَإِذَا كَانَ إِمَامًا فِي الْخَيْرِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ وَأَجْرُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ، وَمُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُومُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ نَامَتْ الْعُيُونُ وَغَارَتْ النُّجُومُ وَأَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
505 -
512 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُومُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: نَامَتِ الْعُيُونُ وَغَارَتِ النُّجُومُ) أَيْ غَرَبَتْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِهَا) وَبِهِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام فَقَالَ:(لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) .
(وَأَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الَّذِي لَا يَزُولُ وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ: قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيِ الدَّائِمُ حُكْمُهُ فِيهِمَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33](سُورَةُ الرَّعْدِ: الْآيَةُ: 33) أَيْ حَافِظٌ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
[بَاب النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
10 -
بَابُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ
510 -
513 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، نِسْبَةً إِلَى صُنَابِحَ بَطْنٍ مِنْ مُرَادٍ، هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، عَبْدِ اللَّهِ بِلَا أَدَاةِ كُنْيَةٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ: مُطَرِّفٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ بِأَدَاةِ الْكُنْيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ، تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَرَوَاهُ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ خَطَأٌ فَالصُّنَابِحِيُّ لَمْ يَلْقَهُ، كَذَا قَالَ تَبَعًا لِنَقْلِ التِّرْمِذِيِّ
عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ مَالِكًا وَهِمَ فِي قَوْلِهِ عَبْدُ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تَابِعِيٌّ، قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الصُّنَابِحِيَّ لَا وُجُودَ لَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: عَبْدُ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ رَوَى عَنْهُ الْمَدَنِيُّونَ يُشْبِهُ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَقَالَ ابْنُ السَّكَنِ: يُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ مَدَنِيٌّ، وَرِوَايَةُ مُطَرِّفٍ وَالطَّبَّاعِ عَنْ مَالِكٍ شَاذَّةٌ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ مَالِكٌ بَلْ تَابَعَهُ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَهُ، وَكَذَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ قَالَ: وَكَذَا تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ الْأَرْبَعَةُ عَنْ زَيْدٍ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغِ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدٍ بِهِ مُصَرَّحًا فِيهِ بِالسَّمَاعِ. وَرَوَى زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ حَدِيثًا آخَرَ فِي الْوِتْرِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، فَوُرُودُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ هَذَيْنِ عَنْ شَيْخِ مَالِكٍ بِمِثْلِ رِوَايَتِهِ، وَمُتَابَعَةُ الْأَرْبَعَةِ لَهُ وَتَصْرِيحُ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا بِالسَّمَاعِ يَدْفَعُ الْجَزْمَ بِوَهْمِ مَالِكٍ فِيهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَفِيهِ إِفَادَةُ أَنَّ زُهَيْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَنْفَرِدْ بِتَصْرِيحِهِ بِالسَّمَاعِ فَلَيْسَ بِخَطَأٍ كَمَا زَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ» ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قِيلَ مَعْنَاهُ مُقَارَنَةُ الشَّيْطَانِ لَهَا عِنْدَ دُنُوِّهَا لِلطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا) وَمَا بَعْدَهُ فَنُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِذَلِكَ، وَقِيلَ مَعْنَى قَرْنِهِ قُوَّتُهُ مِنْ قَوْلِكَ: أَنَا مُقْرِنٌ لِهَذَا الْأَمْرِ أَيْ مُطِيقٌ لَهُ قَوِيٌّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَقْوَى أَمْرُهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ; لِأَنَّهُ يُسَوِّلُ لِعَبَدَةِ الشَّمْسِ أَنْ يَسْجُدُوا لَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَقِيلَ قَرْنُهُ حِزْبُهُ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَقِيلَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يُقَابِلُهَا عِنْدَ طُلُوعِهَا وَيَنْتَصِبُ دُونَهَا حَتَّى يَكُونَ طُلُوعُهَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَهُمَا جَانِبَا رَأْسِهِ فَيَنْقَلِبُ سُجُودُ الْكُفَّارِ لِلشَّمْسِ عِبَادَةً لَهُ (ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا) بِالنُّونِ (فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا) بِالْقَافِ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ: وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَلَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ: حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ حَتَّى يَعْدِلَ الرُّمْحُ ظِلَّهُ، وَلِابْنِ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَتَّى تَسْتَوِيَ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِكَ كَالرُّمْحِ فَإِذَا زَالَتْ فَصَلِّ، وَلِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ بِالْجَوَازِ مَعَ رِوَايَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَإِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، أَوْ رَدَّهُ بِالْعَمَلِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: مَا أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْفَضْلِ إِلَّا وَهُمْ يَجْتَهِدُونَ وَيُصَلُّونَ نِصْفَ النَّهَارِ، انْتَهَى. وَالثَّانِي أَوْلَى أَوْ مُتَعَيِّنٌ فَإِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ إِذْ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشَاهِيرُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ فَقَدِ اعْتَضَدَ بِأَحَادِيثِ عُقْبَةَ وَعَمْرٍو وَقَدْ صَحَّحَهُمَا مُسْلِمٌ كَمَا رَأَيْتَ
وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا) بِنُونٍ تَلِيهَا هَاءٌ (فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا) بِقَافٍ قَبْلَ الْهَاءِ (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ) الثَّلَاثِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ فِي الطَّرَفَيْنِ وَكَرَاهَةٍ فِي الْوَسَطِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي النَّافِلَةِ لَا الْفَرِيضَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا وَأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ مَنْسُوخَةٌ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدَ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ، وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ الْمَنْعُ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَصَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ مَنْعُ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِجَوَازِ الْفَرَائِضِ وَمَا لَهُ سَبَبٌ مِنَ النَّوَافِلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَحْرُمُ الْجَمِيعُ سِوَى عَصْرِ يَوْمِهِ، وَتَحْرُمُ الْمَنْذُورَةُ أَيْضًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَحْرُمُ النَّوَافِلُ دُونَ الْفَرَائِضِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
511 -
514 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ) وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا بَدَا) بِلَا هَمْزٍ أَيْ ظَهَرَ (حَاجِبُ الشَّمْسِ) أَيْ طَرَفُهَا الْأَعْلَى مِنْ قُرْصِهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنْهَا يَصِيرُ كَحَاجِبِ الْإِنْسَانِ (فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ) أَيْ تَصِيرَ بَارِزَةً ظَاهِرَةً وَمُرَادُهُ تَرْتَفِعُ بِهِ عَبَّرَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَلَهُ أَيْضًا وَلِمُسْلِمٍ كَمَا هُنَا: حَتَّى تَبْرُزَ، فَجَعَلَ ارْتِفَاعَهَا غَايَةَ النَّهْيِ وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ مَنْ رَوَى حَدِيثَ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ» " بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ أَشْرَقَ أَيْ أَضَاءَ أَيْ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَتُضِيءَ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَالِثِهِ مِنْ شَرَقَتْ أَيْ طَلَعَتْ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ طُلُوعٌ مَخْصُوصٌ أَيْ تَطْلُعُ مُرْتَفِعَةً (وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ) زَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ عَنْ هِشَامٍ:" «فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ» ". وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتَيْنِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ:" وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ " فَالنَّهْيُ لِتَرْكِ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الشَّرْعُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَا يُدْرِكُ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ مِنَ التَّعَبُّدِ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «بَعْدَ الظُّهْرِ فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ذَكَرْنَا تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ أَوْ ذَكَرَهَا فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ أَوْ عَلَى قَرْنِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
512 -
515 - (مَالِكٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ يَعْقُوبَ الْمَدَنِيِّ، صَدُوقٌ. (قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ الظُّهْرِ) أَيْ بَعْدَ مَا صَلَّيْنَاهَا، فَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسٍ فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الظُّهْرِ وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟ قُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ (فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ) زَادَ إِسْمَاعِيلُ: فَقُمْنَا فَصَلَّيْنَا (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ذَكَرْنَا تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ) لِلْعَصْرِ (أَوْ ذَكَرَهَا) شَكَّ الرَّاوِي (فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تِلْكَ) أَيِ الصَّلَاةُ الْمُؤَخَّرَةُ (صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ) لِخُرُوجِهَا عَنْ وَقْتِهَا، شَبَّهَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:{يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142](سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 142)(تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ) ذَكَرَهُ ثَلَاثًا لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ وَالزَّجْرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ إِخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا (يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ) غَيْرَ مُبَالٍ بِهَا، زَادَ إِسْمَاعِيلُ: يَرْقُبُ الشَّمْسَ (حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ) أَيْ جَانِبَيْ رَأْسِهِ، يُقَالُ إِنَّهُ يَنْتَصِبُ فِي مُحَاذَاتِهَا عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ أَوْ غَرَبَتْ كَانَتْ بَيْنَ جَانِبَيْ رَأْسِهِ لِتَقَعَ السَّجْدَةُ لَهُ إِذَا سَجَدَ عَبَدَةُ الشَّمْسِ لَهَا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُشَاهِدُهَا عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَوْ شَاهَدَ الشَّيْطَانَ لَرَآهُ مُنْتَصِبًا عِنْدَهَا، قَالَهُ الْحَافِظُ. (أَوْ عَلَى قَرْنِ) بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَفِي نُسْخَةٍ قَرْنَيْ (الشَّيْطَانِ) شَكَّ الرَّاوِي هَلْ قَالَ بَيْنَ أَوْ عَلَى؟ قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ هُنَا يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَإِلَى الْحَقِيقَةِ ذَهَبَ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا تُرِيدُ عِنْدَ الْغُرُوبِ السُّجُودَ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَأْتِي شَيْطَانٌ يَصُدُّهَا فَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَيُحْرِقُهُ اللَّهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمَجَازُ وَالِاتِّسَاعُ وَأَنَّ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ أَوْ قَرْنَهُ الْأُمَّةُ الَّتِي تَعْبُدُ الشَّمْسَ وَتُطِيعُهُ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ يَسْجُدُ لَهَا وَيُصَلِّي مَنْ يَعْبُدُهَا مِنَ الْكُفَّارِ حِينَئِذٍ نَهَى عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. (قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا) أَيْ أَسْرَعَ الْحَرَكَةَ فِيهَا كَنَقْرِ الطَّائِرِ (لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) تَصْرِيحٌ بِذَمِّ مَنْ صَلَّى مُسْرِعًا بِحَيْثُ لَا يُكْمِلُ الْخُشُوعَ وَالطُّمَأْنِينَةَ وَالْأَذْكَارَ، وَتَصْرِيحٌ بِذَمِّ تَأْخِيرِ الْعَصْرِ بِلَا عُذْرٍ، وَقَدْ تَابَعَ مَالِكًا فِي هَذَا
الْحَدِيثِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَتَحَرَّ أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
513 -
516 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَتَحَرَّ) هَكَذَا بِلَا يَاءٍ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَلَى أَنَّ لَا نَاهِيَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ وَالنَّيْسَابُورِيِّ: لَا يَتَحَرَّى بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، قَالَ الْحَافِظُ: كَذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: يَجُوزُ الْخَبَرُ عَنْ مُسْتَقَرِّ أَمْرِ الشَّرْعِ أَيْ لَا يَكُونُ إِلَّا هَذَا، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا وَإِثْبَاتُ الْأَلِفِ إِشْبَاعٌ (أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّيَ) فِي جَوَابِ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ التَّحَرِّي وَالصَّلَاةِ مَعًا، وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: يَجُوزُ الْجَزْمُ عَلَى الْعَطْفِ أَيْ لَا يَتَحَرَّ وَلَا يُصَلِّ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ لَا يَتَحَرَّ فَهُوَ يُصَلِّي، وَالنَّصْبُ عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ أَيْ لَا يَتَحَرَّى مُصَلِّيًا، وَفِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ وَمَعْنَاهُ لَا يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ (عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَنْعَ مِنَ النَّافِلَةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ أَوِ الْمَنْعَ مِنْ تَأْخِيرِ الْفَرْضِ إِلَيْهِ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ هُوَ تَفْسِيرٌ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ: " أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ» " فَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ بَعْدَهُمَا إِلَّا لِمَنْ قَصَدَ بِصَلَاتِهِ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَغُرُوبَهَا ; لِأَنَّ التَّحَرِّيَ الْقَصْدُ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَقَوَّاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ نَهْيٌ مُسْتَقِلٌّ، وَكَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتَيْنِ قَصَدَ لَهَا أَمْ لَمْ يَقْصِدْ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ:" وَهِمَ عُمَرُ إِنَّمَا نَهَى صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ وَغُرُوبُهَا ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا رَأَتْهُ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَمَلَتْ نَهْيَهُ عَلَى مَنْ قَصَدَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا صَلَّى حِينَئِذٍ قَضَاءً، وَأَمَّا النَّهْيُ فَثَابِتٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ عُمَرَ، انْتَهَى. وَمُوَاظَبَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ خَصَائِصِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ:" «كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا وَيُوَاصِلُ وَيَنْهَى عَنِ الْوِصَالِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ: " «وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا» " وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
514 -
517 - (مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَبَّانَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ الْأَنْصَارِيِّ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، عَالِمٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ)
لِلنَّافِلَةِ نَهْيَ تَنْزِيهٍ وَقِيلَ: تَحْرِيمٍ (بَعْدَ) صَلَاةِ (الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ) وَالنَّهْيُ فِي وَقْتِ الْغُرُوبِ لِلتَّحْرِيمِ (وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) مُرْتَفِعَةً، فَالْمُرَادُ طُلُوعٌ مَخْصُوصٌ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ حَتَّى تَبْرُزَ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَرْتَفِعَ، وَبِعُمُومِ هَذَا أَخَذَ الْجُمْهُورُ وَخَصَّهُ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ هُوَ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مَرْفُوعًا:" «لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» ". قَالَ بَعْضُهُمْ: وَبَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِي الْمَكَانِ خَاصٌّ بِالزَّمَانِ، وَالثَّانِي بِالْعَكْسِ، فَلَيْسَ عُمُومُ أَحَدِهِمَا عَلَى خُصُوصِ الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ، وَخَصَّهُ أَيْضًا بِمَا لَا سَبَبَ لَهُ، فَلَا يُكْرَهُ نَفْلٌ فَائِتٌ وَتَحِيَّةُ مَسْجِدٍ وَسَجْدَةُ شُكْرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ:" أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ: إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ " فَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ كُلُّ مَا لَهُ سَبَبٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ الْأَحَادِيثُ، وَتَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَطْلُعُ قَرْنَاهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيَغْرُبَانِ مَعَ غُرُوبِهَا وَكَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
515 -
518 (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ) هَكَذَا رَوَاهُ مَوْقُوفًا، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ رَأْيًا فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ، وَقَدْ رَفَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَحَرَّوْا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا وَأَصْلُهُ لَا تَتَحَرَّوْا أَيْ لَا تَقْصِدُوا (بِصَلَاتِكُمْ) بِالْمُوَحَّدَةِ (طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَطْلُعُ قَرْنَاهُ) جَانِبَا رَأْسِهِ (مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيَغْرُبَانِ) بِضَمِّ الرَّاءِ (مَعَ غُرُوبِهَا) بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَصِبُ مُحَاذِيًا لِمَطْلَعِهَا وَمَغْرِبِهَا حَتَّى إِذَا طَلَعَتْ أَوْ غَرَبَتْ كَانَتْ بَيْنَ جَانِبَيْ رَأْسِهِ لِتَقَعَ السَّجْدَةُ لَهُ إِذَا سَجَدَ عَبَدَةُ الشَّمْسِ لَهَا، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُشَاهِدُهَا، فَلَوْ شَاهَدَ الشَّيْطَانَ لَرَآهُ مُنْتَصِبًا عِنْدَهَا، وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ رَدَّ قَوْلَ أَهْلِ الْهَيْئَةِ إِنَّ الشَّمْسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَالشَّيَاطِينُ قَدْ مُنِعُوا مِنْ وُلُوجِ السَّمَاءِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْحَقُّ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْفَلَكِ الرَّابِعِ وَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ غَيْرُ الْأَفْلَاكِ خِلَافًا لِأَهْلِ الْهَيْئَةِ، هَكَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي.
(وَكَانَ) عُمَرُ (يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ، أَيْ لِأَجْلِ (تِلْكَ الصَّلَاةِ) بَعْدَ الْعَصْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ
عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ الْمُنْكَدِرَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
516 -
519 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ الْمُنْكَدِرَ) بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ الْقُرَشِيَّ التَّيْمِيَّ الْمَدَنِيَّ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ (فِي) أَيْ بِسَبَبِ (الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ) وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ عُمَرَ رَآهُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ رَكَعَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَضَرَبَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقَالَ عُمَرُ يَا زَيْدُ لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُلَّمًا إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى اللَّيْلِ لَمْ أَضْرِبْ فِيهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ وَفِيهِ: وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ حَتَّى يَمُرُّوا بِالسَّاعَةِ الَّتِي نَهَى صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلَّى فِيهَا، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ فَلَا يُنَافِي أَحَادِيثَ نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[كِتَاب الْجَنَائِزِ]
[بَاب غُسْلِ الْمَيِّتِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْجَنَائِزِ بَاب غُسْلِ الْمَيِّتِ
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
16 -
كِتَابُ الْجَنَائِزِ
بِفَتْحِ الْجِيمِ، جَمْعُ جَنَازَةٍ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ لُغَتَانِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَجَمَاعَةُ الْكَسْرِ أَفْصَحُ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ لِلنَّعْشِ وَبِالْفَتْحِ لِلْمَيِّتِ، وَقَالُوا: لَا يُقَالُ نَعْشٌ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ. وَأَوْرَدَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ هَذَا الْكِتَابَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِتَعَلُّقِهَا بِهِمَا، وَلِأَنَّ الَّذِي يُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ وَتَكْفِينٍ وَغَيْرِهِمَا أَهَمُّهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الدُّعَاءِ لَهُ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا سِيَّمَا عَذَابَ الْقَبْرِ الَّذِي سَيُدْفَنُ فِيهِ.
1 -
بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ
517 -
520 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرٍ) الصَّادِقِ لِصِدْقِهِ فِي مَقَالِهِ (ابْنِ مُحَمَّدٍ) الْبَاقِرِ ; لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْمَ أَيْ شَقَّهُ فَعَرَفَ أَصْلَهُ وَخَفِيَّهُ، ابْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرْسَلَهُ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ إِلَّا سَعِيدَ بْنَ عُفَيْرٍ فَقَالَ عَنْ عَائِشَةَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ» ) قَالَ: وَأُسْنِدَ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ عَنْ جَابِرٍ وَهُوَ عَنْ عَائِشَةَ أَصَحُّ قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ أَنْ يُجَرَّدَ الْمَيِّتُ وَلَا يُغَسَّلَ فِي قَمِيصِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجَرَّدُ وَيُغَسَّلُ فِيهِ وَقَدْ «قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُهُ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَوْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: غَسِّلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ» .
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي قَالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ تَعْنِي بِحِقْوِهِ إِزَارَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
518 -
521 - (مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ) بِفَوْقِيَّةٍ بِلَفْظِ وَاحِدَةِ التَّمَائِمِ، وَاسْمُهُ كَيْسَانُ (السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) الْأَنْصَارِيِّ مَوْلَاهُمْ (عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) اسْمُهَا نُسَيْبَةُ، بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ: فَتْحُ النُّونِ وَكَسْرُ السِّينِ، بِنْتُ كَعْبٍ، وَيُقَالُ بِنْتُ الْحَارِثِ (الْأَنْصَارِيَّةِ) صَحَابِيَّةٌ فَاضِلَةٌ مَشْهُورَةٌ مَدَنِيَّةٌ، ثُمَّ سَكَنَتِ الْبَصْرَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ غُسْلِ الْمَيِّتِ أَصَحُّ مِنْهُ وَلَا أَعَمُّ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ) وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَيُّوبَ: " دَخَلَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ " وَجَمْعٌ بِأَنَّهُ دَخَلَ حِينَ شَرَعَ النِّسْوَةُ فِي الْغُسْلِ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: " «مَاتَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا» " وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا زَيْنَبُ وَالِدَةُ أُمَامَةَ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَهِيَ أَكْبَرُ بَنَاتِهِ، مَاتَتْ فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانٍ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ:" «مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَنَا: اغْسِلْنَهَا» " الْحَدِيثَ. وَلِابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ: " «دَخَلَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ» " وَفِي مُبْهَمَاتِ ابْنِ بَشْكُوَالَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: " كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ " وَلِلدُّولَابِيِّ عَنْ أُمِّ عَمْرَةَ: " أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ كَانَتْ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " فَيُمْكِنُ تَرْجِيحُهُ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ، وَبِهِ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ، وَالْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ حَضَرَتْهُمَا جَمِيعًا، فَقَدْ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ كَانَتْ غَاسِلَةَ الْمَيِّتَاتِ، وَعَزْوُ النَّوَوِيِّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ أَيْ تَبَعًا لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَسْمِيَتُهَا أُمَّ كُلْثُومٍ لِبَعْضِ أَهْلِ السِّيَرِ قُصُورٌ شَدِيدٌ، وَقَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ إِنَّهَا مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ بِبَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْهَا غَلَطٌ، فَالْمَيِّتَةُ وَهُوَ بِبَدْرٍ رُقَيَّةُ.
(فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا) أَمْرٌ لِأُمِّ عَطِيَّةَ وَمَنْ مَعَهَا، وَوَقَفْتُ مِنْ تَسْمِيَتِهِنَّ عَلَى ثَلَاثٍ، فَعِنْدَ الدُّولَابِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِيمَنْ غَسَّلَهَا، قَالَتْ: وَمَعَنَا صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْ لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ بِقَافٍ وَنُونٍ الثَّقَفِيَّةِ قَالَتْ: كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَهَا. وَلِلْطَبَرَانِيِّ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ مَا يُومِي إِلَى أَنَّهَا حَضَرَتْ ذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ (بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ) يَرْجِعُ إِلَى الْغُسْلِ أَوْ إِلَى الْعَدَدِ، وَالثَّانِي أَرْجَحُ فَيَثْبُتُ الْمُدَّعَى.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَكِنَّ قَوْلَهُ (ثَلَاثًا) لَيْسَ لِلْوُجُوبِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى تَجْوِيزِ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ لَفْظَ (ثَلَاثًا) لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ تَحْتَ الْأَمْرِ، فَيُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ لِأَصْلِ الْغُسْلِ وَالنَّدْبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيتَارِ اهـ. وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْ
وَالْمَالِكِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَالْكُوفِيُّونَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَالْمُزَنِيُّ إِلَى وُجُوبِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَهَا غُسِلَ مَوْضِعُهُ فَقَطْ، وَلَا يُزَادُ عَلَى الثَّلَاثِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
(أَوْ خَمْسًا) وَفِي رِوَايَةِ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: " اغْسِلْنَهَا وَتْرًا وَلْيَكُنْ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا " وَأَوْ لِلتَّرْتِيبِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِيتَارَ مَطْلُوبٌ وَالثَّلَاثَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فَإِنْ حَصَلَ الْإِنْقَاءُ بِهَا لَمْ يُشْرَعْ مَا زَادَ وَإِلَّا زِيدَ وَتْرًا حَتَّى يَحْصُلَ الْإِنْقَاءُ، وَالْوَاجِبُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ تَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَوْ خَمْسًا، إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيتَارِ ; لِأَنَّهُ نَقَلَهُنَّ مِنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْخَمْسِ وَسَكَتَ عَنِ الْأَرْبَعِ (أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ ; لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤَنَّثِ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَعْدَ سَبْعًا التَّعْبِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأَمَّا سِوَاهَا فَإِمَّا سَبْعًا وَإِمَّا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، فَيُحْتَمَلُ تَفْسِيرُهُ بِالسَّبْعِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَكَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِمُجَاوَزَةِ السَّبْعِ، وَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ يَأْخُذُ الْغُسْلَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ ثَلَاثًا وَإِلَّا فَخَمْسًا وَإِلَّا فَأَكْثَرَ، قَالَ: فَرَأَيْنَا أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ سَبْعٌ (إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ) تَفْوِيضٌ إِلَى اجْتِهَادِهِنَّ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ لَا التَّشَهِّي. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّمَا فُوِّضَ إِلَيْهِنَّ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْإِيتَارُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ رَأَيْتُنَّ فِعْلَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْإِنْقَاءُ يَكْفِي، قَالَهُ كُلَّهُ الْحَافِظُ بِبَعْضِ اخْتِصَارٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَجَمِيعُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ قَالُوا: إِنَّ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، إِلَّا يَحْيَى، وَهُوَ مِمَّا عُدَّ مِنْ سَقْطِهِ، وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ الْفِقْهِ رَدُّ عَدَدِ الْغَسْلَاتِ إِلَى الْغَاسِلِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى بَعْدَ الثَّلَاثِ مِنْ بُلُوغِ الْوَتْرِ فِيهَا (بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ اغْسِلْنَهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ السِّدْرَ يُخْلَطُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ مَرَّاتِ الْغُسْلِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُجْعَلُ السِّدْرُ فِي مَاءٍ وَيُخَضْخَضُ إِلَى أَنْ تَخْرُجَ رَغْوَتُهُ وَيُدَلَّكُ بِهِ جَسَدُهُ ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ فَهَذِهِ غَسْلَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَطْرَحُ وَرَقَاتِ السِّدْرِ فِي الْمَاءِ لِئَلَّا يُمَازِجَ الْمَاءَ فَيَتَغَيَّرَ عَنْ وَصْفِ الْمُطْلَقِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَحْمَدُ فَقَالَ: يُغْسَلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي التَّطْهِيرِ إِذَا لَمْ يَسْلُبِ الْمَاءَ الْإِطْلَاقَ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ تَعَبُّدِيٌّ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي بَقِيَّةِ الِاغْتِسَالَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ، خِلَافًا لِابْنِ شَعْبَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ فَيُجْزِئُ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لِلسَّرَفِ، وَقِيلَ: شُرِعَ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ جُنُبٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ لَازِمَهُ أَنْ لَا يَشْرَعَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ (وَاجْعَلْنَ فِي) الْغَسْلَةِ (الْآخِرَةِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ (كَافُورًا) طِيبٌ مَعْرُوفٌ، يَكُونُ مِنْ شَجَرٍ بِجِبَالِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ، يُظِلُّ خَلْقًا كَثِيرًا وَتَأْلَفُهُ النُّمُورُ، وَخَشَبُهُ أَبْيَضُ هَشٌّ، وَيُوجَدُ فِي
أَجْوَافِهِ الْكَافُورُ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ وَلَوْنُهُ أَحْمَرُ وَإِنَّمَا يَبْيَضُّ بِالتَّصْعِيدِ (أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، قَالَ أَيَّ اللَّفْظَيْنِ وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّانِي ; لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَيَصْدُقُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ. وَجَزَمَ فِي رِوَايَةِ الثَّقَفِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَيُّوبَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِالشِّقِّ الْأَوَّلِ، وَظَاهِرُهُ جَعْلُ الْكَافُورِ فِي الْمَاءِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: إِنَّمَا يُجْعَلُ فِي الْحَنُوطِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْغُسْلِ وَالتَّجْفِيفِ، وَحِكْمَةُ الْكَافُورِ زِيَادَةً عَلَى تَطْيِيبِ رَائِحَةِ الْمَوْضِعِ لِلْحَاضِرِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ فِيهِ تَجْفِيفًا وَتَبْرِيدًا وَقُوَّةَ نُفُوذٍ وَخَاصِّيَّةً فِي تَصْلِيبِ بَدَنِ الْمَيِّتِ وَطَرْدِ الْهَوَامِّ عَنْهُ وَرَدِّ مَا يَتَحَلَّلُ مِنَ الْفَضَلَاتِ وَمَنْعِ إِسْرَاعِ الْفَسَادِ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَقْوَى الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا سِرُّ جَعْلِهِ فِي الْأَخِيرَةِ ; إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْأُولَى مَثَلًا لَأَذْهَبَهُ الْمَاءُ، وَهَلْ يَقُومُ الْمِسْكُ مَثَلًا مَقَامَهُ إِنْ نُظِرَ إِلَى مُجَرَّدِ التَّطْيِيبِ؟ نَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا عُدِمَ الْكَافُورُ قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ إِذَا مَاثَلَهُ وَلَوْ بِخَاصِّيَّةٍ وَاحِدَةٍ قَالَهُ الْحَافِظُ.
(فَإِذَا فَرَغْتُنَّ) مِنْ غَسْلِهَا (فآذِنَّنِي) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى مُشَدَّدَةً وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ، أَيْ أَعْلِمْنَنِي (قَالَتْ) أُمُّ عَطِيَّةَ (فَلَمَّا فَرَغْنَا) بِصِيغَةِ الْمَاضِي، جَمَاعَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ " فَرَغْنَ " بِصِيغَةِ الْغَائِبِ لِجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ (آذَنَّاهُ) أَعْلَمْنَاهُ (فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ بَعْدَهَا قَافٌ سَاكِنَةٌ (فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ (إِيَّاهُ) أَيِ اجْعَلْنَهُ شِعَارَهَا، أَيِ الثَّوْبَ الَّذِي يَلِي جَسَدَهَا تَبَرُّكًا، وَحِكْمَةُ تَأْخِيرِهِ مَعَهُ حَتَّى فَرَغْنَ مِنَ الْغُسْلِ دُونَ إِعْطَائِهِ لَهُنَّ لِيَكُونَ قَرِيبَ الْعَهْدِ مِنْ جَسَدِهِ الْكَرِيمِ بِلَا فَاصِلٍ مِنَ انْتِقَالِهِ مِنْ جَسَدِهِ إِلَى جَسَدِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ فِي التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ (تَعْنِي) أُمُّ عَطِيَّةَ (بِحَقْوِهِ إِزَارَهُ) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَعْقِدُ الْإِزَارِ مَجَازًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ:" فَنَزَعَ مِنْ حَقْوِهِ إِزَارَهُ " وَالْحَقْوُ فِي هَذَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُسْلِمٌ، وَالثَّلَاثَةُ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، الثَّلَاثَةُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ بِزِيَادَاتٍ، وَمَدَارُهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأُخْتِهِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ تُوُفِّيَ ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَتْ إِنِّي صَائِمَةٌ وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ فَقَالُوا لَا وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ إِذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَلَيْسَ مَعَهَا نِسَاءٌ يُغَسِّلْنَهَا وَلَا مِنْ ذَوِي الْمَحْرَمِ أَحَدٌ يَلِي ذَلِكَ مِنْهَا وَلَا زَوْجٌ يَلِي ذَلِكَ مِنْهَا يُمِّمَتْ فَمُسِحَ بِوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا مِنْ الصَّعِيدِ قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا هَلَكَ الرَّجُلُ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا نِسَاءٌ يَمَّمْنَهُ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ وَلَيْسَ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَوْصُوفٌ وَلَيْسَ لِذَلِكَ صِفَةٌ مَعْلُومَةٌ وَلَكِنْ يُغَسَّلُ فَيُطَهَّرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
519 -
522 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، قَاضِيهَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَلَه سَبْعُونَ سَنَةً (أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، مُصَغَّرٌ، الْخَثْعَمِيَّةَ، صَحَابِيَّةٌ تَزَوَّجَهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ
عَلِيٌّ وَوَلَدَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ بَعْدَ عَلِيٍّ، وَهِيَ أُخْتُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لِأُمِّهَا (غَسَّلَتْ) زَوْجَهَا (أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ تُوُفِّيَ) لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي الْفَتْحِ، وَغَلِطَ فِي الْإِصَابَةِ مَنْ قَالَ: مَاتَ فِي جُمَادَى الْأُولَى أَوْ لِلَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ تَغْسِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَأَمَّا تَغْسِيلُهُ لَهَا فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ ; لِأَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: تُغَسِّلُهُ لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْهُ، وَلَا يُغَسِّلُهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِدَّةٍ مِنْهَا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ لَا فِي حُكْمِ الْبَيْنُونَةِ بِدَلِيلِ الْإِرْثِ، وَاعْتَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَكَذَا لَا يُغَسِّلُهَا، وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِغُسْلِهَا لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ ; لِأَنَّ زَوْجَ ابْنَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ حَاضِرًا وَأَمَرَ الْمُصْطَفَى النِّسْوَةَ بِغَسْلِهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَى أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ بِهِ وَلَا آثَرَ النِّسْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى تَسْلِيمِهِ، فَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ النِّسْوَةَ أَوْلَى مِنْهُ لَا عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ لَوْ أَرَادَهُ.
(ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَتْ: إِنِّي صَائِمَةٌ وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ؟ فَقَالُوا: لَا) غُسْلَ عَلَيْكِ وَاجِبٌ وَلَا مُسْتَحَبٌّ لِعُذْرِهَا بِالصَّوْمِ وَالْبَرْدِ، وَاخْتَلَفَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي وُجُوبِ غُسْلِ مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ: عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَلَمْ أُدْرِكِ النَّاسَ إِلَّا عَلَيْهِ. ابْنُ الْقَاسِمِ: وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَمْ أَرَهُ يَأْخُذُ بِحَدِيثِ أَسْمَاءَ، وَرَوَى عَنْهُ الْمَدَنِيُّونَ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا أَسْقَطُوهُ عَنْ أَسْمَاءَ لِعُذْرِهَا بِالصَّوْمِ وَالْبَرْدِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ إِلَّا وَاحِدًا لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، لَكِنْ صَرَفَهُ عَنْهُ حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ ; لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَعْلِيمٍ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شُرِّعَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِهِ، فَقَالَ الْحَافِظُ: كَأَنَّهُ مَا دَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ ثَابِتٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَالْحِكْمَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَيِّتِ ; لِأَنَّ الْغَاسِلَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَغْتَسِلُ لَمْ يَتَحَفَّظْ مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُهُ مِنْ أَثَرِ الْغُسْلِ فَيُبَالِغُ فِي تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ وَهُوَ مُطْمَئِنٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْغَاسِلِ لِيَكُونَ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَةِ جَسَدِهِ مِمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهُ مِنْ رَشَاشٍ وَنَحْوِهِ، انْتَهَى.
(مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِذَا مَاتَتِ الْمَرْأَةُ وَلَيْسَ مَعَهَا نِسَاءٌ يُغَسِّلْنَهَا وَلَا مِنْ ذَوِي الْمَحْرَمِ) كَأَخٍ وَعَمٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ الْمَحَارِمِ بِالْجَمْعِ (أَحَدٌ يَلِي ذَلِكَ مِنْهَا) فَيَجُوزُ لِلْمَحْرَمِ مِنْ فَوْقِ الثَّوْبِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ (وَلَا زَوْجٌ يَلِي ذَلِكَ مِنْهَا يُمِّمَتْ) لِكُوعَيْهَا فَقَطْ كَمَا قَالَ (فَمُسِحَ بِوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا مِنَ الصَّعِيدِ) الطَّاهِرِ (قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا هَلَكَ الرَّجُلُ) أَيْ مَاتَ (وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا نِسَاءٌ) أَجَانِبُ (يَمَّمْنَهُ أَيْضًا) لِمِرْفَقَيْهِ فَإِنْ كُنَّ مَحَارِمَ غَسَّلْنَهُ مِنْ فَوْقِ الثَّوْبِ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا. ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ: تُغَسِّلُ الْمَرْأَةُ ذَا مَحْرَمِهَا وَالرَّجُلُ ذَا مَحْرَمِهِ فِي دِرْعِهَا وَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُغَسَّلُ ذُو الْمَحَارِمِ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُيَمَّمُونَ (قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَوْصُوفٌ) لَا يَجُوزُ تَعَدِّيهِ (وَلَيْسَ لِذَلِكَ صِفَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَلَكِنْ يُغَسَّلُ فَيُطَهَّرُ) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِغَسْلِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ ثُمَّ بِجَسَدِهِ وَيَبْدَأَ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَضَّأَ لِحَدِيثِ:" «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» ".
[بَاب مَا جَاءَ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ
521 -
523 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ) فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَلِفَافَةٌ، وَزَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ هِشَامٍ: يَمَانِيَةٌ بِخِفَّةِ الْيَاءِ نِسْبَةً إِلَى الْيَمَنِ (بِيضٍ) فَيُسْتَحَبُّ بَيَاضُ الْكَفَنِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَخْتَارَ لِنَبِيِّهِ إِلَّا الْأَفْضَلَ، وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:" «الْبَسُوا ثِيَابَ الْبَيَاضِ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» " صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَلَهُ شَاهِدٌ
مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ نَحْوُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ فِي إِحْدَاهَا ثَوْبٌ حِبَرَةٌ لِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَبُرْدِ حِبَرَةٍ» " وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ نَزَعُوهَا عَنْهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَتَكْفِينُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي كَفَنِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَثْبَتُ حَدِيثٍ فِي كَفَنِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: " «لُفَّ فِي بُرْدِ حِبَرَةٍ جُفِّفَ فِيهِ، وَنُزِعَ عَنْهُ» " وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: " «كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحِبَرَةُ» " وَهِيَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مَا كَانَ مِنَ الْبُرُودِ مُخَطَّطًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ أَحَبَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَقْتَضِي أَحَبِّيَّتَهُ فِي الْكَفَنِ (سُحُولِيَّةٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَلَامٍ، وَيُرْوَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، نِسْبَةً إِلَى سَحُولٍ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ بِالْفَتْحِ الْمَدِينَةُ وَبِالضَّمِّ الثِّيَابُ، وَقِيلَ النِّسْبَةُ إِلَى الْقَرْيَةِ بِالضَّمِّ، وَأَمَّا الْفَتْحُ فَنِسْبَةً إِلَى الْقَصَّارِ ; لِأَنَّهُ يَسْحَلُ الثِّيَابَ أَيْ يُنَقِّيهَا قَالَهُ الْحَافِظُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ، انْتَهَى.
زَاد الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ هِشَامٍ مِنْ كُرْسُفٍ بِضَمِّ الْكَافِ وَالسِّينِ أَيْ قُطْنٍ، وَبِهِ رُدَّ تَفْسِيرُ ابْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ السُّحُولَ بِالْقُطْنِ (لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ) مَعْدُودَانِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّلَاثَةِ بَلْ زَائِدَانِ عَلَيْهَا فَلَا يُخَالِفُ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ بِاسْتِحْبَابِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ الثَّلَاثَةِ شَيْءٌ غَيْرُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ بِعَدَمِ اسْتِحْبَابِهِمَا، وَإِنَّمَا هُوَ جَائِزٌ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَالنَّفْيُ فِي الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2](سُورَةُ الرَّعْدِ: الْآيَةُ 2) أَيْ بِغَيْرِ عَمَدٍ أَصْلًا أَوْ بِعَمَدٍ غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: مَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ جَدِيدٌ أَوْ غُسِّلَ فِيهِ أَوْ كُفِّنَ فِيهِ أَوْ مَلْفُوفُ الْأَطْرَافِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ عَنْ قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ السُّفْيَانَانِ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَغَيْرُهُمْ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ بِنَحْوِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعَائِشَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ فِي كَمْ كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ خُذُوا هَذَا الثَّوْبَ لِثَوْبٍ عَلَيْهِ قَدْ أَصَابَهُ مِشْقٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ فَاغْسِلُوهُ ثُمَّ كَفِّنُونِي فِيهِ مَعَ ثَوْبَيْنِ آخَرَيْنِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْحَيُّ أَحْوَجُ إِلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا هَذَا لِلْمُهْلَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
522 -
524 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعَائِشَةَ) وَهَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ (وَهُوَ مَرِيضٌ) مَرَضَ الْمَوْتِ بِمَرَضِ السُّلِّ أَوْ بِسُمِّ يَهُودِيَّةٍ فِي خَزِيرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَهْدَتْهَا لَهُ، فَتَعَلَّلَ سَنَةً، أَوْ بِاغْتِسَالِهِ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ فَحُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمَاتَ، رِوَايَاتٌ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا فَقَدْ يَكُونُ أَكَلَ السُّمَّ وَتَعَلَّلَ لَكِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ وَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَرَضُ السُّلِّ، ثُمَّ فِي شَهْرِ
مَوْتِهِ اغْتَسَلَ فَحُمَّ حَتَّى مَاتَ، فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الزُّلْفَى وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ (فِي كَمْ) مَعْمُولٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ (كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهَا وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا تَوَلَّى غُسْلَهُ وَتَكْفِينَهُ صلى الله عليه وسلم أَهْلُهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَابْنُهُ الْفَضْلُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي بَيْتِهَا فَشَاهَدَتْهُ، قِيلَ: ذَكَرَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَوْطِئَةً لَهَا لِلصَّبْرِ عَلَى فَقْدِهِ وَاسْتِنْطَاقًا لَهَا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْظُمُ عَلَيْهَا ذِكْرُهُ لِمَا فِي بُدَاءَتِهِ لَهَا بِذَلِكَ مِنْ إِدْخَالِ الْغَمِّ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ نَسِيَ مَا سَأَلَهَا عَنْهُ لِقُرْبِ الْعَهْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْكَفَنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ بِأَمْرِ الْبَيْعَةِ (فَقَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خُذُوا هَذَا الثَّوْبَ لِثَوْبٍ عَلَيْهِ) زَادَ الْبُخَارِيُّ: كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ (قَدْ أَصَابَ بِهِ مِشْقٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمَغَرَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ وَبِسُكُونِ الْغَيْنِ لُغَتَانِ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ (أَوْ زَعْفَرَانٌ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِهِ رَدْغٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ (فَاغْسِلُوهُ) لِتَزُولَ الْحُمْرَةُ الَّتِي فِيهِ أَوْ عَلِمَ فِيهِ شَيْئًا، وَإِلَّا فَالثَّوْبُ اللَّبِيسُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ قَالَهُ سَحْنُونٌ (ثُمَّ كَفِّنُونِي فِيهِ مَعَ ثَوْبَيْنِ آخَرَيْنِ) مُوَافَقَةً لِمَا فُعِلَ بِالْمُصْطَفَى (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَا هَذَا؟) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلِقٌ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحَيُّ أَحْوَجُ إِلَى الْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا هَذَا لِلْمُهْلَةِ) رَوَاهُ يَحْيَى بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَرُوِيَ بِضَمِّهَا، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا، قَالَهُ عِيَاضٌ، ثُمَّ هَاءٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ لَامٍ، وَهِيَ الصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ الَّذِي يَذُوبُ فَيَسِيلُ مِنَ الْجَسَدِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنُّحَاسِ الذَّائِبِ مُهْلٌ كَمَا فِي النِّهَايَةِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَنْ ضَمَّ الْمِيمَ شَبَّهَ الصَّدِيدَ بِعَكَرِ الزَّيْتِ وَهُوَ الْمُهْلُ وَالْمُهْلَةُ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْمِهْلِ وَالتُّرَابِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوْصَى بِتَكْفِينِهِ فِي هَذَا الثَّوْبِ ; لِأَنَّهُ لَبِسَهُ فِي الْحُرُوبِ وَأَحْرَمَ فِيهِ، وَفِيهِ اعْتِبَارُ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ وَغَيْرِهِ إِذَا وَافَقَ صَوَابًا. رَوَى عَلِيٌّ عَنْ مَالِكٍ:" إِذَا أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ بِسَرَفٍ كُفِّنَ مِنْهُ بِالْقَصْدِ فَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَشَاحَّ الْوَرَثَةُ لَمْ يُنْقَصْ عَنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَلْبَسُ فِي حَيَاتِهِ " وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اخْتَارَ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنًى فِيهِ مِنَ التَّبَرُّكِ بِهِ لِكَوْنِهِ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ جَاهَدَ فِيهِ أَوْ تَعَبَّدَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ اللَّذَيْنِ كُنْتُ أُصَلِّي فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَرَى عَدَمَ الْمُغَالَاةِ فِي الْكَفَنِ لِقَوْلِهِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:" قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَغَالَوْا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُهُ سَرِيعًا» "، وَلَا يُدَافِعُ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:" «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ
لِحَمْلِ التَّحْسِينِ عَلَى الصِّفَةِ وَالْمُغَالَاةِ عَلَى الثَّمَنِ. وَقِيلَ: التَّحْسِينُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ فَإِذَا أَوْصَى بِتَرْكِهِ اتُّبِعَ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: الْجَدِيدُ وَالْخَلِقُ سَوَاءٌ تُعُقِّبَ بِمَا مَرَّ مِنَ احْتِمَالِ أَنَّهُ اخْتَارَهُ لِمَعْنًى فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ. زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ:" وَقَالَ لَهَا فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالَتْ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ مِنْ لَيْلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ " قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: حِكْمَةُ تَأَخُّرِ وَفَاتِهِ عَنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مَعَ حُبِّهِ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَامَ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ الْمُصْطَفَى فَنَاسَبَ تَأَخُّرَ مَوْتِهِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ الْمَيِّتُ يُقَمَّصُ وَيُؤَزَّرُ وَيُلَفُّ فِي الثَّوْبِ الثَّالِثِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ كُفِّنَ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
523 -
525 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَغَلِطَ يَحْيَى فَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بِالْيَاءِ وَبِدُونِهَا، الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: الْمَيِّتُ يُقَمَّصُ) يُلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَزَادَا: وَيُعَمَّمُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقَمَّصُ وَلَا يُعَمَّمُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ قَالَ الْبَاجِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرَ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَسَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ قَمِيصَهُ (وَيُؤَزَّرُ) يُجْعَلُ لَهُ إِزَارٌ، وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ الْوَسَطُ (وَيُلَفُّ فِي الثَّوْبِ الثَّالِثِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ كُفِّنَ فِيهِ) وَلَا يُنْتَظَرُ بِدَفْنِهِ ارْتِقَابُ شَيْءٍ آخَرَ إِذْ هُوَ الْوَاجِبُ بِاتِّفَاقٍ.
[بَاب الْمَشْيِ أَمَامَ الْجَنَازَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ وَالْخُلَفَاءُ هَلُمَّ جَرًّا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3 -
بَابُ الْمَشْيِ أَمَامَ الْجَنَازَةِ
524 -
526 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ) بِالْفَتْحِ قُدَّامَ (الْجَنَازَةِ) مُرْسَلٌ عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ، وَوَصَلَهُ عَنْ مَالِكٍ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ يَحْيَى بْنُ
صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ وَحَاتِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِهِ، وَكَذَا وَصَلَهُ جَمَاعَةٌ ثِقَاتٌ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ كَابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمُوسَى بْنِ عُتْبَةَ وَزِيَادِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَلَى اخْتِلَافٍ عَلَى بَعْضِهِمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، ثُمَّ أَسْنَدَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا، وَرِوَايَةُ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ إِخْرَاجِهَا: كَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مَوْصُولًا. وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ وَيُونُسُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: الْحُفَّاظُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ثَلَاثَةٌ: مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، فَإِذَا اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهُمَا الْآخَرُ تَرَكْنَا قَوْلَهُ.
(وَالْخُلَفَاءُ) بَعْدَهُمْ، وَدَخَلَ فِيهِمْ عَلِيٌّ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ مَشَى خَلْفَ جَنَازَةٍ وَالْعُمْرَيْنِ أَمَامَهُمَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: فَضْلُ الْمَاشِي خَلْفَهَا عَلَى الْمَاشِي أَمَامَهَا كَفَضْلِ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ، وَأَنَّهُمَا لَيَعْلَمَانِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمَا سَهَّلَا عَلَى النَّاسِ، وَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا شَهِدْتَ جَنَازَةً فَقَدِّمْهَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَإِنَّهَا مَوْعِظَةٌ وَتَذْكِرَةٌ وَعِبْرَةٌ. وَخَبَرُ أَبِي جُحَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " «الْجَنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ وَلَيْسَ يَتْبَعُهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» "، وَخَبَرُ:" «امْشُوا خَلْفَ الْجَنَازَةِ» " فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ أَحَادِيثُ وَفِيَّةٌ لَا يَقُومُ بِأَسَانِيدِهَا حُجَّةٌ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي ذَلِكَ، وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَكْثَرُ عَنْهُمْ وَهُوَ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: كُلُّ ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ شَيَّعَ جَنَازَةً وَصَلَّى عَلَيْهَا كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الْأَجْرِ، وَمَنْ قَعَدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ» " وَالْقِيرَاطُ كَأُحُدٍ وَلَمْ يَخُصَّ الْمَاشِيَ خَلْفَهَا أَوْ أَمَامَهَا. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ هَلِ الْمَشْيُ أَمَامَهَا مَشْرُوعٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ. وَعَلَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ النَّاسَ شُفَعَاءُ لَهُ وَالشَّفِيعُ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الْمَشْفُوعِ لَهُ، أَوْ مَمْنُوعٌ، وَالسُّنَّةُ الْمَشْيُ خَلْفَهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
(هَلُمَّ جَرًّا) قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ سِيرُوا عَلَى هِينَتِكُمْ أَيْ تَثَبَّتُوا فِي سَيْرِكُمْ وَلَا تُجْهِدُوا أَنْفُسَكُمْ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَرِّ وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ تَرْعَى فِي السَّيْرِ، قَالَ: وَنَصْبُ جَرًّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ هَلُمَّ جَارِينَ أَيْ مُتَثَبِّتِينَ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ ; لِأَنَّ فِي هَلُمَّ مَعْنَى جَرَّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: جُرُّوا جَرًّا، أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ، زَادَ أَبُو حَيَّانَ، وَأَوَّلُ مَنْ قَالَهُ عَابِدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ:
فَإِنْ جَاوَزْتُ مُقْفِرَةً رَمَتْ بِي
…
إِلَى أُخْرَى كَتِلْكَ هَلُمَّ جَرَّا
وَفِي هَذَا الْبَيْتِ وَنَطَقَ ابْنُ شِهَابٍ بِهِ، وَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ الْفُصَحَاءِ مَا يَدْفَعُ تَوَقُّفَ ابْنِ هِشَامٍ فِي كَوْنِهِ عَرَبِيًّا مَحْضًا، وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ هُنَا كَلَامَهُ بِرُمَّتِهِ (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) كَانَ أَيْضًا يَمْشِي أَمَامَهَا، وَكَانَ مِنْ أَتْبَعِ النَّاسِ لِلسُّنَّةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقْدُمُ النَّاسَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ فِي جَنَازَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
525 -
527 - (مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ بِالتَّصْغِيرِ التَّيْمِيِّ الْمَدَنِيِّ، تَابِعِيٌّ، ثِقَةٌ، فَاضِلٌ، مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ أَوْ بَعْدَهَا (عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ) وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، وَيُقَالُ: بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَالْهُدَيْرِ رَبِيعَةُ، لَهُ رُؤْيَةٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ (أَنَّهُ) أَيْ رَبِيعَةَ (أَخْبَرَهُ) أَيْ مُحَمَّدًا (أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقْدُمُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِ، أَيْ يَتَقَدَّمُ، وَلِابْنِ وَضَّاحٍ يُقَدِّمُ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ مِنَ التَّقْدِيمِ (النَّاسَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ فِي جَنَازَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) الْأَسَدِيَّةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي زَوَّجَهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37](سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 37) فَجَاءَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِلَا إِذْنٍ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَجَدُّهُمَا وَاحِدٌ، وَمَاتَتْ سَنَةَ عِشْرِينَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيِّ، وَقِيلَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَهَا خَمْسُونَ أَوْ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ عَلَى زَيْنَبَ أَرْبَعًا، وَكَانَتْ أَوَّلَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَوْتًا.
وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ مَا رَأَيْتُ أَبِي قَطُّ فِي جَنَازَةٍ إِلَّا أَمَامَهَا قَالَ ثُمَّ يَأْتِي الْبَقِيعَ فَيَجْلِسُ حَتَّى يَمُرُّوا عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
526 -
528 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَبِي) عُرْوَةَ (قَطُّ فِي جَنَازَةٍ إِلَّا أَمَامَهَا) قُدَّامَهَا (قَالَ) هِشَامٌ (ثُمَّ يَأْتِي الْبَقِيعَ) مَقْبَرَةَ الْمَدِينَةِ (فَيَجْلِسُ حَتَّى يَمُرُّوا عَلَيْهِ) بِالْجَنَازَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ الْمَشْيُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ مِنْ خَطَإِ السُّنَّةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
527 -
529 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَشْيُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ مِنْ خَطَأِ السُّنَّةِ) أَيْ مِنْ مُخَالَفَتِهَا، قِيلَ لِمَالِكٍ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ: أَذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِلرِّجَالِ، وَكَرِهَ أَنْ يَتَقَدَّمَ النِّسَاءُ أَمَامَ النَّعْشِ وَأَمَامَ الرِّجَالِ، وَكَرِهَ جَمَاعَةٌ شُهُودَ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
[بَاب النَّهْيِ عَنْ أَنْ تُتْبَعَ الْجَنَازَةُ بِنَارٍ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ لِأَهْلِهَا أَجْمِرُوا ثِيَابِي إِذَا مِتُّ ثُمَّ حَنِّطُونِي وَلَا تَذُرُّوا عَلَى كَفَنِي حِنَاطًا وَلَا تَتْبَعُونِي بِنَارٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4 -
بَابُ النَّهْيِ أَنْ تُتْبَعَ الْجَنَازَةُ بِنَارٍ
لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفَاؤُلِ بِالنَّارِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَشَبَّهَ بِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَصْبُغُونَ أَوْ قَالَ لَا يَصْنَعُونَ فَخَالِفُوهُمْ» ".
528 -
530 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ) جَدَّتِهِ (أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ لِأَهْلِهَا: أَجْمِرُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، بَخِّرُوا (ثِيَابِي إِذَا مِتُّ، ثُمَّ حَنِّطُونِي) قَالَ الْبَاجِيُّ: الْحَنُوطُ مَا يُجْعَلُ فِي جَسَدِ الْمَيِّتِ وَكَفَنِهِ مِنْ طِيبِ مِسْكٍ وَعَنْبَرٍ وَكَافُورٍ وَكُلِّ مَا لَهُ رِيحٌ لَا لَوْنٌ، فَالْقَصْدُ صِيَانَةُ الْمَيِّتِ لِئَلَّا يَظْهَرَ مِنْهُ رِيحٌ مَكْرُوهَةٌ دُونَ التَّجَمُّلِ بِاللَّوْنِ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَجَازَ الْأَكْثَرُ الْمِسْكَ فِي الْحَنُوطِ وَكَرِهَهُ قَوْمٌ، وَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «أَطْيَبُ الطِّيبِ الْمِسْكُ» "(وَلَا تَذُرُّوا عَلَى كَفَنِي حِنَاطًا) بِكَسْرِ الْحَاءِ بِزِنَةِ كِتَابٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا حَنُوطٌ بِزِنَةِ رَسُولٍ، كُلُّ طِيبٍ يُخْلَطُ لِلْمَيِّتِ خَاصَّةً، وَكَرِهَتْهُ لِلْمُبَاهَاةِ، وَذَلِكَ وَقْتٌ لَا يَنْبَغِي فِيهِ. (وَلَا تَتْبَعُونِي بِنَارٍ) وَكَذَا أَوْصَى أَبُو سَعِيدٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا رَوَاهُ فَقَالَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتْبَعَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَارٍ قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَكْرَهُ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
529 -
531 - (مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كَيْسَانَ (الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتْبَعَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَارٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جَاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، انْتَهَى. بَلْ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَفْسِهِ. فَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنْهُ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُتْبَعُ الْجَنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ وَلَا يُمْشَى بَيْنَ يَدَيْهَا أَيْ بِنَارٍ وَلَا بِصَوْتٍ» " قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا لِلْجَهْلِ بِحَالِ ابْنِ عُمَيْرٍ رَاوِيهِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، انْتَهَى. لَكِنْ حَسَّنَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَلَعَلَّهُ لِشَوَاهِدِهِ. (قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَكْرَهُ ذَلِكَ) أَيِ اتِّبَاعَهَا بِنَارٍ فِي مِجْمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّفَاؤُلِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ يَحْرُمُ. وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَجْعَلُوا آخِرَ زَادِي إِلَى قَبْرِي نَارًا، وَهُوَ أَيْضًا مِنَ السَّرَفِ وَالْمُبَاهَاةِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ لِلْعُودِ الَّذِي يُحْرَقُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[بَاب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ لِلنَّاسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5 -
بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي عَدَدِهِ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يُكَبَّرُ خَمْسًا، وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَكَبَّرَ خَمْسًا. وَكَانَ عَلِيٌّ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ سِتًّا، وَعَلَى الصَّحَابَةِ خَمْسًا، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ ثَلَاثًا رَوَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَرْبَعًا، وَجَمْعٍ بِأَنَّهُ كَانَ يَرَى الثَّلَاثَ مُجْزِئَةً وَالْأَرْبَعَ أَكْمَلَ مِنْهَا، أَوْ مَنْ أُطْلِقَ عَنْهُ الثَّلَاثُ لَمْ يَذْكُرِ الْأُولَى ; لِأَنَّهَا افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ، فَقَدْ جَاءَ عَنْهُ التَّكْبِيرُ ثَلَاثًا فَقِيلَ لَهُ أَرْبَعٌ، قَالَ: أَجَلْ غَيْرَ أَنَّ وَاحِدَةً هِيَ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: كَانُوا يُكَبِّرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعًا وَخَمْسًا وَسِتًّا وَأَرْبَعًا فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعٍ كَأَطْوَلِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَشَذَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَقَالَ خَمْسًا.
530 -
532 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ) بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ بِكَسْرٍ وَخِفَّةِ الْجِيمِ، وَأَخْطَأَ مَنْ شَدَّدَهَا، وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ، وَحَكَى الْمُطَرِّزِيُّ التَّخْفِيفَ وَرَجَّحَهُ الصَّغَانِيُّ، وَهُوَ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ بْنُ أَبْحَرَ، مَلِكُ الْحَبَشَةِ، أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْهِ، وَكَانَ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ نَافِعًا، وَأَصْحَمَةُ بِوَزْنِ أَرْبَعَةٍ وَحَاؤُهُ مُهْمَلَةٌ وَقِيلَ مُعْجَمَةٌ، وَقِيلَ بِمُوَحَّدَةٍ بَدَلَ الْمِيمِ، وَقِيلَ: صُحْمَةُ بِلَا أَلِفٍ، وَقِيلَ كَذَلِكَ لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى الصَّادِ، وَقِيلَ بِمِيمٍ أَوَّلَهُ بَدَلَ الْأَلِفِ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ فِي اسْمِهِ سِتَّةُ أَلْفَاظٍ لَمْ أَرَهَا مَجْمُوعَةً، وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةُ قَالَهُ فِي الْإِصَابَةِ. (لِلنَّاسِ) أَيْ أَخْبَرَهُمْ بِمَوْتِهِ (فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ) فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَجَمَاعَةٌ، وَقِيلَ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَفِيهِ جَوَازُ الْإِعْلَامِ بِالْجَنَازَةِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ، وَالنَّعْيُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ صِيَاحٌ، خِلَافًا لِمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْإِعْلَامِ بِالْمَوْتِ لِلِاجْتِمَاعِ لِجَنَازَتِهِ، وَفِي حَدِيثِ:" «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَذَا» "، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ يَبْلُغُونَ مِائَةً فَيَشْفَعُونَ
لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» " دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ خَيْرٌ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْخَيْرِ خَيْرٌ إِجْمَاعًا، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: إِعْلَامُ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ، فَهَذَا سُنَّةٌ. الثَّانِيَةُ: دَعْوَةُ الْجَفَلَى لِلْمُفَاخَرَةِ، فَهَذَا يُكْرَهُ. الثَّالِثَةُ: الْإِعْلَامُ بِالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِهَا، فَهَذَا يَحْرُمُ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَقِيلٍ وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نُعِيَ لَنَا النَّجَاشِيُّ يَوْمَ مَاتَ فَقَالَ: " «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ» "(وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى) مَكَانٌ بِبَطْحَانَ، فَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: فَخَرَجَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْبَقِيعِ أَيْ بَقِيعِ بَطْحَانَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمُصَلَّى مَوْضِعٌ مُعَدٌّ لِلْجَنَائِزِ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ غَيْرُ مُصَلَّى الْعِيدَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ قَالَهُ الْحَافِظُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «قَدْ تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ» ". وَلِلْبُخَارِيِّ: " «فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ» ". وَلِمُسْلِمٍ: " «مَاتَ عَبْدٌ لِلَّهِ صَالِحٌ أَصْحَمَةُ» ". وَفِي الْإِصَابَةِ جَاءَ مِنْ طَرِيقِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «أَصْبَحْنَا ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ أَخَاكَ أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيَّ قَدْ تُوُفِّيَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ، فَوَثَبَ صلى الله عليه وسلم وَوَثَبْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ الْمُصَلَّى» "(فَصَفَّ بِهِمْ) لَازِمٌ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَيْ صَفَّ مَعَهُمْ، أَوْ مُتَعَدٍّ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ أَيْ صَفَّهُمْ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِمَامَ مُتَقَدِّمٌ فَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ صَافٌّ مَعَهُمْ إِلَّا عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَمْ صَفَّهُمْ. وَفِي النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرٍ:" «كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي يَوْمَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّجَاشِيِّ» "، وَفِيهِ أَنَّ لِلصُّفُوفِ عَلَى الْجَنَازَةِ تَأْثِيرًا وَلَوْ كَثُرَ الْجَمْعُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَالْمُصَلَّى فَضَاءٌ لَا يَضِيقُ بِهِمْ لَوْ صُفُّوا فِيهِ صَفًّا وَاحِدًا وَمَعَ ذَلِكَ صَفَّهُمْ، وَهَذَا مَا فَهِمَهُ مَالِكُ بْنُ عُمَيْرَةَ الصَّحَابِيُّ، فَكَانَ صَفُّ مَنْ يَحْضُرُ صَلَاةَ الْجَنَازَةِ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، وَيَبْقَى النَّظَرُ إِذَا تَعَدَّدَتِ الصُّفُوفُ وَالْعَدَدُ قَلِيلٌ، أَوْ كَانَ الصَّفُّ وَاحِدًا وَالْعَدَدُ كَثِيرٌ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، قَالَهُ الْحَافِظُ.
(وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ) فَفِيهِ أَنَّ تَكْبِيرَ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ أَرْبَعٌ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا صَلَاةٌ عَلَى غَائِبٍ لَا عَلَى الْجَنَازَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا» " وَقَالَ: لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ أَرْبَعًا إِلَّا فِي هَذَا، قَالَ: وَإِنَّمَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَرْبَعًا وَعَلَى قَبْرٍ أَرْبَعًا، وَأَمَّا عَلَى الْجَنَازَةِ هَكَذَا فَلَا إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُصَلَّى لِقَصْدِ تَكْثِيرِ الْجَمْعِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَإِشَاعَةً لِمَوْتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: صَلَّى عَلَى عِلْجٍ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَنَزَلَتْ:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199]
(سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 199) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ ".
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ وَحْشِيٍّ فِي الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ، وَآخَرُ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِيهِ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا، وَفِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَا تُشْرَعُ، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَدَلَائِلُ الْخُصُوصِيَّةِ وَاضِحَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ فِيهَا غَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أُحْضِرَ رُوحُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ رُفِعَتْ لَهُ جِنَازَتُهُ حَتَّى شَاهَدَهَا، كَمَا رُفِعَ لَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ حِينَ سَأَلَتْهُ قُرَيْشٌ عَنْ صِفَتِهِ، وَعَبَّرَ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كُشِفَ لَهُ حَتَّى رَآهُ. فَتَكُونُ صَلَاتُهُ كَصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى مَيِّتٍ رَآهُ وَلَمْ يَرَهُ الْمَأْمُومُونَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا. وَقَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ:(يَحْتَاجُ هَذَا لِنَقْلٍ) تُعُقِّبَ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ كَافٍ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَانِعِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ بِلَا إِسْنَادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" «كُشِفَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَرِيرِ النَّجَاشِيِّ حَتَّى رَآهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ» ". وَلِابْنِ حِبَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: " «فَقَامُوا وَصَفُّوا خَلْفَهُ وَهُمْ لَا يَظُنُّونَ إِلَّا أَنَّ جَنَازَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» ". وَلِأَبِي عَوَانَةَ عَنْ عِمْرَانَ: " «فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ وَنَحْنُ لَا نَرَى إِلَّا أَنَّ الْجَنَازَةَ قُدَّامَنَا» ". وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّجَاشِيِّ لِإِشَاعَةِ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا، أَوِ اسْتِئْلَافِ قُلُوبِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي حَيَاتِهِ ; إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ غَائِبٍ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ صَلَاتِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيِّ فَجَاءَ مِنْ طُرُقٍ لَا تَخْلُو مِنْ مَقَالٍ، وَعَلَى تَسْلِيمِ صَلَاحِيَتِهِ لِلْحُجِّيَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَجْمُوعِ طُرُقِهِ دَفْعٌ بِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رُفِعَتْ لَهُ الْحُجُبُ حَتَّى شَاهَدَ جَنَازَتَهُ. وَقَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: قَوْلُهُمْ رُفِعَ الْحِجَابُ عَنِ النَّجَاشِيِّ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سَلِمَ فَكَانَ غَائِبًا عَنِ الصَّحَابَةِ رُدَّ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُصَلَّى كَالْمَيِّتِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَهُوَ يَرَاهُ دُونَ الْمَأْمُومِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ اتِّفَاقًا. وَأَمَّا ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِمَامُ الْمَالِكِيَّةِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ قَوْلُهُمْ إِنَّمَا ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ، قُلْنَا: وَمَا عَمِلَ بِهِ مُحَمَّدٌ تَعْمَلُ بِهِ أُمَّتُهُ، قَالُوا: طُوِيَتِ الْأَرْضُ وَأُحْضِرَتِ الْجَنَازَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْنَا: إِنَّ رَبَّنَا عَلَيْهِ لَقَادِرٌ وَنَبِيَّنَا لَأَهْلٌ لِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا تَقُولُوا إِلَّا مَا رَوَيْتُمْ، وَلَا تَخْتَرِعُوا حَدِيثًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تُحَدِّثُوا إِلَّا بِالثَّابِتَاتِ، وَدَعُوا الضِّعَافَ فَإِنَّهَا سَبِيلٌ إِلَى تَلَافِ مَا لَيْسَ لَهُ تَلَافٌ، وَقَدْ عَلِمْتُ جَوَابَهُ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ يَكْفِي فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَانِعِ خُصُوصًا، وَقَدْ جَاءَ مَا يُؤَيِّدُهُ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ فَمَا حَدَّثَنَا إِلَّا بِالثَّابِتَاتِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَلَوْ فُتِحَ بَابُ الْخُصُوصِ لَانْسَدَّ كَثِيرٌ مِنْ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الْخُصُوصِيَّةَ ; لِأَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى غَائِبٍ غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَلْزَمُ تَوَفُّرُ الدَّوَاعِي عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ بِأَرْضٍ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ بِهَا أَحَدٌ، فَتَعَيَّنَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مَاتَ غَائِبًا مِنْ
أَصْحَابِهِ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو دَاوُدَ وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ أَحَدٌ اهـ. وَهُوَ مُشْتَرِكُ الْإِلْزَامِ فَلَمْ يُرْوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي بَلَدِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَمَحَلُّهُ فِي اتِّسَاعِ الْحِفْظِ مَعْلُومٌ، وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعَيْنِ هُنَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ «أَنَّ مِسْكِينَةً مَرِضَتْ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرَضِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُ الْمَسَاكِينَ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي بِهَا فَخُرِجَ بِجَنَازَتِهَا لَيْلًا فَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِهَا فَقَالَ أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُؤْذِنُونِي بِهَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْنَا أَنْ نُخْرِجَكَ لَيْلًا وَنُوقِظَكَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَفَّ بِالنَّاسِ عَلَى قَبْرِهَا وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
531 -
533 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ اسْمُهُ أَسْعَدُ (ابْنِ سَهْلٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (ابْنِ حُنَيْفٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالْفَاءِ، سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ بِاسْمِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ وَكَنَّاهُ وَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَهُوَ صَحَابِيٌّ مِنْ حَيْثُ الرُّؤْيَةُ، تَابِعِيٌّ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ، وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ بَدْرِيٌّ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ) لَمْ تَخْتَلِفْ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ فِي إِرْسَالِهِ، وَوَصَلَهُ مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ مَالِكٍ فَزَادَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَمُوسَى مَتْرُوكٌ، وَوَصَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ضَعِيفٌ فِي الزُّهْرِيِّ بِاتِّفَاقٍ، فَالصَّوَابُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مُرْسَلٌ، نَعَمْ، الْحَدِيثُ صَحِيحٌ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَسَانِيدَ ثَابِتَةٍ (أَنَّ مِسْكِينَةً) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ، أَيْ تَجْمَعُ الْقُمَامَةَ، وَهِيَ الْكُنَاسَةُ. وَفِي لَفْظٍ: كَانَتْ تُنَقِّي الْمَسْجِدَ مِنَ الْأَذَى. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ: كَانَتْ تَلْتَقِطُ الْخِرَقَ وَالْعِيدَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّ أُمَّ مِحْجَنٍ كَانَتْ مُولَعَةً بِلَقْطِ الْقَذَى مِنَ الْمَسْجِدِ بِقَافٍ وَمُعْجَمَةٍ، مَقْصُورٌ فِي الْعَيْنِ وَالشَّرَابِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ فِي الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا، وَفِي الْإِصَابَةِ: مِحْجَنَةَ، وَقِيلَ أُمُّ مِحْجَنٍ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ ذُكِرَتْ فِي الصَّحِيحِ بِلَا تَسْمِيَةٍ.
(مَرِضَتْ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرَضِهَا) قَالَ الْبَاجِيُّ: فِيهِ اهْتِبَالُهُ بِأَخْبَارِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَا كَانَ يُخْبَرُ بِمَرْضَاهُمْ وَذَلِكَ مِنْ تَوَاضُعِهِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ التَّحَدُّثُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ عِنْدَ الْعَالِمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهٌ فَيَكُونُ غِيبَةً.
(وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُ الْمَسَاكِينَ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ) لِمَزِيدِ تَوَاضُعِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ فَفِيهِ عِيَادَةُ النِّسَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا إِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً وَإِلَّا فَلَا إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا وَلَا يَنْظُرَ إِلَيْهَا، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَاتَتْ
فآذِنُونِي) بِالْمَدِّ أَعْلِمُونِي (بِهَا) لِشُهُودِ جَنَازَتِهَا وَالِاسْتِغْفَارِ لَهَا ; لِأَنَّ لَهَا مِنَ الْحَقِّ فِي بَرَكَةِ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم مَا لِلْأَغْنِيَاءِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ فَمَاتَتْ (فَخُرِجَ بِجَنَازَتِهَا لَيْلًا) لِجَوَازِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرَهَا لِلنَّهَارِ لِيَكْثُرَ مَنْ يَحْضُرُهَا دُونَ مَشَقَّةٍ وَلَا تَكَلُّفٍ، فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: فَأَتَوْهُ لِيُؤْذِنُوهُ فَوَجَدُوهُ نَائِمًا وَقَدْ ذَهَبَ اللَّيْلُ (فَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِجْلَالًا لَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُوقَظُ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ، زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: وَتَخَوَّفُوا عَلَيْهِ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَهَوَامَّ الْأَرْضِ، قَالَ: فَدَفَنَّاهَا (فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِهَا) بَعْدَ سُؤَالِهِ، فَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَ عَنْهَا، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ، وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ الَّذِي أَجَابَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ سُؤَالِهِ عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (فَقَالَ: أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُؤْذِنُونِي بِهَا؟) قَالَ ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَمْرِهِ وَنَهْيًا عَنِ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْنَا أَنْ نُخْرِجَكَ لَيْلًا وَنُوقِظَكَ) وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالُوا: " «أَتَيْنَاكَ لِنُؤْذِنَكَ بِهَا فَوَجَدْنَاكَ نَائِمًا فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَهَوَامَّ الْأَرْضِ» " وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: فَحَقَّرُوا شَأْنَهَا، وَلِمُسْلِمٍ: وَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، زَادَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ:" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَفْعَلُوا ادْعُونِي لِجَنَائِزِكُمْ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: " «فَلَا تَفْعَلُوا لَا يَمُوتَنَّ فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا كُنْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ لَهُ رَحْمَةٌ» "، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
(فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَفَّ بِالنَّاسِ عَلَى قَبْرِهَا) فَصَلَّى (وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْد الطَّبَرَانِيِّ: وَقَالَ: " «إِنِّي رَأَيْتُهَا فِي الْجَنَّةِ تَلْقُطُ الْقَذَى مِنَ الْمَسْجِدِ» " وَهَذَا مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَالَ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّخَعِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَعَنْهُمْ: إِنْ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ شُرِعَ وَإِلَّا فَلَا، وَأَجَابُوا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَرَدَّهُ ابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّ تَرْكَ إِنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ صَلَّى مَعَهُ عَلَى الْقَبْرِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ بِالتَّبَعِيَّةِ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا لِلْأَصَالَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ مَا زَادَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «فَصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي
عَلَيْهِمْ» ". وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: "«فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ لَهُ رَحْمَةٌ» ". وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ السَّوْدَاءِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُرِيدُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ إِنَّمَا هِيَ آثَارٌ بَصْرِيَّةٌ وَكُوفِيَّةٌ، وَلَمْ نَجِدْ عَلَى مَدَنِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ، انْتَهَى. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى رَدِّ التَّفْصِيلِ بَيْنَ مَنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَرَدَتْ فِيمَنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ تَنْسَحِبُ عَلَى ذَلِكَ.
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ مَنْ يَرَى الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلَّا بِقُرْبِ دَفْنِهِ، وَأَكْثَرُ مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ شَهْرٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: اخْتُلِفَ فِي أَمَدِ ذَلِكَ فَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِشَهْرٍ، وَقِيلَ مَا لَمْ تَبْلَ الْجُثَّةُ، وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حِينَ مَوْتِهِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ يَجُوزُ أَبَدًا، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا عَدَا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: رُوِيَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سِتَّةِ وُجُوهٍ حِسَانٍ كُلِّهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: بَلْ مِنْ تِسْعَةٍ كُلُّهَا حِسَانٌ، وَسَاقَهَا كُلَّهَا بِأَسَانِيدِهِ فِي تَمْهِيدِهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْخَمْسَةُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْمِسْكِينَةِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فِي صَلَاةِ الْمُصْطَفَى عَلَى أُمِّ سَعْدٍ بَعْدَ دَفْنِهَا بِشَهْرٍ، وَحَدِيثُ الْحُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ فِي صِلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى قَبْرِ طَلْحَةَ بْنِ الْبَرَاءِ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ:" «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إِلَيْكَ وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ» ". وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ وَقَدْ تُوُفِّيَتْ أُمُّ أَبِي أُمَامَةَ فَصَلَّى عَلَيْهَا» ". وَحَدِيثُ أَنَسٍ: " «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ بَعْدَمَا دُفِنَتْ» ". وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِلْمِسْكِينَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ فِي الْمِسْكِينَةِ فَهِيَ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الرَّجُلِ يُدْرِكُ بَعْضَ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ وَيَفُوتُهُ بَعْضُهُ فَقَالَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
532 -
534 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الرَّجُلِ يُدْرِكُ بَعْضَ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ وَيَفُوتُهُ بَعْضُهُ، فَقَالَ: يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ) بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يَقْضِي، وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ: يَقْضِي نَسَقًا بِلَا دُعَاءٍ بَيْنَ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْعُو بَيْنَ تَكْبِيرِ الْقَضَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
[بَاب مَا يَقُولُ الْمُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ تُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَا لَعَمْرُ اللَّهِ أُخْبِرُكَ أَتَّبِعُهَا مِنْ أَهْلِهَا فَإِذَا وُضِعَتْ كَبَّرْتُ وَحَمِدْتُ اللَّهَ وَصَلَّيْتُ عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ أَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
6 -
بَابُ مَا يَقُولُ الْمُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ
533 -
535 - (مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا (الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) وَاسْمُهُ كَيْسَانُ (أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ تُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا لَعَمْرُ اللَّهِ) أَيْ حَيَاتُهُ (أُخْبِرُكَ) بِزِيَادَةِ: عَنْ سُؤَالِكَ، فَفِيهِ جَوَازُ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ تَعْلِيمَهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّ بِهِ حَاجَةً إِلَيْهِ (أَتَّبِعُهَا) بِشَدِّ التَّاءِ، أَيْ أَسِيرُ مَعَهَا (مِنْ أَهْلِهَا) ; لِأَنِّي رَوَيْتُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَلِأَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ يَتْبَعُهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
(فَإِذَا وُضِعَتْ كَبَّرْتُ وَحَمِدْتُ اللَّهَ وَصَلَّيْتُ عَلَى نَبِيِّهِ) فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاتِهَا ثُمَّ أَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ) فِيهِ مَزِيدُ الِاسْتِعْطَافِ فَإِنَّ شَأْنَ الْكِرَامِ السَّادَاتِ الصَّفْحُ عَنْ عَبِيدِهِمْ، وَلَا أَكْرَمَ مِنْهُ عز وجل (كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ) وَقَدْ وَعَدْتَ مَنْ يَشْهَدُ بِذَلِكَ بِالْجَنَّةِ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، فَمِنْ كَمَالِ عَفْوِكَ لَا تُعَذِّبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ (وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ) مِنَّا وَمِنْهُ (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ) أَيْ ضَاعِفْ لَهُ الْأَجْرَ فِيمَا أَحْسَنَ فِيهِ (وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ) فَلَا تُؤَاخِذْهُ بِهَا (اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ) أَيْ أَجْرَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَوْ شُهُودِ جَنَازَتِهِ أَوْ أَجْرَ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مُصَابٌ بِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ. (وَلَا تَفْتِنَّا) بِمَا يَشْغَلُنَا عَنْكَ (بَعْدَهُ) فَإِنَّ كُلَّ شَاغِلٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِتْنَةٌ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ نَفْسَهُ فِي الدُّعَاءِ بِمَا شَاءَ فَهَاتَانِ الدَّعْوَتَانِ لِلْمُصَلِّي لَا لِلْمَيِّتِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
534 -
536 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا التَّابِعِيَّ ابْنَ الصَّحَابِيِّ (يَقُولُ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ) لِمَوْتِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ:" «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ فَعَدَّ الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» ". وَقَالَ عُمَرُ: الصَّغِيرُ يُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ (فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَذَابُ الْقَبْرِ غَيْرُ فِتْنَتِهِ بِدَلَائِلَ مِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَلَوْ عَذَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ هُنَا عُقُوبَتَهُ وَلَا السُّؤَالَ بَلْ مُجَرَّدَ الْأَلَمِ بِالْغَمِّ وَالْهَمِّ وَالْحَسْرَةِ وَالْوَحْشَةِ وَالضَّغْطَةِ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأَطْفَالَ وَغَيْرَهُمْ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اعْتَقَدَهُ لِشَيْءٍ سَمِعَهُ مِنَ الْمُصْطَفَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ عَامٌّ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَأَنَّ الْفِتْنَةَ فِيهِ لَا تَسْقُطُ عَنِ الصَّغِيرِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْكَبِيرِ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ كَبِيرٌ أَوْ دَعَا لَهُ عَلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ كَمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَهَا وَتَسْتَغْفِرُهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
535 -
537 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ) وَبِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مَشْرُوعِيَّتُهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ، وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَفِي الْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: وَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بَعْدَ الصُّبْحِ إِلَى الْإِسْفَارِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى الْاصْفِرَارِ]
وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حُوَيْطِبٍ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ تُوُفِّيَتْ وَطَارِقٌ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فَأُتِيَ بِجَنَازَتِهَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَوُضِعَتْ بِالْبَقِيعِ قَالَ وَكَانَ طَارِقٌ يُغَلِّسُ بِالصُّبْحِ قَالَ ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ لِأَهْلِهَا إِمَّا أَنْ تُصَلُّوا عَلَى جَنَازَتِكُمْ الْآنَ وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوهَا حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
7 -
بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بَعْدَ الصُّبْحِ إِلَى الْإِسْفَارِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى الِاصْفِرَارِ
فَيَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ جَوَازَهَا كُلَّ وَقْتٍ وَعِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي التَّطَوُّعِ لَا الْوَاجِبِ.
536 -
538 - (مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ) الْقُرَشِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حُوَيْطِبِ) بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الْقُرَشِيِّ الْعَامِرِيِّ، وَحُوَيْطِبٌ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ (أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّةَ، رَبِيبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (تُوُفِّيَتْ) سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَحَضَرَ ابْنُ عُمَرَ جَنَازَتَهَا قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَيَمُوتَ بِمَكَّةَ (وَطَارِقُ) بْنُ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ الْأُمَوِيُّ، مَوْلَاهُمْ، وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، مَاتَ فِي حُدُودِ الثَمَانِينَ.
(أَمِيرُ الْمَدِينَةِ) لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ (فَأُتِيَ بِجَنَازَتِهَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَوُضِعَتْ بِالْبَقِيعِ قَالَ) مُحَمَّدٌ (وَكَانَ طَارِقٌ يُغَلِّسُ بِالصُّبْحِ) أَيْ يُصَلِّيهَا وَقْتَ الْغَلَسِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا (قَالَ ابْنُ حَرْمَلَةَ: فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ لِأَهْلِهَا: إِمَّا أَنْ تُصَلُّوا عَلَى جَنَازَتِكُمُ الْآنَ) وَقْتَ الْغَلَسِ قَبْلَ الْإِسْفَارِ (وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوهَا حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ) لِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْإِسْفَارِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ يُصَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ إِذَا صُلِّيَتَا لِوَقْتِهِمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
537 -
539 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: يُصَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ إِذَا صُلِّيَتَا لِوَقْتِهِمَا) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ لِوَقْتِ الْوُقُوفِ الْمُخْتَارِ وَهُوَ فِي الْعَصْرِ إِلَى الِاصْفِرَارِ وَفِي الصُّبْحِ إِلَى الْإِسْفَارِ. وَقَالَ الْحَافِظُ: مُقْتَضَاهُ أَنَّهُمَا إِذَا أُخِّرَتَا إِلَى وَقْتِ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حِينَئِذٍ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا عَنْهُ، فَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى اخْتِصَاصَ الْكَرَاهَةِ بِمَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا لَا مُطْلَقِ مَا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالطُّلُوعِ أَوِ الْغُرُوبِ، انْتَهَى.
وَفِيهِ تَأَمُّلٌ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَا قَالَ الْبَاجِيُّ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَازَةِ إِذَا طَلَعَتْ وَحِينَ تَغْرُبُ وَهَذَا يَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ ; إِذْ هُوَ لَا يُنَافِي رِوَايَةَ نَافِعٍ وَابْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ كَرَاهَتَهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الِاصْفِرَارِ وَالْإِسْفَارِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
[بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ فِي الْمَسْجِدِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهَا أَمَرَتْ أَنْ يُمَرَّ عَلَيْهَا بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ مَاتَ لِتَدْعُوَ لَهُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ مَا أَسْرَعَ النَّاسَ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
8 -
بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ فِي الْمَسْجِدِ
538 -
540 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سَالِمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ (مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنَيْنِ، الْقُرَشِيِّ التَّيْمِيِّ (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ مُنْقَطِعًا، وَانْفَرَدَ حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ فَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَانْتَقَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ حَافِظَيْنِ خَالَفَا الضَّحَّاكَ وَهَمَا مَالِكٌ وَالْمَاجِشُونُ فَرَوَيَاهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلًا، وَقِيلَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا مُرْسَلًا، وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الضَّحَّاكَ ثِقَةٌ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ ; لِأَنَّهُ حَفِظَ مَا نَسِيَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ (أَنَّهَا أَمَرَتْ أَنْ يُمَرَّ عَلَيْهَا بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) مَالِكٍ الزُّهْرِيِّ آخِرِ الْعَشَرَةِ وَفَاةً (فِي الْمَسْجِدِ) ; لِأَنَّ حُجْرَتَهَا دَاخِلَهُ (حِينَ مَاتَ) بِالْعَقِيقِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ،
وَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ (لِتَدْعُوَ لَهُ) بِحَضْرَتِهِ ; لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهُ تَدْعُو إِلَى الْإِشْفَاقِ وَالِاجْتِهَادِ لَهُ، وَلِذَا يُسْعَى إِلَى الْجَنَائِزِ وَلَا يُكْتَفَى بِالدُّعَاءِ فِي الْمَنْزِلِ، وَكَانَ أَزْوَاجُهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْرُجْنَ مَعَ النَّاسِ إِلَى جَنَازَةٍ، ثُمَّ الدُّعَاءُ يَحْتَمِلُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءَ خَاصَّةً، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. (فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ عَلَيْهَا) وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ: لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدٌ أَمَرَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ، أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ، فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ) قَالَ مَالِكٌ: أَيْ مَا أَسْرَعَ مَا نَسُوا السُّنَّةَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَيْ مَا أَسْرَعَهُمْ إِلَى الطَّعْنِ وَالْعَيْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَيْ إِلَى إِنْكَارِ مَا لَا يَعْلَمُونَ. وَرُوِيَ مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ (مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سُهَيْلِ) بِضَمِّ السِّينِ، مُصَغَّرٌ (ابْنِ بَيْضَاءَ) هِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُهَا دَعْدٌ، وَبَيْضَاءُ وَصْفٌ لَهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ بَيْضَاءَ، وَأَبُوهُ وَهْبُ بْنُ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ الْفِهْرِيُّ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَاخْتُلِفَ فِي شُهُودِهِ بَدْرًا، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ عُقْبَةَ شَهِدَهَا، وَأَنْكَرَهُ الْكَلْبِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَشَهِدَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَدَّهُ الْوَاقِدِيُّ وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخُوهُ سَهْلٌ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ مَا لِلْطَبَرَانِيِّ قَالَ: " «قَالَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: لَا يُفْلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ» ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ: إِلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ، وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ فَقَالَ: إِلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ، قَالَهُ فِي الْإِصَابَةِ.
(إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِلَّا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ، وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بِسَنَدِهِ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ، وَعِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ سَهْلٌ بِالتَّكْبِيرِ وَبِهِ جَزَمَ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ سَهْلًا الْمُكَبَّرَ مَاتَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: اسْمُ أَخِي سُهَيْلٍ صَفْوَانُ، وَوَهِمَ مَنْ سَمَّاهُ سَهْلًا، كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَزِدْ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى ذِكْرِ سُهَيْلٍ قَالَهُ فِي الْإِصَابَةِ مُلَخَّصًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ عَنْ مَالِكٍ، وَكَرِهَهُ فِي الْمَشْهُورِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ مِنْهُمْ فَلِخَشْيَةِ التَّلْوِيثِ، وَحَمَلُوا الصَّلَاةَ عَلَى سُهَيْلٍ بِأَنَّهُ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْمُصَلُّونَ دَاخِلَهُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ اسْتَدَلَّتْ بِهِ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهَا أَمْرَهَا بِمُرُورِ جَنَازَةِ سَعْدٍ عَلَى حُجْرَتِهَا لِتُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْعَمَلَ اسْتَقَرَّ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُنْكِرِينَ عَلَى عَائِشَةَ كَانُوا صَحَابَةً، وَرُدَّ بِأَنَّهَا لَمَّا أَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ سَلَّمُوا لَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا حَفِظَتْ مَا نَسُوهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ تَرَ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِنَكِيرٍ وَرَأَتِ الْحُجَّةَ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ إِنْكَارَهُ جَهْلٌ
بِالسُّنَّةِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهَا: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ؟ تُرِيدُ إِلَى إِنْكَارِ مَا لَا يَعْلَمُونَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ صُلِّيَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْمَسْجِدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
539 -
541 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: صُلِّيَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْمَسْجِدِ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ صُهَيْبًا صَلَّى عَلَى عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ، وَوُضِعَتِ الْجَنَازَةُ تُجَاهَ الْمِنْبَرِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، يَعْنِي فَيَكُونُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، قَالَ: وَاحْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لِلصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ إِلَى الْمُصَلَّى غَفْلَةً؛ إِذْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَوْ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي مَوْضِعٍ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَتِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
[بَاب جَامِعِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمَدِينَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَيَجْعَلُونَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
9 -
بَابُ جَامِعِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ
541 -
542 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) ذَا النُّورَيْنِ (وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ (وَأَبَا هُرَيْرَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمَدِينَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) بِخَفْضِهِمَا، بَدَلٌ مِنَ الْجَنَائِزِ (فَيَجْعَلُونَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ) وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو قَتَادَةَ هِيَ السُّنَّةُ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ ذَلِكَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَالِمٌ وَالْقَاسِمُ: النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ يُسَلِّمُ حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
541 -
543 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ يُسَلِّمُ حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ) وَكَذَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ
ابْنِ الْقَاسِمِ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ يُسِرُّونَهُ، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ، وَيَعْلَمُ الْمَأْمُومُونَ تَحَلُّلَهُ بِانْصِرَافِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ عَلَى الْجَنَازَةِ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى وَلَدِ الزِّنَا وَأُمِّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
542 -
544 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ عَلَى الْجَنَازَةِ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ) مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ. وَفِي مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» ". وَسَمَّى صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَازَةِ صَلَاةً فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: " «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» "، وَقَوْلِهِ فِي النَّجَاشِيِّ:" فَصَلُّوا عَلَيْهِ "، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِيهَا إِلَّا عَنِ الشَّعْبِيِّ ; لِأَنَّهَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ، فَيَجُوزُ بِلَا طَهَارَةٍ، وَوَافَقَهُ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَهُوَ مِمَّنْ يُرْغَبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ وَافَقَهُمَا وَهُوَ مَذْهَبٌ شَاذٌّ، قَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: قَدْ سَمَّاهَا صلى الله عليه وسلم صَلَاةً، وَلَوْ كَانَ الْغَرَضُ الدُّعَاءَ وَحْدَهُ مَا أَخْرَجَهُمْ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلَدَعَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَهُمْ بِالدُّعَاءِ مَعَهُ أَوِ التَّأْمِينِ عَلَى دُعَائِهِ، وَلَمَا صَفَّهُمْ خَلْفَهُ كَمَا يَصْنَعُ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْمَسْنُونَةِ، وَكَذَا فِي الصَّلَاةِ، وَتَكْبِيرُهُ فِي افْتِتَاحِهَا وَتَسْلِيمُهُ فِي التَّحَلُّلِ مِنْهَا، كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْأَبْدَانِ لَا عَلَى اللِّسَانِ وَحْدَهُ، وَكَذَا امْتِنَاعُ الْكَلَامِ فِيهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لِلْمَيِّتِ فَيَضِلَّ بِذَلِكَ. (قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى وَلَدِ الزِّنَى وَأُمِّهِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى وَلَدِ زِنًى وَأُمِّهِ مَاتَتْ مِنْ نِفَاسِهَا. وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: لَا يُصَلَّى عَلَى وَلَدِ الزِّنَى. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَصَلَّى النَّاسُ عَلَيْهِ أَفْذَاذًا لَا يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ فَقَالَ نَاسٌ يُدْفَنُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَقَالَ آخَرُونَ يُدْفَنُ بِالْبَقِيعِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَحُفِرَ لَهُ فِيهِ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ غُسْلِهِ أَرَادُوا نَزْعَ قَمِيصِهِ فَسَمِعُوا صَوْتًا يَقُولُ لَا تَنْزِعُوا الْقَمِيصَ فَلَمْ يُنْزَعْ الْقَمِيصُ وَغُسِّلَ وَهُوَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
10 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ
544 -
545 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. زَادَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ: " لِاثْنَتَيْ
عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ: حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَفِيهِ فَضْلُ الْمَوْتِ فِي يَوْمِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا:" «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» ". إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تَعْيِينُ وَقْتٍ لِلْمَوْتِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ اخْتِيَارٌ، لَكِنَّ التَّسَبُّبَ فِي حُصُولِهِ كَالرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ، فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْإِجَابَةُ أُثِيبَ عَلَى اعْتِقَادِهِ.
(وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: اشْتَكَى صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ "، وَكَذَا أُخْرِجَ دَفْنُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعِنْدَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ دُفِنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الْقَوْلُ بِدَفْنِهِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ غَرِيبٌ وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ دُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، انْتَهَى. وَلَا غَرَابَةَ فِيهِ وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ، وَإِنَّمَا أَخَّرُوا دَفْنَهُ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْتِهِ، أَوْ فِي مَحَلِّ دَفْنِهِ، أَوْ لِاشْتِغَالِهِمْ فِي أَمْرِ الْبَيْعَةِ بِالْخِلَافَةِ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الصِّدِّيقِ، وَلِدَهْشَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ الَّذِي مَا وَقَعَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ كَجَسَدٍ بِلَا رُوحٍ وَبَعْضُهُمْ عَاجِزًا عَلَى النُّطْقِ وَبَعْضُهُمْ عَنِ الْمَشْيِ، أَوْ لِخَوْفِ هُجُومِ عَدُوٍّ، أَوْ لِصَلَاةِ جَمٍّ غَفِيرٍ عَلَيْهِ.
(وَصَلَّى النَّاسُ عَلَيْهِ أَفْذَاذًا لَا يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ) أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ سَعْدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ:" أَنَّ النَّاسَ قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: أَنُصَلِّي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: وَكَيْفَ نُصَلِّي؟ قَالَ: يَدْخُلُ قَوْمٌ فَيُكَبِّرُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ، ثُمَّ يُدْخَلُ قَوْمٌ فَيُصَلُّونَ فَيُكَبِّرُونَ وَيَدْعُونَ فُرَادَى ".
وَلِابْنِ سَعْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " هُوَ إِمَامُكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا فَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَكَانَ النَّاسُ تَدْخُلُ رَسَلًا فَرُسَلًا فَيُصَلُّونَ صَفًّا صَفًّا لَيْسَ لَهُمْ إِمَامٌ وَيُكَبِّرُونَ، وَعَلِيٌّ قَائِمٌ بِحِيَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ وَتَمَّتْ كَلِمَتُهُ، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَتَّبِعُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَثَبِّتْنَا بَعْدَهُ، وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَيَقُولُ النَّاسُ: آمِينَ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ الرِّجَالُ، ثُمَّ النِّسَاءُ ثُمَّ الصِّبْيَانُ " وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ فَيَدْعُونَ وَيُصَدِّقُونَ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلِهَذَا وَجْهٌ وَهُوَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَهِيدٍ، وَالشَّهِيدُ يُغْنِيهِ فَضْلُهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فَارَقَ الشَّهِيدَ فِي الْغُسْلِ ; لِأَنَّهُ حَذَّرَ مَنْ غَسَّلَهُ إِزَالَةَ الدَّمِ عَنْهُ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ بَقَاؤُهُ لِطِيبِهِ وَلِأَنَّهُ عُنْوَانٌ بِشَهَادَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يُكْرَهُ إِزَالَتُهُ عَنْهُ فَافْتَرَقَا، انْتَهَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عَوْدُ التَّشْرِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّ الْكَامِلَ يَقْبَلُ زِيَادَةَ التَّكْمِيلِ. وَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ: الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ صَلَاةً حَقِيقِيَّةً لَا مُجَرَّدَ الدُّعَاءِ فَقَطْ اهـ. نَعَمْ، لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَؤُمَّهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَقِيلَ تَعَبُّدِيٌّ وَقِيلَ لِيُبَاشِرَ كُلُّ وَاحِدٍ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مِنْهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُبَاشِرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ أَئِمَّةٌ، انْتَهَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَذَلِكَ لِعِظَمِ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَنَافُسِهِمْ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لِعَدَمِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى خَلِيفَةٍ، وَقِيلَ لِوَصِيَّتِهِ بِذَلِكَ.
رَوَى الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَمَعَ أَهْلَهُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ قَالُوا: فَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: إِذَا غَسَّلْتُمُونِي وَكَفَّنْتُمُونِي فَضَعُونِي عَلَى سَرِيرِي، ثُمَّ اخْرُجُوا عَنِّي فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ جِبْرِيلُ ثُمَّ مِيكَائِيلُ ثُمَّ إِسْرَافِيلُ ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ مَعَ جُنُودِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَجْمَعِهِمْ، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» ". وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ تَكَلَّمُوا فِي مَوْضِعِ قَبْرِهِ (فَقَالَ نَاسٌ: يُدْفَنُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ) ; لِأَنَّ عِنْدَهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَنَاسَبَ دَفْنَهُ عِنْدَهُ (وَقَالَ آخَرُونَ: يُدْفَنُ بِالْبَقِيعِ) ; لِأَنَّهُ دُفِنَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ (فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ» . فَحُفِرَ لَهُ فِيهِ) أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا:" «مَا قَبَضَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ» ". وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «مَا مَاتَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ» "، وَلِذَا سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ إِلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَيُنْقَلُونَ مِنْ بُيُوتِهِمُ الَّتِي مَاتُوا فِيهَا إِلَى الْمَدَائِنِ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ عَدَاهُمُ الدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ، فَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ أَنَّ يُوسُفَ نَقَلَهُ مُوسَى مِنْ مِصْرَ إِلَى آبَائِهِ بِفِلَسْطِينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى إِنْ صَحَّ، أَيْ وَيَكُونُ مَحَبَّةُ يُوسُفَ لِدَفْنِهِ بِمِصْرَ مُوَقَّتَةً بِقَصْدِ مَنْ يَنْقُلُهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
(فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ غُسْلِهِ أَرَادُوا نَزْعَ قَمِيصِهِ) فِيهِ أَنَّهُ سُنَّةُ الْغُسْلِ عِنْدَهُمْ إِذْ لَوْ كَانَ نَزْعُهُ وَإِبْقَاؤُهُ سَوَاءً لَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ كَمَوْضِعِ الدَّفْنِ وَاللَّحْدِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ (فَسَمِعُوا صَوْتًا يَقُولُ: لَا تَنْزِعُوا الْقَمِيصَ، فَلَمْ يُنْزَعِ الْقَمِيصُ وَغُسِّلَ وَهُوَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ بُرَيْدَةَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا أَعْلَمُهُ يُرْوَى عَلَى هَذَا النَّسَقِ بِوَجْهٍ غَيْرِ بَلَاغِ مَالِكٍ هَذَا، وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَحَادِيثَ شَتَّى جَمَعَهَا مَالِكٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ وَالْآخَرُ لَا يَلْحَدُ فَقَالُوا أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلُ عَمِلَ عَمَلَهُ فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
544 -
546 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ) وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا) وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ (يَلْحَدُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ كَنَفَعَ يَنْفَعُ مِنْ لَحَدَ وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ مِنْ أَلْحَدَ يَشُقُّ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ (وَالْآخَرُ) وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ (لَا يَلْحَدُ فَقَالُوا أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلُ) بِمَنْعِ الصَّرْفِ لِلْوَصْفِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَرُوِيَ أَوَّلًا بِالصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ (عَمِلَ عَمَلَهُ فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ) أَوَّلُ (فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: " اخْتَلَفُوا فِي الشَّقِّ وَاللَّحْدِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: شُقُّوا كَمَا تَحْفُرُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَلْحِدُوا كَمَا يُحْفَرُ بِأَرْضِنَا، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ، ابْعَثُوا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي طَلْحَةَ فَأَيُّهُمَا جَاءَ قَبْلَ الْآخَرِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَهُ، فَجَاءَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ خَارَ لِنَبِيِّهِ، إِنَّهُ كَانَ يَرَى اللَّحْدَ فَيُعْجِبُهُ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَضْرَحُ كَحَفْرِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ هُوَ الَّذِي يَحْفِرُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ يَلْحَدُ، فَدَعَا الْعَبَّاسُ رَجُلَيْنِ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: اذْهَبْ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبْ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، اللَّهُمَّ خِرْ لِرَسُولِكَ، فَوَجَدَ صَاحِبُ أَبِي طَلْحَةَ أَبَا طَلْحَةَ فَجَاءَ بِهِ فَأَلْحَدَ لَهُ " وَيَضْرَحُ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ فِي الْأَرْضِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ وَفِيهِ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ اللَّحْدَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ قَالَهُ مَالِكٌ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لِلْمَيِّتِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: " أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» ". قَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: أَيْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنِ الشَّقِّ غَايَتُهُ تَفْضِيلُ اللَّحْدِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِمَا، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ كَرِهَ الشَّقَّ مَنْ كَرِهَهُ وَلَا وَجْهَ لِكَرَاهَتِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَقُولُ مَا صَدَّقْتُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَ الْكَرَازِينِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
544 -
547 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ) هِنْدَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَقُولُ: مَا صَدَّقْتُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَ الْكَرَازِينِ) بِكَافٍ فَرَاءٍ فَأَلِفٍ فَزَايٍ مَنْقُوطَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَنُونٍ، أَيِ الْمَسَاحِي، جَمْعُ كَرْزِينٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتُكْسَرُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَخَذَتْهَا دَهْشَةٌ وَبَهْتَةٌ كَمَا وَقَعَ لِعُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَمُتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَحْفَظُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مُتَّصِلًا وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ تَقْصِيرٌ، فَقَدْ رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنِ الْحُلَيْسِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ بِمِيمٍ قَبْلَ الْوَاوِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ نَحْوَهُ. وَفِي التَّقْرِيبِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَوْهَبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، كَذَا وَقَعَ فِي أَحْكَامِ عَبْدِ الْحَقِّ وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعْنَا الْمَسَاحِيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ فِي السَّحَرِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ «رَأَيْتُ ثَلَاثَةَ أَقْمَارٍ سَقَطْنَ فِي حُجْرَتِي فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا قَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ هَذَا أَحَدُ أَقْمَارِكِ وَهُوَ خَيْرُهَا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
546 -
548 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عَائِشَةَ) كَذَا لِأَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَائِشَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَائِشَةَ (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: رَأَيْتُ ثَلَاثَةَ أَقْمَارٍ سَقَطْنَ فِي حِجْرِي) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِم عَنْهَا: فِي حُجْرَتِي (فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) ; لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالتَّعْبِيرِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يُجِبْهَا حِينَ قَصَّتْ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلْ أَنَّهُ أَجْمَلَ لَهَا الْجَوَابَ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: " رَأَيْتُ فِي حُجْرَتِي ثَلَاثَةَ أَقْمَارٍ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: مَا أَوَّلْتِهَا؟ قُلْتُ: أَوَّلْتُهَا وَلَدًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: خَيْرُ أَقْمَارِكِ ذُهِبَ بِهِ "، ثُمَّ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، دُفِنُوا جَمِيعًا فِي بَيْتِهَا. قَالَ الْبَاجِيُّ: أَمْسَكَ عَنْ تَعْبِيرِهَا ; لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْهَا مَوْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ الْقَمَرَ يَدُلُّ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى الْعَلَمِ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ وَعَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ، وَسُقُوطُهُمْ فِي حِجْرِهَا دَلِيلٌ عَلَى دَفْنِهِمْ فِي حُجْرَتِهَا. وَسُنَّةُ الرُّؤْيَا إِذَا كَانَ فِيهَا مَا يُكْرَهُ أَنْ لَا تُعَبَّرَ (قَالَتْ:
فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا قَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَحَدُ أَقْمَارِكِ وَهُوَ خَيْرُهَا) وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُعَبِّرًا مُحْسِنًا، وَفِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الرُّؤْيَا وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهَا وَحَسْبُكَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ تُوُفِّيَا بِالْعَقِيقِ وَحُمِلَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَا بِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
546 -
549 - (مَالِكٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) مَالِكٌ الزُّهْرِيُّ آخِرُ الْعَشَرَةِ مَوْتًا (وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ الْعَدَوِيَّ، أَحَدَ الْعَشَرَةِ مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ أَوْ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ (تُوُفِّيَا بِالْعَقِيقِ) مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ (وَحُمِلَا إِلَى الْمَدِينَةِ) كُلٌّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَوْتُ سَعْدٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ (وَدُفِنَا بِهَا) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ نَقْلُهُمَا لِكَثْرَةِ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ لِيَتَوَلَّوُا الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا، أَوْ لِفَضْلٍ اعْتَقَدُوهُ فِي الدَّفْنِ بِالْبَقِيعِ، أَوْ لِيَقْرُبَ عَلَى أَهْلِهِمَا زِيَارَةُ قُبُورِهِمَا وَالدُّعَاءُ لَهُمَا، انْتَهَى. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ نَقْلِ الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، فَقِيلَ: يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ دَفْنِهِ وَتَعْرِيضِهِ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، وَالْأَوْلَى تَنْزِيلُ ذَلِكَ عَلَى حَالَيْنِ فَالْمَنْعُ حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ غَرَضٌ رَاجِحٌ كَالدَّفْنِ فِي الْبِقَاعِ الْفَاضِلَةِ، وَتَخْتَلِفُ الْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ تَبْلُغُ التَّحْرِيمَ وَالِاسْتِحْبَابُ حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاحْتَجَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِرَدِّ الْقَتْلَى إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَبِحَدِيثِ:" «تُدْفَنُ الْأَجْسَادُ حَيْثُ تُقْبَضُ الْأَرْوَاحُ» " وَالْإِجْمَاعُ عَلَى نَقْلِ الْمَيِّتِ مِنْ دَارِهِ إِلَى الْمَقَابِرِ وَلِكُلِّ مَدِينَةٍ جَبَّانَةٌ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ نَقْلِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْبَلَدِ، وَحَدِيثُ:" «مَا دُفِنَ نَبِيٌّ إِلَّا حَيْثُ يُقْبَضُ» " دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ فِي النَّقْلِ إِجْمَاعٌ وَلَا سُنَّةٌ فَيَجُوزُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ لَأَنْ أُدْفَنَ بِغَيْرِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدْفَنَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا ظَالِمٌ فَلَا أُحِبُّ أَنْ أُدْفَنَ مَعَهُ وَإِمَّا صَالِحٌ فَلَا أُحِبُّ أَنْ تُنْبَشَ لِي عِظَامُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
548 -
550 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ) بِالْمُوَحَّدَةِ اتِّفَاقًا مَقْبَرَةُ الْمَدِينَةِ (لِأَنْ أُدْفَنَ فِي غَيْرِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدْفَنَ بِهِ) وَبَيَّنَ وَجْهَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: (إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا ظَالِمٌ فَلَا أُحِبُّ أَنْ أُدْفَنَ مَعَهُ) ; لِأَنَّهُ قَدْ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِظُلْمِهِ فَأَتَأَذَّى بِذَلِكَ. (وَإِمَّا صَالِحٌ فَلَا أُحِبُّ أَنْ تُنْبَشَ لِي عِظَامُهُ) فَلَمْ يَكْرَهْ مُجَاوَرَتَهُ فَعَلَّقَ الْكَرَاهَةَ بِنَبْشِ عِظَامِهِ وَكَرِهَ مُجَاوِرَةَ الظَّالِمِ فَعَلَّقَهَا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لِعِظَامِهِ حُرْمَةٌ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَبِهِ يُرَدُّ قَوْلُ أَبِي عُمَرَ: ظَاهِرُ كَلَامِ عُرْوَةَ أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ نَبْشَ عِظَامِ الظَّالِمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلِعِظَامِهِ حُرْمَةٌ، قَالَ: وَقَدْ بَنَى عُرْوَةُ قَصْرَهُ بِالْعَقِيقِ وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ لِمَا رَأَى مِنْ تَغَيُّرِ أَهْلِهَا، فَمَاتَ هُنَاكَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَاب الْوُقُوفِ لِلْجَنَائِزِ وَالْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ فِي الْجَنَائِزِ ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
11 -
بَابُ الْوُقُوفِ لِلْجَنَائِزِ وَالْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ
549 -
551 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ وَاقِدِ) بِالْقَافِ (ابْنِ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) الْأَنْصَارِيِّ الْأَشْهَلِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَالثَّلَاثَةُ، وَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَثَبَتَ قَوْلُهُ ابْنُ عَمْرٍو لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ إِلَّا يَحْيَى فَقَالَ: وَاقِدُ بْنُ سَعْدٍ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ سَيِّدِ الْأَوْسِ (عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ) بْنِ عَدِيٍّ الْقُرَشِيِّ النَّوْفَلِيِّ، ثِقَةٌ، فَاضِلٌ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ (عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ) بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ الزُّرَقِيِّ الْمَدَنِيِّ، لَهُ رَؤْيَةٌ وَرِوَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَفِي الْإِسْنَادِ أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ فِي الْجَنَائِزِ) وَأَمَرَ بِذَلِكَ أَيْضًا كَمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ «عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ:" كُنَّا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فَطَلَعَتْ جَنَازَةٌ فَلَمَّا رَآهَا قَامَ وَقَامَ أَصْحَابُهُ حَتَّى بَعُدَتْ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ شَأْنِهَا أَوْ مِنْ تَضَايُقِ الْمَكَانِ، وَمَا سَأَلْنَاهُ عَنْ قِيَامِهِ» " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ: " «مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ وَقُمْنَا، فَقُلْنَا إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا» " زَادَ مُسْلِمٌ: " «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ» " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أَلَيْسَتْ نَفْسًا " وَلِلْحَاكِمِ عَنْ أَنَسٍ وَأَحْمَدَ عَنْ
أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: " «إِنَّمَا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ» " وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " «إِنَّمَا قُمْنَا إِعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ» " وَلَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ: " «اللَّهُ الَّذِي يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ» " وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ التَّعَالِيلِ ; لِأَنَّ الْقِيَامَ لِلْفَزَعِ مِنَ الْمَوْتِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَتَعْظِيمٌ لِلْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ فِي ذَلِكَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَسْتَمِرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى الْغَفْلَةِ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَيِّتِ لِإِشْعَارِهِ بِالتَّسَاهُلِ بِأَمْرِ الْمَوْتِ وَلِذَا اسْتَوَى كَوْنُ الْمَيِّتِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِنَّمَا قَامَ صلى الله عليه وسلم تَأَذِّيًا بِرِيحِ الْيَهُودِيِّ. زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ بِتَحْتِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ: فَإِذَا رِيحُ بَخُورِهَا. وَلِلْبَيْهَقِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ: كَرَاهِيَةَ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى رَأْسِهِ فَلَا تُعَارِضُ الْأَخْبَارَ الْأُولَى ; لِأَنَّ أَسَانِيدَ هَذِهِ لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ فِي الصِّحَّةِ وَلِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فَهِمَهُ الرَّاوِي وَالتَّعْلِيلُ الْمَاضِي لَفَظَهُ صلى الله عليه وسلم فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَصْرِيحَهُ بِالتَّعْلِيلِ فَعَلَّلَ بِاجْتِهَادِهِ (ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ) بِالْبِنَاءِ عَلَى الضَّمِّ وَالْقِيَامُ وَالْجُلُوسُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِمَنْ مَرَّتْ بِهِ وَالثَّانِي لِمَنْ يُشَيِّعُهَا يَقُومُ لَهَا حَتَّى تُوضَعَ، وَالْجُلُوسُ نَاسِخٌ لِلْقِيَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ بَعْدُ، أَيْ بَعْدَ أَنْ جَازَتْهُ وَبَعُدَتْ عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ فِي وَقْتٍ ثُمَّ تَرَكَهُ أَصْلًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُهُ الْأَخِيرَ قَرِينَةً فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ لِلنَّدْبِ أَوْ نَسْخٍ لِلْوُجُوبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى النَّسْخِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ يَدْفَعُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْمٍ قَامُوا أَنْ يَجْلِسُوا، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ بِالْحَدِيثِ، وَلِذَا قَالَ بِكَرَاهَةِ الْقِيَامِ جَمَاعَةٌ، انْتَهَى.
وَقَالَ مَالِكٌ: جُلُوسُهُ صلى الله عليه وسلم نَاسِخٌ لِقِيَامِهِ، وَاخْتَارَ أَنْ لَا يَقُومَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: قِيَامُهُ إِمَّا مَنْسُوخٌ أَوْ قَامَ لِعِلَّةٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ، وَالْحُجَّةُ فِي الْآخِرِ مِنْ أَمْرِهِ وَالْقُعُودُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: قُعُودُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ لِلنَّدْبِ وَلَا يَجُوزُ أَنَّهُ نُسِخَ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِنَهْيٍ أَوْ تَرْكٍ مَعَهُ نَهْيٌ. قَالَ الْحَافِظُ: قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ عُبَادَةَ، قَالَ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ لِلْجَنَازَةِ فَمَرَّ بِهِ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: هَكَذَا نَفْعَلُ، فَقَالَ: اجْلِسُوا وَخَالِفُوهُمْ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِسْنَادُهُ ضَعِيفًا لَكَانَ حُجَّةً فِي النَّسْخِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى نَسْخِهِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَهُوَ هُنَا مُمْكِنٌ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ جَلَسَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهِ قَالَ الْمُتَوَلِّي، انْتَهَى. وَرَدَّهُ الْأَذْرُعِيُّ بِأَنَّ الَّذِي فَهِمَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ التَّرْكُ مُطْلَقًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَلِذَا أَمَرَ بِالْقُعُودِ مَنْ رَآهُ قَائِمًا وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ حَبِيبٍ: قُعُودُهُ صلى الله عليه وسلم لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَمَنْ جَلَسَ فَهُوَ فِي سِعَةٍ، وَمَنْ قَامَ فَلَهُ أَجْرٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ وَغَيْرِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُطَوَّلًا بِقِصَّةٍ، وَسَاقَهُ بَعْدَ أَحَادِيثِ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى نَسْخِهِ، وَبِهِ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْقُبُورَ وَيَضْطَجِعُ عَلَيْهَا قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ الْقُعُودِ عَلَى الْقُبُورِ فِيمَا نُرَى لِلْمَذَاهِبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
549 -
552 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) بَلَاغُهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ عَلِيٍّ (كَانَ يَتَوَسَّدُ الْقُبُورَ وَيَضْطَجِعُ عَلَيْهَا) وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ. (قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الْقُعُودِ عَلَى الْقُبُورِ) بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَقْعُدُوا عَلَى الْقُبُورِ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ. وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَأَنْ يَقْعُدَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فِيمَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ، أَيْ نَظُنُّ، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَضَّاحٍ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ (لِلْمَذَاهِبِ) يُرِيدُ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ بِدَلِيلِ فِعْلِ عَلِيٍّ، وَالْقُعُودُ وَالْمَشْيُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُقْبَةَ: مَا أُبَالِي قَضَيْتُ حَاجَتِي عَلَى الْقُبُورِ أَوْ فِي السُّوقِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ يُرِيدُ: لِأَنَّ الْمَوْتَى يَجِبُ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُمْ كَالْأَحْيَاءِ لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ عَلَى الْقُبُورِ، وَزَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ تَأْوِيلَ مَالِكٍ بَعِيدٌ ; لِأَنَّ الْحَدَثَ عَلَى الْقَبْرِ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ يُكْرَهَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْجُلُوسُ الْمُتَعَارَفُ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ تَأْوِيلُهُ بَعِيدٌ أَوْ بَاطِلٌ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ مَا ظَنَّهُ مَالِكٌ ثَبَتَ مَرْفُوعًا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:" «إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقُبُورِ لَحَدَثِ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ» " أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ، وَقَدْ وَافَقَ مَالِكًا عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الْقُعُودِ الْحَقِيقِيِّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ كَمَا نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَثَرِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَسْنَدَهُمَا بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنَّهُ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم زَارَ الْقُبُورَ وَأَمَرَ بِزِيَارَتِهَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلِرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ:" «رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُتَّكِئٌ عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ» " إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ يَقُولُ كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنَائِزَ فَمَا يَجْلِسُ آخِرُ النَّاسِ حَتَّى يُؤْذَنُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
551 -
553 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) الْأَنْصَارِيِّ الْأَوْسِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ، رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ (أَنَّهُ سَمِعَ) عَمَّهُ (أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) صَحَابِيٌّ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ، وَأَبُوهُ سَهْلٌ بَدْرِيٌّ شَهِيرٌ (يَقُولُ: كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنَائِزَ فَمَا يَجْلِسُ آخِرُ النَّاسِ حَتَّى يُؤْذَنُوا) بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُؤْذَنُ لَهُمْ بِالِانْصِرَافِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ شَيْخِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: فَمَا يَنْصَرِفُ النَّاسُ حَتَّى يُؤْذَنُوا، قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمِسْوَرِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْصَرِفُونَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُمْ أَوْ يَسْتَأْذِنُوا. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ يَنْصَرِفُونَ إِذَا وُورِيَتْ بِلَا إِذْنٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِحَدِيثِ:" «وَمَنْ قَعَدَ حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» " قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَازَةِ لَوْ شَاءُوا أَنْ يُمْسِكُوهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِمْسَاكُ لَمْ يُعْتَبَرْ إِذْنُهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[بَاب النَّهْيِ عَنْ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ عَنْ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ أَبُو أُمِّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ فَجَعَلَ جَابِرٌ يُسَكِّتُهُنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوُجُوبُ قَالَ إِذَا مَاتَ فَقَالَتْ ابْنَتُهُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا فَإِنَّكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ جِهَازَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ قَالُوا الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
12 -
بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ
552 -
554 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِيهِمَا، وَهَذَا مِمَّا تَوَافَقَ فِيهِ اسْمُ الْأَبِ وَابْنِهِ (ابْنِ جَابِرِ) وَيُقَالُ جَبْرِ (ابْنِ عَتِيكٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَكَافٍ، الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ (عَنْ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ) بْنِ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ (وَهُوَ جَدُّ) الرَّاوِي عَنْهُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ، أَبُو أُمِّهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَتِيكِ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، اخْتُلِفَ فِي شُهُودِهِ بَدْرًا، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ (أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتِ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّ الْأَوْسِيَّ، وَيُقَالُ إِنَّهُ ظَفَرِيٌّ مَاتَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَفَّنَهُ صلى الله عليه وسلم فِي قَمِيصِهِ، وَعَاشَ الْأَبُ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ، وَكَانَا جَمِيعًا شَهِدَا أُحُدًا، وَكَذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ السَّكَنِ وَآخَرُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ أَخُو خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَهُ فِي الْإِصَابَةِ (فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ) أَيْ غَلَبَهُ الْأَلَمُ حَتَّى مَنَعَهُ إِجَابَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فَصَاحَ بِهِ) أَيْ نَادَاهُ (فَلَمْ يُجِبْهُ فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ قَالَ:(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) تَصْبِيرًا لِنَفْسِهِ وَإِشْعَارًا لَهَا أَنَّ الْكُلَّ لِلَّهِ وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ (وَقَالَ: غُلِبْنَا عَلَيْكَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّصْرِيحَ بِمَعْنَى اسْتِرْجَاعِهِ وَتَأَسُّفِهِ (يَا أَبَا الرَّبِيعِ) كُنْيَتُهُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَفِيهِ تَكْنِيَةُ الرَّئِيسِ لِمَنْ دُونَهُ وَلَمْ يَسْتَكْبِرْ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَّا مَنْ حُرِمَ التَّقْوَى (فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ) وَفِيهِ إِبَاحَةُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ بِالصِّيَاحِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ حُضُورِ وَفَاتِهِ (فَجَعَلَ جَابِرٌ يُسَكِّتُهُنَّ) ; لِأَنَّهُ سَمِعَ النَّهْيَ عَنِ الْبُكَاءِ فَحَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ) يَبْكِينَ حَتَّى يَمُوتَ (فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ) أَيْ لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْبُكَاءِ، أَمَّا دَمْعُ الْعَيْنِ وَحُزْنُ الْقَلْبِ فَالسُّنَّةُ ثَابِتَةٌ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ «بَكَى صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ابْنَةِ زَيْنَبَ ابْنَتِهِ، وَقَالَ: هِيَ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ» ، «وَمَرَّ بِجَنَازَةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَانْتَهَرَهُنَّ عُمَرُ فَقَالَ: دَعْهُنَّ فَإِنَّ النَّفْسَ مُصَابَةٌ وَالْعَيْنَ دَامِعَةٌ وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ» ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوُجُوبُ؟) الَّذِي أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ فَإِذَا وَجَبَ (قَالَ: إِذَا مَاتَ) فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، قَالَ الْبَاجِيُّ: أَشَارَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِلَى بُكَاءٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الصِّيَاحِ وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ» " وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ (فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا فَإِنَّكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ) أَيْ أَتْمَمْتَ (جَهَازَكَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا، مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِكَ لِلْغَزْوِ وَالْخِطَابُ لِأَبِيهَا، قَالَ فِي الْفَتْحِ: الْجَهَازُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتُكْسَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَهُوَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ فِي النُّورِ: بِكَسْرِ الْجِيمِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا بَلْ لَحَنَ مَنْ فَتَحَ، وَالَّذِي فِي الصِّحَاحِ: وَأَمَّا جَهَازُ الْعَرُوسِ وَالسَّفَرِ فَيُفْتَحُ وَيُكْسَرُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ) أَيْ عَلَى مِقْدَارِ الْعَمَلِ الَّذِي نَوَاهُ كَمَا نَوَاهُ، فَالنِّيَّةُ بِمَعْنَى الْمَنْوِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا يَجِبُ لِنِيَّتِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْقَصْدَ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّ مَا نَوَاهُ لَمْ يَفُتْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ إِلَّا بِقَدْرِ النِّيَّةِ لَمَا كَانَ لِابْنَتِهِ فِي ذَلِكَ رَاحَةٌ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ أَنَّ الْمُتَجَهِّزَ لِلْغَزْوِ إِذَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ الْغَزْوِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ صِحَاحٌ، مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي تَبُوكَ:" «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ قَوْمًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» "، انْتَهَى.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ» " أَيْ أُعْطِيَ ثَوَابَهَا وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ: " «مَنْ سَأَلَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَادِقًا ثُمَّ
مَاتَ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ» " وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مِثْلُهُ، وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مَرْفُوعًا: "«مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» ".
(وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ نَفْسِهِ: أَنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذَنْ لَقَلِيلٌ (الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ، فَقِيلَ نَسِيَ بَعْضُ رُوَاتِهَا بَاقِيَ السَّبْعِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ بَعِيدٌ لَكِنْ يُقَرِّبُهُ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ شَاهِدًا لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ هَذَا، وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ، فَمِنْ زِيَادَتِهِ:" «وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» " وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُعْلِمَ بِالْأَقَلِّ ثُمَّ عَلِمَ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْحَصْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ لَنَا مِنَ الطُّرُقِ الْجَيِّدَةِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ خَصْلَةً، وَتَبْلُغُ بِطُرُقٍ فِيهَا ضَعْفٌ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ (الْمَطْعُونُ) الْمَيِّتُ بِالطَّاعُونِ (شَهِيدٌ) وَفِي الْحَدِيثِ:" أَنَّ «فَنَاءَ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَّا الطَّعْنُ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ تَخْرُجُ فِي الْمَرَاقِّ وَالْآبَاطِ» "(وَالْغَرِقُ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، الَّذِي يَمُوتُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ (شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ) مَرَضٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ وَرَمٌ حَارٌّ يَعْرِضُ فِي الْغِشَاءِ الْمُسْتَبْطِنِ لِلْأَضْلَاعِ، وَيُقَالُ هُوَ الشَّوْصَةُ (شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ هُوَ صَاحِبُ الْإِسْهَالِ، وَقِيلَ الْمَحْسُورُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هُوَ الَّذِي يَمُوتُ بِمَرَضِ بَطْنِهِ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ. وَفِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ لِأَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ شَيْخِهِ شُرَيْحٍ أَنَّهُ صَاحِبُ الْقُولَنْجِ (شَهِيدٌ، وَالْحَرِقُ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، الْمَيِّتُ بِحَرْقِ النَّارِ (شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ وَتُكْسَرُ وَسُكُونِ الْمِيمِ، الْمَيِّتَةُ فِي النِّفَاسِ وَوَلَدُهَا لَمْ تَلِدْهُ وَقَدْ تَمَّ خَلْقُهُ، وَقِيلَ هِيَ الَّتِي تَمُوتُ مِنَ الْوِلَادَةِ سَوَاءٌ أَلْقَتْ وَلَدَهَا أَمْ لَا، وَقِيلَ الَّتِي تَمُوتُ عَذْرَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْحَافِظُ وَزَادَ: وَقِيلَ الْمَيِّتَةُ بِمُزْدَلِفَةَ، وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ، انْتَهَى. وَفِي النِّهَايَةِ: الْجُمْعُ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى الْمَجْمُوعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مَاتَتْ مَعَ شَيْءٍ مَجْمُوعٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهَا مِنْ حَمْلٍ أَوْ بَكَارَةٍ.
(شَهِيدٌ) قَالَ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ حَيٌّ فَكَأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ شَاهِدَةٌ أَيْ حَاضِرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لِأَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقِيلَ لِشُهُودِهِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُشْهَدُ لَهُ بِالْأَمَانِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ عَلَيْهِ
شَاهِدًا بِكَوْنِهِ شَهِيدًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ الَّذِي يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِ الرُّسُلِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُ لَهُ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَشْهَدُ لَهُ بِحُسْنِ الِاتِّبَاعِ لَهُمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ لَهُ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْمَلَكُوتَ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا وَدَارِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ عَلَيْهِ عَلَامَةً شَاهِدَةً أَيْ حَاضِرَةً بِأَنَّهُ قَدْ نَجَا.
وَبَعْضُ هَذِهِ يَخْتَصُّ بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبَعْضُهَا يَعُمُّ غَيْرَهُ، وَبَعْضُهَا قَدْ يُنَازَعُ فِيهِ، وَقَدْ زَادَ عَلَى هَذِهِ الثَّمَانِيَةِ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «الْمَيِّتُ عَلَى فِرَاشِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ رَاشِدِ بْنِ حُبَيْشٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ وَالسِّلُّ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ اللَّامِ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا:" «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» " وَقَالَ فِي الدِّينِ وَالدَّمِ وَالْأَهْلِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» " وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا: " «مَنْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى أَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ شَهِيدٌ» ".
وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالصَّابُونِيِّ فِي الْمِائَتَيْنِ عَنْ جَابِرٍ كُلُّهُ مَرْفُوعًا:" «مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ» ". وَلِلْطَبَرَانِيِّ مِنْ «حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ اللَّدِيغَ وَالشَّرِيقَ وَالَّذِي يَفْتَرِسُهُ السَّبُعُ وَالْخَارُّ عَنْ دَابَّتِهِ شَهِيدٌ» ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ:" «الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» "، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا أَحَادِيثُ فِي مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ أَنَّهُ يُكْتَبُ شَهِيدًا.
وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: " «مَنْ تَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ شَهِيدٌ» "، وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ:" «لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» "، فَهَذِهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ خَصْلَةً زَائِدَةً عَلَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ذَكَرَ الْحَافِظُ أَنَّ طُرُقَهَا جَيِّدَةٌ، وَأَنَّهُ وَرَدَتْ خِصَالٌ أُخْرَى فِي أَحَادِيثَ لَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا لِضَعْفِهَا، انْتَهَى.
وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: " صَاحِبُ الْحُمَّى " وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: " «الْمَيِّتُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حُبِسَ ظُلْمًا» "، وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. " الْمَيِّتُ عِشْقًا "، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ:" «الْمَيِّتُ وَهُوَ طَالِبٌ لِلْعِلْمِ» "، قَالَ الْبَاجِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ التِّينِ: هَذِهِ مِيتَاتٌ فِيهَا شِدَّةُ الْأَلَمِ فَتَفَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ جَعَلَهَا تَمْحِيصًا لِذُنُوبِهِمْ وَزِيَادَةً فِي أُجُورِهِمْ حَتَّى يُبَلِّغَهُمْ بِهَا مَرَاتِبَ الشُّهَدَاءِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَذْكُورِينَ لَيْسُوا فِي الْمَرْتَبَةِ سَوَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ جَابِرٍ، وَالدَّارِمِيُّ وَأَحْمَدُ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبَشِيٍّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ» " وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ لَهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "«كُلُّ مَوْتَةٍ يَمُوتُ بِهَا الْمُسْلِمُ فَهُوَ شَهِيدٌ» " غَيْرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَتَفَاضَلُ وَتَحْصُلُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الشُّهَدَاءَ قِسْمَانِ: شُهَدَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ مَنْ قُتِلَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ مُخْلِصًا، وَشُهَدَاءُ الْآخِرَةِ وَهُمْ مَنْ ذُكِرَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ جِنْسِ أَجْرِ الشُّهَدَاءِ وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ الْعِرْبَاضِ، وَأَحْمَدَ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ عَبْدٍ مَرْفُوعًا: "«يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فِرَاشِهِمْ فِي الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ زَمَنَ الطَّاعُونِ فَيَقُولُ: " انْظُرُوا إِلَى جِرَاحِهِمْ فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مَعَهُمْ، فَإِذَا جِرَاحُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ» " وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَإِطْلَاقُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِ الْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَجَازٌ، فَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَالْمَانِعُ يُجِيبُ بِأَنَّهُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الشَّهِيدُ عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ لَكِنْ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ لِعَارِضٍ يَمْنَعُهُ كَالِانْهِزَامِ وَفَسَادِ النِّيَّةِ، انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخَانِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ «يَقُولُ إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ إِنَّكُمْ لَتَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
553 -
555 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ) أَيْ أَبَا بَكْرٍ (أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ وَ) قَدْ (ذُكِرَ لَهَا) مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَابِلُ الْمَيِّتِ، وَيُحْتَمَلُ الْقَبِيلَةُ، وَاللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ حَيِّهِ أَيْ قَبِيلَتِهِ، فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:" «مَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ يُعَذَّبُ» " وَلَفْظُهَا أَعَمُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِالْكَافِرِ (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةُ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا مِنَ الْآدَابِ الْحَسَنَةِ قَدَّمَتْهُ تَمْهِيدًا وَدَفْعًا لِمَا يُوحِشُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ (أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ) أَيْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْكَذِبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، وَلَكِنَّ الْإِثْمَ يَخْتَصُّ بِالْعَامِدِ (وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ) فِي الْفَهْمِ، فَحَدَّثَ بِمَا ظَنَّهُ صَوَابًا (إِنَّمَا «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيَّةٍ
يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا، فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَتَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» ) بِعَذَابِ الْكُفْرِ لَا بِسَبَبِ الْبُكَاءِ، وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ عُمَرَ بِرِوَايَةِ ذَلِكَ، بَلْ رَوَاهُ أَبُوهُ وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» " فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَاأَخَاهُ وَاصَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ «الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] » (سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 164) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكُ وَأَبْكَى. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى: " لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا أَخَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ» ؟ " وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنْ صُهَيْبًا سَمِعَهُ مِنَ الْمُصْطَفَى أَيْضًا وَكَأَنَّهُ نَسِيَهُ حَتَّى ذَكَّرَهُ بِهِ عُمَرُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَ سُكُوتُ ابْنِ عُمَرَ لِشَكٍّ طَرَأَ لَهُ بَعْدَمَا صَرَّحَ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنِ احْتَمَلَ عِنْدَهُ قَبُولُهُ لِلتَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ مَحْمَلٌ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، أَوْ كَانَ الْمَجْلِسُ لَا يَقْبَلُ الْمُمَارَاةَ، وَلَمْ تَتَعَيَّنِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا حِينَئِذٍ، وَيُحْتَمَلُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الكِرْمَانِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنَ اسْتِشْهَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْآيَةِ قَبُولَ رِوَايَتِهِ ; لِأَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَا فِي أَنَّ اللَّهَ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَ بِلَا ذَنْبٍ، وَيَكُونُ بُكَاءُ الْحَيِّ عَلَامَةً عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الرِّوَايَةُ إِذَا ثَبَتَتْ لَمْ يَكُنْ إِلَى دَفْعِهَا سَبِيلٌ بِالظَّنِّ، وَقَدْ رَوَاهُ عُمَرُ وَابْنُهُ، وَلَيْسَ فِيمَا حَكَتْ عَائِشَةُ مَا يَدْفَعُ رِوَايَتَهُمَا، فَالْخَبَرَانِ مَعًا صَحِيحَانِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَالْمَيِّتُ إِنَّمَا يُعَذَّبُ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِي الْعَرَبِ مَوْجُودًا فِي أَشْعَارِهِمْ كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ
…
وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ
وَعَلَى هَذَا حَمَلَ الْجُمْهُورُ حَدِيثَ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُكَاءِ هُنَا الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَنِيَاحَةٍ لَا بِمُجَرَّدِ دَمْعِ الْعَيْنِ، انْتَهَى.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّعْذِيبَ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ بِمُجَرَّدِ صُدُورِهَا، وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ امْتِثَالِهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي السِّيَاقِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ أَنْ لَا يَقَعَ إِذَا لَمْ يَمْتَثِلُوا، وَحُمِلَ أَيْضًا عَلَى مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ النَّوْحَ وَالْبُكَاءَ فَمَشَى أَهْلُهُ عَلَى عَادَتِهِ، وَحُمِلَ أَيْضًا عَلَى مَنْ أَهْمَلَ نَهْيَ أَهْلِهِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: إِذَا عَلِمَ الْمَرْءُ مَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّوْحِ وَعَرَفَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِهِ فِعْلَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُمْ بِحُرْمَتِهِ وَلَا زَجَرَهُمْ عَنْ تَعَاطِيهِ فَإِذَا عُذِّبَ عَلَى ذَلِكَ فَبِفِعْلِ نَفْسِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِهِ، وَبِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِنَظِيرِ مَا يَبْكِيهِ بِهِ أَهْلُهُ ;
لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُعَدِّدُونَ بِهَا عَلَيْهِ غَالِبًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْهِيَّةِ، فَهُمْ يَمْدَحُونَهُ بِهَا وَهُوَ يُعَذَّبُ بِصُنْعِهِ عَيْنَ مَا مَدَحُوهُ بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِمَا يَنْدُبُهُ أَهْلُهُ بِهِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: " «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إِذَا قَالَتِ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، وَاكَاسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا، أَنْتَ نَاصِرُهَا، أَنْتَ كَاسِبُهَا» ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: " أُغْمِيَ عَلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ تَبْكِي وَتَقُولُ: وَاجَبَلَاهُ وَاكَذَا وَاكَذَا، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ، مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي أَنْتَ كَذَلِكَ " وَقِيلَ: مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَأَلُّمُ الْمَيِّتِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ وَغَيْرِهَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُرَابِطِ وَعِيَاضٌ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِحَدِيثِ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ:" «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَلَدْتُهُ فَقَاتَلَ مَعَكَ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فَمَاتَ، وَنَزَلَ عَلَيَّ الْبُكَاءُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَيَغْلِبُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَصْحَبَ صُوَيْحِبَهُ فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا فَإِذَا مَاتَ اسْتَرْجَعَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَبْكِي فَيَسْتَعْبِرُ إِلَيْهِ صُوَيْحِبُهُ، فَيَا عِبَادَ اللَّهِ لَا تُعَذِّبُوا مَوْتَاكُمْ» ". الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: هَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الْمُرَادَ صُوَيْحِبُهُ الْمَيِّتُ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَاحِبُهُ الْحَيُّ، وَأَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ حِينَئِذٍ بِبُكَاءِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بِتَنْزِيلِ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، فَمَنْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُ النَّوْحُ فَمَشَى أَهْلُهُ عَلَيْهَا فَأَوْصَاهُمْ بِذَلِكَ عُذِّبَ بِصُنْعِهِ، وَمَنْ كَانَ ظَالِمًا فَنُدِبَ بِأَفْعَالِهِ الْجَائِزَةِ عُذِّبَ بِمَا نُدِبَ بِهِ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْ أَهْلِهِ النِّيَاحَةَ وَأَهْمَلَ نَهْيَهُمْ عَنْهَا رَاضِيًا بِذَلِكَ الْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاضٍ عُذِّبَ بِالنَّوْحِ ; لِأَنَّهُ أَهْمَلَ النَّهْيَ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحْتَاطَ فَنَهَاهُمْ ثُمَّ خَالَفُوهُ، فَعَذَابُهُ تَأَلُّمُهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْهُمْ مَنْ مُخَالَفَةٍ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَبِّهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ، لَكِنِ اخْتَصَرَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى آخِرِهِ، وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ تَامًّا.
[بَاب الْحِسْبَةِ فِي الْمُصِيبَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
13 -
بَابُ الْحِسْبَةِ فِي الْمُصِيبَةِ
الْحِسْبَةُ: الصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
554 -
556 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بْنِ
حَزْنٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ) ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) خَرَجَ الْكَافِرُ، قَالَ الْحَافِظُ: لَكِنْ هَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ مَاتَ لَهُ أَوْلَادٌ فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ:" «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ لِي وَلَدَانِ، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدَانِ فِي الْإِسْلَامِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» ". وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
(ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى الصُّلْبِيَّةَ عَلَى الظَّاهِرِ لِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: ثَلَاثَةٌ مِنْ صُلْبِهِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَفِي دُخُولِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بَحْثٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ الصُّلْبِ يَدْخُلُونَ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ فَقْدِ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَبِ، وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ مِنْ صُلْبِهِ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَزَادَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ. وَكَذَا لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَمُثَلَّثَةٍ، عَلَى الْمَحْفُوظِ أَيِ الْحُلُمَ، وَخَصَّ الصَّغِيرَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ وَالْحُبَّ لَهُمْ أَشَدُّ وَالرَّحْمَةَ أَوْفَرُ، فَمَنْ بَلَغَ الْحِنْثَ لَا يَحْصُلُ لِفَاقِدِهِ هَذَا الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ، وَبِهَذَا صَرَّحَ كَثِيرٌ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَالِغِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْعُقُوقُ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الرَّحْمَةِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ لِعَدَمِ خِطَابِهِ.
وَقَالَ الزَّيْنُ ابْنُ الْمُنِيرِ: بَلْ يَدْخُلُ الْكَبِيرُ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى ; لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الطِّفْلِ الَّذِي هُوَ كَلٌّ عَلَى أَبَوَيْهِ، فَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَبِيرِ الَّذِي بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وَوَصَلَ لَهُ مِنْهُ النَّفْعُ وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِالْحُقُوقِ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ حَدِيثِ أَنَسٍ: بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ ; لِأَنَّ الرَّحْمَةَ لِلصِّغَارِ أَكْثَرُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْإِثْمِ مِنْهُمْ، وَهَلْ يَلْحَقُ بِالصِّغَارِ مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مَثَلًا وَبَقِيَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ كَوْنَهُمْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي الْإِلْحَاقَ، وَكَوْنُ الِامْتِحَانِ بِهِمْ يَخِفُّ بِمَوْتِهِمْ يَقْتَضِي عَدَمَهُ، وَلَمْ يَقَعِ التَّقْيِيدُ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ بِشِدَّةِ الْحُبِّ وَلَا عَدَمِهِ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ لِمَا يُوجَدُ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِ النَّاسِ لِوَلَدِهِ وَتَبَرُّمِهِ بِهِ وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ ضَيِّقَ الْحَالِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ مَظِنَّةَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ نِيطَ بِهِ الْحُكْمُ وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ.
(فَتَمَسَّهُ النَّارُ) بِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلنَّفْي (إِلَّا تَحِلَّةَ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَشَدِّ اللَّامِ أَيْ مَا يَنْحَلُّ بِهِ (الْقَسَمِ) وَهُوَ الْيَمِينُ، أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71](سُورَةُ مَرْيَمَ: الْآيَةُ 71) عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَقْلِيلُ أَمْرِ وُرُودِهَا، وَهَذَا لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ، يُقَالُ مَا ضَرَبْتُهُ إِلَّا تَحْلِيلًا، إِذَا لَمْ يُبَالِغْ فِي الضَّرْبِ، أَيْ قَدْرًا يُصِيبُهُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ لَا تَمَسُّهُ النَّارُ كَثِيرًا وَلَا قَلِيلًا وَلَا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَقَدْ جَوَّزَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ مَجِيءَ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ وَجَعَلَا مِنْهُ:{لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ - إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 10 - 11](سُورَةُ النَّمْلِ: الْآيَةُ 10، 11) قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ لِيُعَاقَبَ بِهَا وَلَكِنَّهُ يَدْخُلُهَا مُجْتَازًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْجَوَازُ إِلَّا قَدْرَ مَا يُحِلُّ بِهِ الرَّجُلُ يَمِينَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، يَعْنِي الْوُرُودَ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قِيلَ: وَمَا تَحِلَّةُ الْقَسَمِ؟ قَالَ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] وَكَذَا حَكَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا: " «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ لَمْ يَرِدِ النَّارَ إِلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ» " يَعْنِي الْجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ مِنَ الْآيَةِ فَقِيلَ مُقَدَّرٌ هُوَ وَاللَّهِ وَإِنْ مِنْكُمْ، وَقِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقَسَمِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ:{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68](سُورَةُ مَرْيَمَ: الْآيَةُ 68) أَيْ وَرَبِّكَ إِنْ مِنْكُمْ. وَقِيلَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: {حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] أَيْ قَسَمًا وَاجِبًا وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْآيَةَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَسَمِ مَا دَلَّ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ مِنَ السِّيَاقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ)(سُورَةُ مَرْيَمَ: الْآيَةُ 71) تَذْيِيلٌ وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ} [النساء: 72] فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ أَوْ أَبْلَغُ ; لِمَجِيءِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: الْوُرُودُ الدُّخُولُ لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا:" «يَرِدُونَهَا أَوْ يَلِجُونَهَا ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ» " وَقِيلَ الْوُرُودُ: الْمُرُورُ عَلَيْهَا، رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَزَادَ:«سَيُورَدُ كُلٌّ عَلَى مَتْنِهَا، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَمْسِكِي أَصْحَابَكِ وَدَعِي أَصْحَابِي، فَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ نَدِيَّةً أَبْدَانُهُمْ» " وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ أَصَحُّ مَا وَرَدَ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ مِنْ عَبَّرَ بِالدُّخُولِ تَجَوَّزَ بِهِ عَنِ الْمُرُورِ ; لِأَنَّ الْمَارَّ عَلَيْهَا فَوْقَ الصِّرَاطِ فِي مَعْنَى مَنْ دَخَلَهَا، لَكِنْ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَعْمَالِهِمْ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، كَمَا فُصِّلَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، وَيُؤَيِّدُ صِحَّةَ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا قَالَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] (سُورَةُ مَرْيَمَ: الْآيَةُ 72) الْآيَةَ» " وَفِي هَذَا ضُعِّفَ الْقَوْلُ إِنَّ الْوُرُودَ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الدُّنُوُّ مِنْهَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ مَعْنَى وُرُودِهَا مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْحُمَّى عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَلَا يُنَافِيهِ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْبِرِّ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَائِلًا: إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ السَّلَمِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا كَانُوا لَهُ جُنَّةً مِنْ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ اثْنَانِ قَالَ أَوْ اثْنَانِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
555 -
557 - (مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي النَضْرِ السَّلَمِيِّ) كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى وَالْأَكْثَرُ غَيْرُ مُسَمًّى، وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَالْقَعْنَبِيُّ عَنْ أَبِي النَّضْرِ بِأَدَاةِ الْكُنْيَةِ، وَلِبَعْضِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ النَّضْرِ، وَلِبَعْضِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ، وَلَا يَصِحُّ، وَابْنُ النَّضْرِ هَذَا مَجْهُولٌ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْخَبَرِ، وَلَا أَعْلَمُ فِي الْمُوَطَّأِ رَجُلًا مَجْهُولًا غَيْرَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَكُنِّيَ تَارَةً بِأَبِي النَّضْرِ، وَهَذَا جَهْلٌ ; لِأَنَّ أَنَسًا نَجَّارِيٌّ لَيْسَ بِسَلَمِيٍّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَمْزَةَ بِإِجْمَاعٍ، قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ، زَادَ الدَّانِيُّ: وَأَنَسٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ النَّضْرُ فَلَمْ يُكَنَّ بِهِ، وَجَاءَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ الْمَعْنِيُّ هُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَذَكَرَ كَلَامَ التَّمْهِيدِ. وَقَالَ فِي الِاسْتِيعَابِ: مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرُوهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَبُو النَّضْرِ، كُلُّ ذَلِكَ قَالَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ. فَأَمَّا ابْنُ وَهْبٍ فَجَعَلَ الْحَدِيثَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيِّ، زَادَ الدَّانِيُّ: انْفَرَدَ ابْنُ وَهْبٍ بِهَذَا، قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: وَيُبْعِدُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ الْأَسْلَمِيَّ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) قَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ: سَاقَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ لِقَوْلِهِ (فَيَحْتَسِبُهُمْ) فَجَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ، وَهَكَذَا شَأْنُهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُوَطَّأِ، انْتَهَى. أَيْ يَصِيرُ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ رَاجِيًا فَضْلَهُ، فَمَنْ لَمْ يَحْتَسِبْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَعْدِ بَلْ مَنْ تَسَخَّطَ وَلَمْ يَرْضَ بِقَدَرِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِثْمِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(إِلَّا كَانُوا لَهُ جُنَّةً) بِضَمِّ الْجِيمِ وَشَدِّ النُّونِ أَيْ وِقَايَةً (مِنَ النَّارِ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ» " وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ عُقْبَةَ: " «مَنْ أَعْطَى ثَلَاثَةً مِنْ صُلْبِهِ فَاحْتَسَبَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» " قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ عُرِفَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الثَّوَابَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِ الِاحْتِسَابِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُطْلِقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُقَيِّدَةِ، لَكِنْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى اعْتِرَاضٍ لَفْظِيٍّ بِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْبَالِغِ احْتَسَبَ، وَفِي الصَّغِيرِ افْتَرَطَ، انْتَهَى. وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي مَوْضِعِ هَذَا، بَلْ ذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ احْتَسَبَ فُلَانٌ بِكَذَا طَلَبَ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِكَبِيرٍ أَوْ
صَغِيرٍ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ حُجَّةٌ فِي صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيَّةُ وَالِدَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، كَمَا لِلطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهَا، وَكَذَا سَأَلَتْهُ أُمُّ مُبَشِّرٍ الْأَنْصَارِيَّةُ عَنْ ذَلِكَ وَأُمُّ أَيْمَنَ، رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَائِشَةَ سَأَلَتْ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّ أُمَّ هِانِئٍ سَأَلَتْ عَنْ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ. وَأَمَّا تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ فَبَعِيدٌ ; لِأَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُمَا كَذَلِكَ يَبْعُدُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الثَّلَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، نَعَمْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ مِمَّنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَا عُمَرُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا أَبُو ذَرٍّ، وَهَذَا لَا يَبْعُدُ تَعَدُّدُهُ ; لِأَنَّ عِلْمَ النِّسَاءِ بِذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الرِّجَالِ.
(يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوِ اثْنَانِ) قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ إِذْ لَوِ اعْتَبَرَتْهُ لَانْتَفَى الْحُكْمُ عِنْدَهَا عَمَّا عَدَا الثَّلَاثَةَ، لَكِنَّهَا جَوَّزَتْ ذَلِكَ فَسَأَلَتْ كَذَا، قَالَ: وَتَبِعَهُ ابْنُ التِّينِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا اعْتَبَرَتْ مَفْهُومَ الْعَدَدِ إِذْ لَوْ لَمْ تَعْتَبِرْهُ لَمْ تَسْأَلْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ دَلَالَتَهُ لَيْسَتْ نَصًّا بَلْ مُحْتَمَلَةً وَلِذَا سَأَلَتْ (قَالَ أَوِ اثْنَانِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ، وَلَا بُعْدَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ فِي أَسْرَعِ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ لَكِنَّهُ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّكِلُوا ; لِأَنَّ مَوْتَ الِاثْنَيْنِ غَالِبًا أَكْثَرُ مِنْ مَوْتِ الثَّلَاثَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ فِي الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ، ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْجَوَابِ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمِ الثَّلَاثَةِ وَالِاثْنَيْنِ وَيَتَنَاوَلُ الْأَرْبَعَةَ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَلِذَا لَمْ تَسْأَلْ عَمَّا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُصِيبَةَ إِذَا كَثُرَتْ كَانَ الْأَجْرُ أَعْظَمَ. وَقَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: خُصَّتِ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْكَثْرَةِ فَتَعْظُمُ الْمُصِيبَةُ بِكَثْرَةِ الْأَجْرِ، وَأَمَّا إِنْ زَادَ عَلَيْهَا فَقَدْ يَخِفُّ أَمْرُ الْمُصِيبَةِ لِكَوْنِهَا تَصِيرُ كَالْعَادَةِ كَمَا قِيلَ: رُوِّعْتُ بِالْبَيْنِ حَتَّى مَا أُرَاعُ لَهُ. جُمُودٌ شَدِيدٌ فَإِنْ مَاتَ لَهُ أَرْبَعَةٌ فَقَدْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ ضَرُورَةً ; لِأَنَّهُمْ إِنْ مَاتُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَقَدْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَزِيَادَةٌ، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْمُصِيبَةَ بِذَلِكَ أَشَدُّ، وَإِنْ مَاتُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ مَوْتِ الثَّالِثِ بِنَصِّ الصَّادِقِ، فَيَلْزَمُ عَلَى كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ إِنْ مَاتَ لَهُ أَرْبَعٌ ارْتَفَعَ لَهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ مَعَ تَجَدُّدِ الْمُصِيبَةِ، وَكَفَى بِهَذَا فَسَادًا. وَلِابْنِ حِبَّانَ: فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: يَا لَيْتَنِي قُلْتُ وَوَاحِدٌ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ. وَلِأَحْمَدَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَاحْتَسَبَهُمْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ» " قَالَ مَحْمُودٌ لِجَابِرٍ: أَرَاكُمْ لَوْ قُلْتُمْ وَوَاحِدٌ لَقَالَ وَوَاحِدٌ، وَأَنَا أَظُنُّ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ دَفَنَ ثَلَاثَةً فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ وَاحْتَسَبَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: أَوِ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: أَوِ اثْنَيْنِ، فَقَالَتْ: وَوَاحِدٌ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ
قَالَ: وَوَاحِدٌ» " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا مِنَ النَّارِ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: وَاثْنَيْنِ، قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا؟ قَالَ: وَوَاحِدًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ، وَعِنْدَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَنْ لَهُ فَرَطٌ؟ قَالَ: وَمَنْ لَهُ فَرَطٌ» "، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، لَكِنْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ» ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَتَعْمِيمُهُ نَفْيَ صَلَاحِيَّةِ شَيْءٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ فِيهِ شَيْءٌ، فَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصَابُ فِي وَلَدِهِ وَحَامَّتِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَتْ لَهُ خَطِيئَةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
555 -
558 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا لِعَامَّةِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَرَوَاهُ مَعْنٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنْ أَبِي الْحُبَابِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ (سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصَابُ فِي وَلَدِهِ) ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (وَحَامَّتِهِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ فَفَوْقِيَّةٍ، أَيْ قَرَابَتِهِ وَخَاصَّتِهِ وَمَنْ يُحْزِنُهُ ذَهَابُهُ وَمَوْتُهُ، جَمْعُ حَمِيمٍ (حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَتْ لَهُ خَطِيئَةٌ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ يَحُطُّ عَنْهُ خَطَايَاهُ بِذَلِكَ أَوْ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَا يَزِنُ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَهَذَا لِمَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ كَمَا مَرَّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَزَالُ الْبَلَايَا بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "«مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» ".
[بَاب جَامِعِ الْحِسْبَةِ فِي الْمُصِيبَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمْ الْمُصِيبَةُ بِي»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
14 -
بَابُ جَامِعِ الْحِسْبَةِ فِي الْمُصِيبَةِ
557 -
559 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ، قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: وَزَادَتْ طَائِفَةٌ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِيُعَزِّ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ التَّعْزِيَةِ وَهِيَ الْحَمْلُ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّسَلِّي، قَالَ تَعَالَى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155 - 156](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 155، 156)(الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمُ الْمُصِيبَةُ بِي) ; لِأَنَّ كُلَّ مُصَابٍ بِهِ دُونَهَا إِذْ كُلُّ مُصَابٍ بِهِ عَنْهُ عِوَضٌ وَلَا عِوَضَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَةِ مَنْ بِمَوْتِهِ انْقَطَعَ خَبَرُ السَّمَاءِ وَمَنْ هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَهْجٌ لِلدِّينِ؟ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: مَا نَفَضْنَا أَيْدِينَا مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا، وَلِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ:
لِكُلِّ أَخِي ثُكْلٍ عَزَاءٌ وَأُسْوَةٌ
…
إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ التُّقَى فِي مُحَمَّدِ
وَقَالَ غَيْرُهُ:
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ
…
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
وَإِذَا ذَكَرْتَ مُصِيبَةً تَسْلُو بِهَا
…
فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَقَالَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَعْقِبْنِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ ذَلِكَ ثُمَّ قُلْتُ وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَتَزَوَّجَهَا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
558 -
560 - (مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخٍ الْمَدَنِيِّ الْمَعْرُوفِ بِرَبِيعَةَ الرَّأْيِ، ثِقَةٌ، فَقِيهٌ مَشْهُورٌ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هِنْدِ بِنْتِ أُمَيَّةَ (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثٍ وَمَاتَتْ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ سَنَةَ إِحْدَى، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَلَمْ يُدْرِكْهَا رَبِيعَةُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ يَتَّصِلُ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى إِلَّا أَنْ بَعْضَهُمْ يَجْعَلُهُ لِأُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْضَهُمْ يَجْعَلُهُ لِأُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَصَابَتْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ "(مُصِيبَةٌ) أَيُّ مُصِيبَةٌ كَانَتْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «كُلُّ شَيْءٍ سَاءَ الْمُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيبَةٌ» " رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، قَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا اللَّفْظُ مَوْضُوعٌ فِي أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ لِكُلِّ مَنْ نَالَهُ شَرٌّ أَوْ خَيْرٌ، وَلَكِنْ يَخْتَصُّ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بِالرَّزَايَا وَالْمَكَارِهِ (فَقَالَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ) بِالثَّنَاءِ وَالتَّبْشِيرِ لِقَائِلِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَدْبَهُ وَالْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى الْمُخْتَارِ فِي الْأُصُولِ (إِنَّا لِلَّهِ) مِلْكًا وَعَبِيدًا يَفْعَلُ بِنَا مَا يَشَاءُ (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فِي الْآخِرَةِ فَيُجَازِينَا. وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ: " «إِنَّ مِصْبَاحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طُفِيَ فَاسْتَرْجَعَ، فَقَالَتْ
عَائِشَةُ: إِنَّمَا هَذَا مِصْبَاحٌ فَقَالَ: كُلُّ مَا سَاءَ الْمُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيبَةٌ» ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الْأَمْرِ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ بَلْ تَبْشِيرُ مَنْ قَالَهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى غَيْرِ الْقُرْآنِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ الْبَارِي بِذَلِكَ وَلِذَا وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ:(اللَّهُمَّ أْجُرْنِي) بِقَصْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، قَالَ عِيَاضٌ: يُقَالُ أَجَرَ بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ مَقْصُورٌ لَا يُمَدُّ أَيْ أَعْطِنِي أَجْرِي وَجَزَاءَ صَبْرِي وَهَمِّي (فِي مُصِيبَتِي وَأَعْقِبْنِي) بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْقَافِ، بِمَعْنَى - رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ - وَأَخْلِفْ لِي بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ (خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِ) وَلِمُسْلِمٍ: إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا. وَلَهُ أَيْضًا إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ أَنْ يَفْزَعَ إِلَى ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ عَلَى اللَّهِ ثَلَاثَ خِصَالٍ، كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ وَالْهُدَى، انْتَهَى. وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ:" «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ: أَنْ يَقُولُوا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) » ". وَلِابْنِ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " لَقَدْ أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ مَا لَمْ يُعْطَ الْأَنْبِيَاءُ مِثْلَهُ: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، وَلَوْ أُعْطِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ لَأُعْطِيَهُ يَعْقُوبُ ; إِذْ قَالَ: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] ".
وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قَوْلُ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَوْرًا، وَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَخَبَرُ: إِذَا ذَكَرَهَا وَلَوْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا فَاسْتَرْجَعَ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا يَوْمَ وُقُوعِهَا زِيَادَةُ فَضْلٍ لَا يُنَافِي الِاسْتِحْبَابَ بِفَوْرِ وُقُوعِ الْمُصِيبَةِ.
(قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، أَخُو النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَضَاعِ ثُوَيْبَةَ، وَابْنُ عَمَّتِهِ بُرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ مِنَ السَّابِقِينَ، شَهِدَ بَدْرًا، وَمَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ أُحُدٍ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ:" «دَخَلَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» "(قُلْتُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ الِاسْتِرْجَاعِ وَمَا بَعْدَهُ (ثُمَّ قُلْتُ: وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ) أَيْ قَالَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَلَمْ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهَا وَلَا أَنْكَرَتْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ حَقًّا، وَلَكِنْ هُوَ شَيْءٌ يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ قَائِلٌ لَمُنِعَ الْعِوَضَ كَمَا يُمْنَعُ الَّذِي يَعْجَلُ بِدُعَائِهِ الْإِجَابَةَ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِي مُسْلِمٍ: فَلَمَّا مَاتَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَبِّيُّ: الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا فَلَا
يَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ; لِأَنَّ الْأَخِيرَ فِي ذَاتِهِ قَدْ لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعْنِيَ أَنَّهُ خَيْرٌ مُطْلَقًا، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي زَمَنِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ، انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَالْخِلَافُ شَاذٌّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ (فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَتَزَوَّجَهَا) وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَقِيقٍ «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا مَاتَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ، قَالَ: قُولِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً» ، فَقُلْتُ فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ هَلَكَتْ امْرَأَةٌ لِي فَأَتَانِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يُعَزِّينِي بِهَا فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا وَلَهَا مُحِبًّا فَمَاتَتْ فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا شَدِيدًا وَلَقِيَ عَلَيْهَا أَسَفًا حَتَّى خَلَا فِي بَيْتٍ وَغَلَّقَ عَلَى نَفْسِهِ وَاحْتَجَبَ مِنْ النَّاسِ فَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَإِنَّ امْرَأَةً سَمِعَتْ بِهِ فَجَاءَتْهُ فَقَالَتْ إِنَّ لِي إِلَيْهِ حَاجَةً أَسْتَفْتِيهِ فِيهَا لَيْسَ يُجْزِينِي فِيهَا إِلَّا مُشَافَهَتُهُ فَذَهَبَ النَّاسُ وَلَزِمَتْ بَابَهُ وَقَالَتْ مَا لِي مِنْهُ بُدٌّ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ إِنَّ هَاهُنَا امْرَأَةً أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَفْتِيَكَ وَقَالَتْ إِنْ أَرَدْتُ إِلَّا مُشَافَهَتَهُ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ وَهِيَ لَا تُفَارِقُ الْبَابَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهَا فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ إِنِّي جِئْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَمْرٍ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَتْ إِنِّي اسْتَعَرْتُ مِنْ جَارَةٍ لِي حَلْيًا فَكُنْتُ أَلْبَسُهُ وَأُعِيرُهُ زَمَانًا ثُمَّ إِنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَيَّ فِيهِ أَفَأُؤَدِّيهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ نَعَمْ وَاللَّهِ فَقَالَتْ إِنَّهُ قَدْ مَكَثَ عِنْدِي زَمَانًا فَقَالَ ذَلِكِ أَحَقُّ لِرَدِّكِ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ حِينَ أَعَارُوكِيهِ زَمَانًا فَقَالَتْ أَيْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَفَتَأْسَفُ عَلَى مَا أَعَارَكَ اللَّهُ ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْكَ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ فَأَبْصَرَ مَا كَانَ فِيهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
559 -
561 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ) ابْنِ الصِّدِّيقِ (أَنَّهُ قَالَ: هَلَكَتِ امْرَأَةٌ لِي فَأَتَانِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ) بِضَمِّ الْقَافِ، الْمَدَنِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّ أَبَاهُ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَنْبُتْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ قَبْلَهَا (يُعَزِّينِي بِهَا فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ) فِي الْعِبَادَةِ وَمَا قَبْلَهَا (وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا) مُسْتَحْسِنًا لَهَا رَاضِيًا بِجَمَالِهَا (لَهَا) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَهَا بِالْوَاوِ (مُحِبًّا، فَمَاتَتْ فَوَجَدَ) حَزِنَ (عَلَيْهَا وَجْدًا) حُزْنًا (شَدِيدًا، وَلَقِيَ عَلَيْهَا أَسَفًا) تَلَهُّفًا وَحُزْنًا (حَتَّى خَلَا فِي بَيْتٍ وَغَلَّقَ) بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ، قَفَلَ (عَلَى نَفْسِهِ وَاحْتَجَبَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ) لِمَا غَلَبَهُ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ (وَإِنَّ امْرَأَةً سَمِعَتْ بِهِ فَجَاءَتْهُ فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْهِ حَاجَةً أَسْتَفْتِيهِ) أَطْلُبُ فُتْيَاهُ (فِيهَا لَيْسَ يُجْزِينِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ أَجْزَأَ بِمَعْنَى أَغْنَى، أَيْ يُغْنِينِي، وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ جَزَى، نَقَلَهُمَا الْأَخْفَشُ لُغَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَقَالَ: الثُّلَاثِيُّ بِلَا هَمْزٍ لُغَةُ الْحِجَازِ وَالرُّبَاعِيُّ الْمَهْمُوزُ لُغَةُ تَمِيمٍ (فِيهَا إِلَّا مُشَافَهَتُهُ) خِطَابُهُ بِالشِّفَاهِ بِلَا وَاسِطَةٍ (فَذَهَبَ النَّاسُ وَلَزِمَتْ بَابَهُ، وَقَالَتْ مَا لِي مِنْهُ بُدٌّ) أَيْ مَحِيدٌ (فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ:
إِنَّ هَاهُنَا امْرَأَةً أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَفْتِيَكَ وَقَالَتْ: إِنْ) نَافِيَةٌ أَيْ مَا (أَرَدْتُ إِلَّا مُشَافَهَتَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ وَهِيَ لَا تُفَارِقُ الْبَابَ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهَا فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: إِنِّي جِئْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَمْرٍ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَتْ: إِنِّي اسْتَعَرْتُ مِنْ جَارَةٍ لِي حَلْيًا) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، مُفْرَدُ حُلِيٍّ بِضَمَّتَيْنِ (فَكُنْتُ أَلْبَسُهُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ (وَأُعِيرُهُ زَمَانًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَيَّ فِيهِ أَفَأُؤَدِّيهِ إِلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ) يَلْزَمُكِ تَأْدِيَتُهُ، وَأَقْسَمَ تَأْكِيدًا لِلْفَتْوَى (فَقَالَتْ: إِنَّهُ قَدْ مَكَثَ عِنْدِي زَمَانًا، فَقَالَ: ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ (أَحَقُّ لِرَدِّكِ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ حِينَ أَعَارُوكِيهِ زَمَانًا، فَقَالَتْ: أَيْ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، نِدَاءٌ لِلْقَرِيبِ (يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَفَتَأْسَفُ عَلَى مَا أَعَارَكَهُ) وَلِابْنِ وَضَّاحٍ أَعَارَكَ (اللَّهُ ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْكَ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ) قَالَ لَبِيدٌ:
وَمَا الْمَالُ وَالْأَهْلُونَ إِلَّا وَدَائِعُ
…
وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ
(فَأَبْصَرَ مَا كَانَ فِيهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهَا) فَفِيهِ وَعْظُ الْعَالِمِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاعِظُ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ فَقَدَ يُخْطِئُ الْفَاضِلُ، وَيُوَفَّقُ الْمَفْضُولُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. وَفِي الِاسْتِذْكَارِ هَذَا خَبَرٌ حَسَنٌ عَجِيبٌ فِي التَّعَازِي وَلَيْسَ فِي كُلِّ الْمُوَطَّآتِ، وَمَا ذَكَرَتْهُ مِنَ الْعَارِيَةِ لِلْحُلِيِّ عَلَى جِهَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَا يَدْخُلُ فِي مَذْمُومِ الْكَذِبِ، بَلْ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «لَيْسَ بِالْكَاذِبِ مَنْ قَالَ خَيْرًا أَوْ نَمَى خَيْرًا أَوْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ» "، انْتَهَى. وَقَدْ ضَرَبَتِ الْمَثَلَ بِالْعَارِيَةِ أُمُّ سُلَيْمٍ لِزَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْمُصْطَفَى فَأَقَرَّهُ، وَذَلِكَ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ مِنْهَا أَبُو عُمَيْرٍ وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ أَبُو طَلْحَةَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: كَيْفَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ: هَدَأَتْ نَفْسُهُ وَأَرْجُو أَنَّهُ اسْتَرَاحَ، وَقَرَّبَتْ لَهُ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ تَطَيَّبَتْ وَتَعَرَّضَتْ لَهُ حَتَّى وَاقَعَهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا أَهْلَ بَيْتٍ عَارِيَةً فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَتْ: فَاحْتَسِبْ ابْنَكَ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: تَرَكْتِينِي حَتَّى تَلَطَّخْتُ ثُمَّ أَخْبَرْتِينِي بِابْنِي. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إِنَّ الْعَارِيَةَ مُؤَدَّاةٌ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ أَعَارَنَا غُلَامًا ثُمَّ أَخَذَهُ مِنَّا، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَا
كَانَ مِنْهَا فَقَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا، فَجَاءَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ. قَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُ تِسْعَةَ أَوْلَادٍ، بِتَقْدِيمِ التَّاءِ عَلَى السِّينِ، كُلُّهُمْ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، كَمَا ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْأَنْسَابِ مِنْ أَسْمَاءِ أَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ، مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَمَلَ الْعِلْمَ: إِسْحَاقُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَيَعْقُوبُ، وَعُمَيْرٌ، وَعَمْرٌو، وَمُحَمَّدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَزَيْدٌ، وَالْقَاسِمُ، تِسْعَةٌ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي الْاخْتِفَاءِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُخْتَفِيَ وَالْمُخْتَفِيَةَ يَعْنِي نَبَّاشَ الْقُبُورِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
15 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاخْتِفَاءِ
وَلِابْنِ وَضَّاحٍ الْمُخْتَفِي وَهُوَ النَّبَّاشُ.
560 -
562 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَخِفَّةِ الْجِيمِ، مَشْهُورٌ بِهَذِهِ الْكُنْيَةِ، وَهِيَ لَقَبٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْلَادٍ رِجَالٍ، وَكُنْيَتُهُ فِي الْأَصْلِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ (مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ مِنَ الثِّقَاتِ، خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ) أَرْسَلَهُ الْمُوَطَّأُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَسْنَدَهُ يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْبَاجِيُّ: اللَّعْنُ لُغَةً الْإِبْعَادُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبْعَادِ مِنَ الْخَيْرِ (الْمُخْتَفِيَ وَالْمُخْتَفِيَةَ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِيهِمَا اسْمُ فَاعِلٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتُهُ وَأَخْفَيْتُهُ سَتَرْتُهُ، وَقُرِئَ:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15](سُورَةُ طه: الْآيَةُ 15) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا، وَقِيلَ خَفَيْتُ بِمَعْنَى سَتَرْتُ وَأَظْهَرْتُ (يَعْنِي نَبَّاشَ الْقُبُورِ) تَفْسِيرٌ لِمَالِكٍ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ تَحْرِيمُ النَّبْشِ، كَمَا لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ وَبَائِعَهَا وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرْوَى الْمُخْتَفِي بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَالِاحْتِفَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ اقْتِلَاعُ الشَّيْءِ وَكُلُّ مَنْ يَقْتَلِعُ شَيْئًا فَهُوَ مُحْتَفٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَقُولُ كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيْتًا كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ تَعْنِي فِي الْإِثْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
560 -
563 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَلِبَعْضِهِمْ: مَالِكٌ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ عَنْ مَالِكٍ (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَقُولُ: كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ، يَعْنِي فِي الْإِثْمِ) لِلِاتِّفَاقِ عَلَى حُرْمَةِ فِعْلِ ذَلِكَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لَا فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، فَمَرْفُوعَانِ عَنْ كَاسِرِ عَظْمِ الْمَيِّتِ، إِجْمَاعًا، وَهَذَا جَاءَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» " حَسَّنَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهَا، وَزَادَ فِي الْإِثْمِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ.
[بَاب جَامِعِ الْجَنَائِزِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ «أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِهَا وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
16 -
بَابُ جَامِعِ الْجَنَائِزِ
562 -
564 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبَّادِ) بِشَدِّ الْمُوَحَّدَةِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ، كَانَ قَاضِيَ مَكَّةَ زَمَنَ أَبِيهِ، وَخَلِيفَتَهُ إِذَا حَجَّ (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِهَا، وَأَصْغَتْ) بِإِسْكَانِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ أَمَالَتْ سَمْعَهَا (إِلَيْهِ يَقُولُ) وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: وَهُوَ يَقُولُ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي) فِيهِ نَدْبُ الدُّعَاءِ بِهِمَا وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَإِذَا دَعَا بِذَلِكَ الْمُصْطَفَى فَأَيْنَ غَيْرُهُ مِنْهُ، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْخُضُوعِ وَالضَّرَاعَةِ وَالرَّجَاءِ، وَذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ. (وَأَلْحِقْنِي) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ (بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى) وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ذَكْوَانَ عَنْ عَائِشَةَ:" «فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ» " وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ عَنْ عَائِشَةَ: " «فَقَالَ مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
إِلَى قَوْلِهِ: رَفِيقًا» وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ رَفِيقًا تَعَاوُنُهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَارْتِفَاقُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَأَفْرَدَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ، فَالْمُرَادُ بِالرَّفِيقِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ:" «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى الْأَسْعَدَ مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ» " وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرَّفِيقَ الْمَكَانُ الَّذِي تَحْصُلُ الْمُرَافَقَةُ فِيهِ مَعَ الْمَذْكُورِينَ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَرُدُّ زَعْمَ أَنَّ الرَّفِيقَ تَغْيِيرٌ مِنَ الرَّاوِي وَالصَّوَابُ الرَّقِيعَ بِالْقَافِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَالْجَوْهَرِيُّ: الْجَنَّةُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى اللَّهُ عز وجل ; لِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا:" «أَنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرَّفِيقَ» " وَهُوَ صِفَةُ ذَاتٍ كَالْحَلِيمِ، أَوْ صِفَةُ فِعْلٍ، وَغَلَّطَ الْأَزْهَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ سَائِغٌ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي اخْتِتَامِ كَلَامِ الْمُصْطَفَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ تَضَمُّنُهَا التَّوْحِيدُ وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ حَتَّى يُسْتَفَادَ مِنْهُ الرُّخْصَةُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ ; لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَمْنَعُهُ مِنَ النُّطْقِ مَانِعٌ فَلَا يَضُرُّهُ إِذَا كَانَ قَلْبُهُ عَامِرًا بِالذِّكْرِ. قَالَ: وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْوَاقِدِيِّ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْتَرْضَعٌ عِنْدَ حَلِيمَةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَآخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، يَعْنِي فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَتْ عَائِشَةُ:" فَكَانَتْ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهَا صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» " وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ: " آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ «جَلَالُ رَبِّي الرَّفِيعِ وَقَدْ بَلَّغْتُ ثُمَّ قَضَى» " وَجَمْعٌ بِأَنَّ هَذَا آخِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَعْدَمَا كَرَّرَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى قَبْلَ جَلَالِ، أَيْ أَخْتَارُ جَلَالَ رَبِّي الرَّفِيعِ قَدْ بَلَّغْتُ مَا أُوحِيَ إِلَيَّ.
وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الْمَنَاقِبِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ بِهِ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّرَ قَالَتْ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى فَعَرَفْتُ أَنَّهُ ذَاهِبٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
562 -
565 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ نَبِيٍّ) أَرَادَ مَا يَشْمَلُ الرَّسُولَ (يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّرَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (قَالَتْ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ) فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، كَمَا فِي رِوَايَةِ سَعْدٍ (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ ذَاهِبٌ) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا: " كَانَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ، ثُمَّ يُحَيَّا أَوْ يُخَيَّرُ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْقَبْضُ غُشِيَ
عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فَقُلْتُ إِذَنْ لَا يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ» "، وَفِي مَغَازِي أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَخَيَّرَهُ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَالْخُلْدَ ثُمَّ الْجَنَّةَ، فَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي وَالْجَنَّةِ، فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ» " وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ طَاوُسٍ رَفَعَهُ: " «خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَبْقَى حَتَّى أَرَى مَا يُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِي وَبَيْنَ التَّعْجِيلِ فَاخْتَرْتُ التَّعْجِيلَ» ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ يُقَالُ لَهُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
564 -
566 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ» ) أَيْ فِيهِمَا، قَالَ الْبَاجِيُّ: الْعَرْضُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى حَيٍّ يَعْلَمُ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيَفْهَمُ مَا يُخَاطَبُ بِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ غَدَاةً وَاحِدَةً وَعَشِيَّةً وَاحِدَةً، وَيَحْتَمِلُ كُلَّ غَدَاةٍ وَكُلَّ عَشِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ غَدَاةً وَاحِدَةً وَعَشِيَّةً وَاحِدَةً يَكُونُ الْعَرْضُ فِيهِمَا، وَيَكُونُ مَعْنى حَتَّى يَبْعَثَكَ أَيْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَيَحْتَمِلُ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيٍّ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْيَا مِنْهُ جُزْءٌ لِيُدْرِكَ ذَلِكَ، فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ تُعَادَ الْحَيَاةُ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ أَجْزَاءٍ، وَتَصِحُّ مُخَاطَبَتُهُ وَالْعَرْضُ عَلَيْهِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْأَوَّلُ مُوَافِقٌ لِأَحَادِيثِ سِيَاقِ الْمَسْأَلَةِ وَعَرْضُ الْمَقْعَدَيْنِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَجُوزُ أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَعَ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَقْتُهُمَا وَإِلَّا فَالْمَوْتَى لَا صَبَاحَ عِنْدَهُمْ وَلَا مَسَاءَ، قَالَ: وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَاضِحٌ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُخَلِّطُ فَمُحْتَمَلٌ أَيْضًا فِي حَقِّهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الشُّهَدَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فَائِدَةُ الْعَرْضِ فِي حَقِّهِمْ تَبْشِيرُ أَرْوَاحِهِمْ بِاسْتِقْرَارِهَا فِي الْجَنَّةِ مُقْتَرِنَةً بِأَجْسَادِهَا فَإِنَّ فِيهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَا هِيَ فِيهِ الْآنَ.
(إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) اتَّحَدَ فِيهِ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ لَفْظًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ، قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: التَّقْدِيرُ: فَمَقْعَدٌ مِنْ مَقَاعِدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ إِذَا اتَّحَدَا لَفْظًا دَلَّ عَلَى الْفَخَامَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى بَعْدَ الْبَعْثِ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ مَا يُنْسِيهِ هَذَا الْمَقْعَدَ، انْتَهَى. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْجَنَّةُ، أَيْ فَالْمَعْرُوضُ الْجَنَّةُ.
(وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ) أَيْ فَمَقْعَدُهُ مِنْ مَقَاعِدِ أَهْلِهَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ أَوْ يَعْلَمُ بِالْعَكْسِ مِمَّا يُسَرُّ بِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ طَلِيعَةُ تَبَاشِيرِ أَهْلِ السَّعَادَةِ الْكُبْرَى وَمُقَدِّمَةُ تَبَارِيحِ الشَّقَاوَةِ الْعُظْمَى، وَفِي ذَلِكَ
تَنْعِيمٌ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَعْذِيبٌ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِمُعَايَنَةِ مَا أُعِدَّ لَهُ، وَانْتِظَارِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ (يُقَالُ) لَهُ (هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بِلَفْظِ إِلَى وَلِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِهَا، وَلِيَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ إِلَيْهِ بِالضَّمِيرِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: وَالْمَعْنَى حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْمَقْعَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، فَإِلَى اللَّهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: ثُمَّ يُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ الَّذِي تُبْعَثُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَكِنْ بِحَذْفِ إِلَيْهِ كَالْأَكْثَرِينَ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَنَّ الرُّوحَ لَا تَفْنَى بِفَنَاءِ الْجَسَدِ ; لِأَنَّ الْعَرْضَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى حَيٍّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ بِذَلِكَ أَصَحُّ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْمَعْنَى عِنْدِي أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ لَا أَنَّهَا لَا تُفَارِقُهَا بَلْ هِيَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
565 -
567 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ) أَيْ جَمِيعَ جِسْمِهِ وَيَنْعَدِمُ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ لَكِنْ زَالَتْ أَعْرَاضُهَا الْمَعْهُودَةُ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَمْ يَدُلَّ قَاطِعُ سَمْعِي عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، وَلَا بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ أَجْسَامُ الْعِبَادِ بِصِفَةِ أَجْسَامِ التُّرَابِ، ثُمَّ تُعَادُ بِتَرْكِيبِهَا إِلَى الْمَعْهُودِ (إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ، وَيُقَالُ بِالْمِيمِ وَهُوَ الْعُصْعُصُ أَسْفَلُ الْعَظْمِ الْهَابِطِ مِنَ الصُّلْبِ، فَإِنَّهُ قَاعِدَةُ الْبَدَنِ كَقَاعِدَةِ الْجِدَارِ فَلَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ ; لِأَنَّهُ (مِنْهُ خُلِقَ) أَيِ ابْتُدِئَ خَلْقُهُ (وَمِنْهُ يُرَكَّبُ) خَلْقُهُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ احْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ وَابْتِدَاءُ التَّرْكِيبِ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الْبَاجِيُّ فَقَالَ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا خُلِقَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى مِنْهُ لِيُعَادَ تَرْكِيبُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عُمُومٌ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ لِمَا رُوِيَ فِي أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُهُمْ، وَحَسْبُكَ مَا جَاءَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ، إِذْ أُخْرِجُوا بَعْدَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً لَيِّنَةً أَجْسَادُهُمْ، يَعْنِي أَطْرَافَهُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَهُ مَنْ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ فَلَا تَأْكُلُ مِنْهُ عَجْبَ الذَّنَبِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ لَا تَأْكُلَهُ جَازَ أَنْ لَا تَأْكُلَ الشُّهَدَاءَ، وَإِنَّمَا فِي هَذَا التَّسْلِيمُ لِمَنْ يَجِبُ لَهُ التَّسْلِيمُ صلى الله عليه وسلم، انْتَهَى. وَزَادَ غَيْرُهُ: الصِّدِّيقِينَ وَالْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ، وَالْمُؤَذِّنَ الْمُحْتَسِبَ، وَحَامِلَ الْقُرْآنِ الْعَامِلَ بِهِ، وَالْمُرَابِطَ، وَالْمَيِّتَ
بِالطَّاعُونِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَالْمُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمُحِبِّينَ لِلَّهِ، فَتِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
566 -
568 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ) أَبِي الْخَطَّابِ الْمَدَنِيِّ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَيُقَالُ وُلِدَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ) السُّلَمِيَّ الْمَدَنِيَّ، الصَّحَابِيَّ الْمَشْهُورَ، أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما (كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ، أَيْ رُوحَهُ، وَفِي كِتَابِ أَبِي الْقَاسِمِ الْجَوْهَرِيِّ: النَّسَمَةُ الرُّوحُ وَالنَّفْسُ وَالْبَدَنُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرُّوحَ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَكُونُ فِيهِ الرُّوحُ مِنَ الْمَيِّتِ قَبْلَ الْبَعْثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ الرُّوحِ تَبْقَى فِيهِ الرُّوحُ. (طَيْرٌ يَعْلَقُ) بِالتَّحْتِيَّةِ، صِفَةُ طَيْرٍ، وَبِفَتْحِ اللَّامِ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَرُوِيَ بِضَمِّهَا، قَالَ: وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالرَّعْيُ. (فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ) لِتَأْكُلَ مِنْ ثِمَارِهَا. وَقَالَ الْبُونِيُّ: مَعْنَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ تَأْوِي، وَالضَّمِّ تَرْعَى، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا ذُقْتُ الْيَوْمَ عَلُوقًا. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: يَعْلَقُ بِفَتْحِ اللَّامِ يَتَشَبَّثُ بِهَا وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْهَا، وَمَنْ رَوَاهُ بِضَمِّ اللَّامِ فَمَعْنَاهُ يُصِيبُ مِنْهَا الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ فَقَدْ أَصَابَ دُونَ مَا أَصَابَ غَيْرُهُ مِمَّنْ أَدْرَكَ الرَّغَدَ أَيِ الْعَيْشَ الْوَاسِعَ فَهُوَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ يُفْهَمُ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ أَرَادَ بِتَعَلُّقِ الْأَكْلِ نَفْسِهِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالشَّهِيدِ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ الضَّمِّ لِلشَّهِيدِ وَالْفَتْحِ لِمَنْ دُونَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ رَسُولِهِ، انْتَهَى.
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَامٌّ فِي الشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا لَمْ يَحْبِسْهُمْ عَنِ الْجَنَّةِ كَبِيرَةٌ وَلَا دَيْنٌ، أَوْ خَاصٌّ بِالشُّهَدَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لَا يَدُلَّانِ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ، حَكَاهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَذَكَرَ بَعْضَ أَدِلَّةِ الثَّانِي، وَقَالَ: بِحَمْلِهِ عَلَى الشُّهَدَاءِ يَزُولُ مَا ظَنَّهُ قَوْمٌ مِنْ مُعَارَضَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ فِي عَرْضِ الْمَقْعَدِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ يَرَاهَا فِي جَمِيعِ أَحْيَانِهِ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا إِنَّمَا هَذَا فِي الشُّهَدَاءِ خَاصَّةً وَمَا قَبِلَهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ ابْنُ كَثِيرٍ فَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:«إِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَيْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فَفِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، فَهِيَ كَالرَّاكِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْوَاحِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا تَطِيرُ بِأَنْفُسِهَا، فَهُوَ بُشْرَى لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بِأَنَّ رُوحَهُ
تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ أَيْضًا وَتَسْرَحُ فِيهَا وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَرَى مَا فِيهَا مِنَ النُّضْرَةِ وَالسُّرُورِ. (حَتَّى يَرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَزِيزٌ عَظِيمٌ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَئِمَّةٍ، فَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
567 -
569 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّاهُ عَنِ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةٍ، قَالَهُ الْحَافِظُ. - (إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي) عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ إِنْ عَايَنَ مَا يُحِبُّ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَإِنْ عَايَنَ مَا يَكْرَهُ لَمْ يُحِبَّ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّنْيَا، هَذَا مَعْنَاهُ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ الْآثَارُ الْمَرْفُوعَةُ، وَذَلِكَ حِينَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَوْتَ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ كَرَاهَتِهِ نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَكِنَّ الْمَكْرُوهَ مِنْ ذَلِكَ إِيثَارُ الدُّنْيَا وَكَرَاهَةُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. (أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ) أَيْ أَرَدْتُ لَهُ الْخَيْرَ. (وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ) زَادَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «فَقَالَتْ عَائِشَةُ:" إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ".
وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ وَيُوَفِّقُهُ حَتَّى يُقَالَ مَاتَ بِخَيْرِ مَا كَانَ، فَإِذَا حُضِرَ وَرَأَى إِلَى ثَوَابِهِ اشْتَاقَتْ نَفْسُهُ، فَذَلِكَ حِينَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ شَيْطَانًا فَأَضَلَّهُ وَفَتَنَهُ حَتَّى يُقَالَ مَاتَ بِشَرِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَإِذَا حُضِرَ وَرَأَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ جَزِعَتْ نَفْسُهُ فَذَلِكَ حِينَ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ". وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى مَحَبَّةِ لِقَاءِ اللَّهِ إِيثَارُ الْعَبْدِ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا وَلَا يُحِبُّ طُولَ الْقِيَامِ فِيهَا لَكِنْ يَسْتَعِدُّ لِلِارْتِحَالِ عَنْهَا، وَاللِّقَاءُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الرُّؤْيَةُ، وَمِنْهَا الْبَعْثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الأنعام: 31](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 31) أَيِ الْبَعْثِ، وَمِنْهَا الْمَوْتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5](سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: الْآيَةُ 5) وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ:
الْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ الْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَطَلَبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ بِهِ الْمَوْتَ ; لِأَنَّ كُلًّا يَكْرَهُهُ، فَمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا وَأَبْغَضَهَا أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَمَنْ آثَرَهَا وَرَكَنَ إِلَيْهَا كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِقَاءُ عَبْدِهِ إِرَادَةَ الْخَيْرِ لَهُ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ. وَفِي الْكَوَاكِبِ: إِنْ قِيلَ الشَّرْطُ لَيْسَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. قُلْتُ: مِثْلُهُ يُؤَوَّلُ بِالْإِخْبَارِ، أَيْ أَخْبِرْهُ بِأَنِّي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَكَذَا الْكَرَاهَةُ. الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لِأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ أَذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ فَغَفَرَ لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
568 -
570 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَالتَّخْفِيفِ (عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) هَكَذَا رَفَعَهُ أَكْثَرُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ وَوَقَفَهُ الْقَعْنَبِيُّ وَمُصْعَبٌ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ فِي رَفْعِهِ ; لِأَنَّ رُوَاتَهُ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ (قَالَ رَجُلٌ) قَالَ الْحَافِظُ: قِيلَ اسْمُهُ جُهَيْنَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ لِلْخَطِيبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: عِنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ ". (لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ) لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي التَّوْحِيدَ عَنْهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي الْأَكْثَرِ مِنْ فِعْلِهِ كَحَدِيثِ: لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِلَّا التَّوْحِيدَ. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَفِي الصَّحِيحِ: مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ. وَفِي ابْنِ حِبَّانَ: أَنَّهُ كَانَ نَبَّاشًا أَيْ لِلْقُبُورِ يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى. (لِأَهْلِهِ) وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: (إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ) وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: إِذَا أَنَا مِتُّ فَأَحْرَقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي (ثُمَّ أَذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ) بِخِفَّةِ الدَّالِ وَشَدِّهَا مِنَ الْقَدَرِ وَهُوَ الْقَضَاءُ، لَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ كَقَوْلِهِ:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87](سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: الْآيَةُ 87) أَوْ بِمَعْنَى ضَيَّقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7](سُورَةُ الطَّلَاقِ: الْآيَةُ 7) وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ بَعْضَ صِفَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُدْرَةُ، وَلَا يَكْفُرُ جَاهِلُ بَعْضِهَا، وَإِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ (لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) الْمُوَحِّدِينَ (فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ) زَادَ فِي
رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، وَزَادَ أَبُو عَوَانَةَ: فِي أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى رَدِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخِطَابَ لِرُوحِهِ ; لِأَنَّ التَّحْرِيقَ وَالتَّذْرِيَةَ إِنَّمَا وَقَعَا عَلَى الْجَسَدِ وَهُوَ الَّذِي جُمِعَ وَأُعِيدَ (ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ) إِنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُهُ مِنْ خَشْيَتِكَ أَيْ خَوْفَ عِقَابِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِيمَانِهِ إِذِ الْخَشْيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُؤْمِنٍ بَلْ لِعَالِمٍ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28](سُورَةُ فَاطِرٍ: الْآيَةُ 28) وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَخَافَهُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ، قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِلَّا التَّوْحِيدَ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَرْفَعُ الْإِشْكَالَ فِي إِيمَانِهِ، وَالْأُصُولُ تُعَضِّدُهَا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48](سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 48) وَقَدْ (قَالَ: فَغَفَرَ لَهُ) وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عَنِ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنَّمَا غُفِرَ لَهُ لِتَوْبَتِهِ الَّتِي تَابَهَا ; لِأَنَّ قَبُولَهَا وَاجِبٌ عَقْلًا عِنْدَهُمْ، وَالْأَشْعَرِيُّ قَطَعَ بِهَا سَمْعًا، وَغَيْرُهُ جَوَّزَ الْقَبُولَ كَسَائِرِ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَبُولُ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقْلًا، وَعِنْدَنَا وَاجِبٌ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالتَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، إِذْ لَوْ وَجَبَ الْقَبُولُ عَلَى اللَّهِ عَقْلًا لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ إِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَكْمِلًا بِالْقَبُولِ، وَالْمُسْتَكْمِلُ بِالْغَيْرِ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّ الذَّمَّ إِنَّمَا يَمْنَعُ مِنَ الْفِعْلِ مَنْ يَتَأَذَّى لِسَمَاعِهِ وَيَنْفِرُ عَنْهُ طَبْعُهُ وَيَظْهَرُ لَهُ بِسَبَبِهِ نَقْصُ حَالٍ، أَمَّا الْمُتَعَالِي عَنِ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فَلَا يُعْقَلُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ فِي قَوْلِهِ:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 104) وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا تَمَدَّحَ بِهِ ; لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ وَالتَّعْظِيمَ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ يُقْطَعُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِجْمَاعًا، وَهَذَا مَحْمَلُ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَيُقْطَعُ بِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْهَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْأُمَّةِ. وَاخْتُلِفَ هَلْ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْجَمِيعِ؟ وَأَمَّا إِذَا عُيِّنَ إِنْسَانٌ تَائِبٌ فَيُرْجَى قَبُولُ تَوْبَتِهِ بِلَا قَطْعٍ، وَأَمَّا إِذَا فَرَضْنَا تَائِبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ صَحِيحَ التَّوْبَةِ فَقِيلَ يُقْطَعُ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَعَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْهَا الْفُقَهَاءُ الْمُحَدِّثُونَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَةُ جَمِيعِ التَّائِبِينَ. وَذَهَبَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى اللَّهِ بَلْ يَقْوَى فِي الرَّجَاءِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ رَوْحٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنَاتَجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
569 -
571 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ مَوْلُودٍ) أَيْ مِنْ بَنِي آدَمَ، صَرَّحَ بِهِ جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: كُلُّ بَنِي آدَمَ. وَكَذَا رَوَاهُ خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ) عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَوْلُودِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ:" «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» "، وَلِمُسْلِمٍ:" «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْمِلَّةِ» "، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ مَنْ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلَهُ أَبَوَانِ غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ نَقَلَاهُ إِلَى دِينِهِمَا، فَالتَّقْدِيرُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَبَوَاهُ يَهُودِيَّانِ مَثَلًا فَإِنَّهُمَا يُهَوِّدَانِهِ ثُمَّ يَصِيرُ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى مَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ. وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ» ". وَأَصْرَحُ مِنْهَا رِوَايَةُ: " كُلُّ بَنِي آدَمَ "، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْإِسْلَامُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ. وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30](سُورَةُ الرُّومِ: الْآيَةُ 30) الْإِسْلَامُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فِطْرَةَ اللَّهِ) الْآيَةَ.
وَبِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: " «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، فَاخْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ» " الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ فَقَالَ:" حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ "، وَرُجِّحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم: 30](سُورَةُ الرُّومِ: الْآيَةُ 30) لِأَنَّهَا إِضَافَةُ مَدْحٍ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِلُزُومِهَا فَعَلِمَ أَنَّهَا الْإِسْلَامُ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَسَحْنُونٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ حِينَ أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ فَقَالَ:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْفِطْرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْهُودٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: (فِطْرَةَ اللَّهِ) وَمَعْنَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) اثْبُتْ عَلَى الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. ثَانِيهَا: مَجِيءُ رِوَايَةٍ بِلَفْظِ الْمِلَّةِ بَدَلَ الْفِطْرَةِ وَالدِّينِ فِي قَوْلِهِ: (لِلدِّينِ حَنِيفًا) فَهُوَ عَيْنُ الْمِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 161) . ثَالِثُهَا: التَّشْبِيهُ بِالْمَحْسُوسِ الْمُعَايَنِ لِيُفِيدَ أَنَّ ظُهُورَهُ يَقَعُ فِي الْبَيَانِ مَبْلَغَ هَذَا الْمَحْسُوسِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ تَمَكُّنُ النَّاسِ مِنَ الْهُدَى فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ وَالتَّهَيُّؤِ لِقَبُولِ الدِّينِ، فَلَوْ تُرِكَ الْمَرْءُ عَلَيْهَا لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِهَا وَلَمْ يُفَارِقْهَا إِلَى غَيْرِهَا ; لِأَنَّ حِسَّ هَذَا الدِّينِ ثَابِتٌ فِي النُّفُوسِ وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ
لِآفَةٍ مِنَ الْآفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ كَالتَّقْلِيدِ، انْتَهَى. وَإِلَى هَذَا مَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ مُتَأَهِّلَةً لِقَبُولِ الْحَقِّ كَمَا خَلَقَ أَعْيُنَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ قَابِلَةً لِلْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَبُولِ وَعَلَى تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ أَدْرَكَتِ الْحَقَّ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَعْلَمُ الدِّينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78](سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ 78) وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِطْرَتَهُ مُقْتَضِيَةٌ لِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِهِ، فَنَفْسُ الْفِطْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ وَالْمَحَبَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ قَبُولِ الْفِطْرَةِ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَهْوِيدِ الْأَبَوَيْنِ مَثَلًا بِحَيْثُ يُخْرِجَانِ الْفِطْرَةَ عَنِ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَلَوْ خُلِّيَ وَعَدِمَ الْمُعَارِضُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُلَائِمُ بَدَنَهُ مِنَ ارْتِضَاعِ اللَّبَنِ حَتَّى يَصْرِفَهُ عَنْهُ الصَّارِفُ، وَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَتِ الْفِطْرَةُ بِاللَّبَنِ بَلْ كَانَتْ إِيَّاهُ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، انْتَهَى. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا وُلِدَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُ أَوَّلُ الْفِطْرَةَ بِالْعِلْمِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَأَبَوَاهُ إِلَى آخِرِهِ مَعْنًى لِفِعْلِهِمَا بِهِ مَا هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا فَيُنَافِي التَّمْثِيلَ بِحَالِ الْبَهِيمَةِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِنْكَارَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ قَالُوا جَمِيعًا بَلَى، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَطَوْعًا، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَكَرْهًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ إِلَّا عَنِ السُّدِّيِّ وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَقِيلَ: الْفِطْرَةُ الْخِلْقَةُ أَيْ يُولَدُ سَالِمًا لَا يَعْرِفُ كُفْرًا وَلَا إِيمَانًا ثُمَّ يَعْتَقِدُ إِذَا بَلَغَ التَّكْلِيفَ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ: إِنَّهُ يُطَابِقُ التَّمْثِيلَ بِالْبَهِيمَةِ وَلَا يُخَالِفُ حَدِيثَ عِيَاضٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ حُنَفَاءَ أَيْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُقْتَصَرْ فِي أَحْوَالِ التَّبْدِيلِ عَلَى الْكُفْرِ دُونَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِشْهَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْآيَةِ مَعْنًى، وَقِيلَ اللَّامُ فِي الْفِطْرَةِ لِلْعَهْدِ أَيْ فِطْرَةِ أَبَوَيْهِ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِمَا ذُكِرَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَمَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَادَّعَى فِيهِ النَّسْخَ فَقَالَ: هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ وَالْأَمْرُ بِالْجِهَادِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَأَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُولَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُهَوِّدَهُ أَبَوَاهُ مَثَلًا لَمْ يَرِثَاهُ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُمَا يَرِثَاهُ فَدَلَّ عَلَى تَغَيُّرِ الْحُكْمِ. وَرَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ حَادَ عَنِ الْجَوَابِ، وَفِي حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَكَذَا رَدَّهُ غَيْرُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَمْ يُرِدْ إِثْبَاتَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لَيْسَا بِقَضَاءِ اللَّهِ بَلْ مِمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ إِحْدَاثَهُ، فَحَاوَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ
الْعُلَمَاءُ مُخَالَفَتَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْفِطْرَةِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَيْهِ مُوَافَقَةُ الْقَدَرِيَّةِ لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَلِذَا احْتَجَّ مَالِكٌ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، انْتَهَى.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ مَالِكٌ: احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَا يُضِلُّ أَحَدًا فَإِنَّمَا يُضِلُّ الْكَافِرَ أَبَوَاهُ، فَأَشَارَ مَالِكٌ إِلَى رَدِّهِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ إِيجَادِهِمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْعِلْمِ الَّذِي يُنْكِرُهُ غُلَاتُهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَهْلُ الْقَدَرِ إِنْ أَثْبَتُوا الْعِلْمَ خُصِمُوا (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ) زَادَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَوْ يُمَجِّسَانِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ إِمَّا لِلتَّعْقِيبِ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ جَزَاءُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَغَيَّرَ كَانَ بِسَبَبِ أَبَوَيْهِ إِمَّا بِتَعْلِيمِهِمَا إِيَّاهُ أَوْ تَرْغِيبِهِمَا فِيهِ، أَوْ كَوْنِهِ تَبَعًا لَهُمَا فِي الدِّينِ يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَهُ حَكَمُهُمَا، وَخُصَّ الْأَبَوَانِ بِالذِّكْرِ لِلْغَالِبِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ حَكَمَ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ الَّذِي يَمُوتُ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ فَقَالَ: اسْتَقَرَّ عَمَلُ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِأَطْفَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاسْتَشْكَلَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَقَعُ لَهُ التَّهَوُّدُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا ذُكِرَ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا يَبْقَى مُسْلِمًا لَا يَقَعُ لَهُ شَيْءٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنْ ذَاتِ الْمَوْلُودِ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبٍ خَارِجِيٍّ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْهُ اسْتَمَرَّ عَلَى الْحَقِّ.
(كَمَا تُنَاتَجُ) بِفَوْقِيَّةٍ فَنُونٍ فَأَلِفٍ فَفَوْقِيَّةٍ فَجِيمٍ، أَيْ يُولَدُ (الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْمَدِّ، نَعْتٌ لِبَهِيمَةٍ، أَيْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ بَدَنِهَا شَيْءٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ أَعْضَائِهَا (هَلْ تُحِسُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، أَيْ تُبْصِرُ، وَفِي رِوَايَةٍ: هَلْ تَرَى (فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، أَيْ مَقْطُوعَةِ الْأَنْفِ أَوِ الْأُذُنِ وَالْأَطْرَافِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ أَيْ بَهِيمَةٍ تَقُولُ فِيهَا هَذَا الْقَوْلَ، أَيْ كُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَهُ لِظُهُورِ سَلَامَتِهَا، زَادَ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا. قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْمَوْلُودَ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ يُغَيِّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَوَاهُ، كَمَا أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُولَدُ تَامَّةً لَا جَدْعَ فِيهَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا تُجْدَعُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُغَيَّرُ خَلْقُهَا. وَقَالَ فِي الْمُفْهِمِ: يَعْنِي أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَلِدُ الْوَلَدَ كَامِلَ الْخِلْقَةِ فَلَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَرِيًّا مِنَ الْعَيْبِ لَكِنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِقَطْعِ أُذُنِهِ مَثَلًا، فَخَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ وَاقِعٌ وَوَجْهٌ وَاضِحٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَمَا حَالَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُهَوِّدَانِهِ، أَيْ يُهَوِّدَانِ الْمَوْلُودَ بَعْدَ خَلْقِهِ عَلَى الْفِطْرَةِ حَالَ كَوْنِهِ شَبِيهًا بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي جُدِعَتْ بَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ سَلِيمَةً، أَوْ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يُغَيِّرَانِهِ مِثْلَ تَغْيِيرِهِمُ الْبَهِيمَةَ السَّلِيمَةَ، وَقَدْ تَنَازَعَتْ
الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ فِي كَمَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنَا مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ ; لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ الْأَشْيَاءِ طَرِيقٌ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهَا، أَيْ قَدْ رَأَيْتَ (الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ) لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ أَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ (قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ لَوْ أَبْقَاهُمْ فَلَا تَحْكُمُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا وَلَا يَرْجِعُونَ فَيَعْمَلُونَ، أَوْ أَخْبَرَ بِعِلْمِ الشَّيْءِ لَوْ وُجِدَ كَيْفَ يَكُونُ؟ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ يُجَازَوْنَ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُجَازَى بِمَا لَمْ يَعْمَلْ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا مَا يَقْتَضِي تَعْذِيبَهُمْ ضَرُورَةَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا لِأَجْلِ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، بَلِ الْمُوجِبُ لَهُمَا اللُّطْفُ الرَّبَّانِيُّ وَالْخِذْلَانُ الْإِلَهِيُّ الْمُقَدَّرُ لَهُمَا فِي الْأَزَلِ، فَالْأَوْلَى فِيهِمَا التَّوَقُّفُ وَعَدَمُ الْجَزْمِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ مَوْكُولَةٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فِيمَا يَعُودُ إِلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا، وَتَوَقَّفَ بِهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي مُسْلِمٍ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دُعِيَ لِجِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقُلْتُ: طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَقَالَ: أَوَغَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» ". وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ نَهَاهَا عَنِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ، أَوْ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ. انْتَهَى.
وَأَطْلَقَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إِجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْخِلَافُ فِي غَيْرِ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ. انْتَهَى. وَأَمَّا أَطْفَالُ الْكُفَّارِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِيهِمْ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَمَّادِينَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ مَالِكٍ وَلَا نَصَّ عَنْهُ لَكِنْ صَرَّحَ أَصْحَابُهُ بِأَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ وَأَطْفَالَ الْكُفَّارِ فِي الْمَشِيئَةِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" «سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» . ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ الْأَزَارِقَةِ وَالْخَوَارِجِ، وَلِأَحْمَدَ «عَنْ عَائِشَةَ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وِلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ فِي النَّارِ، فَقُلْتُ: لَمْ يُدْرِكُوا الْأَعْمَالَ، قَالَ: رَبُّكِ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ لَوْ شِئْتِ أَسْمَعْتُكِ تَضَاغِيَهُمْ فِي النَّارِ» ". وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ; لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ أَبَا عَقِيلٍ مَوْلَى بُهَيَّةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إِذْ لَا حَسَنَاتٍ لَهُمْ يَدْخُلُونَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَا سَيِّئَاتٍ يَدْخُلُونَ بِهَا النَّارَ.
رَابِعُهَا: أَنَّهُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، رَوَى الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرِيُّ وَالْبَزَّارُ مَرْفُوعًا:" «أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ". وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. خَامِسُهَا: يَصِيرُونَ تُرَابًا. سَادِسُهَا: فِي النَّارِ، حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْ أَحْمَدَ وَغَلَّطَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ بِأَنَّهُ قَوْلٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَلَا يُحْفَظُ عَنِ الْإِمَامِ أَصْلًا، وَهُوَ غَيْرُ الثَّانِي ; لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ أَنْ يَكُونُوا مَعَ آبَائِهِمْ، كَمَا أَنَّ عُصَاةَ الْمُوَحِّدِينَ فِي النَّارِ لَا مَعَ الْكُفَّارِ. سَابِعُهَا:" «يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تُرْفَعَ لَهُمْ نَارٌ فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَمَنْ أَبَى عُذِّبَ» ". أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ. وَقَدْ صَحَّتْ مَسْأَلَةُ الِامْتِحَانِ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ وَمَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَتُعُقِّبُ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ فَلَا عَمَلَ فِيهَا وَلَا ابْتِلَاءَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. وَأَمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42](سُورَةُ الْقَلَمِ: الْآيَةُ 42) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَنَّ النَّاسَ يُؤْمَرُونَ بِالسُّجُودِ فَيَصِيرُ ظَهْرُ الْمُنَافِقِ طَبَقًا فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْجُدَ» ". ثَامِنُهَا: الْوَقْفُ. تَاسِعُهَا: الْإِمْسَاكُ. وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا دِقَّةٌ. عَاشِرُهَا: أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15](سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 15) وَإِذَا لَمْ يُعَذِّبِ الْعَاقِلَ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ فَأَوْلَى غَيْرُهُ، انْتَهَى.
وَفِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الشَّيْخَ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمَ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ وَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ أَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاذٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ:" «سَأَلَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدُ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ الْإِسْلَامُ فَنَزَلَتْ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] » (سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 164) فَقَالَ: هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَقَالَ: فِي الْجَنَّةِ ". قَالَ الْحَافِظُ: وَأَبُو مُعَاذٍ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ، انْتَهَى. وَحَدِيثُ الْبَابِ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
570 -
572 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ) أَيْ مَيِّتًا، وَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ
وَخَوْفِ ذَهَابِ الدِّينِ لِغَلَبَةِ الْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ وَظُهُورِ الْمَعَاصِي، أَوْ مَا يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ أَوْ دُنْيَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِدِينِهِ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ» ". وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " «سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ لَوْ وَجَدَ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ يُبَاعُ لَاشْتَرَاهُ» ". وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَهَذَا الْعَيْشُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ
…
أَلَا مَوْتٌ يُبَاعُ فَأَشْتَرِيهِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ الْبَلَاءُ وَالشِّدَّةُ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ أَهْوَنَ عَلَى الْمَرْءِ فَيَتَمَنَّى أَهْوَنَ الْمُصِيبَتَيْنِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَذَكَرَ الرَّجُلَ لِلْغَالِبِ، وَإِلَّا فَالْمَرْأَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ الرِّجَالَ هُمُ الْمُبْتَلُونَ بِالشَّدَائِدِ، وَالنِّسَاءُ مُحَجَّبَاتٌ لَا يَصْلَيْنَ نَارَ الْفِتْنَةِ خَصَّهُمْ، كَمَا قِيلَ:
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ.
قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فِي كُلِّ بَلَدٍ وَلَا كُلِّ زَمَنٍ وَلَا فِي جَمِيعِ النَّاسِ، بَلْ يَصْدُقُ عَلَى اتِّفَاقِهِ لِلْبَعْضِ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَفِي تَعْلِيقِ تَمَنِّيهِ بِالْمُرُورِ إِشْعَارٌ بِشِدَّةِ مَا نَزَلَ بِالنَّاسِ مِنْ فَسَادِ الْحَالِ حَالَتَئِذٍ ; إِذِ الْمَرْءُ قَدْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارِ شَيْءٍ، فَإِذَا شَاهَدَ الْمَوْتَى وَرَأَى الْقُبُورَ نَشَزَ بِطَبْعِهِ وَنَفَرَ بِسَجِيَّتِهِ مِنْ تَمَنِّيهِ، فَلِقُوَّةِ الشِّدَّةِ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهُ مَا شَاهَدَهُ مِنْ وَحْشَةِ الْقُبُورِ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَكُونُ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم " «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ» ". «وَقَوْلَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ» ; لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِشِدَّةِ مَا يَنْزِلُ بِالنَّاسِ مِنْ فَسَادِ الدِّينِ لَا لِضَرَرٍ يُصِيبُ جِسْمَهُ يَحُطُّ خَطَايَاهُ. وَقَدْ قَالَ عَتِيقٌ الْغِفَارِيُّ زَمَنَ الطَّاعُونِ: يَا طَاعُونُ خُذْنِي إِلَيْكَ، فَقِيلَ: أَلَمْ يَأْتِ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «بَادِرُوا بِالْمَوْتِ إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ وَنِسَاءً يَتَّخِذُونَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ يُغَنِّيهِمْ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُمْ فِقْهًا» . وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «وَإِذَا أَرَدْتَ بِالنَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ» " وَقَوْلُ عُمَرَ: " اللَّهُمَّ قَدْ ضَعُفَتْ قُوَّتِي وَكَبُرَتْ سِنِّي وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي فَاقْبِضْنِي غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ "، انْتَهَى. وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الْفِتَنِ، الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
571 -
573 - (مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (بْنِ حَلْحَلَةَ) بِحَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَلَامَيْنِ أُولَاهُمَا سَاكِنَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ، زَادَ ابْنُ وَضَّاحٍ (الدِّيلِيِّ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، الْمَدَنِيِّ (عَنْ مَعْبَدِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ (بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الْأَنْصَارِيِّ السُّلَمِيِّ الْمَدَنِيِّ (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الْحَارِثِ، وَيُقَالُ: عَمْرٌو، وَيُقَالُ: النُّعْمَانُ (بْنُ رِبْعِيٍّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، السُّلَمِيِّ الْمَدَنِيِّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَلَمْ يَصِحَّ شُهُودُهُ بَدْرًا، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّآتِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَخْطَأَ فِيهِ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ (أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَشَدِّ الرَّاءِ (عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: يُقَالُ أَرَاحَ الرَّجُلُ وَاسْتَرَاحَ إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ بَعْدَ الْإِعْيَاءِ، انْتَهَى. وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ فَهِيَ لِلتَّنْوِيعِ أَيْ لَا يَخْلُو ابْنُ آدَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَخْتَصُّ بِصَاحِبِ الْجِنَازَةِ.
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟) وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِإِعَادَةِ مَا (قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ) الْمُتَّقِي خَاصَّةً أَوْ كُلُّ مُؤْمِنٍ (يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا) بِفَتْحَتَيْنِ تَعَبُهَا وَمَشَقَّتُهَا (وَأَذَاهَا) وَهُوَ عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ (إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ) تَعَالَى. قَالَ مَسْرُوقٌ: مَا غَبَطْتُ شَيْئًا لِشَيْءٍ كَمُؤْمِنٍ فِي لَحْدِهِ أَمِنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَاسْتَرَاحَ مِنَ الدُّنْيَا.
(وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ) الْكَافِرُ أَوِ الْعَاصِي (يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ) أَيْ مِنْ ظُلْمِهِ لَهُمْ، وَقَوْلُ الدَّاوُدِيِّ لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ: فَإِنْ أَنْكَرُوا آذَاهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا، رَدَّهُ الْبَاجِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ تَارِكُ الْإِنْكَارِ إِذَا نَالَهُ أَذًى وَيَكْفِيهِ أَنْ يُنْكِرَ بِقَلْبِهِ.
(وَالْبِلَادُ) بِمَا يَفْعَلُهُ فِيهَا مِنَ الْمَعَاصِي فَيَحْصُلُ الْجَدْبُ فَيَهْلَكُ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ أَوْ لِغَصْبِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ حَقِّهَا.
(وَالشَّجَرُ) لِقَلْعِهِ إِيَّاهَا غَصْبًا أَوْ غَصْبِ ثَمَرِهَا (وَالدَّوَابُّ) لِاسْتِعْمَالِهِ لَهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا وَتَقْصِيرِهِ فِي عَلْفِهَا وَسَقْيِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا اسْتِرَاحَةُ الْبِلَادِ وَالْأَشْجَارِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَقْدِهِ يُرْسِلُ السَّمَاءَ مِدْرَارًا وَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ وَالدَّوَابَّ بَعْدَمَا حَبَسَ بِشُؤْمِ ذُنُوبِهِ الْأَمْطَارَ، لَكِنَّ إِسْنَادَ الرَّاحَةِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، إِذِ الرَّاحَةُ إِنَّمَا هِيَ لِمَالِكِهَا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَمُرَّ بِجَنَازَتِهِ ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
572 -
574 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سَالِمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ (مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنَيْنِ، الْقُرَشِيِّ (أَنَّهُ قَالَ) وَصَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ ابْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ الْقُرَشِيُّ الْجُمَحِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى. وَرَوَى ابْنُ شَاهِينَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قُلْتُ:" «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ تَشُقُّ عَلَيَّ الْغُرْبَةُ فِي الْمَغَازِي فَتَأْذَنُ لِي فِي الْخِصَاءِ فَأَخْتَصِي، فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ عَلَيْكَ يَا ابْنَ مَظْعُونٍ بِالصَّوْمِ» ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: " «رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا» ". تُوُفِّيَ بَعْدَ شُهُودِهِ بَدْرًا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ دُفِنَ مِنْهُمْ بِالْبَقِيعِ (وَمُرَّ بِجِنَازَتِهِ) عَلَيْهِ (ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلَبَّسْ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَلِابْنِ وَضَّاحٍ: تَتَلَبَّسْ بِتَاءَيْنِ (مِنْهَا) أَيِ الدُّنْيَا (بِشَيْءٍ) كَثِيرٍ ; لِأَنَّهُ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَا مَحَالَةَ، وَفِيهِ مَدْحُ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَذَمُّ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمَرْءِ بِمَا فِيهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ:" «قَبَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ وَهُوَ يَبْكِي وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ قَالَ: الْحَقْ بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ» ".
وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَبِسَ ثِيَابَهُ ثُمَّ خَرَجَ قَالَتْ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي بَرِيرَةَ تَتْبَعُهُ فَتَبِعَتْهُ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَوَقَفَ فِي أَدْنَاهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقِفَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَسَبَقَتْهُ بَرِيرَةُ فَأَخْبَرَتْنِي فَلَمْ أَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ لِأُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
573 -
575 - (مَالِكٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ) بِلَالٍ الْمَدَنِيِّ، مَوْلَى عَائِشَةَ، وَهُوَ عَلْقَمَةُ بْنُ أُمِّ عَلْقَمَةَ، ثِقَةٌ عَلَّامَةٌ، مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ أُمِّهِ) مَرْجَانَةَ، وَتُكْنَى بِابْنِهَا، تَابِعِيَّةٌ ثِقَةٌ، وَهِيَ مَوْلَاةُ عَائِشَةَ بِلَا خِلَافٍ (أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَبِسَ ثِيَابَهُ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي بِرَيْرَةَ) بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءَيْنِ بِلَا نَقْطٍ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَاءٌ، صَحَابِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ، عَاشَتْ إِلَى زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ (تَتْبَعُهُ) لِتَسْتَفِيدَ عِلْمًا، وَيُحْتَمَلُ غَيْرَةً مِنْهَا مَخَافَةَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(فَتَبِعَتْهُ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعُ) بِالْمُوَحَّدَةِ اتِّفَاقًا (فَوَقَفَ فِي أَدْنَاهُ) أَقْرَبِهِ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يَقِفَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَسَبَقَتْهُ بِرَيْرَةُ فَأَخْبَرَتْنِي) بِمَا فَعَلَ (فَلَمْ أَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ لِأُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَأَنْ تَكُونَ كَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَوْتَى خُصُوصِيَّةً لَهُ ; لِأَنَّ صَلَاتَهُ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ رَحْمَةٌ، فَكَأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِ مَنْ صُلِّيَ إِلَّا بِحِدْثَانِ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَ: وَأَمَّا بَعْثُهُ وَمَسِيرُهُ إِلَيْهِمْ فَلَا يُدْرَى لِمِثْلِ هَذَا عِلَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِيُعْلِمَهُمْ بِالصَّلَاةِ مِنْهُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا دُفِنَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ كَالْمِسْكِينَةِ، وَمِثْلُهَا مَنْ دُفِنَ لَيْلًا وَلَمْ يُشْعَرْ بِهِ لِيَكُونَ مُسَاوِيًا بَيْنَهُمْ فِي صَلَاتِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يُؤْثِرُ بَعْضَهُمْ بِذَلِكَ لِيَتِمَّ عَدْلُهُ، وَجَاءَ حَدِيثٌ حَسَنٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ حِينَ خُيِّرَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي مُوَيْهَةَ مَرْفُوعًا:" «إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهَةَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَيَّرَنِي فِي مَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدِ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةِ وَلِقَاءِ رَبِّي فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي، فَأَصْبَحَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَبَدَأَهُ وَجَعُهُ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم» ". وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَالْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَسْرِعُوا بِجَنَائِزِكُمْ فَإِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ أَوْ شَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
574 -
576 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ) كَذَا وَقَفَهُ جُمْهُورُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ. وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَلَكِنَّهُ مَرْفُوعٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(أَسْرِعُوا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ (بِجَنَائِزِكُمْ) أَيْ بِحَمْلِهَا إِلَى قَبْرِهَا، إِسْرَاعًا خَفِيفًا فَوْقَ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ وَالْخَبَبِ، بِحَيْثُ عَلَى ضَعْفَةِ مَنْ يَتْبَعُهَا وَلَا عَلَى حَامِلِهَا، وَلَا يَحْدُثُ مَفْسَدَةٌ بِالْمَيِّتِ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ بِوُجُوبِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ شِدَّةُ الْمَشْيِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ السَّلَفِ، وَمَالَ عِيَاضٌ إِلَى نَفْيِ الْخِلَافِ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَحَبَّهُ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ، وَمَنْ كَرِهَهُ أَرَادَ الْإِفْرَاطَ كَالرَّمَلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي إِلَى شِدَّةٍ يُخَافُ مِنْهَا حُدُوثُ مَفْسَدَةٍ بِالْمَيِّتِ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْحَامِلِ أَوِ
الْمُشَيِّعِ لِئَلَّا يُنَافِيَ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّظَافَةِ، وَإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنْ لَا يُبَطَّأَ بِالْمَيِّتِ عَنِ الدَّفْنِ، وَلِأَنَّ الْبُطْءَ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّبَاهِي وَالِاحْتِفَالِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَتَأَوَّلَهُ قَوْمٌ عَلَى تَعْجِيلِ الدَّفْنِ لَا الْمَشْيِ وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ: تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِهَذَا، وَتَعَقَّبَهُ الْفَاكِهَانِيُّ: بِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الرِّقَابِ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَعَانِي كَمَا يَقُولُ: حَمَلَ فُلَانٌ عَلَى رَقَبَتِهِ دُيُونًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى اسْتَرِيحُوا مِنْ نَظَرِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْكُلَّ لَا يَحْمِلُونَهُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ» ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ مَرْفُوعًا: " «لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تَبْقَى بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ» ". (فَإِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُ) كَذَا فِي الْأُصُولِ، وَالْقِيَاسُ: تُقَدِّمُونَهَا، أَيِ الْجَنَائِزَ (إِلَيْهِ) أَيِ الْخَيْرِ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ وَالْإِكْرَامِ لَهُ فِي قَبْرِهِ فَيُسْرِعُ بِهِ لِيَلْقَاهُ قَرِيبًا. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَرُوِيَ " إِلَيْهَا " بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَيْرِ بِالرَّحْمَةِ أَوِ الْحُسْنَى (أَوْ شَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) فَلَا مَصْلَحَةَ لَكُمْ فِي مُصَاحَبَتِهِ ; لِأَنَّهَا بَعِيدَةٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَرْكُ صُحْبَةِ أَهْلِ الْبَطَالَةِ وَغَيْرِ الصَّالِحِينَ، وَفِيهِ نَدْبُ الْمُبَادَرَةِ بِدَفْنِ الْمَيِّتِ لَكِنْ بَعْدَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ مَاتَ، أَمَّا مَثَلُ الْمَطْعُونِ وَالْمَسْبُوتِ وَالْمَفْلُوجِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُسْرِعَ بِتَجْهِيزِهِمْ حَتَّى يَمْضِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِيَتَحَقَّقَ مَوْتُهُمْ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ بَزِيزَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[كِتَاب الزَّكَاةِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الزَّكَاةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْإِمَامُ:
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَرُّكًا وَقَدَّمَهَا عَلَى التَّرْجَمَةِ لِيَكُونَ الْبَدْءُ بِهَا حَقِيقِيًّا.
17 -
كِتَابُ الزَّكَاةِ
لُغَةً النَّمَاءُ، يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ إِذَا نَمَا، وَبِمَعْنَى التَّطْهِيرِ، وَشَرْعًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ إِخْرَاجَهَا سَبَبُ النَّمَاءِ فِي الْمَالِ فَسُمِّيَتْ زَكَاةً بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ إِخْرَاجُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36](سُورَةُ يُوسُفَ: الْآيَةُ 36) أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَجْرَ يَكْثُرُ بِسَبَبِهَا، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ مُتَعَلِّقَهَا الْأَمْوَالُ ذَاتُ النَّمَاءِ كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ حَدِيثُ:" «مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ» ". وَلِأَنَّهَا يُضَاعَفُ ثَوَابُهَا كَمَا جَاءَ: إِنَّ اللَّهَ يُرَبِّي الصَّدَقَةَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهَا طُهْرَةُ النَّفْسِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ، وَتَطْهِيرٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ: الزَّكَاةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 43) وَالصَّدَقَةُ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 103) وَالْحَقُّ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 141) وَالنَّفَقَةُ، قَالَ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 34) وَالْعُرْفُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199](سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 199) قَالَ الْبَاجِيُّ: إِلَّا أَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الشَّرْعِ جَرَى فِي الْفَرْضِ بِلَفْظِ الزَّكَاةِ، وَفِي النَّفْلِ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: تُطْلَقُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعَفْوِ وَالْحَقِّ، وَتَعْرِيفُهَا شَرْعًا إِعْطَاءُ جُزْءٍ مِنَ النِّصَابِ الْحَوْلِيِّ إِلَى فَقِيرٍ وَنَحْوِهِ غَيْرِ هَاشِمِيٍّ وَلَا مُطَّلِبِيٍّ، ثُمَّ لَهَا رُكْنٌ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ، وَشَرْطٌ وَهُوَ السَّبَبُ، وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ الْحَوْلِيِّ، وَشَرْطُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَلَهَا حُكْمٌ وَهُوَ سُقُوطُ الْوَاجِبِ فِي الدُّنْيَا وَحُصُولُ الثَّوَابِ فِي الْأُخْرَى، وَحِكْمَةٌ وَهِيَ التَّطْهِيرُ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَرَفْعُ الدَّرَجَةِ وَاسْتِرْقَاقُ الْأَحْرَارِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ جَيِّدٌ لَكِنْ فِي شَرْطِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ اخْتِلَافٌ. وَالزَّكَاةُ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ شَرْعًا يُسْتَغْنَى عَنْ تَكَلُّفِ الِاحْتِجَاجِ لَهُ فَمَنْ جَحَدَ فَرْضَهَا كَفَرَ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا وَفُرِضَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، فَقِيلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَجَزَمَ ابْنُ الْأَثِيرِ بِأَنَّهُ فِي التَّاسِعَةِ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَفِيهِمَا نَظَرٌ بَيَّنَهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي بِمَا فِيهِ طُولٌ.
[بَاب مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ]
حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 -
بَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
575 -
577 - (مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ (الْمَازِنِيِّ) بِكَسْرِ الزَّايِ، نِسْبَةً إِلَى مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ الْأَنْصَارِيِّ، وَفِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ: مَالِكٌ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى حَدَّثَهُ (عَنْ أَبِيهِ) يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ (أَنَّهُ قَالَ) وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ قَالَ:(سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ) سَعْدَ بْنَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ (الْخُدْرِيَّ) الصَّحَابِيَّ ابْنَ الصَّحَابِيِّ (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ فِيمَا دُونَ) بِمَعْنَى أَقَلَّ مِنْ (خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ) زَادَ التِّنِّيسِيُّ مِنَ الْإِبِلِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِذَوْدٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ بِإِضَافَةِ خَمْسٍ إِلَى ذَوْدٍ، وَرُوِيَ بِتَنْوِينِ خَمْسٍ وَيَكُونُ بَدَلًا مِنْهُ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الذَّوْدُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ إِنَّمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ: بَعِيرٌ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَضَافَ (خَمْسِ) إِلَى (ذَوْدٍ) وَهُوَ مُذَكَّرٌ ; لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَأَضَافَهُ إِلَى الْجَمْعِ لِوُقُوعِهِ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ. وَقَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ: يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَقَطْ لَا يَدْفَعُ نَقْلَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَالَ الْحَافِظُ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الذَّوْدَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ لَا وَاحِدَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مِنِ اثْنَيْنِ إِلَى عَشَرَةٍ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنَاثِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: تَقُولُ ثَلَاثُ ذَوْدٍ لِأَنَّ الذَّوْدَ مُؤَنَّثٌ، وَأَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنْ يُرَادَ بِالذَّوْدِ الْجَمْعُ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ خَمْسُ ذَوْدٍ كَمَا لَا يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ خَمْسُ ثَوْبٍ، وَغَلَّطَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي الْجَمْعِ فَقَالُوا خَمْسُ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ، كَمَا قَالُوا: ثَلَاثُمِائَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الذَّوْدَ وَاحِدٌ فِي لَفْظِهِ، وَالْأَشْهَرُ مَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَأَصْلُهُ ذَادَ يَذُودُ إِذَا دَفَعَ شَيْئًا، فَكَأَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَرَّةَ الْفَقْرِ وَشِدَّةَ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ.
(وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ) بِالتَّنْوِينِ أَيْ كَجَوَارٍ، أَيْ مِنَ الْوَرِقِ، كَمَا فِي الرِّوَايَةِ التَّالِيَةِ (صَدَقَةٌ) جَمْعُ أُوقِيَّةٍ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا بِاتِّفَاقٍ، مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ سَوَاءٌ كَانَ مَضْرُوبًا أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبٍ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ الدِّرْهَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ حَتَّى جَاءَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ فَجَعَلُوا كُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ. وَرَدَّهُ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ وَعِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم أَحَالَ نِصَابَ الزَّكَاةِ عَلَى أَمْرٍ مَجْهُولٍ وَهُوَ مُشْكِلٌ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَى مَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْوَزْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَدَدِ، فَعَشَرَةُ مَثَاقِيلَ وَزْنُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَعَشَرَةٌ وَزْنُ ثَمَانِيَةٍ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ تُنْقَشَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَصِيرَ وَزْنُهَا وَزْنًا وَاحِدًا، وَقَالَ ابْنُ زُرْقُونَ: إِنَّمَا أَوْجَبَ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فِي أَوَاقٍ مَعْلُومَةٍ وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ، فَلَا يَضُرُّ أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ مُخْتَلِفَةً ; إِذِ الِاعْتِبَارُ بِالْأُوقِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمِثْقَالُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ عَشَرَةُ دَارَهِمَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي أَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ يَبْلُغُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالًا مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ إِلَّا ابْنُ حَبِيبٍ فَانْفَرَدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ بِدَرَاهِمِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اخْتِلَافًا فِي الْوَزْنِ بِالنِّسْبَةِ لِدَرَاهِمِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَخَرَقَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ فَاعْتَبَرَ النِّصَابَ بِالْعَدَدِ لَا بِالْوَزْنِ. (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) جَمْعُ وَسْقٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ أَشْهَرُ مِنْ كَسْرِهَا، وَجَمْعُهُ عَلَى الْكَسْرِ أَوْسَاقٌ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: كَحَمْلٍ وَأَحْمَالٍ، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا بِاتِّفَاقٍ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا. (صَدَقَةٌ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» ". قَالَ عِيَاضٌ: وَذِكْرُ الْأَوْسُقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْخُضَرِ ; لِأَنَّهَا لَا تُوسَقُ. وَلَفْظُ دُونَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بِمَعْنَى أَقَلَّ ; لِأَنَّهُ نَفَى عَنْ غَيْرِ الْخَمْسِ الصَّدَقَةَ، كَمَا زَعَمَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ وَأَنَّ دُونَ بِمَعْنَى غَيْرِ، فَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الْمَحْدُودِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي الْأَوْسُقِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَقْصَ فِيهَا، وَكَذَا الْفِضَّةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَجَعَلَ لَهَا وَقْصًا كَالْمَاشِيَةِ. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ الطَّبَرِيُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يُسْتَخْرَجَانِ مِنَ الْأَرْضِ بِكُلْفَةٍ وَمَؤُونَةٍ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَمَا زَادَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ كِلَيْهِمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ جُرَيْجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى جَمَاعَةٌ مِنْ جِلَّةِ الْعُلَمَاءِ احْتَاجُوا إِلَيْهِ فِيهِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ جَمَاعَةٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ مِنْ وَجْهٍ لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَلَا عِلَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَمْرٍو عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ غَيْرُ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ
عَنْ خَالِدٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَرِوَايَةُ سُهَيْلٍ فِي الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ، وَرِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ، وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَائِشَةَ وَأَبِي رَافِعٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، أَخْرَجَ الْأَرْبَعَةَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقِيَّ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
576 -
578 - (مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بِصَادَيْنِ بَعْدَ كُلِّ عَيْنٍ مُهْمَلَاتٍ، الْأَنْصَارِيِّ (الْمَازِنِيِّ) بِالزَّايِ، الْمَدَنِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) عَبْدِ اللَّهِ، هَكَذَا لِيَحْيَى وَجَمَاعَةٍ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ كَالشَّافِعِيِّ، فَنُسِبَ مُحَمَّدٌ لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ لِجَدِّهِ ; لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، فَنُسِبَ مُحَمَّدٌ إِلَى جَدِّهِ وَنُسِبَ جَدُّهُ إِلَى جَدِّهِ، هَذَا وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ حَدِيثَ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ خَطَأٌ فِي الْإِسْنَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ لِيَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْدُودٌ بِنَقْلِ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ مَحْفُوظَانِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا الْمَذْكُورَ سَمِعَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ. (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنْ نِصَابِ زَكَاةِ التَّمْرِ، فَلَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ بِدَلِيلِ الْآثَارِ وَالْإِجْمَاعِ. (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقِيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، جَمْعُ أُوقِيَّةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ، وَيُقَالُ أَوَاقٍ بِحَذْفِ الْيَاءِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: وَقِيَّةٌ، بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْوَاوِ (مِنَ الْوَرِقِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا، أَيِ الْفِضَّةِ مُطْلَقًا أَوِ الْمَضْرُوبَةِ دَرَاهِمَ، وَإِنَّمَا تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهَا مَجَازًا خِلَافٌ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْفِضَّةُ مَضْرُوبُهَا وَغَيْرُهُ. (صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ) بَيَانٌ لِذَوْدٍ (صَدَقَةٌ) بِالْإِضَافَةِ، وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَرْوِيهِ بِالتَّنْوِينِ لَا بِالْإِضَافَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ عِيَاضٌ: رَوَيْنَاهُ فِي جَمِيعِ الْأُمَّهَاتِ بِالْإِضَافَةِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْبَدَلِ، قَالَ: وَمَعْنَى دُونَ: أَقَلُّ أَيْ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنَ الْخَمْسِ شَيْءٌ فَتَضَمَّنَ فَائِدَتَيْنِ: سُقُوطَ الزَّكَاةِ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ، وَثُبُوتَهَا فِيهِ، وَتَعَقَّبَهُ الْأَبِيُّ بِأَنَّ الْأُولَى نَصٌّ بِالْمَنْطُوقِ وَالثَّانِيَةَ بِاللُّزُومِ أَوْ بِالْمَفْهُومِ إِنْ شِئْتَ فَفِيهِ اعْتِبَارٌ لِدَلَالَتَيْنِ، أَعْنِي دَلَالَةَ النَّصِّ وَالْمَفْهُومَ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ قَدْرِ النِّصَابِ، وَفَائِدَةُ
التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ زَكَاةٌ، لَتُوُهِّمَ أَنَّ مَا دُونَهَا مِمَّا قَارَبَهَا كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ لَهُ حُكْمُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَهَا وَإِنْ قَلَّ النَّقْصُ، انْتَهَى. وَيَرِدُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ عِيَاضٍ فَتَضَمَّنَ أَيْ بِالْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ أَيْ شَمِلَ فَائِدَتَيْنِ لَا التَّضَمُّنُ الِاصْطِلَاحِيُّ كَمَا ظَنَّهُ الْأَبِيُّ، وَإِنَّمَا ذَكَرُ الْإِمَامُ هَذَا الْحَدِيثَ عَقِبَ السَّابِقِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ قَوْلِهِ مِنَ التَّمْرِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْمُكَيَّلِ بِالْأَوْسُقِ، فَذَكَرَ هُنَا بَعْضَ مَا يُبَيَّنُ بِهِ. وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا:" «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» " وَلِزِيَادَةِ قَوْلِهِ مِنَ الْوَرِقِ، وَلِبَيَانِ الذَّوْدِ بِقَوْلِهِ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى صِحَّةِ إِسْنَادِهِ فَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَطَأٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَرَوَاهُ فِي بَابٍ آخَرَ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ مَالِكٍ بِنَحْوِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى دِمَشْقَ فِي الصَّدَقَةِ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ فِي الْحَرْثِ وَالْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ قَالَ مَالِكٌ وَلَا تَكُونُ الصَّدَقَةُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي الْحَرْثِ وَالْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
576 -
579 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَحَدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى دِمَشْقَ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْمِيمِ (فِي الصَّدَقَةِ) الزَّكَاةِ (إِنَّمَا الصَّدَقَةُ فِي الْحَرْثِ وَالْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا خِلَافَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ، وَيُخْتَلَفُ فِي تَفْصِيلِهِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَفْظُ " إِنَّمَا " لِلْحَصْرِ فَيُحْتَمَلُ نَفْيُهَا عَمَّا عَدَا الثَّلَاثَةَ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ لَكِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بَيَانُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَةَ عَلَى مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ; لِأَنَّهَا مُعْظَمُ مَا تَجِبُ فِيهِ كَحَدِيثِ:" «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا» " فَعَبَّرَ عَنِ الْأَرْضِ بِاسْمِ التُّرَابِ ; لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَجْزَائِهَا. (قَالَ مَالِكٌ: وَلَا تَكُونُ الصَّدَقَةُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي الْحَرْثِ) وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَنْمُو وَيَزْكُوا إِلَّا بِالْحَرْثِ (وَالْعَيْنِ) الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (وَالْمَاشِيَةِ) الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ.
[بَاب الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ مُكَاتَبٍ لَهُ قَاطَعَهُ بِمَالٍ عَظِيمٍ هَلْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ فَقَالَ الْقَاسِمُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ مَالٍ زَكَاةً حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَعْطَى النَّاسَ أَعْطِيَاتِهِمْ يَسْأَلُ الرَّجُلَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مَالٍ وَجَبَتْ عَلَيْكَ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِذَا قَالَ نَعَمْ أَخَذَ مِنْ عَطَائِهِ زَكَاةَ ذَلِكَ الْمَالِ وَإِنْ قَالَ لَا أَسْلَمَ إِلَيْهِ عَطَاءَهُ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 -
بَابُ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ
578 -
580 - (مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ) بِالْقَافِ (مَوْلَى الزُّبَيْرِ) الْمَدَنِيِّ، أَخِي مُوسَى، ثِقَةٌ (أَنَّهُ
سَأََلَ) كَذَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى وَلِابْنِ وَضَّاحٍ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ (الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ) بْنِ أَبِي بَكْرٍ (عَنْ مَكَاتَبٍ لَهُ قَاطَعَهُ بِمَالٍ عَظِيمٍ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَعْنَى مُقَاطَعَةِ الْمَكَاتَبِ أَخْذُ مَالٍ مُعَجَّلٍ مِنْهُ دُونَ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ لِيُعَجِّلَ عِتْقَهُ (هَلْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) وَالْمُقَاطَعَةُ فَائِدَةٌ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْهَا عِنْدَ مُسْتَفِيدِهَا الْحَوْلُ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحَوْلِ فِي الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ دُونَ الْمُعْشَرَاتِ. (قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَعْطَى النَّاسَ أَعْطِيَاتِهِمْ) جَمْعُ عَطَايَا جَمْعُ عَطِيَّةٍ (يَسْأَلُ الرَّجُلَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مَالٍ وَجَبَتْ عَلَيْكَ فِيهِ الزَّكَاةُ؟) بِأَنْ كَانَ نِصَابًا مَرَّ عَلَيْهِ الْحَوْلُ (فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، أَخَذَ مِنْ عَطَائِهِ زَكَاةَ ذَلِكَ الْمَالِ) الَّذِي عِنْدَهُ (وَإِنْ قَالَ: لَا، أَسْلَمَ إِلَيْهِ عَطَاءَهُ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا) لِعَدَمِ الْوُجُوبِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ إِذَا جِئْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَقْبِضُ عَطَائِي سَأَلَنِي هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مَالٍ وَجَبَتْ عَلَيْكَ فِيهِ الزَّكَاةُ قَالَ فَإِنْ قُلْتُ نَعَمْ أَخَذَ مِنْ عَطَائِي زَكَاةَ ذَلِكَ الْمَالِ وَإِنْ قُلْتُ لَا دَفَعَ إِلَيَّ عَطَائِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
579 -
581 - (مَالِكٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيِّ، مَوْلَاهُمْ أَبِي قُدَامَةَ الْمَكِّيِّ، ثِقَةٌ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ (عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ) الْقُرَشِيَّةِ الْجُمَحِيَّةِ الصَّحَابِيَّةِ (عَنْ أَبِيهَا) قُدَامَةَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالتَّخْفِيفِ، ابْنِ مَظْعُونٍ، بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ، الصَّحَابِيِّ الْبَدْرِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ إِذَا جِئْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) فِي خِلَافَتِهِ (أَقْبِضُ عَطَائِي سَأَلَنِي: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مَالٍ وَجَبَتْ عَلَيْكَ فِيهِ الزَّكَاةُ؟ قَالَ) قُدَامَةُ (فَإِنْ قُلْتُ نَعَمْ، أَخَذَ مِنْ عَطَائِي زَكَاةَ ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ قُلْتُ لَا، دَفَعَ إِلَيَّ عَطَائِي) كُلَّهُ، وَفِي سُؤَالِهِ كَأَبِي بَكْرٍ. وَقَوْلُهُمَا وَإِنْ قُلْتُ لَا. . . إِلَخْ، دَلِيلٌ عَلَى تَصْدِيقِ النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمُ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ، وَجَوَازُ إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا عَنْ فِضَّةٍ أَوْ عَكْسَهُ فَخِلَافٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لَا تَجِبُ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
580 -
582 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا تَجِبُ فِي مَالٍ) عُمُومٌ خُصَّ مِنْهُ الْمُعْشَرَاتُ لِأَدِلَّةٍ أُخَرَ (زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) رَوَاهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَهُ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» " وَفِي إِسْنَادِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ رَوَاهُ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَإِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ فِي غَيْرِ الشَّامِيِّينَ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مَرْفُوعًا وَضَعَّفَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَضَعَّفَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ أَعْنِي عَنْ إِسْنَادِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ مِنْ الْأَعْطِيَةِ الزَّكَاةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ مَالِكٌ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا نَاقِصَةً بَيِّنَةَ النُّقْصَانِ زَكَاةٌ فَإِنْ زَادَتْ حَتَّى تَبْلُغَ بِزِيَادَتِهَا عِشْرِينَ دِينَارًا وَازِنَةً فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا الزَّكَاةُ وَلَيْسَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ نَاقِصَةً بَيِّنَةَ النُّقْصَانِ زَكَاةٌ فَإِنْ زَادَتْ حَتَّى تَبْلُغَ بِزِيَادَتِهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَافِيَةً فَفِيهَا الزَّكَاةُ فَإِنْ كَانَتْ تَجُوزُ بِجَوَازِ الْوَازِنَةِ رَأَيْتُ فِيهَا الزَّكَاةَ دَنَانِيرَ كَانَتْ أَوْ دَرَاهِمَ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ سِتُّونَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ وَازِنَةً وَصَرْفُ الدَّرَاهِمِ بِبَلَدِهِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ مِنْ فَائِدَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَتَجَرَ فِيهَا فَلَمْ يَأْتِ الْحَوْلُ حَتَّى بَلَغَتْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَنَّهُ يُزَكِّيهَا وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ إِلَّا قَبْلَ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ بَعْدَ مَا يَحُولُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ ثُمَّ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ زُكِّيَتْ وَقَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَتَجَرَ فِيهَا فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَقَدْ بَلَغَتْ عِشْرِينَ دِينَارًا أَنَّهُ يُزَكِّيهَا مَكَانَهَا وَلَا يَنْتَظِرُ بِهَا أَنْ يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ بَلَغَتْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ حَالَ عَلَيْهَا وَهِيَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ ثُمَّ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ زُكِّيَتْ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي إِجَارَةِ الْعَبِيدِ وَخَرَاجِهِمْ وَكِرَاءِ الْمَسَاكِينِ وَكِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الزَّكَاةُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ يَقْبِضُهُ صَاحِبُهُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ يَكُونُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ إِنَّ مَنْ بَلَغَتْ حِصَّتُهُ مِنْهُمْ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ وَمَنْ نَقَصَتْ حِصَّتُهُ عَمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ بَلَغَتْ حِصَصُهُمْ جَمِيعًا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَكَانَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ أَفْضَلَ نَصِيبًا مِنْ بَعْضٍ أُخِذَ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي حِصَّةِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ ذَهَبٌ أَوْ وَرِقٌ مُتَفَرِّقَةٌ بِأَيْدِي أُنَاسٍ شَتَّى فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْصِيَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُخْرِجَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاتِهَا كُلِّهَا قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ أَفَادَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا إِنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ أَفَادَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
581 -
583 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَعْطِيَّةِ) جَمْعُ جَمْعٍ لِعَطِيَّةَ (الزَّكَاةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُرِيدُ أَخْذَ زَكَاتِهَا نَفْسِهَا مِنْهَا لَا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهَا عَنْ غَيْرِهَا مِمَّا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ مَنْ وَافَقَهُ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ الزُّهْرِيَّ فَلِذَا قَالَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ. قَالَ: وَهَذَا شُذُوذٌ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا قَالَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَامِرٍ مِثْلَ قَوْلِهِمَا ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ مُعَاوِيَةُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَطَاءِ زَكَاةَ ذَلِكَ الْعَطَاءِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى حَقَّهُ وَاجِبًا قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِ، فَكَانَ يَرَاهُ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ يَمُرُّ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فِي حَالَةِ الِاشْتِرَاكِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَلَمْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهَا، إِذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِلْكُ مَنْ أُعْطِيهَا إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ ; لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنَّ يَصْرِفَهَا إِلَى غَيْرِهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَنَحْوَ هَذَا التَّأْوِيلِ ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ (قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ (أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي نِصَابِ الذَّهَبِ شَيْءٌ إِلَّا مَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «هَاتُوا زَكَاةَ
الذَّهَبِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ» " وَابْنُ عُمَارَةَ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ حَدِيثِهِ لِسُوءِ وَكَثْرَةِ خَطَئِهِ. وَرَوَاهُ الْحَافِظُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ، لَكِنْ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: " وَمَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ فَبِحِسَابِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكَثُرَ " وَإِلَيْهِ ذَهَبُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَعَلُوا فِي الْعَيْنِ أَوْقَاصًا كَالْمَاشِيَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا زَكَاةَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا بَلَغَتْهَا زُكِّيَتْ، كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ أَقَلَّ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا، فَفِيهَا دِينَارٌ وَلَا يُرَاعَى حِينَئِذٍ الصَّرْفُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ دَاوُدَ. وَرِوَايَةٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ: لَا زَكَاةَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا فَفِيهَا رُبُعُ عُشْرِهِ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا نَاقِصَةً بَيِّنَةَ النُّقْصَانِ زَكَاةٌ) لِعَدَمِ بُلُوغِ النِّصَابِ (فَإِنْ زَادَتْ حَتَّى تَبْلُغَ بِزِيَادَتِهَا عِشْرِينَ دِينَارًا وَازِنَةً فَفِيهَا الزَّكَاةُ) وُجُوبًا (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا الزَّكَاةُ) وَدُونَ بِمَعْنَى أَقَلَّ (وَلَيْسَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ نَاقِصَةً بَيِّنَةَ النُّقْصَانِ زَكَاةٌ، فَإِنْ زَادَتْ حَتَّى يَبْلُغَ بِزِيَادَتِهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَافِيَةً فَفِيهَا الزَّكَاةُ) وَفِي نُسْخَةٍ زَكَاةٌ بِالتَّنْكِيرِ (فَإِنْ كَانَتْ تَجُوزُ بِجَوَازِ الْوِزَانَةِ رَأَيْتُ فِيهَا الزَّكَاةَ دَنَانِيرَ كَانَتْ أَوْ دَرَاهِمَ) قَالَ الْأَبْهَرِيُّ وَابْنُ الْقَصَّارِ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا وَازِنَةٌ فِي مِيزَانٍ وَفِي آخَرَ نَاقِصَةٌ، فَإِذَا نَقَصَتْ فِي جَمِيعِ الْمَوَازِينِ فَلَا زَكَاةَ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: مَعْنَاهُ النَّقْصُ الْقَلِيلُ فِي جَمِيعِ الْمَوَازِينِ كَحَبَّةٍ وَحَبَّتَيْنِ وَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ فِيهَا غَالِبًا غَرَضَ الْوَازِنَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَمَا سِوَاهُ تَأْوِيلٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ، وَحَمَلُوا تَفْصِيلَهُ عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمُ الْمَوْزُونَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَعْدُودَةِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. قَالَ ابْنُ زَرْقُونَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَصَّارِ وَالْأَبْهَرِيِّ فِي الْمَوْزُونَةِ، وَقَوْلَ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الْمَعْدُودَةِ، فَلَا يَكُونُ خِلَافًا، كَذَا قَالَ وَلَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ نَصَّ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي جَمِيعِ الْمَوَازِينِ، فَكَيْفَ يُقَالُ فِي الْمَعْدُودِ؟ . (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ سِتُّونَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ وَازِنَةً وَصَرْفُ الدَّرَاهِمِ
بِبَلَدِهِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) ; لِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِنِصَابِ نَفْسِهِ لَا بِقِيمَتِهِ، فَلَا الْفِضَّةُ بِقِيمَتِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَلَا عَكْسُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ شَاةً قِيمَتُهَا أَرْبَعُونَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ قِيمَتُهَا عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ أَرْبَعُونَ دِينَارًا فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ نَقَصَ النَّقْدُ عَنِ النِّصَابِ وَبَلَغَتْ قِيمَةُ صِيَاغَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ) مَثَلًا، وَالْمُرَادُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ (مِنْ فَائِدَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَتَجَرَ فِيهَا فَلَمْ يَأْتِ الْحَوْلُ حَتَّى بَلَغَتْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَنَّهُ يُزَكِّيهَا وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ إِلَّا قَبْلَ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ بَعْدَ مَا يَحُولُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ زُكِّيَتْ) هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّ حَوْلَ رِبْحِ الْمَالِ حَوْلُ أَصْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ نِصَابًا قِيَاسًا عَلَى نَسْلِ الْمَاشِيَةِ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَصْحَابُهُ وَقَاسَهُ عَلَى مَا لَا يُشْبِهُهُ فِي أَصْلِهِ وَلَا فِي فَرْعِهِ، وَهُمَا أَصْلَانِ، وَالْأُصُولُ لَا يُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَإِنَّمَا يُرَدُّ الْفَرْعُ إِلَى أَصْلِهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَ رِبْحِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَالِكٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ نِصَابًا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ كَأَصْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ نِصَابًا، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ غَيْرُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الرِّبْحُ كَالْفَوَائِدِ يُسْتَأْنَفُ بِهَا حَوْلٌ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
(وَقَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ) أَيْ عِنْدَهُ (عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَتَجَرَ فِيهَا فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَقَدْ بَلَغَتْ عِشْرِينَ دِينَارًا: إِنَّهُ يُزَكِّيهَا مَكَانَهَا وَلَا يَنْتَظِرُ بِهَا أَنْ يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ بَلَغَتْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) وَهُوَ الْعِشْرُونَ (لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ حَالَ عَلَيْهَا وَهِيَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ) بِالرِّبْحِ، وَهُوَ يَقَدَّرُ كَأَنَّهُ كَائِنٌ فِيهَا (ثُمَّ لَا زَكَاةَ
فِيهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ زُكِّيَتْ) وَهَذَا بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ غَايَتُهُ أَنَّهُ فَرَضَهَا فِي الْأُولَى فِي خَمْسَةٍ وَالثَّانِيَةِ فِي عَشَرَةٍ بِحَسَبِ سُؤَالِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَجَابَ فِيهِمَا بِحُكْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ضَمُّ الرِّبْحِ لِأَصْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا. (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ (فِي إِجَارَةِ الْعَبِيدِ وَخَرَاجِهِمْ وَكِرَاءِ الْمَسَاكِنِ وَكِتَابَةِ الْمَكَاتَبِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الزَّكَاةُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ يَقْبِضُهُ صَاحِبُهُ) وَهُوَ نِصَابٌ ; لِأَنَّهَا فَوَائِدُ تَجَدَّدَتْ لَا عَنْ مَالٍ فَيَسْتَقْبَلُ بِهَا (وَقَالَ مَالِكٌ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ يَكُونُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ: أَنَّ مَنْ بَلَغَتْ حِصَّتُهُ مِنْهُمْ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَمَنْ نَقَصَتْ حِصَّتُهُ عَمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَتْ حِصَصُهُمْ جَمِيعًا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَكَانَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ أَفْضَلَ نَصِيبًا مِنْ بَعْضٍ) بِأَنْ كَانَ لِوَاحِدٍ نِصَابٌ وَآخَرَ نِصَابَانِ مَثَلًا (أُخِذَ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي حِصَّةِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» ) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَضَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ (قَالَ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ خِلَافَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ وَالْحَسَنَ وَالشَّعْبِيَّ قَالُوا: إِنَّ الشُّرَكَاءَ فِي الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُهُمْ مَالَهُ بِعَيْنِهِ أَنَّهُمْ يُزَكُّونَ زَكَاةَ الْوَاحِدِ قِيَاسًا عَلَى الْخُلَطَاءِ فِي الْمَاشِيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَوَافَقَ مَالِكًا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ ذَهَبٌ أَوْ وَرِقٌ مُتَفَرِّقَةٌ بِأَيْدِي أُنَاسٍ شَتَّى فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْصِيَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُخْرِجَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاتِهَا كُلِّهَا) هَذَا إِجْمَاعٌ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ دُيُونًا فِي الذِّمَمِ وَقِرَاضًا يُنْتَظَرُ أَنْ يَنِضَّ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. (قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ أَفَادَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا) بِنَحْوِ مِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجَارَةٍ إِلَى آخِرِهِ (إِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ هُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ (لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَهَا) إِذْ هِيَ تَجَدَّدَتْ عَنْ غَيْرِ مَالٍ فَيُسْتَقْبَلُ، وَمَا هُنَا أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ.
[بَاب الزَّكَاةِ فِي الْمَعَادِنِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرُعِ فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَى الْيَوْمِ إِلَّا الزَّكَاةُ» قَالَ مَالِكٌ أَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَعَادِنِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا قَدْرَ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ مَكَانَهُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أُخِذَ بِحِسَابِ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي الْمَعْدِنِ نَيْلٌ فَإِذَا انْقَطَعَ عِرْقُهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ نَيْلٌ فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ يُبْتَدَأُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا ابْتُدِئَتْ فِي الْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ وَالْمَعْدِنُ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الزَّرْعِ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ الْحَوْلُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ الْعُشْرُ وَلَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3 -
بَابُ الزَّكَاةِ فِي الْمَعَادِنِ
جَمْعُ مَعْدِنٍ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ عَدَنَ إِذَا أَقَامَ لِإِقَامَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِهِ، أَوْ لِإِقَامَةِ النَّاسِ فِيهَا شِتَاءً وَصَيْفًا.
582 -
584 - (مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) وَاسْمُهُ فَرُّوخُ الْمَدَنِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ (عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ) مُرْسَلٌ عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ، وَوَصَلَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ الدِّيلِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ « (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ) بْنِ عَاصِمِ بْنِ سَعِيدٍ (الْمُزَنِيِّ) مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ مُزَيْنَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ يَسْكُنُ وَرَاءَ الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ» ، أَحَادِيثُهُ فِي السُّنَنِ وَصَحِيحَيِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ، قَالَ الْمَدَائِنِيُّ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً (مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: نِسْبَةً إِلَى قَبَلٍ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْبَاءِ، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي الْحَدِيثِ، وَفِي كِتَابِ الْأَمْكِنَةِ: الْقِلَبَةُ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَبَعْدَهَا لَامٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ بَاءٌ (وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرُعِ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ كَمَا جَزَمَ بِهِ السُّهَيْلِيُّ
وَعِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ التَّنْبِيهَاتِ: هَكَذَا قَيَّدَهُ النَّاسُ وَكَذَا رَوَيْنَاهُ. وَحَكَى عَبْدُ الْحَقِّ عَنِ الْأَحْوَلِ إِسْكَانَ الرَّاءِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، انْتَهَى.
فَاقْتِصَارُ النِّهَايَةِ وَالنَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ عَلَى الْإِسْكَانِ مَرْجُوحٌ، قَالَ فِي الرَّوْضِ: بِضَمَّتَيْنِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، يُقَالُ إِنَّهَا أَوَّلُ قَرْيَةٍ مَارَتْ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ التَّمْرَ بِمَكَّةَ، وَفِيهَا عَيْنَانِ يُقَالُ لَهُمَا الرَّبَضُ وَالتُّحَفُ يَسْقِيَانِ عِشْرِينَ أَلْفَ نَخْلَةٍ كَانَتْ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالرَّبَضُ مَنَابِتُ الْأَرَاكِ فِي الرَّمْلِ (فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَى الْيَوْمِ إِلَّا الزَّكَاةُ) فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ (قَالَ مَالِكٌ: أَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنَ الْمَعَادِنِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا قَدْرَ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا) أَيْ ذَهَبًا (أَوَ) قَدْرَ (مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) فِضَّةً وَهِيَ خَمْسُ أَوَاقٍ، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْدِنُ كَالرِّكَازِ وَفِيهِ الْخُمُسُ يُؤْخَذُ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" «فِي الْمَعْدِنِ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» " فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَجَمَعَهُمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْدِنَ يَحْتَاجُ إِلَى عَمَلٍ وَمُؤْنَةٍ وَمُعَالَجَةٍ لِاسْتِخْرَاجِهِ بِخِلَافِ الرِّكَازِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الشَّرْعِ أَنَّ مَا عَظُمَتْ مُؤْنَتُهُ خُفِّفَ عَنْهُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ وَمَا خَفَّتْ زِيدَ فِيهِ (فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ) رُبُعُ الْعُشْرِ (مَكَانَهُ) يُرِيدُ عِنْدَ أَخْذِهِ مِنَ الْمَعْدِنِ وَاجْتِمَاعِهِ عِنْدَ الْعَامِلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ عِنْدَ تَصْفِيَتِهِ وَاقْتِسَامِهِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ عِنْدَ انْفِصَالِهِ مِنْ مَعْدِنِهِ كَالزَّرْعِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِبُدُوِّ صَلَاحِهِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أُخِذَ بِحِسَابِ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي الْمَعْدِنِ نَيْلٌ) فَيُضَمُّ إِلَى الْأَوَّلِ الَّذِي بَلَغَ النِّصَابَ وَيُزَكَّى ; لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ عِرْقِهِ. (فَإِذَا انْقَطَعَ عِرْقُهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ نَيْلٌ) آخَرُ (فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ يُبْتَدَأُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا ابْتُدِئَتْ فِي الْأَوَّلِ) فَإِنْ زَكَّى وَإِلَّا فَلَا، وَيَضُمُّ بَقِيَّةَ عِرْقِهِ إِنْ بَلَغَ كَالْأَوَّلِ، فَلَا يُضَافُ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ بَلَغَ الْأَوَّلُ نِصَابًا أَمْ لَا، كَمَا لَا يُضَافُ زَرْعٌ عَامٌّ إِلَى زَرْعٍ عَامٍّ آخَرَ. (وَالْمَعْدِنُ) وَلِابْنِ وَضَّاحٍ: وَالْمَعَادِنُ (بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ) لِأَنَّ اللَّهَ يُنْبِتُهُ فِي الْأَرْضِ كَمَا يُنْبِتُ الزَّرْعَ (يُؤْخَذُ مِنْهُ) وَلِابْنِ وَضَّاحٍ مِنْهَا (مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الزَّرْعِ) لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ بَلْ فِي تَزْكِيَتِهِ مَكَانَهُ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ:
(يُؤْخَذُ مِنْهُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْمَعْدِنِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ الْحَوْلُ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ الْعُشْرُ) أَوْ نَصِفُهُ (وَلَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) فَاسْتُدِلَّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: مَكَانَهُ، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ: لَا زَكَاةَ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ; لِأَنَّهُ فَائِدَةٌ تُسْتَقْبَلُ بِهَا.
[بَاب زَكَاةِ الرِّكَازِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا وَالَّذِي سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَهُ إِنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ دِفْنٌ يُوجَدُ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا لَمْ يُطْلَبْ بِمَالٍ وَلَمْ يُتَكَلَّفْ فِيهِ نَفَقَةٌ وَلَا كَبِيرُ عَمَلٍ وَلَا مَئُونَةٍ فَأَمَّا مَا طُلِبَ بِمَالٍ وَتُكُلِّفَ فِيهِ كَبِيرُ عَمَلٍ فَأُصِيبَ مَرَّةً وَأُخْطِئَ مَرَّةً فَلَيْسَ بِرِكَازٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4 -
بَابُ زَكَاةِ الرِّكَازِ
بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَآخِرُهُ زَايٌ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّكْزِ بِفَتْحِ الرَّاءِ، يُقَالُ: رَكَزَهُ يَرْكُزُهُ رَكْزًا إِذَا دَفَنَهُ فَهُوَ مَرْكُوزٌ، وَتَسْمِيَةُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ زَكَاةً مَجَازٌ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ الزَّكَاةَ.
583 -
585 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بْنِ حَزْنٍ (وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ كِلَاهُمَا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» ) سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْحَرْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، خِلَافًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ الْخُمُسُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَفِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ فِيهِ الزَّكَاةُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَرَّقَ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ غَيْرَهُ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، خِلَافًا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجِبُ الْخُمُسُ حَتَّى يَبْلُغَ النِّصَابَ، وَلَا بَيْنَ النَّقْدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كَنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَجَوَاهِرَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا رِوَايَةٌ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْعُمُومُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
لَطِيفَةٌ: وَقَعَ أَنَّ رَجُلًا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَاحْفِرْهُ فَإِنَّ فِيهِ رِكَازًا فَخُذْهُ لَكَ وَلَا خُمُسَ عَلَيْكَ فِيهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَحَفَرَهُ فَوَجَدَ الرِّكَازَ فِيهِ فَاسْتَفْتَى عُلَمَاءَ عَصْرِهِ فَأَفْتَوْهُ بِأَنَّهُ لَا خُمُسَ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ الرُّؤْيَا، وَأَفْتَى الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ عَلَيْهِ الْخُمُسَ وَقَالَ: أَكْثَرُ مَا يَنْزِلُ مَنَامُهُ مَنْزِلَةَ حَدِيثٍ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ وَقَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ وَهُوَ حَدِيثُ: " «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» ". وَاخْتَصَرَ الْإِمَامُ هُنَا لَفْظَ هَذَا الْحَدِيثِ وَسَاقَهُ تَامًّا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» ". فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ جَوَازُ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ تَامًّا.
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا وَالَّذِي سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ أَنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ دِفْنٌ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ شَيْءٌ مَدْفُونٌ، كَذِبْحٍ بِمَعْنَى مَذْبُوحٍ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَالْمَصْدَرُ وَلَا يُرَادُ هُنَا قَالَهُ الْحَافِظُ كَالزَّرْكَشِيِّ، وَرَدَّهُ الدَّمَامِينِيُّ بِأَنَّهُ يَصِحُّ الْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ مِثْلُ الدِّرْهَمِ ضَرْبُ الْأَمِيرِ وَهَذَا الثَّوْبُ نَسْجُ الْيَمَنِ. (يُوجَدُ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا) أَيْ مُدَّةَ كَوْنِهِ (لَمْ يُطْلَبْ بِمَالٍ) يُنْفَقُ عَلَى إِخْرَاجِهِ. (وَلَمْ يُتَكَلَّفْ فِيهِ نَفَقَةٌ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ (وَلَا كَبِيرُ عَمَلٍ وَلَا مُؤْنَةٍ) فَهَذَا الَّذِي فِيهِ الْخُمُسُ سَاعَةَ يُوجَدُ (فَأَمَّا مَا طُلِبَ بِمَالٍ وَتُكُلِّفَ فِيهِ كَبِيرُ عَمَلٍ فَأُصِيبَ مَرَّةً وَأُخْطِئَ مَرَّةً فَلَيْسَ بِرِكَازٍ) حُكْمًا فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ وَلَا يُخَمَّسُ، وَإِلَّا فَاسْمُ الرِّكَازِ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِفَادَةُ الْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ بِاحْتِيَاجِ الْمَعْدِنِ إِلَى عَمَلٍ وَمُؤْنَةٍ وَمُعَالَجَةٍ لِاسْتِخْرَاجِهِ بِخِلَافِ الرِّكَازِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ ; لِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ فَنَزَلَ وَاجِدُهُ مَنْزِلَةَ الْغَانِمِ فَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّ الرِّكَازَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَرْكَزْتُهُ فِي الْأَرْضِ إِذَا غَرَزْتَهُ فِيهَا، وَأَمَّا الْمَعْدِنُ فَإِنَّهُ يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ وَضْعِ وَاضِعٍ، هَذِهِ حَقِيقَتُهُمَا، فَإِذَا افْتَرَقَا فِي أَصْلِهِمَا فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهِمَا.
[بَاب مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنْ الْحُلِيِّ وَالتِّبْرِ وَالْعَنْبَرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَلِي بَنَاتَ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حَجْرِهَا لَهُنَّ الْحَلْيُ فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5 -
بَابُ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالتِّبْرِ وَالْعَنْبَرِ
اخْتُلِفَ فِي الْعَنْبَرِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: أَخْبَرَنِي عَدَدٌ مِمَّنْ أَثِقُ بِخَبَرِهِ أَنَّهُ نَبَاتٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي جَنَبَاتِ الْبَحْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَأْكُلُهُ حُوتٌ فَيَمُوتُ فَيُلْقِيهِ الْبَحْرُ فَيُؤْخَذُ فَيُشَقُّ بَطْنُهُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ. وَحَكَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ نَبْتٌ فِي الْبَحْرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَشِيشِ فِي الْبَرِّ، وَقِيلَ: هُوَ شَجَرٌ يَنْبُتُ فِي الْبَحْرِ فَيَنْكَسِرُ فَيُلْقِيهِ الْمَوْجُ إِلَى السَّاحِلِ، وَقِيلَ: يَخْرُجُ مِنْ عَيْنٍ، قَالَهُ ابْنُ سَيْنَاءَ، قَالَ: وَمَا يُحْكَى أَنَّهُ رَوَثُ دَابَّةٍ أَوْ قَيْئُهَا أَوْ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ فَبَعِيدٌ.
584 -
586 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ) الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصِّدِّيقِ (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَلِي بَنَاتَ أَخِيهَا) لِأَبِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ (يَتَامَى فِي حِجْرِهَا) أَيْ مَنْعِهَا لَهُنَّ مِنَ التَّصَرُّفِ (لَهُنَّ الْحَلْيُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مُفْرَدٍ، وَبِضَمٍّ وَكَسْرِ اللَّامِ وَشَدِّ الْيَاءِ جَمْعٌ (فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ) بِالْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ (الزَّكَاةَ) فَفِيهِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ، قَالَ الْبَاجِيُّ: قَوْلُهُ لَهُنَّ يَقْتَضِي مَلِكَهُنَّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْنَ فِيهِ لِكَوْنِهِنَّ مَحْجُورَاتٍ، فَقَدْ يَمْلِكُ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ كَصَغِيرٍ وَسَفِيهٍ، وَيَتَصَرَّفُ مَنْ لَا يَمْلِكُ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْإِمَامِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتَهُ وَجَوَارِيَهُ الذَّهَبَ ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ قَالَ مَالِكٌ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ تِبْرٌ أَوْ حَلْيٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِلُبْسٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ عَامٍ يُوزَنُ فَيُؤْخَذُ رُبُعُ عُشْرِهِ إِلَّا أَنْ يَنْقُصَ مِنْ وَزْنِ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُمْسِكُهُ لِغَيْرِ اللُّبْسِ فَأَمَّا التِّبْرُ وَالْحُلِيُّ الْمَكْسُورُ الَّذِي يُرِيدُ أَهْلُهُ إِصْلَاحَهُ وَلُبْسَهُ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ زَكَاةٌ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَلَا فِي الْمِسْكِ وَلَا الْعَنْبَرِ زَكَاةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
585 -
587 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتَهِ وَجَوَارِيَهُ الذَّهَبَ ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُمَلِّكَهُنَّ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُزَيِّنَهُنَّ بِهِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُرْصَدَةِ لِلتَّنْمِيَةِ فَتَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ، وَلَا يُخْرَجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ: الصِّيَاغَةُ الْمُبَاحَةُ وَاللُّبْسُ الْمُبَاحُ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ الْمَدَنِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِيهِ، وَتَأَوَّلُوا أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عُمَرَ لَمْ يُخْرِجَا زَكَاتَهُ ; لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي مَالِ يَتِيمٍ وَلَا صَغِيرٍ، وَتَأَوَّلُوا فِي الْجَوَارِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ وَلَا زَكَاةَ عَلَى عَبْدٍ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، وَابْنُ عُمَرَ كَانَ لَا يُزَكِّي مَا يُحَلِّي بِهِ بَنَاتَهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا يَتِيمٌ وَلَا عَبْدٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْكِحُ الْبِنْتَ لَهُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ يُحَلِّيهَا مِنْهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ فَلَا يُزَكِّيهِ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ حَدِيثِ:" «فِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» ". وَحَدِيثِ: " «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ» ". وَحَدِيثِ: " «الذَّهَبُ فِي أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ» ". وَلَمْ يَخُصَّ حُلِيًّا مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا يَرُدُّهُ الْعَمَلُ الْمَعْمُولُ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَيُخَصِّصُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الرِّقَّةُ ثُمَّ الْعَرَبُ الْوَرِقُ الْمَنْقُوشَةُ ذَاتُ السَّكَّةِ السَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " أَنَّ «امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مِسْكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَقَالَ: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكَ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ، فَخَلَعَتْهُمَا وَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ:
هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» ". وَعَنْ عَائِشَةَ نَحْوَ هَذَا. وَحَدِيثُ الْمُوَطَّأِ بِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ أَثْبَتُ إِسْنَادًا، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَسْمَعَ عَائِشَةُ مِثْلَ هَذَا الْوَعِيدِ وَتُخَالِفُهُ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهَا عُلِمَ أَنَّهَا عَلِمَتِ النَّسْخَ، وَالْأَصْلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْوَالُ النَّامِيَةُ أَوِ الْمَطْلُوبُ فِيهَا النَّمَاءُ بِالتَّصَرُّفِ.
(قَالَ مَالِكٌ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ تِبْرٌ أَوْ حُلِيٌّ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَهُوَ نِصَابٌ) وَهُوَ نِصَابٌ (لَا يَنْتَفِعُ بِهِ لِلُبْسٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ عَامٍ يُوزَنُ فَيُؤْخَذُ رُبُعُ عُشْرِهِ إِلَّا أَنْ يَنْقُصَ مِنْ وَزْنِ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا) أَيْ ذَهَبًا خَالِصًا (أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ) وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ وَزْنَهُ كُلَّ عَامٍ إِذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ أَوْ نَسِيَ وَزْنَهُ، أَمَّا إِذَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَنْسَ وَزْنَهُ فَيَكْفِي عِلْمُ وَزْنِهِ أَوَّلَ عَامٍ (وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُمْسِكُهُ لِغَيْرِ اللُّبْسِ) كَإِعْدَادِهِ لِعَاقِبَةٍ أَوْ قِنْيَةٍ (فَأَمَّا التِّبْرُ وَالْحُلِيُّ الْمَكْسُورُ الَّذِي يُرِيدُ أَهْلُهُ إِصْلَاحَهُ وَلُبْسَهُ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ زَكَاةٌ) وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ فَأَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ (قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِي اللُّؤْلُؤِ) وَهُوَ مَطَرُ الرَّبِيعِ يَقَعُ فِي الصَّدَفِ (وَلَا فِي الْمِسْكِ) الطَّيِّبِ الْمَعْرُوفِ. وَفِي مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: " «أَطْيَبُ الطِّيبِ الْمِسْكُ» ". (وَلَا الْعَنْبَرِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهَا كَسَائِرِ الْعُرُوضِ لَا زَكَاةَ فِي أَعْيَانِهَا اتِّفَاقًا. وَاخْتُلِفَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ حِينَ يَخْرُجَانِ مِنَ الْبَحْرِ، فَالْجُمْهُورُ لَا شَيْءَ فِيهِمَا خِلَافًا لِقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيهِ الْخُمُسُ، وَرَدَّهُ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا جَعَلَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ لَيْسَ فِي الَّذِي يُصَابُ فِي الْمَاءِ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى لُغَةً رِكَازًا، قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ غَيْرَ الرِّكَازِ لَا خُمُسَ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ ; لِأَنَّهُمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَأَشْبَهَا السَّمَكَ، وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: فِي الْعَنْبَرِ وَكُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْخُمُسُ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ:" سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْعَنْبَرِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَفِيهِ الْخُمُسُ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ " وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَزَمَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَقَالَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 103) فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِيجَابِ زَكَاةٍ إِلَّا مَا أَخَذَهُ صلى الله عليه وسلم وَوَقَفَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ.
[بَاب زَكَاةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالتِّجَارَةِ لَهُمْ فِيهَا]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
6 -
بَابُ زَكَاةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالتِّجَارَةِ لَهُمْ فِيهَا
587 -
588 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ) إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 103) وَفَسَّرَهُ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: " «أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ» ". وَلَمْ يُخَصِّصْ كَبِيرًا مِنْ صَغِيرٍ، وَإِنَّمَا الزَّكَاةُ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَمَتَى وُجِدَ الْغِنَى وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي طَائِفَةٍ: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ يَتِيمٍ وَلَا صَغِيرٍ، وَتَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَوْلَ عُمَرَ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ هُنَا النَّفَقَةُ كَحَدِيثِ:" «إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَهْلِهِ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» ". وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ اسْمَ الزَّكَاةِ لَا يُطْلَقُ عَلَى النَّفَقَةِ لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَلَا يُقَاسُ عَلَى لَفْظِ صَدَقَةٍ ; لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ، وَأَيْضًا فَالصَّدَقَةُ لَا تُطْلَقُ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِالصَّدَقَةِ فِي الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عُمُومُ حَدِيثِ:" تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ". وَالْقِيَاسُ عَلَى زَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْفِطْرِ، وَالْوَلِيُّ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالزَّكَاةِ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِ إِخْرَاجِهَا لَا الطِّفْلُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَلِينِي وَأَخًا لِي يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِهَا فَكَانَتْ تُخْرِجُ مِنْ أَمْوَالِنَا الزَّكَاةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
587 -
589 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصِّدِّيقِ (عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَلِينِي) تَتَوَلَّى أَمْرِي (أَنَا وَأَخًا لِي يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِهَا) بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِمَا بِمِصْرَ (فَكَانَتْ تُخْرِجُ مِنْ أَمْوَالِنَا الزَّكَاةَ) وَهِيَ بِالْمَكَانِ الْعَالِي، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهَا فِي مَالِ الْيَتَامَى، وَاحْتَجَّ لَهُ أَبُو عُمَرَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى زَكَاةِ حَرْثِ الْيَتِيمِ وَثِمَارِهِ، وَعَلَى وُجُوبِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ وَقِيمَةِ مَا يُتْلِفُهُ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ جُنَّ أَحْيَانًا وَالْحَائِضَ لَا يُرَاعَى قَدْرَ الْجُنُونِ وَالْحَيْضِ مِنَ الْحَوْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَنَّهَا حَقُّ الْمَالِ لَا الْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَمَنْ لَا تَجِبُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تُعْطِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى الَّذِينَ فِي حَجْرِهَا مَنْ يَتَّجِرُ لَهُمْ فِيهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
587 -
590 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تُعْطِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى الَّذِينَ فِي حَجْرِهَا مَنْ يَتَّجِرُ لَهُمْ فِيهَا) لِئَلَّا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ اشْتَرَى لِبَنِي أَخِيهِ يَتَامَى فِي حَجْرِهِ مَالًا فَبِيعَ ذَلِكَ الْمَالُ بَعْدُ بِمَالٍ كَثِيرٍ قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَهُمْ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَأْمُونًا فَلَا أَرَى عَلَيْهِ ضَمَانًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
589 -
591 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ اشْتَرَى لِبَنِي أَخِيهِ) عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، يَتَامَى فِي حَجْرِهِ (مَالًا) أَيْ شَيْئًا مُتَمَوَّلًا (فَبِيعَ ذَلِكَ الْمَالُ بَعْدُ) بِالضَّمِّ، أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ (بِمَالٍ كَثِيرٍ) بِمُوَحَّدَةٍ أَوْ مُثَلَّثَةٍ (قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَهُمْ) قَيْدٌ أَوَّلُ (إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَأْمُونًا) قَيْدٌ ثَانٍ فِي الْجَوَازِ، فَإِنْ خُسِرَتْ أَمْوَالُهُمْ أَوْ تَلَفَتْ (فَلَا أَرَى عَلَيْهِ ضَمَانًا) ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَأَمَّا إِنْ تَسَلَّفَهَا وَتَجَرَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ ضَرُورَةٌ فِي وَقْتٍ إِلَى قَلِيلٍ مِنْهُ ثُمَّ يُسْرِعُ بِرَدِّهِ، وَلَيْسَ كَتَسَلُّفِ الْمُودِعِ مِنَ الْوَدِيعَةِ ; لِأَنَّ الْمُودِعَ تَرَكَ الِانْتِفَاعَ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَجَازَ لِلْمُودِعِ الِانْتِفَاعُ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَلَا كَذَلِكَ مَالُ الْيَتِيمِ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَنْمِيَةِ مَالِهِ كَالْمِبْضَعِ مَعَهُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَاب زَكَاةِ الْمِيرَاثِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا هَلَكَ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ إِنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَلَا يُجَاوَزُ بِهَا الثُّلُثُ وَتُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا وَأَرَاهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ تُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا قَالَ وَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ الْمَيِّتُ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَهْلُهُ فَذَلِكَ حَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَهْلُهُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ ذَلِكَ قَالَ وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى وَارِثٍ زَكَاةٌ فِي مَالٍ وَرِثَهُ فِي دَيْنٍ وَلَا عَرْضٍ وَلَا دَارٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا وَلِيدَةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَى ثَمَنِ مَا بَاعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ اقْتَضَى الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ بَاعَهُ وَقَبَضَهُ وَقَالَ مَالِكٌ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى وَارِثٍ فِي مَالٍ وَرِثَهُ الزَّكَاةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
7 -
بَابُ زَكَاةِ الْمِيرَاثِ
- (مَالِكٌ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا هَلَكَ) مَاتَ (وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ إِنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَلَا يُجَاوَزُ بِهَا الثُّلُثُ) لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزَّكَاةِ لِيَحْرِمَ وَارِثَهُ مَالَهُ فَلَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ وَارِثَهُ إِلَّا مَنَعَهُ، وَقَالَ:(وَتُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا) تَأْكِيدًا، وَقَدْ قَالَ: إِنَّهُ يُبَدَّى
عَلَيْهَا مُدَبِّرَ الصِّحَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يُبَدَّى عَلَيْهَا صَدَاقُ الْمَرِيضِ (وَأَرَاهَا بِمَنْزِلَةِ الدِّيْنِ عَلَيْهِ) لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَبْدِيَةَ الزَّكَاةِ عَلَى الْوَصَايَا كَتَبْدِيَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ. (فَلِذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ تُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا) وَلَمْ يُشْكَلْ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ لَفْظُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. (قَالَ: وَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ الْمَيِّتُ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَهْلُهُ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَهْلُهُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ ذَلِكَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُبَدَّى الزَّكَاةُ قَبْلَ الدُّيُونِ ; لِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا حَتَّى يُخْرِجَهَا، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَإِنْ مَدِينًا مَا لَمْ يُوقَفْ لِلْغُرَمَاءِ (وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا) بِالْمَدِينَةِ (أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى وَارِثٍ زَكَاةٌ فِي مَالٍ وَرِثَهُ فِي دَيْنٍ وَلَا عَرْضٍ وَلَا دَارٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا وَلِيدَةٍ) أَيْ أَمَةٍ (حَتَّى يَحُولَ عَلَى ثَمَنِ مَا بَاعَ مِنْ ذَلِكَ أَوِ اقْتَضَى) قَبَضَ (الْحَوْلُ) فَاعِلُ يَحُولُ (مِنْ يَوْمِ بَاعَهُ وَقَبَضَهُ) ; لِأَنَّهُ فَائِدَةٌ. (قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى وَارِثٍ فِي مَالٍ وَرِثَهُ الزَّكَاةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) ; لِأَنَّهُ فَائِدَةٌ يُسْتَقْبَلُ بِهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ يَقْبِضُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا إِجْمَاعٌ لَا خِلَافَ فِيهِ إِلَّا مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، انْتَهَى. لَكِنَّ الَّذِي جَاءَ عَنْهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَطَاءِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ ; لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَلَا شَرِكَةَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[بَاب الزَّكَاةِ فِي الدَّيْنِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَقُولُ هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ حَتَّى تَحْصُلَ أَمْوَالُكُمْ فَتُؤَدُّونَ مِنْهُ الزَّكَاةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
8 -
بَابُ الزَّكَاةِ فِي الدَّيْنِ
591 -
592 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) الْكِنْدِيِّ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ (أَنَّ عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَقُولُ) وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ) قِيلَ: الْإِشَارَةُ لِرَجَبٍ، وَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَمَامَ حَوْلِ الْمَالِ لَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ. فَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يُسَمِّ لِيَ السَّائِبُ الشَّهْرَ وَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنْهُ. (فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ حَتَّى تَحْصُلَ أَمْوَالُكُمْ فَتُؤَدُّونَ مِنْهُ) بِالتَّذْكِيرِ، أَيْ مِمَّا يَحْصُلُ بَعْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ (الزَّكَاةَ) لِأَنَّ مَا قَابَلَ الدَّيْنَ لَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي مَالٍ قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ ظُلْمًا يَأْمُرُ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِهِ وَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى مِنْ السِّنِينَ ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
592 -
593 - (مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ) وَاسْمُهُ كَيْسَانُ (السَّخْتِيَانَيِّ) نِسْبَةً لِسَخْتِيَانَ بِفَتْحِ السِّينِ، الْجَلْدُ لِبَيْعٍ أَوْ عَمَلٍ، أَحَدُ الْأَعْلَامِ، يُقَالُ: حَجَّ أَرْبَعِينَ حَجَّةً. (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي مَالٍ قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ ظُلْمًا يَأْمُرُ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِهِ وَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ) لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ يُورَثُ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ (ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ أَلَّا يُؤْخَذَ مِنْهُ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ) لِمَاضِي السِّنِينَ (فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا) بِكَسْرِ الضَّادِ غَائِبًا عَنْ رَبِّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، أَوْ لَا يُعْرَفُ مَوْضِعُهُ وَلَا يَرْجُوهُ، وَالزَّكَاةُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى تَنْمِيَتِهَا أَوِ النَّامِيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقِيلَ الضِّمَارُ الَّذِي لَا يَدْرِي صَاحِبُهُ أَيُخْرِجُ أَمْ لَا، وَهُوَ أَصَحُّ، وَبِآخَرَ قَوْلَيْ عُمَرَ هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ ابْنُ زَرْقُونَ: شَبَّهَهُ مَالِكٌ بِعَرْضِ الْمُحْتَكِرِ يَبِيعُهُ بَعْدَ سِنِينَ فَيُزَكِّيهِ لِعَامٍ وَاحِدٍ، انْتَهَى. وَقَالَ اللَّيْثُ وَالْكُوفِيُّونَ: يَسْتَأْنِفُ بِهِ حَوْلًا، وَنَقَلَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ أَنَّهُ سَأَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ أَعَلَيْهِ زَكَاةٌ فَقَالَ لَا قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا فِي الدَّيْنِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُزَكِّيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ سِنِينَ ذَوَاتِ عَدَدٍ ثُمَّ قَبَضَهُ صَاحِبُهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَى الَّذِي قُبِضَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يُزَكَّى مَعَ مَا قَبَضَ مِنْ دَيْنِهِ ذَلِكَ قَالَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاضٌّ غَيْرُ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ وَكَانَ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَكِنْ لِيَحْفَظْ عَدَدَ مَا اقْتَضَى فَإِنْ اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ عَدَدَ مَا تَتِمُّ بِهِ الزَّكَاةُ مَعَ مَا قَبَضَ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ قَالَ فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَ مَا اقْتَضَى أَوَّلًا أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ مَعَ مَا اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ فَإِذَا بَلَغَ مَا اقْتَضَى عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ مَا اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى الدَّيْنِ يَغِيبُ أَعْوَامًا ثُمَّ يُقْتَضَى فَلَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ أَنَّ الْعُرُوضَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لِلتِّجَارَةِ أَعْوَامًا ثُمَّ يَبِيعُهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي أَثْمَانِهَا إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوْ الْعُرُوضِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَّيْنِ أَوْ الْعُرُوضِ مِنْ مَالٍ سِوَاهُ وَإِنَّمَا يُخْرِجُ زَكَاةَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَعِنْدَهُ مِنْ الْعُرُوضِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ النَّاضِّ سِوَى ذَلِكَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يُزَكِّي مَا بِيَدِهِ مِنْ نَاضٍّ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الْعُرُوضِ وَالنَّقْدِ إِلَّا وَفَاءُ دَيْنِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ النَّاضِّ فَضْلٌ عَنْ دَيْنِهِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
593 -
594 - (مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ) بِتَحْتِيَّةٍ فَزَايٍ (بْنِ خُصَيْفَةَ) بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، مُصَغَّرٌ، نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ فَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُصَيْفَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ الْمَدَنِيُّ، ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ
الْجَمِيعِ (أَنَّهُ سَأَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ) أَحَدَ الْفُقَهَاءِ (عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ أَعَلَيْهِ زَكَاةٌ؟ فَقَالَ: لَا) زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَرْضٌ وَلَا مَالٌ غَيْرُهُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ ; لِأَنَّهَا فِي عَيْنِ الْمَالِ وَالدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ. (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا فِي الدَّيْنِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُزَكِّيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَنْمِيَتِهِ (وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ) أَيِ الْمَدِينِ (سِنِينَ ذَوَاتَ عَدَدٍ ثُمَّ قَبَضَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ) إِذْ لَوْ وَجَبَتْ لِكُلِّ عَامٍ لَأَدَّى إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْتَهْلِكُهُ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ تُطْلَبْ فِي أَمْوَالِ الْقِنْيَةِ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ فِي الْأَمْوَالِ الْمُمْكِنِ تَنْمِيَتُهَا فَلَا تُفْنِيهَا الزَّكَاةُ غَالِبًا. (فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) لِنَقْصِهِ عَنِ النِّصَابِ (فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَى الَّذِي قُبِضَ، تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يُزَكَّى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَلِابْنِ وَضَّاحٍ: يُزَكِّيهِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَهَاءُ الضَّمِيرِ (مَعَ مَا قَبَضَ مِنْ دَيْنِهِ ذَلِكَ) وَكَذَا إِنْ كَانَ مَا عِنْدَهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، ثُمَّ قَبَضَ مَا إِذَا أَضَافَهُ إِلَيْهِ تَمَّ بِهِ نِصَابٌ فَإِنَّهُ يُزَكِّي يَوْمَ الْقَبْضِ عَنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ عَلَى مَا بِيَدِهِ لَمْ يُزَكِّ مَا قَبَضَ مِنْ دَيْنِهِ حَتَّى يَبْلُغَ نِصَابًا. (قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاضٌّ غَيْرُ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ، وَكَانَ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يَحْفَظُ عَدَدَ مَا اقْتَضَى، فَإِنِ اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ عَدَدَ مَا تَتِمُّ بِهِ الزَّكَاةُ مَعَ مَا قَبَضَ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ) لِأَنَّهُ مَالٌ وَاحِدٌ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، فَإِذَا بَلَغَ النِّصَابَ زَكَّاهُ. (قَالَ: فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَ مَا اقْتَضَى أَوَّلًا أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ مَعَ مَا اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ، فَإِذَا بَلَغَ مَا اقْتَضَى عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ
ثُمَّ مَا اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ) فَيُزَكِّي مَا قَبَضَ وَلَوْ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا (قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى الدَّيْنِ يَغِيبُ أَعْوَامًا يُقْتَضَى فَلَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ أَنَّ الْعُرُوضَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ) وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، فَالْمُرَادُ عِنْدَ التَّاجِرِ الْمُحْتَكِرِ، وَلَوْ أُنْثَى، (لِلتِّجَارَةِ أَعْوَامًا ثُمَّ يَبِيعُهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي أَثْمَانِهَا إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ) فَاسْتَدَلَّ بِقِيَاسِ الدَّيْنِ عَلَى عَرْضِ الْمُحْتَكِرِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّمَاءِ (وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوِ الْعُرُوضِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَّيْنِ أَوِ الْعُرُوضِ مِنْ مَالٍ سِوَاهُ) كَعَيْنٍ عِنْدَهُ (وَإِنَّمَا يُخْرِجُ زَكَاةَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يُخْرِجُ زَكَاةً مِنْ شَيْءٍ عَنْ شَيْءِ غَيْرِهِ) لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى نَمَائِهِ كَمَا أَفَادَهُ مَا قَبْلَهُ، أَمَّا إِنْ وَجَبَتْ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَوْ ثَمَنِ الْعُرُوضِ الْمُحْتَكَرَةِ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ سِوَاهَا، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ ذَهَبًا عَنْ فِضَّةٍ وَعَكْسَهُ.
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَعِنْدَهُ مِنَ الْعُرُوضِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ النَّاضِّ) الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (سِوَى ذَلِكَ مَا) أَيْ قَدْرٌ (تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يُزَكِّي مَا بِيَدِهِ مِنْ نَاضٍّ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) وَيُجْعَلُ الْعُرُوضُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ. (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعُرُوضِ وَالنَّقْدِ إِلَّا وَفَاءُ دَيْنِهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ النَّاضِّ فَضْلٌ) أَيْ زِيَادَةٌ (عَنْ دَيْنِهِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ) فَمَا قَابَلَ الدَّيْنَ وَلَوْ نَقْدًا لَا زَكَاةَ فِيهِ.
[بَاب زَكَاةِ الْعُرُوضِ]
حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حَيَّانَ وَكَانَ زُرَيْقٌ عَلَى جَوَازِ مِصْرَ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ انْظُرْ مَنْ مَرَّ بِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَخُذْ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِمَّا يُدِيرُونَ مِنْ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا وَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا وَمَنْ مَرَّ بِكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَخُذْ مِمَّا يُدِيرُونَ مِنْ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا وَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا وَاكْتُبْ لَهُمْ بِمَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ كِتَابًا إِلَى مِثْلِهِ مِنْ الْحَوْلِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَا يُدَارُ مِنْ الْعُرُوضِ لِلتِّجَارَاتِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَدَّقَ مَالَهُ ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ عَرْضًا بَزًّا أَوْ رَقِيقًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّي مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ زَكَاةً حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ صَدَّقَهُ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبِعْ ذَلِكَ الْعَرْضَ سِنِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْعَرْضِ زَكَاةٌ وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ فَإِذَا بَاعَهُ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي بِالذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ حِنْطَةً أَوْ تَمْرًا أَوْ غَيْرَهُمَا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ يُمْسِكُهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ يَبِيعُهَا أَنَّ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةَ حِينَ يَبِيعُهَا إِذَا بَلَغَ ثَمَنُهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ الْحَصَادِ يَحْصُدُهُ الرَّجُلُ مِنْ أَرْضِهِ وَلَا مِثْلَ الْجِدَادِ قَالَ مَالِكٌ وَمَا كَانَ مِنْ مَالٍ عِنْدَ رَجُلٍ يُدِيرُهُ لِلتِّجَارَةِ وَلَا يَنِضُّ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ شَيْءٌ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ شَهْرًا مِنْ السَّنَةِ يُقَوِّمُ فِيهِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عَرْضٍ لِلتِّجَارَةِ وَيُحْصِي فِيهِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نَقْدٍ أَوْ عَيْنٍ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يُزَكِّيهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَمَنْ تَجَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَمْ يَتْجُرْ سَوَاءٌ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ عَامٍ تَجَرُوا فِيهِ أَوْ لَمْ يَتْجُرُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
9 -
بَابُ زَكَاةِ الْعُرُوضِ
594 -
595 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ زُرَيْقِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: رَوَاهُ يَحْيَى بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ، وَالصَّوَابُ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ أَيِ الْمَنْقُوطَةِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ، وَهُوَ لَقَبٌ، وَاسْمُهُ سَعِيدُ (بْنِ حَيَّانَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمِلَةِ وَالتَّحْتِيَّةِ الثَّقِيلَةِ، وَفِي التَّقْرِيبِ فِي حَرْفِ الرَّاءِ: رُزَيْقُ بْنُ حَيَّانَ الدِّمَشْقِيُّ أَبُو الْمِقْدَامِ، وَيُقَالُ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ، قِيلَ اسْمُهُ سَعِيدٌ، وَرُزَيْقٌ لَقَبٌ، صَدُوقٌ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً (وَكَانَ) رُزَيْقٌ (عَلَى جَوَازِ مِصْرَ) أَيْ مَوْضِعٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِيهِ الزَّكَاةُ، قَالَهُ الْبُونِيُّ (فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ) ابْنَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ (وَ) فِي زَمَانِ ابْنِ عَمِّهِمَا (عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بْنِ مَرْوَانَ الْخَلِيفَةِ الْعَادِلِ، وَلِيَهَا بَعْدَ سُلَيْمَانَ بِاسْتِخْلَافِهِ لَهُ (فَذَكَرَ) رُزَيْقٌ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ انْظُرْ مَنْ مَرَّ بِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَخُذْ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِمَّا يُدِيرُونَ مِنَ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا) تَمْيِيزٌ (دِينَارًا) مَفْعُولُ خُذْ (فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا وَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا) فَإِنْ نَقَصَتْ أَقَلَّ فَالزَّكَاةُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِهَذَا وَقَالَ: لَا زَكَاةَ فِي النَّاقِصَةِ، وَلَوْ قَلَّ إِلَّا مِثْلَ الْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ فَالزَّكَاةُ، وَمَعْنَاهُ لَمْ يَأْخُذْ بِظَاهِرِهِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: اشْتِرَاطُهُ نَقْصَ ثُلُثِ دِينَارٍ رَأْيٌ وَاسْتِحْسَانٌ، فَهُوَ يُضَارِعُ قَوْلَ مَالِكٍ فِيمَا مَضَى نَاقِصَةً بَيِّنَةَ النُّقْصَانِ، وَالْأَوْلَى ظَاهِرُ حَدِيثِ:" «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» ". فَمَا صَحَّ أَنَّهُ دُونَ ذَلِكَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا زَكَاةَ فِيهِ (وَمَنْ مَرَّ بِكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَخُذْ مِمَّا يُدِيرُونَ مِنَ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا، فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ،
فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا وَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَاكْتُبْ لَهُمْ بِمَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ كِتَابًا إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْحَوْلِ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: سَلَكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ طَرِيقَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِ أَيْلَةَ: خُذْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، ثُمَّ اكْتُبْ لَهُ بَرَاءَةً إِلَى السَّنَةِ، وَخُذْ مِنَ التَّاجِرِ الْمُعَاهَدِ مِنْ كَلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَمَنْ لَا ذِمَّةَ لَهُ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ دِرْهَمًا، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ ابْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَكْتُبَ لِلذِّمِّيِّ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كِتَابٌ إِلَى الْحَوْلِ، وَهُوَ دَلِيلُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّمَا تَجَرَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ. (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَا يُدَارُ مِنَ الْعُرُوضِ لِلتِّجَارَاتِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَدَّقَ مَالَهُ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ أَيْ زَكَّاهُ (ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ عَرْضًا بَزًّا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالزَّايِ، نَوْعٌ مِنَ الثِّيَابِ أَوِ الثِّيَابُ خَاصَّةً مِنْ أَمْتِعَةِ الْبَيْتِ أَوْ أَمْتِعَةِ التَّاجِرِ مِنَ الثِّيَابِ (أَوْ رَقِيقًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّي مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ زَكَاةً حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ صَدَّقَهُ) أَدَّى زَكَاتَهُ (وَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَبِعْ ذَلِكَ الْعَرْضَ سِنِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْعَرْضِ زَكَاةٌ، وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ، فَإِذَا بَاعَهُ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ إِدَارَةَ التِّجَارَةِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّقَلُّبُ فِيهَا، وَارْتِصَادُ الْأَسْوَاقِ بِالْعُرُوضِ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ أَقَامَ أَعْوَامًا حَتَّى يَبِيعَ فَيُزَكِّي لِعَامٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: الْبَيْعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِلَا انْتِظَارِ سُوقٍ كَفِعْلِ أَرْبَابِ الْحَوَانِيتِ فَيُزَكِّي كُلَّ عَامٍ بِشُرُوطٍ أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَاجِيُّ، وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّاجِرَ يَقُومُ كُلَّ عَامٍ وَيُزَكِّي مُدِيرًا كَانَ أَوْ مُحْتَكِرًا. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا زَكَاةَ فِي الْعَرْضِ بِوَجْهٍ كَانَ لِتِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِخَبَرٍ: " «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» ". وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِمَا التِّجَارَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالظَّاهِرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 103) فَعَلَى أَصْلِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مَالٍ إِلَّا مَا خُصَّ بِسُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مَالٍ مَا عَدَا الرَّقِيقَ وَالْخَيْلَ وَلِأَنَّهُ لَا يَقِيسُ عَلَيْهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْعُرُوضِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْجُمْهُورُ عَلَى زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِدَارَةِ وَالِاحْتِكَارِ، وَالْحَجَّةُ لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِ
الْعُمَرَيْنِ، وَمَا نَقَلَهُ مَالِكٌ مِنْ عَمَلِ الْمَدِينَةِ، وَخَبَرُ أَبِي دَاوُدَ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِمَّا نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ» ". قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ زَكَاةُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا يَشْهَدُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ:" لَا زَكَاةَ فِي الْعُرُوضِ " إِنَّمَا هُوَ فِي عُرُوضِ الْقِنْيَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي بِالذَّهَبِ أَوِ الْوَرِقِ حِنْطَةً أَوْ تَمْرًا أَوْ غَيْرَهُمَا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ يُمْسِكُهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ يَبِيعُهَا أَنَّ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةَ حِينَ يَبِيعُهَا إِذَا بَلَغَ ثَمَنُهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) إِذْ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ زَكَاةٌ (وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ الْحَصَادِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا (يَحْصُدُهُ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا (الرَّجُلُ مِنْ أَرْضِهِ، وَلَا مِثْلَ الْجِدَادِ) بِجِيمٍ وَدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، قَطْعُ الثِّمَارِ مِنْ أُصُولِهَا كَالنَّخْلِ (وَمَا كَانَ عِنْدَ رَجُلٍ يُدِيرُهُ لِلتِّجَارَةِ وَلَا يَنِضُّ) بِكَسْرِ النُّونِ، يَحْصُلُ (لِصَاحِبِهِ مِنْهُ شَيْءٌ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ يَقُومُ فِيهِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عَرْضِ التِّجَارَةِ، وَيُحْصِي فِيهِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نَقْدٍ أَوْ عَيْنٍ) ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ (فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يُزَكِّيهِ) وَهَذَا فِي الْمُدِيرِ (وَمَنْ تَجَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فِي مَالٍ (وَمَنْ لَمْ يَتْجُرْ سَوَاءٌ، لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ عَامٍ تَجَرُوا فِيهِ) أَيِ الْمَالِ (أَوْ لَمْ يَتْجُرُوا) لَكِنْ إِنْ تَجَرُوا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُدِيرِ وَالْمُحْتَكِرِ كَمَا مَرَّ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي الْكَنْزِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ الْكَنْزِ مَا هُوَ فَقَالَ هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
10 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي الْكَنْزِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ جُمِعَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ أَوْ ظَهْرِهَا، زَادَ فِي مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ: وَكَانَ مَخْزُونًا. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ غَمَسْتَهُ بِيَدِكَ أَوْ رِجْلِكَ فِي
وِعَاءٍ أَوْ أَرْضٍ، قَالَهُ عِيَاضٌ.
595 -
596 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) الْمَدَنِيِّ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ (وَهُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْكَنْزِ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 34)(مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ) فَمَا أَدَّيْتَ مِنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَرْفُوعًا:" «كُلُّ مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَكُلُّ مَا لَا تُؤَدِّي زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» "، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَالْمَشْهُورُ وَقْفُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ» ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: " كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَيُزَكَّى فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» ". صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، قَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: سَنَدُهُ جَيِّدٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ ". وَلِلْحَاكِمِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: "«إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ» ". وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مَوْقُوفًا، وَرَجَّحَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» ". قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْكَنْزَ الْمَذْمُومَ هُوَ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ الْمُوجِبُ لِصَاحِبِهِ النَّارَ، لَا مُطْلَقَ الْكَنْزِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا زَادَ فِيهِ الصَّدَقَةُ، وَمَا أُخْرِجَتْ مِنْهُ الصَّدَقَةُ لَا وَعِيدَ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا يُسَمَّى كَنْزًا. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَا يُسَمَّى كَنْزًا ; لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَمَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ فِيهِ فَلَا يُسَمَّى كَنْزًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي تَفْسِيرِ الْكَنْزِ بِذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي ذَرٍّ وَالضَّحَّاكِ وَقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ: إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ. وَجَاءَتْ آثَارٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ مَا فَضَلَ عَنِ الْقُوتِ وَسَدَادِ الْعَيْشِ، وَأَنَّ آيَةَ الْوَعِيدِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يَطْلُبُهُ حَتَّى يُمْكِنَهُ يَقُولُ أَنَا كَنْزُكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
596 -
597 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (السَّمَّانِ) بَائِعِ السَّمْنِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ) مَوْقُوفًا، وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَاقَهُ مُطَوَّلًا، وَكَذَا رَفَعَهُ أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْقَعْقَاعُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَخَالَفَهُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَرَجَّحَهُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رِوَايَةُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَطَأٌ بَيِّنٌ فِي الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَصْلًا، قَالَ الْحَافِظُ: وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ، وَمَا الْمَانِعُ أَنَّ لَهُ فِيهِ شَيْخَيْنِ، نَعَمْ، الَّذِي عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَاذَّةٌ ; لِأَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقَ الْجَادَّةِ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهَا دَلَّ عَلَى مَزِيدِ حِفْظِهِ.
( «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ» ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ» ". (مُثِّلَ) بِضَمِّ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ صُوِّرَ (لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) مَالُهُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ (شُجَاعًا) بِضَمِّ الشِّينِ وَالنَّصْبِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِمُثِّلَ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِيهِ يَرْجِعُ إِلَى مَالٍ وَقَدْ نَابَ عَنِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نُصِبَ لِجَرْيِهِ مَجْرَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، أَيْ صُوِّرَ مَالُهُ شُجَاعًا. وَقَالَ الدَّمَامِينِيُّ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ. وَقِيلَ: الَّذِي يَقُومُ عَلَى ذَنَبِهِ وَيُوَاثِبُ الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، وَرُبَّمَا بَلَغَتْ وَجْهَ الْفَارِسِ، تَكُونُ فِي الصَّحَارَى. (أَقْرَعَ) بِرَأْسِهِ بَيَاضٌ، وَكُلَّمَا كَثُرَ سُمُّهُ ابْيَضَّ رَأْسُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَفِي الْفَتْحِ: الْأَقْرَعُ الَّذِي تُقْرَعُ رَأْسُهُ أَيْ تُمَعَّطُ لِكَثْرَةِ سُمِّهِ. وَفِي كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ: سُمِّيَ أَقْرَعَ ; لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ يَتَمَعَّطُ لِجَمْعِهِ السُّمَّ فِيهِ. وَتَعَقَّبَهُ الْقَزَّازُ بِأَنَّ الْحَيَّةَ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهَا فَلَعَلَّهُ يَذْهَبُ جِلْدُ رَأْسِهِ. وَفِي تَهْذِيبِ الْأَزْهَرِيِّ: سُمِّيَ أَقْرَعَ ; لِأَنَّهُ يَفْرِي السُّمَّ وَيَجْمَعُهُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى تَتَمَعَّطَ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَرَى السُّمَّ حَتَّى انْمَارَ فَرْوَةُ رَأْسِهِ
…
عَنِ الْعَظْمِ صِلٌّ فَاتِكُ اللَّسْعِ مَارِدُهُ.
(لَهُ زَبِيبَتَانِ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَمُوَحِّدَتَيْنِ، تَثْنِيَةُ زَبِيبَةٍ، وَهُمَا الزَّبَدَتَانِ اللَّتَانِ فِي الشِّدْقَيْنِ، يُقَالُ: تَكَلَّمَ فُلَانٌ حَتَّى زَبَتْ شِدْقَاهُ، أَيْ خَرَجَ الزَّبَدُ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: هُمَا النُّكْتَتَانِ السَّوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ، وَهِيَ عَلَامَةُ الْحَيَّةِ الذَّكَرِ الْمُؤْذِي. وَقِيلَ: نُقْطَتَانِ يَكْتَنِفَانِ فَاهُ. وَقِيلَ: هُمَا فِي حَلْقِهِ بِمَنْزِلَةِ
زَنَمَتَيِ الْعَنْزِ. وَقِيلَ: لَحْمَتَانِ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الْقَرْنَيْنِ. وَقِيلَ: نَابَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ فِيهِ (يَطْلُبُهُ حَتَّى يُمْكِنَهُ) وَلِلْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: «فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ أُصْبُعَهُ (يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ) » وَلِلْبُخَارِيِّ: «أَقْرَعُ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ» يَعْنِي شِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: «أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلَا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180] » (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 180) الْآيَةَ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْقَوْلِ زِيَادَةُ الْحَسْرَةِ فِي الْعَذَابِ حَتَّى لَا يَنْفَعَهُ النَّدَمُ، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّهَكُّمِ. وَلِابْنِ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ يَتْبَعُهُ فَيَقُولُ:" «أَنَا كَنْزُكَ الَّذِي تَرَكْتَهُ بَعْدَكَ، فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَمْضُغُهَا، ثُمَّ يَتْبَعُهُ سَائِرُ جَسَدِهِ» ". وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: " يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُ ذَهَبَ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ ". وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ يُصَيِّرُ نَفْسَ الْمَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مُثِّلَ كَمَا هُنَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ صُوِّرَ أَوْ نُصِبَ وَأُقِيمَ مِنْ قَوْلِهِمْ مُثِّلَ قَائِمًا أَيْ مُنْتَصِبًا أَوْ ضَمِنَ مِثْلَ مَعْنَى التَّصْيِيرِ أَيْ صَيَّرَ مَالَهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: ظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا الشُّجَاعَ لِعَذَابِهِ، وَمَعْنَى مُثِّلَ نُصِبَ كَقَوْلِهِ:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا» أَيْ يَنْتَصِبُونَ. وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ صُوِّرَ مَالُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ كَقَوْلِهِ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا الْمُمَثِّلُونَ أَيِ الْمُصَوِّرُونَ» . وَيَشْهَدُ لَهُ رِوَايَةُ: " «إِلَّا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا» ". ثُمَّ لَا تَنَافِي بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ» " لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا. فَحَدِيثُ الْبَابِ يُوَافِقُ الْآيَةَ وَهِيَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 180) وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ تُوَافِقُ الْآيَةَ: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 35) لِأَنَّهُ جَمَعَ الْمَالَ وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي حَقِّهِ لِتَحْصِيلِ الْجَاهِ وَالتَّنَعُّمِ بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِ الْفَقِيرِ وَوَلَّاهُ ظَهْرَهُ، أَوْ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ الَّتِي هِيَ مُقَدَّمُ الْبَدَنِ وَمُؤَخَّرُهُ وَجَنْبَاهُ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ.
هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّطْوِيقِ فِي الْآيَةِ الْحَقِيقَةُ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: سَيُطَوَّقُونَ الْإِثْمَ، وَفِي تِلَاوَتِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْحُمَيْدِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، «ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَا يَحْسَبَنَّ} [آل عمران: 180] » (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 180) الْآيَةَ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ: ثُمَّ قَرَأَ مِصْدَاقَهُ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} [آل عمران: 180] دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَتَهُ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: فِيمَنْ لَهُ قُرَابَةٌ لَا يَصِلُهُمْ، قَالَهُ مَسْرُوقٌ.
[بَاب صَدَقَةِ الْمَاشِيَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَرَأَ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الصَّدَقَةِ قَالَ فَوَجَدْتُ فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الصَّدَقَةِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَدُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى سِتِّينَ حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ جَذَعَةٌ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى تِسْعِينَ ابْنَتَا لَبُونٍ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْإِبِلِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثِ مِائَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ وَلَا هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصَّدِّقُ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَفِي الرِّقَةِ إِذَا بَلَغَتْ خَمْسَ أَوَاقٍ رُبُعُ الْعُشْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
11 -
بَابُ صَدَقَةِ الْمَاشِيَةِ
598 -
(مَالِكٌ أَنَّهُ قَرَأَ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الصَّدَقَةِ) الْمَرْوِيَّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ إِلَى عُمَّالِهِ وَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى قُبِضَ، فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى قُبِضَ» ، فَذَكَرَهُ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ يُونُسُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَإِنَّمَا رَفَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ خَالَفَهُ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ فِي الزُّهْرِيِّ فَأَرْسَلَهُ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْهُ وَقَالَ: إِنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ; لِأَنَّهُ قَالَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَقْرَأَنِيهَا سَالِمٌ فَوَعِيتُهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَقُلْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ بِهِ، فَتَحْسِينُ التِّرْمِذِيِّ لَهُ بِاعْتِبَارِ شَاهِدِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لِأَنَسٍ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَهُ لِأَنَسٍ وَعَلَيْهِ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: فَوَجَدْتُ فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَفِيهِ طَلَبُ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ الْكِتَابِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَلَا الْعُرْفِيَّةُ بِابْتِدَاءِ الْمُرَاسَلَاتِ بِالْحَمْدِ، وَقَدْ جَمَعْتُ كُتُبَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ يَقَعْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا الْبَدَاءَةُ بِالْحَمْدِ بَلْ بِالْبَسْمَلَةِ هَذَا (كِتَابُ الصَّدَقَةِ) وَلِلْبُخَارِيِّ:«هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سَأَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ (فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَدُونَهَا) » الْفَاءُ بِمَعْنَى أَوْ (الْغَنَمُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ فِي أَرْبَعٍ، وَقَدَّمَ الْخَبَرَ لِأَنَّ الْغَرَضَ بَيَانُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ فَحَسُنَ التَّقْدِيمُ ( «فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ» ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ تَعَيَّنَ إِخْرَاجُ الْغَنَمِ، فَلَوْ أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنِ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ بَعِيرًا لَمْ يُجْزِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: يُجْزِيهِ إِنْ وَفَّتْ قِيمَتُهُ بِقِيمَةِ أَرْبَعِ شِيَاهٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُجْزِي عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَأَوْلَى مَا دُونَهَا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ رِفْقًا بِالْمَالِكِ، فَإِذَا رَجَعَ بِاخْتِيَارِهِ إِلَى الْأَصْلِ أَجْزَأَهُ، وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي
مَعْرِضِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَخْلَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ. نَعَمْ، صَحَّحَ الْمَالِكِيَّةُ إِجْزَاءَ بِعِيرٍ عَنْ شَاةٍ تَفِي قِيمَتُهُ بِقِيمَتِهَا وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ. قَالَ الْبَاجِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْوَقَصِ هَلْ هُوَ مُزَكَّى؟ فَالْمَأْخُوذُ مِنَ الصَّدَقَةِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، أَوِ الْمَأْخُوذُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا لَزِمَ وَالزَّايِدُ وَقَصٌ لَا تَجِبُ فِيهِ وَلَا يُؤْخَذُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْقَصَّارِ الثَّانِيَ، قَالَ ابْنُ زَرْقُونَ: وَدَلِيلُهُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِنَّمَا جَعَلَهَا فِي الْخَمْسِ (وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ) مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ابْنَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ: بِنْتُ (مَخَاضٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ الْخَفِيفَةِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، أَتَى عَلَيْهَا حَوْلٌ وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِي وَحَمَلَتْ أُمُّهَا، وَالْمَخَاضُ الْحَامِلُ، أَيْ دَخَلَ وَقْتُ حَمْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ، وَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ شَاةً، فَإِذَا صَارَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ فَبِنْتُ مَخَاضٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَإِسْنَادُ الْمَرْفُوعِ ضَعِيفٌ. (فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ) وَهُوَ مَا دَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ فَصَارَتْ أُمُّهُ لَبُونًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ (ذَكَرٌ) وَصَفَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ابْنٌ لَا يَكُونُ إِلَّا ذَكَرًا زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ يُطْلَقُ عَلَى ذَكَرِهِ وَأُنْثَاهُ لَفْظُ ابْنٍ كَابْنِ عِرْسٍ وَابْنِ آوَى، فَرُفِعَ هَذَا الِاحْتِمَالُ أَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ:{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27](سُورَةُ فَاطِرٍ: الْآيَةُ 27) قَالَهُ الْبَاجِيُّ، أَوْ لِيُنَبِّهَ عَلَى نَقْصِهِ بِالذُّكُورَةِ حَتَّى يَعْدِلَ بِنْتَ الْمَخَاضِ، قَالَهُ ابْنُ زَرْقُونَ، قَالَ الْحَافِظُ: أَوْ لِيُنَبِّهَ رَبَّ الْمَالِ لِيَطِيبَ نَفْسًا بِالزِّيَادَةِ، وَقِيلَ احْتَرَزَ بِذَلِكَ عَنِ الْخُنْثَى، وَفِيهِ بُعْدٌ.
(وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ) وَالْغَايَةُ دَاخِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الْغَايَةِ فَلَا يَدْخُلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ ; لِأَنَّ دَلِيلَهُ قَوْلُهُ (وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ) إِذِ الْإِشَارَةُ لِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ لِخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَا دُونَهَا أَوْ أَنَّ مَا دُونَهَا وَقَصٌ بِاللَّفْظِ، وَهِيَ وَقَصٌ بِالْإِجْمَاعِ فَهُمَا وَقَصَانِ مُتَّصِلَانِ، أَوْ أَنَّ الْأَعْدَادَ فِي الْغَايَاتِ تَخَالِفُ غَيْرَهَا عُرْفًا، فَلَوْ أَبَاحَ لِغُلَامِهِ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ فُهِمَ مِنْهُ عُرْفًا إِبَاحَةُ الْعِشْرَةِ، بِخِلَافِ: أَبَحْتُ لَكَ الْجُلُوسَ بَيْنَ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى هَذِهِ الْأُخْرَى، فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِبَاحَةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَأَوَّلُهَا أَوْلَاهَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ (إِلَى سِتِّينَ حِقَّةٌ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْقَافِ، وَالْجَمْعُ حِقَاقٌ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ (طَرُوقَةُ الْفَحْلِ) بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ مَطْرُوقَةٌ، فَعُولَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ كَحُكُومَةٍ بِمَعْنَى مَحْكُومَةٍ، أَيْ بَلَغَتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْجَمَلُ وَهِيَ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ (وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ) وَهُوَ إِحْدَى وَسِتُّونَ (إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ جَذَعَةٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الَّتِي دَخَلَتْ
فِي الْخَامِسَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا جَذَعَتْ مُقَدَّمَ أَسْنَانِهَا أَيْ أَسْقَطَتْهُ، وَهِيَ غَايَةُ أَسْنَانِ الزَّكَاةِ. (وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ) وَهُوَ سِتٌّ وَسَبْعُونَ (إِلَى تِسْعِينَ ابْنَتَا لَبُونٍ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ) وَهُوَ إِحْدَى وَتِسْعُونَ (إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ) بِالْفَاءِ وَالْحَاءِ الذَّكَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ (فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْإِبِلِ) بِوَاحِدَةٍ فَصَاعِدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ) وَفِي رِوَايَةٍ: ابْنَةُ (لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ) فَوَاجِبُ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ، وَوَاجِبُ مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّتَانِ وَهَكَذَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ رَجَعَتْ إِلَى فَرِيضَةِ الْغَنَمِ، فَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَشَاةٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ فِي أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ فِي كِتَابِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ: فَإِذَا كَانَتِ الْإِبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً، فَصَرَّحَ بِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ زَكَاتُهُ بِالْإِبِلِ خَاصَّةً، وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنْ لَا مَدْخَلَ لِلْغَنَمِ بَعْدَ الْخَمْسِ وَعِشْرِينَ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ.
(وَفِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ) أَيْ رَاعِيَتِهَا (إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا قَبْلَهُ (وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ) وَهُوَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٌ (إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَشَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ (وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ) مِنْ وَاحِدَةٍ (إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ) بِالْكَسْرِ جَمْعٌ (فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ) أَيِ الثَّلَاثِمِائَةِ (فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ) فَفِي أَرْبَعِمِائَةٍ أَرْبَعٌ وَهَكَذَا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الرَّابِعَةَ لَا تَجِبُ حَتَّى تُوَفَّى أَرْبَعَمِائَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، قَالُوا: وَفَائِدَةُ ذِكْرِ ثَلَاثِمِائَةٍ لِبَيَانِ النِّصَابِ الَّذِي بَعْدَهُ لِكَوْنِ مَا قَبْلَهُ مُخْتَلِفًا، وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ كَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَاحِدَةً وَجَبَ أَرْبَعٌ، زَادَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً عَنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْلُوفَةِ وَالْعَامِلَةِ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: فِيهَا الزَّكَاةُ رَعَتْ أَمْ لَا ; لِأَنَّهَا سَائِمَةٌ فِي صِفَتِهَا وَالْمَاشِيَةُ كُلُّهَا سَائِمَةٌ، وَمَنْعُهَا مِنَ الرَّعْيِ لَا يَمْنَعُ تَسْمِيَتَهَا سَائِمَةً، وَالْحُجَّةُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ» ". وَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا، وَمِنْ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً، وَلَمْ يَخُصَّ سَائِمَةً مِنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ سَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ: لَا زَكَاةَ فِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ، فَعَلَى
قَوْلِهِمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةٌ وَوَاحِدٌ عَامِلٌ، أَوْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ بَقَرَةً رَاعِيَةً وَوَاحِدَةٌ عَامِلَةٌ، أَوْ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ شَاةً رَاعِيَةً وَكَبْشٌ مَعْلُوفٌ فِي دَارِهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَلَا أَعْلَمُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالسَّائِمَةِ ; لِأَنَّهَا عَامَّةُ الْغَنَمِ لَا تَكَادُ تُوجَدُ فِيهَا غَيْرُ سَائِمَةٍ، وَلِذَا ذَكَرَهَا فِي الْغَنَمِ دُونَ الْإِبِلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَصَّ عَلَى السَّائِمَةِ لِيُكَلِّفَ الْمُجْتَهِدَ لِلِاجْتِهَادِ فِي إِلْحَاقِ الْمَعْلُوفَةِ بِهَا فَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الْمُجْتَهِدِينَ. (وَلَا يُخْرَجُ) وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا يُؤْخَذُ (فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ) وَهُوَ فَحْلُ الْغَنَمِ أَوْ مَخْصُوصٌ بِالْمَعْزِ ; لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِدَرٍّ وَلَا نَسْلٍ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلنَّسْلِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(وَلَا هَرِمَةٌ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، كَبِيرَةٌ سَقَطَتْ أَسْنَانُهَا (وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا، وَقِيلَ بِالْفَتْحِ أَيْ مَعِيبَةٌ، وَبِالضَّمِّ الْعُوَرُ، وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهَا، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ فِي الْبَيْعِ، وَقِيلَ: مَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فِي الضَّحِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَعِيبِ الْمَرِيضُ وَالصَّغِيرُ سِنًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سِنٍّ أَكْبَرَ مِنْهُ (إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ) يُرِيدُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمَسَاكِينِ فَيَأْخُذُ بِاجْتِهَادِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: إِنَّ ذَا الْعَيْبِ لَا يُجْزِي وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنَ السَّلِيمَةِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ فَقَرَأَهُ بِخِفَّةِ الصَّادِ وَهُوَ السَّاعِي، وَجَعَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّيْسَ مِنَ الْخِيَارِ ; لِأَنَّهُ يَنْزُو، وَرُدَّ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ مَشِيئَةِ الْمُصَدِّقِ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِالْهَرِمَةِ وَذَاتِ الْعَوَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الشِّرَارِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ:«وَلَا تُؤْخَذُ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ» ، قَالَ الْحَافِظُ: اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ بِالتَّشْدِيدِ أَيِ الْمَالِكِ وَتَقْدِيرُهُ: لَا تُؤْخَذُ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ أَصْلًا وَلَا تَيْسٌ إِلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، فَأَخْذُهُ بِلَا رِضَاهُ إِضْرَارٌ بِهِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالثَّالِثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَهُوَ السَّاعِي، وَكَأَنَّهُ أُشِيرَ إِلَى التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ فَلَا يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَاعِدَتِهِ فِي تَنَاوُلِ الِاسْتِثْنَاءِ جَمِيعَ مَا قَبْلَهُ. وَعَنْ مَالِكٍ: يَلْزَمُ الْمَالِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَاةً مُجْزِيَةً تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ كَالْأَوَّلِ، انْتَهَى.
(وَلَا يُجْمَعُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ (بَيْنَ مُفْتَرِقٍ) بِفَاءٍ فَفَوْقِيَّةٍ فَرَاءٍ خَفِيفَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ مُتَفَرِّقٍ بِتَقْدِيمِ التَّاءِ وَشَدِّ الرَّاءِ (وَلَا يُفَرَّقُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ مُشَدَّدًا (بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ) وَفِي رِوَايَةٍ: مَخَافَةَ (الصَّدَقَةِ) وَنَصْبُ مَفْعُولٍ لِأَجْلِهِ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يُفْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فَيَحْصُلُ الْمُرَادُ بِلَا تَنَازُعٍ، قَالَهُ الدَّمَامِينِيُّ وَيَأْتِي مَعْنَاهُ قَرِيبًا. (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ) تَثْنِيَةُ خَلِيطٍ بِمَعْنَى مُخَالِطٍ كَنَدِيمٍ وَجَلِيسٍ بِمَعْنَى مُنَادِمٍ وَمُجَالِسٍ (فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) يَأْتِي تَفْسِيرُهُ (وَفِي الرِّقَةِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَخِفَّةِ
الْقَافِ الْفِضَّةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْرُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ، قِيلَ أَصْلُهَا الْوَرِقُ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ وَعُوِّضَتِ الْهَاءُ نَحْوَ الْعِدَةِ وَالْوَعْدِ (إِذَا بَلَغَتْ خَمْسَ أَوَاقٍ) بِالتَّنْوِينِ كَجِوَارٍ، وَهِيَ مِائَتَا دِرْهَمٍ (رُبُعُ الْعُشْرِ) خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ يَجِبُ رُبُعُ عُشْرِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَدِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَكَذَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اعْتَمَدَ مَالِكٌ وَالْعُلَمَاءُ وَالْخُلَفَاءُ قَبْلَهُمْ عَلَى مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الصَّحَابَةِ إِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي طَلَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدَ عُمَرَ هُوَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، إِذْ لَوْ كَانَ خِلَافُهُ لَطَلَبَهُ مِنْ آلِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا طَلَبَهُ مِنْ آلِ عُمَرَ وَآلِ عَمْرٍو.
[بَاب مَا جَاءَ فِي صَدَقَةِ الْبَقَرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ الْأَنْصَارِيَّ «أَخَذَ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا وَمِنْ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً وَأُتِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا وَقَالَ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا حَتَّى أَلْقَاهُ فَأَسْأَلَهُ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ عَلَى رَاعِيَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ أَوْ عَلَى رِعَاءٍ مُفْتَرِقِينَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى أَنَّ ذَلِكَ يُجْمَعُ كُلُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَيُؤَدِّي مِنْهُ صَدَقَتَهُ وَمِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الذَّهَبُ أَوْ الْوَرِقُ مُتَفَرِّقَةً فِي أَيْدِي نَاسٍ شَتَّى إِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْمَعَهَا فَيُخْرِجَ مِنْهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ زَكَاتِهَا وَقَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ أَنَّهَا تُجْمَعُ عَلَيْهِ فِي الصَّدَقَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ صُدِّقَتْ وَقَالَ إِنَّمَا هِيَ غَنَمٌ كُلُّهَا وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ كَانَتْ الضَّأْنُ هِيَ أَكْثَرَ مِنْ الْمَعْزِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى رَبِّهَا إِلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ تِلْكَ الشَّاةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ الضَّأْنِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَعْزُ أَكْثَرَ مِنْ الضَّأْنِ أُخِذَ مِنْهَا فَإِنْ اسْتَوَى الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ أَخَذَ الشَّاةَ مِنْ أَيَّتِهِمَا شَاءَ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ الْعِرَابُ وَالْبُخْتُ يُجْمَعَانِ عَلَى رَبِّهِمَا فِي الصَّدَقَةِ وَقَالَ إِنَّمَا هِيَ إِبِلٌ كُلُّهَا فَإِنْ كَانَتْ الْعِرَابُ هِيَ أَكْثَرَ مِنْ الْبُخْتِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى رَبِّهَا إِلَّا بَعِيرٌ وَاحِدٌ فَلْيَأْخُذْ مِنْ الْعِرَابِ صَدَقَتَهَا فَإِنْ كَانَتْ الْبُخْتُ أَكْثَرَ فَلْيَأْخُذْ مِنْهَا فَإِنْ اسْتَوَتْ فَلْيَأْخُذْ مِنْ أَيَّتِهِمَا شَاءَ قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ تُجْمَعُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى رَبِّهَا وَقَالَ إِنَّمَا هِيَ بَقَرٌ كُلُّهَا فَإِنْ كَانَتْ الْبَقَرُ هِيَ أَكْثَرَ مِنْ الْجَوَامِيسِ وَلَا تَجِبُ عَلَى رَبِّهَا إِلَّا بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ فَلْيَأْخُذْ مِنْ الْبَقَرِ صَدَقَتَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ الْجَوَامِيسُ أَكْثَرَ فَلْيَأْخُذْ مِنْهَا فَإِنْ اسْتَوَتْ فَلْيَأْخُذْ مِنْ أَيَّتِهِمَا شَاءَ فَإِذَا وَجَبَتْ فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ صُدِّقَ الصِّنْفَانِ جَمِيعًا قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ مَنْ أَفَادَ مَاشِيَةً مِنْ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ أَفَادَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ قَبْلَهَا نِصَابُ مَاشِيَةٍ وَالنِّصَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ إِمَّا خَمْسُ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ وَإِمَّا ثَلَاثُونَ بَقَرَةً وَإِمَّا أَرْبَعُونَ شَاةً فَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسُ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ ثَلَاثُونَ بَقَرَةً أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً ثُمَّ أَفَادَ إِلَيْهَا إِبِلًا أَوْ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا بِاشْتِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَإِنَّهُ يُصَدِّقُهَا مَعَ مَاشِيَتِهِ حِينَ يُصَدِّقُهَا وَإِنْ لَمْ يَحُلْ عَلَى الْفَائِدَةِ الْحَوْلُ وَإِنْ كَانَ مَا أَفَادَ مِنْ الْمَاشِيَةِ إِلَى مَاشِيَتِهِ قَدْ صُدِّقَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَرِثَهَا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُصَدِّقُهَا مَعَ مَاشِيَتِهِ حِينَ يُصَدِّقُ مَاشِيَتَهُ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْوَرِقِ يُزَكِّيهَا الرَّجُلُ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ عَرْضًا وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي عَرْضِهِ ذَلِكَ إِذَا بَاعَهُ الصَّدَقَةُ فَيُخْرِجُ الرَّجُلُ الْآخَرُ صَدَقَتَهَا هَذَا الْيَوْمَ وَيَكُونُ الْآخَرُ قَدْ صَدَّقَهَا مِنْ الْغَدِ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ لَا تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ فَاشْتَرَى إِلَيْهَا غَنَمًا كَثِيرَةً تَجِبُ فِي دُونِهَا الصَّدَقَةُ أَوْ وَرِثَهَا أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْغَنَمِ كُلِّهَا الصَّدَقَةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ أَفَادَهَا بِاشْتِرَاءٍ أَوْ مِيرَاثٍ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ مَاشِيَةٍ لَا تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ مِنْ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَلَيْسَ يُعَدُّ ذَلِكَ نِصَابَ مَالٍ حَتَّى يَكُونَ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَذَلِكَ النِّصَابُ الَّذِي يُصَدِّقُ مَعَهُ مَا أَفَادَ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ قَالَ مَالِكٌ وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ تَجِبُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا الصَّدَقَةُ ثُمَّ أَفَادَ إِلَيْهَا بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً صَدَّقَهَا مَعَ مَاشِيَتِهِ حِينَ يُصَدِّقُهَا قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْفَرِيضَةِ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ فَلَا تُوجَدُ عِنْدَهُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ابْنَةَ مَخَاضٍ فَلَمْ تُوجَدْ أُخِذَ مَكَانَهَا ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ لَبُونٍ أَوْ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ كَانَ عَلَى رَبِّ الْإِبِلِ أَنْ يَبْتَاعَهَا لَهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ بِهَا وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهَا وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْإِبِلِ النَّوَاضِحِ وَالْبَقَرِ السَّوَانِي وَبَقَرِ الْحَرْثِ إِنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
12 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي صَدَقَةِ الْبَقَرِ
وَفِي نُسْخَةٍ: زَكَاةُ الْبَقَرِ اسْمُ جِنْسٍ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، اشْتُقَّتْ مِنْ بَقَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا شَقَقْتَهُ ; لِأَنَّهَا تَبْقُرُ الْأَرْضَ بِالْحِرَاثَةِ، وَأَخَّرَ زَكَاةَ الْبَقَرِ ; لِأَنَّهَا أَقَلُّ النَّعَمِ وُجُودًا وَنُصُبًا قَالَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، وَفِي طُرَّةٍ قَدِيمَةٍ هَذَا التَّبْوِيبُ لَيْسَ مِنَ الرِّوَايَةِ وَهُوَ فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ أَبِي عُمَرَ وَعِنْدَ الْبَاجِيِّ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ.
598 -
599 - (مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ (ابْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ) الْأَعْرَجِ أَبِي صَفْوَانَ الْقَارِيِّ، لَا بَأْسَ بِهِ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَقِيلَ بَعْدَهَا (عَنْ طَاوُسِ) بْنِ كَيْسَانَ (الْيَمَانِيِّ) الْحَضْرَمِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْفَارِسِيِّ، يُقَالُ اسْمُهُ ذَكْوَانُ وَطَاوُسٌ لَقَبٌ، تَابِعِيٌّ، ثِقَةٌ فَقِيهٌ، فَاضَلٌ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَةٍ وَقِيلَ بَعْدَهَا (أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ الْأَنْصَارِيَّ) الْخَزْرَجِيَّ الْإِمَامَ الْمُقَدَّمَ فِي عِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَكَانَ أَبْيَضَ وَضِيءَ الْوَجْهِ بَرَّاقَ الثَّنَايَا أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، قَالَ الْحَافِظُ: هَذَا مُنْقَطِعٌ فَطَاوُسٌ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا وَهُوَ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا وَإِنَّمَا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ لِشَوَاهِدِهِ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ
(أَخَذَ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا) وَهُوَ مَا دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ سُمِّيَ تَبِيعًا ; لِأَنَّهُ فُطِمَ عَنْ أُمِّهِ فَهُوَ يَتْبَعُهَا (وَمِنْ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً) دَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَقِيلَ الرَّابِعَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ إِلَّا أُنْثَى، سَوَاءٌ كَانَتِ الْبَقَرَةُ ذُكُورًا كُلُّهَا أَوْ إِنَاثًا، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَإِنْ زَادَتْ عَلَى أَرْبَعِينَ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَتَبِيعَانِ وَفِي سَبْعِينَ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ، ثُمَّ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْحَدِيثِ، وَثَمَّ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ عَنِ الْجُمْهُورِ وَالْآثَارِ، قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ الْوَقْفُ عَلَى مُعَاذٍ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ (وَأُتِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ) أَيِ الثَلَاثِينَ (فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا) فِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ مَا عَمِلَ بِهِ فِي الثَلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ، مَعَ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ رَأْيًا وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ مِمَّنْ أَمَرَ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (حَتَّى) غَايَةٌ لِمُقَدَّرٍ، أَيْ لَا آخُذُ إِلَى أَنْ (أَلْقَاهُ فَأَسْأَلَهُ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) مِنَ الْيَمَنِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: لَمْ يَزَلْ مُعَاذٌ بِالْجُنْدِ مُنْذُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ حَتَّى تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَرَدَّهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: تُوُفِّيَ مُعَاذٌ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ، وَكَانَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَمَانَ عَشْرَةَ وَالْجُنْدُ مِنَ الْيَمَنِ بَلَدِ طَاوُسٍ اه. وَالَّذِي فِي الْإِصَابَةِ: وَقَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الْيَمَنِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَتُوُفِّيَ بِالطَّاعُونِ بِالشَّامِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَعَاشَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَلَهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً.
(قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ عَلَى رَاعِيَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ) بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ: مُتَفَرِّقِينَ، بِتَقْدِيمِ التَّاءِ (أَوْ عَلَى رِعَاءٍ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، مَمْدُودٌ، جَمْعٌ (مُفْتَرِقِينَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى أَنَّ ذَلِكَ يُجْمَعُ كُلُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَيُؤَدِّي صَدَقَتَهُ) وَكَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ وَالْحَرْثُ، وَقَوْلُهُ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ، يَدُلُّ عَلَى الْخِلَافِ، وَالْأَصْلُ مُرَاعَاةُ مِلْكِ الرَّجُلِ النِّصَابَ وَلَا يُرَاعَى افْتِرَاقُ الْمَوْضِعِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ السُّعَاةِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. (وَمِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الذَّهَبُ أَوِ الْوَرِقُ مُتَفَرِّقَةً فِي أَيْدِي نَاسٍ شَتَّى إِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا (يَنْبَغِي لَهُ) أَيْ يَجِبُ
عَلَيْهِ (أَنْ يَجْمَعَهَا فَيَخْرُجُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ زَكَاتِهَا) بَيَانٌ لِمَا وَجَبَ (قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ: أَنَّهَا تُجْمَعُ عَلَيْهِ فِي الصَّدَقَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ صُدِّقَتْ) بِضَمِّ الصَّادِ وَشَدِّ الدَّالِ، أَخْرَجَ صَدَقَتَهَا (وَإِنَّمَا هِيَ غَنَمٌ كُلُّهَا، وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً) تَمْيِيزٌ (شَاةٌ) مُبْتَدَأٌ، اسْتِدْلَالٌ عَلَى جَمْعِ الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ ; لِأَنَّ اسْمَ الْغَنَمِ يَشْمَلُهَا (قَالَ: فَإِنْ كَانَتِ الضَّأْنُ هِيَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَعْزِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى رَبِّهَا إِلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ) بِخِفَّةِ الصَّادِ أَيِ السَّاعِي (تِلْكَ الشَّاةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنَ الضَّأْنِ) تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ (وَإِنْ كَانَ الْمَعْزُ أَكْثَرَ مِنَ الضَّأْنِ أُخِذَ مِنْهَا فَإِنِ اسْتَوَى الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ) كَخَمْسِينَ ضَأْنًا وَخَمْسِينَ مَعْزًا (أَخَذَ الشَّاةَ مِنْ أَيَّتِهِمَا شَاءَ) إِذْ لَا طَرَفَ يُرَجَّحُ (وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ الْعِرَابُ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (وَالْبُخْتِ) جَمْعُ بُخْتِيٍّ مِثْلُ رُومٍ وَرُومِيٍّ ثُمَّ يُجْمَعُ عَلَى الْبَخَاتِي وَيُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ، وَعِنْدَ ابْنِ وَضَّاحٍ: وَالنُّجْبُ بِنُونٍ وَجِيمٍ وَمُوَحَّدَةٍ جَمْعُ نَجِيبٍ وَنَجِيبَةٍ بِمَعْنَى الْخِيَارِ (يُجْمَعَانِ عَلَى رَبِّهِمَا فِي الصَّدَقَةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ إِبِلٌ كُلُّهَا) فَيَشْمَلُهَا اسْمُ الْإِبِلِ فِي الْحَدِيثِ (فَإِنْ كَانَتِ الْعِرَابُ هِيَ أَكْثَرُ مِنَ الْبُخْتِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى رَبِّهَا إِلَّا بَعِيرٌ وَاحِدٌ فَلْيَأْخُذْ مِنَ الْعِرَابِ صَدَقَتَهَا) أَيِ الْجَمِيعُ مِنْ بُخْتٍ وَعِرَابٍ (فَإِنْ كَانَتِ الْبُخْتُ أَكْثَرَ فَلْيَأْخُذْ مِنْهَا) صَدَقَتَهَا (فَإِنِ اسْتَوَتْ فَلْيَأْخُذْ مِنْ أَيَّتِهِمَا شَاءَ) إِذَا كَانَتْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا السِّنُّ الْوَاجِبَةُ، فَإِنْ كَانَتْ فِي أَحَدِهِمَا خَاصَّةً أَخَذَهَا وَلَيْسَ لَهُ إِلْزَامُ الْمَالِكِ بِشِرَاءِ ذَلِكَ مِنَ الْآخَرِ (قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ) جَمْعُ جَامُوسٍ، نَوْعٌ مِنَ الْبَقَرِ، قِيلَ كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ
مِنْ جَمُسَ الْوَدَكُ إِذَا جَمُدَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قُوَّةُ الْبَقَرِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ وَالدِّيَاسَةِ (تُجْمَعُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى رَبِّهَا وَإِنَّمَا هِيَ بَقَرٌ كُلُّهَا) وَقَدْ ثَبَتَ زَكَاةُ الْبَقَرِ (فَإِنْ كَانَتِ الْبَقَرُ هِيَ أَكْثَرَ مِنَ الْجَوَامِيسِ وَ) الْحَالَةُ أَنَّهُ (لَا تَجِبُ عَلَى رَبِّهَا إِلَّا بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ فَلْيَأْخُذْ مِنَ الْبَقَرِ صَدَقَتَهُمَا، وَإِنْ كَانَتِ الْجَوَامِيسُ أَكْثَرَ فَلْيَأْخُذْ مِنْهَا فَإِنِ اسْتَوَتْ) كَخَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الْجَامُوسِ وَمِثْلِهَا مِنَ الْبَقَرِ (فَلْيَأْخُذْ مِنْ أَيَّتِهِمَا شَاءَ) مَعَ وُجُودِهِمَا وَإِلَّا تَعَيَّنَ الْمَوْجُودُ (فَإِذَا وَجَبَتْ فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ صُدِّقَ الصِّنْفَانِ جَمِيعًا) كَثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ وَمِثْلِهَا جَامُوسٍ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ تَبِيعًا (قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَفَادَ مَاشِيَةً مِنْ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ أَفَادَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ قَبْلَهَا نِصَابُ مَاشِيَةٍ، وَالنِّصَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ) وَهُوَ لُغَةً الْأَصْلُ، وَاسْتُعْمِلَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ فِي أَقَلِّ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَكَأَنَّهُ أَصْلٌ لِمَا تَجِبُ فِيهِ (إِمَّا خَمْسُ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِمَّا ثَلَاثُونَ بَقَرَةً، وَإِمَّا أَرْبَعُونَ شَاةً، فَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ) مَثَلًا (خُمْسُ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ ثَلَاثُونَ بَقَرَةً أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً، ثُمَّ أَفَادَ إِلَيْهَا إِبِلًا أَوْ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا بِاشْتِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَإِنَّهُ يُصَدِّقُهَا) يُعْطِي صَدَقَتَهَا (مَعَ مَاشِيَتِهِ حِينَ يُصَدِّقُهَا وَإِنْ لَمْ يَحُلْ عَلَى الْفَائِدَةِ الْحَوْلُ) فَحَاصِلُ مَذْهَبِهِ فِي فَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ أَنَّهَا إِنَّمَا تُضَمُّ إِلَى نِصَابٍ، وَإِلَّا اسْتُؤْنِفَ بِالْجَمِيعِ حَوْلًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ نَوْعٍ مَا أَفَادَ زَكَّى الْفَائِدَةَ عَلَى حَوْلِ النِّصَابِ، وَلَوِ اسْتَفَادَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي بِيَوْمٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُضَمُّ الْفَوَائِدُ وَيُزَكَّى كُلٌّ عَلَى حَوْلِهِ إِلَّا نِتَاجَ الْمَاشِيَةِ فَتُزَكَّى مَعَ أُمَّهَاتِهَا إِنْ كَانَتْ نِصَابًا (وَإِنْ كَانَ مَا أَفَادَ مِنَ الْمَاشِيَةِ إِلَى مَاشِيَتِهِ قَدْ صُدِّقَتْ) أَيْ صَدَّقَهَا مَالِكُهَا الْبَائِعُ أَوِ الْوَاهِبُ أَوِ الْمُوَرِّثُ
(قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَرِثَهَا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يُصَدِّقُهَا مَعَ مَاشِيَتِهِ حِينَ يُصَدِّقُ مَاشِيَتَهُ) فَهُوَ مَالٌ زَكَّاهُ اثْنَانِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ (قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ) قِيَاسُهُ (مَثَلُ الْوَرِقِ) الْفِضَّةِ (يُزَكِّيهَا الرَّجُلُ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ عَرْضًا، وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي عَرْضِهِ ذَلِكَ إِذَا بَاعَهُ الصَّدَقَةَ) لِتَجْرِهِ فِيهِ (فَيُخْرِجُ الرَّجُلُ الْآخَرُ صَدَقَتَهَا هَذَا الْيَوْمَ وَيَكُونُ الْآخَرُ قَدْ صَدَّقَهَا مِنَ الْغَدِ) وَلَا غَرَابَةَ فِي ذَلِكَ (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ لَا تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ) لِنَقْصِهَا عَنِ النِّصَابِ (فَاشْتَرَى إِلَيْهَا غَنَمًا كَثِيرَةً تَجِبُ فِي دُونِهَا الصَّدَقَةُ أَوْ وَرِثَهَا) أَوْ وُهِبَتْ لَهُ (أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْغَنَمِ كُلِّهَا الصَّدَقَةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَهَا بِاشْتِرَاءٍ أَوْ مِيرَاثٍ) أَوْ هِبَةٍ (وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ مَاشِيَةٍ لَا تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ) صِفَةُ مَاشِيَةٍ (مِنْ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ) بَيَانٌ لِمَاشِيَةٍ (فَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ نِصَابُ مَالٍ) بَلْ هُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ (حَتَّى يَكُونَ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا) أَيِ الثَّلَاثَةِ (مَا تَجِبُ فِيهِ) بِالتَّذْكِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا بِالتَّأْنِيثِ (الصَّدَقَةُ فَذَلِكَ النِّصَابُ الَّذِي يُصَدِّقُ) يُزَكِّى (مَعَهُ مَا أَفَادَ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ) فَاعِلُ يُصَدِّقُ (مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ) بَيَانٌ لِمَا (مِنَ الْمَاشِيَةِ) بِأَصْنَافِهَا الثَّلَاثَةِ (وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ تَجِبُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا الصَّدَقَةُ) لِبُلُوغِ النِّصَابِ (ثُمَّ أَفَادَ إِلَيْهَا بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً
صَدَّقَهَا مَعَ مَاشِيَتِهِ حِينَ يُصَدِّقُهَا، وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي هَذَا) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَجِبُ هَذَا الْقَوْلُ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ حَسَّانَ:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ
…
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
قَالَ: فَشَرُّكُمَا، وَلَا شَرَّ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: لِخَيْرِكُمَا، وَلَا خَيْرَ فِي هَاجِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِأَحَبَّ أَنَّهُ أَصَحُّ وَأَرْجَحُ دَلِيلًا فَأَفْعَلُ عَلَى بَابِهَا (قَالَ مَالِكٌ فِي الْفَرِيضَةِ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ فَلَا تُوجَدُ عِنْدَهُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِنْتَ مَخَاضٍ فَلَمْ تُوجَدْ أُخِذَ مَكَانَهَا ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ) وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قِيمَةٍ مِنْهَا وَلَا يُكَلَّفُ تَحْصِيلُهَا، فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ:" فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ " وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَجِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا: يَتَعَيَّنُ شِرَاءُ بِنْتِ الْمَخَاضِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّهُمَا شَاءَ (إِنْ كَانَتْ) الْفَرِيضَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ (بِنْتَ لَبُونٍ أَوْ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ كَانَ عَلَى رَبِّ الْإِبِلِ أَنْ يَبْتَاعَهَا لَهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ بِهَا، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهَا) لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ:" «خُذِ الْحَبَّ مِنَ الْحَبِّ وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ وَالْبَعِيرَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرَ مِنَ الْبَقَرِ» " وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ فَلَمْ تُجْزِ فِيهِ الْقِيمَةُ كَالرَّقَبَةِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. (قَالَ مَالِكٌ فِي الْإِبِلِ النَّوَاضِحِ) جَمْعُ نَاضِحٍ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ لِيَسْقِيَ الزَّرْعَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَنْضَحُ الْعَطَشَ أَيْ تَبُلُّهُ بِالْمَاءِ الَّذِي تَحْمِلُهُ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ بَعِيرٍ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلِ الْمَاءَ (وَالْبَقَرِ السَّوَانِي) الَّتِي يُسْنَى عَلَيْهَا أَيْ يُسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ (وَبَقَرِ الْحَرْثِ إِنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ) لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَرَدَتْ بِإِطْلَاقِ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَلَمْ يَخُصَّ عَامِلَةً مِنْ غَيْرِهَا.
[بَاب صَدَقَةِ الْخُلَطَاءِ]
قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي الْخَلِيطَيْنِ إِذَا كَانَ الرَّاعِي وَاحِدًا وَالْفَحْلُ وَاحِدًا وَالْمُرَاحُ وَاحِدًا وَالدَّلْوُ وَاحِدًا فَالرَّجُلَانِ خَلِيطَانِ وَإِنْ عَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَهُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ قَالَ وَالَّذِي لَا يَعْرِفُ مَالَهُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ لَيْسَ بِخَلِيطٍ إِنَّمَا هُوَ شَرِيكٌ قَالَ مَالِكٌ وَلَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْخَلِيطَيْنِ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِ الْخَلِيطَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً فَصَاعِدًا وَلِلْآخَرِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً كَانَتْ الصَّدَقَةُ عَلَى الَّذِي لَهُ الْأَرْبَعُونَ شَاةً وَلَمْ تَكُنْ عَلَى الَّذِي لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ صَدَقَةٌ فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ جُمِعَا فِي الصَّدَقَةِ وَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفُ شَاةٍ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعُونَ شَاةً أَوْ أَكْثَرُ فَهُمَا خَلِيطَانِ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ عَلَى قَدْرِ عَدَدِ أَمْوَالِهِمَا عَلَى الْأَلْفِ بِحِصَّتِهَا وَعَلَى الْأَرْبَعِينَ بِحِصَّتِهَا قَالَ مَالِكٌ الْخَلِيطَانِ فِي الْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ يَجْتَمِعَانِ فِي الصَّدَقَةِ جَمِيعًا إِذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَقَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَصْحَابَ الْمَوَاشِي قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ أَنْ يَكُونَ النَّفَرُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ وَجَبَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي غَنَمِهِ الصَّدَقَةُ فَإِذَا أَظَلَّهُمْ الْمُصَدِّقُ جَمَعُوهَا لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا أَظَلَّهُمَا الْمُصَدِّقُ فَرَّقَا غَنَمَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ قَالَ مَالِكٌ فَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
13 -
بَابُ صَدَقَةِ الْخُلَطَاءِ
(قَالَ مَالِكٌ فِي الْخَلِيطَيْنِ إِذَا كَانَ الرَّاعِي وَاحِدًا وَالْفَحْلُ) ذَكَرُ الْمَاشِيَةِ (وَاحِدًا وَالْمُرَاحُ) بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْأَشْهَرِ وَتُفْتَحُ، مُجْتَمَعُ الْمَاشِيَةِ لِلْمَبِيتِ أَوْ لِلْقَائِلَةِ (وَاحِدًا وَالدَّلْوُ) آلَةُ الِاسْتِقَاءِ، وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمِيَاهِ (وَاحِدًا فَالرَّجُلَانِ خَلِيطَانِ) فَيَكُونَانِ كَمَالِكٍ وَاحِدٍ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْخَلْطِ (وَإِنْ عَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَهُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ) الْوَاوُ لِلْحَالِ لَا لِلْمُبَالَغَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (قَالَ: وَالَّذِي لَيْسَ يَعْرِفُ مَالَهُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ لَيْسَ بِخَلِيطٍ إِنَّمَا هُوَ شَرِيكٌ) فَقَطْ، لَا خَلِيطٌ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْخَلِيطَ الشَّرِيكُ وَاحِدٌ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَعْرِفُ عَيْنَ مَالِهِ لِعَدَمِ تَمَيُّزِهِ عَنْ مَالِ شَرِيكِهِ حَتَّى يَرْجِعَ بِحِصَّةِ مَا أُخِذَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ لِتَرَاجُعِهِمَا بِالسَّوِيَّةِ مَعْنًى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ التَّرَاجُعَ بِحَسْبِ الْحِسَابِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلِيطَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص: 24](سُورَةُ ص: الْآيَةُ 24) وَقَدْ بَيَّنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23](سُورَةُ ص: الْآيَةُ 23) فَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلْطَةِ مُطْلَقُ الِاجْتِمَاعِ لَا الشَّرِكَةُ. (وَلَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْخَلِيطَيْنِ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ) وَكُلُّ حُرٍّ مُسْلِمٍ فَيُزَكِّي عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْخَلْطَةُ مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَثْقِيلٍ وَمُسَاوَاةٍ (وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُهُ (إِذَا كَانَ لِأَحَدِ الْخَلِيطَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً فَصَاعِدًا وَالْآخَرِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً) وَلَوْ بِوَاحِدَةٍ (كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى الَّذِي لَهُ الْأَرْبَعُونَ شَاةً) لِمِلْكِهِ النِّصَابَ (وَلَمْ تَكُنْ عَلَى الَّذِي لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ صَدَقَةٌ) لِنَقْصِهِ عَنِ النِّصَابِ (فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَجِبُ فِيهِ
الصَّدَقَةُ جَمْعًا فِي الصَّدَقَةِ وَوَجَبَتِ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا) بِقَدْرِ مَالَيْهِمَا، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِالْمِثَالِ فَقَالَ:(فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا أَلْفُ شَاةٍ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعُونَ شَاةً أَوْ أَكْثَرُ فَهُمَا خَلِيطَانِ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ) أَيِ الزَّائِدَ (بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ عَلَى قَدْرِ عَدَدِ أَمْوَالِهِمَا عَلَى الْأَلْفِ بِحِصَّتِهَا وَعَلَى الْأَرْبَعِينَ بِحِصَّتِهَا) فَإِذَا أَخَذَ السَّاعِي مِنَ الْأَلْفِ وَالْأَرْبَعِينَ عَشَرَةً كَانَ عَلَى ذِي الْأَلْفِ مِنْهَا تِسْعَةٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» " لِأَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَهُمَا تَرَاجُعٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْخَلِيطَيْنِ إِذَا أُخِذَتِ الْفَرِيضَةُ مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَأْثِيرَ لِلْخَلْطَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَمْلِكُ إِلَّا مِثْلَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ خَلْطَةً، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَفْرِيقُهَا مِثْلَ جَمْعِهَا فِي الْحُكْمِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَعَلَّ الْكُوفِيِّينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ رَأَوْا أَنَّ الْأَصْلَ حَدِيثُ: " «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ» ". وَرَأَوْا أَنَّ حُكْمَ الْخَلْطَةِ يُغَايِرُ هَذَا الْأَصْلَ فَلَمْ يَقُولُوا بِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: الْخَلِيطَانِ فِي الْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ يَجْتَمِعَانِ فِي الصَّدَقَةِ جَمِيعًا) وَكَذَا الْخَلِيطَيْنِ فِي الْبَقَرِ (إِذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ) وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مُشِيرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَ) دَلِيلُ (ذَلِكَ) أَيْ شَرْطُ مِلْكِ كُلِّ نِصَابٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ» ) بِالْإِضَافَةِ وَالتَّنْوِينِ (مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ) فَعُمُومُ النَّفْيِ شَامِلٌ لِلْخَلِيطَيْنِ (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً» ) تَمْيِيزٌ (شَاةٌ) بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ، فَقَيَّدَ زَكَاتَهَا بِبُلُوغِ النِّصَابِ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْخَلِيطَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِصَابٌ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَطَ (قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) وَوَافَقَهُ
عَلَى هَذَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ مُخَالِطًا، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةٌ فِي أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَلِيطَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ نَقْضُ أَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ بِرَأْيٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: إِذَا بَلَغَتْ مَاشَيْتُهُمَا النِّصَابَ وَجَبَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلٍّ نِصَابٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِرَأْيٍ بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ فِي حَدِيثَيِ الذَّوْدِ وَالْغَنَمِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِينَ بِالْخَلْطَةِ لِمَالِكَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدِ اتَّفَقُوا فِي ثَلَاثَةِ خُلَطَاءَ لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً لِكُلِّ أَرْبَعِينَ عَلَيْهِمْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ لِلْخَلْطَةِ فَقِيَاسُهُ: لَوْ كَانَتْ أَرْبَعُونَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ شَاةٌ لِخَلْطَتِهِمْ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
لَكِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى هَذَا إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِتَأْثِيرِ الْخَلْطَةِ فَلَا يُعَادِلُ الْقِيَاسَ عَلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَنُصَّ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعَيْنِ بِالْخَلْطَةِ لِمَالِكَيْنِ أَوْ لِوَاحِدٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ لِعَوْدِهِ عَلَى الدَّلِيلِ بِالْإِبْطَالِ، إِذْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى مَالِكٍ أَقَلُّ مِنْ نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ عُمُومِ السَّلْبِ فِي قَوْلِهِ:" «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ» " وَخِلَافُ الشَّرْطِ فِي حَدِيثِ الْغَنَمِ، فَقَوْلُ مَالِكٍ أَرْجَحُ وَاسْتِدْلَالُهُ أَوْضَحُ. (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) فِي كِتَابِهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَرَّ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ» ) بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ عَلَى التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَخِفَّةِ الرَّاءِ، وَبِتَقْدِيمِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْفَاءِ وَشَدِّ الرَّاءِ، رِوَايَتَانِ كَمَا مَرَّ. (وَلَا يُفَرَّقُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَشَدِّ ثَالِثِهِ مَفْتُوحًا (بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَصْحَابَ الْمَوَاشِي) لِأَنَّهُ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ لَا السُّعَاةُ (قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ أَنْ يَكُونَ النَّفَرُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ وَجَبَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي غَنَمِهِمُ الصَّدَقَةُ فَإِذَا أَظَلَّهُمْ) بِظَاءٍ مُعْجَمَةٍ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ (الْمُصَدِّقُ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ آخِذُ الصَّدَقَةِ وَهُوَ السَّاعِي (جَمَعُوهَا لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّهَا وَاجِبُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ (فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنْ تَقْلِيلِ الصَّدَقَةِ (وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ،
فَإِذَا أَظَلَّهُمَا الْمُصَدِّقُ فَرَّقَا غَنَمَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ) وَفِي رِوَايَةٍ: مَخَافَةَ (الصَّدَقَةِ، قَالَ: فَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ فِي) تَفْسِيرِ (ذَلِكَ) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ جِهَةٍ وَلِلسَّاعِي مِنْ جِهَةٍ، فَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ لَا يُحْدِثَ شَيْئًا مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، فَرَبُّ الْمَالِ يَخْشَى أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ فَيَجْمَعُ أَوْ يُفَرِّقُ لِتَقِلَّ، وَالسَّاعِي يَخْشَى أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ فَيَجْمَعُ أَوْ يُفَرِّقُ لِتَكْثُرَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، أَيْ خَشْيَةَ أَنْ تَكْثُرَ أَوْ أَنْ تَقِلَّ، فَلَمَّا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا مَعًا، قَالَ الْحَافِظُ: لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمَالِكِ أَظْهَرُ.
[بَاب مَا جَاءَ فِيمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ السَّخْلِ فِي الصَّدَقَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا فَكَانَ يَعُدُّ عَلَى النَّاسِ بِالسَّخْلِ فَقَالُوا أَتَعُدُّ عَلَيْنَا بِالسَّخْلِ وَلَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ نَعَمْ تَعُدُّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذُهَا وَلَا تَأْخُذُ الْأَكُولَةَ وَلَا الرُّبَّى وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ وَتَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْغَنَمِ وَخِيَارِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالسَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ حِينَ تُنْتَجُ وَالرُّبَّى الَّتِي قَدْ وَضَعَتْ فَهِيَ تُرَبِّي وَلَدَهَا وَالْمَاخِضُ هِيَ الْحَامِلُ وَالْأَكُولَةُ هِيَ شَاةُ اللَّحْمِ الَّتِي تُسَمَّنُ لِتُؤْكَلَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْغَنَمُ لَا تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ فَتَوَالَدُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهَا الْمُصَدِّقُ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَتَبْلُغُ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ بِوِلَادَتِهَا قَالَ مَالِكٌ إِذَا بَلَغَتْ الْغَنَمُ بِأَوْلَادِهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَعَلَيْهِ فِيهَا الصَّدَقَةُ وَذَلِكَ أَنَّ وِلَادَةَ الْغَنَمِ مِنْهَا وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا أُفِيدَ مِنْهَا بِاشْتِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْعَرْضُ لَا يَبْلُغُ ثَمَنُهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ ثُمَّ يَبِيعُهُ صَاحِبُهُ فَيَبْلُغُ بِرِبْحِهِ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَيُصَدِّقُ رِبْحَهُ مَعَ رَأْسِ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ رِبْحُهُ فَائِدَةً أَوْ مِيرَاثًا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ أَفَادَهُ أَوْ وَرِثَهُ قَالَ مَالِكٌ فَغِذَاءُ الْغَنَمِ مِنْهَا كَمَا رِبْحُ الْمَالِ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ أَفَادَ إِلَيْهِ مَالًا تَرَكَ مَالَهُ الَّذِي أَفَادَ فَلَمْ يُزَكِّهِ مَعَ مَالِهِ الْأَوَّلِ حِينَ يُزَكِّيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَى الْفَائِدَةِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ أَفَادَهَا وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ غَنَمٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ إِبِلٌ تَجِبُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا الصَّدَقَةُ ثُمَّ أَفَادَ إِلَيْهَا بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً صَدَّقَهَا مَعَ صِنْفِ مَا أَفَادَ مِنْ ذَلِكَ حِينَ يُصَدِّقُهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ الَّذِي أَفَادَ نِصَابُ مَاشِيَةٍ قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
14 -
بَابُ مَا جَاءَ فِيمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ السَّخْلِ فِي الصَّدَقَةِ
السَّخْلُ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَبِاللَّامِ، جَمْعُ سَخْلَةٍ مِثْلُ تَمْرٍ وَتَمْرَةٍ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى سِخَالٍ.
600 -
600 - (مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ (ابْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، الْمَدَنِيُّ، ثِقَةٌ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (عَنِ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ جَدِّهِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ الثَّقَفِيِّ الطَّائِفِيِّ، صَحَابِيٌّ، وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ عَلَى الطَّائِفِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا) جَابِيًا لِلصَّدَقَةِ (فَكَانَ يَعُدُّ عَلَى النَّاسِ بِالسَّخْلِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (فَقَالُوا: أَتَعُدُّ عَلَيْنَا بِالسَّخْلِ وَلَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا) فِي الزَّكَاةِ (فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) الَّذِي فَعَلَهُ وَإِنْكَارَهُمْ عَلَيْهِ (فَقَالَ) عُمَرُ (نَعَمْ تَعُدُّ عَلَيْهِمْ) مَوَاشِيَهُمْ (بِالسَّخْلَةِ)
الْوَاحِدَةِ فَضْلًا عَنِ السَّخْلِ (يَحْمِلُهَا الرَّاعِي) لِعَدَمِ قُدْرَتِهَا عَلَى الْمَشْيِ وَلَا تَأْخُذُهَا (وَلَا تَأْخُذُ الْأَكُولَةَ) السَّمِينَةَ (وَلَا الرُّبَّى) بَرَاءٍ وَمُوَحَّدَةٍ بِزِنَةِ فُعْلَى وَجَمْعُهَا رُبَابٌ كَغُرَابٍ (وَلَا الْمَاخِضَ) بِمُعْجَمَتَيْنِ (وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَتَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ) أَيْ وَسَطٌ (بَيْنَ غِذَاءِ) بِمُعْجَمَتَيْنِ بِزِنَةِ كِرَامٍ جَمْعُ غَذِيٍّ وَزْنُ كَرِيمٍ، سِخَالٌ (الْغَنَمِ وَخِيَارِهِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: بَيَّنَ عُمَرُ أَنَّ مَا يَتْرُكُ لَهُمْ مِنْ جَيِّدِهَا وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ فِي جَنْبِ الرَّدِيءِ الَّذِي لَا يُؤْخَذُ، فَكَمَا يَحْسِبُ الْجَيِّدَ مِنْهُ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَذَلِكَ يَحْسِبُ الرَّدِيءَ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ، وَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ وَسَطِ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا إِلَّا مَا يُرْوَى عَمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ السِّخَالُ بِحَالٍ، قَالَ مَالِكٌ:(السَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ حِينَ تُنْتَجُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ، أَيْ سَاعَةَ تُولَدُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِأَوْلَادِ الْغَنَمِ سَاعَةَ تَضَعُهَا أُمَّهَاتُهَا مِنَ الضَّأْنِ أَوِ الْمَعْزِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى سَخْلَةً. (وَالرُّبَّى الَّتِي قَدْ وَضَعَتْ فَهِيَ تُرَبِّي وَلَدَهَا) وَقِيلَ: الَّتِي تُحْبَسُ فِي الْبَيْتِ لِلَبَنِهَا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَلَيْسَ لَهَا فِعْلٌ وَهِيَ مِنَ الْمَعْزِ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمُجَرَّدِ: إِنَّهَا فِي الْمَعْزِ خَاصَّةً، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مِنَ الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ فِي الْإِبِلِ (وَالْمَاخِضُ هِيَ الْحَامِلُ) يُقَالُ شَاةٌ مَاخِضٌ (وَالْأَكُولَةُ) بِالْفَتْحِ (هِيَ شَاةُ اللَّحْمِ الَّتِي تُسَمَّنُ لِتُؤْكَلَ) فَهِيَ مَنْ كَرَائِمِ الْمَالِ، وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ:" إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» ". (قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْغَنَمُ لَا تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ فَتَوَالَدُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهَا) وَفِي نُسْخَةٍ: يَأْتِيهِ أَيِ الرَّجُلُ مَالِكُهَا (الْمُصَدِّقُ) السَّاعِي (بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، فَتَبْلُغُ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ بِوِلَادَتِهَا، قَالَ مَالِكٌ) أَعَادَهُ لِطُولِ الْفَصْلِ بِصُورَةِ التَّصْوِيرِ (إِذَا بَلَغَتِ الْغَنَمُ بِأَوْلَادِهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَعَلَيْهِ فِيهَا الصَّدَقَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ وِلَادَةَ الْغَنَمِ مِنْهَا) كَرِبْحِ الْمَالِ كَمَا يَأْتِي (وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا أُفِيدَ مِنْهَا بِاشْتِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ) فَلَا يُضِيفُهُ لِمَا
عِنْدَهُ النَّاقِصُ عَنِ النِّصَابِ بَلْ يُسْتَقْبَلُ بِهِمَا (وَمِثْلُ ذَلِكَ الْعَرْضُ) أَيْ عَرْضُ التِّجَارَةِ (لَا يَبْلُغُ ثَمَنُهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ ثُمَّ يَبِيعُهُ صَاحِبُهُ فَيَبْلُغُ بِرِبْحِهِ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَيُصَدِّقُ) أَيْ يُزَكِّي (رِبْحَهُ مَعَ رَأْسِ الْمَالِ) وَلَوْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ (وَلَوْ كَانَ رِبْحُهُ فَائِدَةً) هِبَةً (أَوْ مِيرَاثًا، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَهُ أَوْ وَرِثَهُ فَغِذَاءُ الْغَنَمِ) بِمُعْجَمَتَيْنِ سِخَالُهَا جَمْعُ غَذِيٍّ بِزِنَةِ كَرِيمٍ وَكِرَامٍ (مِنْهَا كَمَا رِبْحُ الْمَالِ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي وَجْهٍ آخَرَ) هُوَ (أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ) مَثَلًا (مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْوَرِقِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ أَفَادَ إِلَيْهِ مَالًا تَرَكَ مَالَهُ الَّذِي أَفَادَ فَلَمْ يُزَكِّهِ مَعَ مَالِهِ الْأَوَّلِ حِينَ يُزَكِّيهِ) لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفَائِدَةِ. (حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى الْفَائِدَةِ مِنْ يَوْمِ أَفَادَهَا، وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ غَنَمٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ إِبِلٌ تَجِبُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا الصَّدَقَةُ، ثُمَّ أَفَادَ إِلَيْهَا بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً صَدَّقَهَا) زَكَّاهَا (مَعَ صِنْفِ مَا أَفَادَ مِنْ ذَلِكَ حِينَ يُصَدِّقُهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ الَّذِي أَفَادَ نِصَابَ مَاشِيَةٍ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ وِلَادَةَ الْمَاشِيَةِ كَرِبْحِ الْمَالِ إِنْ تَمَّ بِهِ النِّصَابُ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي بِيَوْمٍ زُكِّيَتْ، بِخِلَافِ مَا أَفَادَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابُ مَاشِيَةٍ ثُمَّ أَفَادَ مَاشِيَةً أَضَافَهَا إِلَى حَوْلِ الْأُولَى. (قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ) مِنَ الْخِلَافِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُضَمُّ شَيْءٌ مِنَ الْفَوَائِدِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا نِتَاجَ الْمَاشِيَةِ إِذَا كَانَتْ نِصَابًا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ نِصَابًا لَمْ يُعْتَدَّ بِالسِّخَالِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ لَهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ أَرْبَعُونَ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا، وَفِي آخِرِهِ كَذَلِكَ فَالزَّكَاةُ فِيهِمَا وَإِنْ نَقَصَتْ فِي الْحَوْلِ.
[بَاب الْعَمَلِ فِي صَدَقَةِ عَامَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا]
قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَإِبِلُهُ مِائَةُ بَعِيرٍ فَلَا يَأْتِيهِ السَّاعِي حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ أُخْرَى فَيَأْتِيهِ الْمُصَدِّقُ وَقَدْ هَلَكَتْ إِبِلُهُ إِلَّا خَمْسَ ذَوْدٍ قَالَ مَالِكٌ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ الْخَمْسِ ذَوْدٍ الصَّدَقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَجَبَتَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ شَاتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ شَاةٌ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ يَوْمَ يُصَدِّقُ مَالَهُ فَإِنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ أَوْ نَمَتْ فَإِنَّمَا يُصَدِّقُ الْمُصَدِّقُ زَكَاةَ مَا يَجِدُ يَوْمَ يُصَدِّقُ وَإِنْ تَظَاهَرَتْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ صَدَقَاتٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ إِلَّا مَا وَجَدَ الْمُصَدِّقُ عِنْدَهُ فَإِنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهَا صَدَقَاتٌ فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ كُلُّهَا أَوْ صَارَتْ إِلَى مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَإِنَّهُ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ فِيمَا هَلَكَ أَوْ مَضَى مِنْ السِّنِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
15 -
بَابُ الْعَمَلِ فِي صَدَقَةِ عَامَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَإِبِلُهُ مِائَةُ بَعِيرٍ فَلَا يَأْتِيهِ السَّاعِي حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ أُخْرَى فَيَأْتِيهِ الْمُصَدِّقُ) السَّاعِي (وَقَدْ هَلَكَتْ إِبِلُهُ إِلَّا خَمْسَ ذَوْدٍ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ) بِخِفَّةِ الصَّادِ (مِنَ الْخَمْسِ ذَوْدٍ الصَّدَقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَجَبَتَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ شَاتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ شَاةٌ ; لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ يَوْمَ يُصَدِّقُ مَالَهُ) أَيْ يُزَكِّيهِ، وَشَرْطُ الْوُجُوبِ مَجِيءُ السَّاعِي إِنْ كَانَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْوُجُوبِ، سَوَاءٌ تَلِفَتَ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ أَتْلَفَهَا قَصْدَ الْفِرَارِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَتْلَفَهَا هُوَ ضَمِنَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً: مَجِيءُ السَّاعِي شَرْطُ وُجُوبٍ، وَمَرَّةٌ: شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ، قَالَ سَحْنُونٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاعٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كُلَّ حَوْلٍ ; لِأَنَّهُ سَاعِي نَفْسِهِ. (فَإِنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ أَوْ نَمَتَ) زَادَتْ (فَإِنَّمَا يُصَدِّقُ الْمُصَدِّقُ) يَأْخُذُ السَّاعِي (زَكَاةَ مَا يَجِدُ يَوْمَ يُصَدِّقُ، وَإِنْ تَظَاهَرَتْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ صَدَقَاتٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ) أَيْ أَكْثَرُ مِنْهَا (فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ) يُزَكِّيَ (إِلَّا مَا وَجَدَ الْمُصَدِّقُ) السَّاعِي (عِنْدَهُ فَإِنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهَا صَدَقَاتٌ) مُتَعَدِّدَةٌ لَوْ كَانَ السَّاعِي يَأْتِي كُلَّ عَامٍ، فَفِي إِطْلَاقِ الْوُجُوبِ تَجُوزُ (فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ كُلُّهَا أَوْ صَارَتْ إِلَى مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ) بِنَقْصِهَا عَنِ النِّصَابِ (فَإِنَّهُ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ فِيمَا هَلَكَ أَوْ مَضَى مِنَ السِّنِينَ) سَوَاءٌ كَانَ الْهَلَاكُ بِسَمَاوِيٍّ
أَوْ إِتْلَافُهُ إِيَّاهَا بِدُونِ قَصْدِ الْفِرَارِ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ: هَلِ الزَّكَاةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذِّمَّةِ أَوْ بِالْعَيْنِ؟ ، وَهَلْ مَجِيءُ السَّاعِي شَرْطُ وُجُوبٍ أَمْ لَا؟ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ بِمَجِيءِ السَّاعِي، وَأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعَيْنِ، أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَاجِيُّ.
[بَاب النَّهْيِ عَنْ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ مُرَّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِغَنَمٍ مِنْ الصَّدَقَةِ فَرَأَى فِيهَا شَاةً حَافِلًا ذَاتَ ضَرْعٍ عَظِيمٍ فَقَالَ عُمَرُ مَا هَذِهِ الشَّاةُ فَقَالُوا شَاةٌ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ عُمَرُ مَا أَعْطَى هَذِهِ أَهْلُهَا وَهُمْ طَائِعُونَ لَا تَفْتِنُوا النَّاسَ لَا تَأْخُذُوا حَزَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ نَكِّبُوا عَنْ الطَّعَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
16 -
بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ
602 -
601 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ، الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ (عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: مُرَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ (عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِغَنَمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ فَرَأَى فِيهَا شَاةً حَافِلًا) مُجْتَمِعًا لَبَنُهَا، يُقَالُ حَفَّلْتُ الشَّاةَ بِالتَّثْقِيلِ: تَرَكْتُ حَلْبَهَا حَتَّى اجْتَمَعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا، فَهِيَ مُحْفَلَةٌ، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ حَفَلْتُ لَبَنَ الشَّاةِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَجْمُوعُ فَهِيَ مُحْفَلٌ لَبَنُهَا (ذَاتَ ضَرْعٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، ثَدْيٌ (عَظِيمٍ فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذِهِ الشَّاةُ؟ فَقَالُوا: شَاةٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْطَى هَذِهِ أَهْلُهَا وَهُمْ طَائِعُونَ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا أُخِذَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مِنْ غَنَمٍ كُلِّهَا لَبُونٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا مَوَاخِضَ أُخِذَ مِنْهَا وَلَدٌ، لَمْ يَأْمُرْ عُمَرُ بِرَدِّهَا، وَرَدَّهُ ابْنُ زَرْقُونَ بِأَنَّ مَشْهُورَ الْمَذْهَبِ أَنَّ السَّاعِيَ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا وَلِرَبِّهَا أَنْ يَأْتِيَهُ بِمَا فِيهِ وَفَاءٌ. الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِهَا (لَا تَفْتِنُوا) بِكَسْرِ التَّاءِ (النَّاسَ لَا تَأْخُذُوا حَزَرَاتِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ الْمَنْقُوطَةِ فَرَاءٍ بِلَا نَقْطٍ، خِيَارِ أَمْوَالِ (الْمُسْلِمِينَ) جَمْعُ حَزْرَةٍ بِالسُّكُونِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَقَدْ تُسْكَنُ فِي الْجَمِيعِ عَلَى تَوَهُّمِ الصِّفَةِ، وَيُرْوَى: حَرَزَاتٌ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يُحْرِزُهَا أَيْ يَصُونُهَا عَنِ الِابْتِذَالِ (نَكِّبُوا عَنِ الطَّعَامِ) أَيْ ذَوَاتِ الدَّرِّ، قَالَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ لَبُونًا
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ مِنْ أَشْجَعَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَأْتِيهِمْ مُصَدِّقًا فَيَقُولُ لِرَبِّ الْمَالِ أَخْرِجْ إِلَيَّ صَدَقَةَ مَالِكَ فَلَا يَقُودُ إِلَيْهِ شَاةً فِيهَا وَفَاءٌ مِنْ حَقِّهِ إِلَّا قَبِلَهَا قَالَ مَالِكٌ السُّنَّةُ عِنْدَنَا وَالَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا أَنَّهُ لَا يُضَيَّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي زَكَاتِهِمْ وَأَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ مَا دَفَعُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
603 -
602 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ مِنْ أَشْجَعَ) بِالْفَتْحِ وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ وَجِيمٍ، قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنَ الْعَرَبِ (أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ) أَكْبَرُ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَكَانَ فَاضِلًا، مَاتَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ (كَانَ يَأْتِيهِمْ مُصَدِّقًا فَيَقُولُ لِرَبِّ الْمَالِ: أَخْرِجْ إِلَيَّ صَدَقَةَ مَالِكَ، فَلَا يَقُودُ إِلَيْهِ شَاةً فِيهَا وَفَاءٌ) أَيْ عَدْلٌ (مِنْ حَقِّهِ إِلَّا قَبِلَهَا) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْوَفَاءُ الْعَدْلُ فِي الْوَزْنِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ هُنَا الزِّيَادَةَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ رَبَّ الْمَالِ بِأَوْفَى مِمَّا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَخْذُ ذَلِكَ لِلْمَسَاكِينِ وَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ
(قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا وَالَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا أَنَّهُ لَا يُضَيَّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي زَكَاتِهِمْ، وَأَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ مَا دَفَعُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُقَسِّمُ الْمُصَدِّقُ الْمَاشِيَةَ وَيَقُولُ لِصَاحِبِهَا آخُذُ مِنْ أَيِّهَا شِئْتُ؟ فَقَالَ: لَا يُرِيدُ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لِرَبِّهَا، وَتَجِبُ مُسَامَحَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي الزَّكَاةِ وَأَخْذُ عَفْوِهِمْ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
[بَاب أَخْذِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لِغَارِمٍ أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ» قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْاجْتِهَادِ مِنْ الْوَالِي فَأَيُّ الْأَصْنَافِ كَانَتْ فِيهِ الْحَاجَةُ وَالْعَدَدُ أُوثِرَ ذَلِكَ الصِّنْفُ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْوَالِي وَعَسَى أَنْ يَنْتَقِلَ ذَلِكَ إِلَى الصِّنْفِ الْآخَرِ بَعْدَ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ أَوْ أَعْوَامٍ فَيُؤْثَرُ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَالْعَدَدِ حَيْثُمَا كَانَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ مَالِكٌ وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَرِيضَةٌ مُسَمَّاةٌ إِلَّا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْإِمَامُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
17 -
بَابُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا
604 -
603 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) مُرْسَلٌ، وَصَلَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 60)(إِلَّا لِخَمْسَةٍ) فَتَحِلُّ لَهُمْ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا بِوَصْفٍ آخَرَ
(لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 60)(أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 60) وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا، قِيلَ وَلَا مُطَّلِبِيًّا. (أَوْ لِغَارِمٍ) أَيْ مَدِينٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 60) بِشُرُوطٍ فِي الْفُرُوعِ. (أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ) مِنَ الْفَقِيرِ الَّذِي أَخَذَهَا (أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ) الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْفَقِيرَ ( «فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى» ) أَيْ أَهْدَاهَا (الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ) فَتَحِلُّ لَهُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا فِيهِ وَفِيمَا قَبِلَهُ، وَلَهُ جَارٌ خَرَجَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، فَالْمَدَارُ عَلَى إِهْدَاءِ الصَّدَقَةِ الَّتِي مَلَكَهَا الْمِسْكِينُ لِجَارٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَيَأْتِي فِي حَدِيثِ إِهْدَاءِ بَرِيرَةَ لَحْمًا تُصِدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا إِلَى عَائِشَةَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ» ". وَكَذَلِكَ الْإِهْدَاءُ لَيْسَ بِقَيْدٍ، فَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ:" «أَوْ جَارٌ فَقِيرٌ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَيُهْدِي لَكَ أَوْ يَدْعُوكَ» ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» ". وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورِينَ. الْبَاجِيُّ: فَإِنْ دَفَعَهَا لِغَنِيٍّ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ عَالِمًا بِغِنَاهُ لَمْ تُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنِ اعْتَقَدَ فَقْرَهُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَضْمَنُ إِنْ دَفَعَهَا لِغَنِيٍّ أَوْ كَافِرٍ، وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّةِ تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْوَالِي) الْخَلِيفَةِ أَوْ نَائِبِهِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُعْطِي، وَفِي مَنْ يُعْطِي مِنَ الْأَصْنَافِ فَلَا يَلْزَمُ تَعْمِيمُهُمْ. (فَأَيُّ الْأَصْنَافِ كَانَتْ فِيهِ الْحَاجَةُ وَالْعَدَدُ أُوثِرَ ذَلِكَ الصِّنْفُ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْوَالِي) بِاجْتِهَادِهِ (وَعَسَى أَنْ يَنْتَقِلَ ذَلِكَ إِلَى الصِّنْفِ الْآخَرِ بَعْدَ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ أَوْ أَعْوَامٍ فَيُؤْثَرُ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَالْعَدَدِ حَيْثُمَا كَانَ) وُجِدَ (ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ) حَمْلًا لِلْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا إِعْلَامٌ بِمَنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَقَدْ قَالَ حُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَكَ. أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ لَا
يَسْتَحِقُّ مِنْهَا، وَإِنَّمَا لَهُ بِقَدْرِ عِمَالَتِهِ، فَدَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَقْسُومَةً عَلَى الْأَصْنَافِ بِالسَّوِيَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ سَهْمَانِ، ثَمَانِيَةٌ لَا يُصْرَفُ مِنْهَا سَهْمٌ إِلَى غَيْرِهِ مَا وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفَةٌ قَسَمَ عَلَى سَبْعَةٍ إِلَّا الْعَامِلَ فَاسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطَى ثَمَنًا، وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ:" «مَا رَضِيَ اللَّهُ بِقِسْمَةِ أَحَدٍ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى قَسَمَهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ» ". لَكِنْ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الْأَفْرِيقِيُّ، ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَغْرِبِ، انْتَهَى. وَالْمُرَجَّحُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي حِفْظِهِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَلَعَلَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ صَلَاحِهِ. (قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَرِيضَةٌ مُسَمَّاةٌ إِلَّا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْإِمَامُ) أَنَّهُ يُجْزِيهِ فِي عِمَالَتِهِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهَا]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
18 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهَا
606 -
604 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ) وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْعِقَالَ هُوَ الْقَلُوصُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى: وَهُوَ وَاحِدُ الْعَقْلِ الَّتِي يُعْقَلُ بِهَا الْإِبِلُ ; لِأَنَّ الَّذِي يُعْطِي الْبَعِيرَ فِي الزَّكَاةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ مَعَهُ عِقَالَهُ، أَيْ لَوْ أَعْطَوْنِي الْبَعِيرَ وَمَنَعُونِي مَا يُعْقَلُ بِهِ لَجَاهَدْتُهُمْ، أَوْ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَتَبُّعِ الْحَقِّ أَوِ التَّقْلِيلِ كَمَا يُقَالُ: وَاللَّهِ لَا تَرَكْتُ مِنْهَا شَعْرَةً، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعِقَالُ صَدَقَةُ عَامٍ كَمَا قَالَ:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَيِّدًا
…
فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ.
وَرُوِيَ عَنَاقًا أَرَادَ أَيْضًا التَّقْلِيلَ ; لِأَنَّ الْعَنَاقَ لَا تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ عَنَاقًا كُلُّهَا، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُ تَعَسُّفٌ وَذَهَابٌ عَنْ طَرِيقَةِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، فَيَقْتَضِي قِلَّةَ مَا عَلَقَ بِهِ الْعَقَالُ وَحَقَارَتَهُ لَا صَدَقَةَ عَامٍ، وَهَذَا الْبَلَاغُ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: " «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لِأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ» ". وَبَسَطَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي أَنَّهُ قَالَ: عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ فَسَأَلَ الَّذِي سَقَاهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ قَدْ سَمَّاهُ فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمْ الصَّدَقَةِ وَهُمْ يَسْقُونَ فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي فَهُوَ هَذَا فَأَدْخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَهُ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عز وجل فَلَمْ يَسْتَطِعْ الْمُسْلِمُونَ أَخْذَهَا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ جِهَادُهُ حَتَّى يَأْخُذُوهَا مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
606 -
605 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ فَسَأَلَ الَّذِي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ قَدْ سَمَّاهُ) وَنَسِيَ اسْمَهُ أَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ غَرَضُهُ بِتَسْمِيَتِهِ (فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَهُمْ يَسْقُونَ) النِّعَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ (فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي) بِكَسْرِ السِّينِ، وِعَائِي (فَهُوَ هَذَا، فَأَدْخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدَهُ فَاسْتِقَاءَهُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَحْمَلُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الَّذِي سَقَاهُ لَيْسَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ ; إِذْ لَعَلَّهُ غَنِيٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ فَاسْتِقَاءَهُ لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِهِ وَأَصْلُهُ مَحْظُورٌ وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ قَصْدًا، وَهَذَا نِهَايَةُ الْوَرَعِ، وَلَعَلَّهُ أَعْطَى مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ قِيمَتَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي حَلَبَ هَذَا اللَّبَنَ مُسْتَحِقًّا لِلصَّدَقَةِ لَمَا حَرُمَ عَلَى عُمَرَ قَصْدُ شُرْبِهِ كَمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْلُ اللَّحْمِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَقَالَ:«هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» . وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ بِالشُّرْبِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي قَذْفِهِ إِلَّا الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَرَعِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5](سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 5) وَسَأَلَ ابْنُ مُزَيْنٍ عِيسَى بْنَ دِينَارٍ: أَيَفْعَلُ ذَلِكَ رَجُلٌ أَصَابَهُ مِثْلَ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ مَا أَحْسَنَ ذَلِكَ. (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ (أَنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمُسْلِمُونَ أَخْذَهَا) مِنْهُ (كَانَ حَقًّا) وَاجِبًا (عَلَيْهِمْ جِهَادُهُ حَتَّى يَأْخُذُوهَا مِنْهُ) بِقِتَالِهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ قِتَالُ الصِّدِّيقِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ مُقِرًّا بِهَا فَمُسْلِمٌ، وَإِنْ جَحَدَهَا فَكَافِرٌ إِجْمَاعًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَيْهِ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلًا مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ دَعْهُ وَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ زَكَاةً مَعَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَأَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ زَكَاةَ مَالِهِ فَكَتَبَ عَامِلُ عُمَرَ إِلَيْهِ يَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خُذْهَا مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
606 -
606 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَامِلًا) لَمْ يُسَمَّ (لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَتَبَ إِلَيْهِ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلًا مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ دَعْهُ) اتْرُكْهُ (وَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ زَكَاةً مَعَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَاشْتَدَّ) قَوِيَ وَعَظُمَ (عَلَيْهِ) ذَلِكَ (فَأَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ زَكَاةَ مَالِهِ، فَكَتَبَ عَامِلُ عُمَرَ إِلَيْهِ يَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خُذْهَا مِنْهُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ مِنَ الرَّجُلِ مَنْعَهَا مِنَ الْعَامِلِ دُونَ مَنْعِهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، وَتَفَرَّسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ الدَّافِعِينَ لَهَا إِلَى الْإِمَامِ فَكَانَ كَمَا ظَنَّ، وَلَوْ صَحَّ عِنْدَهُ مَنْعُهُ لِلزَّكَاةِ مَا جَازَ لَهُ تَرْكُهَا عِنْدَهُ ; لِأَنَّهَا حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ لَهُمْ بِهِ، وَهَذَا فِيمَنْ مَنَعَهَا مُقِرًّا بِهَا، أَمَّا جَاحِدًا فَرِدَّةٌ إِجْمَاعًا، قَالَ: وَالْوَاجِبُ أَنْ يَعِظَ الْإِمَامُ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَيُوَبِّخَهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْمَنْعِ أَخَذَهَا مِنْهُ جَبْرًا.
[بَاب زَكَاةِ مَا يُخْرَصُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
19 -
بَابُ زَكَاةِ مَا يُخْرَصُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ
الْخِرْصُ بِالْكَسْرِ: حَزْرُ قَدْرِ الثِّمَارِ.
609 -
607 - (مَالِكٌ، عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) الْهِلَالِيِّ الْمَدَنِيِّ التَّابِعِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَوَفَّى بَعْدَ الْمِائَةِ وَقِيلَ قَبْلَهَا. (وَعَنْ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ (بْنِ سَعِيدٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمَدَنِيِّ الْعَابِدِ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، ثِقَةٌ، حَافَظٌ. وَهَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ) أَيِ الْمَطَرُ، مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ (وَالْعُيُونُ) الْجَارِيَةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يُتَكَلَّفُ فِي رَفْعِ مَائِهَا لِآلَةٍ وَلَا لِحَمْلٍ وَهُوَ السَّيْحُ (وَالْبَعْلُ) بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ
وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ مِنَ الْأَرْضِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى سَقْيِ سَمَاءٍ وَلَا آلَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: أَوْ كَانَ عَثْرِيًّا، بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ الْخَفِيفَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ. فَقَدْ فَسَّرَهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّهُ الَّذِي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ. (الْعُشْرُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ "، أَيِ الْعُشْرُ وَاجِبٌ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ (وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، أَيْ بِالسَّانِيَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ (نِصْفُ الْعُشْرِ) لِثَقَلِ الْمُؤْنَةِ وَخِفَّتِهَا فِي الْأَوَّلِ، وَالنَّاضِحُ: الْإِبِلُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا لَكِنَّهَا كَالْمِثَالِ وَإِلَّا فَالْبَقَرُ وَغَيْرُهَا كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، وَلِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّضْحِ الرَّشَّ أَوِ الصَّبَّ بِمَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ بِآلَةٍ، وَهَذَا إِنْ سَقَى بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ سَقَى بِهِمَا وَتَسَاوَى فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ فَالْأَقَلُّ تَبَعٌ لَهُ، وَعُمُومُ الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ شَرْطِ النِّصَابِ فِي إِيجَابِ زَكَاةِ كُلِّ مَا يُسْقَى بِمُؤْنَةٍ وَبِغَيْرِ مُؤْنَةٍ، لَكِنْ خَصَّهُ الْجُمْهُورُ بِالْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نَصِفُهُ، بِخِلَافِ حَدِيثِ:" «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» ". فَإِنَّهُ مُسَاقٌ لِبَيَانِ جِنْسِ الْمُخْرَجِ مِنْهُ وَقَدْرِهِ، فَأَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ عَمَلًا بِالدَّلِيلِ، وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِعُمُومِهِ، وَرَدَّهُ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ الْمُفَسِّرَ يَقْضِي عَلَى الْمُبْهَمِ أَيِ الْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ ; لِأَنَّ فِيمَا سَقَتْ عَامٌّ يَشْمَلُ النِّصَابَ وَدُونَهُ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ خَاصٌّ بِقَدْرِ النِّصَابِ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْبَيَانُ وَفْقَ الْمُبَيَّنِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ وَلَا نَاقِصًا عَنْهُ، أَمَّا إِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ مَثَلًا فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى النِّصَابِ فِيمَا يَقْبَلُ التَّوْسِيقَ وَسَكَتَ عَمَّا لَا يَقْبَلُهُ، فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ:«فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» . أَيْ فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّوْسِيقُ فِيهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ كَذَا قَالَ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ هَذَا الْجَوَابُ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا نَقَصَ عَنِ الْخَمْسَةِ مِمَّا يُوسَقُ لَا زَكَاةَ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ بِزَكَاتِهِ وَلَوْ وَسْقًا فَأَقَلَّ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا:" «لَا زَكَاةَ فِي الْخُضْرَاوَاتِ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مُرْسَلٌ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يُكَالُ مِمَّا يُدَّخَرُ لِلِاقْتِيَاتِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: تَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَتْ، وَقَالَهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَقْوَى الْمَذَاهِبِ وَأَحْوَطُهَا لِلْمَسَاكِينِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ، قَالَ: وَزَعَمَ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ لِتَفْصِيلِ مَا تَقِلُّ مُؤْنَتُهُ مِمَّا تَكْثُرُ مُؤْنَتُهُ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْوَجْهَيْنِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يُؤْخَذُ فِي صَدَقَةِ النَّخْلِ الْجُعْرُورُ وَلَا مُصْرَانُ الْفَارَةِ وَلَا عَذْقُ ابْنِ حُبَيْقٍ قَالَ وَهُوَ يُعَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الصَّدَقَةِ قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ الْغَنَمُ تُعَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا بِسِخَالِهَا وَالسَّخْلُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الصَّدَقَةِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ ثِمَارٌ لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْهَا مِنْ ذَلِكَ الْبُرْدِيُّ وَمَا أَشْبَهَهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ أَدْنَاهُ كَمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ خِيَارِهِ قَالَ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَوْسَاطِ الْمَالِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُخْرَصُ مِنْ الثِّمَارِ إِلَّا النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْرَصُ حِينَ يَبْدُو صَلَاحُهُ وَيَحِلُّ بَيْعُهُ وَذَلِكَ أَنَّ ثَمَرَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ يُؤْكَلُ رُطَبًا وَعِنَبًا فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى النَّاسِ وَلِئَلَّا يَكُونَ عَلَى أَحَدٍ فِي ذَلِكَ ضِيقٌ فَيُخْرَصُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ يَأْكُلُونَهُ كَيْفَ شَاءُوا ثُمَّ يُؤَدُّونَ مِنْهُ الزَّكَاةَ عَلَى مَا خُرِصَ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا مَا لَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ بَعْدَ حَصَادِهِ مِنْ الْحُبُوبِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ لَا يُخْرَصُ وَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهَا فِيهَا إِذَا حَصَدُوهَا وَدَقُّوهَا وَطَيَّبُوهَا وَخَلُصَتْ حَبًّا فَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهَا فِيهَا الْأَمَانَةُ يُؤَدُّونَ زَكَاتَهَا إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهَذَا الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ النَّخْلَ يُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهَا وَثَمَرُهَا فِي رُءُوسِهَا إِذَا طَابَ وَحَلَّ بَيْعُهُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ صَدَقَتُهُ تَمْرًا عِنْدَ الْجِدَادِ فَإِنْ أَصَابَتْ الثَّمَرَةَ جَائِحَةٌ بَعْدَ أَنْ تُخْرَصَ عَلَى أَهْلِهَا وَقَبْلَ أَنْ تُجَذَّ فَأَحَاطَتْ الْجَائِحَةُ بِالثَّمَرِ كُلِّهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الثَّمَرِ شَيْءٌ يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخِذَ مِنْهُمْ زَكَاتُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَصَابَتْ الْجَائِحَةُ زَكَاةٌ وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الْكَرْمِ أَيْضًا وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ قِطَعُ أَمْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٌ أَوْ اشْتِرَاكٌ فِي أَمْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يَبْلُغُ مَالُ كُلِّ شَرِيكٍ أَوْ قِطَعُهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَكَانَتْ إِذَا جُمِعَ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ يَبْلُغُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يَجْمَعُهَا وَيُؤَدِّي زَكَاتَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
609 -
608 - (مَالِكٌ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدِ) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ، نَزِيلِ مَكَّةَ ثُمَّ الْيَمَنِ، ثِقَةٌ، ثَبْتٌ، مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ أَثْبَتَ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: ثِقَةٌ، سَكَنَ مَكَّةَ وَقَدِمَ عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ، وَلَهُ هَيْبَةٌ وَصَلَاحٌ، لَهُ مَرْفُوعًا فِي الْمُوَطَّأِ حَدِيثَانِ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ، وَهَذَا أَيْضًا ثَالِثٌ أَصْلُهُ الرَّفْعُ، وَلِذَا سَاقَهُ فِي التَّمْهِيدِ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) شَيْخِ الْإِمَامِ، رَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ (أَنَّهُ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ فِي صَدَقَةِ النَّخْلِ الْجُعْرُورُ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ، بِزِنَةِ عُصْفُورٍ، نَوْعٌ رَدِيءٌ مِنَ التَّمْرِ إِذَا جَفَّ صَارَ حَشَفًا (وَلَا مُصْرَانُ الْفَارَةِ) ضَرْبٌ مِنْ رَدِيءِ التَّمْرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَلَى النَّوَى قِشْرَةٌ رَفِيعَةٌ، جَمْعُ مَصِيرٍ كَرَغِيفٍ وَرُغْفَانٍ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ مُصَارِينَ (وَلَا عَذْقُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، جِنْسٌ مِنَ النَّخْلِ، أَمَّا بِكَسْرِهَا فَالْقِنْوُ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ النَّخْلَةُ وَبِالْكَسْرِ الْكِبَاسَةُ أَيِ الْقِنْوُ، كَأَنَّ التَّمْرَ سُمِّيَ بِاسْمِ النَّخْلَةِ لِأَنَّهُ مِنْهَا، انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ فِي فَصْلِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ يَلِيهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ مِنْ بَابِ الْقَافِ: الْعَذْقُ النَّخْلَةُ يَحْمِلُهَا وَبِالْكَسْرِ الْقِنْوُ مِنْهَا (ابْنِ حُبَيْقٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ، مُصَغَّرٌ، سُمِّيَ بِهِ الدَّقَلُ مِنَ التَّمْرِ لِرَدَاءَتِهِ. وَهَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الْيَحْصِبِيِّ، الثَّلَاثَةُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:" «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجُعْرُورِ وَلَوْنِ الْحُبَيْقِ أَنْ يُؤْخَذَا فِي الصَّدَقَةِ» ". زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: وَفِيهِ نَزَلَتْ: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 267) قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ الدَّنِيءُ فِي الصَّدَقَةِ عَنِ الْجَيِّدِ. (قَالَ) ابْنُ شِهَابٍ (وَهُوَ يُعَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الصَّدَقَةِ، قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ الْغَنَمِ تُعَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا بِسِخَالِهَا، وَالسَّخْلُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الصَّدَقَةِ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلُّهُ رَدِيئًا فَعَلَى رَبِّهِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَسَطَ مِنَ التَّمْرِ. وَرَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: يُؤَدَّى مِنْهُ وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَاشِيَةِ ; لِأَنَّهُ مَالٌ يُزَكَّى بِالْجُزْءِ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ تُخْرَجَ زَكَاتُهُ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاشِيَةِ أَنَّ الزَّكَاةَ تُجْلَبُ إِلَى مَنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ وَتُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمَاشِيَةُ لَا مُؤْنَةَ فِي حَمْلِ الْوَسَطِ مِنْهَا، فَلَوْ أُجِيرَ فِيهَا
الْمَرِيضُ وَالْأَعْرَجُ لَمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ.
(وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ ثِمَارٌ لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْهَا مِنْ ذَلِكَ الْبُرْدِيُّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَدَالٍ مُهْمَلَتَيْنِ وَيَاءٍ، مِنْ أَجْوَدِ التَّمْرِ (وَمَا أَشْبَهَهُ) فِي الْجَوْدَةِ (لَا يُؤْخَذُ مِنْ أَدْنَاهُ كَمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ خِيَارِهِ) أَعْلَاهُ (وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَوْسَاطِ الْمَالِ) رِفْقًا بِالْمَالِكِ وَالْمِسْكِينِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ جَيِّدًا كُلَّهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْوَسَطَ إِنْ شَاءَ، وَاخْتَارَهُ سَحْنُونٌ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: يُؤْخَذُ مِنَ الْجَيِّدِ، وَمَبْنَى الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ، قَالَهُ كُلَّهُ الْبَاجِيُّ. (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُخْرَصُ مِنَ الثِّمَارِ إِلَّا النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْرَصُ حِينَ يَبْدُو صَلَاحُهُ وَيَحِلُّ بَيْعُهُ) لِحَدِيثِ عَتَّابٍ: " «أَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ» ". فَلَا تَخْرِيصَ فِي غَيْرِهِمَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ مَالِكٍ: يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ قِيَاسًا عَلَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ: لَا يُخْرَصُ شَيْءٌ، وَإِنَّ حَدِيثَ: كَانَ يَبْعَثُ ابْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا لِلتَّخْرِيصِ، مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَذَلِكَ شُذُوذٌ مِنْهُمَا، وَشَذَّ دَاوُدُ فَقَالَ: لَا يُخْرَصُ إِلَّا النَّخْلُ خَاصَّةً. (وَذَلِكَ أَنَّ ثَمَرَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَعِنَبًا) وَتُبَاعُ وَتُعْطَى، فَإِنْ أُبِيحَ ذَلِكَ بِلَا خَرْصٍ ضَرَّ بِالْمَسَاكِينِ، وَإِنْ مُنِعَ أَرْبَابُهُ مِنْ ذَلِكَ ضَرَّ بِهِمْ. (فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى النَّاسِ) أَيْ أَهْلِهِ وَالْمَسَاكِينِ (وَلِئَلَّا يَكُونَ عَلَى أَحَدٍ) مِنْهَا (فِي ذَلِكَ ضِيقٌ فَيُخْرَصُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ يَأْكُلُونَهُ) يَنْتَفِعُونَ بِهِ أَكْلًا أَوْ بَيْعًا أَوْ إِعْطَاءً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:(كَيْفَ شَاءُوا، ثُمَّ يُؤَدُّونَ مِنْهُ الزَّكَاةَ عَلَى مَا خُرِصَ عَلَيْهِمْ) وَمَبْنَى التَّخْرِيصِ أَنْ يَحْزِرَ مَا فِي النَّخْلِ أَوِ الْعِنَبِ مِنَ التَّمْرِ الْيَابِسِ إِذَا جُذَّ عَلَى حَسَبِ جِنْسِهِ، وَمَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِثْمَارِ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ تَمْرًا، فَإِنْ لَمْ يَتَتَمَّرْ أَوْ يَتَزَبَّبْ كَبَلَحِ مِصْرَ وَعِنَبِهَا خَرَصِهَا عَلَى تَقْدِيرِ التَّتَمُّرِ وَالتَّزَبُّبِ. (قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا مَا لَا يُؤْكَلُ رَطْبًا مِنَ الْفَوَاكِهِ، إِنَّمَا يُؤْكَلُ بَعْدَ حَصَادِهِ مِنَ الْحُبُوبِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ
لَا يُخْرَصُ) اتِّفَاقًا ; لِأَنَّ الْخَرْصَ إِنَّمَا هُوَ لِحَاجَةِ انْتِفَاعِ أَهْلِهَا بِهَا رَطْبًا، وَلِأَنَّ تَمْرَ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ بَارِزٌ عَنْ أَكْمَامِهِ فَيُمْكِنُ خَرْصُهُ، وَهَذِهِ حُبُوبُهَا مُتَوَارِيَةٌ فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا الْخَرْصُ. (وَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهَا فِيهَا إِذَا حَصَدُوهَا وَدَقُّوهَا وَطَيَّبُوهَا وَخَلُصَتْ حَبًّا، فَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهَا فِيهَا الْأَمَانَةُ يُؤَدُّونَ زَكَاتَهَا إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهَذَا الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوِ اتُّهِمُوا، وَقَالَ اللَّيْثُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إِنِ اتُّهِمُوا نَصَّبَ السُّلْطَانُ أَمِينًا (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ النَّخْلَ يُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهَا وَثَمَرُهَا فِي رُؤُوسِهَا إِذَا طَابَ وَحَلَّ بَيْعُهُ) لَا قَبْلَ ذَلِكَ (وَتُؤْخَذُ مِنْهُ صَدَقَتُهُ تَمْرًا عِنْدَ الْجِدَادِ) لَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي عَيْنِ الثَّمَرَةِ (فَإِنْ أَصَابَتِ الثَّمَرَةَ جَائِحَةٌ بَعْدَ أَنْ تُخْرَصَ عَلَى أَهْلِهَا وَقَبْلَ أَنْ تُجَذَّ) تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا (فَأَحَاطَتِ الْجَائِحَةُ بِالثَّمَرِ كُلِّهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ) لِوُجُوبِهَا فِي عَيْنِهَا وَقَدْ زَالَتْ. (فَإِنْ بَقِيَ مِنْ شَيْءٍ يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا) وَذَلِكَ سِتُّونَ صَاعًا (بِصَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخِذَ مِنْهُمْ زَكَاتُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَصَابَتِ الْجَائِحَةُ زَكَاةٌ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الْكَرْمِ أَيْضًا) أَيْ مِثْلُ الْعَمَلِ فِي النَّخْلِ (وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ قِطَعُ أَمْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٌ أَوِ اشْتِرَاكٌ فِي أَمْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يَبْلُغُ مَالُ كُلِّ شَرِيكٍ أَوْ قِطَعُهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَكَانَتْ إِذَا جُمِعَ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ يَبْلُغُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنَّهُ يَجْمَعُهَا وَيُؤَدِّي زَكَاتَهَا) فَيُزَكِّي ذُو الْقِطَعِ الْمُجْتَمَعِ لَهُ مِنْهَا نِصَابٌ كَالْمَاشِيَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَكَذَا الِاشْتِرَاكُ إِنَّمَا يُرَاعَى كُلُّ مَالِهِ خَاصَّةً دُونَ مَالِ شَرِيكِهِ.
[بَاب زَكَاةِ الْحُبُوبِ وَالزَّيْتُونِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الزَّيْتُونِ فَقَالَ فِيهِ الْعُشْرُ قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الزَّيْتُونِ الْعُشْرُ بَعْدَ أَنْ يُعْصَرَ وَيَبْلُغَ زَيْتُونُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَمَا لَمْ يَبْلُغْ زَيْتُونُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَالزَّيْتُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّخِيلِ مَا كَانَ مِنْهُ سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا كَانَ يُسْقَى بِالنَّضْحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ وَلَا يُخْرَصُ شَيْءٌ مِنْ الزَّيْتُونِ فِي شَجَرِهِ وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا فِي الْحُبُوبِ الَّتِي يَدَّخِرُهَا النَّاسُ وَيَأْكُلُونَهَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِمَّا سَقَتْهُ السَّمَاءُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا سَقَتْهُ الْعُيُونُ وَمَا كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ بِالصَّاعِ الْأَوَّلِ صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ بِحِسَابِ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالْحُبُوبُ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالذُّرَةُ وَالدُّخْنُ وَالْأُرْزُ وَالْعَدَسُ وَالْجُلْبَانُ وَاللُّوبِيَا وَالْجُلْجُلَانُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْحُبُوبِ الَّتِي تَصِيرُ طَعَامًا فَالزَّكَاةُ تُؤْخَذُ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ تُحْصَدَ وَتَصِيرَ حَبًّا قَالَ وَالنَّاسُ مُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ مَا دَفَعُوا وَسُئِلَ مَالِكٌ مَتَى يُخْرَجُ مِنْ الزَّيْتُونِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ أَقَبْلَ النَّفَقَةِ أَمْ بَعْدَهَا فَقَالَ لَا يُنْظَرُ إِلَى النَّفَقَةِ وَلَكِنْ يُسْأَلُ عَنْهُ أَهْلُهُ كَمَا يُسْأَلُ أَهْلُ الطَّعَامِ عَنْ الطَّعَامِ وَيُصَدَّقُونَ بِمَا قَالُوا فَمَنْ رُفِعَ مِنْ زَيْتُونِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا أُخِذَ مِنْ زَيْتِهِ الْعُشْرُ بَعْدَ أَنْ يُعْصَرَ وَمَنْ لَمْ يُرْفَعْ مِنْ زَيْتُونِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِي زَيْتِهِ الزَّكَاةُ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ بَاعَ زَرْعَهُ وَقَدْ صَلَحَ وَيَبِسَ فِي أَكْمَامِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي اشْتَرَاهُ زَكَاةٌ وَلَا يَصْلُحُ بَيْعُ الزَّرْعِ حَتَّى يَيْبَسَ فِي أَكْمَامِهِ وَيَسْتَغْنِيَ عَنْ الْمَاءِ قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] أَنَّ ذَلِكَ الزَّكَاةُ وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ بَاعَ أَصْلَ حَائِطِهِ أَوْ أَرْضَهُ وَفِي ذَلِكَ زَرْعٌ أَوْ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَزَكَاةُ ذَلِكَ عَلَى الْمُبْتَاعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَابَ وَحَلَّ بَيْعُهُ فَزَكَاةُ ذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُبْتَاعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
20 -
بَابُ زَكَاةِ الْحُبُوبِ وَالزَّيْتُونِ
610 -
609 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الزَّيْتُونِ، فَقَالَ: فِيهِ الْعُشْرُ) لِأَنَّهُ يُوسَقُ، فَدَخَلَ فِي الْحَدِيثِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالثَّانِي كَابْنِ وَهْبٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَا زَكَاةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ إِدَامٌ لَا قُوتٌ (قَالَهُ مَالِكٌ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنَ الزَّيْتُونِ الْعُشْرُ بَعْدَ أَنْ يُعْصَرَ وَيَبْلُغَ زَيْتُونُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ) فَيُؤْخَذُ عُشْرُ أَوْ نِصْفُ عُشْرِ زَيْتِهِ وَلَوْ قَلَّ كَرِطْلٍ (فَمَا لَمْ يَبْلُغْ زَيْتُونُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ) عَمَلًا بِالْحَدِيثِ، فَإِنْ بَلَغَهَا وَكَانَ لَا زَيْتَ فِيهِ أُخِذَ مِنْ ثَمَنِهِ لَا مِنْ حَبِّهِ، قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا. (وَالزَّيْتُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّخِيلِ مَا كَانَ مِنْهُ سَقَتْهُ السَّمَاءُ) الْمَطَرُ (وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا كَانَ يُسْقَى بِالنَّضْحِ) الرَّشِّ وَالصَّبِّ بِمَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ بِآلَةٍ (فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ) وَهَذَا بَيَانُ مَا أَجْمَلَهُ ابْنُ شِهَابٍ بِقَوْلِهِ فِيهِ الْعُشْرُ. (وَلَا يُخْرَصُ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْتُونِ فِي شَجَرِهِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدِ التَّخْرِيصُ إِلَّا فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ (وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا فِي الْحُبُوبِ الَّتِي يَدَّخِرُهَا النَّاسُ وَيَأْكُلُونَهَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِمَّا سَقَتْهُ السَّمَاءُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا سَقَتْهُ الْعُيُونُ، وَمَا كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ) الْآلَةِ (نِصْفُ الْعُشْرِ) وَشَرْطُ ذَلِكَ فِيهِمَا (إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ) وَذَلِكَ سِتُّونَ صَاعًا (بِالصَّاعِ الْأَوَّلِ، صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (وَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ بِحِسَابِ ذَلِكَ) وَلَوْ قَلَّ فَلَا وَقَصَ فِي الْحُبُوبِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَالْحُبُوبُ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ الْحِنْطَةُ) الْقَمْحُ (وَالشَّعِيرُ) بِفَتْحِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ، (وَالسُّلْتُ) ضَرْبٌ مِنَ الشَّعِيرِ لَا قِشْرَ لَهُ يَكُونُ فِي الْغَوْرِ وَالْحِجَازِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: ضَرْبٌ مِنْهُ رَقِيقُ الْقِشْرِ، صَغِيرُ الْحَبِّ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: حَبٌّ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَلَا قِشْرَ لَهُ، كَقِشْرِ الشَّعِيرِ فَهُوَ كَالْحِنْطَةِ فِي مَلَاسَتِهِ، وَكَالشَّعِيرِ فِي طَبْعِهِ وَبُرُودَتِهِ. (وَالذُّرَةُ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ حَبٌّ مَعْرُوفٌ.
(وَالدُّخْنُ) بِمُهْمَلَةٍ فَمُعْجَمَةٍ حَبٌّ مَعْرُوفٌ وَاحِدَتُهُ دُخْنَةٌ.
(وَالْأُرْزُ) بِزِنَةِ قُفْلٍ، وَهُوَ لُغَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ لِلْإِتِبَاعِ، وَأُخْرَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَشَدِّ الزَّايِ، وَالرَّابِعَةُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ مَعَ التَّشْدِيدِ، وَالْخَامِسَةُ رُزٌّ بِلَا هَمْزَةٍ وِزَانُ قُفْلٍ.
(وَالْعَدَسُ) بِفَتْحَتَيْنِ، (وَالْجُلْبَانُ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا مُشَدَّدَةً، حَبٌّ مِنَ الْقَطَانِيِّ، (وَاللُّوبِيَا) نَبَاتٌ مَعْرُوفٌ مُذَكَّرٌ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، (وَالْجُلْجُلَانُ) بِجِيمَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ، بَعْدَ كُلِّ جِيمٍ لَامٌ، السِّمْسِمُ فِي قِشْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْصَدَ، قَالَ الْبَاجِيُّ: فَذَكَرَ عَشَرَةً، وَزَادَ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ التُّرْمُسَ وَالْفُولَ وَالْحِمَّصَ وَالْبَسِيلَةَ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْعَلَسَ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ:(وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْحُبُوبِ الَّتِي تَصِيرُ طَعَامًا) فَلَا زَكَاةَ فِي الْكِرْسِنَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهَا عَلَفٌ لَا طَعَامٌ، خِلَافًا لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِيهَا الزَّكَاةُ وَأَنَّهَا قُطْنِيَّةٌ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: صِنْفٌ عَلَى حِدَةٍ (فَالزَّكَاةُ تُؤْخَذُ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ تُحْصَدَ وَتَصِيرَ حَبًّا، قَالَ: وَالنَّاسُ مُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ) مُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ فِي مَبْلَغِ كَيْلِهِ وَفِيمَا خَرَجَ مِنْ زَيْتِهِ، (وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ مَا دَفَعُوا) بِالدَّالِ، أَيِ: الَّذِي دَفَعُوهُ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ مَتَى يُخْرَجُ مِنَ الزَّيْتُونِ الْعُشْرُ) أَوْ نِصْفُهُ (أَقَبْلَ النَّفَقَةِ أَمْ بَعْدَهَا؟ فَقَالَ: لَا يُنْظَرُ إِلَى النَّفَقَةِ وَلَكِنْ يُسْأَلُ عَنْهُ أَهْلُهُ كَمَا يُسْأَلُ أَهْلُ الطَّعَامِ) كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ (عَنِ الطَّعَامِ وَيُصَدَّقُونَ بِمَا قَالُوا) أَيْ: فِيهِ (فَمَنْ رُفِعَ مِنْ زَيْتُونِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا أُخِذَ مِنْ زَيْتِهِ الْعُشْرُ) أَوْ نِصْفُهُ (بَعْدَ أَنْ يُعْصَرَ، وَمَنْ لَمْ يُرْفَعْ مِنْ زَيْتُونِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِي زَيْتِهِ الزَّكَاةُ) لِنَقْصِ
النِّصَابِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ بَاعَ زَرْعَهُ وَقَدْ صَلَحَ وَيَبِسَ فِي أَكْمَامِهِ، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي اشْتَرَاهُ زَكَاةٌ) لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِطِيبِ الثَّمَرَةِ، فَإِذَا بَاعَهَا وَقَدْ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا فَقَدْ بَاعَ حِصَّتَهُ وَحِصَّةَ الْمَسَاكِينِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ ضَمِنَ ذَلِكَ لَهُمْ (وَلَا يَصْلُحُ بَيْعُ الزَّرْعِ حَتَّى يَيْبَسَ فِي أَكْمَامِهِ) جَمْعُ كِمٍّ - بِكَسْرِ الْكَافِ - وِعَاءُ الطَّلْعِ وَغِطَاءُ النَّوْرِ، (وَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْمَاءِ) حَتَّى لَوْ سُقِيَ لَمْ يَنْفَعْهُ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ فِي سُنْبُلِهِ قَائِمًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ لِحَدِيثِ:" «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» "، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُدْرَسَ وَيُصَفَّى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَرَرِ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ (أَنَّ ذَلِكَ الزَّكَاةُ) مِنَ الْعُشْرِ أَوْ نِصْفِهِ، (قَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ) وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَطَائِفَةٌ: هُوَ مَا يُعْطَى لِلْمَسَاكِينِ عِنْدَ الْحَصَادِ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ بَاعَ أَصْلَ حَائِطِهِ) بُسْتَانِهِ، (أَوْ أَرْضِهِ وَفِي ذَلِكَ زَرْعٌ أَوْ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَزَكَاةُ ذَلِكَ عَلَى الْمُبْتَاعِ) الْمُشْتَرِي، (وَإِنْ كَانَ قَدْ طَابَ وَحَلَّ بَيْعُهُ فَزَكَاةُ ذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُبْتَاعِ) الْمُشْتَرِي.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ يَحْيَى فِيمَنْ أَهْلَكَ وَخَلَّفَ زَرْعًا فَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ: إِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ يَبِسَ فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ يَوْمَ مَاتَ أَخْضَرَ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ عَلَيْهِمْ إِنْ كَانَ فِي حِصَّةِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ.
[بَاب مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنْ الثِّمَارِ]
قَالَ مَالِكٌ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ مَا يَجُدُّ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ وَمَا يَقْطُفُ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مِنْ الزَّبِيبِ وَمَا يَحْصُدُ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَمَا يَحْصُدُ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مِنْ الْقِطْنِيَّةِ إِنَّهُ لَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ وَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ زَكَاةٌ حَتَّى يَكُونَ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْ التَّمْرِ أَوْ فِي الزَّبِيبِ أَوْ فِي الْحِنْطَةِ أَوْ فِي الْقِطْنِيَّةِ مَا يَبْلُغُ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ بِصَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ مَا يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَجُذَّ الرَّجُلُ مِنْ التَّمْرِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُ وَأَلْوَانُهُ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ الزَّكَاةُ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ كُلُّهَا السَّمْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ كُلُّ ذَلِكَ صِنْفٌ وَاحِدٌ فَإِذَا حَصَدَ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ جُمِعَ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ كُلُّهُ أَسْوَدُهُ وَأَحْمَرُهُ فَإِذَا قَطَفَ الرَّجُلُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْقِطْنِيَّةُ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ مِثْلُ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا وَأَلْوَانُهَا وَالْقِطْنِيَّةُ الْحِمَّصُ وَالْعَدَسُ وَاللُّوبِيَا وَالْجُلْبَانُ وَكُلُّ مَا ثَبَتَ مَعْرِفَتُهُ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ قُطْنِيَّةٌ فَإِذَا حَصَدَ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ بِالصَّاعِ الْأَوَّلِ صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْنَافِ الْقِطْنِيَّةِ كُلِّهَا لَيْسَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْقِطْنِيَّةِ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ ذَلِكَ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ فَرَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ الْقِطْنِيَّةِ وَالْحِنْطَةِ فِيمَا أُخِذَ مِنْ النَّبَطِ وَرَأَى أَنَّ الْقِطْنِيَّةَ كُلَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ فَأَخَذَ مِنْهَا الْعُشْرَ وَأَخَذَ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ نِصْفَ الْعُشْرِ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يُجْمَعُ الْقِطْنِيَّةُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ حَتَّى تَكُونَ صَدَقَتُهَا وَاحِدَةً وَالرَّجُلُ يَأْخُذُ مِنْهَا اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ قِيلَ لَهُ فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ يُجْمَعَانِ فِي الصَّدَقَةِ وَقَدْ يُؤْخَذُ بِالدِّينَارِ أَضْعَافُهُ فِي الْعَدَدِ مِنْ الْوَرِقِ يَدًا بِيَدٍ قَالَ مَالِكٌ فِي النَّخِيلِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَجُذَّانِ مِنْهَا ثَمَانِيَةَ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ إِنَّهُ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمَا فِيهَا وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْهَا مَا يَجُذُّ مِنْهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَلِلْآخَرِ مَا يَجُذُّ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَانَتْ الصَّدَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي جَذَّ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا صَدَقَةٌ وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ فِي كُلِّ زَرْعٍ مِنْ الْحُبُوبِ كُلِّهَا يُحْصَدُ أَوْ النَّخْلُ يُجَدُّ أَوْ الْكَرْمُ يُقْطَفُ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَجُدُّ مِنْ التَّمْرِ أَوْ يَقْطِفُ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَوْ يَحْصُدُ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَنْ كَانَ حَقُّهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى مَنْ بَلَغَ جُدَادُهُ أَوْ قِطَافُهُ أَوْ حَصَادُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ قَالَ مَالِكٌ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْحُبُوبِ كُلِّهَا ثُمَّ أَمْسَكَهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ أَنْ أَدَّى صَدَقَتَهُ سِنِينَ ثُمَّ بَاعَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَى ثَمَنِهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ بَاعَهُ إِذَا كَانَ أَصْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ مِنْ فَائِدَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ وَالْعُرُوضِ يُفِيدُهَا الرَّجُلُ ثُمَّ يُمْسِكُهَا سِنِينَ ثُمَّ يَبِيعُهَا بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهَا زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ بَاعَهَا فَإِنْ كَانَ أَصْلُ تِلْكَ الْعُرُوضِ لِلتِّجَارَةِ فَعَلَى صَاحِبِهَا فِيهَا الزَّكَاةُ حِينَ يَبِيعُهَا إِذَا كَانَ قَدْ حَبَسَهَا سَنَةً مِنْ يَوْمَ زَكَّى الْمَالَ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
21 -
بَابُ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنَ الثِّمَارِ
(قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ مَا يَجُدُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَدَالٍّ مُهْمَلَةٍ وَمُعْجَمَةٍ يَصْرِمُ وَيَقْطَعُ،
(مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ فِي بَابِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: الْجَذُّ الْإِسْرَاعُ، وَالْقَطْعُ الْمُسْتَأْصَلُ. وَقَالَ فِي الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَعَانٍ، وَالْقِطَعُ وَصِرَامُ النَّخْلِ كَالْجِدَادِ، انْتَهَى.
وَالصِّرَامُ قَطْعُ الثَّمَرَةِ، قَالَ تَعَالَى:{لَيَصْرِمُنَّهَا} [القلم: 17](سُورَةُ الْقَلَمِ: الْآيَةُ 17) أَيْ:: يَقْطَعُونَ ثَمَرَهَا (وَمَا يَقْطُفُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَضَمِّهَا؛ يَقْطَعُ (مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مِنَ الزَّبِيبِ، وَمَا يَحْصُدُ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا (مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مِنَ الْحِنْطَةِ وَمَا يَحْصُدُ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مِنَ الْقِطْنِيَّةِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا لُغَةً، (أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ) لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، (وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ زَكَاةٌ حَتَّى تَكُونَ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّمْرِ) بِفَوْقِيَّةٍ، (أَوْ فِي الزَّبِيبِ أَوْ فِي الْحِنْطَةِ أَوْ فِي الْقِطْنِيَّةِ مَا يَبْلُغُ النِّصْفُ الْوَاحِدُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ) سِتِّينَ صَاعًا (بِصَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَنَافِعِ، مُتَبَايِنَةُ الْأَغْرَاضِ، فَلَا يُضَافُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ لِيَكْمُلَ النِّصَابُ (كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» ) وَمَنْ عِنْدَهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ لَيْسَ عِنْدَهُ خَمْسَةٌ مِنْ تَمْرٍ (وَإِنْ كَانَ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ) عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا (مَا يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَجُذَّ) يَقْطَعَ (الرَّجُلُ مِنَ التَّمْرِ) لِلنَّخْلِ (خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُ) كَبَرْنِيٍّ وَصَيْحَانِيٍّ، (وَأَلْوَانُهُ) أَجْنَاسُهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ النَّخْلَ كُلَّهُ الْأَلْوَانَ مَا خَلَا الْبَرْنِيَّ وَالْعَجْوَةَ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْأَلْوَانُ الدَّقَلُ (فَإِنَّهُ يُجْمَعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ الزَّكَاةُ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ) أَيْ: خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهَا (فَلَا زَكَاةَ فِيهِ) لِنَقْصِ النِّصَابِ.
(وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ كُلُّهَا السَّمْرَاءُ) تَأْنِيثُ أَسْمَرَ سُمِّيَتْ بِهِ لِسُمْرَتِهَا، (وَالْبَيْضَاءُ) تَأْنِيثُ الْأَبْيَضِ لِبَيَاضِهَا.
(وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ
كُلُّ ذَلِكَ صِنْفٌ وَاحِدٌ) لِتَقَارُبِ مَنَافِعِهَا. (فَإِذَا حَصَدَ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ جُمِعَ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ) وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُضَمُّ كُلُّ حَبَّةٍ - عُرِفَتْ بَاسِمٍ مُنْفَرِدٍ دُونَ صَاحِبَتِهَا وَهِيَ خِلَافُهَا فِي الْخِلْقَةِ وَالطَّعْمِ - إِلَى غَيْرِهَا.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَا يَتَّجِهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِلَافٌ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاعِي النِّصَابَ فِي الْحُبُوبِ فَهُوَ يُزَكِّي الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْهَا، قَالَ: وَرَأَى مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَنَافِعِ؛ مِثْلَ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبُخْتِ وَالْعِرَابِ، فَمَنَافِعُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ مُتَقَارِبَةٌ، وَلَا يَنْفَكُّ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فِي الْمَنْبَتِ وَالْمَحْصَدِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِتَشَابُهِ الْحِنْطَةِ وَالسُّلْتِ فِي الصُّورَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَهُمَا أَقْرَبُ تَشَابُهًا مِنَ الْحِنْطَةِ وَالْعَلَسِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَنَا الْمُخَالِفُ الْعَلَسَ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ السُّلْتِ، وَيَلْحَقُ بِهِ الشَّعِيرُ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: الثَّلَاثَةُ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ أَصْنَافٌ، فَمَنْ قَالَ: السُّلْتُ وَالْحِنْطَةُ صِنْفٌ وَالشَّعِيرُ صِنْفٌ ثَانٍ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالزَّكَاةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، فَإِذَا قَصُرَ صِنْفٌ عَنِ احْتِمَالِهَا، وَعِنْدَهُ صِنْفُ مَنْفَعَتِهِ مَعَ الْمُقَصِّرِ وَاحِدَةٌ وَمَقْصُودُهُمَا سَوَاءٌ، وَبَلَغَا جَمِيعًا قَدْرًا يَحْمِلُ الْمُوَاسَاةَ - وَهُوَ النِّصَابُ - جَمْعًا، وَاحْتَمَلَا الْمُوَاسَاةَ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى اخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَنَافِعِ.
(وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ كُلُّهُ وَأَسْوَدُهُ وَأَحْمَرُهُ، فَإِذَا قَطَفَ الرَّجُلُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ) لِنَقْصِهِ عَنِ النِّصَابِ (وَكَذَلِكَ الْقِطْنِيَّةُ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ) كُلُّهَا فِي الزَّكَاةِ يُجْمَعُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ (مِثْلُ الْحِنْطَةِ) كُلِّهَا صِنْفٌ (وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صِنْفٌ (وَإِنِ اخْتَلَفَ أَسْمَاؤُهَا وَأَلْوَانُهَا) أَجْنَاسُهَا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ تَمْرًا إِلَى زَبِيبٍ فَصَارَ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
(وَالْقِطْنِيَّةُ الْحِمَّصُ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَشَدِّ الْمِيمِ مَكْسُورَةً عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، مَفْتُوحَةً عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ.
(وَالْعَدَسُ وَاللُّوبِيَا وَالْجُلْبَانُ) وَتُرْمُسٌ وَبِسِيلَةٌ وَالْفُولُ كَمَا أَفَادَهُ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ مَا ثَبَتَ مَعْرِفَتُهُ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ قُطْنِيَّةٌ) لِإِقَامَتِهِ وَهُوَ الْفُولُ وَالْبَسِيلَةُ وَالتُّرْمُسُ وَلَيْسَ مِنْهَا الْكِرْسِنَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا مَرَّ.
(فَإِذَا حَصَدَ الرَّجُلُ
مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ بِالصَّاعِ الْأَوَّلِ - صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ) الْمَحْصُودُ (مِنْ أَصْنَافِ الْقِطْنِيَّةِ) السَّبْعَةِ (كُلِّهَا لَيْسَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْقِطْنِيَّةِ فَإِنَّهُ، يُجْمَعُ ذَلِكَ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ) بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ (وَعَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ) لِتَقَارُبِ الْمَنَافِعِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ فَرَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ الْقِطْنِيَّةِ وَالْحِنْطَةِ فِيمَا أُخِذَ مِنَ النَّبَطِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ؛ النَّصَارَى التُّجَّارِ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ بِالتِّجَارَةِ، (وَرَأَى أَنَّ الْقِطْنِيَّةَ كُلَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ فَأَخَذَ مِنْهَا الْعُشْرَ، وَأَخَذَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ نِصْفَ الْعُشْرِ) يُرِيدُ أَنْ يَكْثُرَ الْحَمْلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا يَأْتِي فِي عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يُجْمَعُ الْقِطْنِيَّةُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ حَتَّى تَكُونَ صَدَقَتُهَا وَاحِدَةً وَالرَّجُلُ يَأْخُذُ) أَيْ: يَشْتَرِي (مِنْهَا) مِنَ الْقَطَانِيِّ (اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ) كَأَرْدَبَّيْنِ لُوبِيَا بِأَرْدَبِّ عَدَسٍ (يَدًا بِيَدٍ) أَيْ: مُنَاجَزَةً، (وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحِنْطَةِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ؟ قِيلَ لَهُ) فِي الْجَوَابِ: لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ (فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْوَرَقَ يُجْمَعَانِ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ بِالدِّينَارِ أَضْعَافُهُ فِي الْعَدَدِ مِنَ الْوَرَقِ يَدًا بِيَدٍ) فَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا حَتَّى يَأْتِيَ سُؤَالُكَ، فَقَدْ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي أَشْيَاءَ وَلَيْسَتْ بِجِنْسٍ وَاحِدٍ فِي الزَّكَاةِ، وَقَدْ يُبَاحُ وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَالزَّكَاةُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُجَانَسَةُ الْعَيْنِيَّةُ؛ بَلْ تَقَارُبُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعَيْنُ رِفْقًا بِالْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ وَهُمَا جِنْسَانِ فِي الْبَيْعِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ - إِلَى أَنْ قَالَ: - فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَدًا
بِيَدٍ» ".
(قَالَ مَالِكٌ فِي النَّخِيلِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَجُذَّانِ مِنْهَا ثَمَانِيَةَ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ أَنَّهُ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمَا فِيهَا) لَنَقْصِ كُلٍّ عَنِ النِّصَابِ (وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْهَا مَا يَجُذُّ مِنْهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَلِلْآخَرِ مَا يَجُذُّ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ) أَوْ أَزْيَدَ وَلَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةً (فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ) لِبُلُوغِ النِّصَابِ (وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي جَذَّ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا صَدَقَةٌ) لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا.
(وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ فِي كُلِّ زَرْعٍ مِنَ الْحُبُوبِ كُلِّهَا) الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ (يُحْصَدُ أَوِ النَّخْلُ يُجَذُّ أَوِ الْكَرْمُ يُقْطَفُ) زَبِيبُهُ (فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَجُذُّ مِنَ التَّمْرِ أَوْ يَقْطِفُ مِنَ الزَّبِيبِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَوْ يَحْصُدُ مِنَ الْحِنْطَةِ) وَمَا ضَاهَاهَا فِي أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ (خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَنْ كَانَ حَقُّهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى مَنْ بَلَغَ جُذَاذُهُ أَوْ قِطَافُهُ أَوْ حَصَادُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ) فَالْمُعْتَبَرُ مِلْكُ كُلِّ رَجُلٍ خَاصَّةً، وَبِهَذَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثَ:" «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرَقِ صَدَقَةٌ» " وَهُوَ أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الشُّرَكَاءُ فِي الزَّرْعِ وَالذَّهَبِ وَالْوَرَقِ وَالْمَاشِيَةِ يُزَكُّونَ زَكَاةَ الْوَاحِدِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ مِنَ الْحَوَائِطِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَلَيْسَ فِي حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالشُّرَكَاءُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ خُلَطَاءِ الْمَاشِيَةِ.
وَأَجَابَ ابْنُ زرقُونٍ: بِأَنَّ زَكَاةَ الْحَائِطِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَلَا كَذَلِكَ الشُّرَكَاءُ، انْتَهَى.
وَأَمَّا الْخُلَطَاءُ فَقَدِ اشْتَرَطْنَا أَيْضًا أَنْ يَمْلُكَ كُلٌّ نِصَابًا، وَإِنَّمَا زَكُّوا كَالْوَاحِدِ تَنْزِيلًا لَهُمْ لِنَزْلَتِهِ لِنَصٍّ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَةُ ذَلِكَ بِالِارْتِقَاءِ فِي الرَّاعِي وَنَحْوِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْحُبُوبِ كُلِّهَا ثُمَّ أَمْسَكَهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ أَنْ أَدَّى صَدَقَتَهُ) يَوْمَ حَصَادِهِ (سِنِينَ) ظَرْفٌ لِـ " أَمْسَكَهُ "(ثُمَّ بَاعَهُ؛ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَى ثَمَنِهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ بَاعَهُ إِذَا كَانَ أَصْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ مِنْ فَائِدَةٍ أَوْ غَيْرِهَا) يَعْنِي لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ أَصْلِهَا فَائِدَةً أَوْ غَيْرَهَا فِي أَنَّهُ يُسْتَقْبَلُ بِثَمَنِهَا (وَ) الْحَالُ (أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ وَالْعُرُوضِ يُفِيدُهَا الرَّجُلُ ثُمَّ يُمْسِكُهَا سِنِينَ ثُمَّ يَبِيعُهَا بِذَهَبٍ أَوْ وَرَقٍ فَلَا تَكُونُ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهَا زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمَ بَاعَهَا) وَهَذَا إِذَا كَانَ لِلْقِنْيَةِ كَمَا قَالَ وَلَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، وَذَكَرَ مَفْهُومَهُ بِقَوْلِهِ:(فَإِنْ كَانَ أَصْلُ تِلْكَ الْعُرُوضِ لِلتِّجَارَةِ فَعَلَى صَاحِبِهَا فِيهَا الزَّكَاةُ حِينَ يَبِيعُهَا إِذَا كَانَ قَدْ حَبَسَهَا سَنَةً مِنْ يَوْمَ زَكَّى الْمَالَ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ) إِنْ كَانَ مُحْتَكِرًا، فَإِنْ كَانَ مُدِيرًا قَوَّمَهُ بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ يَوْمَ زَكَّاهُ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
[بَاب مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنْ الْفَوَاكِهِ وَالْقَضْبِ وَالْبُقُولِ]
قَالَ مَالِكٌ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا وَالَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفَوَاكِهِ كُلِّهَا صَدَقَةٌ الرُّمَّانِ وَالْفِرْسِكِ وَالتِّينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمَا لَمْ يُشْبِهْهُ إِذَا كَانَ مِنْ الْفَوَاكِهِ قَالَ وَلَا فِي الْقَضْبِ وَلَا فِي الْبُقُولِ كُلِّهَا صَدَقَةٌ وَلَا فِي أَثْمَانِهَا إِذَا بِيعَتْ صَدَقَةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَى أَثْمَانِهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ بَيْعِهَا وَيَقْبِضُ صَاحِبُهَا ثَمَنَهَا وَهُوَ نِصَابٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
22 -
بَابُ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَالْقَضْبِ - بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ - وَالْبُقُولِ
جَمْعُ فَاكِهَةٍ، وَهِيَ مَا يُتَفَكَّهُ؛ أَيْ: يُتَنَعَّمُ بِأَكْلِهِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا كَالتِّينِ وَالْبِطِّيخِ وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68](سُورَةُ الرَّحْمَنِ: الْآيَةُ 68) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إِنَّمَا خَصَّ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْأَشْيَاءَ مُجْمَلَةً ثُمَّ تَخُصُّ مِنْهَا شَيْئًا بِالتَّسْمِيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلٍ فِيهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7](سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 7)، وَكَذَلِكَ:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 98) فَكَمَا أَنَّ إِخْرَاجَ مُحَمَّدٍ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ
النَّبِيِّينَ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُمْتَنَعٌ، كَذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ مِنَ الْفَاكِهَةِ مُمْتَنَعٌ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ قَالَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ لَيْسَا مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَلِجَهْلِهِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَبِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَكَمَا يَجُوزُ ذِكْرُ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلتَّفْضِيلِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ ذِكْرُ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلتَّفْضِيلِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87](سُورَةُ الْحِجْرِ: الْآيَةُ 87)
(قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا وَالَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ كُلِّهَا) سِوَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ (صَدَقَةٌ الرُّمَّانِ وَالْفِرْسِكِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالسِّينِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ آخِرُهُ كَافٌ، الْخَوْخُ أَوْ ضَرْبٌ مِنْهُ، أَحْمَرُ أَجْوَدُ أَوْ مَا يَنْفَلِقُ عَنْ نَوَاةٍ (وَالتِّينِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: عَدَّهُ مِنَ الْفَوَاكِهِ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا شُرِعَتْ فِيمَا يُقْتَاتُ، وَلَمْ يَكُنِ التِّينُ يُقْتَاتُ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ تَفَكُّهًا وَإِنْ كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ قُوتًا، وَيُحْتَمَلُ أَصْلُهُ تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِالتِّينِ قِيَاسًا عَلَى الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَظُنُّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ وَيُقْتَاتُ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَالْأَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ لَا زَكَاةَ فِي التِّينِ إِلَّا ابْنَ حَبِيبٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ إِسْمَاعِيلُ وَالْأَبْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ، وَكَانُوا يُفْتُونَ بِهِ وَيَرَوْنَهُ مَذْهَبَ مَالِكٍ عَلَى أُصُولِهِ وَهُوَ مَكِيلٌ يُرَاعَى فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَمَا كَانَ مِثْلُهَا وَزْنًا كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ (وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمَا لَمْ يُشْبِهْهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْفَوَاكِهِ) كَإِجَّاصٍ وَكُمَّثْرَى وَقِثَّاءٍ وَبِطِّيخٍ وَشَبَهِهَا مِمَّا لَا يَيْبَسُ، وَجَوْزٌ وَلَوْزٌ وَبُنْدُقٌ وَشِبْهُ ذَلِكَ وَإِنِ ادَّخَرَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا زَكَاةَ بِاتِّفَاقِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، ابْنُ زرقُونٍ أَظُنُّهُ لَمْ يَرَ قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ فِي إِيجَابِهِ الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، انْتَهَى.
أَوْ أَرَادَ بِأَصْحَابِهِ خُصُوصَ مَنْ لَقِيَهُ لَا أَهْلَ مَذْهَبِهِ، وَهَذَا أَمْثَلُ بِمَزِيدِ حِفْظِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَوُسْعِ اطِّلَاعِهِ، (قَالَ: وَلَا فِي الْقَضْبِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ؛ الْفِصْفِصَةُ: نَبَاتٌ يُشْبِهُ الْبِرْسِيمَ يُعْلَفُ لِلدَّوَابِّ، وَلَيْسَ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ؛ لِأَنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ دَاخِلٌ فِي الْفَوَاكِهِ (وَلَا فِي الْبُقُولِ) جَمْعُ بَقْلٍ، وَهُوَ كُلُّ نَبَاتٍ اخْضَرَّتْ بِهِ الْأَرْضُ؛ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ (كُلِّهَا صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَثْمَانِهَا إِذَا بِيعَتْ صَدَقَةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَى أَثْمَانِهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ بَيْعِهَا، وَيَقْبِضُ صَاحِبُهَا ثَمَنَهَا وَهُوَ نِصَابٌ)
[بَاب مَا جَاءَ فِي صَدَقَةِ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْعَسَلِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
23 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي صَدَقَةِ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْعَسَلِ
612 -
610 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) الْهِلَالِيِّ (عَنْ عِرَاكِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَخِفَّةِ الرَّاءِ فَأَلِفٌ فَكَافٌ، (ابْنِ مَالِكٍ) الْغِفَارِيِّ الْكِنَانِيِّ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٍ فَاضِلٍ، مَاتَ بَعْدَ الْمِائَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرَّ أَدْخَلَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ وَعِرَاكٌ وَاوًا فَجَعَلَ الْحَدِيثَ لِابْنِ دِينَارٍ عَنْ سُلَيْمَانَ وَعِرَاكٍ وَهُوَ خَطَأٌ عُدَّ مِنْ غَلَطِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ فِي الْمُوَطَّآتِ كُلِّهَا وَفِي غَيْرِهَا لِسُلَيْمَانَ عَنْ عِرَاكٍ، وَهُمَا تَابِعِيَّانِ نَظِيرَانِ، وَعِرَاكٌ أَسَنُّ وَسُلَيْمَانُ أَفْقَهُ، وَابْنُ دِينَارٍ تَابِعِيٌّ أَيْضًا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ» ) رَقِيقِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (وَلَا فِي فَرَسِهِ) الشَّامِلُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَجَمْعُهُ الْخَيْلُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ (صَدَقَةٌ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:" «لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةَ» الْفِطْرِ "، وَالْمُرَادُ بِالْفَرَسِ اسْمُ الْجِنْسِ، فَلَا زَكَاةَ فِي الْوَاحِدَةِ اتِّفَاقًا، وَخَصَّ الْمُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ تَكْلِيفُ الْكَافِرِ بِالْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ كَافِرًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يُسْلِمَ، وَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِقَابِ الْعَبِيدِ صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يُشْتَرُوا لِلتِّجَارَةِ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِلْكَافَّةِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيمَا اتُّخِذَ مِنْ ذَلِكَ لِلْقِنْيَةِ بِخِلَافِ مَا اتُّخِذَ لِلتِّجَارَةِ، وَأَوْجَبَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ الزَّكَاةَ فِي الْخَيْلِ إِذَا كَانَتْ إِنَاثًا وَذُكُورًا، فَإِذَا انْفَرَدَتْ زَكَّى إِنَاثَهَا لَا ذُكُورَهَا ثُمَّ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَبَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَهَا وَيُخْرِجُ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ لِصِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ صَاحِبَاهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَوَافَقَا الْجُمْهُورَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا وَلَوْ كَانَا لِلتِّجَارَةِ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، فَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَالُوا لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ خُذْ مِنْ خَيْلِنَا وَرَقِيقِنَا صَدَقَةً فَأَبَى ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَبَى عُمَرُ ثُمَّ كَلَّمُوهُ أَيْضًا فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ إِنْ أَحَبُّوا فَخُذْهَا مِنْهُمْ وَارْدُدْهَا عَلَيْهِمْ وَارْزُقْ رَقِيقَهُمْ قَالَ مَالِكٌ مَعْنَى قَوْلِهِ رحمه الله وَارْدُدْهَا عَلَيْهِمْ يَقُولُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
613 -
611 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَالُوا لِأَبِي عُبَيْدَةَ) عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ الْجَرَّاحِ) الْفِهْرِيِّ أَمِينِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالنَّصِّ النَّبَوِيِّ، أَمَّرَهُ عُمَرُ عَلَى الشَّامِ (خُذْ مِنْ خَيْلِنَا وَرَقِيقِنَا صَدَقَةً فَأَبَى) امْتَنَعَ مِنَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ لَا صَدَقَةَ فِيهَا (ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَبَى عُمَرُ) امْتَنَعَ، فَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِمَا (ثُمَّ كَلَّمُوهُ أَيْضًا فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ إِنْ أَحَبُّوا فَخُذْهَا مِنْهُمْ) فَرَأَى عُمَرُ لَمَّا أَلَحُّوا عَلَيْهِ أَنَّهَا صَدَقَةٌ طَاعُوا بِهَا فَأَمَرَهُ بِأَخْذِهَا (وَارْدُدْهَا عَلَيْهِمْ وَارْزُقْ رَقِيقَهُمْ) أَيِ: الْفَقِيرَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ارْزُقْ عَبِيدَهُمْ وَإِمَاءَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُفْرِضُ لِلسَّيِّدِ وَعَبْدِهِ مِنَ الْفَيْءِ، وَكَانَ عُمَرُ يُفْرِضُ لِلْمَنْفُوسِ وَالْعَبِيدِ، وَكَذَا فَعَلَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ.
(قَالَ مَالِكٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ) أَيْ: عُمَرَ (رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَارْدُدْهَا عَلَيْهِمْ يَقُولُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) لَا عَلَيْهِمْ نَفْسَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ طَاعُوا بِهَا، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَعُورِضَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمَيَّةَ إِذِ ابْتَاعَ فَرَسًا أُنْثَى بِمِائَةِ قَلُوصٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ الْخَيْلَ لَتَبْلُغُ هَذَا عِنْدَكُمْ؛ فَتَأْخُذُ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً وَلَا تَأْخُذُ مِنَ الْخَيْلِ شَيْئًا، خُذْ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِذَا تَعَارَضَ الْحَدِيثَانِ سَقَطَا، وَالْحُجَّةُ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ:" «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ كِتَابٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي وَهُوَ بِمِنًى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ الْعَسَلِ وَلَا مِنْ الْخَيْلِ صَدَقَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
614 -
612 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ حَزْمٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ، (أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ كِتَابٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الْخَلِيفَةِ (إِلَى أَبِي) هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَكَانَ قَاضِي الْمَدِينَةِ، (وَهُوَ بِمِنًى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنَ الْعَسَلِ وَلَا مِنَ الْخَيْلِ صَدَقَةً) وَقَدْ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْعَسَلِ، وَضَعَّفَ أَحْمَدُ حَدِيثَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْهُ
الْعُشْرَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ يَرْوِيهِ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ نَفَرًا مِنْ شَبَابَةَ - بَطْنٌ مِنْ فِهْرٍ - كَانُوا يُؤَدُّونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْلِهِمْ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ، وَكَانَ يَحْمِي وَادِيًا لَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَالِكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا وَقَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: إِنَّمَا النَّحْلُ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ عز وجل رِزْقًا إِلَى مَنْ يَشَاءُ، فَإِنْ أَدُّوا إِلَيْكَ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحْمِ لَهُمْ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَأَدُّوا إِلَيْهِ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَمَى لَهُمْ» .
وَحَدِيثُ أَبِي يَسَارَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْعَسَلِ الْعُشْرُ وَكَانَ يَحْمِيهِ» ، مُنْقَطِعٌ وَأَبُو يَسَارَةَ لَا يُعَرَفُ وَلَا يَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يَرَوْنَ فِيهِ زَكَاةً إِلَّا فِي أَرْضِ الْعُشْرِ دُونَ أَرْضِ الْخَرَاجِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ صَدَقَةِ الْبَرَاذِينِ فَقَالَ وَهَلْ فِي الْخَيْلِ مِنْ صَدَقَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
615 -
613 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ صَدَقَةِ الْبَرَاذِينِ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ جَمْعُ بِرْذَوْنٍ التُّرْكِيِّ مِنَ الْخَيْلِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَرُبَّمَا قَالُوا: بِرْذَوْنَةٌ فِي الْأُنْثَى قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ (فَقَالَ: وَهَلْ فِي الْخَيْلِ مِنْ صَدَقَةٍ؟) وَقَدْ صَحَّ: " «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» ".
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَّةِ» " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
[بَاب جِزْيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ بَلَغَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ» وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنْ الْبَرْبَرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
24 -
بَابُ جِزْيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ
الْجِزْيَةُ مِنْ جَزَّأْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَسَّمْتَهُ ثُمَّ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ، وَقِيلَ: مِنَ الْجَزَاءِ لِأَنَّهَا جَزَاءُ تَرْكِهِمْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنَ الْإِجْزَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَكْفِي مَنْ تُوضَعُ عَلَيْهِ فِي عِصْمَةِ دَمِهِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ أَنَّ الذُّلَّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِي مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ، قِيلَ: شُرِعَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ: تِسْعٌ.
616 -
614 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ بَلَغَنِي) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ وُلِدَ السَّائِبُ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَفِظَ عَنْهُ وَحَجَّ مَعَهُ وَتُوُفِّيَ عليه السلام وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ.
( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ» ) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَعُمَانَ، وَهُوَ مِنْ بِلَادِ نَجْدٍ، وَيُعْرَبُ إِعْرَابَ الْمُثَنَّى، وَيَجُوزُ جَعْلُ النُّونِ مَحَلَّ الْإِعْرَابِ مَعَ لُزُومِ الْيَاءِ مُطْلَقًا، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْأَزْهَرِيُّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَلَمًا مُفْرَدًا لِدَلَالَةٍ، فَأَشْبَهَ الْمُفْرَدَاتِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا بَحْرَانِيٌّ.
(وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ) لَقَبُ قَبِيلَةٍ لَيْسَ بِأَبٍ وَلَا أُمٍّ وَإِنَّمَا هُمْ أَخْلَاطٌ مِنْ تَغْلِبَ اصْطَلَحُوا عَلَى هَذَا الِاسْمِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، (وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنَ الْبَرْبَرِ) بِمُوَحَّدَتَيْنِ وَرَاءَيْنَ وِزَانُ جَعْفَرٍ، قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ كَالْأَعْرَابِ فِي الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَالْجَمْعُ الْبَرَابِرَةُ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
617 -
615 - (مَالِكٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ) بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَنْ أَبِيهِ) مُحَمَّدِ الْبَاقِرِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَلْقَ عُمَرَ وَلَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَّصِلٌ مِنْ وُجُوهٍ حِسَانٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ: هَذَا مُنْقَطِعٌ مَعَ ثِقَةِ رِجَالِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فَزَادَ فِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ جَدَّهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَلَا عُمَرَ، فَإِنْ عَادَ ضَمِيرُ جَدِّهِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ كَانَ مُتَّصِلًا؛ لِأَنَّ جَدَّهُ الْحُسَيْنُ سَمِعَ مِنْ عُمَرَ وَمِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ الْعَلَاءِ الْحَضْرَمِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ:" «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» "(فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» ) فِي الْجِزْيَةِ لَا فِي نِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ، فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِذَبَائِحِ الْمَجُوسِ بَأْسًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجِزْيَةَ أُخِذَتْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْلَالًا لَهُمْ وَتَقْوِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَجْرِيَ هَؤُلَاءِ مَجْرَاهُمْ فِي الذُّلِّ وَالصَّغَارِ؛ لِأَنَّهُمْ سَاوَوْهُمْ فِي الْكُفْرِ بَلْ هُمْ أَشَدُّ كُفْرًا، وَلَيْسَ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
تَكْرُمَةً فِي الْكِتَابِيِّينَ لِمَوْضِعِ كِتَابِهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ وَمِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَفَعَلَهُ خُلَفَاؤُهُ الْأَرْبَعَةُ، وَاخْتُلِفَ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالنِّيرَانِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ وَمِنَ الْمَجُوسِ بِالسُّنَّةِ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ كَظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 156) أَيِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَوَّلُوا سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُعْلَمُ كِتَابُهُمْ عِلْمَ ظُهُورٍ وَاسْتِفَاضَةٍ، أَمَّا الْمَجُوسُ فَعِلْمُ كِتَابِهِمْ عِلْمُ مَخْصُوصٍ، وَالْآيَةُ أَيْضًا مُحْتَمَلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:" كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ كِتَابٍ يَقْرَؤُونَهُ وَعِلْمٍ يَدْرُسُونَهُ فَشَرِبَ مَلِكُهُمُ الْخَمْرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا أَهْلَ الطَّمَعِ فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ يُنْكِحُ أَوْلَادَهُ بَنَاتَهُ فَأَطَاعُوهُ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ، فَأَسْرَى عَلَى كِتَابِهِمْ وَعَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ "، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ:" لَمَّا هَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ فَارِسَ قَالَ عُمَرُ: اجْتَمِعُوا إِنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنَضَعُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَلَا مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَكِنْ قَالَ: وَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَوَضَعَ الْأُخْدُودَ لِمَنْ خَالَفَهُ "، وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ قَدْ يَغِيبُ عَنْهُ عِلْمُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ أَقْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَحْكَامِهِ وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ التَّمَسُّكُ بِالْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَهْلُ الْكِتَابِ؛ اخْتِصَاصَهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِإِلْحَاقِ الْمَجُوسِ بِهِمْ فَرَجَعَ إِلَيْهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
618 -
616 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ) كَمِصْرَ وَالشَّامِ (أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ) فِي كُلِّ سَنَةٍ (وَعَلَى أَهْلِ الْوَرَقِ) كَالْعِرَاقِ (أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا) كُلَّ سَنَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ إِلَّا مَنْ يَضْعُفُ عَنْ ذَلِكَ فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهَا دِينَارٌ وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا إِلَّا إِذَا بَذَلَ الْأَغْنِيَاءُ دِينَارًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: أَقَلُّهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْتَمَلِينَ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا، وَعَلَى أَوَاسِطِ النَّاسِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارَانِ، وَعَلَى
الْأَغْنِيَاءِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ.
(مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: رَفْدُ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَعَوْنُهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَقْوَاتٌ مِنْ عِنْدِهِمْ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَدْرِ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ تِلْكَ الْجِهَةِ مِنَ الِاقْتِيَاتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحِنْطَةِ مُدَّانِ وَمِنَ الزَّيْتِ ثَلَاثَةُ أَقْسَاطٍ كُلَّ شَهْرٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَوَدَكٌ وَعَسَلٌ لَا أَدْرِي كَمْ هُوَ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَرْدَبٌّ كُلَّ شَهْرٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، وَالْكُسْوَةُ الَّتِي يَكْسُوهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّاسُ، وَعَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا لِكُلِّ إِنْسَانٍ كُلُّ شَهْرٍ وَوَدَكٌ لَا أَدْرِي كَمْ هُوَ.
(وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) لِلْمُجْتَازِينَ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خُبْزٍ وَشَعِيرٍ وَتِبْنٍ وَإِدَامٍ وَمَكَانٍ يَنْزِلُونَ بِهِ يُكِنُّهُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُلْزِمُهُمْ فِي مُدَّةِ الضِّيَافَةِ مَا سَهَلَ عَلَيْهِمْ وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ بِاقْتِيَاتِهِ دُونَ تَكَلُّفٍ وَخُرُوجٍ عَنْ عَادَةِ قُوتِهِمْ، وَقَدْ شَكَا أَهْلُ الشَّامِ إِلَى عُمَرَ لَمَّا قَدِمَهَا أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَلَّفَهُمْ ذَبْحَ الدَّجَاجِ وَالْغَنَمِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ لَا تُزِيدُوهُمْ عَنْهُ.
وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ: يُوضَعُ عَنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوفَ لَهُمْ بِمَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَازِمَةٌ لَهُمْ مَعَ الْوَفَاءِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ فَقَالَ عُمَرُ ادْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا قَالَ فَقُلْتُ وَهِيَ عَمْيَاءُ فَقَالَ عُمَرُ يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ قَالَ فَقُلْتُ كَيْفَ تَأْكُلُ مِنْ الْأَرْضِ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ أَمِنْ نَعَمْ الْجِزْيَةِ هِيَ أَمْ مِنْ نَعَمْ الصَّدَقَةِ فَقُلْتُ بَلْ مِنْ نَعَمْ الْجِزْيَةِ فَقَالَ عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا فَقُلْتُ إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَنُحِرَتْ وَكَانَ عِنْدَهُ صِحَافٌ تِسْعٌ فَلَا تَكُونُ فَاكِهَةٌ وَلَا طُرَيْفَةٌ إِلَّا جَعَلَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ الَّذِي يَبْعَثُ بِهِ إِلَى حَفْصَةَ ابْنَتِهِ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ كَانَ فِي حَظِّ حَفْصَةَ قَالَ فَجَعَلَ فِي تِلْكَ الصِّحَافِ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ فَصُنِعَ فَدَعَا عَلَيْهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى أَنْ تُؤْخَذَ النَّعَمُ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ إِلَّا فِي جِزْيَتِهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
619 -
617 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ) أَيْ: عَمِيَتْ (فَقَالَ عُمَرُ) ظَانًّا أَنَّهَا مِنَ الصَّدَقَةِ (ادْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا قَالَ) أَسْلَمُ (فَقُلْتُ: وَهِيَ عَمْيَاءُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ) فَعَمَاهَا لَا يَمْنَعُ الِانْتِفَاعُ بِهَا (قَالَ: فَقُلْتُ: كَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَرْضِ؟) لِأَنَّهَا وَإِنْ قُطِرَتْ مَعَ الْإِبِلِ إِلَى الْمَرْعَى لَا تَرَى الْأَرْضَ (قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَمِنْ نَعَمُ الْجِزْيَةِ هِيَ أَمْ مِنْ نَعَمُ الصَّدَقَةِ؟ فَقُلْتُ: بَلْ مِنْ نَعَمُ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا) لِأَنَّ الْجِزْيَةَ يَأْكُلُهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالصَّدَقَةَ لِلْمَسَاكِينِ، وَقَالَ ذَلِكَ إِشْفَاقًا فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ أَسْلَمُ بِالْوَسْمِ (فَقُلْتُ: إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَنُحِرَتْ
وَكَانَ عِنْدَهُ صِحَافٌ) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ، جَمْعُ صَحْفَةٍ؛ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، إِنَاءٌ كَالْقَصْعَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَصْعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ (تِسْعٌ، فَلَا تَكُونُ فَاكِهَةٌ وَلَا طُرَيْفَةٌ) بِطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، تَصْغِيرُ طُرْفَةٍ بِزِنَةِ غُرْفَةٍ، مَا يُسْتَطْرَفُ؛ أَيْ: يُسْتَمْلَحُ (إِلَّا جَعَلَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِفْظًا لَهُ فِي أَهْلِهِ بَعْدَهُ (وَيَكُونُ الَّذِي يَبْعَثُ بِهِ إِلَى حَفْصَةَ ابْنَتِهِ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ كَانَ فِي حَظِّ حَفْصَةَ) نَصِيبِهَا طَلَبًا لِمَرْضَاةِ غَيْرِهَا، وَعِلْمًا بِأَنَّهَا تَرْضَى ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَا تَأْنَفُ مِنْ إِيثَارِهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَبُوهَا يَجُوزُ لَهُ التَّبَسُّطُ عَلَيْهَا وَتَتَيَقَّنُ مَحَبَّتَهُ لَهَا (قَالَ: فَجَعَلَ فِي تِلْكَ الصِّحَافِ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَا طَبْخٍ لِيَصْنَعْنَ فِيهِ مَا أَحْبَبْنَ (وَأَمَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ فَصُنِعَ) طُبِخَ (فَدَعَا عَلَيْهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ) فِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُطْعِمُهُمْ أَمْثَالَهَا اسْتِئْلَافًا وَإِينَاسًا، وَهِيَ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ لِلْأَكْلِ عِنْدَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ فَوَاكِهٌ وَطَرَفٌ مِنَ الْجِزْيَةِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَالْوُجُوهُ الْمُبَاحَةُ لِلْأَغْنِيَاءِ؛ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: كَانَ عُمَرُ يُفَضِّلُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَوْقِعِهِنَّ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَيُفَضِّلُ أَهْلَ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْ مَذْهَبِهِ وَتَلَاهُ عُثْمَانُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ يُسَوِّيَانِ فِي قَسْمِ الْفَيْءِ، وَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: ثَوَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةُ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْمَعِيشَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ تُؤْخَذَ النَّعَمُ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ إِلَّا فِي جِزْيَتِهِمْ) أَيْ: أَهْلِ النَّعَمِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا رَاضَاهُمْ عَلَيْهِ الْإِمَامُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَضَعُوا الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ حِينَ يُسْلِمُونَ قَالَ مَالِكٌ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا عَلَى صِبْيَانِهِمْ وَأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ قَدْ بَلَغُوا الْحُلُمَ وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا عَلَى الْمَجُوسِ فِي نَخِيلِهِمْ وَلَا كُرُومِهِمْ وَلَا زُرُوعِهِمْ وَلَا مَوَاشِيهِمْ صَدَقَةٌ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَطْهِيرًا لَهُمْ وَرَدًّا عَلَى فُقَرَائِهِمْ وَوُضِعَتْ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ صَغَارًا لَهُمْ فَهُمْ مَا كَانُوا بِبَلَدِهِمْ الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ سِوَى الْجِزْيَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْتَلِفُوا فِيهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْعُشْرُ فِيمَا يُدِيرُونَ مِنْ التِّجَارَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ وَصَالَحُوا عَلَيْهَا عَلَى أَنْ يُقَرُّوا بِبِلَادِهِمْ وَيُقَاتَلُ عَنْهُمْ عَدُوُّهُمْ فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى غَيْرِهَا يَتْجُرُ إِلَيْهَا فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ مَنْ تَجَرَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوْ الْيَمَنِ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْبِلَادِ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ وَلَا صَدَقَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمَجُوسِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَلَا ثِمَارِهِمْ وَلَا زُرُوعِهِمْ مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَيُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِرَارًا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَيْهِمْ كُلَّمَا اخْتَلَفُوا الْعُشْرُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا صَالَحُوا عَلَيْهِ وَلَا مِمَّا شُرِطَ لَهُمْ وَهَذَا الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
619 -
618 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَضَعُوا الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ حِينَ يُسْلِمُونَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ وَضْعُهَا عَنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ وَضْعَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا أَظْهَرُ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ لَيْسَ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْقُطُ الْبَاقِي مِنَ الْجِزْيَةِ
وَيُؤَدِّيهَا فِي حَالِ إِسْلَامِهِ.
وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38](سُورَةُ الْأَنْفَالِ: الْآيَةُ 38) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَالَ أَحْمَدُ بِقَوْلِ مَالِكٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
(قَالَ مَالِكٌ مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا عَلَى صِبْيَانِهِمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 29) وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لَا يُقَاتِلُونَ.
(وَأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ قَدْ بَلَغُوا الْحُلُمَ) بِشَرْطِ الْجِزْيَةِ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْ عَبِيدِهِمْ، (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا عَلَى الْمَجُوسِ) وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ بَاقِي الْكُفَّارِ (فِي نَخِيلِهِمْ وَلَا كُرُومِهِمْ وَلَا زُرُوعِهِمْ وَلَا مَوَاشِيهِمْ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَطْهِيرًا لَهُمْ) مِنَ الْبُخْلِ، وَلِلْمَالِ مِنَ الْخُبْثِ، قَالَ تَعَالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 103) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَرَدًّا عَلَى فُقَرَائِهِمْ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " «أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
(وَوُضِعَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ صَغَارًا) إِذْلَالًا (لَهُمْ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 29)، (فَهُمْ مَا كَانُوا بِبَلَدِهِمُ الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ سِوَى الْجِزْيَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا إِجْمَاعٌ إِلَّا أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَأَى تَضْعِيفَ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ دُونَ جِزْيَةٍ، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ قَالُوا: يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِثْلَا مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِ، فَفِي الرِّكَازِ خُمْسَانِ، وَمَا فِيهِ الْعُشْرُ عُشْرَانِ، وَمَا فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَكَذَلِكَ مِنْ نِسَائِهِمْ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ، وَلَا شَيْءَ عَنْ مَالِكٍ فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَهُمْ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّصَارَى سَوَاءٌ، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِ بَنِي تَغْلِبَ مِنْهُمْ (إِلَّا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْتَلِفُوا فِيهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْعُشْرُ فِيمَا يُدِيرُونَ مِنَ التِّجَارَاتِ)
وَأَصْلُهُ فِعْلُ عُمَرَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَسَكَتُوا عَلَيْهِ فَكَانَ إِجْمَاعًا (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ وَصَالَحُوا عَلَيْهَا عَلَى أَنْ يُقَرُّوا بِبِلَادِهِمْ وَيُقَاتَلُ عَنْهُمْ عَدُوُّهُمْ) لِأَنَّهُمْ بِهَا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ فَلَا يُمْنَعُوا مِنَ التَّقَلُّبِ فِي بِلَادِهِمْ فِي التِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، وَلَا عُشْرَ عَلَيْهِمْ وَلَا غَيْرِهِ مَا دَامُوا فِيهَا.
(فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى غَيْرِهَا يَتْجُرُ إِلَيْهَا فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ) وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَاعَى فِي ذَلِكَ الْآفَاقُ بِقَوْلِهِ: (مَنْ تَجَرَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ) أَوْ عَكْسِهِ (وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوِ الْيَمَنِ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْبِلَادِ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ) إِذَا أَخْرَجَ مَالَهُ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صَرْفٍ، وَمَنْ تَجَرَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فِيهَا، وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِيهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(وَلَا صَدَقَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ) الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (وَلَا الْمَجُوسِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَلَا ثِمَارِهِمْ وَلَا زُرُوعِهِمْ) إِعَادَةٌ لِقَوْلِهِ: (مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ) فَلَا تَكْرَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ أَوَّلًا بِتَعْلِيلِهِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ أَصْلَهُ السُّنَّةُ بَيَانًا لِدَلِيلِهِ.
(وَيُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ) بِالشُّرُوطِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْفُرُوعِ (وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِرَارًا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَيْهِمْ كُلَّمَا اخْتَلَفُوا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا صَالَحُوا عَلَيْهِ وَلَا مِمَّا شُرِطَ لَهُمْ، وَهَذَا الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.
[بَاب عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكْثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَيَأْخُذُ مِنْ الْقِطْنِيَّةِ الْعُشْرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
25 -
بَابُ عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ
619 -
621 619 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ) بِنُونٍ فَمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ (مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَالزَّبِيبُ بَدَلُ الزَّيْتِ وَصُوِّبَتْ (نِصْفَ الْعُشْرِ؛ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكْثُرَ الْحَمْلُ) أَيِ: الْمَحْمُولُ مِنْهُمَا (إِلَى الْمَدِينَةِ وَيَأْخُذُ مِنَ الْقِطْنِيَّةِ الْعُشْرَ) عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا تَجَرُوا فِيهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْعُشْرُ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ حِنْطَةً وَلَا زَيْتًا بِالْمَدِينَةِ وَلَا بِمَكَّةَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ غُلَامًا عَامِلًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكُنَّا نَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ الْعُشْرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
622 -
620 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا) أَيْ: شَابًّا، كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى وَرَوَاهُ مُصْعَبٌ وَمُطَرِّفٌ (عَامِلًا) قَالَهُ الْبَاجِيُّ (مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذَلِيِّ ابْنِ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَوَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَمَاتَ بَعْدَ السَبْعِينَ (عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكُنَّا نَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ الْعُشْرَ) ظَاهِرُهُ حَتَّى فِي الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَعَلَهُ عُمَرُ مَرَّةً فِي زَمَنِ الْغَلَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَصَّ بِمَا عَدَاهُمَا بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ يَأْخُذُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ النَّبَطِ الْعُشْرَ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
623 -
621 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ يَأْخُذُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ النَّبَطِ
الْعُشْرَ؟ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) وَهِيَ مَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقِيلَ: مَا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، (فَأَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ) بِاجْتِهَادٍ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا.
[بَاب اشْتِرَاءِ الصَّدَقَةِ وَالْعَوْدِ فِيهَا]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَقُولُ «حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ قَدْ أَضَاعَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
26 -
بَابُ اشْتِرَاءِ الصَّدَقَةِ وَالْعَوْدِ فِيهَا
624 -
622 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ الْمُخَضْرَمِ مَوْلَى عُمَرَ، مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةِ سَنَةٍ (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَقُولُ حَمَلْتُ) رَجُلًا (عَلَى فَرَسٍ) أَيْ: تَصَدَّقْتُ بِهِ وَوَهَبْتُهُ لَهُ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ (عَتِيقٍ) أَيْ: كَرِيمٍ سَابِقٍ، وَالْجَمْعُ عِتَاقٌ، وَالْعَتِيقُ الْفَائِقُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَاسْمُ هَذَا الْفَرَسِ الْوَرْدُ أَهْدَاهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ عُمَرَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَسَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَأَعْطَاهُ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا لِأَنَّهُ يَحْمِلُ، عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فُوِّضَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم اخْتِيَارَ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِ أَوِ اسْتَشَارَهُ فِي مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ الْعَطِيَّةُ لِكَوْنِهِ أَمَرَ بِهَا (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الْجِهَادِ لَا الْوَقْفِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْمَوْقُوفِ إِذَا بَلَغَ غَايَةً لَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا وُقِفَ لَهُ (وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ) أَيِ: الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهِ، قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ (قَدْ أَضَاعَهُ) أَيْ: لَمْ يُحْسِنِ الْقِيَامَ عَلَيْهِ وَقَصَّرَ فِي مُؤْنَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَعْرِفْ مِقْدَارَهُ فَأَرَادَ بَيْعَهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ مَا جُعِلَ لَهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيَدُلُّ لَهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: فَوَجَدَهُ قَدْ أَضَاعَهُ؛ وَكَانَ قَلِيلَ الْمَالِ، فَأَشَارَ إِلَى عِلَّةِ ذَلِكَ وَإِلَى عُذْرِهِ فِي إِرَادَةِ بَيْعِهِ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ لَمْ يُحْسِنِ الْقِيَامَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَبْعُدُ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ إِلَّا لِعُذْرٍ، أَوْ صَيَّرَهُ ضَائِعًا مِنَ الْهُزَالِ لِفَرْطِ مُبَاشَرَةِ الْجِهَادِ وَالْإِتْعَابِ لَهُ فِيهِ.
(فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ) بِضَمِّ الرَّاءِ، مَصْدَرُ رَخُصَ السِّعْرُ وَأَرْخَصَهُ اللَّهُ فَهُوَ رَخِيصٌ، (فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ) بِلَا يَاءٍ قَبْلَ الْهَاءِ جَزْمٌ عَلَى النَّهْيِ، وَلِابْنِ مَهْدِيٍّ: لَا تَبْتَعْهُ (وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ) مُبَالَغَةً فِي رُخْصِهِ وَهُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى شِرَائِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْبَائِعَ مَلَكَهُ وَلَوْ كَانَ وَقْفًا كَمَا قِيلَ، وَجَازَ لَهُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ فِيمَا حُبِسَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ لَهُ بَيْعُهُ إِلَّا بِالْقِيمَةِ الْوَافِرَةِ، وَلَا كَانَ لَهُ أَنْ يُسَامِحَ مِنْهَا بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُحْبِسُ.
وَيُسْتَفَادُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ مَثَلًا يُبَاعُ بِأَغْلَى مِنْ ثَمَنِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ كَذَا فِي الْفَتْحِ.
وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ: لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ.
وَعَلَيْهَا سَأَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ الْأَغْيَاءَ فِي النَّهْيِ عَادَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْأَخْفَى وَالْأَدْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23](سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 23) وَلَا خَفَاءَ أَنَّ إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ بِدِرْهَمٍ أَقْرَبُ إِلَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ مِمَّا إِذَا بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ، وَكَلَامُهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْحُجَّةُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ: لَا تُغَلِّبُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَإِنْ وَفَّرَهَا مُعْطِيهَا، فَإِذَا زَهِدَ فِيهَا وَهِيَ مُوَفَّرَةٌ فَلِأَنْ يَزْهَدَ فِيهَا وَهِيَ مُقَتَّرَةٌ أَوْلَى، فَهَذَا عَلَى وَفْقِ الْقَاعِدَةِ.
(فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) الْفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ؛ أَيْ: كَمَا يُقْبَحُ أَنْ يَقِيءَ ثُمَّ يَأْكُلُ، كَذَلِكَ يُقْبَحُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَجُرُّهُ إِلَى نَفْسِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَشُبِّهَ بِأَخَسِّ الْحَيَوَانِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهِ تَصْوِيرًا لِلتَّهْجِينِ وَتَنْفِيرًا مِنْهُ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ حَرَامٌ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ لَا يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ، فَالتَّشْبِيهُ لِلتَّنْفِيرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ فِي الصَّدَقَةِ أَوْسَاخَهُ وَأَدْنَاسَهُ، فَأَشْبَهَ تَغَيُّرَ الطَّعَامِ إِلَى حَالِ الْقَيْءِ، وَأَلْحَقَ بِالصَّدَقَةِ مَا شَابَهَهَا مِنْ كَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَبِالشِّرَاءِ الْهِبَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَتَمَلَّكُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَأَمَّا إِذَا وَرِثَهُ فَلَا كَرَاهَةَ، وَأَبْعَدُ مَنْ قَالَ يَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: يَخُصُّ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَوَالِدٌ وَهَبَ وَلَدَهُ، وَالْهِبَةُ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ وَالَّتِي رَدَّهَا الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَاهِبِ لِثُبُوتِ الْأَخْبَارِ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ ذَلِكَ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ كَالْغَنِيِّ يَهِبُ الْفَقِيرَ، وَنَحْوَ مَنْ يَصِلُ رَحِمَهُ فَلَا رُجُوعَ لِهَؤُلَاءِ، وَمِمَّا لَا رُجُوعَ فِيهِ مُطْلَقًا الصَّدَقَةُ يُرَادُ بِهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَاسْتَشْكَلَ ذِكْرُ عُمَرَ لِذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِذَاعَةِ عَمَلِ الْبِرِّ وَكِتْمَانِهِ أَرْجَحُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْمَصْلَحَتَانِ؛ الْكِتْمَانُ وَتَبْلِيغُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَرَجَّحَ الثَّانِيَ فَعَمَلَ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: حَمَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ مَثَلًا، وَلَا يَقُولُ: حَمَلْتُ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ رُجْحَانِ الْكِتْمَانِ إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَعَلَّ الَّذِي أُعْطِيَهُ أَذَاعَ ذَلِكَ فَانْتَفَى الْكِتْمَانُ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ أَنَّ فِي إِضَافَةِ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ تَأْكِيدًا لِصِحَّةِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَقَعُ لَهُ الْقِصَّةُ أَجْدَرُ بِضَبْطِهَا مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا وُقُوعُهَا بِحُضُورِهِ،
فَلَمَّا أَمِنَ مَا يَخْشَى مِنَ الْإِعْلَانِ بِالْقَصْدِ صَرَّحَ بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ مَحَلَّ تَرْجِيحِ الْكِتْمَانِ إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْإِعْلَانِ الْعُجْبُ وَالرِّيَاءُ، أَمَّا مَنْ أَمِنَ ذَلِكَ كَعُمَرَ فَلَا، انْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الزَّكَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْهِبَةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ وَالْمُهْمَلَةِ -، وَفِي الْجِهَادِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْوَصَايَا وَالصَّدَقَةِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، الْخَمْسَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تَبْتَعْهُ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ» قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَوَجَدَهَا مَعَ غَيْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ تُبَاعُ أَيَشْتَرِيهَا فَقَالَ تَرْكُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
625 -
623 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ) أَيْ: جَعَلَهُ حُمُولَةً لِرَجُلٍ مُجَاهِدٍ لَيْسَ لَهُ حُمُولَةٌ.
وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَيْهِ حَمْلَ تَمْلِيكٍ لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ؛ وَلِذَا سَاغَ لَهُ بَيْعُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ وَقَفَهُ، وَإِنَّمَا سَاغَ لِلرَّجُلِ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ هُزَالٌ عَجَزَ لِأَجْلِهِ عَنِ اللَّحَاقِ بِالْخَيْلِ وَضَعُفَ عَنْ ذَلِكَ، وَانْتَهَى إِلَى عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ قَوْلُهُ:(فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ) أَيْ: يَشْتَرِيَهُ إِذْ لَوْ كَانَ وَقْفًا لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، ( «فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَبْتَعْهُ» ) بِالْجَزْمِ؛ أَيْ: لَا تَشْتَرِهِ (وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ) وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَلَوْ كَانَ حَبْسًا لَقَالَ فِي وَقْفِكَ أَوْ حَبْسِكَ، وَسُمِّيَ الشِّرَاءُ عَوْدًا فِي الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُسَامَحَةِ مِنَ الْبَائِعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يُسَامِحُ بِهِ رُجُوعًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْوَصَايَا وَالصَّدَقَةِ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلِمَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادٌ ثَالِثٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْأَحْنَفِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
(قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَوَجَدَهَا مَعَ غَيْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ تُبَاعُ أَيَشْتَرِيهَا؟ فَقَالَ: تَرْكُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ) إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اشْتِرَائِهَا مِنْ نَفْسِ مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْمَعْنَى؛ لِرُجُوعِهِ فِيمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ سُكْنَى مَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ مِنْهَا لِلَّهِ عز وجل، وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ إِنْ وَقَعَ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ثُبُوتِ الْبَيْعِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ
عَلَى التَّنْزِيهِ وَقَطْعِ الذَّرِيعَةِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي «الْخَمْسَةِ الَّذِينَ تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ» أَوْ رَجُلٌ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ فَلَمْ يَخُصَّ الْمُتَصَدِّقَ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْخُصُوصَ قَاضٍ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَوْ قِيلَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِمَنِ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُتَصَدِّقُ لَمْ يَكُنْ مُعَارِضًا، فَيُسْتَعْمَلُ الْحَدِيثَيْنِ دُونَ رَدِّ أَحَدِهِمَا فَيُمْنَعُ الْمُتَصَدِّقُ مِنْ شِرَاءِ صَدَّقْتِهِ، انْتَهَى.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: نَعَمِ؛ الْخُصُوصُ قَاضٍ عَلَى الْعَامِّ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ إِفَادَتَهُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ قَوْلِنَا مَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُتَصَدِّقُ فَلَا تَحِلُّ لَهُ، وَعَدَمُ الْحِلِّ صَادِقٌ بِالْكَرَاهَةِ، وَإِنِ احْتَمَلَهَا وَاحْتَمَلَ الْحُرْمَةَ سَقَطَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ.
[بَاب مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ غِلْمَانِهِ الَّذِينَ بِوَادِي الْقُرَى وَبِخَيْبَرَ وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَحْسَنَ مَا سَمِعْتُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنَّ الرَّجُلَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ يَضْمَنُ نَفَقَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَالرَّجُلُ يُؤَدِّي عَنْ مُكَاتَبِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَرَقِيقِهِ كُلِّهِمْ غَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِتِجَارَةٍ أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُسْلِمًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ إِنَّ سَيِّدَهُ إِنْ عَلِمَ مَكَانَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً وَهُوَ يَرْجُو حَيَاتَهُ وَرَجْعَتَهُ فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُزَكِّيَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ إِبَاقُهُ قَدْ طَالَ وَيَئِسَ مِنْهُ فَلَا أَرَى أَنْ يُزَكِّيَ عَنْهُ قَالَ مَالِكٌ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَمَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
27 -
بَابُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ
ضِيفَتْ لِلْفِطْرِ لِوُجُوبِهَا بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُرَادُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ زَكَاةُ النُّفُوسِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْخِلْقَةِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي:" «فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ» "، وَعَبَّرَ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْوُجُوبِ إِشَارَةٌ إِلَى حَمْلِ الْفَرْضِ فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُضَعِّفًا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالسُّنِّيَّةِ، يَعْنِي فَلَا يَقْدَحُ فِي حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ الْكَافَّةُ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لَمْ يُنْسَخْ خِلَافًا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ كَيْسَانَ الْأَصَمِّ فِي قَوْلِهِمَا أَنَّهُ نُسِخَ لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ:" «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ» "، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مَجْهُولًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّسْخِ لِاحْتِمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضٍ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضٍ آخَرَ.
626 -
624 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ غِلْمَانِهِ) أَرِقَّائِهِ (الَّذِينَ بِوَادِي الْقُرَى) بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَقْصُورٌ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ (وَبِخَيْبَرَ) بِمُعْجَمَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَرَاءٍ - بِوَزْنِ جَعْفَرٍ - مَدِينَةٌ كَبِيرَةٌ، ذَاتِ حُصُونٍ وَمَزَارِعَ وَنَخْلٍ كَثِيرٍ، عَلَى نَحْوِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى جِهَةِ الشَّامِ.
(مَالِكٌ أَنْ أَحْسَنَ مَا سَمِعْتُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ، أَنَّ الرَّجُلَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ يَضْمَنُ نَفَقَتَهُ) ضَمَانُ وُجُوبٍ كَمَا قَالَ (وَلَا بُدَّ لَهُ) فَلَا فِرَاقَ وَلَا مَحَالَةَ (مِنْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ) كَزَوْجَتِهِ (وَالرَّجُلُ يُؤَدِّي عَنْ مُكَاتَبِهِ) لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ السَّيِّدَ يُمَوِّنُهُ، وَلَكِنَّهُ لِكِتَابَتِهِ اشْتُرِطَ عَلَيْهِ مَا هُوَ لَازِمٌ لِلسَّيِّدِ مِنْ مُؤْنَتِهِ، فَبَقِيَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى السَّيِّدِ، وَبِهَا قَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَوِّنُهُ وَجَائِزٌ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَنِيًّا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (وَمُدَبَّرِهِ) فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ كَالْقِنِّ (وَرَقِيقِهِ كُلِّهِمْ غَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ) حَاضِرِهِمْ عَطْفٌ عَامٌّ قُدِّمَ عَلَيْهِ الْخَاصُّ اهْتِمَامًا بِهِ لِفَضْلِهِ نَحْوَ:{سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87](سُورَةُ الْحِجْرِ: الْآيَةُ 87) وَقَيَّدَ الْجَمِيعَ بِقَوْلِهِ: (مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِتِجَارَةٍ أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَا زَكَاةَ فِطْرٍ فِي رَقِيقِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِمُ الزَّكَاةَ وَلَا تَجِبُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ زَكَاتَانِ.
(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُسْلِمًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ) لِأَنَّ الْحَدِيثَ قُيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ: إِنَّ سَيِّدَهُ إِنْ عَلِمَ مَكَانَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً وَهُوَ يَرْجُو حَيَاتَهُ وَرَجْعَتَهُ) رُجُوعَهُ إِلَيْهِ (فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُزَكِّيَ عَنْهُ) وُجُوبًا (وَإِنْ كَانَ إِبَاقُهُ قَدْ طَالَ وَيَئِسَ مِنْهُ فَلَا أَرَى أَنْ يُزَكِّيَ عَنْهُ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا زَكَاةَ عَلَى سَيِّدِهِ فِيهِمَا، وَالشَّافِعِيُّ: يُزَكِّي إِنْ عَلِمَ حَيَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْجَ رَجْعَتَهُ، وَأَحْمَدُ: إِنْ عَلِمَ مَكَانَهُ.
(قَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَمَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ) قَالَ الْجُمْهُورُ: أَيْ أَلْزَمَ وَأَوْجَبَ (عَلَى النَّاسِ) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدَّرَ،
وَرَدَّهُ الْبَاجِيُّ: بِأَنَّ " عَلَى " تَقْتَضِي الْإِيجَابَ، فَلَا يَصِحُّ أَنَّ " فَرَضَ " بِمَعْنَى " قَدَّرَ "، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُوجَبِ عَنْهُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ قَدَّرَ، ( «عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ) فَعُمُومُهُ شَامِلٌ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَهَذَا نَصٌّ مِنَ الْإِمَامِ بِصِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْعُمُومِ وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ زَكَاةُ فِطْرٍ إِنَّمَا هِيَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى.
[بَاب مَكِيلَةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
28 -
بَابُ مَكِيلَةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ مَا كِيلَ بِهِ، وَكَذَا الْمِكْيَالُ وَالْمَكِيلُ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَزَكَاةُ رَمَضَانَ، وَزَكَاةُ الصَّوْمِ، وَصَدَقَةُ الرُّءُوسِ، وَزَكَاةُ الْأَبْدَانِ.
627 -
625 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ) أَلْزَمَ وَأَوْجَبَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (زَكَاةَ الْفِطْرِ) وَمَا أَوْجَبَهُ فَبِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: قَالَ مَالِكٌ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 43) أَيْ: فِي عُمُومِهَا، فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم تَفَاصِيلَ ذَلِكَ؛ وَمِنْ جُمْلَتِهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14](سُورَةُ الْأَعْلَى: الْآيَةُ 14) نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ إِثْبَاتُ الْفَلَاحِ لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ فِي الْآيَةِ:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15](سُورَةُ الْأَعْلَى: الْآيَةُ 15) فَيَلْزَمُ وُجُوبُ صَلَاةِ الْعِيدِ لِخُرُوجِهَا بِدَلِيلِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ: " «هُنَّ خَمْسٌ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» "، وَقَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ اللَّبَّانِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَأَوَّلُوا " فَرَضَ " بِمَعْنَى قَدَّرَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هُوَ أَصْلُهُ لُغَةً، لَكِنْ نُقِلَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ إِلَى الْوُجُوبِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ تَسْمِيَتُهَا زَكَاةً، وَلَفْظَةُ عَلَى، وَالْأَمْرُ بِهَا فِي حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَاجِبٌ لَا فَرْضٌ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا (مِنْ رَمَضَانَ) فَتَجِبُ بِغُرُوبِ شَمْسِ لَيْلَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْفِطْرِ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَقِيلَ: وَقْتُ وُجُوبِهَا طُلُوعُ فَجْرِ يَوْمِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْفِطْرُ الْحَقِيقِيُّ بِالْأَكْلِ بَعْدَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَمُطَرِّفٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ:" «وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ» "، قَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ: مَبْنَى الْخِلَافِ أَنَّ الْمُرَادَ الْفِطْرُ الْمُعْتَادُ فِي سَائِرِ الشَّهْرِ فَتَجِبُ بِالْغُرُوبِ، أَوِ الْفِطْرُ الطَّارِئُ بَعْدَهُ فَتَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الِاسْتِدْلَالُ لِهَذَا الْحُكْمِ بِالْحَدِيثِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْفِطْرِ لَا تَدُلُّ عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ فَيُطْلَبُ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ، (عَلَى النَّاسِ صَاعًا) نُصِبَ تَمْيِيزًا أَوْ مَفْعُولًا ثَانِيًا (مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) وَلَمْ تَخْتَلِفِ الطُرُقُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَيْنِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ نَافِعٍ فَزَادَ فِيهِ: السُّلْتَ وَالزَّبِيبَ، وَقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ بِوَهْمِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهِ (عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ) أَخَذَ بِظَاهِرِهِ دَاوُدُ وَحْدَهُ فَأَوْجَبَهَا عَلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الِاكْتِسَابِ لَهُمَا، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ وَالنَّاسُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةَ الْفِطْرِ» "، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا عَلَى السَّيِّدِ لِلْعَبْدِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ، إِذْ لَيْسَ لِسَيِّدِهِ انْتِزَاعُ مَالِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ " عَلَى " بِمَعْنَى " عَنْ " أَيْ: إِنَّ السَّيِّدَ يُخْرِجُهَا عَنْ عَبْدِهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: أَوْ عَلَى بَابِهَا لَكِنْ يَحْمِلُهَا السَّيِّدُ عَنْهُ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ كَمَا تَقُولُ: يَلْزَمُكَ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّكَ دِرْهَمٌ.
وَقَالَ أَبُو الطِّيِّبِ وَغَيْرُهُ: " عَلَى " بِمَعْنَى " عَنْ " لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُطَالَبُ بِأَدَائِهَا، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ شَيْءٍ عَلَى شَخْصٍ مُطَالَبَتُهُ بِهِ بِدَلِيلِ الْفِطْرَةِ الْمُتَحَمَلَةِ عَنْ غَيْرِ مَنْ لَزِمَتْهُ وَالدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِقَتْلِ الْخَطَأِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْعَبْدُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يُكَلَّفَ بِالْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ مَجَازٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَطْفُ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ يَعْنِي فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ.
(ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) ظَاهِرُهُ وُجُوبُهَا عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ: تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا إِلْحَاقًا بِالنَّفَقَةِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أُعْسِرَ كُفِّرَتْ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً وَجَبَتْ فِطْرَتُهَا عَلَى السَّيِّدِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَافْتَرَقَا، وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُخْرِجُ عَنْ زَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ مَعَ أَنَّ نَفَقَتَهَا تَلْزَمُهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ مُرْسَلًا نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَزَادَ فِيهِ: مِمَّنْ تَمُونُونَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَزَادَ فِي إِسْنَادِهِ ذِكْرَ عَلَى؛ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ:" «عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ» "(مِنَ الْمُسْلِمِينَ) دُونَ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ عَنْ نَفْسِهِ اتِّفَاقًا، وَلَا عَنْ مُسْتَوْلِدَتِهِ الْمُسْلِمَةِ بِإِجْمَاعٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَكِنْ فِيهِ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ بِالْوُجُوبِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إِخْرَاجُهَا عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقَ لِعُمُومِ حَدِيثِ:" «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ» "، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ، فَعُمُومُ قَوْلِهِ " فِي عَبْدِهِ " مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ:" مِنَ الْمُسْلِمِينَ ".
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: " مِنَ الْمُسْلِمِينَ " صِفَةٌ لِلْمُخْرِجِينَ لَا الْمُخْرَجِ عَنْهُمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْعَبْدَ وَالصَّغِيرَ وَهُمَا مِمَّنْ يُخْرَجُ عَنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْإِسْلَامَ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُخْرِجِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظٍ:" «عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا» " الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ مِقْدَارِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بَيَانَ مَنْ يُخْرِجُهَا عَنْ نَفْسِهِ مِمَّنْ يُخْرِجُهَا عَنْ غَيْرِهِ بَلْ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ.
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِمْ فِيهِ: عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُخْرِجِ وَبَيْنَ الْغَيْرِ مُلَابَسَةٌ، كَالصَّغِيرِ وَوَلِيِّهِ وَالْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ وَالْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ " مِنَ الْمُسْلِمِينَ " حَالٌ مِنَ الْعَبْدِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَتَنْزِيلُهَا عَلَى الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ الْبَيَانِ أَنَّهَا جَاءَتْ مُزْدَوِجَةً عَنِ التَّضَادِّ لِلِاسْتِيعَابِ لَا لِلتَّخْصِيصِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّدَاخُلُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي مَنْ وَجَبَتْ فَيُعْلَمُ مِنْ نُصُوصٍ أُخَرَ.
وَقَالَ فِي الْمَصَابِيحِ: هُوَ نَصٌّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ النَّكِرَاتِ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِـ " أَوْ "، فَيَنْدَفِعُ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ إِنَّهُ خِطَابٌ يَتَوَجَّهُ مَعْنَاهُ إِلَى السَّادَةِ قَاصِدًا بِذَلِكَ الِاحْتِجَاجَ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، اهـ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ بَعْضَهُمُ احْتَجَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُخْرِجُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ حُرِّهِمْ وَعَبْدِهِمْ، صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ مِنَ الرَّقِيقِ "، قَالَ: وَابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ عَنْهُمْ تَطَوُّعًا وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، هَذَا وَقَدْ زَعَمَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، وَتَبِعَهُمُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ:" مِنَ الْمُسْلِمِينَ " دُونَ أَصْحَابِ نَافِعٍ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: كُلُّ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ قَالُوا فِيهِ " مِنَ الْمُسْلِمِينَ " إِلَّا قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ وَحْدَهُ فَلَمْ يَقُلْهَا، قَالَ: وَأَخْطَأَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهَا، فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ عَنْ نَافِعٍ مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ؛ أَيْ: عِنْدِ الْبُخَارِيِّ، وَكَثِيرُ بْنُ فَرَقَدٍ؛ أَيْ: عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ؛ أَيْ: عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ؛ أَيْ: عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ؛ أَيْ: عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ زَادَ الْحَافِظُ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ وَعَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فِي زِيَادَتِهَا وَالضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْمُعَلَّى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنُ الْجَارُودِ، قَالَ: وَذَكَرَ شَيْخُنَا ابْنُ
الْمُلَقَّنِ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ثَلَاثَتِهِمْ عَنْ نَافِعٍ بِالزِّيَادَةِ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ تَصَانِيفَ الْبَيْهَقِيِّ فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ: وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِيمَا رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَحَدٌ مِثْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَى أَيُّوبَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ فِي زِيَادَتِهَا، وَلَيْسَ فِي الْبَاقِينَ مِثْلَ يُونُسَ، لَكِنْ فِي الرَّاوِي عَنْهُ وَهُوَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ مَقَالٌ، ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِهِ:" وَالصَّغِيرُ " وُجُوبُهَا عَلَيْهِ لَكِنْ يُخْرِجُ عَنْهُ وَلَيُّهُ فَتَجِبُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ وَإِلَّا فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هِيَ عَلَى الْأَبِ مُطْلَقًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ صَامَ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «صَدَقَةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» "، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّطْهِيرَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، كَمَا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْنِبْ كَمُتَحَقِّقِ الصَّلَاحِ، وَعَلَى مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِلَحْظَةٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: " طُهْرَةٌ " دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ كَالْغَنِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا لِحَدِيثِ:" «لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ".
قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا مَالِيَّةٌ، نَعَمْ؛ الشَّرْطُ أَنْ يَفْضُلَ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحِ:" «لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» " وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَذَلِكَ بِصَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
628 -
626 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ) بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ (ابْنِ أَبِي سَرْحٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، الْقُرَشِيِّ (الْعَامِرِيِّ) الْمَكِّيِّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مَاتَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ (أَنَّهُ «سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ» ) قَالَ عِيَاضٌ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ " كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا " مِنْ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ وَإِقْرَارُهُ وَهَذَا إِقْرَارُهُ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْأُخْرَى فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا مُسْنَدَةٌ؛ أَيْ: مَرْفُوعَةٌ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ الَّتِي كَانَتْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ، وَيَأْمُرُ بِقَبْضِهَا وَدَفْعِهَا، اهـ.
(صَاعًا مِنْ طَعَامٍ) أَيْ: حِنْطَةٍ، فَإِنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ لَهُ، وَبِدَلِيلِ ذِكْرِ الشَّعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ، وَالْحِنْطَةُ أَعْلَاهَا، فَلَوْلَا
أَنَّهُ أَرَادَهَا بِذَلِكَ لِذِكْرِهَا عِنْدَ التَّفْصِيلِ كَغَيْرِهَا، وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهَا بِحَرْفِ " أَوِ " الْفَاصِلَةِ، وَقَدْ كَانَ الطَّعَامُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحِنْطَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، حَتَّى إِذَا قِيلَ اذْهَبْ إِلَى سُوقِ الطَّعَامِ فُهِمَ مِنْهُ سُوقُ الْقَمْحِ، وَإِذَا غَلَبَ الْعُرْفُ نَزَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ، خُطُورُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَغْلَبُ؛ كَذَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ حَكَى بَعْضُهُمُ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: غَلِطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ الْحِنْطَةُ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَجْمَلَ الطَّعَامَ ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرَ وَالزَّبِيبَ وَالْأَقِطَ وَالتَّمْرَ» كَمَا فِي الصَّحِيحِ، زَادَ الطَّحَاوِيُّ: وَلَا نُخْرِجُ غَيْرَهُ، قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ: " وَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ قُوتًا قَبْلَ هَذَا وَلَا كَثِيرَةً، وَلَا نَعْلَمُ فِي الْفَتْحِ خَبَرًا ثَابِتًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْبُرُّ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْهُ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا مَا لَمْ يَكُنْ قُوتًا مَوْجُودًا؟ وَأَيَّدَهُ الْحَافِظُ بِرِوَايَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ غَيْرُ الْحِنْطَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الذُّرَةُ فَإِنَّهُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَهِيَ قُوتٌ غَالِبٌ لَهُمْ.
وَقَدْ رَوَى الْجَوْزَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «صَاعًا مِنْ تَمْرٍ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ أَوْ ذُرَةٍ» .
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. . . إِلَخْ، بَعْدَ قَوْلِهِ:" مِنْ طَعَامٍ " مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لَكِنَّ مَحِلَّهُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ أَشْرَفَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ.
(أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ) أَوْ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ يُخْرِجَ الشَّعِيرَ مِنْ قُوتِهِ أَوِ التَّمْرَ مَعَ وُجُودِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
(أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ لَبَنٌ فِيهِ زُبْدَةٌ.
(أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ) فَيَخْرُجُ مِنْ أَغْلَبِ الْقُوتِ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ، وَخَالَفَ فِي الْبُرِّ وَالزَّبِيبِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، فَقَالَ: لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَرَدَّهُ الْبَاجِيُّ وَعِيَاضٌ بِالْإِجْمَاعِ السَّابِقِ عَلَيْهِمَا، وَقَاسَ عَلَيْهَا مَالِكٌ مَا فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ الْأُرْزُ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ وَالسُّلْتُ، وَأَجَازَ مَالِكٌ إِخْرَاجَهَا مِنَ الْأَقِطِ وَأَبَاهُ الْحَسَنُ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَكَيْفَ هَذَا مَعَ نَصِّ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ (وَذَلِكَ بِصَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، وَالْمُدُّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ عِنْدِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: الْمُدُّ رِطْلَانِ وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ لَمَّا تَنَاظَرَ مَعَ مَالِكٍ فَأَرَاهُ الصِّيعَانَ الَّتِي تَوَارَثَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ أَسْلَافِهِمْ مِنْ زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، زَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:" فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ ".
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ "، زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ:" وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ، وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ قَالَ: أَرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ "، وَلِمُسْلِمٍ:" أَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ يَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ "، وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ تَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْقَمْحِ مُدَّانِ لَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ مُعَاوِيَةُ عَلَى
ذَلِكَ.
فَفِي مُسْلِمٍ؛ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ: لَا أُخْرِجُ إِلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلِأَبِي دَاوُدَ: لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إِلَّا صَاعًا.
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمِ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ؟ فَقَالَ: لَا؛ تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْمَلُ بِهَا. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ: فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ النَّاسُ الْمُدَّيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وَهَنِ مَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا بِالْمُدَّيْنِ فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ، خِلَافًا لِلطَّحَاوِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ مَنْ قَالَ بِالْمُدَّيْنِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ قَدْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَلُ صُحْبَةً مِنْهُ وَأَعْلَمُ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ صَرَّحَ مُعَاوِيَةُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لَا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الِاتِّبَاعِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْآثَارِ وَتَرْكِ الِاجْتِهَادِ مَعَ النَّصِّ.
وَفِي فِعْلِ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَحْمُودٌ لَكِنَّهُ مَعَ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، فَالْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُتَسَاوِيَةٌ فِي مِقْدَارِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُتَخَالِفَةٌ فِي الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِخْرَاجُ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا جَعْلُ نِصْفِ صَاعٍ مِنَ الْحِنْطَةِ بَدَلَ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا، فَهُوَ اجْتِهَادٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قِيَمَ مَا عَدَا الْحِنْطَةَ مُتَسَاوِيَةٌ، وَكَانَتِ الْحِنْطَةُ غَالِيَةَ الثَّمَنِ إِذْ ذَاكَ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ وَلَا يَنْضَبِطُ، وَرُبَّمَا لَزِمَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِخْرَاجُ آصُعٍ مِنْ حِنْطَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» "، فَجَعَلَ لِنَاسٍ عَدَلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ، فَمُرَادُهُ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ وَمَنْ تَبِعَهُ لَا جَمِيعُ الصَّحَابَةِ كَمَا فَهِمَ الطَّحَاوِيُّ فَلَا إِجْمَاعَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ:" «صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ عَدَلَ النَّاسُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِصَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ» "، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ كَثُرَتِ الْحِنْطَةُ فَجَعَلَ عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ مَكَانَ صَاعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ " فَقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ بِوَهَمِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَوْضَحَ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَوَّلُ أَوْلَى، اهـ. مُلَخَّصًا مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.
وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِزِيَادَاتٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَّا التَّمْرَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَعِيرًا قَالَ مَالِكٌ وَالْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا وَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَزَكَاةُ الْعُشُورِ كُلُّ ذَلِكَ بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الظِّهَارَ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ بِمُدِّ هِشَامٍ وَهُوَ الْمُدُّ الْأَعْظَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
629 -
627 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَّا التَّمْرَ) لِأَنَّهُ أَغْلَبُ قُوتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِهِ (إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَعِيرًا) وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ
نَافِعٍ: " فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ فَأَعْطَى شَعِيرًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَعْوَزَ بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ احْتَاجَ، يُقَالُ: أَعْوَزَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ أَفْضَلُ مَا يُخْرَجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَقَدْ رَوَى الْفِرْيَابِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: قَدْ أَوْسَعَ اللَّهُ وَالْبُرُّ أَفْضَلُ مِنَ التَّمْرِ أَفَلَا يُعْطَى الْبُرُّ؟ قَالَ: لَا أُعْطِي إِلَّا كَمَا يُعْطِي أَصْحَابِي، وَاسْتُنْبِطَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ مِنْ أَعْلَى الْأَصْنَافِ الَّتِي يُقْتَاتُ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّمْرَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ فَهِمَ مِنْهُ خُصُوصِيَّةَ التَّمْرِ بِذَلِكَ؛ كَذَا فِي الْفَتْحِ، (قَالَ مَالِكٌ: وَالْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا) كَصِيَامٍ وَيَمِينٍ وَغَيْرِهِمَا (وَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَزَكَاةُ الْعُشُورِ) الْحُبُوبُ الَّتِي فِيهَا الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ (كُلُّ ذَلِكَ بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ كَمَا مَرَّ (إِلَّا الظِّهَارَ؛ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ بِمُدِّ هِشَامِ) بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَامِلِ الْمَدِينَةِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، (وَهُوَ الْمَدُّ الْأَعْظَمُ) أَيِ: الْأَكْبَرِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ مُدٌّ وَثُلْثَانِ بِمُدِّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مُدَّانِ، وَذَلِكَ لِلتَّغْلِيظِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ.
[بَاب وَقْتِ إِرْسَالِ زَكَاةِ الْفِطْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُخْرِجُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوا إِلَى الْمُصَلَّى قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ وَاسِعٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ الْغُدُوِّ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَبَعْدَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
29 -
بَابُ وَقْتِ إِرْسَالِ زَكَاةِ الْفِطْرِ
630 -
628 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ) وَهُوَ مَنْ نَصَّبَهُ الْإِمَامُ لِقَبْضِهَا (قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ) لِجَوَازِ تَقْدِيمِهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا بِهَذَا الْقَدْرِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ» " الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:" أَنَّهُ أَمْسَكَ الشَّيْطَانَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَهُوَ يَأْخُذُ مِنَ التَّمْرِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَهَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ أَيُّوبَ: " قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَتَى كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي؟ قَالَ: إِذَا قَعَدَ الْعَامِلُ، قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقْعُدُ؟ قَالَ: قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ " فَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا؛ أَيِ: الَّذِي نَصَّبَهُ الْإِمَامُ لِقَبْضِهَا، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مَالِكٍ هَذِهِ، وَأَيُّوبَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ: أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ التِّينِ، مَعْنَاهُ مَنْ قَالَ أَنَا فَقِيرٌ.
(مَالِكٌ أَنَّهُ رَأَى أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُخْرِجُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَا إِلَى الْمُصَلَّى) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَئِمَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15](سُورَةُ الْأَعْلَى: الْآيَةُ 14، 15) ، رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: " أُنْزِلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ» وَاتِّبَاعًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ» "، وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ كَمَا (قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ وَاسِعٌ) أَيْ: جَائِزٌ، (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) لِلتَّبَرُّكِ (أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ الْغُدُوِّ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَبَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ الْغُدُوِّ وَهُوَ الْعَوْدُ مِنَ الْمُصَلَّى، فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَحَرُمَ تَأْخِيرُ أَدَائِهَا عَنْهَا إِلَّا لِعُذْرٍ كَغَيْبَةِ مَالِهِ أَوِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ عَنِ الطَّلَبِ فِيهِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " «أَغْنَوْهُمْ - يَعْنِي الْمَسَاكِينَ - عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ» " رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ زَمَنِهَا بَلْ يَجِبُ قَضَاؤُهَا فَوْرًا، وَالتَّعْبِيرُ بِالصَّلَاةِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ مِنْ فِعْلِهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، فَإِنْ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ اسْتُحِبَّ الْأَدَاءُ قَبْلَهَا أَوَّلَ النَّهَارِ تَوْسِعَةً عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ.
[بَاب مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي عَبِيدِ عَبِيدِهِ وَلَا فِي أَجِيرِهِ وَلَا فِي رَقِيقِ امْرَأَتِهِ زَكَاةٌ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَخْدِمُهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَتَجِبُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي أَحَدٍ مِنْ رَقِيقِهِ الْكَافِرِ مَا لَمْ يُسْلِمْ لِتِجَارَةٍ كَانُوا أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
30 -
بَابُ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ
هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَفْهُومُ التَّرْجَمَةِ الْأُولَى أُتِيَ بِهَا وَبِمَدْخُولِهَا زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ لِلنَّصِّ عَلَى أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي عَبِيدِ عَبِيدِهِ) زَكَاةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَوِّنُهُمْ، إِذْ نَفَقَتُهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ كَمَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، (وَلَا فِي أَجِيرِهِ) أَيْ: مَنَ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ وَنَحْوِهَا وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ بِأَكْلِهِ، (وَلَا فِي رَقِيقِ امْرَأَتِهِ زَكَاةٌ) فَيُؤَدِّي عَنْهَا لَا عَنْ رَقِيقِهَا (إِلَّا مَنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْدِمُهُ) أَيِ: الرَّجُلُ أَوْ رَقِيقُ الْمَرْأَةِ يَخْدِمُهَا، (وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَتَجِبُ عَلَيْهِ) زَكَاةُ فِطْرِهِ، (وَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي أَحَدٍ مِنْ رَقِيقِهِ الْكَافِرِ مَا) أَيْ: مُدَّةُ كَوْنِهِ (لَمْ يُسْلِمْ) سَوَاءٌ (لِتِجَارَةٍ كَانُوا أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ) لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ " مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَلَمْ يَخُصَّ تَاجِرًا مِنْ غَيْرِهِ فَعُمُومُهُ نَفْيُهَا عَنِ الْكَافِرِ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَهُ الْمِنَّةُ وَالْفَضْلُ، وَأَسْأَلُهُ الْعَوْنُ عَلَى التَّمَامِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
[كِتَاب الصِّيَامِ]
[بَاب مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِلصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الصِّيَامِ بَاب مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِلصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كِتَابُ الصِّيَامِ
بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْيَاءِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِصَامَ، وَهُوَ رُبْعُ الْإِيمَانِ لِحَدِيثِ:" «الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» "، وَحَدِيثِ:" «الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» "، وَأَتْبَعَهُ الْإِمَامُ لِلزَّكَاةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «بُنِي الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَالْحَجُّ وَصِيَامُ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا؛ صِيَامُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَأَفَادَ الْخَطِيبُ أَنَّ اسْمَ الرَّجُلِ الْقَائِلِ لِابْنِ عُمَرَ يَزِيدُ بْنُ بِشْرٍ السَّكْسَكِيُّ، وَفِيهِ إِفَادَةٌ أَنَّ رِوَايَةَ حَنْظَلَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ بِتَقْدِيمِ الْحَجِّ مَرْوِيَّةٌ بِالْمَعْنَى، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ رَدَّ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الرَّجُلِ لِتَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ أَوْ حَضَرَ ذَلِكَ وَنَسِيَهُ، وَتَجْوِيزُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَنَسِيَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَدِّهِ عَلَى الرَّجُلِ بَعِيدٌ، لِأَنَّ تَطَرُّقَ النِّسْيَانِ إِلَى الرَّاوِي أَوْلَى مِنَ الصَّحَابِيِّ، كَيْفَ! وَفِيَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَنْظَلَةَ الْمَذْكُورَةِ بِتَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَجِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ بِتَقْدِيمِ الصِّيَامِ عَلَى الزَّكَاةِ فَيُقَالُ: إِنَّ الصَّحَابِيَّ سَمِعَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، هَذَا بَعِيدٌ كَمَا فِي فَتْحِ الْبَارِي.
وَشُرِعَ الصِّيَامُ لِفَوَائِدَ؛ أَعْظَمُهَا كَسْرُ النَّفْسِ وَقَهْرُ الشَّيْطَانِ، فَالشِّبَعُ نَهْرٌ فِي النَّفْسِ يَرِدُهُ الشَّيْطَانُ، وَالْجُوعُ نَهْرٌ فِي الرُّوحِ تَرِدُهُ الْمَلَائِكَةُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَنِيَّ يَعْرِفُ قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِإِقْدَارِهِ عَلَى مَا مَنَعَ مِنْهُ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَرَاءِ مِنْ فُضُولِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ، فَإِنَّهُ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَحُصُولِ الْمَشَقَّةِ لَهُ بِذَلِكَ يَتَذَكَّرُ بِهِ مَنْ مُنِعَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ شُكْرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْغِنَى، وَيَدْعُوهُ إِلَى رَحْمَةِ أَخِيهِ الْمُحْتَاجِ وَمُوَاسَاتِهِ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ آدَمَ لَمَّا تَابَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ تَأَخَّرَ قَبُولُ تَوْبَتِهِ لِمَا بَقِيَ فِي جَسَدِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلَمَّا صَفَا جَسَدُهُ مِنْهَا تِيبَ عَلَيْهِ، فَفُرِضَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ صِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ السَّنَدِ فِيهِ إِلَى مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَهَيْهَاتَ وِجْدَانُ ذَلِكَ، اهـ.
وَهُوَ لُغَةُ الْإِمْسَاكِ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ قَوْلًا كَقَوْلِهِ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26](سُورَةُ مَرْيَمَ: الْآيَةُ 26) أَيْ: إِمْسَاكًا وَسُكُوتًا أَوْ فِعْلًا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ
…
تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
أَيْ: مُمْسِكَةٌ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَشَرْعًا: إِمْسَاكٌ عَنِ الْمُفْطِرِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِمْسَاكُ الْمُكَلَّفِ بِالنِّيَّةِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ إِلَى الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عَنْ تَنَاوُلِ الْأَطْيَبَيْنِ وَالِاسْتِمْنَاءِ، فَهُوَ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ، وَإِطْلَاقُ الْعَمَلِ عَلَيْهِ تَجُوزُ، انْتَهَى.
وَيَقَعُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةٌ: وَالِاعْتِكَافُ
وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَعَ أَنَّهُ تَرْجَمَ لَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ صَحَّ عَنِ الْإِمَامِ ذَلِكَ هُنَا، فَلَعَلَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الصِّيَامَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ رحمه الله، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ لِكَوْنِهَا غَالِبًا بِرَمَضَانَ.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ابْتَدَأَ بِهَا تَبَرُّكًا وَتَفَنُّنًا، فَأَخَّرَهَا عَنْ تَرْجَمَةِ كِتَابِ الصِّيَامِ وَقَدَّمَهَا فِي الزَّكَاةِ، وَكَفَى بِالتَّفَنُّنِ نُكْتَةً وَفِي نُسَخٍ تَقْدِيمُهَا عَلَى التَّرْجَمَةِ.
1 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِلصَّائِمِ وَالْفِطَرِ فِي رَمَضَانَ
الْأَكْثَرُ أَنَّ الْهِلَالَ الْقَمَرُ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُسَمَّى الْقَمَرُ لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ هِلَالًا، وَفِي لَيْلَةِ سِتٍّ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَيْضًا هِلَالًا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ يُسَمَّى قَمَرًا.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهِلَالُ لِثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ هُوَ قَمَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْهِلَالُ هُوَ الشَّهْرُ بِعَيْنِهِ، وَتَعْبِيرُ الْإِمَامِ بِرَمَضَانَ إِيمَاءً إِلَى جَوَازِ ذِكْرِهِ بِدُونِ شَهْرٍ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ فَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» " الْحَدِيثَ.
وَكَذَا قَالَ عِيَاضٌ: أَنَّهُ الصَّحِيحُ، وَمَنَعَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ لِحَدِيثِ:" «لَا تَقُولُوا رَمَضَانَ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ قُولُوا شَهْرَ رَمَضَانَ» " أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَضَعَّفَهُ، وَفَرَّقَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ فَقَالَ: إِنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى صَرْفِهِ إِلَى الشَّهْرِ كَصُمْنَا رَمَضَانَ جَازَ، وَإِلَّا امْتَنَعَ كَجَاءَ وَدَخَلَ، اهـ.
وَبِالْفَرْقِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمَذْهَبَانِ فَاسِدَانِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِنَهْيِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَهْيٌ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: أَنَّهُ اسِمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِيهِ أَثَرٌ ضَعِيفٌ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا تُطْلَقُ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ اسِمٌ لَمْ يَلْزَمْ كَرَاهَةٌ، وَالصَّوَابُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي إِطْلَاقِ رَمَضَانَ بِقَرِينَةٍ وَبِلَا قَرِينَةٍ.
633 -
629 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ» ) أَيْ: إِذَا لَمْ يَكْمُلْ شَعْبَانُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَظَاهِرُهُ إِيجَابُ الصَّوْمِ مَتَى
وُجِدَتِ الرُّؤْيَةُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِ الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَا بَعْدَهُ، وَخَالَفَ الشِّيعَةُ الْإِجْمَاعَ فَأَوْجَبُوهُ مُطْلَقًا، وَظَاهِرَهُ أَيْضًا النَّهْيُ عَنِ ابْتِدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَيَدْخُلُ فِيهِ صُورَةُ الْغَيْمِ وَغَيْرُهَا.
قَالَ الْبَاجِيُّ: مُقْتَضَاهُ مَعَ صَوْمِ آخِرِ شَعْبَانَ يُرِيدُ عَلَى مَعْنَى التَّلَقِّي لِرَمَضَانَ أَوِ الِاحْتِيَاطِ، وَأَمَّا نَفْلًا فَيَجُوزُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عِنْدَ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ؛ وَاسْتَحَبَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ الْفَصْلَ بَيْنَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ بِفِطْرِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَيَّامٍ، كَمَا اسْتَحَبُّوا الْفَصْلَ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ بِكَلَامٍ أَوْ مَشْيٍ أَوْ تَقَدُّمٍ أَوْ تَأَخُّرٍ مِنَ الْمَكَانِ، وَصَحَّ مَرْفُوعًا:" «إِذَا بَقِيَ نِصْفُ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا» " وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ:" «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلًا بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» ".
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ» ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ إِذَا صَامَ أَكْثَرَهُ.
(وَلَا تُفْطِرُوا) مِنْ صَوْمِهِ (حَتَّى تَرَوْهُ) أَيِ: الْهِلَالَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ رُؤْيَةَ جَمِيعِ النَّاسِ؛ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ إِلَى رُؤْيَتِهِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ الْعَدَدُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ وَهُوَ عَدْلَانِ، وَلَا يَثْبُتُ رَمَضَانُ بِعَدْلٍ وَاحِدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السُّنَنِ: قَالَ: " «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا» " لَكِنْ أَعَلَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ يُرْسِلُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِدُونِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ» "، وَهَذَا أَشْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَأَصَحُّهُمَا، لَكِنْ آخِرُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدْلَيْنِ، قَالَ فِي الْأُمِّ: لَا يَجُوزُ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ إِلَّا شَاهِدَانِ، وَلَا يَثْبُتُ شَوَّالٌ بِوَاحِدٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ، (فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَشَدِّ الْمِيمِ؛ أَيْ: حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْهِلَالِ غَيْمٌ فِي صَوْمِكُمْ أَوْ فِطْرِكُمْ (فَاقْدُرُوا لَهُ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الدَّالِّ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: " «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ» " إِذِ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِهِ، وَقَدْ أَوْرَثَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الْمُؤَكِّدَةُ عِنْدَ الْمُخَالِفِ شُبْهَةً بِحَسَبِ تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ: فَاقْدُرُوا لَهُ، فَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ قَدِّرُوا لَهُ تَمَامَ الْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، يُقَالُ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَأَقْدَرْتُهُ وَقَدَّرْتُهُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ؛ أَيِ: انْظُرُوا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَاحْسِبُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ اللَّاحِقِ، وَلِذَا أَتَى بِهِ الْإِمَامُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُفَسَّرٌ، وَلِذَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي رِوَايَةٍ بَلْ تَارَةً يَذْكُرُ هَذَا، وَتَارَةً يَذْكُرُ هَذَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَاهُ ضَيِّقُوا لَهُ وَقَدِّرُوهُ تَحْتَ السَّحَابِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ صَوْمَ لَيْلَةِ الْغَيْمِ عَنْ رَمَضَانَ.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: مَعْنَاهُ قَدِّرُوهُ بِحَسَبِ الْمَنَازِلِ،
وَكَذَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَمُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ التَّابِعِينَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَأَمَّا ابْنُ قُتَيْبَةَ فَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُعَرَّجُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا، قَالَ: وَنَقَلَهُ ابْنُ خُوَيْزِمَنْدَادَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ مِثْلُ الْجُمْهُورِ.
وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنِ الدَّاوُدِيِّ وَقَالَ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ قَالَهُ إِلَّا بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ رَجَعَ إِلَى الرُّؤْيَةِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِمَا صَامَ عَلَى الْحِسَابِ، فَإِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ قَضَاءَ شَيْءٍ مِنْ صَوْمِهِ قَضَاهُ.
وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ فَقَالَ: صَوْمُ يَوْمِ الثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا لَمْ يَرَ الْهِلَالَ مَعَ الصَّحْوِ لَا يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَرَاهَتُهُ هَكَذَا أُطْلِقَ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ حَاسِبٍ وَغَيْرِهِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَانَ مَحْجُوجًا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ قَوْلَهُ: " فَاقْدُرُوا لَهُ " خِطَابٌ لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذَا الْعِلْمِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 185) خِطَابٌ لِلْعَامَّةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَ وُجُوبُ رَمَضَانَ عِنْدَهُ مُخْتَلِفُ الْحَالِ؛ يَجِبُ عَلَى قَوْمٍ بِحِسَابِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَعَلَى آخَرِينَ بِحِسَابِ الْعَدَدِ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنِ النُّبَلَاءِ، انْتَهَى. بَلْ هُوَ تَحَكُّمٌ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ هُوَ مَعْرِفَةُ سَيْرِ الْأَهِلَّةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ فَأَمْرٌ دَقِيقٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ آحَادٌ، فَمَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ تُدْرَكُ بِأَمْرٍ مَحْسُوسٍ يُدْرِكُهُ مُرَاقِبُ النُّجُومِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَالَ بِهِ فِي حَقِّ الْعَارِفِ بِهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ بَلْ بِجَوَازِهِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ بِحِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16](سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ 16) وَالْآيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاهْتِدَاءِ فِي السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، قَالُوا: وَلَا يَصِحُّ أَنَّ الْمُرَادَ حِسَابُ الْمُنَجِّمِينَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَوْ كُلِّفُوا ذَلِكَ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفَهُ إِلَّا أَفْرَادٌ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا يُكَلِّفُ النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُهُ جَمَاهِيرُهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَقَالِيمَ عَلَى رَأْيِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَى فِي إِقْلِيمٍ دُونَ آخَرَ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَافِ الصَّوْمِ عِنْدَ أَهْلِهَا مَعَ كَوْنِ الصَّائِمِينَ مِنْهُمْ لَا يَصُومُونَ عَلَى طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ قَوْمًا مَا ثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَالشَّهْرُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مَقْطُوعٌ بِهِ لِقَوْلِهِ:" «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» " فَالتِّسْعُ وَعِشْرُونَ مَقْطُوعٌ بِهَا، وَإِنَّ غُمَّ كَمُلَ ثَلَاثِينَ وَهِيَ غَايَتُهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: عَدَمُ الْبِنَاءِ عَلَى حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ؛ لِأَنَّهُ حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْقِبْلَةُ وَالْوَقْتُ، قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ، وَلَا يَوْمِ الثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَنْ رَمَضَانَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الثَلَاثِينَ لَيْلَةَ غَيْمٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا، عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
634 -
630 (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ» ) قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةٍ يَعْنِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، قَالَ الْحَافِظُ: أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ شَهْرٌ بِعَيْنِهِ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" «صُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَمِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَاهُ حَصْرُهُ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ؛ أَيْ: أَنَّهُ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَهُوَ أَقَلُّهُ، وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ وَهُوَ أَكْثَرُهُ، فَلَا تَأْخُذُوا أَنْفُسَكُمْ بِصَوْمِ الْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا، وَلَا تَقْتَصِرُوا عَلَى الْأَقَلِّ تَخْفِيفًا، وَلَكِنِ اجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ مُرْتَبِطَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً بِاسْتِهْلَالِهِ كَمَا قَالَ.
( «فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» ) قَالَ الْحَافِظُ: اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ عَلَى قَوْلِهِ: " فَاقْدُرُوا لَهُ "، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ الْحَرْبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالزَّعْفَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ كِلَاهُمَا، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ:" «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَحْفُوظَةً فَيَكُونُ مَالِكٌ قَدْ رَوَاهُ بِاللَّفْظَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ.
قُلْتُ: وَمَعَ غَرَابَةِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَهُ مُتَابَعَاتٌ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: بِتَعْيِينِ الثَلَاثِينَ.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَكَمِّلُوا ثَلَاثِينَ» "، وَلَهُ شَوَاهِدُ عَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمُ، اهـ.
وَتَابَعَ مَالِكًا عَلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ:" فَاقْدُرُوا لَهُ " عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْهِلَالَ رُئِيَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ حَتَّى أَمْسَى وَغَابَتْ الشَّمْسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
635 -
631 - (مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرٍ) بِلَفْظِ الْحَيَوَانِ (ابْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ) بِكَسْرِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ رَوَاهُ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ مُتَّصِلًا، وَزَعْمُ أَنَّ مَالِكًا أَسْقَطَ عِكْرِمَةَ لِكَلَامِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِ فِيهِ لَا
يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَالِكًا ذَكَرَهُ فِي الْحَجِّ وَصَرَّحَ بِاسْمِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ:" «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ» ) أَيِ: ارْبُطُوا عِبَادَتَكُمْ بِرُؤْيَتِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ( «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ» ) وَفِي رِوَايَةٍ: الْعِدَّةُ؛ أَيِ: عِدَّةُ شَعْبَانَ (ثَلَاثِينَ) ، وَهَذَا أَتَى بِهِ الْإِمَامُ مُفَسِّرًا وَمُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ قَبْلَهُ: " فَاقْدُرُوا لَهُ "، وَخَيْرُ مَا فَسَّرَتْهُ بِالْوَارِدِ، وَلِذَا لَمَّا فَسَّرَهُ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ مِنْ تَابِعِيِ الْبَصْرَةِ الْعُلَمَاءِ الْفُضَلَاءِ بِنَحْوِ قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّهُ إِذَا غُمَّ يُسْتَدَلُّ بِالنُّجُومِ وَيُبَيِّتُ الصَّوْمَ وَيُجْزِيهِ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَفْضَلُ لَهُ لَوْ لَمْ يَقُلْهُ؛ كَذَا فِي الِاسْتِذْكَارِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ مُطَرِّفٍ.
- (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْهِلَالَ رُئِيَ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ (فِي زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِعَشِيٍّ) مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ (فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ حَتَّى أَمْسَى وَغَابَتِ الشَّمْسُ) وَلَا خِلَافَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلَّيْلَةِ الْقَادِمَةِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِحَدِيثِ أَبِي وَائِلٍ:" أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَهَّلَاهُ بِالْأَمْسِ "، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ حَبِيبٍ لِلْمَاضِيَةِ لِمَا رَوَاهُ النَّخَعِيُّ عَنْ عُمَرَ:" إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَأَفْطِرُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَهُ فَلَا تُفْطِرُوا " وَهَذَا مُفَصَّلٌ وَالْأَوَّلُ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " نَهَارًا "، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَالثَّانِي مُنْقَطِعٌ، فَالنَّخَعِيُّ لَمْ يَدْرِكْ عُمَرَ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَرَاوِيهِ عَنِ النَّخَعِيِّ مَجْهُولٌ.
قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي الَّذِي يَرَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ أَنَّهُ يَصُومُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ وَمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مَأْمُونًا وَيَقُولُ أُولَئِكَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَدْ رَأَيْنَا الْهِلَالَ وَمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ نَهَارًا فَلَا يُفْطِرْ وَيُتِمُّ صِيَامَ يَوْمِهِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ هِلَالُ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ إِذَا صَامَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَجَاءَهُمْ ثَبْتٌ أَنَّ هِلَالَ رَمَضَانَ قَدْ رُئِيَ قَبْلَ أَنْ يَصُومُوا بِيَوْمٍ وَأَنَّ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيَّةَ سَاعَةٍ جَاءَهُمْ الْخَبَرُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْعِيدِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ جَاءَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
635 -
632 - (قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِي الَّذِي يَرَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ أَنَّهُ يَصُومُ) وُجُوبًا، (لَا يَنْبَغِي) لَا يَجُوزُ (لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ) وَبِهِ قَالَ
الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَشَرِيكٌ وَإِسْحَاقُ: لَا يَصُومُ حَتَّى يَحْكُمَ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِنْ أَفْطَرَ عَمْدًا كَفَّرَ وَقَضَى عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ الْأَكْثَرُ: لَا كَفَّارَةَ لِلشُّبْهَةِ.
(وَمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مَأْمُونًا) مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْبِدَعِ (وَيَقُولُ أُولَئِكَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَدْ رَأَيْنَا الْهِلَالَ) فَمَنَعَ مِنْهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْأَكْثَرُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَشْهَبُ: يُفْطِرُ وَإِنْ خَافَ التُّهْمَةَ لَمْ يُفْطِرْ، وَيَعْتَقِدُ الْفِطْرَ الْبَاجِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
(وَمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ نَهَارًا فَلَا يُفْطِرُ وَيَتِمُّ صِيَامَ يَوْمِهِ، ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ هِلَالُ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي) اتِّفَاقًا فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ فِيمَا قَبْلَهُ كَمَا مَرَّ.
(قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: إِذَا صَامَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَجَاءَهُمْ ثَبْتٌ) بِسُكُونِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا، (أَنَّ هِلَالَ رَمَضَانَ قَدْ رُئِيَ قَبْلَ أَنْ يَصُومُوا بِيَوْمٍ وَأَنَّ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ، فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ) وُجُوبًا (مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيَّةَ سَاعَةٍ جَاءَهُمُ الْخَبَرُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْعِيدِ؛ إِنْ كَانَ ذَلِكَ جَاءَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ) لَا فِي الْيَوْمِ وَلَا مِنَ الْغَدِ لِخُرُوجِ وَقْتِهَا فَلَوْ قُضِيَتْ لَأَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَائِرَ السُّنَنِ لَا تُقْضَى.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: يَقْضُونَهَا مِنَ الْغَدِ فِي الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى لِمَا فِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ: " أُغْمِيَ عَلَيْنَا هِلَالُ شَوَّالٍ وَأَصْبَحْنَا صِيَامًا فَجَاءَ رَكْبٌ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فَشَهِدُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا مِنْ يَوْمِهِمْ وَيَخْرُجُوا لِصَلَاتِهِمْ مِنَ الْغَدِ "، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ، وَقِيلَ: لَا تُصَلَّى فِي الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَتُصَلَّى فِي الْأَضْحَى فِي الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ.
[بَاب مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَا يَصُومُ إِلَّا مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 -
بَابُ مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ
637 -
633 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا يَصُومُ إِلَّا مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ) أَيْ: عَزَمَ عَلَيْهِ وَقَصَدَ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا بِنِيَّةٍ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ لِخَبَرِ:" «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» " وَقِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ؛ إِذْ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا فِي النِّيَّةِ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي النَّفْلِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِمَنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ أَنْ يَصُومَ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَيُثَابُ عَلَى جَمِيعِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِمَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَائِشَةَ يَوْمًا:" «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَإِنِّي إِذًا أَصُومُ» "، وَالْغَدَاءُ - بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي سَنَدِهِ اضْطِرَابٌ، وَبَعْضُ الرُّوَاةِ يَقُولُ فِيهِ:" إِذًا "، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ:" فَأَنَا صَائِمٌ " بِدُونِ " إِذًا "، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّتِهِ وَلَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
637 -
634 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ لَمْ يَجْمَعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» "، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اضْطَرَبَ فِي إِسْنَادِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا فِي هَذَا الْبَابِ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ، فَذَكَرَهُ مَوْقُوفًا.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٍ ثَلَاثَتِهِمْ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصَةَ مَوْقُوفًا، وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّوَابُ وَلَمْ يَصِحَّ رَفْعُهُ؛ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، لَكِنْ عَمَلَ بِظَاهِرِ إِسْنَادِهِ جَمَاعَةٌ فَصَحَّحُوا رَفْعَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْهُمْ: ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حَزْمٍ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي الصَّوْمِ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَيَشْهَدُ لَهُ الْمَوْقُوفَاتُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ:«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .
[بَاب مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
638 -
635
3 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ
أَيِ: اسْتِحْبَابِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَحَادِيثُ تَعْجِيلِهِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ صِحَاحٌ مُتَوَاتِرَةٌ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ:" كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَ النَّاسِ إِفْطَارًا وَأَبْطَأَهُمْ سُحُورًا ".
- (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ؛ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) نِسْبَةً إِلَى سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ) فِي دِينِهِمْ، فَفِي أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا (مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ) عِنْدَ تَحَقُّقِ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِرُؤْيَةٍ أَوْ شَهَادَةٍ، زَادَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: وَأَخَّرُوا السُّحُورَ، وَ " مَا " ظَرْفِيَّةٌ؛ أَيْ: مُدَّةَ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ امْتِثَالًا لِلسُنَّةِ وَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِهَا مُسْتَنْبِطِينَ بِعُقُولِهِمْ مَا يُغَيِّرُ قَوَاعِدَهَا، وَعَلَلَّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ؛ أَيْ: إِلَى ظُهُورِ النَّجْمِ.
وَلِابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ أَيْضًا: " «لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا لَمْ تَنْتَظِرْ بِفِطْرِهَا النُّجُومَ» "، فَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ إِنْ قَصَدَ ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّ فِيهِ فَضِيلَةً.
قَالَ الْبَاجِيُّ: أَمَّا تَأْخِيرُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَمَنْ عَنَّ لَهُ أَمْرٌ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ كَمُلَ مَعَ الْغُرُوبِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، رَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ، وَتَمَامُ الصَّوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) وَهَذَا يَقْتَضِي الْإِمْسَاكُ إِلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ لِتَيَقُّنِ إِكْمَالِ النَّهَارِ؛ كَذَا فِي الْمُنْتَقَى، وَقَالَ هُوَ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ شَرْحُهُ الصَّغِيرُ: إِنَّ هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ فَقَدِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ غَيْرُ هَذَا؛ انْتَهَى.
قَالَ الْحَافِظُ: مِنَ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ مَا أُحْدِثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ إِيقَاعِ الْأَذَانِ الثَّانِي قَبْلَ الْفَجْرِ بِنَحْوِ ثُلُثِ سَاعَةٍ فِي رَمَضَانَ، وَإِطْفَاءِ الْمَصَابِيحِ الْمَجْعُولَةِ؛ عَلَامَةً لِانْقِضَاءِ اللَّيْلِ زَعْمًا مِمَّنْ أَحْدَثَهُ أَنَّهُ لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ، وَجَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤَذِّنُونَ إِلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ بِدَرَجَةٍ لِتَمَكُّنِ الْوَقْتِ فِيمَا زَعَمُوا، فَأَخَّرُوا الْفِطْرَ وَعَجَّلُوا السُّحُورَ فَخَالَفُوا السُّنَّةَ؛ فَلِذَا قَلَّ الْخَيْرُ عَنْهُمْ وَكَثُرَ الشَّرُّ فِيهِمْ، اهـ.
وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَشَارَ الْحَدِيثُ إِلَى أَنَّ تَغْيِيرَ هَذِهِ السُّنَّةِ عَلَمٌ عَلَى فَسَادِ الْأَمْرِ " وَلَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا دَامُوا مُحَافِظِينَ عَلَيْهَا " وَهَذَا الْحَدِيثُ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ وَيَعْقُوبُ الْقَارِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
639 -
636 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ) الْمَدَنِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِهِ، وَالتَّعْجِيلُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَيَقُّنِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلَا يَجُوزُ فِطْرُ الشَّاكِّ فِي غُرُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ إِذَا لَزِمَ الذِّمَّةَ بِيَقِينٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ إِلَّا بِيَقِينٍ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِخَيْرٍ فِي دِينِهِمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى سُنَّةٍ وَسَبِيلِ بِرٍّ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: لَا يَزَالُونَ أَقْوَى عَلَى صَوْمِهِمْ مَا عَجَّلُوهُ وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ تَأْخِيرًا يَضُرُّ بِهِمْ وَيُضْعِفُهُمْ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ أَوْ يُعَيِّنُ احْتِمَالَهُ الْأَوَّلَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلُوا النَّاسُ الْفِطْرَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ يُؤَخِّرُونَ» ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إِلَى اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
640 -
637 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ الْمَدَنِيِّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إِلَى اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ) أَيْ: فِي أُفُقِ الْمَشْرِقِ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ؛ أَيْ: أَقْبَلَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَأَدْبَرَ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ، (قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ) فَكَانَا يُسْرِعَانِ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ مِنْ تَأْخِيرِ الْفِطْرِ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ وَلَمْ يُؤَخَّرْ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى عِبَادَةٍ؛ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
لَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَتَّى يُفْطِرَ وَلَوْ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ» "، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْطِرُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي صِيَامِ الَّذِي يُصْبِحُ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَنَا أَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَأَغْتَسِلُ وَأَصُومُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
641 -
638
4 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي صِيَامِ الَّذِي يُصْبِحُ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ
- (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ) بْنِ حَزْمٍ (الْأَنْصَارِيِّ) قَاضِي الْمَدِينَةِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَيُقَالُ بَعْدَهَا (عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ) مِنَ الثِّقَاتِ (عَنْ عَائِشَةَ) هَكَذَا لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّآتِ كَيَحْيَى عِنْدَ ابْنِ وَضَّاحٍ، وَأَرْسَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَنَا أَسْمَعُ) زَادَتْ فِي مُسْلِمٍ: مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ» ) فَهَلْ يَصِحُّ صِيَامِي؟ (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَأَغْتَسِلُ وَأَصُومُ» ) فَلَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ، فَأَجَابَهُ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالَ:" «اغْتَسِلْ وَصُمْ» "، لَكِنِ اعْتَقَدَ الرَّجُلُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ، (فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا) وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ( «قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» ) أَيْ: سَتَرَ وَحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذَّنْبِ، فَلَا يَقَعُ مِنْكَ ذَنْبٌ أَصْلًا لِأَنَّ الْغُفْرَانَ سَتْرٌ، وَهُوَ إِمَّا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالذَّنْبِ وَإِمَّا بَيْنَ الذَّنْبِ وَعُقُوبَتِهِ، فَاللَّائِقُ بِالْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلُ وَبِأُمَمِهِمُ الثَّانِي، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِصْمَةِ وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
(فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِاعْتِقَادِهِ الْخُصُوصِيَّةَ بِلَا عِلْمٍ مَعَ كَوْنِهِ أَخْبَرَهُ بِفِعْلِهِ جَوَابًا لِسُؤَالِهِ، وَذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: قَوْلُ السَّائِلِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى الْخَوْفِ وَالتَّوَقِّي، لَكِنْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ صلى الله عليه وسلم ارْتِكَابَ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ غُفِرَ لَهُ، أَوْ لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ كَمَا وَرَدَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ هَذَا يَمْنَعُ الْأُمَّةَ أَنْ تَقْتَدِيَ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فَقَالَ: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] (سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 158) أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ، وَلِذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ غَضِبَ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ
(وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أَرْجُو) وَفِي رِوَايَةٍ: " لَأَرْجُو " بِلَامِ التَّأْكِيدِ تَقْوِيَةً لِلْقَسَمِ وَرَجَاؤُهُ مُحَقَّقٌ بِاتِّفَاقٍ ( «أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» ) قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ وُجُوبُ الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مُعْظَمُ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَحَمَلَتْهُ طَائِفَةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَقَيَّدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ بِمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِهِ الدِّينِيَّةِ فِي مَحَلِّ الْقِرْبَةِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمَا قَالَتَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ يَصُومُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
642 -
639 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَلِجَدِّهِ قَيْسٍ صُحْبَةٌ وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَشُعْبَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَرَوَى لَهُ الْجَمِيعُ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ (عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ) بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ. قِيلَ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ. وَقِيلَ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ. وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا يَرْوِيهِ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ فَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمَا قَالَتَا:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ» ) صِفَةٌ لَازِمَةٌ، قُصِدَ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ عَمْدًا يُفْطِرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَاسِي الِاغْتِسَالِ وَالنَّائِمِ عَنْهُ أَوْلَى بِذَلِكَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذَا فَائِدَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ وَيُؤَخِّرُ الْغُسْلَ إِلَى بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ بَيَانًا لِلْجَوَازِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَلِمُ؛ لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِاسْتِثْنَائِهِ مَعْنًى، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْهُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الِاحْتِلَامَ يَقَعُ عَلَى الْإِنْزَالِ وَقَدْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ رُؤْيَةِ شَيْءٍ فِي الْمَنَامِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: احْتَجَّ بِهِ مَنْ أَجَازَ الِاحْتِلَامَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَشْهَرُ امْتِنَاعُهُ لِأَنَّهُ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ، وَلَا يَجْنُبَ مِنَ احْتِلَامٍ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 21) وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَتْلَهُمْ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ (فِي رَمَضَانَ) وَأَوْلَى فِي غَيْرِهِ (ثُمَّ يَصُومُ) ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي
يُصْبِحُ فِيهِ جُنُبًا.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " «ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ» " بَيَانًا لِلْجَوَازِ وَإِنْ كَانَ الْغُسْلُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَفْضَلَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ الْحِمْيَرِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ يُصْبِحُ جُنُبًا يَصُومُ، فَقَالَتْ:«كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا حُلُمٍ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَقْضِي» ، فَكَأَنَّ عَبَدَ رَبِّهِ سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ كَعْبٍ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَلَيْسَتْ رِوَايَةُ عَمْرٍو مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، وَلَا رِوَايَةُ مَالِكٍ مُنْقَطِعَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ مُسْلِمًا صَحَّحَ الطَّرِيقَيْنِ فَأَخْرَجَهُمَا جَمِيعًا؛ رِوَايَةَ عَمْرٍو، وَتَلَوْهَا رِوَايَةَ مَالِكٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ يَقُولُ كُنْتُ أَنَا وَأَبِي عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ مَرْوَانُ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَتَذْهَبَنَّ إِلَى أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَلْتَسْأَلَنَّهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَذَهَبْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَتْ عَائِشَةُ لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا وَاللَّهِ قَالَتْ عَائِشَةُ «فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى» أُمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قَالَتَا فَقَالَ مَرْوَانُ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَتَرْكَبَنَّ دَابَّتِي فَإِنَّهَا بِالْبَابِ فَلْتَذْهَبَنَّ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ فَلْتُخْبِرَنَّهُ ذَلِكَ فَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَكِبْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَاعَةً ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا عِلْمَ لِي بِذَاكَ إِنَّمَا أَخْبَرَنِيهِ مُخْبِرٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
643 -
640 - (مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَوْلَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأَبِي) عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيُّ، لَهُ رُؤْيَةٌ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ (عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ) الْأُمَوِيِّ، لَمْ تَصِحَّ لَهُ صُحْبَةٌ، مَاتَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ (وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ) مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ (فَذَكَرَ لَهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَلِلْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ) لِحَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي مُسْلِمٍ، وَحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مَرْفُوعًا:" «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ» "، وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:«لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا أَنَا قُلْتُ: مَنْ أَدْرَكَهُ الصُّبْحُ وَهُوَ جُنُبٌ فَلَا يَصُومُ، مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ» ، (فَقَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَتَذْهَبَنَّ إِلَى أُمَّيِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ ثَقِيلَةٍ تَثْنِيَةُ أُمِّ (الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَلْتَسْأَلَنَّهُمَا عَنْ ذَلِكَ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي أَبَاهُ، (وَذَهَبْتُ مَعَهُ) وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَرْسَلَنِي مَرْوَانُ إِلَى عَائِشَةَ فَأَتَيْتُهَا فَلَقِيتُ غُلَامَهَا ذَكْوَانَ فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا، قَالَ: فَأَتَيْتُ مَرْوَانَ فَحَدَّثْتُهُ
فَأَرْسَلَنِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَتَيْتُهَا فَلَقِيتُ غُلَامَهَا نَافِعًا فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَبَا عِيَاضٍ مَجْهُولٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيُجْمَعُ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْغُلَامَيْنِ كَانَ وَاسِطَةً بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَبَيْنَهُمَا فِي السُّؤَالِ، وَسَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ بَعْدَ الدُّخُولِ كَمَا قَالَ.
(حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ؟) أَيْ: لَا تُرِيدُهُ أَنْتَ بِذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا وَاللَّهِ) لَا أَرْغَبُ عَنْهُ (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ:" «كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنِّي» "(ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ) الَّذِي أَصْبَحَ فِيهِ جُنُبًا (ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ) فَسَأَلَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ) ظَاهِرُ الْمِثْلِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ. . . إِلَخْ، لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:" «كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنِّي فَيَصُومُ وَيَأْمُرُنِي بِالصِّيَامِ» "، (قَالَ) أَبُو بَكْرٍ:(فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قَالَتَا فَقَالَ مَرْوَانُ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: الْقَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَحَدِّثْهُ بِهَذَا فَقَالَ: إِنَّهُ لَجَارِي وَإِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ بِمَا يَكْرَهُ، وَفِي أُخْرَى: إِنَّهُ لِي صَدِيقٌ وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ:(أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ) كُنْيَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (لَتَرْكَبَنَّ دَابَّتِي فَإِنَّهَا بِالْبَابِ فَلْتَذْهَبَنَّ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ فَلْتُخْبِرَنَّهُ ذَلِكَ) الَّذِي قَالَتَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَانَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ هُنَاكَ أَرْضٌ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَرِوَايَةُ مَالِكٍ نَصٌّ فِي الْقَصْدِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنَ التَّقْدِيرِ لَا الِاتِّفَاقِ، وَلَا تُخَالِفُ بَيْنَ قَوْلِهِ: " بِذِي الْحُلَيْفَةِ " وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " بِالْعَقِيقِ " لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمَا قَصَدَاهُ إِلَى الْعَقِيقِ فَلَمْ يَجِدَاهُ ثُمَّ وَجَدَاهُ بِذِي
الْحُلَيْفَةِ وَكَانَ لَهُ بِهَا أَرْضٌ أَيْضًا.
وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكُمَا لَمَا ذَهَبْتُمَا إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: فَلَقِينَا أَبَا هُرَيْرَةَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَسْجِدُهُ بِالْعَقِيقِ لَا النَّبَوِيُّ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ يُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا الْتَقَيَا بِالْعَقِيقِ، فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقِصَّةَ مُجْمَلَةً وَلَمْ يَذْكُرْهَا، بَلْ شَرَعَ فِيهَا ثُمَّ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ ذِكْرَ تَفْصِيلِهَا وَسَمَاعَ جَوَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ قَالَهُ الْحَافِظُ، (فَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَكِبْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَاعَةً) وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا وَلَوْلَا أَنَّ مَرْوَانَ أَقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ (ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ) مِنَ الْمُصْطَفَى بِلَا وَاسِطَةٍ (إِنَّمَا أَخْبَرَنِيهِ مُخْبِرٌ) عَنْهُ، فَفِي مُسْلِمٌ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: فَقَالَ: كَذَلِكَ أَخْبَرَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَعْلَمُ؛ أَيْ: بِمَا رَوَى، وَالْعُهْدَةُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ لَا عَلَيَّ.
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ عَنِ الْبُخَارِيِّ: " وَهُنَّ أَعْلَمُ " أَيْ: أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي مُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَا ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، وَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا يُرَجِّحُ رِوَايَةَ النَّسَفِيِّ. وَلِلنَّسَائِيِّ: أَخْبَرَنِيهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَلَهُ أَيْضًا: أَخْبَرَنِيهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَأُسَامَةَ، فَأَرْسَلَ الْحَدِيثَ أَوَّلًا ثُمَّ أَسْنَدَهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ، وَسَبَبُ رُجُوعِهِ مَعَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَلِفَ أَنَّهُ قَالَهُ لِشِدَّةِ وُثُوقِهِ بِخَبَرِهِمَا أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَانِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ:" أَفْطِرْ أَوْ فَلَا يَصُمْ " عَلَى أَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى الْأَفْضَلِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَوْ خَالَفَ جَازَ، وَفِعْلُهُ الْمُصْطَفَى لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ لِتَضَمُّنِهِ الْبَيَانَ لِلنَّاسِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ، كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَطَافَ عَلَى الْبَعِيرِ كَذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّثْلِيثَ وَالْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ أَفْضَلُ وَهُوَ الَّذِي تَكَرَّرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْأَمْرِ بِالْفِطْرِ وَبِالنَّهْيِ عَنِ الصِّيَامِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحَمْلُ الْمَذْكُورُ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؟ أَوْ لَعَلَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرَ مُجَامِعًا فَاسْتَدَامَ بَعْدَ طُلُوعِهِ عَالِمًا فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَا صَوْمَ لَهُ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:" مَنِ احْتَلَمَ وَعَلِمَ بِاحْتِلَامِهِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَ فَلَا يَصُومُ ".
وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ الْجِمَاعُ مُحَرَّمًا فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، كَمَا كَانَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ مُحَرَّمًا فَنُسِخَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَانَ يُفْتِي بِمَا عَلِمَهُ حَتَّى بَلَغَهُ النَّاسِخُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيهِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ " «غَفَرَ اللَّهُ
لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» "، فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَابْتِدَاءُ الصَّوْمِ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَوَافَقَ عَلَى دَعْوَى النَّسْخِ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْلَمُ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ غَيْرِهِمَا، وَجَاءَ عَنْهُمَا مِنْ طُرِقٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّهُ صَحَّ وَتَوَاتَرَ، وَصَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِرُجْحَانِهِ، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ مُرَجَّحٌ عَلَى الْقَوْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ، وَلِأَنَّهُ وَافَقَ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّهُ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ إِلَى الْفَجْرِ وَهِيَ الْجِمَاعُ، فَإِذَا أُبِيحَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْفَجْرَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاغْتِسَالَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) وَلِأَنَّهُ وَافَقَ الْمَعْقُولَ وَهُوَ أَنَّ الْغُسْلَ شَيْءٌ وَجَبَ بِإِنْزَالٍ وَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ عَلَى الصَّائِمِ فَقَدْ يَحْتَلِمُ بِالنَّهَارِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَيَتِمُّ صَوْمَهُ إِجْمَاعًا، وَكَذَا إِذَا احْتَلَمَ لَيْلًا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الصَّائِمُ مِنْ تَعَمُّدِ الْجِمَاعِ نَهَارًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمَا قَالَتَا «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
644 -
641 - (مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ (مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ) مَوْلَاهُ (أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى جَمَاعَةٌ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ الْقِصَّةَ كُلَّهَا مَعَ أَبِيهِ عِنْدَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَعِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا مَحْفُوظٌ مِنْ رِوَايَةِ سُمَيٍّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمَا قَالَتَا: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ) صِفَةٌ كَاشِفَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [النساء: 155](سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 155) وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَمَّا كَانَ الِاحْتِلَامُ يَأْتِي بِلَا اخْتِيَارٍ فَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يُرَخِّصُ لِغَيْرِ الْمُعْتَمَدِ لِلْجِمَاعِ، فَبَيَّنَتَا أَنَّهُ مِنْ جِمَاعٍ لِإِزَالَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ (ثُمَّ يَصُومُ) بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، وَأَعَادَ الْإِمَامُ هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ أَنَّهُ قَدَّمَهُ قَبْلَ الَّذِي فَوْقَهُ لِإِفَادَةِ أَنَّ لَهُ فِيهِ شَيْخَيْنِ إِذْ رَوَاهُ. . . ثَمَّةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ سُمَيٍّ، قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ الْجُنُبِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ احْتِلَامٍ أَوْ جِمَاعٍ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مُخَالِفٍ، وَلِلْأُصُولِيِّينَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْخِلَافِ، وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ طَلَعَ الْفَجْرُ قَبْلَ اغْتِسَالِهِمَا صَحَّ صَوْمُهُمَا وَوَجَبَ عَلَيْهِمَا إِتْمَامُهُ سَوَاءً تَرَكَتَا الْغُسْلَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، كَالْجُنُبِ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِمَّنْ لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ عَنْهُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
645 -
642 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) مُرْسَلٌ عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ وَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ (أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ فَوَجَدَ) غَضِبَ (مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا) خَوْفًا مِنَ الْإِثْمِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهُ قَبَّلَ غَافِلًا عَنِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَأَشْفَقَ (فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَدَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ) ذَاتِ الْجَمَالِ الْبَارِعِ وَالرَّأْيِ الْمُصِيبِ (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهَا فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ) هِنْدُ بِنْتُ أُمَيَّةَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ» ) أَيْ: يُقَبِّلُهَا كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ (وَهُوَ صَائِمٌ فَرَجَعَتْ فَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا بِذَلِكَ فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا) قَالَ الْبَاجِيُّ: يَعْنِي اسْتِدَامَتْهُ الْوَجْدَ إِذْ لَمْ تَأْتِهِ بِمَا يُقْنِعُهُ (وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّهُ يُحِلُّ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنْ أَحَلَّ؛ أَيْ: يُبِيحُ (لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ) فَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ، (ثُمَّ رَجَعَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَوَجَدَتْ عِنْدَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ» ) بِأَنَّهَا تَسْأَلُ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا) بِالْفَتْحِ وَالتَّثْقِيلِ (أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَفْعَالِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يُخْبِرْنَ بِهَا لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ قَالَ تَعَالَى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34](سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 34) قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
أَبُو عُمَرَ: فِيهِ إِيجَابُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (فَقَالَتْ: قَدْ أَخْبَرْتُهَا، فَذَهَبَتْ إِلَى زَوْجِهَا فَأَخْبَرَتْهُ فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
اللَّهُ يُحِلُّ) بِضَمِّ الْيَاءِ؛ يُبِيحُ (لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِاعْتِقَادِهِ التَّخْصِيصَ بِلَا عِلْمٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ عِيَاضٌ: غَضَبُهُ لِذَلِكَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ جَوَّزَ وُقُوعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْهُ؛ لَكِنْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ إِذْ غُفِرَ لَهُ، فَأَنْكَرَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ (وَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ» ) فَكَيْفَ تُجَوِّزُونَ وُقُوعَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنِّي؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْقُبْلَةِ لِلشَّابِّ وَالشَّيْخِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِلْمَرْأَةِ زَوْجُكِ شَيْخٌ أَوْ شَابٌّ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَسَأَلَهَا؛ لِأَنَّهُ الْمُبِيِّنُ عَنِ اللَّهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُبْلَةَ لَا تُكْرَهُ لِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا كَرَّهَهَا مَنْ كَرَّهَهَا خَشْيَةَ مَا تَؤُولُ إِلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَبَّلَ وَسَلَّمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْذَى فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ يُفْطِرُ وَإِنْ أَمْنَى فَسَدَ صَوْمُهُ اتِّفَاقًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ ضَحِكَتْ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
646 -
643 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَهِيَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَجِبُ إِهْمَالُ إِنَّ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لَيُقَبِّلُ) لِلتَّأْكِيدِ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ (بَعْضَ أَزْوَاجِهِ) عَائِشَةَ نَفْسِهَا كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْهَا: " «كَانَ يُقُبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ» " أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، أَوْ حَفْصَةَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ إِنَّمَا أَخْبَرَتْ عَنْ فِعْلِهِ مَعَهَا (وَهُوَ صَائِمٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (ثُمَّ ضَحِكَتْ) تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الثِّقَةِ بِهَا.
وَقَدْ زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ: فَظَنَّنَا أَنَّهَا هِيَ أَوْ ضَحِكَتْ تَعَجُّبًا مِمَّنْ خَالَفَهَا فِي ذَلِكَ، أَوْ تَعَجَّبَتْ مِنْ نَفْسِهَا إِذْ حَدَّثَتْ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا يَسْتَحِي النِّسَاءُ مِنْ ذِكْرِ مِثْلِهِ لِلرِّجَالِ، لَكِنْ أَلْجَأَتْهَا ضَرُورَةُ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ إِلَى ذِكْرِ ذَلِكَ، أَوْ سُرُورًا بِتَذَكُّرِ مَكَانِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَالِهَا مَعَهُ وَمُلَاطَفَتِهِ لَهَا وَحُبِّهِ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْهَا: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ وَيَمُصُّ لِسَانَهَا» " وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنْ مِثْلِ هَذَا مِمَّا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَأَمَّا فِي حَالٍ غَيْرِ الضَّرُورَةِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَسُفْيَانُ عِنْدَ مُسْلِمٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عَاتِكَةَ ابْنَةَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ امْرَأَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَتْ تُقَبِّلُ رَأْسَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَا يَنْهَاهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
647 -
644 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّ عَاتِكَةَ ابْنَةَ) وَفِي رِوَايَةٍ: " بِنْتَ "(زَيْدِ بْنِ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ نُفَيْلٍ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَلَامٍ الْقُرَشِيَّةَ الْعَدَوِيَّةَ صَحَابِيَّةً مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، وَهِيَ أُخْتُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ الْعَشَرَةِ (امْرَأَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) ابْنِ عَمِّهَا (كَانَتْ تُقَبِّلُ رَأْسَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَائِمٌ) تَبْجِيلًا بِلَا لَذَّةٍ (فَلَا يَنْهَاهَا) وَكَانَتْ حَسْنَاءَ جَمِيلَةً.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا هُنَالِكَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْنُوَ مِنْ أَهْلِكَ فَتُقَبِّلَهَا وَتُلَاعِبَهَا فَقَالَ أُقَبِّلُهَا وَأَنَا صَائِمٌ قَالَتْ نَعَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
648 -
645 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سَالِمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ (مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ) بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - أَحَدِ الْعَشَرَةِ - الْقُرَشِيَّةَ التَّيْمِيَّةَ أُمَّ عِمْرَانَ، كَانَتْ فَائِقَةَ الْجَمَالِ ثِقَةً، رَوَى لَهَا السِّتَّةُ (أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا هُنَالِكَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) التَّيْمِيُّ تَابِعِيٌّ رَوَى لَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا (وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَتْ لَهُ) عَمَّتُهُ (عَائِشَةُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْنُوَ) تَقْرُبَ (مِنْ أَهْلِكَ) زَوْجِكَ (فَتُقَبِّلَهَا وَتُلَاعِبَهَا؟) بِمَسِّ الْبَشَرَةِ دُونَ جِمَاعٍ، وَلَعَلَّهَا قَصَدَتْ إِفَادَتَهُ الْحُكْمَ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقَبِّلُهَا بِحُضُورِ عَمَّتِهِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: تُرِيدُ مَا يَمْنَعُكَ إِذَا دَخَلْتُمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا شَكَتْ لِعَائِشَةَ قِلَّةَ حَاجَتِهِ إِلَى النِّسَاءِ، وَسَأَلَتْهَا أَنْ تُكَلِّمَهُ فَأَفْتَتْهُ بِذَلِكَ إِذْ صَحَّ عِنْدَهَا مِلْكُهُ لِنَفْسِهِ (فَقَالَ: أُقَبِّلُهَا وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ) وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرَى تَحْرِيمَهَا وَلَا أَنَّهَا مِنَ الْخَصَائِصِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ شَابٍّ وَشَيْخٍ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ شَابًّا، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا لِلنَّسَائِيِّ عَنِ الْأَسْوَدِ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُبَاشِرُ الصَّائِمُ؟ قَالَتْ: لَا، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ، لِأَنَّ جَوَابَهَا لِلْأَسْوَدِ بِالْمَنْعِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَحَرَّكَتْ شَهْوَتُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهَا:" «كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» ".
فَحَاصِلُ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ إِبَاحَةُ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ لِمَنْ مَلَكَ إِرْبَهُ دُونَ مَنْ لَا يَمْلِكُهُ، أَوْ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي
بِلَفْظِ: " سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَكَرِهَتْهَا " فَلَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ، وَمِنْ قَوْلِهَا:" الصَّائِمُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ " رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَا يُرَخِّصَانِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
649 -
646 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَا يُرَخِّصَانِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ) وَكَذَا عُمَرُ وَعَائِشَةُ كَمَا مَرَّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَرْخَصَ فِيهَا إِلَّا وَهُوَ يَشْتَرِطُ السَّلَامَةَ مِمَّا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ اجْتِنَابَهَا اهـ.
وَمِنْ بَدِيعِ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " «هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: فَمَهْ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: مُنْكَرٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: فَأَشَارَ إِلَى فِقْهٍ بَدِيعٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ لَا تُنْقِضُ الصَّوْمَ وَهِيَ أَوَّلُ الشُّرْبِ وَمِفْتَاحُهُ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ وَمِفْتَاحِهِ، وَالشُّرْبُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَمَا يُفْسِدُهُ الْجِمَاعُ، فَكَمَا ثَبَتَ أَنَّ أَوَائِلَ الشُّرْبِ لَا يُفْسِدُ الصِّيَامَ، فَكَذَلِكَ أَوَائِلُ الْجِمَاعِ فَفِيهِ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ، قَالَ: لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُقَبِّلِ فَإِنْ أَثَارَتِ الْإِنْزَالَ حَرُمَتْ لِمَنْعِهِ مِنْهُ، فَكَذَا مَا أَدَّى إِلَيْهِ، وَإِنْ أَثَارَتِ الْمَذْيَ فَمَنْ رَأَى الْقَضَاءَ مِنْهُ قَالَ: يَحْرُمُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ رَأَى أَنْ لَا قَضَاءَ قَالَ: يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ الْقُبْلَةُ إِلَى شَيْءٍ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِهَا إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرِيعَةِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ إِذَا ذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ تَقُولُ وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِنَفْسِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
6 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
650 -
647 - (مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ وَعَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقٌ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَائِشَةَ (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ إِذَا ذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ) بَعْضَ أَزْوَاجِهِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فِي مُسْلِمٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ فِي الْبُخَارِيِّ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: وَيُبَاشِرُ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ؛ أَيْ: يَلْمِسُ بَشَرَتَهُ بَشَرَةَ الْمَرْأَةِ وَنَحْوَ
ذَلِكَ لَا الْجِمَاعَ (وَهُوَ صَائِمٌ تَقُولُ: وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِنَفْسِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَلَا تَتَوَهَّمُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ مِثْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي اسْتِبَاحَتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَيَأْمَنُ الْوُقُوعَ فِي قُبْلَةٍ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا إِنْزَالٌ أَوْ شَهْوَةٌ أَوْ هَيَجَانُ نَفْسٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ لَا تَأْمَنُونَ ذَلِكَ فَطَرِيقُكُمِ الِانْكِفَافُ عَنْهَا.
وَبِرِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ هَذِهِ فَسَّرَ التِّرْمِذِيُّ رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ: " أَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟ " فَقَالَ: مَعْنَاهُ نَفْسَهُ.
قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ أَوْلَى مَا فُسِّرَ بِهِ الْغَرِيبُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ؛ انْتَهَى.
وَ " إِرْبَهُ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ رَوَاهُ الْأَكْثَرُ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَعِيَاضٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ.
وَقَدَّمَهُ الْحَافِظُ وَقَالَ: إِنَّهُ الْأَشْهَرُ.
وَإِلَى تَرْجِيحِهِ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ وَهُمَا بِمَعْنَى وَطَرِهِ وَحَاجَتِهِ؛ أَيْ: أَغْلَبُ لِهَوَاهِ وَحَاجَتِهِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ عَلَى الْعُضْوِ الْخَاصِّ قَالَهُ عِيَاضٌ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَكِنْ حَمْلَهُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْعُضْوِ غَيْرُ سَدِيدٍ لَا يَغْتَرُّ بِهِ إِلَّا جَاهِلٌ؛ بِوُجُوهِ حُسْنِ الْخِطَابِ مَائِلٌ عَنْ سُنَنِ الْأَدَبِ وَنَهْجِ الصَّوَابِ.
وَرَدَّهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنْوَاعَ الشَّهْوَةِ مُرْتَقِيَةً مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَبَدَأَتْ بِمُقَدَّمَتِهَا الَّتِي هِيَ الْقُبْلَةُ، ثُمَّ ثَنَّتْ بِالْمُبَاشِرَةِ مِنْ نَحْوِ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَأَرَادَتْ أَنْ تُعَبِّرَ عَنِ الْمُجَامَعَةِ فَكَنَّتَ عَنْهَا بِالْإِرْبِ؛ وَأَيُّ عِبَارَةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا، اهـ.
وَأَخَذَ الظَّاهِرِيَّةُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَجَعَلُوا الْقُبْلَةَ لِلصَّائِمِ سُنَّةً وَقُرْبَةً مِنَ الْقُرَبِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَرُدَّ بِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَيْسَ كَغَيْرِهِ، وَكَيْفَمَا كَانَ لَا يَفْطِرُ إِلَّا بِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ، فَلَوْ أَمْذَى وَجَبَ الْقَضَاءُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: فَمُجَرَّدُ الْقُبْلَةِ يَبْطُلُ الصَّوْمُ.
قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ أَرَ الْقُبْلَةَ لِلصَّائِمِ تَدْعُو إِلَى خَيْرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
650 -
648 - (قَالَ مَالِكٌ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمْ أَرَ الْقُبْلَةَ لِلصَّائِمِ تَدْعُو إِلَى خَيْرٍ) لِمَا يُخَافُ مِنَ الْإِنْزَالِ أَوِ الْجِمَاعِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَأَرْخَصَ فِيهَا لِلشَّيْخِ وَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
651 -
649 - (مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَأَرْخَصَ فِيهَا لِلشَّيْخِ) لِأَنَّ الْغَالِبَ انْكِسَارُ شَهْوَتِهِ (وَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ) لِأَنَّ الْغَالِبَ
قُوَّتُهَا، وَبِالْفَرْقِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهَا فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ كَرَاهَتُهَا مُطْلَقًا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَظُنُّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ذَهَبَ إِلَى قَوْلِ عَائِشَةَ: " «أَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟» " أَيْ: أَمَلَكُ لِنَفْسِهِ وَشَهْوَتِهِ، انْتَهَى.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَخَصَّ فِي الْقُبْلَةِ لِلشَّيْخِ وَهُوَ صَائِمٌ وَنَهَى عَنْهَا الشَّابَّ وَقَالَ: «الشَّيْخُ يَمْلِكُ إِرْبَهُ وَالشَّابُّ يَفْسُدُ صَوْمُهُ» "، فَفُهِمَ مِنَ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ دَائِرٌ مَعَ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالشَّيْخِ وَالشَّابِّ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ الشُّيُوخِ فِي انْكِسَارِ شَهْوَتِهِمْ وَأَحْوَالِ الشَّبَابِ فِي قُوَّتِهَا، فَلَوِ انْعَكَسَ الْأَمْرُ انْعَكَسَ الْحُكْمُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
652 -
650 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْقُبْلَةِ) عَلَى الْفَمِ أَوِ الْخَدِّ أَوْ غَيْرِهِمَا، (وَالْمُبَاشِرَةِ) بِنَحْوِ لَمْسِ الْبَشَرَةِ بِلَا جِمَاعٍ (لِلصَّائِمِ) لِأَنَّ مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
7 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ
653 -
651 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِفَتْحِهَا (ابْنِ عُتْبَةَ) بِضَمِّهَا وَإِسْكَانِ الْفَوْقِيَّةِ (ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: هَذَا مِنْ مُرْسَلَاتِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُقِيمًا مَعَ أَبَوَيْهِ بِمَكَّةَ فَلَمْ يُشَاهِدْ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي) يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ (رَمَضَانَ) سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى فَتَحْتِيَّةٍ فَمُهْمَلَةٍ، مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَبْعُ مَرَاحِلَ أَوْ نَحْوُهَا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةٌ
أَوْ مَرْحَلَتَانِ وَهَذَا تَعْيِينٌ لِلْمَسَافَةِ، فَلَا يُنَافِي رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْكَدِيدُ: الْمَاءُ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ، وَلِابْنِ إِسْحَاقَ بَيْنِ عُسْفَانَ وَأَمَجَ؛ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَجِيمٍ خَفِيفَةٍ، اسْمُ وَادٍ بِقُدَيْدٍ، ( «ثُمَّ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ» ) مَعَهُ " لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّاسَ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَشَرِبَ فَأَفْطَرَ فَنَاوَلَهُ رَجُلًا إِلَى جَنْبِهِ فَشَرِبَ، «فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنْ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ» "، وَفِي أَبِي دَاوُدَ:" إِلَى فِيهِ فَأَفْطَرَ "، وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضْعَهُ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ رَاحِلَتِهِ» " بِالشَّكِّ فِيهِمَا، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَعَا بِاللَّبَنِ مَرَّةً وَبِالْمَاءِ مَرَّةً، وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّعَدُّدِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا شَكَّ الرَّاوِي، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ جَزَمَ بِالْمَاءِ، وَأَبْعَدَ الدَّاوُدِيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: كَانَتْ قِصَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي الْفَتْحِ وَالْأُخْرَى فِي حُنَيْنٍ، اهـ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاحْتَجَّ بِهِ مُطَرِّفٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ؛ أَيْ: لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، فَلَمَّا اخْتَارَ الصَّوْمَ وَبَيَّتَهُ لَزِمَهُ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ أَفْطَرَ لِلتَّقَوِّي عَلَى الْعَدُوِّ وَالْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ لَهُ وَلَهُمْ.
(وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ وَيَرَوْنَهُ النَّاسِخَ الْمُحْكَمَ، قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّمَا يَكُونُ نَاسِخًا إِذَا لَمْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ، أَوْ يَكُونُ الْأَحْدَثُ مِنْ فِعْلِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، أَمَّا فِيهَا أَعْنِي قَضِيَّةَ الصَّوْمِ فَلَيْسَ بِنَاسِخٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ابْنُ شِهَابٍ مَالَ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَا يَنْعَقِدُ كَقَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَنْهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّمَا يَكُونُ الْأَحْدَثُ نَاسِخًا إِذَا عُلِمَ كَوْنُهُ نَاسِخًا أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ الْأَحْدَثُ رَاجِحًا مَعَ جَوَازِهِمَا، وَإِلَّا فَقَدْ طَافَ عَلَى الْبَعِيرِ وَتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَوَافَ الْمَاشِي وَالْوُضُوءَ ثَلَاثًا أَرْجَحُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَدُلَّ عَلَى الْجَوَازِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَعُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ النَّاسَ فِي سَفَرِهِ عَامَ الْفَتْحِ بِالْفِطْرِ وَقَالَ تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ وَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ الَّذِي حَدَّثَنِي لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعَرْجِ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ الْعَطَشِ أَوْ مِنْ الْحَرِّ ثُمَّ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ طَائِفَةً مِنْ النَّاسِ قَدْ صَامُوا حِينَ صُمْتَ قَالَ فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْكَدِيدِ دَعَا بِقَدَحٍ فَشَرِبَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
654 -
652 - (مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ) مَوْلَاهُ (أَبِي بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِبْهَامُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ عُدُولٌ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ النَّاسَ فِي سَفَرِهِ عَامَ الْفَتْحِ) بِمَكَّةَ وَكَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَجَمَعَ بِأَنَّ الْعَشَرَةَ خَرَجَ بِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَلَاحَقَ بِهِ الْأَلْفَانِ (بِالْفِطْرِ وَقَالَ: تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ) بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِأَجْلِ أَنْ تَقْوُوا لِمُلَاقَاةِ عَدُوِّكُمْ (وَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفِيهِ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 184)(قَالَ أَبُو بَكْرِ) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (قَالَ الَّذِي حَدَّثَنِي: فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعَرْجِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالْجِيمِ، قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى نَحْوِ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ ( «يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الْعَطَشِ أَوْ مِنَ الْحَرِّ» ) ، تُحْتَمَلُ " أَوْ " الشَّكُّ وَالتَّنْوِيعُ، فَتُحْمَلُ الْمَشَقَّةَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهَا فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قِيَامِهِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ؟ ( «ثُمَّ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ قَدْ صَامُوا حِينَ صُمْتَ» ) لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ أَمْرَهُ بِالْفِطْرِ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ صِيَامِهِ هُوَ، أَوِ اخْتِصَاصِهِ بِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ جِدًّا، وَالَّذِينَ صَامُوا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ.
« (فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْكَدِيدِ دَعَا بِقَدَحٍ) مِنْ مَاءٍ (فَشَرِبَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ) » زَادَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ: " «فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، قَالَ: " أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ مَرَّتَيْنِ» ".
قَالَ عِيَاضٌ: وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْفِطْرِ لِمَصْلَحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الْعَدُوِّ فَلَمْ يَفْعَلُوا حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِمْ بَعْدُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ. قَالَ غَيْرُهُمَا: أَوْ عَبَّرَ بِهِ مُبَالَغَةً فِي حَثِّهِمْ عَلَى الْفِطْرِ رِفْقًا بِهِمْ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «سَافَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ صِيَامٌ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا فَكَانَتْ عَزِيمَةً» ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «خَرَجْنَا عَامَ الْفَتْحِ صُوَّامًا حَتَّى بَلَغْنَا الْكَدِيدَ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفِطْرِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ مِنْهُمُ الصَّائِمُ وَمِنْهُمُ الْمُفْطِرُ، حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا الظَّهْرَانَ آذَنَنَا بِلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَأَمَرَنَا بِالْفِطْرِ فَأَفْطَرْنَا أَجْمَعِينَ» "، ثُمَّ لَا تَعَارُضُ بَيْنَ حَدِيثَيِ الْبَابِ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِالْكَدِيدِ، وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ، وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «أَفْطَرَ فِي عُسْفَانَ» .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي مُسْلِمٍ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَادٍ أَمَامَ عُسْفَانَ مَعَ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ أَمَاكِنُ مُخْتَلِفَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَمَا قَالَ عِيَاضٌ: أَمَاكِنُ مُتَقَارِبَةٌ، وَعُسْفَانُ يَصْدُقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَنْ عَمَلَهَا، أَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِحَالِ النَّاسِ وَمَشَقَّتِهِمْ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ فِطْرُهُ بِالْكَدِيدِ لِحَدِيثِ الْمُوَطَّأِ هَذَا، وَجَمْعُهُ الثَّانِي إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الْمَشْهُودِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ عُسْفَانَ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا مِنْ مَكَّةَ، وَالْكَدِيدَ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِنْهَا، لَا عَلَى مَا نَقَلَهُ هُوَ أَنَّ عُسْفَانَ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْ مَكَّةَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
655 -
653 - (مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ حُمَيْدٍ أَخْبَرَنِي أَنَسٌ (بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ) وَقَدْ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ « (سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَعِبِ) بِالْجَزْمِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ؛ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ (الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) » لِأَنَّ كُلًّا فَعَلَ مَا يَجُوزُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَبْطَلَ صَوْمَ الْمُسَافِرِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْفِطْرَ عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَجَعَلَ عَلَيْهِ أَيَّامًا أُخَرَ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ إِنْكَارَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُتَعَارَفِ الَّذِي تَجِبُ الْحُجَّةُ بِهِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ "، قَالَ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ نَصٌّ رَافِعٌ لِلنِّزَاعِ.
هَذَا وَزَعَمَ ابْنُ وَضَّاحٍ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يُتَابِعْ عَلَى لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّ غَيْرَهُ يَرْوِيهِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَافِرُونَ فَيَصُومُ بَعْضُهُمْ وَيُفْطِرُ بَعْضُهُمْ، فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَنَّهُ كَانَ يُشَاهِدُهُمْ فِي حَالِهِمْ هَذِهِ ".
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ قِلَّةُ اتِّسَاعٍ فِي عِلْمِ الْأَثَرِ، فَقَدْ تَابَعَ مَالِكًا عَلَى لَفْظِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ: أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ وَأَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ، قَالَ: وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ كَمَا قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ إِلَّا شَيْخَهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْعُودٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ حُمَيْدٍ، انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ.
لَكِنَّ قَوْلَهُ: " لَا أَعْلَمُ. . . إِلَخْ " تَقْصِيرٌ مِنْ مِثْلِهِ كَبِيرٌ، فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ سُلَيْمَانِ الْأَحْمَرِ عَنْ حُمَيْدٍ كَذَلِكَ فَكَأَنَّ حُمَيْدًا حَدَّثَ بِهِ بِالْوَجْهَيْنِ، وَحَدِيثُ مَالِكٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ
مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَتَابَعَهُ فِي شَيْخِهِ حُمَيْدٌ مُوَرِّقٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:" «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ أَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ فَسَقَطَ الصَّوَّامُ وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ وَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَصُومُ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
656 -
654 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَمْزَةَ) بْنَ عَمْرِو بْنِ عُوَيْمِرٍ (الْأَسْلَمِيَّ) أَبَا صَالِحٍ وَأَبَا مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيَّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَلَهُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا لِيَحْيَى، وَقَالَ جَمِيعُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ:" أَنَّ حَمْزَةَ "، وَكَذَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ هِشَامٍ، وَرَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَالْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ ثَلَاثَتُهُمْ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ حَمْزَةَ، كَمَا رَوَاهُ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي مَرَاوِحٍ عَنْ حَمْزَةَ، فَهَذَا أَبُو الْأَسْوَدِ وَهُوَ ثَبْتٌ فِي عُرْوَةَ وَغَيْرِهِ قَدْ خَالَفَ هِشَامًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ يَحْيَى لَيْسَتْ بِخَطَأٍ.
وَيَجُوزُ أَنَّ عُرْوَةَ سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ وَمِنْ أَبِي مَرَاوِحٍ جَمِيعًا عَنْ حَمْزَةَ، فَحَدَّثَ بِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَرْسَلَهُ أَحْيَانًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ: رَوَاهُ الْحُفَّاظُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ حَمْزَةَ.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ ثَلَاثَتُهُمْ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ عَنْ حَمْزَةَ، فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ حَمْزَةَ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ عَائِشَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقْصِدُوا بِقَوْلِهِمْ:" عَنْ حَمْزَةَ " الرِّوَايَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا الْإِخْبَارَ عَنْ حِكَايَتِهِ فَالتَّقْدِيرُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ قِصَّةِ حَمْزَةَ، لَكِنْ صَحَّ مَجِيءُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ حَمْزَةَ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي مَرَاوِحٍ، عَنْ حَمْزَةَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ لِعُرْوَةَ فِيهِ طَرِيقَيْنِ سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ وَسَمِعَهُ مِنْ أَبِي مَرَاوِحٍ عَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَصُومُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَسْرُدُ الصَّوْمَ (أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟) وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ عَنْ مَالِكٍ: " «أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ " وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ) » بِهَمْزَةِ قَطْعٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَرَاوِحٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَجِدُ لِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ أَخَذَ بِهَا
فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» "، وَهَذَا يُشْعِرُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا تُطْلَقُ فِي مُقَابَلَةِ الْوَاجِبِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ أَنَّ حَمْزَةَ قَالَ: "«يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي صَاحِبُ ظَهْرٍ أُعَالِجُهُ أُسَافِرُ عَلَيْهِ وَأُكْرِيهِ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا صَادَفَنِي هَذَا الشَّهْرُ - يَعْنِي رَمَضَانَ - وَأَنَا أَجِدُ الْقُوَّةَ وَأَجِدُنِي أَنْ أَصُومَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَخِّرَهُ فَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيَّ؟ فَقَالَ: أَيُّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ» "، قَالَ عِيَاضٌ: احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ الْفِطْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: فَحَسَنٌ.
وَقَالَ فِي الصَّوْمِ فَلَا جُنَاحَ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: " هَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ " فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِحَسَنٍ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ أَعَمُّ مِنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافَقِيهِ؛ أَيْ: كَمَالِكٍ: أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ وَسَرْدَهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لِمَنْ لَا يَخَافُ مِنْهُ ضَرَرًا، وَلَا تَفْوِيتَ حَقٍّ، بِشَرْطِ فِطْرِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِسَرْدِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ بَلْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ وَأَذِنَ لَهُ فِيهِ فِي السَّفَرِ فَفِي الْحَضَرِ أَوْلَى، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُطِيقُ السَّرْدَ بِلَا ضَرَرٍ وَلَا تَفْوِيتِ حَقٍّ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَجِدُ بِي قُوَّةً.
وَأَمَّا إِنْكَارُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَوْمَ الدَّهْرِ فَلِعِلْمِهِ أَنَّهُ سَيَضْعُفُ عَنْهُ، وَقَدْ ضَعُفَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَكَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اهـ.
بَلِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ السَّرْدَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ سَوَّغَهُ لِحَمْزَةَ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ لَبَيَّنَهُ لِحَمْزَةَ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَمْرٍو خَاصٌّ بِهِ لِعِلْمِهِ بِضَعْفِ حَالِهِ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ ضَعُفَ حَالُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ مَوْصُولًا، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَصُومُ فِي السَّفَرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
657 -
655 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَصُومُ فِي السَّفَرِ) لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَا يُجْزِي؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 184) فَجَعَلَ عَلَيْهِ عِدَّةً.
وَبِهِ قَالَ أَبُوهُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَيَرُدُّهُ أَحَادِيثُ الْبَابِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ:" أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ؛ أَيْ: فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ، رَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» "، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ:" «لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ» "، وَزَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ:" «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ» "، وَرِوَايَتُهُ عَلَى لُغَةِ حِمْيَرَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ قَالُوا: مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْبِرِّ فَهُوَ مِنَ الْإِثْمِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ عَامٌّ
خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ، فَإِنْ قَصُرَ عَلَيْهِ لَمْ تَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ وَإِلَّا حُمِلَ عَلَى مَنْ حَالُهُ مِثْلُ حَالِ الرَّجُلِ، وَبَلَغَ بِهِ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ؛ أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ هَذَا بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ إِثْمًا لَكَانَ صلى الله عليه وسلم أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لَيْسَ الْبِرُّ، أَوْ لَيْسَ هُوَ الْبِرُّ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ أَبَرَّ مِنْهُ فِي حَجٍّ أَوْ غَزْوٍ لِيَتَقَوَّى عَلَيْهِ، وَتَكُونُ " مِنْ " زَائِدَةً كَمَا يُقَالُ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَمَا جَاءَنِي أَحَدٌ، وَنَظِيرُهُ الْحَدِيثُ:" «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، قِيلَ: فَمَنِ الْمِسْكِينُ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ» ".
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّوَّافَ مِسْكِينٌ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا وَقَفَ الْمِسْكِينُ بِبَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَرُدُّهُ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ» " فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْفِطْرَ فِيهِ بِرٌّ أَيْضًا لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ عز وجل.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ وَنُسَافِرُ مَعَهُ فَيَصُومُ عُرْوَةُ وَنُفْطِرُ نَحْنُ فَلَا يَأْمُرُنَا بِالصِّيَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
658 -
656 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ وَنُسَافِرُ مَعَهُ فَيَصُومُ عُرْوَةُ) لِأَنَّهُ يَرَاهُ أَفْضَلُ كَالْجُمْهُورِ (وَنُفْطِرُ نَحْنُ فَلَا يَأْمُرُنَا بِالصَّوْمِ) لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا الْجَائِزَ.
[بَاب مَا يَفْعَلُ مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ فِي رَمَضَانَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فِي رَمَضَانَ فَعَلِمَ أَنَّهُ دَاخِلٌ الْمَدِينَةَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِهِ دَخَلَ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ مَنْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِهِ وَطَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ دَخَلَ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فِي رَمَضَانَ فَطَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ وَهُوَ بِأَرْضِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقْدَمُ مِنْ سَفَرِهِ وَهُوَ مُفْطِرٌ وَامْرَأَتُهُ مُفْطِرَةٌ حِينَ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا فِي رَمَضَانَ أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا إِنْ شَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
8 -
بَابُ مَا يَفْعَلُ مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ فِي رَمَضَانَ
657 -
(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فِي رَمَضَانَ فَعَلِمَ أَنَّهُ دَاخِلٌ الْمَدِينَةَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِهِ دَخَلَ وَهُوَ صَائِمٌ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ دُخُولَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ فَصَوْمُهُ مُسْتَحَبٌّ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى أَهْلِهِ) نُصِبَ عَلَى التَّوَسُّعِ (مِنْ أَوَّلِ يَوْمِهِ وَطَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ، دَخَلَ وَهُوَ صَائِمٌ) اسْتِحْبَابًا كَمَا قَالَ
الْإِمَامُ نَفْسُهُ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، كَمَا عُلِمَ.
(وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ) لِلسَّفَرِ (فِي رَمَضَانَ، وَطَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ وَهُوَ بِأَرْضِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ) وُجُوبًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَالْمُزَنِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، فَإِنْ أَفْطَرَ عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا كَفَّارَةَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ وَابْنُ كِنَانَةَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا حَظَّ لَهُ فِي أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ:(قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقْدَمُ مِنْ سَفَرِهِ وَهُوَ مُفْطِرٌ، وَامْرَأَتُهُ مُفْطِرَةٌ حِينَ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا) أَوْ نِفَاسِهَا (فِي رَمَضَانَ أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا) يُجَامِعُهَا (إِنْ شَاءَ) ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِعِلَّةٍ تُبِيحُ الْفِطْرَ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَسْتَدِيمُ الْفِطْرَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ كَحَائِضٍ طَهُرَتْ، وَمَرِيضٌ أَفَاقَ، وَمُسَافِرٌ قَدِمَ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى زَالَتْ عِلَّةُ الْفِطْرِ وَجَبَ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، وَاحْتَجَّ لَهُ أَصْحَابُهُ بِاتِّفَاقِهِمْ فِي مَنْ أَصْبَحَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ مُفْطِرًا، ثُمَّ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَنَّهُ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ وَنَحْوَهُ لَهُ الْفِطْرُ، وَالْجَاهِلُ بِدُخُولِ الشَّهْرِ لَيْسَ جَهْلُهُ بِدَافِعٍ عَنْهُ لِوَاجِبٍ إِذَا عَلِمَهُ؛ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
[بَاب كَفَّارَةِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ لَا أَجِدُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقِ تَمْرٍ فَقَالَ خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحْوَجَ مِنِّي فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ كُلْهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
9 -
بَابُ كَفَّارَةِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ
660 -
658 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) قَالَ الْحَافِظُ: هَكَذَا تَوَارَدَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا جَمَعْتُهُمْ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، مِنْهُمْ: ابْنُ عُيَيْنَةَ وَاللَّيْثُ وَمَنْصُورٌ وَمَعْمَرٌ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَشُعَيْبٌ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسَافِرٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَعُقَيْلٌ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَيُونُسُ وَحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ وَصَالِحُ بْنُ
أَبِي الْأَخْضَرِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَخَالَفَهُمْ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ فَرَوَاهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَزَمَ الْبَزَّارُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو عَوَانَةَ بِأَنَّ هِشَامَ بْنَ سَعْدٍ أَخْطَأَ فِيهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا فَقَدْ جَمَعَهُمَا عَنْهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، أَخْرَجُهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَبِي أُوَيْسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَ حُمَيْدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَجُلًا) هُوَ سَلْمَانُ، وَيُقَالُ فِيهِ: سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ، وَبِهِ جَزَمَ عَبْدُ الْغَنِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سَلَمَةَ هُوَ الْمَظَاهِرُ فِي رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا أَتَى أَهْلَهُ لَيْلًا رَأَى خَلْخَالَهَا فِي الْقَمَرِ، وَلَكِنْ رَأَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي بَيَاضَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَظُنُّ هَذَا وَهَمًا؛ لِأَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّ سَلَمَةَ أَوْ سَلْمَانَ إِنَّمَا كَانَ مُظَاهِرًا، قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ؛ أَيْ: لَيْلًا بَعْدَ أَنْ ظَاهَرَ فَلَا يَكُونُ وَهَمًا، وَيُحْتَمَلُ وُقُوعُ الْأَمْرَيْنِ لَهُ، قَالَ: وَسَبَبُ ظَنِّهِمْ أَنَّهُ الْمُحْتَرِقُ أَنَّ ظِهَارَهُ مِنَ امْرَأَتِهِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَامَعَ لَيْلًا كَمَا هُوَ صَرِيحُ حَدِيثِهِ، وَأَمَّا الْمُحْتَرِقُ فَأَعْرَابِيٌّ جَامَعَ نَهَارًا فَتَغَايَرَا، نَعَمِ؛ اشْتَرَكَا فِي قَدْرِ الْكَفَّارَةِ وَفِي الْإِتْيَانِ بِالتَّمْرِ، وَفِي الْإِعْطَاءِ وَفِي قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا: أَعْلَى أَفْقَرَ مِنَّا، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اتِّحَادُهُمَا.
(أَفْطَرَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: اخْتَلَفَتْ رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي لَفْظِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُ الْمُوَطَّأِ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ: أَفْطَرَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: جَامَعَ (فِي رَمَضَانَ)، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ لَمْ يَذْكُرْ بِمَاذَا أَفْطَرَ؟ وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَالَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَذَكَرُوا مَا أَفْطَرَ بِهِ، فَتَمَسَّكَ بِهِ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ خَاصَّةٌ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ بَرِّيَّةٌ فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ فِيهِ إِلَّا بِيَقِينٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِتَعَمُّدِ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ وَنَحْوِهِمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْعًا الِامْتِنَاعُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجِمَاعِ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي وَجْهٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ثَبَتَ فِي نَظِيرِهِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ بِمَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ عَمْدًا.
وَلَفْظُ حَدِيثِ مَالِكٍ: يَجْمَعُ كُلَّ فِطْرٍ، لَكِنْ قَالَ عِيَاضٌ: دَعْوَى عُمُومِ قَوْلِهِ: " أَفْطَرَ " ضَعِيفَةٌ، قَالَ الْأَبِيُّ: لِأَنَّ أَفْطَرَ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ بِعُمُومِهِ، إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ ( «فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا» ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَالِكٌ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ رُوَاتُهُ عَلَيْهِ فِيهِ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَبُو أُوَيْسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ عَلَى تَرْتِيبِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: " «هَلْ
تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا» " الْحَدِيثَ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي طَائِفَةٍ فَقَالُوا: لَا يَنْتَقِلُ عَنِ الْعِتْقِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ وَلَا عَنِ الصَّوْمِ كَذَلِكَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَيْسَ بِمُرَادٍ، وَلِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِطْعَامِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: الْإِطْعَامُ أَفْضَلُ وَلِأَنَّهُ سُنَّةُ الْبَدَلِ فِي الصِّيَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَالْمُفَرِّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ لَا يُؤْمَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعِتْقٍ وَلَا صِيَامٍ، فَصَارَ الْإِطْعَامُ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الصِّيَامِ، وَنَظَائِرُهُ مِنَ الْأُصُولِ فَلِذَا فَضَّلَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ مِمَّا يُوهِمُ تَعْيِنَ الْإِطْعَامِ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَفْضَلُ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: " هَلْ تَسْتَطِيعُ " دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا إِنَّمَا فِيهِ الْبُدَاءَةُ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ يَصِحُّ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالتَّرْتِيبِ، فَبَانَ مِنْ رِوَايَةِ " أَوْ " أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْيِيرُ، انْتَهَى.
(فَقَالَ لَا أَجِدُ) وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: " «قَالَ: تَصَدَّقَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا لِي شَيْءٌ وَمَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ» "، زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَقَالَ: اجْلِسْ (فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَلَمْ يُسَمِّ الْآتِي لَكِنْ لِلْبُخَارِيِّ فِي الْكَفَّارَاتِ: " فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ "، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا: " فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ "، قَالَ الْحَافِظُ: فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَلِيفًا لِلْأَنْصَارِ أَوْ إِطْلَاقِ الْأَنْصَارِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ، (بِعَرَقِ تَمْرٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَقَافٍ، وَرُوِيَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ رِوَايَةً وَلُغَةً، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَكْثَرُهُمْ يَرْوِيهَا بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَالصَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِتْقَانِ فَتْحُ الرَّاءِ، وَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَفَسَّرَهُ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ بِأَنَّهُ الْمِكْتَلُ؛ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، قَالَ الْأَخْفَشُ: سُمِّيَ الْمِكْتَلُ عَرَقًا؛ لِأَنَّهُ يُضَفَّرُ عَرَقَةً عَرَقَةً، وَالْعُرُوقُ جَمْعُ عِرْقَةٍ كَعَلَقٍ وَعَلَقَةٍ، وَالْعَرَقَةُ الضَّفِيرَةُ مِنَ الْخُوصِ (فَقَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) أَيْ: بِالتَّمْرِ الَّذِي فِيهِ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحْوَجَ) ضُبِطَ بِالرَّفْعِ عَلَى جَعْلِ " مَا " تَمِيمِيَّةٌ، وَالنَّصْبِ عَلَى جَعْلِهَا حِجَازِيَّةٌ عَامِلَةٌ عَمَلَ لَيْسَ (مِنِّي)، وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ:" «عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي» "، وَفِي أُخْرَى:" «مَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَهْلِي، مَا أَحَدٌ أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنِّي» "، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ عَائِشَةَ:" «مَا لَنَا عَشَاءُ لَيْلَةٍ» "( «فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ» ) جَمْعُ نَابٍ، وَهِيَ الْأَسْنَانُ الْمُلَاصِقَةُ لِلرُّبَاعِيَّاتِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، وَالضَّحِكُ فَوْقَ التَّبَسُّمِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ضَحِكَهُ كَانَ تَبَسُّمًا فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، لَكِنَّهُ تَعَجَّبَ هُنَا مِنْ حَالِ الرِّجَالِ فِي كَوْنِهِ جَاءَ أَوَّلًا هَالِكًا مُحْتَرِقًا
خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ رَاغِبًا فِي فِدَائِهَا مَهْمَا أَمْكَنَهُ، فَلَمَّا وَجَدَ الرُّخْصَةَ طَمِعَ أَنْ يَأْكُلَ الْكَفَّارَةَ.
(ثُمَّ قَالَ: كُلْهُ)، وَفِي رِوَايَةٍ:" أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ "، وَفِي أُخْرَى:" عِيَالَكَ "، وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُ بِأَنْ لَا تَجِبَ الْكَفَّارَةُ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ تَأْخِيرَهَا إِلَى وَقْتِ الْيُسْرِ لَا أَنَّهُ أَسْقَطَهَا عَنْهُ جُمْلَةً، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ اسْتِقْرَارِهَا عَلَيْهِ، بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ لِاسْتِقْرَارِهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِعَجْزِهِ عَنِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ أَتَى صلى الله عليه وسلم بِالتَّمْرِ فَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِهِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَلَوْ كَانَتْ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا احْتَاجَ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى عِيَالِهِ فِي الْحَالِ أَذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ وَإِطْعَامِ عِيَالِهِ، وَبَقِيَتِ الْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ الْبَيَانَ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ هَذَا رُخْصَةً لِهَذَا الرَّجُلِ خَاصَّةً، أَمَّا الْيَوْمُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْكَفَّارَةِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " «كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلَكَ وَصُمْ يَوْمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ» "، وَقَالَ عِيَاضٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ هَذَا خَاصٌّ بِهَذَا الرَّجُلِ، أَبَاحَ لَهُ الْأَكْلَ مِنْ صَدَقَةِ نَفْسِهِ لِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ لِفَقْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِيُكَفِّرَ بِهِ وَيَجْزِيَهُ إِذَا أَعْطَاهُ، وَمَنْ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَقِيلَ: لَمَّا عَجَزَ مِنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَازَ لَهُ إِعْطَاءُ الْكَفَّارَةِ عَنْ نَفْسِهِ لَهُمْ، وَقِيلَ: لَمَّا مَلَكَهَا لَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ جَازَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ أَكْلُهَا لِحَاجَتِهِمْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِتِلْكَ الْكَفَّارَةِ. وَقِيلَ: أَطْعَمَهُ إِيَّاهُ لِفَقْرِهِ وَأَبْقَى الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ حَتَّى يُوسِرَ، هَذَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: حُكْمُ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَلَمْ يَجِدْهَا السُّقُوطُ كَهَذَا الرَّجُلِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ جَاءَ مُسْتَفْتِيًا فِيمَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ دُونَ الْحَدِّ أَنَّهُ لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ وَلَا عُقُوبَةَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُ وَاسْتِفْتَاءَهُ دَلِيلُ تَوْبَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عُوقِبَ مَنْ جَاءَ مَجِيئَهُ لَمْ يَسْتَفْتِ أَحَدٌ عَنْ نَازِلَةٍ خَوْفَ الْعُقُوبَةِ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ الْحَدُّ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا الْحَرَّابَةُ إِذَا تَابَ مِنْهَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ كِلَيْهِمَا عَنْ مَالِكٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ هَلَكَ الْأَبْعَدُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا ذَاكَ فَقَالَ أَصَبْتُ أَهْلِي وَأَنَا صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً فَقَالَ لَا فَقَالَ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُهْدِيَ بَدَنَةً قَالَ لَا قَالَ فَاجْلِسْ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقِ تَمْرٍ فَقَالَ خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ مَا أَحَدٌ أَحْوَجَ مِنِّي فَقَالَ كُلْهُ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَ مَا أَصَبْتَ» قَالَ مَالِكٌ قَالَ عَطَاءٌ فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَمْ فِي ذَلِكَ الْعَرَقِ مِنْ التَّمْرِ فَقَالَ مَا بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا إِلَى عِشْرِينَ قَالَ مَالِكٌ سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ بِإِصَابَةِ أَهْلِهِ نَهَارًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ أَصَابَ أَهْلَهُ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ فِيهِ إِلَيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
661 -
659 - (مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ) وَقِيلَ اسْمُ أَبِيهِ مَيْسَرَةَ وَهُوَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ مَوْلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ. وَقِيلَ: مَوْلَى هُذَيْلٍ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، أَصْلُهُ مِنْ مَدِينَةِ بَلْخٍ مِنْ خُرَاسَانَ، وَسَكَنَ الشَّامَ، كَانَ فَاضِلًا عَالِمًا بِالْقُرْآنِ عَامِلًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةُ
أَئِمَّةٍ كَمَالِكٍ وَمَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ، لِمَالِكٍ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ، وَفِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ صَدُوقٌ يَهِمُ كَثِيرًا وَيُرْسِلُ وَيُدَلِّسُ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ لَهُ.
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) لَمْ يُسَمِّ أَوْ هُوَ سَلَمَةُ، وَيُقَالُ فِيهِ سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي بَيَاضَةَ كَمَا مَرَّ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ جَمَاعَةِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ إِلَّا قَوْلَهُ: " «أَنْ تَهْدِيَ بَدَنَةً» " فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ، ( «يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ» ) زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَيَحْثِي عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَلْطِمُ وَجْهَهُ وَيَدْعُو وَيْلَهُ، قِيلَ فِيهِ جَوَازُ ذَلِكَ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ مُصِيبَةٌ فِي الدِّينِ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ حَالُهُ مِنْ شِدَّةِ النَّدَمِ وَصِحَّةِ الْإِقْلَاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ (وَيَقُولُ: هَلَكَ الْأَبْعَدُ) يَعْنِي نَفْسَهُ، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ؛ أَيْ: فَعَلْتُ مَا هُوَ سَبَبٌ لِهَلَاكِي وَهَلَاكِ غَيْرِي، وَهُوَ زَوْجَتُهُ الَّتِي وَطِئَهَا، أَوِ الْمَعْنَى هَلَكْتُ بِوُقُوعِي فِي شَيْءٍ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَهْلَكْتُ نَفْسِي بِفِعْلِي الَّذِي جَرَّ عَلَيَّ الْإِثْمَ، لَكِنْ زِيَادَةُ " وَأَهْلَكْتُ " حَكَمَ الْبَيْهَقِيُّ وَشَيْخُهُ الْحَاكِمُ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَغَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهَا، كَمَا بَسَطَ ذَلِكَ فِي الْفَتْحِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَقَالَ:" احْتَرَقْتُ احْتَرَقْتُ "، أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ مَجَازًا عَنِ الْعِصْيَانِ، أَوْ أَنَّهُ يَحْتَرِقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْإِثْمِ يَسْتَحِقُّ عَذَابَ النَّارِ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي بِجَعْلِ الْمُتَوَقَّعِ كَالْوَاقِعِ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا ذَاكَ؟) الَّذِي هَلَكْتَ بِهِ، وَلِأَحْمَدَ: الَّذِي أَهْلَكَكَ (قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي) أَيْ: جَامَعْتُ زَوْجَتِي، وَفِي رِوَايَةٍ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ:" «وَطِئْتُ امْرَأَتِي» "، (وَأَنَا) أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي (صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ) قَالَ الْحَافِظُ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُشْتَقِّ بَقَاءُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ حَقِيقَةً لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ صَائِمًا مُجَامِعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ:" وَطِئْتُ " أَيْ: شَرَعْتُ فِي الْوَطْءِ، أَوْ أَرَادَ جَامَعْتُ بَعْدَ إِذْ أَنَا صَائِمٌ.
(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَسْتَطِيعُ) أَيْ: تَقْدِرُ (أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً؟ فَقَالَ: لَا) أَسْتَطِيعُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ:" «وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ» "، وَفِي أُخْرَى فَقَالَ:" «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا مَلَكْتُ رَقَبَةً قَطُّ» "، وَاسْتَدَلَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ إِيمَانِ الرَّقَبَةِ لِإِطْلَاقِهِ فِيهَا، وَاشْتَرَطَ إِيمَانَهَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ السَّوْدَاءِ:" «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» "، وَلِتَقْيِيدِهَا بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الصَّوْمُ وَالظِّهَارُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْأَبِيُّ بِأَنَّ حَمْلَ الْمُطَلَّقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا اتَّحَدَ الْمُوجَبُ، فَإِنِ اخْتَلَفَ كَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ فَالَّذِي يَنْقُلُهُ الْأُصُولِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ عَدَمَ
الْحَمْلِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
( «قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُهْدِيَ بَدَنَةً» ؟) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَحْفُوظٌ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ إِلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ.
وَنَقَلَ الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَا حَدَّثْتُهُ، إِنَّمَا بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ تَصَدَّقْ، وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَاسِمِ وَلَا يَخْرُجُ بِمِثْلِهِ عَطَاءٌ فَإِنَّهُ فَوْقَهُ فِي الشُّهْرَةِ بِحَمْلِهِ الْعِلْمَ وَشُهْرَتِهِ فِيهِ وَفِي الْخَبَرِ أَكْثَرَ مِنَ الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيُّ أَدْخَلَهُ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ بِهَذَا الْخَبَرِ فَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَسْنَدَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ ذِكْرَ الْبَدَنَةِ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، فَرَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:«أَعْتِقْ رَقَبَةً، ثُمَّ قَالَ: انْحَرْ بَدَنَةً» ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَكَذَا أَسْنَدَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا، إِلَّا أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَرَوْا نَحْرَ الْبَدَنِ عَمَلًا بِحَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَفْتَى بِذَلِكَ إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ غَلَطَ الثِّقَةِ فِي لَفْظٍ لَا يَقْتَضِي طَرْحَ حَدِيثِهِ وَلَا تَكْذِيبَهُ دَائِمًا بَلْ يُحْكَمُ بِغَلَطِهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَطْ، وَالَّذِي فِي الْأَحَادِيثِ قَالَ:" «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ (قَالَ: لَا) » ، وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا أَقْدِرُ "، وَلِلْبَزَّارِ: "«وَهَلْ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ» ؟ "، وَسَقَطَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: "«هَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا» "، وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ هَذِهِ كَفَّارَاتٍ لِفِطْرِ الصَّائِمِ عَمْدًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ أَوِ التَّخْيِيرِ أَنَّ مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً تَفْدِي نَفْسَهُ، وَقَدْ صَحَّ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، وَالصِّيَامُ كَالْمُقَاصَّةِ بِجِنْسِ الْجِنَايَةِ وَكَوْنُهُ شَهْرَيْنِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِمُصَابَرَةِ النَّفْسِ فِي حِفْظِ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ عَلَى الْوَلَاءِ، فَلَمَّا أَفْسَدَ مِنْهُ يَوْمًا كَانَ كَمَنْ أَفْسَدَ الشَّهْرَ كُلَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ بِالنَّوْعِ فَكُلِّفَ بِشَهْرَيْنِ مُضَاعَفَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ كُلِّ يَوْمٍ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ، (قَالَ: فَاجْلِسْ) ، قِيلَ: أَمَرَهُ بِذَلِكَ انْتِظَارًا لِمَا يَأْتِيهِ كَمَا وَقَعَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَجَاءُ فَضْلِ اللَّهِ أَوِ انْتِظَارُ وَحْيٍ يَنْزِلُ فِي أَمْرِهِ، ( «فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقِ تَمْرٍ» ) أَيْ فِيهِ تَمْرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ:«فَجَلَسَ فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَسُوقُ حِمَارًا عَلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ آنِفًا؟ فَقَامَ الرَّجُلُ» (فَقَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ)، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ فَقَالَ: إِلَى مَنْ أَدْفَعُهُ؟ فَقَالَ: إِلَى أَفْقَرَ مَنْ تَعْلَمُ (فَقَالَ: مَا أَحَدٌ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (أَحْوَجَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ هَكَذَا ضُبِطَ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ، (مِنِّي، فَقَالَ: كُلْهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَإِنَّمَا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ لِيَتَبَلَّغَ بِهِ وَتَبْقَى الْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ.
وَرُوِيَ: " «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» " وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِمَالِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَيُجْزِي عَنْهُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هَذَا
خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِبَقَاءِ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهُ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حِينَ أَمَرَهُ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَمَرَّ لَهُ مَزِيدٌ.
( «وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَ مَا أَصَبْتَ» ) فَفِي هَذَا إِلْزَامُ الْقَضَاءِ مَعَ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ، وَأَسْقَطَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا خَبَرِ عَائِشَةَ وَلَا فِي نَقْلِ الْحَافِظِ لَهُمَا ذِكْرُ الْقَضَاءِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ يُعْرَفُ بِمَجْمُوعِهَا أَنَّ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَصْلًا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: إِنْ كَفَرَ بِعِتْقٍ أَوْ إِطْعَامٍ قَضَى الْيَوْمَ، وَإِنْ صَامَ شَهْرَيْنِ دَخَلَ فِيهِمَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَنْكِيرِ " يَوْمًا " عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ، (قَالَ مَالِكٌ: قَالَ عَطَاءٌ) الْخُرَاسَانِيُّ (فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ: كَمْ فِي ذَلِكَ الْعَرَقِ مِنَ التَّمْرِ؟ فَقَالَ: مَا بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا إِلَى عِشْرِينَ)، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ عِشْرُونَ صَاعًا.
وَفِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ عِنْدَ مُسَدَّدٍ: فَأَمَرَ لَهُ بِبَعْضِهِ، وَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَمَنْ قَالَ عِشْرِينَ أَرَادَ أَصْلَ مَا كَانَ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَرَادَ قَدْرَ مَا تَقَعُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْكَافَّةِ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ لِأَنَّ الْعَرَقَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُ الْكَفَّارَةِ بِالْعَمْدِ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَهَا عَلَى النَّاسِي أَيْضًا مُتَمَسِّكًا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِفْسَارَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ هَلْ كَانَ عَمْدًا أَوْ عَنْ نِسْيَانٍ؟ وَتَرْكُ الِاسْتِفْسَارِ فِي الْفِعْلِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ الْحَالُ مِنْ قَوْلِهِ احْتَرَقْتُ وَهَلَكْتُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَأَيْضًا فَدُخُولُ النِّسْيَانِ فِي الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَإِنْ أَمْكَنَ.
(قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ بِإِصَابَةِ أَهْلِهِ نَهَارًا) عَمْدًا، (أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ) الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْأَوْلَى (الْكَفَّارَةُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ أَصَابَ أَهْلَهُ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ) لِأَنَّهَا لِحُرْمَةِ انْتِهَاكِهِ (وَإِنَّمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ) فَقَطْ، (قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ فِيهِ إِلَيَّ)
وَعَلَى هَذَا الْكَافَّةُ إِلَّا قَتَادَةَ وَحْدَهُ فَقَالَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِلَّا ابْنَ وَهْبٍ وَرِوَايَةً عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَجَعَلَا عَلَيْهِ قَضَاءَ يَوْمَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ الصَّائِمِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدُ فَكَانَ إِذَا صَامَ لَمْ يَحْتَجِمْ حَتَّى يُفْطِرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
10 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ الصَّائِمِ
662 -
660 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ قَالَ) نَافِعٌ (وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدُ) لَمَّا بَلَغَهُ فِيهَا، (فَكَانَ إِذَا صَامَ لَمْ يَحْتَجِمْ حَتَّى يُفْطِرَ) وَكَانَ مِنَ الْوَرَعِ بِمَكَانٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ الْبَاجِّي: لَمَّا كَبُرَ وَضَعُفَ خَافَ أَنْ تَضْطَرَّهُ الْحِجَامَةُ إِلَى الْفِطْرِ أَيْ فَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَالِ قُوَّةٍ يَأْمَنُ فِيهَا الضَّعْفَ ثُمَّ تَرَكَ خِيفَةَ الضَّعْفِ لَمَّا أَسَنَّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَا يَحْتَجِمَانِ وَهُمَا صَائِمَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
663 -
661 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) مَالِكٍ أَحَدُ الْعَشْرَةِ (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانَا يَحْتَجِمَانِ وَهُمَا صَائِمَانِ) ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ كَمَا قَالَ نَافِعٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ.
ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَفِعْلُ سَعِدٍ يُضَعِّفُ حَدِيثَهُ الْمَرْفُوعَ: " «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» "، وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» عَنْ غَيْرِ سَعْدٍ وَعِنْدِي أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» " لِأَنَّ فِي حَدِيثِ شَدَّادٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَامَ الْفَتْحِ عَلَى مَنْ يَحْتَجِمُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» .
وَابْنُ عَبَّاسٍ شَهِدَ مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَشَهِدَ حِجَامَتَهُ حِينَئِذٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ.
وَحَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا مَدْفَعَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَهُوَ نَاسِخٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ بَعْدَ ذَلِكَ رَمَضَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِوَفَاتِهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ مُتَعَارِضَةٌ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الصَّائِمَ عَلَى صَوْمِهِ لَا يَنْتَقِضُ إِلَّا بِسُنَّةٍ لَا مُعَارِضَ لَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ أَثَرِيَّةٌ لَا نَظَرِيَّةٌ وَقَدْ صَحَّ النَّسْخُ فِيهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَطْعَمَ رَجُلًا طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا لَمْ
يُفْطِرِ الْفَاعِلُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ ذَهَبَ أَجْرُهُمَا لِمَا عَلِمَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ كَخَبَرِ: " «مَنْ لَغَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» " أَيْ ذَهَبَ أَجْرُ جُمْعَتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَا مُغْتَابِينَ أَوْ قَاذِفِينَ فَبَطُلَ أَجْرُهُمَا لَا حُكْمُ صَوْمِهِمَا انْتَهَى.
وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ سَيُفْطِرَانِ نَحْوَ: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36](سُورَةُ يُوسُفَ الْآيَةُ: 36) وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مَعْنَاهُ تَعَرَّضَا لِلْإِفْطَارِ، وَأَمَّا الْحَاجِمُ فَلَا يَأْمَنُ وُصُولَ شَيْءٍ مِنَ الدَّمِ إِلَى جَوْفِهِ عِنْدَ الْمَصِّ، وَأَمَّا الْمَحْجُومُ فَلَا يَأْمَنُ ضَعْفَ قُوَّتِهِ بِخُرُوجِ الدَّمِ فَيَؤُولُ إِلَى الْفِطْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَفْطَرَا فَعَلَا مَكْرُوهًا وَهُوَ الْحِجَامَةُ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَلَبِّسِينَ بِالصِّيَامِ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: جَاءَ بَعْضُهُمْ بِأُعْجُوبَةٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» لِأَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَالْغِيبَةُ تُفَطِّرُ؟ قَالَ: لَا، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ.
قَالَ الْحَافِظُ: أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَعُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ وَفِيهِ مَتْرُوكٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ قَالَ وَمَا رَأَيْتُهُ احْتَجَمَ قَطُّ إِلَّا وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ مَالِكٌ لَا تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ إِلَّا خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَضْعُفَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تُكْرَهْ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا احْتَجَمَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ سَلِمَ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ آمُرْهُ بِالْقَضَاءِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي احْتَجَمَ فِيهِ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ إِنَّمَا تُكْرَهُ لِلصَّائِمِ لِمَوْضِعِ التَّغْرِيرِ بِالصِّيَامِ فَمَنْ احْتَجَمَ وَسَلِمَ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى يُمْسِيَ فَلَا أَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
664 -
662 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ وَمَا رَأَيْتُهُ احْتَجَمَ قَطُّ إِلَّا وَهُوَ صَائِمٌ) لِأَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ الصَّوْمَ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ يَحْتَجِمُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَكَى أَكْثَرَ أَفْعَالِهِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ ثَابِتًا سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ.
وَالَّذِي (قَالَ مَالِكٌ لَا تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ إِلَّا خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَضْعُفَ) فَيَلْجَأَ إِلَى الْفِطْرِ، (وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُكْرَهْ) لِأَنَّهَا إِخْرَاجٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَإِخْرَاجُ الْمَنِيِّ فِيهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ.
(وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا احْتَجَمَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ سَلِمَ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا) لِأَنَّ فَاعِلَ الْمَكْرُوهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، (وَلَمْ آمُرْهُ بِالْقَضَاءِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي احْتَجَمَ فِيهِ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ إِنَّمَا تُكْرَهُ لِلصَّائِمِ لِمَوْضِعِ التَّغْرِيرِ) بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءَيْنِ (بِالصِّيَامِ فَمَنِ احْتَجَمَ وَسَلِمَ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى يُمْسِيَ
فَلَا أَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ) وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ مَهْدِيٍّ: لَا يَجُوزُ فَإِنِ احْتَجَمَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَشَذَّ عَطَاءٌ فَقَالَ: إِنْ تَعَمَّدَ الِاحْتِجَامَ أَوِ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَإِنِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ: " «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتِقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» "، وَبِحَدِيثِ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ» "، قِيلَ: هَذِهِ حُجَّةٌ لَنَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ شَيْءٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ نَجَسٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُفْطِرُ، وَأَمَّا الْمُسْتَقِيءُ فَبِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ رُجُوعُ الْقَيْءِ بِتَرَدُّدِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ قَاءَ فَأَفْطَرَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَمَعْنَى قَاءَ اسْتِقَاءَ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ» "، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ:«رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُبْلَةِ وَالْحِجَامَةِ» لِلصَّائِمِ انْتَهَى.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «أَرْخَصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ» ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْعَزِيمَةِ فَدَلَّ عَلَى نَسْخِ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ.
[بَاب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ وَتُرِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
11 -
بَابُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
بِالْمَدِّ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ قَصْرُهُ، وَزَعَمَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَنَّهُ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لَا يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، رَدَّهُ عَلَيْهِ ابْنُ دِحْيَةَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْبَابِ وَبِغَيْرِهِ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدِهِمْ أَنَّهُ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَهُوَ مُقْتَضَى الِاشْتِقَاقِ وَالتَّسْمِيَةِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَاشُورَاءُ مَصْدَرٌ مَعْدُولٌ عَنْ عَاشِرٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ، هُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِلَيْلَةِ الْعَاشِرِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْعَقْدِ وَالْيَوْمُ مُضَافٌ إِلَيْهَا، فَإِذَا قِيلَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا بِهِ عَنِ الصِّفَةِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةُ فَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَوْصُوفِ فَحَذَفُوا اللَّيْلَةَ فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَمًا عَلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ. وَقِيلَ هُوَ تَاسِعُ الْمُحَرَّمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فَعَلَى الْأَوَّلِ الْيَوْمُ مُضَافٌ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَعَلَى الثَّانِي مُضَافٌ لِلَّيْلَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ: " «قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا، قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؟ قَالَ، نَعَمْ» "، وَفِي الْمُصَنَّفِ عَنِ الضَّحَّاكِ: عَاشُورَاءُ يَوْمُ التَّاسِعِ قِيلَ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِشْرِ بِالْكَسْرِ فِي أَوْرَادِ الْإِبِلِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: وَرَدَتِ الْإِبِلُ عِشْرًا إِذَا وَرَدَتِ الْيَوْمَ التَّاسِعِ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ فِي الْإِظْمَاءِ يَوْمَ الْوُرُودِ، فَإِذَا قَامَتْ فِي الرَّعْيِ يَوْمَيْنِ ثُمَّ وَرَدَتْ فِي الثَّالِثِ قَالُوا: وَرَدَتْ رِبْعًا، وَإِنْ رَعَتْ ثَلَاثًا وَفِي الرَّابِعِ وَرَدَتْ قَالُوا: وَرَدَتْ خِمْسًا، وَإِنْ بَقِيَتْ فِيهِ ثَمَانِيَةً وَوَرَدَتْ فِي التَّاسِعِ قَالُوا: وَرَدَتْ عِشْرًا، فَيَحْسَبُونَ فِي كُلِّ هَذَا بَقِيَّةَ الْيَوْمِ الَّذِي وَرَدَتْ
فِيهِ وَأَوَّلَ الْيَوْمِ الَّذِي تَرِدُ فِيهِ بَعْدَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّاسِعُ عَاشُورَاءَ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ: الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا أَنَّهُ الْعَاشِرُ وَهُوَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَتَقْدِيرُ أَخْذِهِ مِنَ الْإِظْمَاءِ بِعِيدٌ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّانِي يُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَامَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم» "، فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَصُومُهُ لَيْسَ هُوَ التَّاسِعَ فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ الْعَاشِرَ، وَالتَّاسِعُ لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَعَلَّهُ لَوْ بَلَغَهُ صَامَهُ مَعَ الْعَاشِرِ كَمَا فِي حَدِيثِ:" «فَصُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ» "، وَإِلَى اسْتِحْبَابِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ حَتَّى لَا يَتَشَبَّهَ بِالْيَهُودِ فِي إِفْرَادِ الْعَاشِرِ، وَقِيلَ: لِلِاحْتِيَاطِ فِي تَحْصِيلِ عَاشُورَاءَ لِلْخِلَافِ فِيهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ.
665 -
663 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُمُ اقْتَدَوْا فِي صِيَامِهِ بِشَرْعٍ سَالِفٍ وَلِذَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ بِكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فِيهِ، لَكِنْ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ مِنْ مَجَالِسِ الْبَاغَنْدِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ قُرَيْشٍ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: أَذْنَبَتْ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَظُمَ فِي صُدُورِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ صُومُوا عَاشُورَاءَ يُكَفِّرْهُ.
وَفِي الْإِكْمَالِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ مُسَمَّيَاتُهَا لُغَةً أَوْ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْهَا وَوَضَعَهَا عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ؟ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ سُنَنَ الْعَرَبِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، فَعَرَفُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَتَقَرَّبُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَمَا خَاطَبَهُمُ الشَّرْعُ إِلَّا بِمَا عَرَفُوهُ تَحْقِيقًا لَا أَنَّهُ أَتَاهُمْ بِأَلْفَاظٍ ابْتَدَعَهَا لَهُمْ أَوْ بِأَلْفَاظٍ لُغَوِيَّةٍ لَا يُعْرَفُ مِنْهَا الْمَقْصُودُ إِلَّا رَمْزًا كَمَا قَالَ الْمُخَالِفُ، ( «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» ) يُحْتَمَلُ بِحُكْمِ الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ كَالْحَجِّ أَوْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي صِيَامِهِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
( «فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ» ) فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِلَا رَيْبٍ (صَامَهُ) عَلَى عَادَتِهِ، (وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ رِوَايَتَانِ اقْتَصَرَ عِيَاضٌ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ كَمَا اسْتَأْلَفَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِمْ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَمْ يَصُمْهُ اقْتِدَاءً بِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ مُوَافَقَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنْهَ
عَنْهُ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بُعِثَ تَرَكَ صَوْمَهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ ( «فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ» ) أَيْ صِيَامُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ (كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ) بِالنَّصْبِ ( «وَتَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَحَتَّمًا، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعِ الْأَمْرُ بِصَوْمِهِ إِلَّا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِفَرْضِيَّتِهِ فَقَدْ نُسِخَ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَدَّدَ لِلنَّاسِ أَمْرًا بِصِيَامِهِ بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَانَ، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ عَنْ صِيَامِهِ، فَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ بِصِيَامِهِ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ لِلْوُجُوبِ فَفِي نَسْخِ الِاسْتِحْبَابِ إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَإِنْ كَانَ لِلِاسْتِحْبَابِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ.
وَفِي الْإِكْمَالِ قِيلَ: كَانَ صَوْمُهُ صَدْرَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ رَمَضَانَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقِيلَ: كَانَ سُنَّةً مُرَغَّبًا فِيهِ ثُمَّ خُفِّفَ فَصَارَ مُخَيَّرًا فِيهِ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَمْ يَزَلْ فَرْضُهُ بَاقِيًا لَمْ يُنْسَخْ وَانْقَرَضَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا وَحَصَلَ الْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِهِ، وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ قَصْدَ صِيَامِهِ بِالتَّعْيِينِ لِحَدِيثٍ جَاءَ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شَاءَ. . . إِلَخْ، وَحَدِيثُ:" «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ» " ظَاهِرَانِ فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جَرِيرٌ وَغَيْرُهُ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ «يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
666 -
664 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ)، قَالَ الْحَافِظُ: هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيَّ، وَهُوَ وَأَبُوهُ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَقِيلَ: أَسْلَمَ مُعَاوِيَةُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَكَتَمَ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ أَمِيرًا عِشْرِينَ سَنَةً وَخَلِيفَةً عِشْرِينَ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكِ، (يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ) وَكَانَ أَوَّلُ حَجَّةٍ حَجَّهَا بَعْدَ الْخِلَافَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَآخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَجَّةُ الْأَخِيرَةُ وَكَأَنَّهُ تَأَخَّرَ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَاشُورَاءَ (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) بِالْمَدِينَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ.
وَقَالَ فِي قَدْمَةٍ قَدِمَهَا
(يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يُوجِبُهُ أَوْ يُحَرِّمُهُ أَوْ يَكْرَهُهُ فَأَرَادَ إِعْلَامَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَاسْتِدْعَاؤُهُ الْعُلَمَاءَ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ، أَوِ اسْتِعَانَةً بِمَا عِنْدَهُمْ عَلَى مَا عِنْدَهُ، أَوْ تَوْبِيخًا أَنَّهُ رَأَى أَوْ سَمِعَ مَنْ خَالَفَهُ، وَقَدْ خَطَبَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ لَهُمُ اهْتِمَامًا بِصِيَامِهِ، فَلِذَا سَأَلَ عَنْ عُلَمَائِهِمْ.
( «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ: هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ» ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (صِيَامُهُ) نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَفِي رِوَايَةٍ:" «وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ» "، ( «وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» ) هَذَا مِنَ الْمَرْفُوعِ، فَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ:" «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي هَذَا الْيَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» "، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَطُّ وَلَا نُسِخَ بِرَمَضَانَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ فَإِنْ كَانَ سَمِعَ هَذَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَإِنَّمَا سَمِعَهُ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَذَلِكَ بَعْدَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ، فَمَعْنَى " لَمْ يُكْتَبْ " لَمْ يُفْرَضْ بَعْدَ إِيجَابِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي وُجُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ سَمِعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ قَبْلَ افْتِرَاضِهِ، وَنُسِخَ عَاشُورَاءُ بِرَمَضَانَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي قَبْلَهُ وَكَوْنُ لَفْظِ أُمِرَ فِي قَوْلِهَا وَأُمِرَ بِصِيَامِهِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الصِّيغَةِ الطَّالِبَةِ نَدْبًا وَإِيجَابًا مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقَوْلُهَا فُرِضَ رَمَضَانُ. . . إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النَّدْبِ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى الْآنِ فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ غَدًا يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَصُمْ وَأْمُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَصُومُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
666 -
665 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْمَكِّيِّ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَكَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ سَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ كَمَا مَرَّ وَاسْتُشْهِدَ بِالشَّامِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ ( «أَنَّ غَدًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَصُمْ وَأْمُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَصُومُوا» ) كَأَنَّ الْإِمَامَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَصَدَ بِإِيرَادِ هَذَا بَعْدَ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ تَخْيِيرَهُ فِيهِمَا إِنَّمَا كَانَ لِسُقُوطِ وُجُوبِ صِيَامِهِ لَا أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ، فَلَمَّا سَقَطَ وُجُوبُهُ
صِيمَ عَلَى جِهَةِ الْفَضْلِ وَلِأَمْرِ عُمَرَ بِهِ فِي خِلَافَتِهِ وَكَذَا عَلِيٌّ رَوَى قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَقَدْ صَامَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وُجُوبِ رَمَضَانَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ تَبَرُّرًا، وَفَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَهُ أَصْحَابُهُ رضي الله عنهم، أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عُمَرَ.
[بَاب صِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَالدَّهْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى» وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ لَا بَأْسَ بِصِيَامِ الدَّهْرِ إِذَا أَفْطَرَ الْأَيَّامَ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهَا وَهِيَ أَيَّامُ مِنًى وَيَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمُ الْفِطْرِ فِيمَا بَلَغَنَا قَالَ وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
12 -
بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى وَالدَّهْرِ
668 -
666 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ الثَّقِيلَةِ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ» ) نَهْيَ تَحْرِيمٍ (يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى) فَصِيَامُهُمَا حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ مُتَطَوِّعٍ وَنَاذِرٍ وَقَاضٍ فَرْضًا وَمُتَمَتِّعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَصُومُهُمَا مَنْ نَذَرَهُمَا لِحَدِيثِ: " «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» "، قَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ أَحَدِ الْعِيدَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْضِي وَإِنْ صَامَهُ أَجْزَأَهُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ حَدِيثُ:" «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ» "، وَقَضَاؤُهُ لَيْسَ مِنْ لَفْظِ النَّاذِرِ فَلَا مَعْنَى لِإِلْزَامِهِ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْجُمْهُورَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ النَّاسَ كُلَّهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: أَصْلُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ هَلْ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟ قَالَ الْأَكْثَرُ لَا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: نَعَمْ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ مُمْكِنٌ وَإِذَا أَمْكَنَ ثَبَتَتِ الصِّحَّةُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِمْكَانَ الْمَذْكُورَ عَقْلِيٌّ وَالنِّزَاعُ فِي الشَّرْعِيِّ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ شَرْعًا، لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ شَرْعًا، وَمِنْ حُجَجِ الْمَانِعِينَ أَنَّ النَّفْلَ الْمُطْلَقَ إِذَا نُهِيَ عَنْ فِعْلِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ مَطْلُوبُ التَّرْكِ سَوَاءٌ كَانَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ، وَالنَّفْلَ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ، فَلَا يَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ ذِي الْوَجْهَيْنِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْإِقَامَةِ فِي الْمَغْصُوبِ لَيْسَتْ لِذَاتِ الصَّلَاةِ بَلْ لِلْإِقَامَةِ، وَطَلَبُ الْفِعْلِ لِذَاتِ الْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فَالنَّهْيُ فِيهِ لِذَاتِ الصَّوْمِ فَافْتَرَقَا انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَأَعَادَهُ الْإِمَامُ فِي الْحَجِّ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ.
- (مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا بَأْسَ بِصِيَامِ الدَّهْرِ) أَيْ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِهِ
بِلَا كُرْهٍ وَإِلَّا فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ صِيَامٌ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ (إِذَا أَفْطَرَ الْأَيَّامَ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهَا وَهِيَ أَيَّامُ مِنًى) ثَلَاثَةٌ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: " لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجْدِ الْهَدْيَ " وَلِهَذَا حُكْمُ الرَّفْعِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَلِلطَّحَاوِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: " «رَخَّصَ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ» "، وَرَوَى الْإِمَامُ فِي الْحَجِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:" «إِنَّهَا الْأَيَّامُ الَّتِي نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِنَّ وَأَمَرَنَا بِفِطْرِهِنَّ» "، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ.
وَفِي مُسْلِمٍ «عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَأَوْسُ بْنُ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» "، زَادَ أَصْحَابُ السُّنَنِ: وَذِكْرِ اللَّهِ فَلَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ.
(وَيَوْمُ الْأَضْحَى وَالْفِطَرِ) لِحَدِيثِ الْبَابِ (فِيمَا بَلَغَنَا قَالَ) ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَفِي نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَيَّامٍ ذَكَرَهَا دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ مَا عَدَاهَا، (وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ الدَّهْرِ لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا وَعَقَدَ بِيَدِهِ» "، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُهَا، " وَعَلَى " بِمَعْنَى " عَنْ " أَيْ ضُيِّقَتْ عَنْهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لِأَنَّهُ لَمَّا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ مَسَالِكَ الشَّهَوَاتِ بِالصَّوْمِ ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ فَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهَا مَكَانٌ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ طُرُقَهَا بِالْعِبَادَةِ.
وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ بِكَرَاهَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: مَنْ صَامَ الدَّهْرَ أَثِمَ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: " «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ مَرَّتَيْنِ» "، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ دُعَاءً فَيَا وَيْحَ مَنْ أَصَابَهُ دُعَاءُ الْمُصْطَفَى، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَيَا وَيْحَ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَصُمْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِهِ أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ النَّهْيَ كَانَ خِطَابًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَفِي مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ عَجَزَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَنَدِمَ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَهَاهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَعْجِزُ، وَأَقَرَّ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ بِلَا ضَرَرٍ وَبِأَنَّ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا يَجِدُهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَادَهُ لَمْ يَجِدْ فِي صَوْمِهِ مَشَقَّةً.
وَتَعَقَبَّهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسِيَاقِ الْحَدِيثِ، أَلَا تَرَاهُ نَهَاهُ أَوَّلًا عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ كُلِّهِ ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُدَ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الشَّرْعِ، وَبِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِأَنْ يَصُومَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَبِهَذَا أَجَابَتْ عَائِشَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٌ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ:«لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنْ لَا أَجْرَ وَلَا إِثْمَ.
وَمَنْ صَامَ الْأَيَّامَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يُقَالُ فِيهِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عِنْدَ مَنْ أَجَازَهُ إِلَّا إِيَّاهَا يَكُونُ قَدْ فَعَلَ
مُسْتَحَبًّا وَحَرَامًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَيَّامَ الْمُحَرَّمَةَ مُسْتَثْنَاةٌ شَرْعًا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ فَلَمْ تَدْخُلْ فِي السُّؤَالِ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَا يَصْلُحُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ:" «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» " لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي صَوْمِ وَفِطْرِ يَوْمٍ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: هُوَ أَفْضَلُ مِنَ السَّرْدِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْضِيلِ السَّرْدِ وَتَخْصِيصِ هَذَا الْحَدِيثِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ، وَتَقْدِيرُهُ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو عَنِ السَّرْدِ وَيُرْشِدْهُ إِلَى يَوْمٍ وَيَوْمٍ، وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ فِي حَقِّ كُلِّ النَّاسِ لَأَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لَهُ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَاب النَّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْوِصَالِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ فَقَالَ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
13 -
بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ
قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ بِهِ وَصْلَ صَوْمِ يَوْمٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ آخَرَ.
670 -
667 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ الْوِصَالِ» ) ، وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمْ "، ( «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ» ) لَمْ يُسَمِّ الْقَائِلُونَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ رِجَالٌ بِالْجَمْعِ وَكَانَ الْقَائِلُ وَاحِدٌ وَنُسِبَ إِلَى الْجَمْعِ لِرِضَاهُمْ بِهِ، وَفِيهِ اسْتِوَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى فَطَلَبُوا الْجَمْعَ بَيْنَ نَهْيِهِ وَفِعْلِهِ الدَّالِّ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَأَجَابَهُمْ بِاخْتِصَاصِهِ بِهِ، ( «فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ» ) أَيْ لَيْسَ حَالِي كَحَالِكُمْ، أَوْ لَفْظُ هَيْئَةٍ زَائِدٌ، وَالْمُرَادُ لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، وَلِلتِّنِّيسِيِّ: لَسْتُ مِثْلَكُمْ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي أَيْ لَسْتُمْ عَلَى صِفَتِي وَمَنْزِلَتِي مِنْ رَبِّي.
( «إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى» ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا حَقِيقَةً فَيُؤْتَى بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَرَامَةً لَهُ فِي لَيَالِي صَوْمِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ مُوَاصِلًا، وَيَشْهَدُ لَهُ رِوَايَةُ: أَظَلُّ يُطْعِمُنِي لِأَنَّ " أَظَلُّ " لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنَّهَارِ وَالْأَكْلُ فِيهِ مَمْنُوعٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ
طَعَامَ الْجَنَّةِ وَشَرَابَهَا لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ التَّكْلِيفِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يُفْطِرُ شَرْعًا إِنَّمَا هُوَ الطَّعَامُ الْمُعْتَادُ، وَأَمَّا الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ كَالْمُحْضَرِ مِنَ الْجَنَّةِ فَعَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ تَعَاطِيهِ مِنْ جِنْسِ الْأَعْمَالِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الثَّوَابِ كَأَكْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْكَرَامَةُ لَا تُبْطِلُ الْعِبَادَةَ فَلَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ صَوْمُهُ وَلَا يَنْقَطِعُ وِصَالُهُ وَلَا يَنْقُصُ أَجْرُهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ لَازِمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ الْقُوَّةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُعْطِينِي قُوَّةَ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ وَيَفِيضُ عَلَيَّ مَا يَسُدُّ مَسَدَّهُمَا وَيُقَوِّي عَلَى أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فِي الْقُوَّةِ وَلَا كَلَالٍ فِي الْإِحْسَاسِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِ مِنَ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ مَا يُغْنِيهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَا يُحِسُّ بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ يُعْطَى الْقُوَّةَ بِلَا شِبَعٍ وَلَا رِيٍّ بَلْ مَعَ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ.
وَعَلَى الثَّانِي: يُعْطَى الْقُوَّةَ مَعَهُمَا.
وَرَجَّحَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّ الثَّانِي يُنَافِي حَالَ الصَّائِمِ وَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّوْمِ وَالْوِصَالِ لِأَنَّ الْجُوعَ هُوَ رُوحُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِخُصُوصِهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُبْعِدُهُ أَيْضًا النَّظَرُ إِلَى حَالِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ يَجُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْبَعُ، وَيَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحِجَارَةَ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ النَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ وَلَوْ إِلَى السَّحَرِ لِعُمُومِ النَّهْيِ وَلِحَدِيثِ:" «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ» "، وَقِيلَ: لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ وَقَالُوا: النَّهْيُ عَنْهُ رَحْمَةٌ وَتَخْفِيفٌ فَمَنْ قَدَرَ فَلَا حَرَجَ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ: " «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ» "، وَرُدَّ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ لَا تَمْنَعُ النَّهْيَ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنَّهُ كَرِهَهُ لَهُمْ أَوْ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَعَلَى جَوَازِهِ فَإِنَّمَا يُصَامُ اللَّيْلُ تَبَعًا لِلنَّهَارِ، فَأَمَّا أَنْ يُفْرَدَ بِالصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ، وَأَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى السَّحَرِ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا:" «لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ» "، وَعَارَضَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ:" «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» "، قَالَ: فَالْوِصَالُ خُصُوصٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُوَاصِلُ لَا يَنْتَفِعُ بِوِصَالِهِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَوْضِعًا لِلصَّوْمِ، وَلَا مَعْنَى لِطَلَبِ الْفَضْلِ فِي الْوِصَالِ إِلَى السَّحَرِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَوَاهُ لِحَدِيثِ:" «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» "، وَقَالَتْ عَائِشَةُ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم أَعْجَلَ النَّاسِ فِطْرًا» " انْتَهَى.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبِ الصِّيَامَ بِاللَّيْلِ فَمَنْ صَامَ فَقَدْ تَعَنَّى وَلَا أَجْرَ لَهُ» "، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: مَا أَرَى عُبَادَةَ سَمِعَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «عَنْ لَيْلَى امْرَأَةِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَتْ: " أَرَدْتُ أَنْ أَصُومَ يَوْمَيْنِ مُوَاصَلَةً فَمَنَعَنِي بَشِيرٌ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ وَقَالَ: يَفْعَلُ ذَلِكَ النَّصَارَى، وَلَكِنْ صُومُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) فَإِذَا كَانَ
اللَّيْلُ فَأَفْطِرُوا» "، وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جُوَيْرِيَةُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَأَيُّوبُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
671 -
668 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ» ) نُصِبَ عَلَى التَّحْذِيرِ أَيِ احْذَرُوا الْوِصَالَ ( «إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ» ) ذَكَرَهُ مَرَّتَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» "، (قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي) بِضَمِّ الْيَاءِ (رَبِّي وَيَسْقِينِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ كَقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ فِي الشُّعَرَاءِ حَالَةَ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مُرَاعَاةً لِلْأَصْلِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي الْوَصْلِ فَقَطْ مُرَاعَاةً لِلْأَصْلِ وَالرَّسْمِ فَإِنَّهَا رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ بِحَذْفِ الْيَاءِ، وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي فَيُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» "، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" «إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ» "، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مُطْلَقِ الْكَوْنِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ هُوَ الْإِمْسَاكُ لَيْلًا لَا نَهَارًا، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا هُوَ بِلَفْظِ " أَبِيتُ "، فَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ " أَظَلُّ " نَظَرًا إِلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي مُطْلَقِ الْكَوْنِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58](سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ 58) فَالْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِنَهَارٍ دُونَ لَيْلٍ، وَآثَرَ اسْمَ الرَّبِّ دُونَ اسْمِ الذَّاتِ فَلَمْ يَقُلْ يُطْعِمُنِي اللَّهُ لِأَنَّ التَّجَلِّيَ بِاسْمِ الرُّبُوبِيَّةِ أَقْرَبُ إِلَى الْعِبَادِ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ لِأَنَّهَا تَجَلِّي عَظَمَةٍ لَا طَاقَةَ لِلْبَشَرِ بِهَا، وَتَجَلِّي الرُّبُوبِيَّةِ تَجَلِّي رَحْمَةٍ وَشَفَقَةٍ وَهِيَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَقَامِ.
نَعَمْ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَظَلُّ عِنْدَ اللَّهِ وَكَأَنَّهَا بِالْمَعْنَى، فَرِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا عِنْدَ رَبِّي، وَمَرَّ أَنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ مَجَازٌ عَنْ لَازِمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ الْقُوَّةُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا وَمَرَّ جَوَابُهُ، وَقِيلَ: كَانَ يُؤْتَى بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ فِي النَّوْمِ فَيَسْتَيْقِظُ وَهُوَ يَجِدُ الرِّيَّ وَالشِّبَعَ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: مَعْنَاهُ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ تَشْغَلُنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْحُبُّ الْبَالِغُ يَشْغَلُ عَنْهُمَا.
وَجَنَحَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَشْغَلُهُ بِالتَّفَكُّرِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّمَلِّي بِمُشَاهَدَتِهِ، وَالتَّغَذِّي بِمَعَارِفِهِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ
بِمَحَبَّتِهِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي مُنَاجَاتِهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَنَعِيمُ الْأَرْوَاحِ وَقُرَّةُ الْعَيْنِ وَبَهْجَةُ النُّفُوسِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلِلْقَلْبِ بِهَا وَالرُّوحِ أَعْظَمُ غِذَاءٍ وَأَنْفَعُهُ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ غِذَاءِ الْأَجْسَامِ، وَمَنْ لَهُ أَدْنَى شَوْقٍ وَتَجْرِبَةٍ يَعْلَمُ اسْتِغْنَاءَ الْجِسْمِ بِغِذَاءِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْغِذَاءِ الْجُسْمَانِيِّ، وَلَا سِيَّمَا الْفَرْحَانُ الظَّافِرُ بِمَطْلُوبِهِ الَّذِي قَرَّتْ عَيْنُهُ بِمَحْبُوبِهِ كَمَا قِيلَ: لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكِ تَشْغَلُهَا عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
وَقَدْ زَادَ فِي رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " «فَاكْلَفُوا مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ» "، وَزَادَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" «فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ» " كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا.
وَبِهِ اسْتَدَلَّ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَلَى التَّحْرِيمِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ لَمْ يُخَالِفُوهُ كَمَا لَمْ يُخَالِفُوهُ بِصَوْمِ الْعِيدَيْنِ وَلَمَا وَاصَلَ بِهِمْ، وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ بِأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ، وَأَمَّا مُوَاصَلَتُهُ بَعْدَ نَهْيِهِ فَلَيْسَتْ تَقْرِيرًا بَلْ تَقْرِيعًا وَتَنْكِيلًا، فَاحْتُمِلَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ النَّهْيِ فِي تَأْكِيدِ زَجْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا بَاشَرُوهُ ظَهَرَتْ لَهُمْ حِكْمَةُ النَّهْيِ، فَكَانَ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِمْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَلِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنَ الْوِصَالِ وَأَرْجَحُ، وَوَظَائِفِ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْجُوعُ الشَّدِيدُ يُنَافِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى تَعَسُّفُهُ إِذِ احْتِمَالُ فِعْلِ الْحَرَامِ لِمَصْلَحَةِ الزَّجْرِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، إِذْ لَوْ قَالَ لَهُمْ حَرَامٌ لَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ بُعْدًا عَنْهُ وَلَمْ يُخَالِفُوهُ كَمَا لَمْ يُخَالِفُوهُ فِي الْعِيدَيْنِ.
[بَاب صِيَامِ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَإٍ أَوْ يَتَظَاهَرُ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي قَتْلِ خَطَأٍ أَوْ تَظَاهُرٍ فَعَرَضَ لَهُ مَرَضٌ يَغْلِبُهُ وَيَقْطَعُ عَلَيْهِ صِيَامَهُ أَنَّهُ إِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ وَقَوِيَ عَلَى الصِّيَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ وَهُوَ يَبْنِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ صِيَامِهِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهَا الصِّيَامُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً إِذَا حَاضَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ صِيَامِهَا أَنَّهَا إِذَا طَهُرَتْ لَا تُؤَخِّرُ الصِّيَامَ وَهِيَ تَبْنِي عَلَى مَا قَدْ صَامَتْ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يُفْطِرَ إِلَّا مِنْ عِلَّةٍ مَرَضٍ أَوْ حَيْضَةٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَيُفْطِرَ قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
14 -
بَابُ صِيَامِ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَأً أَوْ يَتَظَاهَرُ
(قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي قَتْلِ خَطَأٍ) الْمَنْصُوصُ عَلَى تَتَابُعِهِمَا فِيهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ (أَوْ تَظَاهُرٍ) مِنْ نِسَائِهِمْ كَذَلِكَ (فَعَرَضَ لَهُ مَرَضٌ يَغْلِبُهُ) بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ بَعْدَمَا صَامَ بَعْضَ الشَّهْرَيْنِ (وَيَقْطَعُ عَلَيْهِ صِيَامَهُ) بِالْفِطْرِ (أَنَّهُ إِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ) وَأَتَى بِقَوْلِهِ (وَقَوِيَ عَلَى الصِّيَامِ) لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ صِحَّتِهِ مِنَ الْمَرَضِ قُوَّتُهُ (فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ) أَيْ وَصْلَ صَوْمِهِ بِمَا مَضَى قَبْلَ
مَرَضِهِ (وَهُوَ يَبْنِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ صِيَامِهِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ فَإِنْ لَمْ يَبْنِ أَخَّرَ وَاسْتَأْنَفَ الشَّهْرَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ قَيَّدَ بِالتَّتَابُعِ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ فَأُبِيحَ لَهُ فِطْرُ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّوْمُ كَالْمَرَضِ، فَإِذَا زَالَ وَصَلَهُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ.
(وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهَا الصِّيَامُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً) لِعَدَمِ وِجْدَانِهَا رَقَبَةً تُعْتِقُهَا (إِذَا حَاضَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ) تَثْنِيَةُ ظَهْرٍ (صِيَامِهَا أَنَّهَا إِذَا طَهُرَتْ لَا تُؤَخِّرُ الصِّيَامَ وَهِيَ تَبْنِي عَلَى مَا قَدْ صَامَتْ) فَإِنْ لَمْ تَبْنِ اسْتَأْنَفَتِ الشَّهْرَيْنِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ الْحَائِضَ إِذَا وَصَلَتْ قَضَاءَ أَيَّامِ حَيْضِهَا بِصِيَامِهَا أَنَّهُ يُجْزِيهَا، وَفِي الْمَرِيضِ خِلَافٌ فَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ: يَسْتَأْنِفُ الصِّيَامَ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
(وَلَيْسَ لِأَحَدٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يُفْطِرَ إِلَّا مِنْ عِلَّةِ مَرَضٍ أَوْ حَيْضَةٍ) بِجَرِّهِمَا عَطْفُ بَيَانٍ لِعِلَّةٍ أَوْ بَدَلٌ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَيَجْرِي النِّسْيَانُ مَجْرَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، ابْنُ زَرْقُونَ يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ نَاسِيًا فِي يَوْمٍ بَيَّتَ صَوْمَهُ، وَأَمَّا إِنْ بَيَّتَ الْفِطْرَ نَاسِيًا فَلَا.
(وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَيُفْطِرَ) بَلْ يَصُومُ فَإِنْ أَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مَعَهُ الصَّوْمُ وَإِنْ لَحِقَتْهُ فِيهِ مَشَقَّةٌ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ) أَيْ لَيْسَ لَهُ الْفِطْرُ إِنْ سَافَرَ فَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ مَعَ قَوْلِهِ أَوَّلًا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
[بَاب مَا يَفْعَلُ الْمَرِيضُ فِي صِيَامِهِ]
قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا أَصَابَهُ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهُ وَيُتْعِبُهُ وَيَبْلُغُ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ وَبَلَغَ مِنْهُ وَمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِعُذْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَا تَبْلُغُ صِفَتُهُ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ صَلَّى وَهُوَ جَالِسٌ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ وَقَدْ أَرْخَصَ اللَّهُ لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ أَقْوَى عَلَى الصِّيَامِ مِنْ الْمَرِيضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَأَرْخَصَ اللَّهُ لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ أَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ مِنْ الْمَرِيضِ فَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
15 -
بَابُ مَا يَفْعَلُ الْمَرِيضُ فِي صِيَامِهِ
(قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْأَمْرُ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا أَصَابَهُ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهُ وَيُتْعِبُهُ وَيَبْلُغُ ذَلِكَ) أَيِ الْمَشَقَّةَ وَالْإِتْعَابَ (مِنْهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ)، قَالَ الْبَاجِيُّ: قَدْرُ الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُقَدَّرَ بِنَفْسِهِ وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا شَيْءٌ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ فَإِذَا بَلَغَ الْمَرِيضُ حَالًا لَا يَقْدِرُ مَعَهَا عَلَى الصِّيَامِ أَوْ تَيَقَّنَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ بِهِ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ جَازَ الْفِطْرُ، قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 184) ، فَإِذَا صَحَّ كَوْنُهُ مَرِيضًا صَحَّ لَهُ الْفِطْرُ، (وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ وَبَلَغَ مِنْهُ وَمَا) الْوَاوُ زَائِدَةٌ (اللَّهُ أَعْلَمُ بِعُذْرِ) بِالْعَيْنِ وَالذَّالِ مُعْجَمَةٍ وَاحِدُ الْأَعْذَارِ، (ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَا تَبْلُغُ صِفَتُهُ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ صَلَّى وَهُوَ جَالِسٌ) لِلْعُذْرِ، (وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ) كَمَا قَالَ:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 185) ، وَالْكَلَامُ فِي الْفَرْضِ، فَالنَّافِلَةُ يَجُوزُ الْجُلُوسُ فِيهَا بِلَا عُذْرٍ.
(وَقَدْ أَرْخَصَ اللَّهُ لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ أَقْوَى عَلَى الصِّيَامِ مِنَ الْمَرِيضِ) هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُولَى.
(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] أَيْ فَعَلَيْهِ عَدَدُ مَا أَفْطَرَ {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] يَصُومُهَا بَدَلَهُ (فَأَرْخَصَ اللَّهُ لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ أَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ مِنَ الْمَرِيضِ)، قَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ إِلَّا لِخَوْفِ الْهَلَاكِ دُونَ الْمَشَقَّةِ الزَّائِدَةِ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ وَلَكِنَّهُ خَافَ اعْتِرَاضَ مُعْتَرِضٍ فَتَبَرَّعَ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَبِهِ سَقَطَ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الْمَرِيضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَ السَّفَرِ، لَكِنْ قَدْ يَتَأَكَّدُ قَوْلُهُ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ بِقَوْلِهِ (فَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ) فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ سَمِعَ غَيْرَهُ وَمَا أَحَبَّهُ، (وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ) أَيْ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قِيلَ: لَا يُفْطَرُ لِخَشْيَةِ زِيَادَةِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ ظَنٌّ لَا يَقِينٌ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ بِيَقِينٍ، فَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ الْبَاجِيُّ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا نَفَى عِلْمَهُ فَلَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ عَلِمَهُ.
[بَاب النَّذْرِ فِي الصِّيَامِ وَالصِّيَامِ عَنْ الْمَيِّتِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فَقَالَ سَعِيدٌ لِيَبْدَأْ بِالنَّذْرِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
16 -
النَّذْرُ فِي الصِّيَامِ وَالصِّيَامُ عَنِ الْمَيِّتِ
669 -
(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بِكَسْرِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ؟) قَبْلَ صَوْمٍ نَذَرَهُ (فَقَالَ سَعِيدٌ: لِيَبْدَأْ بِالنَّذْرِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ) ، هَذَا عَلَى الِاخْتِيَارِ وَاسْتِحْسَانِ الْبِدَارِ إِلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّطَوُّعِ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
قَالَ مَالِكٌ وَبَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ مِثْلُ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ مِنْ رَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ فَأَوْصَى بِأَنْ يُوَفَّى ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَالْبَدَنَةَ فِي ثُلُثِهِ وَهُوَ يُبَدَّى عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ الْوَصَايَا إِلَّا مَا كَانَ مِثْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْ النُّذُورِ وَغَيْرِهَا كَهَيْئَةِ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ خَاصَّةً دُونَ رَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي رَأْسِ مَالِهِ لَأَخَّرَ الْمُتَوَفَّى مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَصَارَ الْمَالُ لِوَرَثَتِهِ سَمَّى مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَتَقَاضَاهَا مِنْهُ مُتَقَاضٍ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ أَخَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ سَمَّاهَا وَعَسَى أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
670 -
(قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ مِثْلَ ذَلِكَ) فَإِنْ قَدَّمَ التَّطَوُّعَ أَسَاءَ وَصَحَّ صَوْمُهُ لِلتَّطَوُّعِ وَبَقِيَ النَّذْرُ فِي ذِمَّتِهِ هَذَا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ صَوْمُ غَيْرِهِ فِيهِ فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ نَذْرِهِ لِأَنَّهُ تَرَكَ صَوْمَهُ قَادِرًا عَلَيْهِ وَكَانَ حُكْمُهُ كَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَالنَّذْرُ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(قَالَ مَالِكٌ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ مِنْ رَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ) الْبَعِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يُهْدِيهَا، (فَأَوْصَى بِأَنْ يُوَفَّى ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَالْبَدَنَةَ فِي ثُلُثِهِ) لَا فِي رَأْسِ مَالِهِ، (وَهُوَ يُبَدَّى) يُقَدَّمُ (عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْوَصَايَا إِلَّا مَا كَانَ مِثْلَهُ) فَسِيَّانِ، (وَذَلِكَ) أَيْ وَجْهُ تَبْدِيَةِ ذَلِكَ (أَنَّهُ لَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النُّذُورِ وَغَيْرِهَا كَهَيْئَةِ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ) لِنَقْصِهِ عَنِ الْوَاجِبِ وَلَوْ بِالنَّذْرِ، (وَإِنَّمَا يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ خَاصَّةً دُونَ رَأْسِ مَالِهِ) خِلَافًا لِقَوْمٍ قَالُوا: كُلُّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ إِذَا أَوْصَى بِهِ فَهُوَ فِي رَأْسِ مَالِهِ، (لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي
رَأْسِ مَالِهِ لَأَخَّرَ الْمُتَوَفَّى) الْمَيِّتُ (مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ) أَيْ أَسْبَابُهَا، (وَصَارَ الْمَالُ لِوَرَثَتِهِ سَمَّى مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَتَقَاضَاهَا مِنْهُ مُتَقَاضٍ) بَلْ يُؤْمَرُ بِهَا بِدُونِ قَضَاءٍ، (فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ أَخَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ سَمَّاهَا وَعَسَى أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ) لِإِضْرَارِهِ بِالْوَرَثَةِ وَاتِّهَامِهِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ لِقَصْدِ حِرْمَانِهِمْ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسْأَلُ هَلْ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ أَوْ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَيَقُولُ لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
671 -
(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسْأَلُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (هَلْ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ أَوْ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؟ فَيَقُولُ: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) لِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ إِجْمَاعًا فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ تَطَوُّعًا عَنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، وَفِي الصَّوْمِ عَنِ الْحَيِّ خِلَافٌ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا.
وَأَمَّا الصَّوْمُ عَنِ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحْمَدُ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِوَارِثِهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، وَيَبْرَأُ بِهِ الْمَيِّتُ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» " وَلِحَدِيثِهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَتَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» "، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:" لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: " لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَعِنْدَهُ أَيْضًا: " أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ فَقَالَتْ: يُطْعَمُ عَنْهَا "، فَلَمَّا أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ بِخِلَافِ مَا رَوَيَاهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّ فَتْوَى الصَّحَابِيِّ بِخِلَافِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَفِي الِاسْتِذْكَارِ لَمْ يُخَالِفْ بِفَتْوَاهُ مَا رَوَاهُ إِلَّا لِنَسْخٍ عَلِمَهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَصْلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ
فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا يَصُومَ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. انْتَهَى.
وَنَقَلَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ يُحْمَلُ الصِّيَامُ عَلَى الْإِطْعَامِ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: " «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ كُلَّ يَوْمٍ مُدًّا مِسْكِينًا» " فَضَعِيفٌ، وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِالْحَمْلِ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ بِالصِّيَامِ يَجُوزُ عِنْدَهُ الْإِطْعَامُ أَوِ الْحَدِيثَانِ تَعَارَضَا فَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39](سُورَةُ النَّجْمِ: الْآيَةُ 39) ، وَقَدْ أُعِلَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاضْطِرَابِ، فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ السَّائِلَ امْرَأَةٌ أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، وَفِي أُخْرَى وَعَلَيْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأُخْرَى أَنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَأُخْرَى قَالَ رَجُلٌ: مَاتَتْ أُمِّي وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، وَلَكِنْ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ اضْطِرَابًا وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافٌ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَقَائِعِ لَكِنَّهُ بِعِيدٌ لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ، فَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَفْطَرَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَمْسَى وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ عُمَرُ الْخَطْبُ يَسِيرٌ وَقَدْ اجْتَهَدْنَا قَالَ مَالِكٌ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ الْخَطْبُ يَسِيرٌ الْقَضَاءَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَخِفَّةَ مَؤُونَتِهِ وَيَسَارَتِهِ يَقُولُ نَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
17 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ
676 -
672 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَفْطَرَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ) سَحَابٍ (وَرَأَى) اعْتَقَدَ قَبْلَ فِطْرِهِ (أَنَّهُ قَدْ أَمْسَى وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ طَلَعَتِ الشَّمْسُ) أَيْ ظَهَرَتْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْحُكْمَ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ لِيُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الزَّمَانَ صَوْمٌ ثُمَّ عَلِمَ أَنْ يُمْسِكَ بِخِلَافِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ زَمَانُ صَوْمٍ فَيَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(فَقَالَ عُمَرُ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ وَقَدِ اجْتَهَدْنَا فِي الْوَقْتِ) حَتَّى غَلَبَ عَلَيَّ الظَّنُّ أَنَّ الشَّمْسَ غَابَتْ.
(قَالَ مَالِكٌ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ الْخَطْبُ يَسِيرٌ الْقَضَاءَ فِيمَا نُرَى) نَظُنُّ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) بِمَا أَرَادَ (وَ) يُرِيدُ بِقَوْلِهِ يَسِيرٌ (خِفَّةُ مَؤُونَتِهِ وَيَسَارَتُهُ
يَقُولُ تَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ) وَمَا ظَنَّهُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ وَقَدِ اجْتَهَدْنَا نَقْضِي يَوْمًا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ أَفْطَرَ فَإِنَّ قَضَاءَ يَوْمٍ يَسِيرٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَفْطَرَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا نَقْضِي، وَالْأُولَى أَوْلَى بِالصَّوَابِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَصَرَّحَ غَيْرُهُ بِضَعْفِ رِوَايَةِ النَّفْيِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: " «أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ الْعِشَاءِ» "، قِيلَ لِهِشَامٍ: فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ هِشَامًا يَقُولُ: لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْقَضَاءِ، وَاحْتَجَّ لَهُ أَبُو عُمَرَ بِالْإِجْمَاعِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ غَمَّ هِلَالُ رَمَضَانَ فَأَفْطَرُوا ثُمَّ ثَبَتَ الْهِلَالُ أَنَّ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءَ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَقْضِي.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ يَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا مَنْ أَفْطَرَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فِي سَفَرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
677 -
673 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: يَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا مَنْ أَفْطَرَهُ) فَاعِلُ يَصُومِ (مِنْ مَرَضٍ أَوْ فِي سَفَرٍ) أَيْ بِسَبَبِهِمَا فَمَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وُجُوبُ تَتَابُعِ الْقَضَاءِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ التَّتَابُعَ إِلْحَاقًا لِصِفَةِ الْقَضَاءِ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ وَتَعْجِيلًا لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَلَكِنْ لَمْ يَجِبْ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ، وَفِي الدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَقَالَ:" «إِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ» ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ اخْتَلَفَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَقَالَ الْآخَرُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
678 -
674 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ اخْتَلَفَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يُفَرِّقُ بَيْنَهُ) جَوَازًا وَيُجْزِيهِ (وَقَالَ الْآخَرُ: لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ، لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَدْرِي عَمَّنْ أَخَذَ ابْنُ شِهَابٍ هَذَا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا أَجَازَا تَفْرِيقَ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَقَالَا لَا بَأْسَ بِتَفْرِيقِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 184)، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: " نَزَلَتْ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
مُتَتَابِعَاتٍ، ثُمَّ سَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٍ " يُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَى سَقَطَتْ نُسِخَتْ وَلَيْسَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ مُتَتَابِعَاتٍ فَصَحَّ سُقُوطُهَا وَرَفْعُهَا، وَفِي الْفَتْحِ هَكَذَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ مُنْقَطِعًا مُبْهَمًا، وَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُعَيَّنًا عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ قَالَ: يَقْضِيهِ مُفَرَّقًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَعْمَرٍ بِسَنَدِهِ قَالَ: "«صُمْهُ كَيْفَ شِئْتَ» "، وَرَوَيْنَاهُ فِي فَوَائِدِ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: "«لَا يَضُرُّكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا إِنَّمَا هِيَ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» " فَأَخُصُّهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ قَالَا: فَرِّقْهُ إِذَا أَحْصَيْتَهُ انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ اسْتَقَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
679 -
675 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنِ اسْتَقَاءَ) تَكَلَّفَ الْقَيْءَ (وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَمَنْ ذَرَعَهُ) بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ غَلَبَهُ وَسَبَقَهُ (الْقَيْءَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ) إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ رُجُوعَ شَيْءٍ إِلَى حَلْقِهِ بَعْدَ أَنْ صَارَ فِي فِيهِ فَيَقْضِي، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءَ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِنِ اسْتِقَاءَ فَلْيَقْضِ» " ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُسْأَلُ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَقَالَ سَعِيدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يُفَرَّقَ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَأَنْ يُوَاتَرَ قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ فَرَّقَ قَضَاءَ رَمَضَانَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ وَذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُ وَأَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَنْ يُتَابِعَهُ قَالَ مَالِكٌ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي رَمَضَانَ سَاهِيًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مَا كَانَ مِنْ صِيَامٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ يَوْمٍ مَكَانَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
680 -
676 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُسْأَلُ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ) هَلْ يَجِبُ تَتَابُعُهُ أَمْ لَا؟ (فَقَالَ سَعِيدٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يُفَرَّقَ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَأَنْ يُوَاتَرَ) بِفَتْحِ التَّاءِ يُتَابِعُهُ، يُقَالُ: تَوَاتَرَتِ الْخَيْلُ إِذَا جَاءَتْ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
(قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ فَرَّقَ قَضَاءَ رَمَضَانَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ وَذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُ وَأَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَنْ يُتَابِعَهُ) إِلْحَاقًا بِأَصْلِهِ وَلِلِاخْتِلَافِ فِيهِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعِبَادَةِ عَلَى
وَجْهٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي رَمَضَانَ سَاهِيًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مَا كَانَ مِنْ صِيَامٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ) كَظِهَارٍ وَكَفَّارَةٍ (أَنَّ عَلَيْهِ) وُجُوبًا (قَضَاءَ يَوْمٍ مَكَانَهُ) وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَاتَ رُكْنُهُ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورَاتِ، وَالْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي أَنَّ النِّسْيَانَ يُؤَثِّرُ فِي بَابِ الْمَأْمُورَاتِ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِ التَّطَوُّعِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ الْقِيَاسُ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ كَمَا زَعَمَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ مُجَاهِدٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ فَسَأَلَهُ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ الْكَفَّارَةِ أَمُتَتَابِعَاتٍ أَمْ يَقْطَعُهَا قَالَ حُمَيْدٌ فَقُلْتُ لَهُ نَعَمْ يَقْطَعُهَا إِنْ شَاءَ قَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَقْطَعُهَا فَإِنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ قَالَ مَالِكٌ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ مَا سَمَّى اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ يُصَامُ مُتَتَابِعًا وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمَرْأَةِ تُصْبِحُ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ فَتَدْفَعُ دَفْعَةً مِنْ دَمٍ عَبِيطٍ فِي غَيْرِ أَوَانِ حَيْضِهَا ثُمَّ تَنْتَظِرُ حَتَّى تُمْسِيَ أَنْ تَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا تَرَى شَيْئًا ثُمَّ تُصْبِحُ يَوْمًا آخَرَ فَتَدْفَعُ دَفْعَةً أُخْرَى وَهِيَ دُونَ الْأُولَى ثُمَّ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ عَنْهَا قَبْلَ حَيْضَتِهَا بِأَيَّامٍ فَسُئِلَ مَالِك كَيْفَ تَصْنَعُ فِي صِيَامِهَا وَصَلَاتِهَا قَالَ مَالِكٌ ذَلِكَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ فَإِذَا رَأَتْهُ فَلْتُفْطِرْ وَلْتَقْضِ مَا أَفْطَرَتْ فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهَا الدَّمُ فَلْتَغْتَسِلْ وَتَصُومُ وَسُئِلَ عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ كُلِّهِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ فَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى وَإِنَّمَا يَسْتَأْنِفُ الصِّيَامَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ الْيَوْمَ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
681 -
677 - (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ) الْأَعْرَجِ الْقَارِيِّ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مُجَاهِدِ) بْنِ جَبْرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ الْمَخْزُومِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَكِّيِّ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ الْإِمَامِ فِي التَّفْسِيرِ وَالْعِلْمِ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، (وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ فَسَأَلَهُ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ الْكَفَّارَةِ أَمُتَتَابِعَاتٍ أَمْ يَقْطَعُهَا؟ قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لَهُ نَعَمْ يَقْطَعُهَا إِنْ شَاءَ) لِأَنَّهُ جَائِزٌ، (قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَقْطَعُهَا فَإِنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) فِيهِ جَوَابُ الْمُتَعَلِّمِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ وَحَسْبُ الشَّيْخِ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ خِلَافُهُ أَنْ يُفْسِدَهُ وَلَا يُعَنَّفُ، وَأَنَّ مَنْ رُدَّ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ، عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِحُجَّةٍ وَالِاحْتِجَاجُ بِمَا لَيْسَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَيَجْرِي عِنْدَهُمْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْعَمَلِ بِهِ دُونَ الْقَطْعِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَاقِلَّانِيُّ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ مَا سَمَّى اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ يُصَامُ مُتَتَابِعًا) وَكَذَا اسْتَحَبَّ الْجُمْهُورُ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلَا يُوجِبُونَهُ إِلَّا فِي شَهْرَيْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَفِي الظِّهَارِ أَوِ الْوَطْءِ عَامِدًا فِي رَمَضَانَ، وَيَسْتَحِبُّونَ مَا اسْتَحَبَّ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ.
وَسَأَلَ رَجُلٌ طَاوُسًا عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَالَ: صُمْ كَيْفَ شِئْتَ،
فَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " مُتَتَابِعَاتٍ " فَقَالَ: تَأَخَّرَ الرَّجُلُ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْمَرْأَةِ تُصْبِحُ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ فَتَدْفَعُ دُفْعَةً) بِضَمِّ الدَّالِّ اسْمٌ لِمَا يُدْفَعُ بِمَرَّةٍ وَبِفَتْحِهَا الْمَرَّةِ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الدُّفْعَةُ مِنَ الْمَطَرِ وَالدَّمِ وَغَيْرِهِ مِثْلَ الدَّفْعَةِ، (مِنْ دَمٍ عَبِيطٍ) بِمُهْمَلَةٍ أَيْ طَرِيٍّ خَالِصٍ لَا خَلْطَ فِيهِ (فِي غَيْرِ أَوَانِ حَيْضِهَا ثُمَّ تَنْتَظِرُ حَتَّى تُمْسِيَ أَنْ تَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا تَرَى شَيْئًا ثُمَّ تُصْبِحُ يَوْمًا آخَرَ فَتَدْفَعُ دُفْعَةً أُخْرَى وَهِيَ دُونَ الْأَوْلَى) أَقَلُّ مِنْهَا (ثُمَّ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ عَنْهَا قَبْلَ حَيْضَتِهَا بِأَيَّامٍ فَسُئِلَ مَالِكٌ كَيْفَ تَصْنَعُ فِي صِيَامِهَا وَصَلَاتِهَا؟ قَالَ مَالِكٌ) مُجِيبًا:(ذَلِكَ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا (فَإِذَا رَأَتْهُ فَلْتُفْطِرْ لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ وَلْتَقْضِ مَا أَفْطَرَتْ) وُجُوبًا (فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهَا الدَّمُ فَلْتَغْتَسِلْ وَتَصُومُ) وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِيَ كَثِيرًا عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ، فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًا مِنَ اتِّبَاعِهَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فَجُعِلَ ذَلِكَ تَعَبُّدًا.
وَفَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بِعَدَمِ تَكَرُّرِ الصَّوْمِ فَلَا حَرَجَ فِي قَضَائِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ ضَعِيفٌ.
(وَسُئِلَ عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ كُلِّهِ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى) حَالَ كُفْرِهِ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُسْقِطُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38](سُورَةُ الْأَنْفَالِ: الْآيَةُ 38)(وَإِنَّمَا يَسْتَأْنِفُ الصِّيَامَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ الْيَوْمَ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ) ، وَلَا يَجِبُ خِلَافًا لِلْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ الْمَاضِي، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْكَافِرِ يُسْلِمُ أَوِ الصَّبِيِّ يَحْتَلِمُ صَوْمَ مَا مَضَى فَقَدْ كَلَّفَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لِأَنَّ الصِّيَامَ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْبَالِغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 183) وَبِحَدِيثِ: " «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» " فَذَكَرَ مِنْهَا الْغُلَامَ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَالْجَارِيَةَ حَتَّى تَحِيضَ.
[بَاب قَضَاءِ التَّطَوُّعِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ فَأَفْطَرَتَا عَلَيْهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَبَدَرَتْنِي بِالْكَلَامِ وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصْبَحْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إِلَيْنَا طَعَامٌ فَأَفْطَرْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْمًا آخَرَ» قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ سَاهِيًا أَوْ نَاسِيًا فِي صِيَامِ تَطَوُّعٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلْيُتِمَّ يَوْمَهُ الَّذِي أَكَلَ فِيهِ أَوْ شَرِبَ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ وَلَا يُفْطِرْهُ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ أَمْرٌ يَقْطَعُ صِيَامَهُ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ قَضَاءٌ إِذَا كَانَ إِنَّمَا أَفْطَرَ مِنْ عُذْرٍ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لِلْفِطْرِ وَلَا أَرَى عَلَيْهِ قَضَاءَ صَلَاةِ نَافِلَةٍ إِذَا هُوَ قَطَعَهَا مِنْ حَدَثٍ لَا يَسْتَطِيعُ حَبْسَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْوُضُوءِ قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَتَطَوَّعُ بِهَا النَّاسُ فَيَقْطَعَهُ حَتَّى يُتِمَّهُ عَلَى سُنَّتِهِ إِذَا كَبَّرَ لَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَإِذَا صَامَ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى يُتِمَّ صَوْمَ يَوْمِهِ وَإِذَا أَهَلَّ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ وَإِذَا دَخَلَ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَقْطَعْهُ حَتَّى يُتِمَّ سُبُوعَهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ هَذَا إِذَا دَخَلَ فِيهِ حَتَّى يَقْضِيَهُ إِلَّا مِنْ أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ الْأَسْقَامِ الَّتِي يُعْذَرُونَ بِهَا وَالْأُمُورِ الَّتِي يُعْذَرُونَ بِهَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصِّيَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَهَلَّ بِالْحَجِّ تَطَوُّعًا وَقَدْ قَضَى الْفَرِيضَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْحَجَّ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهِ وَيَرْجِعَ حَلَالًا مِنْ الطَّرِيقِ وَكُلُّ أَحَدٍ دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا إِذَا دَخَلَ فِيهَا كَمَا يُتِمُّ الْفَرِيضَةَ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
18 -
قَضَاءُ التَّطَوُّعِ
682 -
678 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ) مُرْسَلٌ وَصَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا الْمُرْسَلُ.
وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَضَعَّفْنَاهَا كُلَّهَا، وَقَالَ: النَّسَائِيُّ الصَّوَابُ، وَالتِّرْمِذِيُّ الْأَصَحُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَتَابَعَ مَالِكًا عَلَى إِرْسَالِهِ مَعْمَرٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَزِيَادُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: أَحَدَّثَكَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا شَيْئًا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ مِنْ نَاسٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ (زَوْجَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ) أَيْ شَاةٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ، (فَأَفْطَرَتَا عَلَيْهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَتْ حَفْصَةُ بَدَرَتْنِي) سَبَقَتْنِي (بِالْكَلَامِ وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا) أَيْ فِي الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرِ فَهُوَ غَايَةٌ فِي مَدْحِهَا لَهَا، ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصْبَحْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأَهْدِيَ لَنَا طَعَامٌ فَأَفْطَرْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْمًا آخَرَ» ) ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمَالِكٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُفْطِرَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) فَعَمَّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 30) وَلَيْسَ مَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ بِمُعَظِّمِ الْحُرْمَةِ لِلصَّوْمِ، وَحَدِيثُ:" «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ» " وَرُوِيَ: " «فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ» "، وَرُوِيَ:" «فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلَا يَأْكُلْ» " فَلَوْ جَازَ الْفِطْرُ فِي التَّطَوُّعِ لَكَانَ أَحْسَنَ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ.
وَحَدِيثُ: " «لَا تَصُمِ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا بِإِذْنِهِ» " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَطَوِّعَ لَا
يُفْطِرُ وَلَا يُفْطِرُهُ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا كَانَ إِذْنُهُ لَا مَعْنَى لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ذَلِكَ الْمُتَلَاعِبُ بِدِينِهِ أَوْ قَالَ بِصَوْمِهِ.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِحَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ: " «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا صَائِمَةٌ فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ فَقُلْتُ: إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً وَلَكِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَاقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِي وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِي» "، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ:" «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: " إِنَّا خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ» " انْتَهَى.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُمَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهِمَا، وَأَمَّا خَبَرُ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ:" «الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» " فَمَعْنَاهُ مُرِيدُ التَّطَوُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَمِنْهَا: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33](سُورَةُ مُحَمَّدٍ: الْآيَةُ 33) .
(قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ سَاهِيًا أَوْ نَاسِيًا فِي صِيَامِ تَطَوُّعٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلْيُتِمَّ يَوْمَهُ الَّذِي أَكَلَ فِيهِ أَوْ شَرِبَ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ وَلَا يُفْطِرْهُ) حَمْلًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَلَى صَوْمِ التَّطَوُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
(وَلَيْسَ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ أَمْرٌ يَقْطَعُ صِيَامَهُ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ قَضَاءٌ إِذَا كَانَ إِنَّمَا أَفْطَرَ مِنْ عُذْرٍ) كَمَرَضٍ وَحَيْضٍ، (غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ لِلْفِطْرِ) بِخِلَافِ مُتَعَمِّدِهِ حَرَامًا (وَلَا أَرَى عَلَيْهِ قَضَاءَ صَلَاةِ نَافِلَةٍ إِذَا هُوَ قَطَعَهَا مِنْ حَدَثٍ لَا يَسْتَطِيعُ حَبْسَهُ) مَنْعَهُ (مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْوُضُوءِ) بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ، (قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَنْبَغِي) لَا يَجُوزُ (أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا) وَهُوَ الْعُمْرَةُ وَالطَّوَافُ وَالِائْتِمَامُ وَالِاعْتِكَافُ (مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ) الْمُتَوَقِّفُ أَوَّلُهَا عَلَى تَمَامِهَا (الَّتِي يَتَطَوَّعُ بِهَا النَّاسُ فَيَقْطَعَهُ) بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ (حَتَّى يُتِمَّهُ عَلَى سُنَّتِهِ) طَرِيقَتِهِ لِيَأْتِيَ بِأَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ بِعِبَادَةٍ كَامِلَةٍ، (إِذَا كَبَّرَ لَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ) وَذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنْ عِبَادَةِ الصَّلَاةِ.
(وَإِذَا صَامَ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى
يُتِمَّ صَوْمَ يَوْمِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) ، (وَإِذَا أَهَلَّ) بِالْحَجِّ (لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ) وَكَذَا الْعُمْرَةُ وَهَذَانِ بِاتِّفَاقٍ، (وَإِذَا دَخَلَ فِي الطَّوَافِ) بِالتَّكْبِيرِ لَهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَوِ الْمَشْيِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُكَبِّرْ، (لَمْ يَقْطَعْهُ حَتَّى يُتِمَّ سُبُوعَهُ) مَعَ مَا يَتْبَعُهُ وَهُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَهُ وَذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنْ عِبَادَةِ الطَّوَافِ.
(وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ هَذَا إِذَا دَخَلَ فِيهِ حَتَّى يَقْضِيَهُ) أَيْ يُتِمَّهُ وَيُؤَدِّيَهُ وَالْقَضَاءُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْأَدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10](سُورَةُ الْجُمُعَةِ: الْآيَةُ 10) أَيْ أُدِّيَتْ، (إِلَّا مِنْ أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُ مِمَّا يَعْرِضُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، (لِلنَّاسِ مِنَ الْأَسْقَامِ) الْأَمْرَاضِ، (الَّتِي يُعْذَرُونَ بِهَا وَالْأُمُورِ الَّتِي يُعْذَرُونَ بِهَا) كَحَيْضٍ وَنِفَاسٍ، (وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] جَمِيعَ اللَّيْلِ، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] بَيَاضُ النَّهَارِ {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] سَوَادُ اللَّيْلِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: شَبَّهَ أَوَّلَ مَا يَبْدُو (مِنَ الْفَجْرِ) الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ وَمَا يَمْتَدُّ مَعَهُ مِنْ غَبَشِ اللَّيْلِ بِخَيْطَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ، وَاكْتَفَى بِبَيَانِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ بِقَوْلِهِ:" مِنَ الْفَجْرِ " عَنْ بَيَانِ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ خَرَجَا عَنِ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى التَّمْثِيلِ، وَيَجُوزُ أَنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنَّ مَا يَبْدُو بَعْضُ الْفَجْرِ.
{ثُمَّ أَتَمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَإِنَّهُ آخِرُ وَقْتِهِ، (فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصِّيَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ) لِعُمُومِهِ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: " لَمَّا نَزَلَتْ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) عَمَدْتُ إِلَى عِقَالَيْنِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَتَبَيَّنُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» . وَفِيهِمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: «لَمَّا نَزَلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهُ {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] » ، قَالَ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ: حَدِيثُ عَدِيٍّ يَقْتَضِي نُزُولَ " مِنَ الْفَجْرِ " مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَحَدِيثُ سَهْلٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ
مُنْفَصِلًا، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى وَاقِعَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِلَّا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ عَدِيٍّ مُتَأَخِّرًا عَنْ حَدِيثِ سَهْلٍ، فَكَأَنَّ عَدِيًّا لَمْ يَبْلُغْهُ مَا جَرَى فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَ الْآيَةَ مُجَرَّدَةً فَحَمَلَهَا عَلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ فَهْمُهُ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ " مِنَ الْفَجْرِ " مُتَعَلِّقًا بِيَتَبَيَّنَ، وَعَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ سَهْلٍ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ انْتَهَى.
(وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَهَلَّ) أَحْرَمَ (بِالْحَجِّ تَطَوُّعًا وَقَدْ قَضَى الْفَرِيضَةَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، (لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْحَجَّ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهِ وَيَرْجِعَ حَلَالًا مِنَ الطَّرِيقِ) وَكَذَا الْعُمْرَةُ بِاتِّفَاقٍ فِيهِمَا، (وَكُلُّ أَحَدٍ دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ) تُقْصَدُ لِنَفْسِهَا وَلَا تَتَبَعَّضُ (فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا إِذَا دَخَلَ فِيهَا كَمَا يُتِمُّ الْفَرِيضَةَ) نَصًّا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّوْمِ، وَقِيَاسًا فِي بَاقِي السَّبْعِ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (سُورَةُ مُحَمَّدٍ: الْآيَةُ 33)(، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ) ، فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الَّتِي تَتَبَعَّضُ كَالْقِرَاءَةِ وَالْوَقْفِ وَالطُّهْرِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْإِتْمَامِ وَالْقَطْعِ.
[بَاب فِدْيَةِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مِنْ عِلَّةٍ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَبِرَ حَتَّى كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ فَكَانَ يَفْتَدِي قَالَ مَالِكٌ وَلَا أَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَيْهِ فَمَنْ فَدَى فَإِنَّمَا يُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
19 -
بَابُ فِدْيَةِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مِنْ عِلَّةٍ
685 -
679 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَبِرَ) بِكَسْرِ الْبَاءِ أَسَنَّ، (حَتَّى كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ) فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ أَصْلًا، (فَكَانَ يَفْتَدِي) يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَرُوِيَ: مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَرُوِيَ: نِصْفَ صَاعٍ، وَرُبَّمَا أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يَتَطَوَّعُ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا جَمَعَ ثَلَاثَمِائَةِ مِسْكِينٍ فَأَطْعَمَهُمْ وَجْبَةً وَاحِدَةً وَكَانَ يَضَعُ لَهُمُ الْجِفَانَ وَاللَّحْمَ، حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَلَا أَرَى ذَلِكَ) الْإِطْعَامَ (وَاجِبًا وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَفْعَلَهُ
إِذَا كَانَ قَوِيًّا) أَيْ قَادِرًا عَلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، (فَمَنْ فَدَى) لِتَحْصِيلِ الْمُسْتَحَبِّ (فَإِنَّمَا يُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، الْحَصْرُ مُنْصَبٌّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ الْمُتَعَلِّقِ بِمَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ أَيْ أَنَّهُ إِذَا أَطْعَمَ الْمُدَّ أَتَى بِالْمُسْتَحَبِّ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ إِنْ أَطْعَمَ أَكْثَرَ أَتَى بِهِ وَزِيَادَةً، وَقِيلَ: إِطْعَامُ الْمُدِّ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الصَّوْمِ كَمَا أَلْزَمَ الْجَمِيعُ الْجَانِيَ عَلَى عُضْوٍ مَخُوفٍ الدِّيَةَ بَدَلًا مِنَ الْقِصَاصِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 45)، وَالصَّحِيحُ فِي النَّظَرِ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ: أَنَّ الْفِدْيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى مَنْ لَا يُطِيقُهُ، وَالْفِدْيَةُ لَمْ تَجِبْ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَالْفَرَائِضُ لَا تَجِبُ إِلَّا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَالذِّمَّةُ بَرِيَّةٌ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ إِذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا وَاشْتَدَّ عَلَيْهَا الصِّيَامُ قَالَ تُفْطِرُ وَتُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَرَوْنَ عَلَيْهَا الْقَضَاءَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مَرَضًا مِنْ الْأَمْرَاضِ مَعَ الْخَوْفِ عَلَى وَلَدِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
685 -
680 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ إِذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا) هَلَاكًا وَشَدِيدَ أَذًى (وَاشْتَدَّ عَلَيْهَا الصِّيَامُ، قَالَ: تُفْطِرُ وَتُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنَ الْحِنْطَةِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: نِصْفَ صَاعٍ (قَالَ مَالِكٌ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (يَرَوْنَ عَلَيْهَا الْقَضَاءَ) فَقَطْ بِلَا إِطْعَامٍ خِلَافًا لِابْنِ عُمَرَ (كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَبَيَّنَ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: (وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مَرَضًا مِنَ الْأَمْرَاضِ مَعَ الْخَوْفِ عَلَى وَلَدِهَا) فَدَخَلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَلَيْسَ فِيهَا إِطْعَامٌ بِخِلَافِ الْمُرْضِعِ الْخَائِفَةِ عَلَى وَلَدِهَا فَتَقْضِي وَتُطْعِمُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ أَقْوَالِ مَالِكٍ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ مُرَادَهُ هُنَا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلَى الْحَامِلِ الْقَضَاءَ مَعَ الْإِطْعَامِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَزَاهُ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَالِكٌ فِي قَوْلِ: فَهِيَ كَالْمُرْضِعِ، وَثَالِثُ أَقْوَالِهِ: يُطْعِمَانِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: يَقْضِيَانِ وَلَا طَعَامَ، وَمَحَلُّهَا فِي خَوْفِهِمَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا، أَمَّا إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَلَا فِدْيَةَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ إِلَّا عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمَرِيضِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْضِهِ وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى صِيَامِهِ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
685 -
681 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصِّدِّيقِ (عَنْ أَبِيهِ) أَحَدِ الْفُقَهَاءِ بِالْمَدِينَةِ، (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْضِهِ وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى صِيَامِهِ) لَا إِنِ اتَّصَلَ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ، (حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ) وُجُوبًا (مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: نِصْفَ صَاعٍ، وَأَشْهَبُ بِالْمَدِينَةِ مُدٌّ وَبِغَيْرِهَا مُدٌّ وَثُلُثٌ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مَكَّةَ هَلْ كَالْمَدِينَةِ أَوْ كَغَيْرِهَا؟ (وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ) بِلَا نِزَاعٍ إِنَّمَا النِّزَاعُ إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ فَقِيلَ: يَصُومُ الثَّانِيَ إِنْ أَدْرَكَهُ صَحِيحًا وَيُطْعِمُ عَنِ الْأَوَّلِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ: يَصُومُ الثَّانِي ثُمَّ يَقْضِي الْأَوَّلَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ لِلْعُذْرِ جَائِزٌ فَالْقَضَاءُ أَوْلَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
685 -
682 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَ ذَلِكَ) وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا إِطْعَامَ عَلَيْهِ إِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 184) ، وَسَكَتَ عَنِ الْإِطْعَامِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ لِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِالسُّنَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ، نَعَمْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِيمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 184) فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ حَتَّى نَزَلَتِ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا.
قَالَ عِيَاضٌ: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ ثُمَّ اخْتُلِفَ هَلْ بَقِيَ مِنْهَا مَا لَمْ يُنْسَخْ؟ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْجُمْهُورِ أَنَّ حُكْمَ الْإِطْعَامِ بَاقٍ عَلَى مَنْ لَمْ يُطِقِ الصَّوْمَ لِكِبَرٍ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَمَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدَ: جَمِيعُ الْإِطْعَامِ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ لَمْ يُطِقِ الصَّوْمَ وَاسْتَحَبَّهُ لَهُ مَالِكٌ.
وَقَالَ
قَتَادَةُ: كَانَتِ الرُّخْصَةُ لِكَبِيرٍ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ نُسِخَ فِيهِ وَبَقِيَ فِيمَنْ لَمْ يُطِقْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي الْكَبِيرِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ نُسِخَ فِيهِ وَبَقِيَ فِيمَنْ لَمْ يُطِقْ فَهِيَ عِنْدَهُ مُحْكَمَةٌ، لَكِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ يَقْضِي إِذَا بَرِئَ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِطْعَامَ عَلَى الْمَرِيضِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالزَّهْرِيُّ وَمَالِكٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَنَزَلَتْ فِي الْمَرِيضِ يُفْطِرُ ثُمَّ يَبْرَأُ وَلَا يَقْضِي حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ فَيَلْزَمُهُ صَوْمُهُ ثُمَّ يَقْضِي بَعْدَ مَا أَفْطَرَ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، وَأَمَّا مَنِ اتَّصَلَ مَرَضُهُ بِرَمَضَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ بَلِ الْقَضَاءُ فَقَطْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي " يُطِيقُونَهُ " عَائِدٌ عَلَى الْإِطْعَامِ لَا عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَهِيَ عِنْدَهُ عَامَّةٌ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِطْعَامِ لَكِنَّهَا فِي الْكَبِيرِ: الْهَرِمِ فَهِيَ عِنْدَهُ مُحْكَمَةٌ.
[بَاب جَامِعِ قَضَاءِ الصِّيَامِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ إِنْ كَانَ لَيَكُونُ عَلَيَّ الصِّيَامُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَصُومُهُ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
20 -
بَابُ جَامِعِ قَضَاءِ الصِّيَامِ
686 -
683 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ الْحَافِظُ: وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْقَطَّانُ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا سَلَمَةَ، (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، (أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: إِنْ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (كَانَ لَيَكُونُ عَلَيَّ الصِّيَامُ مِنْ رَمَضَانَ) بِتَكْرِيرِ الْكَوْنِ لِتَحَقُّقِ الْقِصَّةِ وَتَعْظِيمِهَا، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْمَاضِي أَوَّلًا وَالْمُضَارِعِ ثَانِيًا لِإِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ وَتَكَرُّرِ الْفِعْلِ.
(فَمَا أَسْتَطِيعُ أَصُومَهُ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ)، زَادَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ: الشُّغْلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ يَمْنَعُنِي الشُّغْلَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُهَيِّئَةً نَفْسَهَا لِاسْتِمْتَاعِهِ بِهَا فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهَا إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَلَا تَعْلَمُ مَتَى يُرِيدُهُ، وَلَمْ تَسْتَأْذِنْهُ فِي الصَّوْمِ مَخَافَةَ أَنْ يَأْذَنَ وَقَدْ يَحْتَاجُهَا فَتُفَوِّتُهَا عَلَيْهِ وَهَذَا مِنَ الْأَدَبِ، وَأَمَّا شَعْبَانُ فَكَانَ يَصُومُهُ فَتَتَفَرَّغُ فِيهِ لِقَضَاءِ صَوْمِهَا وَلِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ ضَاقَ الْوَقْتُ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ.
وَفِي مُسْلِمٍ قَالَ يَحْيَى: فَظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَكَانِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ شُغْلَ سَائِرِ أَزْوَاجِهِ كَشُغْلِهَا أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ النَّاسِ حَتَّى قَالَ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» .
وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ شُبِّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَوَى أَنَّهَا قَالَتْ: مَا كُنْتُ أَقْضِي مَا عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ حَتَّى تُوُفِّيَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ لَمْ يَأْتِ قَوْلُهَا حَتَّى تُوُفِّيَ مِنْ وَجْهٍ يُحْتَجُّ بِهِ فَإِنَّمَا أَخَّرَتْ ذَلِكَ لِلرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" «إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا نَقْدِرُ أَنْ نَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ» "، وَلِذَا قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا نَصٌّ مِنْهَا عَلَى عِلَّةِ ذَلِكَ، وَرُدَّ عَلَى مَنْ ضَعَّفَ التَّعْلِيلَ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلَتْهُ لِلرُّخْصَةِ لَا لِلشُّغْلِ وَاسْتِشْكَالُهُ بِأَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ وَيَعْدِلُ وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ فَمَا تَأْتِي نَوْبَةُ الْوَاحِدَةِ إِلَّا بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، فَكَانَ يُمْكِنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَنْ تَقْضِيَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، أَجَابَ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَهُنَّ يَتَوَقَّعْنَ حَاجَتَهُ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " مَا قَضَيْتُ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ حَتَّى قُبِضَ صلى الله عليه وسلم "، وَالْبَهِيُّ صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَكَأَنَّهُ وَجَّهَ قَوْلِ أَبِي عُمَرَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَكِنْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتْ لَا تَصُومُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِاحْتِمَالِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهَا، وَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ أَذِنَ لَهَا، وَهُوَ لَا يُجْدِي لِأَنَّ احْتِمَالَ ذَلِكَ يُعْطِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسْمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ إِذْ لَوْ مُنِعَ التَّأْخِيرُ لَمْ يُقِرَّهَا صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَهُ دَاوُدُ مِنْ ثَانِي شَوَّالٍ فَإِنْ أَخَّرَهُ أَثِمَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَوْرًا فَالْمُبَادَرَةُ بِهِ مُسْتَحَبَّةٌ وَيُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ صَوْمِ النَّفْلِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فَإِنْ أَخَّرَهُ بِلَا عَزْمٍ عَصَى انْتَهَى.
وَنَسَبَ النَّوَوِيُّ هَذَا لِلْمُحَقَّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَقَالَ: إِنَّهُ الْأَصَحُّ، وَكَذَا سَائِرُ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ إِنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ الْعَزْمُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ شَعْبَانَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ فِي تَرِكَتِهِ إِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَقْضِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَلَا إِطْعَامَ انْتَهَى.
وَجَزَمَ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَزْمُ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَجَزَمَ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ بِاشْتِرَاطِهِ، وَرَجَّحَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ مَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا مُضَيَّقًا، وَإِنَّ مَنَافِعَ الزَّوْجَةِ فِيمَا يَرْجِعُ لِلْمُتْعَةِ مُتَمَلَّكَةٌ لِلزَّوْجِ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ، وَحَقُّهَا فِي نَفْسِهَا مَقْصُورٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ قَالَهُ الْمَازِرِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَهُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَسُفْيَانُ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عِنْدَ مُسْلِمٍ الْخَمْسَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سُفْيَانُ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ كَمَالِكٍ قَوْلَ يَحْيَى الشُّغْلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
[بَاب صِيَامِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ أَنْ يُصَامَ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا نَوَى بِهِ صِيَامَ رَمَضَانَ وَيَرَوْنَ أَنَّ عَلَى مَنْ صَامَهُ عَلَى غَيْرِ رُؤْيَةٍ ثُمَّ جَاءَ الثَّبْتُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُ وَلَا يَرَوْنَ بِصِيَامِهِ تَطَوُّعًا بَأْسًا قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا وَالَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
21 -
بَابُ صِيَامِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ
- (مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ أَنْ يُصَامَ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ) أَنَّهُ (مِنْ شَعْبَانَ) نَهْيُ كَرَاهَةٍ عَلَى أَرْجَحِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ أَوْ حُرْمَةٍ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: " «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» "، رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ جَزْمًا لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، هُوَ مُسْنَدٌ عِنْدَهُمُ اتِّفَاقًا، وَخَالَفَهُ الْجَوْهَرِيُّ الْمَالِكِيُّ فَقَالَ: هُوَ مَوْقُوفٌ، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَفْظًا مَرْفُوعٌ حُكْمًا، وَمَحَلُّ ذَلِكَ (إِذَا نَوَى بِهِ صِيَامَ رَمَضَانَ) احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْهُ، (وَيَرَوْنَ أَنَّ عَلَى مَنْ صَامَهُ عَلَى غَيْرِ رُؤْيَةٍ ثُمَّ جَاءَ الثَّبَتُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا، (أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ بِنِيَّةٍ جَازِمَةٍ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، (وَلَا يَرَوْنَ بِصِيَامِهِ تَطَوُّعًا بَأْسًا) لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ مُنْتَفِيَةٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إِذَا وَافَقَ عَادَتَهُ أَوْ صَادَفَ نَذْرَهُ أَوْ صَامَهُ قَضَاءً، (قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا وَالَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) الْمَدِينَةِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى تَحَرِّيهِ مِنْ رَمَضَانَ لَا لِغَيْرِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: " «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» "، قَالَهُ عِيَاضٌ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:" إِلَّا رَجُلٌ " إِلَى أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ تَعْظِيمًا وَتَحَرِّيًا لِلشَّهْرِ، وَفِي رِوَايَةِ:" «لَا تَتَحَرَّوْا رَمَضَانَ» "، أَمَّا مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الصِّيَامُ قَبْلَهُ أَوْ صِيَامُ الِاثْنَيْنِ وَنَحْوَهُ فَلَا يَمْنَعُ.
[بَاب جَامِعِ الصِّيَامِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
688 -
684 22 - بَابُ جَامِعِ الصِّيَامِ
- (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ (مَوْلَى عُمَرَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنَيْنِ، (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ، (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، هَكَذَا قَالَ أَبُو النَّضْرِ، وَوَافَقَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَزَيْدُ بْنُ أَبِي غِيَاثٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَخَالَفَهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَسَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ فَرَوَيَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُمَا النَّسَائِيُّ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ طَرِيقِ سَالِمٍ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ رَوَاهُ عَنْ كُلٍّ مِنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَأَيَّدَهُ الْحَافِظُ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَارَةً، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ تَارَةً أُخْرَى أَخْرَجَهُمَا النَّسَائِيُّ.
(أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ» ) أَيْ يَنْتَهِي صَوْمُهُ إِلَى غَايَةٍ نَقُولُ لَا يُفْطِرُ، (وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ) أَيْ يَنْتَهِي فِطْرُهُ إِلَى غَايَةٍ كَذَلِكَ.
( «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ» ) لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ.
(وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ) بِالنَّصْبِ ثَانِي مَفْعُولَيْ رَأَيْتُ (صِيَامًا) بِالنَّصْبِ وَرُوِيَ بِالْخَفْضِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ وَهْمٌ كَأَنَّهُ كُتِبَ بِلَا أَلْفٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى الْمَنْصُوبِ الْمُنَوَّنِ بِدُونِ أَلِفٍ فَتَوَهَّمَهُ مَخْفُوضًا أَوْ ظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ مُضَافٌ لِأَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلُ تُضَافُ كَثِيرًا فَتَوَهَّمَهَا مُضَافَةً وَهِيَ مُمْتَنِعَةٌ هُنَا قَطْعًا، (مِنْهُ فِي شَعْبَانَ) مُتَعَلِّقٌ بِ " صِيَامًا " لِرَفْعِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فِيهِ، فَفِي النَّسَائِيِّ «عَنْ أُسَامَةَ:" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» "، فَبَيَّنَ وَجْهَ صِيَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ بِرَفْعِ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَأَنَّهُ يُغْفَلُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اكْتَنَفَهُ شَهْرَانِ عَظِيمَانِ الشَّهْرُ الْحَرَامِ وَشَهْرُ الصِّيَامِ اشْتَغَلَ النَّاسُ بِهِمَا فَصَارَ مَغْفُولًا عَنْهُ، وَنَحْوَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى لَكِنْ قَالَ فِيهِ:" «إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ كُلَّ نَفْسِ مَيِّتَةٍ تِلْكَ السَّنَةَ فَأُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَ أَجَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» "، وَلَا يُعَارِضَهُ النَّهْيُ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِحَمْلِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي صِيَامٍ اعْتَادَهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ صِيَامَ رَجَبٍ أَفْضَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ شَهَرٌ حَرَامٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَالَ: أَكْثَرُ فِيهِ تَعْظِيمًا لِرَمَضَانَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ: " «سُئِلَ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ؟ قَالَ: شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ. وَيُعَارِضُهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ الْآتِي، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرُبَّمَا مَنَعَهُ مِنْ صَوْمِهَا عُذْرٌ، وَكَانَ يَقْضِيهَا فِي شَعْبَانَ قَبْلَ تَمَامِ عَامِهِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ
عَنْ عَائِشَةَ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَرُبَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْمَعَ عَلَيْهِ صَوْمَ السَّنَةِ فَيَصُومُ شَعْبَانَ» "، وَحَدِيثُ الْبَابِ دَالٌّ عَلَى ضَعْفِهِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَكَيْفَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي شَعْبَانَ دُونَهُ؟ أُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ إِلَّا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ أَعْذَارٌ تَمْنَعُ مِنْ إِكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ كَسَفَرٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ عُورِضَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ:" «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» "، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِ " كُلِّهِ " غَالِبُهُ لِحَدِيثِ الْبَابِ فَهُوَ مُفَسِّرٌ لِهَذَا فَأَطْلَقَ الْكُلَّ عَلَى الْأَكْثَرِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ وَلَعَلَّهُ قَدْ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: كَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ، فَالْمُرَادُ بِالْكُلِّ الْأَكْثَرُ وَهُوَ مَجَازٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَاسْتَبْعَدَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ كُلَّ تَأْكِيدٍ لِإِرَادَةِ الشُّمُولِ وَدَفْعِ التَّجَوُّزِ مِنَ احْتِمَالِ الْبَعْضِ فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ انْتَهَى.
لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ هُنَا لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا خُصُوصًا وَالْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ، وَيَكْفِي نَقْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ لَهُ عَنِ الْعَرَبِ وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ.
وَفِي مُسْلِمٍ: مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا: " «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» "، قَالَ: يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا وَلَمْ يُعَيَّنْ فَاعِلٌ، قَالَ: وَاسْتَبْعَدَهُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّ فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ» "، فَعَطْفُ رَمَضَانَ عَلَيْهِ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِشَعْبَانَ أَكْثَرَهُ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِرَمَضَانَ بَعْضُهُ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَشَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَمْشِي عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَهْلِ الْأُصُولِ، قَالَ غَيْرُهُ: بَلْ لَا يَمْشِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا لِأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَهُ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ وَمَا هُنَا لَفْظَانِ شَعْبَانُ وَرَمَضَانُ انْتَهَى.
وَهُوَ أَيْضًا اسْتِبْعَادٌ لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُ لِلْقَرِينَةِ، وَجَمَعَ الطِّيبِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ وَيَصُومُ مُعْظَمَهُ فِي آخَرَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ وُجُوبُهُ كُلُّهُ كَرَمَضَانَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهَا كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَأَنَّ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي دَلَالَةِ " كَانَ " عَلَى التَّكْرَارِ فَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ، قَالَ: وَهَذَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَانَ حَاتِمٌ يَقْرِي الضَّيْفَ، وَصَحَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيهِ لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ عُرْفًا فَالتَّعَقُّبُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَجَمَعَ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ وَأُخْرَى مِنْ وَسَطِهِ وَأُخْرَى مِنْ آخِرِهِ وَمَا يُخَلِّي مِنْهُ شَيْئًا بِلَا صِيَامٍ، لَكِنْ فِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَسْمَاءَ
الشُّهُورِ إِذَا ذُكِرَتْ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَيْهَا لَفْظُ شَهْرٍ كَانَ الْعَمَلُ عَامًّا لِجَمِيعِهَا، لَا تَقُولُ: سِرْتُ الْمُحَرَّمَ وَقَدْ سِرْتُ بَعْضًا مِنْهُ، وَلَا تَقُولُ: صُمْتُ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا صُمْتُ بَعْضَهُ، فَإِنْ أَضَفْتَ الشَّهْرَ إِلَيْهِ لَمْ يَلْزَمِ التَّعْمِيمُ، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَتَبِعُوهُ عَلَيْهِ، قَالَ الصَّفَّارُ: وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الزَّجَّاجُ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ الْأَكْثَرُ، وَإِمَّا أَنْ يُجْمَعَ بِأَنَّ قَوْلَهَا الثَّانِيَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهَا الْأَوَّلِ فَأَخْبَرَتْ عَنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ، وَأَخْبَرَتْ ثَانِيًا عَنْ آخِرِ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ فِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ: " «وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَيْرَ رَمَضَانَ» "، وَهُوَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَجَمَعَ أَيْضًا بِأَنَّ قَوْلَهَا:" «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» " مَحْمُولٌ عَلَى حَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ إِلَّا قَلِيلًا» ، وَهَذَا يَرْجِعُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
689 -
685 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَشَدِّ النُّونِ أَيْ وِقَايَةٌ وَسُتْرَةٌ، قِيلَ مِنَ الْمَعَاصِي لِأَنَّهُ يَكْسِرُ الشَّهْوَةَ وَيُضْعِفُهَا، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَقِيلَ: جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِهَا، وَقَدْ زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: مِنَ النَّارِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ، وَلِلنِّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِي جُنَّةٌ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ: جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ: جُنَّةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا، زَادَ الدَّارِمِيُّ بِالْغِيبَةِ، وَالتَّفْسِيرَانِ مُتَلَازِمَانِ لِأَنَّهُ إِذَا كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا كَانَ سِتْرًا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَفِي الْإِكْمَالِ: مَعْنَاهُ يَسْتُرُ مِنَ الْآثَامِ أَوْ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَبِالْأَخِيرِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وَأَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ الصِّيَامِ عَلَى غَيْرِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ لِكَوْنِهِ جُنَّةً مِنَ النَّارِ فَضْلًا.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: " «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ:" لَا عِدْلَ لَهُ "، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَرْجِيحُ
الصَّلَاةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» "، ( «فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ» ) بِالْمُثَلَّثَةِ وَتَثْلِيثِ الْفَاءِ أَيْ لَا يُفْحِشْ وَيَتَكَلَّمْ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجِمَاعِ وَمُقَدَّمَاتِهِ وَعَلَى ذِكْرِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا.
(وَلَا يَجْهَلْ) أَيْ لَا يَفْعَلْ فِعْلَ الْجُهَّالِ كَصِيَاحٍ وَسَفَهٍ وَسُخْرِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " وَلَا يُجَادِلْ "، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَمْنُوعَةٌ مُطْلَقًا لَكِنَّهَا تَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ، وَلِذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إِبَاحَةُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّوْمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: الْجَهْلُ ضِدُّ الْعِلْمِ يَتَعَدَّى بِغَيْرِ حَرْفِ جَرِّ، وَالْجَهْلُ ضِدُّ الْحِلْمِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا
(فَإِنْ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَفِي رِوَايَةٍ: " وَإِنْ " بِالْوَاوِ، (امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ)، قَالَ عِيَاضٌ: قَاتَلَهُ دَافَعَهُ وَنَازَعَهُ وَيَكُونُ بِمَعْنَى شَاتَمَهُ وَلَاعَنَهُ، وَقَدْ جَاءَ الْقَتْلُ بِمَعْنَى اللَّعْنِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ: فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ مَارَاهُ يَعْنِي جَادَلَهُ، وَلِأَحْمَدَ: فَإِنْ شَاتَمَكَ أَحَدٌ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ، وَاسْتُشْكِلَ ظَاهِرُهُ بِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مَعَ أَنَّ الصَّائِمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَأَجَابَ الْبَاجِيُّ بِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ هُنَا لِلْوَاحِدِ كَسَافَرَ، أَوِ الْمَعْنَى: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُشَاتِمَهُ أَوْ يُقَاتِلَهُ أَوْ إِنْ وُجِدَتْ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَلْيَذْكُرِ الصَّوْمَ وَلَا يَسْتَدِمْ ذَلِكَ.
وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُفَاعَلَةِ التَّهَيُّؤُ لَهَا أَيْ أَنْ يَتَهَيَّأَ أَحَدٌ لِقِتَالِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ.
(فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ) مَرَّتَيْنِ تَأْكِيدًا لِلِانْزِجَارِ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ يُخَاطِبُهُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ: يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ لِلْمُشَاتِمِ وَالْمُقَاتِلِ أَيْ وَصَوْمِي يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْمُقَاتِلَةِ مُقَاتَلَتُهُ بِلِسَانِهِ، وَقِيلَ: يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ أَيْ فَلَا سَبِيلَ إِلَى شِفَاءِ غَيْظِكَ، وَلَا يَنْطِقُ بِأَنِّي صَائِمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ، وَلِذَا يَجْزِي اللَّهُ الصَّائِمَ أَجْرَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ انْتَهَى.
وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي الْأَذْكَارِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذِّبِ: كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى وَلَوْ جَمَعَهُمَا كَانَ حَسَنًا، وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ: إِنَّ ذِكْرَهَا فِي الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ إِشَارَةٌ لِذَلِكَ فَيَقُولُهَا بِقَلْبِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبِلِسَانِهِ لِيَكُفَّ خَصْمَهُ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَبِلِسَانِهِ وَإِلَّا فَفِي نَفْسِهِ
وَادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي النَّفْلِ أَمَّا الْفَرْضُ فَبِلِسَانِهِ قَطْعًا، وَقَالَ فِي الْمَصَابِيحِ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِلَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْمَنْعِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِخَصْمِهِ: إِنِّي صَائِمٌ تَحْذِيرًا وَتَهْدِيدًا بِالْوَعِيدِ الْمُتَوَجِّهِ عَلَى مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الصَّائِمِ، وَتَذَرَّعَ إِلَى تَنْقِيصِ أَجْرِهِ بِإِيقَاعِهِ فِي الْمُشَاتَمَةِ أَوْ بِذِكْرِ نَفْسِهِ تَشْدِيدَ الْمَنْعِ الْمُعَلَّلِ
بِالصَّوْمِ، وَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ ظَاهِرُ كَوْنِ الصَّوْمِ جُنَّةً أَنْ يَقِيَ صَاحِبَهُ مِنْ أَنْ يُؤْذَى كَمَا يَقِيهِ أَنْ يُؤْذِيَ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي فَالصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
690 -
686 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) إِنْ شَاءَ أَبْقَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا، وَهُوَ قَسَمٌ كَانَ يُقْسِمُ بِهِ كَثِيرًا وَأَقْسَمَ تَأْكِيدًا، (لَخُلُوفُ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَبِالْفَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، قَالَ عِيَاضٌ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ الشُّيُوخِ يَرْوُونَهُ بِفَتْحِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ وَحَكَى الْقَابِسِيُّ فِيهِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ، وَقَالَ: أَهْلُ الْمَشْرِقِ يَقُولُونَهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَالصَّوَابُ الضَّمُّ أَيْ تَغَيُّرِ رَائِحَةٍ (فَمِ الصَّائِمِ) لِخُلُوِّ الْمَعِدَةِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ، وَقَالَ الْبَرْقِيُّ: هُوَ تَغَيُّرِ طَعْمِ الْفَمِ وَرِيحِهِ بِتَأْخِيرِ الطَّعَامِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ مَالِكٌ تَغَيُّرَ رَائِحَةِ الْفَمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا تَثْبُتُ الْمِيمُ فِي الْفَمِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ لِثُبُوتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ. (أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ) زَادَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، (مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) فَتَعَلَّقَ بِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَالَ: هَذَا الطِّيبُ فِي الْآخِرَةِ خَاصَّةً، وَلِأَبِي الشَّيْخِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «يَخْرُجُ الصَّائِمُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يُعْرَفُونَ بِرِيحِ أَفْوَاهِهِمْ، أَفْوَاهُهُمْ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» "، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: هُوَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: " «لَخُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ حِينَ يَخْلُفُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» "، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا:" «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَمْسًا، قَالَ: وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُمْ يُمْسُونَ وَخُلُوفُ أَفْوَاهِهِمْ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» "، حَسَّنَهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي أَمَالِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ فِي وَقْتِ وُجُودِ الْخُلُوفِ فِي الدُّنْيَا يَتَحَقَّقُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: طِيبُهُ عِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ بِهِ وَثَنَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَاهُ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ عِنْدَهُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مَعْنَاهُ الثَّنَاءُ عَلَى الصَّائِمِ وَالرِّضَا بِفِعْلِهِ، وَقَالَ الْقَدُورِيُّ إِمَامُ الْحَنَفِيَّةِ: مَعْنَاهُ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ، وَمِثْلُهُ قَالَ الْبُونِيُّ مِنْ قُدَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ وَأَبُو حَفْصٍ الشَّافِعِيُّونَ وَأَبُو بَكْرٍ الْعَرَبِيُّ فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا لَمْ يَذْكُرُوا سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَجْهًا بِتَخْصِيصِهِ بِالْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ
كُتُبَهُمْ جَامِعَةٌ لِلْوُجُوهِ الْمَشْهُورَةِ وَالْغَرِيبَةِ، وَمَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحِ بَلْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَمَّا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَفِيهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ الْخُلُوفِ فِي الْمِيزَانِ عَلَى الْمِسْكِ الْمُسْتَعْمَلِ لِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا، وَاجْتِلَابُ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ كَمَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَخُصَّ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فِي رِوَايَةٍ لِذَلِكَ كَمَا خُصَّ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11](سُورَةُ الْعَادِيَاتِ: الْآيَةُ 11) ، وَأُطْلِقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ أَفْضَلِيَّتِهِ ثَابِتٌ فِي الدَّارَيْنِ انْتَهَى.
وَهَذِهِ إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَعَاصِرَانِ الْمَذْكُورَانِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْعِزُّ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ اسْتِطَابَةَ الرَّوَائِحِ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ طَبْعٌ يَمِيلُ إِلَى الشَّيْءِ فَيَسْتَطِيبُهُ أَوْ يَنْفِرُ عَنْهُ فَيَسْتَقْذِرُهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِتَقْرِيبِ الصَّوْمِ مِنَ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ أَيْ يُقَرِّبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إِلَيْكُمْ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حُكْمَ الْخُلُوفِ وَالْمِسْكِ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عِنْدَكُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى تَكُونَ نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُومُ وَرِيحُ جُرْحِهِ يَفُوحُ مِسْكًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لَاسِيَّمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُلُوفِ حَكَاهُمَا عِيَاضٌ.
وَقَالَ الدَّاوُدُيُّ وَجَمَاعَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ الْخُلُوفَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْمِسْكِ الْمَنْدُوبِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْخَيْرِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَحَاصِلُهُ حَمْلُ مَعْنَى الطِّيبِ عَلَى الْقَبُولِ وَالرِّضَا.
وَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّ لِلطَّاعَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحًا يَفُوحُ قَالَ: فَرِيحُ الصِّيَامِ فِيهَا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ كَالْمِسْكِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَطْيَبُ عِنْدَ مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَطِيبُونَ الْخُلُوفَ، أَكْثَرُ مَنْ كَانَ عِنْدَنَا بِصَدَدِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَيْ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ إِذْ هُوَ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالشَّمِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَكِنَّهُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِدْرَاكِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمُدْرَكَاتِ الْمَحْسُوسَاتِ يَعْلَمُهَا تَعَالَى عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَالِقُهَا أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟ وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَانَ أَطْيَبَ وَدَمُ الشَّهِيدِ رِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ بِالنَّفْسِ وَبَذْلِ الرُّوحِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّوْمَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْجِهَادِ، أَوْ نَظَرًا إِلَى أَصْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَأَصْلُ الْخُلُوفِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الدَّمِ، فَكَانَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ أَطْيَبَ رِيحًا، وَبِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّوْمُ فَرْضُ عَيْنٍ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْكِفَايَةِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ مَرْفُوعًا: " «دِينَارٌ تُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِكَ وَدِينَارٍ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُهُمَا الَّذِي تُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِكَ» "، فَفَضَّلَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَهْلِ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى النَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ لِأَنَّهُ كِفَايَةٌ.
وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ
الطَّيَالِسِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: " «خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْجِهَادَ وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمَكْتُوبَةِ» " لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُوبِ الصِّيَامِ.
وَقَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَطَائِفَةٍ: فَرْضُ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ ضَعِيفٌ، فَنَصُّ الشَّافِعِيِّ: فَرْضُ الْعَيْنِ أَفْضَلُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ:«عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ» .
(إِنَّمَا يَذَرُ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ بِتَرْكِ الصَّائِمِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِنِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِلْمِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِشْكَالِ فِيهِ.
وَلِأَحْمَدَ عَنْ «إِسْحَاقَ بْنِ الطَّبَّاعِ» عَنْ مَالِكٍ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: " إِنَّمَا يَذَرُ (شَهْوَتَهُ) أَيِ الْجِمَاعَ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ زَوْجَتَهُ، (وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) فَالْعَطْفُ مُغَايِرٌ وَإِنْ جَعَلْتَ شَهْوَتَهُ عَامَّةً فَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، وَفِي فَوَائِدَ سَمُّوَيْهِ: يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ (مِنْ أَجْلِي) لِامْتِثَالِ شَرْعِي ذَلِكَ.
قَالَ الْحَافِظُ: قَدْ يُفْهِمُ الْحَصْرُ التَّنْبِيهَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الصَّائِمُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الْخَاصُّ بِهِ حَتَّى لَوْ صَامَ لِغَرَضٍ آخَرَ كَتُخَمَةٍ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلُ لَكِنَّ الْمَدَارَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَعَلَى الدَّاعِي الْقَوِيِّ الَّذِي يَدُورُ مَعَهُ الْفِعْلُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلَا يُشَكُّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ فِي خَاطِرِهِ شَهْوَةُ شَيْءٍ طُولَ نَهَارِهِ لَيْسَ فِي الْفَضْلِ كَمَنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ فَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي تَرْكِهِ، (فَالصِّيَامُ لِي) بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ، (وَأَنَا أَجْزِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (بِهِ) صَاحِبَهُ، وَلَمَّا أَفَادَ سِعَةَ الْجَزَاءِ وَفَخَامَتَهُ لِتَوَلِّيهِ بِنَفْسِهِ دَفَعَ تَوَهُّمَ أَنَّ لَهُ غَايَةً يَنْتَهِي إِلَيْهِمَا كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ:(كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) بِلَا عَدَدٍ وَلَا حِسَابٍ، وَأَعَادَهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10](سُورَةُ الزُّمَرِ: الْآيَةُ 10) ، وَالصَّابِرُونَ الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُمْ يُصَبِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعِنْدَ سَمُّوَيْهِ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا فِيهِ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثِ: " «وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ ثَوَابِ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَالصِّيَامُ» "، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّائِمِ هُنَا مَنْ سَلِمَ صِيَامُهُ مِنَ الْمَعَاصِي قَوْلًا وَفِعْلًا.
وَنَقَلَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ الزُّهَّادِ تَخْصِيصَهُ بِصَوْمِ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ فَإِنَّهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: صِيَامُ الْعَوَّامِ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْعَوَامِّ وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَصِيَامُ الْخَوَاصِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ فَلَا فِطْرَ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ لِقَائِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا مَقَامٌ عَالٍ، لَكِنْ فِي حَصْرِ الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا النَّوْعِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي يُجْزِي بِهَا عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الصِّيَامَ لَا يَقَعُ فِيهِ رِيَاءٌ كَغَيْرِهِ حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ:" «الصِّيَامُ لَا رِيَاءَ فِيهِ» " قَالَ اللَّهُ عز وجل: هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ
مُرْسَلًا، وَلَوْ صَحَّ لَرُفِعَ النِّزَاعُ.
وَكَوْنُهُ لَا رِيَاءَ فِيهِ مَعْنَاهُ فِي فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ صَائِمٌ رِيَاءً فَإِنَّمَا يَقَعُ الرِّيَاءُ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ قَدْ يَدْخُلُهَا بِمُجَرَّدِ فِعْلَهَا، وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ إِلْحَاقَ الذِّكْرِ بِالصَّوْمِ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ وَلَا يَشْعُرُ الْحَاضِرُونَ.
ثَانِيهَا: مَعْنَاهُ أَنَا الْمُنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَظْهَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَيْهَا وَلَا يُبْطِلُهُ كَمَا ادَّعَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ لِأَنَّهُ يُكْتَبُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا قَدْرُ ثَوَابِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
ثَالِثُهَا: مَعْنَاهُ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ إِلَيَّ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدِي، وَلِذَا قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَفَى بِهِ فَضْلًا لِلصِّيَامِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَلِلنَّسَائِيِّ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ:" «وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» ".
رَابِعُهَا: الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتِ الْبُيُوتُ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ، مَعَ أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ لِلَّهِ.
قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّخْصِيصُ فِي مَوْضِعِ التَّعْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا التَّشْرِيفُ وَالتَّعْظِيمُ.
خَامِسُهَا: أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ الصَّائِمُ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتُ اللَّهِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ.
سَادِسُهَا: الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ.
سَابِعُهَا: أَنَّهُ خَاصٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ حَظٌّ فِيهِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَظِّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ لِلْعِبَادَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَبِهِ أَفْصَحَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ: لَا حَظَّ فِيهِ لِلصَّائِمِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَلَهُ فِيهِ حَظٌّ لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، أَيْ وَإِنْ أَرَادَ عَدَمَ انْبِسَاطِ نَفْسِهِ بِهِ أَصْلًا غَالِبًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَيُوجَدُ لِلنَّفْسِ فِيهَا حَظٌّ كَالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَلَهُ فِيهِ حَظُّ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّدَفِّي، وَكَالْحَجِّ فَلَهُ فِيهِ حَظُّ التَّنَفُّلِ وَالتَّفَرُّجِ عَلَى الْأَمْكِنَةِ وَهَكَذَا، فَلَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
ثَامِنُهَا: سَبَبُ إِضَافَتِهِ إِلَى اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُهُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ عُبَّادَ النُّجُومِ وَأَصْحَابَ الْهَيَاكِلِ وَالِاسْتِخْدَامَاتِ يَتَعَبَّدُونَ لَهَا بِالصِّيَامِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا فَعَّالَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ بِطَائِلٍ لِأَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا تَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَبَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ، وَالْأُخْرَى مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَبَقِيَ عَلَى تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الَّذِينَ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ.
تَاسِعُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ يُوَفَّى مِنْهَا مَظَالِمُ الْعِبَادِ إِلَّا الصِّيَامُ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ اللَّهُ عَبْدَهُ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ فَيَتَحَمَّلُ اللَّهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْمُقَاصَّةِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ كَبَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ فِيهِ «الْمُفْلِسَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ
وَصِيَامٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَخَذَ مَالَ هَذَا فَيُؤْخَذُ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ طُرِحَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُهُمْ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» .
قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَمْكَنَ تَخْصِيصُ الصِّيَامِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ:" «كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ:" «قَالَ رَبُّكُمْ: كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ» " فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ شَاهِدٌ لِذَلِكَ، لَكِنْ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ» "، وَيُجَابُ بِحَمْلِ الْإِثْبَاتِ عَلَى كَفَّارَةِ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَالنَّفْيِ عَلَى كَفَّارَةِ شَيْءٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِفِتْنَةِ الْمَالِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ لَكِنْ حَمَلَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى تَكْفِيرِ مُطْلَقِ الْخَطِيئَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ:" «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» "، وَلِابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَعَرَفَ حُدُودَهُ كَفَّرَ مَا قَبْلَهُ» "، وَلِمُسْلِمٍ:" «صِيَامُ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ وَصِيَامُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً» "، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ:" «كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصِّيَامُ» " أَيْ فَإِنَّهُ كَفَّارَةٌ وَزِيَادَةُ ثَوَابٍ عَلَى الْكَفَّارَةِ بِشَرْطِ خُلُوصِهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالشَّوَائِبِ.
عَاشِرُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَظْهَرُ فَتَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ كَمَا لَا تُكْتَبُ سَائِرُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَاسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِلَى حَدِيثٍ وَاهٍ جِدًّا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمُسَلْسَلَاتِ وَلَفْظُهُ: قَالَ اللَّهُ الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أُحِبُّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكْتُبَهُ وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدَهُ.
وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابِهِ: " «الْحَسَنَةُ لِمَنْ هَمَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا» "، فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَيَقْرُبُ مِنْهُمَا الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ.
وَبَلَغَنِي أَنَّ الطَّالِقَانِيَّ بَلَّغَهَا أَكْثَرَ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ لِي لَا لَكَ، أَيْ أَنَا الَّذِي يَنْبَغِي لِي أَنْ لَا أَطْعَمَ وَلَا أَشْرَبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ دُخُولُكُ فِيهِ لِأَنِّي شَرَعْتُهُ لَكَ فَأَنَا أَجْزِي بِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا جَزَاؤُهُ لِأَنَّ صِفَةَ التَّنْزِيهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ تَطْلُبُنِي، وَقَدْ تَلَبَّسْتَ بِهَا وَلَيْسَتْ لَكَ لَكِنَّكَ اتَّصَفْتَ بِهَا حَالَ صَوْمِكَ فَهِيَ تُدْخِلُكَ عَلَيَّ، فَإِنَّ الصَّبْرَ حَبْسُ النَّفْسِ وَقَدْ حَبَسْتَهَا بِأَمْرِي عَمَّا تَقْتَضِيهِ، وَحَقِيقَتُهَا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ، فَلِذَا قَالَ «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَفَرْحَةُ الْفِطْرِ لِرُوحِهِ الْحَيَوَانِيِّ لَا غَيْرَ، وَالثَّانِيَةُ لِنَفْسِهِ النَّاطِقَةِ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ فَأَوْرَثَهُ الصَّوْمُ لِقَاءَ اللَّهِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ انْتَهَى، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ.
وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ لَكِنَّهُ وَصَلَهُ بِالْحَدِيثِ قَبْلَهُ لِاتِّحَادِ إِسْنَادِهِمَا وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا قَدَّمْتُهُ عَنِ الْحَافِظِ لَكِنَّهُ قَالَ هُنَا هُمَا حَدِيثَانِ أَفْرَدَهُمَا الْمُوَطَّأُ وَجَمَعَهُمَا عَنْهُ الْقَعْنَبِيُّ وَعَنْهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ لَا يَكْرَهُونَ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ فِي سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ لَا فِي أَوَّلِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ إِنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ لَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرَأَوْهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ وَقَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصِيَامُهُ حَسَنٌ وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ وَأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
691 -
687
- (مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ) نَافِعِ (بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْمَدَنِيِّ الْأَصْبَحِيِّ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ:) كَذَا وَقَعَ مَوْقُوفًا فِي الْمُوَطَّآتِ إِلَّا مُوَطَّأِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى فَرَفَعَهُ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا تَوْقِيفًا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْأَنْصَارِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ الْمَذْكُورِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ) بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا (أَبْوَابُ الْجَنَّةِ) حَقِيقَةً لِمَنْ مَاتَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا لَا يَفْسُدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَامَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِ الشَّهْرِ وَتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ، وَلِلْبُخَارِيِّ: أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ وَأَصْلُهُ الْجَنَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ مِنَ السَّمَاءِ الْجَنَّةُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ) حَقِيقَةً أَيْضًا لِذَلِكَ، (وَصُفِّدَتْ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْفَاءِ غُلَّتِ (الشَّيَاطِينُ) أَيْ شُدَّتْ بِالْأَصْفَادِ وَهِيَ الْأَغْلَالُ الَّتِي يُغَلُّ بِهَا الْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَتُرْبَطُ فِي الْعُنُقِ وَهِيَ بِمَعْنَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ " حَقِيقَةً أَيْضًا مَنْعًا لَهُمْ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّشْوِيشِ عَلَيْهِمْ، أَوْ مَجَازٌ عَنْ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَالْعَفْوِ.
وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ: " فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ " إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الرَّحْمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَقِلُّ إِغْوَاؤُهُمْ وَإِيذَاؤُهُمْ فَيَكُونُونَ كَالْمُصَفَّدِينَ وَيَكُونُ تَصْفِيدُهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ لِنَاسٍ دُونَ نَاسٍ لِحَدِيثِ:" صُفِّدَتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ "، أَوْ فَتْحُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَفْتَحُهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الَّتِي لَا تَقَعُ فِي غَيْرِهِ عُمُومًا كَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَفِعْلِ الْخَيِّرَاتِ وَالِانْكِفَافِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، وَهَذِهِ أَسْبَابٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَأَبْوَابٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ تَغْلِيقُ أَبْوَابِ النَّارِ، وَتَصْفِيدُ الشَّيَاطِينِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَنْكَفُّونَ عَنْهُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، هَكَذَا أَبْدَى الْقَاضِي عِيَاضٌ احْتِمَالَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عَلَى السَّوَاءِ وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَأَقَرَّهُ، وَرَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ الْحَقِيقَةَ إِذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا تَمْتَنِعُ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْلِيسَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَطَئُونَ وَيَمُوتُونَ وَيُعَذَّبُونَ وَلَا يُنَعَّمُونَ، وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّصْفِيدَ حَقِيقَةٌ مَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهَا تُصَفَّدُ وَتُرْمَى فِي الْبَحْرِ، وَرَجَّحَ التُّورِبِشْتِيُّ الْمَجَازَ فَقَالَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيلِ الرَّحْمَةِ وَإِزَالَةِ الْغَلْقِ عَنْ مَصَاعِدَ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تَارَةً بِبَذْلِ التَّوْفِيقِ وَأُخْرَى بِحُسْنِ الْقَبُولِ، وَغَلْقُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَزُّهِ أَنْفُسِ الصُّوَّامِ عَنْ رِجْسِ الْفَوَاحِشِ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْبَوَاعِثِ عَلَى الْمَعَاصِي بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ، وَيُمْنَعُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمَنِّ عَلَى الصُّوَّامِ وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُدِبُوا إِلَيْهِ حَتَّى صَارَتِ الْجِنَانُ فِي هَذَا الشَّهْرِ كَأَنَّ أَبْوَابَهَا فُتِّحَتْ وَنَعِيمَهَا هُيِّئَ وَالنِّيرَانُ كَأَنَّ أَبْوَابَهَا غُلِّقَتْ وَأَنْكَالَهَا عُطِّلَتْ، وَإِذَا
ذَهَبْنَا إِلَى الظَّاهِرِ لَمْ تَقَعِ الْمِنَّةُ مَوْقِعَهَا وَتَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا غَيْرُ مُيَسَّرٍ لِدُخُولِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ، وَرَدَّهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ فَائِدَةَ الْفَتْحِ تَوْقِيفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى اسْتِحْمَادِ فِعْلِ الصَّائِمِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَيْضًا إِذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ الْمُعْتَقِدُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ يَزِيدُ ذَلِكَ فِي نَشَاطِهِ وَيَتَلَقَّاهُ بِمَزِيدِ الْقَبُولِ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عُمَرَ:" «إِنَّ الْجَنَّةَ لَتُزَخْرَفُ لِرَمَضَانَ» "، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدِ اسْتَرَابَ مُرِيبٌ فَقَالَ: نَرَى الْمَعَاصِيَ فِي رَمَضَانَ كَمَا هِيَ فِي غَيْرِهِ فَمَا هَذَا التَّصْفِيدُ؟ وَمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ؟ وَقَدْ كَذِبَ وَجَهِلَ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَدْ يَكُونُ مِنَ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا، سَلَّمْنَا أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وَسْوَسَتِهِ الَّتِي يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ اتِّصَالُهَا بِالنَّفْسِ إِذْ قَدْ يَكُونُ مَعَ بُعْدِهِ عَنْهَا لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، فَكَمَا يُوجَدُ الْأَلَمُ فِي جَسَدِ الْمَسْحُورِ وَالْمَعْيُونِ عِنْدَ تَكَلُّمِ السَّاحِرِ أَوِ الْعَايِنِ فَكَذَلِكَ يُوجَدُ عِنْدَ وَسْوَسَتِهِ مِنْ خَارِجٍ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيَاطِينِ الْمَرَدَةُ لِأَنَّهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّمَرُّدِ طَبَقَاتٌ فَتُصَفَّدُ الْمَرَدَةُ لَا غَيْرَ فَتَقِلُّ الْمُخَالَفَاتُ، وَلَا شَكَّ فِي قِلَّتِهَا فِي رَمَضَانَ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا فِيهِ كَغَيْرِهِ فَقَدْ بَاهَتْ وَسَقَطَتْ مُكَالَمَتُهُ. انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: " صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينِ مَرَدَةُ الْجِنِّ "، وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تُغَلُّ عَنِ الصَّائِمِينَ الصَّوْمَ الَّذِي حُوفِظَ عَلَى شُرُوطِهِ وَرُوعِيَتْ آدَابُهُ.
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيَاطِينِ مُسْتَرِقُو السَّمْعِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنِعُوا فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اسْتِرَاقِهِ فَزِيدُوا التَّسَلْسُلَ فِي رَمَضَانَ مُبَالَغَةً فِي الْحِفْظِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَخْلُصُونَ مِنِ افْتِتَانِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرُ انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَرَدَةُ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينِ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، فَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلُّ لَيْلَةٍ» ".
(مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ لَا يَكْرَهُونَ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ فِي سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ لَا فِي أَوَّلِهِ) ، وَهُوَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، (وَلَا فِي آخِرِهِ) مِنَ الزَّوَالِ لِلْغُرُوبِ (وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ) بَلْ يَسْتَحِبُّونَهُ لِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ كَحَدِيثِ:" «أَفْضَلُ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» " وَلَمْ يَخُصَّ وَقْتًا، وَخَبَرُ: " «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ
عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ» " وَلَمْ يَخُصَّ صَائِمًا مِنْ غَيْرِهِ وَلَا وَقْتًا.
وَقَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: " «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لَا أَعُدُّ وَلَا أُحْصِي» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.
وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَكَرِهَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ آخِرَ النَّهَارِ لِحَدِيثِ:" خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ " لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْخُلُوفَ الَّذِي هَذِهِ صَفَتُهُ وَفَضِيلَتُهُ وَإِنْ كَانَ فِي السِّوَاكِ فَضْلٌ لَكِنَّ فَضْلَ الْخُلُوفِ أَعْظَمُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخُلُوفَ لَا يَنْقَطِعُ مَا دَامَتِ الْمَعِدَةُ خَالِيَةً غَايَتُهُ أَنَّهُ يَخِفُّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ فَلَا يُكْرَهُ كَالْمَضْمَضَةِ لِلصَّائِمِ لَاسِيَّمَا وَهِيَ رَائِحَةٌ تَتَأَذَّى بِهَا الْمَلَائِكَةُ فَلَا تُتْرَكُ هُنَالِكَ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَفَائِدَتُهُ عَظِيمَةٌ بَدِيعَةٌ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا مَدَحَ الْخُلُوفَ نَهْيًا لِلنَّاسِ عَنْ تَقَذُّرِ مُكَالَمَةِ الصَّائِمِينَ بِسَبَبِ الْخُلُوفِ لَا نَهْيًا لِلصَّائِمِينَ عَنِ السِّوَاكِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ وُصُولِ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ إِلَيْهِ، فَعَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنَّهْيِ بَقَاءَ الرَّائِحَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ نَهْيَ النَّاسِ عَنْ كَرَاهَتِهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ إِكْرَامَ الصَّائِمِ وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِلسِّوَاكِ فَيُذْكَرُ أَوْ يُتَأَوَّلُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ بِهَذَا الْوَقْتِ يَخُصُّ بِهِ عُمُومَ " عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ "، وَفِي رِوَايَةٍ: عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ، وَحَدِيثُ الْخُلُوفِ لَا يُخَصِّصُهُ انْتَهَى.
وَتُعُقِّبَ قِيَاسُهُ عَلَى دَمِ الشَّهِيدِ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الصَّائِمَ مُنَاجٍ لِرَبِّهِ فَنُدِبَ لَهُ تَطْيِيبَ فَمِهِ، وَالشَّهِيدُ لَيْسَ بِمُنَاجٍ وَهُوَ جِيفَةٌ أَشَدُّ مِنَ الدَّمِ فَزَوَالُهُ لَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا بَلْ بَقَاؤُهُ يُوجِبُ مَزِيدَ الرَّحْمَةِ لَهُ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ الظُّلْمِ الَّذِي يَنْتَصِفُ بِهِ مِنْ خَصْمِهِ، وَسَبِيلُ الْخُصُومَةِ الظُّهُورُ وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَأْمَنُ فِيهِ الرِّيَاءَ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ مُنَاجَاةَ الصَّائِمِ لِرَبِّهِ مَعَ دَوَامِ الْخُلُوفِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِأَنَّ مَدْحَهُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ لَا عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا الْوِتْرُ أَفْضَلُ مِنَ الْفَجْرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: " «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» "، وَكَمْ مِنْ عِبَادَةٍ أَثْنَى عَلَيْهَا مَعَ فَضْلِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ قَاعِدَةِ ازْدِحَامِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، فَالسِّوَاكُ إِجْلَالًا لِلَّهِ حَالَ مُنَاجَاتِهِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْفَمِ لِلْمُنَاجَاةِ تَعْظِيمٌ لَهَا، وَالْخُلُوفُ مُنَافٍ لِذَلِكَ فَقَدَّمَ السِّوَاكَ لِخَبَرِ:" لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ ".
(قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِي صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ) الِاجْتِهَادِ (يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ) الَّذِينَ لَمْ أُدْرِكُهُمْ كَالصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ.
(وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ وَأَنْ يُلْحِقَ) بِضَمٍّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ
(بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ يُلْحِقُ، (وَالْجَفَاءِ) الْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ، (لَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرَأَوْهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ)، قَالَ مُطَرِّفٌ: فَإِنَّمَا كُرِهَ صِيَامُهَا لِذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ صَامَهَا رَغْبَةً لِمَا جَاءَ فِيهَا فَلَا كَرَاهَةَ.
وَفِي مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعُهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» "، قَالَ عِيَاضٌ: لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةٍ وَالسِّتَّةَ تَمَامُ السَّنَةِ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَ شُيُوخُنَا: إِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ صَوْمَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُلْحِقَ الْجَهَلَةُ بِرَمَضَانَ غَيْرَهُ.
أَمَّا صَوْمُهَا عَلَى مَا أَرَادَهُ الشَّرْعُ فَلَا يُكْرَهُ، وَقِيلَ: لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ، أَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ وَجَدَ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ وَصْلَ صَوْمِهَا بِيَوْمِ الْفِطْرِ، فَلَوْ صَامَهَا أَثْنَاءَ الشَّهْرِ فَلَا كَرَاهَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ سِتَّةُ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: كَانَ مَالِكًا مُتَحَفِّظًا كَثِيرَ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ، ـ وَالصِّيَامُ عَمَلُ بِرٍّ ـ فَلَمْ يَرَهُ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى الْجَهَلَةِ كَمَا أَوْضَحَهُ انْتَهَى.
وَوَجْهُ كَوْنِهِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ فِيهِ سَعْدَ بْنَ سَعِيدٍ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ثِقَةٌ قَلِيلُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ أَيْ وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ قَوْلُهُ رَأَيَا إِذِ الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةٍ فَلَهُ عِلَّتَانِ الِاخْتِلَافُ فِي رَاوِيهِ وَالْوَقْفُ.
(وَقَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصِيَامُهُ حَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَقَلَّمَا رَأَيْتُهُ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُفْطِرًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَطُّ» وَحَدِيثُ: "«مَنْ صَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كُتِبَ لَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ غُرٍّ زُهْرٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ لَا تُشَاكِلُهُنَّ أَيَّامُ الدُّنْيَا» "، (وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ)، قَالَ أَبُو عُمَرَ: قِيلَ إِنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَقِيلَ: صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، (يَصُمْهُ وَأُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَظُنُّهُ (كَانَ يَتَحَرَّاهُ)، قَالَ الْبَاجِيُّ: أَتَى بِهِ إِخْبَارًا لَا اخْتِيَارًا لِفِعْلِهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ كَرَاهَةَ صَوْمِ يَوْمٍ مُوَقَّتٍ أَوْ شَهْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَهُ بِكَرَاهَةِ قَصْدِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ» "، وَفِيهِمَا عَنْ جَابِرٍ:" «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» "، زَادَ مُسْلِمٌ: وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، وَلِلنَّسَائِيِّ: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
فَلِذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى كَرَاهَةِ إِفْرَادِهِ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَلَعَلَّ
قَوْلَ مَالِكٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: صَوْمُهُ حَسَنٌ وَمَذْهَبُهُ كَرَاهَةَ تَخْصِيصِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ بِالصَّوْمِ، وَإِنَّمَا حَكَى صَوْمَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَظَنُّهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ، وَلَمْ يَقُلْ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنَا أَرَاهُ وَأُحِبُّهُ.
وَأَشَارَ الْبَاجِيُّ إِلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ قَوْلٌ آخَرُ لَهُ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ.
قَالَ الْأَبِيُّ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَازِرِيَّ والدَّاوُدِيَّ فَهِمَا مِنَ الْمُوَطَّأِ الْجَوَازَ، وَعِيَاضٌ رَدَّهُ إِلَى مَا عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِهِ مِنْ كَرَاهَةِ تَخْصِيصِ يَوْمٍ بِالصَّوْمِ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَاجِيُّ مِنِ احْتِمَالِ أَنَّ مَا فِي الْمُوَطَّأِ قَوْلٌ آخَرُ لَهُ بِالْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَأَكْثَرُ الشُّيُوخِ إِنَّمَا يَحْكِي عَنْ مَالِكٍ الْجَوَازَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ، وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
[كِتَاب الْاعْتِكَافِ]
[بَاب ذِكْرِ الْاعْتِكَافِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْاعْتِكَافِ بَاب ذِكْرِ الْاعْتِكَافِ
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
19 -
كِتَابُ الِاعْتِكَافِ
هُوَ لُغَةً: لُزُومُ الشَّيْءِ وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187)، {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] (سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 138)، وَشَرْعًا: لُزُومُ الْمَسْجِدِ لِلْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إِجْمَاعًا، أَوْ قَطْعُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ عِنْدَ قَوْمٍ.
1 -
بَابُ ذِكْرِ الِاعْتِكَافِ
693 -
688 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ) كَذَا لِلْجُمْهُورِ، وَلِابْنِ مَهْدِيٍّ وَجَمَاعَةٍ: مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَذْكُرُوا عَمْرَةَ كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَرَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: جَمَعَ بَيْنَهُمَا اللَّيْثُ، وَرَوَاهُ يُونُسُ وَالْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَحْدَهُ، وَمَالِكٌ عَنْهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَابَعَهُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ أَبَا أُوَيْسٍ تَابَعَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَأَنَّ الْبَاقِينَ اخْتَصَرُوا ذِكْرَ عَمْرَةَ، وَأَنَّ ذِكْرَهَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْهُ فَوَافَقَ اللَّيْثَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَلَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
(زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي) يُقَرِّبُ (إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ) أُمَشِّطُ شَعْرَهُ وَأُنَظِّفُهُ وَأُحَسِّنُهُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ لِأَنَّ التَّرْجِيلَ لِلشَّعْرِ لَا لِلرَّأْسِ، أَوْ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: التَّرْجِيلُ أَنْ يُبَلَّ الشَّعْرُ ثُمَّ يُمَشَّطُ، وَفِيهِ أَنَّ إِخْرَاجَ الْبَعْضِ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْكُلِّ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ:" وَأَنَا حَائِضٌ "، وَفِيهِ: أَنَّ الْحَائِضَ طَاهِرَةٌ، وَأَنَّ يَدَيِ الْمَرْأَةِ لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ إِذْ لَوْ كَانَا عَوْرَةً مَا بَاشَرَتْهُ بِهِمَا فِي اعْتِكَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) انْتَهَى.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: فِيهِ إِبَاحَةُ تَنَاوُلِ الْمَرْأَةِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ وَلَمْسِ جِلْدِهِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مُبَاشَرَتُهَا بِلَذَّةٍ.
(وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) أَيِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ كَمَا فَسَّرَهَا الزُّهْرِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَى اسْتِثْنَائِهِمَا.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَيَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ وَلَا يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَّا الْأَكْلُ فَيُبَاحُ فِيهِ فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ كَرِوَايَةِ الْجُمْهُورِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذَا اعْتَكَفَتْ لَا تَسْأَلُ عَنْ الْمَرِيضِ إِلَّا وَهِيَ تَمْشِي لَا تَقِفُ قَالَ مَالِكٌ لَا يَأْتِي الْمُعْتَكِفُ حَاجَتَهُ وَلَا يَخْرُجُ لَهَا وَلَا يُعِينُ أَحَدًا إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلَوْ كَانَ خَارِجًا لِحَاجَةِ أَحَدٍ لَكَانَ أَحَقَّ مَا يُخْرَجُ إِلَيْهِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ وَاتِّبَاعُهَا قَالَ مَالِكٌ لَا يَكُونُ الْمُعْتَكِفُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَدُخُولِ الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ قَالَ مَالِكٌ لَا يَأْتِي الْمُعْتَكِفُ حَاجَتَهُ وَلَا يَخْرُجُ لَهَا وَلَا يُعِينُ أَحَدًا إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلَوْ كَانَ خَارِجًا لِحَاجَةِ أَحَدٍ لَكَانَ أَحَقَّ مَا يُخْرَجُ إِلَيْهِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ وَاتِّبَاعُهَا قَالَ مَالِكٌ لَا يَكُونُ الْمُعْتَكِفُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَدُخُولِ الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
694 -
689 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَنْصَارِيَّةِ (أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذَا اعْتَكَفَتْ لَا تَسْأَلُ عَنِ الْمَرِيضِ إِلَّا وَهِيَ تَمْشِي لَا تَقِفُ) لِأَنَّ الْوُقُوفَ مِنْ مَعْنَى الْعِيَادَةِ وَلَا تَجُوزُ كَحُضُورِ جِنَازَةٍ وَطَلَبِ دَيْنٍ وَاسْتِيفَاءِ حَدٍّ وَجَبَ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ أَوِ الدَّيْنُ عَلَيْهِ فَأُخْرِجَ لِذَلِكَ كُرْهًا بَطُلَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنَّ سَبَبَهُ مِنْ جِهَتِهِ، وَلِابْنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَبْطُلُ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَأْتِي الْمُعْتَكِفُ حَاجَتَهُ وَلَا يَخْرُجُ لَهَا) مِنَ الْمَسْجِدِ، (وَلَا يُعَيِّنُ أَحَدًا أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) وَنَحْوَهَا كَغُسْلٍ وَجَبَ أَوْ لِجُمْعَةٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ حَرٍّ أَصَابَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ قَصُّ ظُفُرِهِ أَوْ شَارِبِهِ أَوْ هُمَا وَنَتْفُ إِبِطٍ وَإِزَالَةُ عَانَةٍ تَبَعًا لِخُرُوجِهِ لِلْحَاجَةِ وَنَحْوَهَا وَلَا يَخْرُجُ لِذَلِكَ اسْتِقْلَالًا.
(وَلَوْ كَانَ خَارِجًا لِحَاجَةِ أَحَدٍ لَكَانَ أَحَقَّ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ (مَا يُخْرَجُ إِلَيْهِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ (وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ وَاتِّبَاعُهَا) مَعَ
أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ لِذَلِكَ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: " السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: غَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يَقُولُ فِيهِ السُّنَّةُ، وَجَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ: بِأَنَّ الَّذِي مِنْ قَوْلِهَا لَا يَخْرُجُ إِلَّا لِحَاجَةٍ وَمَا عَدَاهُ مِمَّنْ دُونَهَا.
وَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إِنْ شَهِدَ الْمُعْتَكِفُ جَنَازَةً أَوْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ خَرَجَ لِلْجُمْعَةِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَبِهِ (قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ الْمُعْتَكِفُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ الْمُعْتَكِفُ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ) وَلَوْ أَبَوَيْهِ إِذَا مَاتَا مَعًا، (وَدُخُولِ الْبُيُوتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) ثُمَّ تَارَةً تَجِبُ الْعِيَادَةُ وَالْخُرُوجُ لِلْجِنَازَةِ وَذَلِكَ إِذَا مَرِضَ أَوْ مَاتَ أَبَوَيْهِ وَالْآخَرُ حَيٌّ وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَتَارَةً يَحْرُمُ الْخُرُوجُ إِذَا مَاتَا مَعًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَكِفُ هَلْ يَدْخُلُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقْفٍ فَقَالَ نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيهِ وَلَا أُرَاهُ كُرِهَ الْاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا إِلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ أَوْ يَدَعَهَا فَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا لَا يُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إِتْيَانُ الْجُمُعَةِ فِي مَسْجِدٍ سِوَاهُ فَإِنِّي لَا أَرَى بَأْسًا بِالْاعْتِكَافِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَعَمَّ اللَّهُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْهَا قَالَ مَالِكٌ فَمِنْ هُنَالِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا الْجُمُعَةُ إِذَا كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي تُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَبِيتُ الْمُعْتَكِفُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَضْرِبُ بِنَاءً يَبِيتُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيتُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَلَا فِي الْمَنَارِ يَعْنِي الصَّوْمَعَةَ وَقَالَ مَالِكٌ يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِاعْتِكَافِهِ أَوَّلَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا وَالْمُعْتَكِفُ مُشْتَغِلٌ بِاعْتِكَافِهِ لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ التِّجَارَاتِ أَوْ غَيْرِهَا وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُعْتَكِفُ بِضَيْعَتِهِ وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ وَأَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ بِشَيْءٍ لَا يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ خَفِيفًا أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ قَالَ مَالِكٌ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ فِي الْاعْتِكَافِ شَرْطًا وَإِنَّمَا الْاعْتِكَافُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً فَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِمَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا مَضَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لَا مِنْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ وَلَا يَبْتَدِعُهُ وَقَدْ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ سُنَّةَ الْاعْتِكَافِ قَالَ مَالِكٌ وَالْاعْتِكَافُ وَالْجِوَارُ سَوَاءٌ وَالْاعْتِكَافُ لِلْقَرَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ سَوَاءٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
695 -
690 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الرَّجُلِ يَعْتَكِفُ هَلْ يَدْخُلُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقْفٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنْ دَخَلَ تَحْتَهُ بَطَلَ
(مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيهِ) بِالتَّشْدِيدِ يُصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةُ، (وَلَا أُرَاهُ كَرِهَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا إِلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ) وُجُوبًا، وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، (أَوْ يَدَعَهَا) فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَفِي بُطْلَانُ اعْتِكَافِهِ قَوْلَانِ:(فَإِنْ كَانَ) الْمَسْجِدُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ (مَسْجِدًا لَا يُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ) وَهُوَ مُبَاحٌ لِعُمُومِ النَّاسِ (وَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إِتْيَانُ الْجُمُعَةِ فِي مَسْجِدٍ سِوَاهُ) لِانْقِضَاءِ مُدَّةِ اعْتِكَافِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْجُمُعَةِ
(فَإِنِّي لَا أَرَى بَأْسًا بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ) وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، فَعَمَّ اللَّهُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْهَا) ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنَ الْإِمَامِ بِالْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِاعْتِكَافِ الْمَسْجِدُ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَخْتَصَّ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ بِهِ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ إِجْمَاعًا، فَعُلِمَ مِنْ ذِكْرِ الْمَسَاجِدِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيهَا، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاشِرَةِ الْجِمَاعُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: كَانُوا إِذَا اعْتَكَفُوا فَخَرَجَ رَجُلٌ لِحَاجَتِهِ فَلَقِيَ امْرَأَتَهُ جَامَعَهَا إِنْ شَاءَ (قَالَ مَالِكٌ: فَمِنْ هُنَالِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا الْجُمُعَةُ إِذَا كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمْعَةُ) لِانْقِضَاءِ مَا نَوَاهُ مِنَ الِاعْتِكَافِ قَبْلَ مَجِيئِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوطِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِلِاعْتِكَافِ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ فَأَجَازَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمَرْأَةِ الِاعْتِكَافَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ.
وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ وَخَصَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِالْوَاجِبِ، وَأَمَّا النَّفْلُ فَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِهِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إِلَّا لِمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ فَاسْتَحَبَّهُ لَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَامِعِ، وَشَرَطَهُ مَالِكٌ لِانْقِطَاعِ الِاعْتِكَافِ عِنْدَهُمَا بِالْجُمُعَةِ، وَخَصَّهُ طَائِفَةٌ كَالزُّهْرِيِّ بِالْجَامِعِ مُطْلَقًا، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِيِّ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَعَطَاءٌ بِمَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يُبَيِّتُ الْمُعْتَكِفُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَةٍ خَيْمَتُهُ (فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ) وَهِيَ صَحْنُهُ، وَأَمَّا خَارِجُهُ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَضْرِبُ بِنَاءً يَبِيتُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيتُ إِلَّا
فِي الْمَسْجِدِ قَوْلُ عَائِشَةَ) الَّذِي رَوَاهُ أَوَّلًا: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) فَحَصْرُهَا فِي الْحَاجَةِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ بَيَاتَهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، (وَلَا يَعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَلِذَا لَا تُصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةُ فَلَا يُعْتَكَفُ فِيهِ، (وَلَا فِي الْمَنَارِ) الْعَلَمُ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ أَطْلَقَهُ عَلَى الْمَنَارَةِ الَّتِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا بِجَامِعِ الِاهْتِدَاءِ فَلِذَا قَالَ (يَعْنِي الصَّوْمَعَةَ) لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ مُتَّخَذٌ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ كَبَيْتِ الْحُصْرِ وَالْقَنَادِيلِ وَلَهَا اسْمٌ تَخْتَصُّ بِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ.
(وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا حَتَّى) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ (يَسْتَقْبِلَ بِاعْتِكَافِهِ أَوَّلَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا) اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ تَبَعٌ، إِذِ الِاعْتِكَافُ إِنَّمَا يَكُونُ بِصَوْمٍ وَلَيْسَ اللَّيْلُ بِزَمَانِهِ، وَبِهَذَا قَالَ بَاقِي الْأَئِمَّةِ وَطَائِفَةٌ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ: يَدْخُلُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ: " «كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ» "، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَلَكِنْ إِنَّمَا تَخَلَّى بِنَفَسِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِاعْتِكَافِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ.
(وَالْمُعْتَكِفُ مُشْتَغِلٌ بِاعْتِكَافِهِ لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنَ التِّجَارَاتِ) وَيَجُوزُ مَا خَفَّ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ (أَوْ غَيْرِهَا) كَقِيَامِهِ لِرَجُلٍ يُهَنِّيهِ أَوْ يُعَزِّيهِ أَوْ شُهُودِ عَقْدِ نِكَاحٍ يَقُومُ لَهُ مِنْ مَكَانِهِ وَاشْتِغَالٌ بِعِلْمٍ وَكِتَابَةٍ.
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُعْتَكِفُ بِضَيْعَتِهِ وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ وَأَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ) يَأْمُرَ (بِشَيْءٍ لَا يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ خَفِيفًا أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ) إِذِ الْمَدَارُ عَلَى عَدَمِ اشْتِغَالِهِ عَمَّا هُوَ فِيهِ وَالْأَمْرُ بِمَا خَفَّ لَا يَشْغَلُهُ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ فِي الِاعْتِكَافِ شَرْطًا) يُخْرِجُهُ عَنْ سُنَّتِهِ كَمَنْ شَرَطَ أَنَّهُ مَتَى أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا
يَنْفَعُهُ.
(وَإِنَّمَا الِاعْتِكَافُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ) الْمُتَّصِلَةِ (مِثْلَ: الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ) وَهِيَ الْعُمْرَةُ وَالطَّوَافُ وَالِائْتِمَامُ، (مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً) أَيْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(فَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ شَرْطُ الْخُرُوجِ.
(وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا مَضَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لَا مِنْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ) أَيْ لِسَبَبِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ (وَلَا يَبْتَدِعُهُ) يُحْدِثُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ، (وَقَدِ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ سُنَّةَ الِاعْتِكَافِ) عَنْهُ فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ الشَّرْطَ فِي الِاعْتِكَافِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ وَالصَّلَاةَ لَا شَرْطَ فِيهِمَا، وَفِي الْحَجِّ خِلَافٌ وَكَذَا الِاعْتِكَافِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْفَعُهُ شَرْطُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ: إِنْ شَرَطَ فِي ابْتِدَاءِ اعْتِكَافِهِ، إِنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ خَرَجَ جَازَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنْ إِسْحَاقَ أَيْضًا يَجُوزُ فِي التَّطَوُّعِ لَا الْوَاجِبِ، وَفِي الْمُنْتَقَى: مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا، وَشَرَطَ الْخُرُوجَ مِنْهُ مَتَى أَرَادَ، لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ؛ فَإِنْ دَخَلَ لَزِمَهُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخُرُوجِ لِعِيَادَةٍ وَشُهُودِ جَنَازَةٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَوَائِجِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْبَةَ إِذَا دَخَلَ فِيهَا لَزِمَتْ بِالدُّخُولِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافٌ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ لِأَنَّ شَرْطَهُ الصَّوْمُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَصِحُّ اعْتِكَافُ سَاعَةٍ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَالِاعْتِكَافُ وَالْجِوَارُ) بِكَسْرِ الْجِيمِ (سَوَاءٌ) لِمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ: " «كَانَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ» "، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ مَالِكٌ الْجِوَارَ الَّذِي بِمَعْنَى الِاعْتِكَافِ فِي التَّتَابُعِ، وَأَمَّا الْجِوَارُ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَهْلُ مَكَّةَ فَإِنَّمَا هُوَ لُزُومُ الْمَسْجِدِ بِالنَّهَارِ وَالِانْقِلَابُ بِاللَّيْلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا، وَلَهُ الْخُرُوجُ فِي حَوَائِجِهِ وَوَطْءُ أَهْلِهِ مَتَى شَاءَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
(وَالِاعْتِكَافُ لِلْقَرَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ سَوَاءٌ) فِي الْأَحْكَامِ.
[بَاب مَا لَا يَجُوزُ الْاعْتِكَافُ إِلَّا بِهِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَنَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَا لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ قَالَ مَالِكٌ وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 -
بَابُ مَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إِلَّا بِهِ
691 -
(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ) بْنِ أَبِي بَكْرٍ (وَنَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) شَيْخَ مَالِكٍ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ فَأَوْرَدَهُ بَلَاغًا (قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ، يَقُولُ) أَيْ بِسَبَبِ قَوْلِ (اللَّهُ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] بَيَاضُ الصُّبْحِ {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] سَوَادُ اللَّيْلِ {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] بَيَانٌ لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ - وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] لَا تُجَامِعُوهُنَّ لِقَوْلِهِ قَبْلَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187)، ثُمَّ قَالَ {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187)، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تُلَامِسُوهُنَّ بِشَهْوَةٍ (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ) مُعْتَكِفُونَ (فِي الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ) فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِهِ، نَعَمْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ لِلِاعْتِكَافِ بَلْ يَصِحُّ بِصِيَامِ رَمَضَانَ وَبِنَذْرٍ وَغَيْرِهِ، وَتُعُقِّبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَلَازُمِهِمَا، وَإِلَّا لَكَانَ لَا صَوْمَ إِلَّا بِاعْتِكَافٍ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْقَاسِمَ وَنَافِعًا لَمْ يَدَّعِيَا التَّلَازُمَ حَتَّى يُقَالَ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ إِذْ مُفَادُ كَلَامِهِمَا إِنَّمَا هُوَ مَلْزُومِيَّةُ الِاعْتِكَافِ لِلصَّائِمِ، وَاللَّازِمُ إِذَا كَانَ أَعَمَّ كَالصَّوْمِ هُنَا يَنْفَرِدُ عَنِ الْمَلْزُومِ أَيْ يُوجَدُ بِدُونِهِ فَسَقَطَ قَوْلُهُ: لَا صَوْمَ إِلَّا بِاعْتِكَافٍ بِخِلَافِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الِاعْتِكَافُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِلَازِمِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَصَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ) وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ عَنْهُمَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَائِشَةُ وَعُرْوَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَإِسْحَاقُ بْنُ عُلَيَّةَ وَدَاوُدُ: يَصِحُّ بِغَيْرِ الصَّوْمِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَنَّ عُمَرَ
سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» " وَاللَّيْلُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، فَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَأَمَرَهُ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " يَوْمًا " بَدَلَ " لَيْلَةٍ "، وَجَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَمَنْ أَطْلَقَ لَيْلَةً أَرَادَ بِيَوْمِهَا، وَمَنْ أَطْلَقَ يَوْمًا أَرَادَ بِلَيْلَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَلَفْظُهُ: " قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اعْتَكِفْ وَصُمْ "، وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِمَا رَاوٍ ضَعِيفٌ فَقَدِ انْجَبَرَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَدَعْوَى أَنَّ رِوَايَةَ يَوْمًا شَاذَّةٌ لَا تُسْمَعُ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ.
[بَاب خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ لِلْعِيدِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ زِيَاد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِك عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اعْتَكَفَ فَكَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقِيفَةٍ فِي حُجْرَةٍ مُغْلَقَةٍ فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ زِيَاد عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا اعْتَكَفُوا الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهَالِيهِمْ حَتَّى يَشْهَدُوا الْفِطْرَ مَعَ النَّاسِ قَالَ زِيَاد قَالَ مَالِكٌ وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ مَضَوْا وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3 -
بَابُ خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ إِلَى الْعِيدِ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ كِتَابِ الِاعْتِكَافِ لَمْ يَسْمَعْهُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ مِنْ مَالِكٍ أَوْ شَكَّ فِي سَمَاعِهِ فَرَوَاهُ.
697 -
692 - (عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَنْدَلُسِيِّ الْقُرْطُبِيِّ الْمَعْرُوفِ بِشَبْطُونَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَكَانَ ثِقَةً وَاحِدَ زَمَانِهِ زُهْدًا وَوَرَعًا، سَمِعَ الْمُوَطَّأَ مِنْ مَالِكٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَدْخَلَهُ الْأَنْدَلُسَ مُثَقَّفًا بِالسَّمَاعِ مِنْهُ وَلَهُ رِحْلَتَانِ إِلَى مَالِكٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ، وَقِيلَ: تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَأَنْجَبَ وَلَدَهُ بِقُرْطُبَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْجَلَالَةِ وَالْفَضْلِ وَالْقَضَاءِ وَالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَكَأَنَّ يَحْيَى سَمِعَ مِنْهُ الْمُوَطَّأَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي حَيَاةِ مَالِكٍ ثُمَّ رَحَلَ فَسَمِعَهُ مِنْ مَالِكٍ سِوَى هَذِهِ الْوَرَقَةِ أَوْ شَكَّ فِيهَا فَرَوَاهَا عَنْ زِيَادٍ (قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْقُرَشِيَّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ (اعْتَكَفَ فَكَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقِيفَةٍ فِي حُجْرَةٍ مُغْلَقَةٍ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ أَيْ مُقْفَلَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَشَدِّ اللَّامِ أَيْ عَالِيَةٍ، (فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، سَيْفُ اللَّهِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، أَسْلَمَ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْفَتْحِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ.
(ثُمَّ لَا يَرْجِعُ) أَبُو بَكْرٍ مِنْ مُعْتَكَفِهِ (حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ) عَمَلًا
بِالْمُسْتَحَبِّ، وَمَرَّ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ دُخُولِ الْمُعْتَكِفِ تَحْتَ سَقْفٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَلَمْ يَمْنَعِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا اتَّفَقَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ يَعْنِي فَالْأَرْجَحُ جَوَازُهُ.
(حَدَّثَنَا زِيَادٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا اعْتَكَفُوا الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهَالِيهِمْ حَتَّى يَشْهَدُوا الْفِطْرَ مَعَ النَّاسِ) تَحْصِيلًا لِلْمُسْتَحَبِّ لِيَصِلَ اعْتِكَافَهُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ فَيَكُونُونَ قَدْ وَصَلُوا نُسُكًا بِنُسُكٍ.
(قَالَ زِيَادٌ: قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي) ذَلِكَ (عَنْ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ مَضَوْا)، قَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ، (وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُمِعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَقَوْلُ سَحْنُونٍ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا الْخِلَافُ مَوْجُودٌ فَلَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَخْرُجُ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِهِ.
وَقَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: إِنْ خَرَجَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَتَيْنِ جَرَى عُرْفُ الشَّرْعِ بِاتِّصَالِهِمَا، فَإِنَّ اتِّصَالَهُمَا عَلَى الْوُجُوبِ كَالطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْهِ. لَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْتُهُ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
[بَاب قَضَاءِ الْاعْتِكَافِ]
حَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ وَجَدَ أَخْبِيَةً خِبَاءَ عَائِشَةَ وَخِبَاءَ حَفْصَةَ وَخِبَاءَ زَيْنَبَ فَلَمَّا رَآهَا سَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ هَذَا خِبَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ» وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِعُكُوفٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَرِضَ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَشْرِ إِذَا صَحَّ أَمْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَفِي أَيِّ شَهْرٍ يَعْتَكِفُ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ يَقْضِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ عُكُوفٍ إِذَا صَحَّ فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْعُكُوفَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ وَالْمُتَطَوِّعُ فِي الْاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْاعْتِكَافُ أَمْرُهُمَا وَاحِدٌ فِيمَا يَحِلُّ لَهُمَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ اعْتِكَافُهُ إِلَّا تَطَوُّعًا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ إِنَّهَا إِذَا اعْتَكَفَتْ ثُمَّ حَاضَتْ فِي اعْتِكَافِهَا إِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهَا فَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ أَيَّةَ سَاعَةٍ طَهُرَتْ ثُمَّ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهَا وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَتَحِيضُ ثُمَّ تَطْهُرُ فَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهَا وَلَا تُؤَخِّرُ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4 -
بَابُ قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ
699 -
693 - (حَدَّثَنَا زِيَادٌ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا غَلَطٌ وَخَطَأٌ مُفْرِطٌ لَا أَدْرِي هَلْ هُوَ مِنْ يَحْيَى أَمْ مِنْ زِيَادٍ؟ وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ لِابْنِ شِهَابٍ لَا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَصِلُهُ (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ) ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسِلُهُ فَلَا يَذْكُرُ عَائِشَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْطَعُهُ فَلَا يَذْكُرُ عَمْرَةَ انْتَهَى.
وَبِهِ يُتَعَقَّبُ قَوْلُ فَتْحِ الْبَارِي: إِنَّهُ مُرْسَلٌ عَنْ عَمْرَةَ فِي الْمُوطَآتِ كُلِّهَا، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ) فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ:" فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً "، (فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ) وَهُوَ الْخِبَاءُ، (وَجَدَ أَخْبِيَةً) ثَلَاثَةً، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:" «فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ» " يَعْنِي قُبَّةً لَهُ وَثَلَاثَةً لِلثَّلَاثَةِ، (خِبَاءَ عَائِشَةَ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَمْدُودٍ، أَيْ خَيْمَةً مِنْ وَبَرٍ أَوْ صُوفٍ عَلَى عَمُودَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، (وَخِبَاءَ حَفْصَةَ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:" فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ "، وَلَهُ فِي أُخْرَى:" فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً لِتَعْتَكِفَ مَعَهُ "، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِلَا إِذْنٍ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ.
فَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: ثُمَّ اسْتَأْذَنَتْهُ حَفْصَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ اسْتِئْذَانَهَا كَانَ عَلَى لِسَانِ عَائِشَةَ.
(وَخِبَاءَ زَيْنَبَ) بِنْتِ جَحْشٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:" فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ضَرَبَتْ لَهَا خِبَاءً آخَرَ "، وَلَهُ فِي أُخْرَى:" وَسَمِعَتْ بِهَا زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى "، وَعِنْدَ أَبِي عِوَانَةَ:" فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ضَرَبَتْ مَعَهُنَّ، وَكَانَتِ امْرَأَةً غَيُورًا "، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى أَنَّ زَيْنَبَ اسْتَأْذَنَتْ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ أَحَدُ مَا بَعَثَ عَلَى الْإِنْكَارِ الْآتِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ:" فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ "، وَهَذَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْأَزْوَاجِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ لِتَفْسِيرِهَا فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى بِالثَّلَاثَةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ:" أَرْبَعَ قِبَابٍ "، وَلِلنَّسَائِيِّ إِذَا هُوَ بِأَرْبَعَةِ أَبْنِيَةٍ.
(فَلَمَّا رَآهَا سَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خِبَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آلْبِرَّ) بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَمْدُودَةٍ وَبِغَيْرِ مَدٍّ وَالنَّصْبِ، مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ:(تَقُولُونَ) أَيْ تَظُنُّونَ، وَالْقَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ، قَالَ الْأَعْشَى:
أَمَّا الرَّحِيلُ فَدُونَ بَعْدَ غَدٍ
…
فَمَتَى تَقُولُ الدَّارُ تَجْمَعُنَا
(بِهِنَّ) أَيْ مُلْتَبِسًا بِهِنَّ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِيَقُولُونَ، وَالْخِطَابُ لِلْحَاضِرِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: آلْبِرَّ يَرَوْنَ (ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْوَاوِ ثَقِيلَةٍ فَضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ نُقِضَ.
قَالَ عِيَاضٌ: قَالَ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْكَلَامَ إِنْكَارًا لِفِعْلِهِنَّ، وَقَدْ كَانَ أَذِنَ لِبَعْضِهِنَّ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُ إِنْكَارِهِ أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُنَّ غَيْرَ مُخْلِصَاتٍ فِي الِاعْتِكَافِ، بَلْ أَرَدْنَ الْقُرْبَ مِنْهُ لِغَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ أَوْ لِغَيْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ فَكَرِهَ
مُلَازَمَتَهُنَّ الْمَسْجِدَ مَعَ أَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ وَتَحْضُرُهُ الْأَعْرَابُ وَالْمُنَافِقُونَ وَهُنَّ مُحْتَاجَاتٌ إِلَى الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ لِمَا يَعْرِضُ لَهُنَّ فَيَبْتَذِلْنَ بِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ رَآهُنَّ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ فِي مُعْتَكَفِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لِحُضُورِهِ مَعَ أَزْوَاجِهِ، وَذَهَبَ الْمُهِمُّ مِنْ مَقْصُودِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ التَّخَلِّي عَنِ الْأَزْوَاجِ وَمُتَعَلِّقَاتِ الدُّنْيَا وَشِبْهِ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ ضَيَّقْنَ الْمَسْجِدَ بِأَبْنِيَتِهِنَّ، زَادَ الْحَافِظُ: أَوْ لَمَّا أَذِنَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَوَّلًا خَشِيَ تَوَارُدَ بَقِيَّةِ النِّسْوَةِ عَلَى ذَلِكَ فَيَضِيقُ الْمَسْجِدُ عَلَى الْمُصَلِّينَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ.
(حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ» "، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ:" «حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ» "، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ آخِرُ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ انْتِهَاءُ اعْتِكَافِهِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ بِغَيْرِ صَوْمٍ لِأَنَّ أَوَّلَ شَوَّالٍ هُوَ يَوْمُ الْعِيدِ وَصَوْمُهُ حَرَامٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ وَهُوَ صَادِقٌ بِمَا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْيَوْمُ الثَّانِي فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَا قَالَهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ النَّفْلِ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَبْطَلَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: يُقْضَى نَدْبًا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَدْخَلَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَلَمَّا رَأَى تَنَافُسَ زَوْجَاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَخَشِيَ أَنْ يَدْخُلَ نِيَّاتِهِنَّ دَاخِلَةٌ انْصَرَفَ ثُمَّ وَفَى لِلَّهِ بِمَا نَوَاهُ، وَفِيهِ صِحَّةُ اعْتِكَافِ النِّسَاءِ لِإِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُنَّ، وَإِنَّمَا مَنْعُهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَطَعْتُ بِأَنَّ اعْتِكَافَهُنَّ فِي الْمَسَاجِدِ لَا يَجُوزُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ لِلِاعْتِكَافِ لِأَنَّ النِّسَاءَ شُرِعَ لَهُنَّ الْحِجَابُ فِي الْبُيُوتِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ شَرْطًا مَا وَقَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِذْنِ وَالْمَنْعِ وَلَاكْتُفِيَ لَهُنَّ بِالِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدَ بُيُوتِهِنَّ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَسَقَطَ عَنْ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوطَآتِ كُلِّهَا.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ مُرْسَلًا، وَجَزَمَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْهُ مَوْصُولًا.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى مُرْسَلًا.
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: تَابَعَ مَالِكًا عَلَى إِرْسَالِهِ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ، زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: وَرَوَاهُ النَّاسُ عَنْ يَحْيَى مَوْصُولًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ مَوْصُولًا انْتَهَى.
وَمَرَّ التَّعَقُّبَ عَلَى قَوْلِهِ مُرْسَلٌ فِي الْمُوطَآتِ كُلِّهَا، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِهَؤُلَاءِ فَلَمْ يُرَاجِعْ أَبَا عُمَرَ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِعُكُوفٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَرِضَ) مَرَضًا يَشُقُّ عَلَيْهِ فِيهِ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ، (فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ أَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ
مَا بَقِيَ مِنَ الْعَشْرِ إِذَا صَحَّ أَمْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؟ وَفِي أَيِّ شَهْرٍ يَعْتَكِفُ إِنْ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ عُكُوفٍ) بِنَذْرِهِ أَوِ الدُّخُولِ فِيهِ، (إِذَا صَحَّ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ) ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَفْطَرَ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ رَمَضَانَ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَذَا إِنْ وَجَبَ صَوْمُ الِاعْتِكَافِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ الِاعْتِكَافِ تَطَوُّعًا فَأَفْطَرَ نَاسِيًا قَضَى عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا قَضَاءَ.
وَأَمَّا الْمَنْذُورُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَبِمُعَيَّنٍ فَحُكْمُ رَمَضَانَ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَفِي غَيْرِهِ وَاسْتَغْرَقَهُ الْمَانِعُ فَلَا قَضَاءَ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهُ وَكَانَ فِي آخِرِ الِاعْتِكَافِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ فَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَقَالَ سَحْنُونُ: لَا قَضَاءَ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْعُكُوفَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ) ، هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي أَسْنَدَهُ أَوَّلًا صَحِيحًا، فَمِنْ هُنَا وَنَحْوَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُطْلَقُ الْبَلَاغُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلِذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: بَلَاغَاتُ مَالِكٍ صَحِيحَةٌ.
(وَالْمُتَطَوِّعُ فِي الِاعْتِكَافِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ أَمْرُهُمَا وَاحِدٌ فِيمَا يَحِلُّ لَهُمَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ اعْتِكَافُهُ إِلَّا تَطَوُّعًا) ، وَقَدْ قَضَاهُ لَمَّا قَطَعَهُ لِلْعُذْرِ فَيُفِيدُ وُجُوبَ قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ لِمَنْ قَطَعَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّمَا قَضَاهُ اسْتِحْبَابًا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ نِسَاءَهُ اعْتَكَفْنَ مَعَهُ فِي شَوَّالٍ مَدْفُوعٌ، فَعَدَمُ النَّقْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْفِعْلِ وَقَدْ يَتَأَخَّرْنَ عَنْ شَوَّالٍ لِعُذْرٍ كَحَيْضٍ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ إِنَّهَا إِذَا اعْتَكَفَتْ ثُمَّ حَاضَتْ فِي اعْتِكَافِهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهَا) وُجُوبًا لِحُرْمَةِ مُكْثِهَا فِي الْمَسْجِدِ بِالْحَيْضِ، (فَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ أَيَّةَ سَاعَةٍ طَهُرَتْ ثُمَّ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهَا) قَبْلَ الْحَيْضِ حَتَّى تُتِمَّ مَا نَوَتْ أَوْ نَذَرَتْ، (وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا صِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) لِكَفَّارَةِ قَتْلٍ أَوْ فِطْرٍ فِي رَمَضَانَ، (فَتَحِيضُ ثُمَّ تَطْهُرُ فَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهَا وَلَا تُؤَخِّرُ ذَلِكَ) فَإِنْ أَخَّرَتْهُ اسْتَأْنَفَتْ.
وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْبُيُوتِ» قَالَ مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مَعَ جَنَازَةِ أَبَوَيْهِ وَلَا مَعَ غَيْرِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
700 -
694 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْبُيُوتِ) ، أَرْسَلَهُ هُنَا وَقَدَّمَهُ مَوْصُولًا أَوَّلَ الْكِتَابِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مَعَ جَنَازَةِ أَبَوَيْهِ) إِذَا مَاتَا مَعًا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ حَيٌّ خَرَجَ وُجُوبًا وَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ، (وَلَا مَعَ غَيْرِهَا) فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
[بَاب النِّكَاحِ فِي الْاعْتِكَافِ]
قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ نِكَاحَ الْمِلْكِ مَا لَمْ يَكُنْ الْمَسِيسُ وَالْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ أَيْضًا تُنْكَحُ نِكَاحَ الْخِطْبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ الْمَسِيسُ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ مِنْ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ بِالنَّهَارِ قَالَ يَحْيَى قَالَ زِيَاد قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ وَلَا يَتَلَذَّذُ مِنْهَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ وَلَا لِلْمُعْتَكِفَةِ أَنْ يَنْكِحَا فِي اعْتِكَافِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ الْمَسِيسُ فَيُكْرَهُ وَلَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَنْكِحَ فِي صِيَامِهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَلَا يَتَطَيَّبُ وَالْمُعْتَكِفُ وَالْمُعْتَكِفَةُ يَدَّهِنَانِ وَيَتَطَيَّبَانِ وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ شَعَرِهِ وَلَا يَشْهَدَانِ الْجَنَائِزَ وَلَا يُصَلِّيَانِ عَلَيْهَا وَلَا يَعُودَانِ الْمَرِيضَ فَأَمْرُهُمَا فِي النِّكَاحِ مُخْتَلِفٌ وَذَلِكَ الْمَاضِي مِنْ السُّنَّةِ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَالْمُعْتَكِفِ وَالصَّائِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5 -
بَابُ النِّكَاحِ فِي الِاعْتِكَافِ
(قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ نِكَاحَ الْمِلْكِ) أَيِ الْعَقْدِ، (مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ) أَيِ الْجِمَاعُ، فَلَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} [البقرة: 187](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187)، (وَالْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ أَيْضًا تُنْكَحُ) تُخْطَبُ وَيُعْقَدُ عَلَيْهَا كَمَا أَفَادَ بِقَوْلِهِ:(نِكَاحَ الْخِطْبَةِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ، (مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ) فَيُمْنَعُ، (وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكَفِ مِنْ أَهْلِهِ) حَلِيلَتُهُ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ (بِاللَّيْلِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ بِالنَّهَارِ) مِنَ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّائِمِ بِلَا عُكُوفٍ.
(وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ) مَسَّ الْتِذَاذٍ لَا كَتَفْلِيَةٍ أَوْ تَرْجِيلٍ أَوْ غَسْلِ
رَأْسٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ بِلَا لَذَّةٍ فَلَا مَنْعَ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُرَجِّلُ وَتَغْسِلُ رَأْسَ الْمُصْطَفَى وَمَرَّ حَدِيثُ التَّرْجِيلِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهَا: " «كَانَ يَأْتِينِي وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فَيَتَّكِي عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَأَغْسِلُ رَأْسَهُ وَسَائِرَهُ فِي الْمَسْجِدِ» "، ( «وَلَا يَتَلَذَّذُ مِنْهَا بِشَيْءٍ بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا» ) كَجِسَّةٍ فَإِنْ فَعَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُبْطِلُهُ إِلَّا الْإِيلَاجُ.
وَعَنْهُ أَيْضًا كَمَالِكٍ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَفْسُدُ بِالتَّلَذُّذِ إِلَّا إِنْ أَنْزَلَ.
(وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ) الذَّكَرِ (لَا لِلْمُعْتَكِفَةِ) الْأُنْثَى (أَنْ يَنْكِحَهَا فِي اعْتِكَافِهِمَا) أَيْ يَعْقِدَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ فَيُكْرَهُ) بِمَعْنَى يَحْرُمُ لِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33](سُورَةُ مُحَمَّدٍ: الْآيَةُ 33) ، (وَلَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَنْكِحَ فِي صِيَامِهِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَكِفًا.
(وَفَرْقٌ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ) بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِافْتِرَاقِ أَحْكَامِهِمَا فَلَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ:(إِنَّ الْمُحْرِمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ) يَحْضُرُ (الْجَنَائِزَ وَلَا يَتَطَيَّبُ) لِحُرْمَتِهِ عَلَيْهِ، (وَالْمُعْتَكِفُ وَالْمُعْتَكِفَةُ يَدَّهِنَانِ وَيَتَطَيَّبَانِ وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ شَعْرِهِ) حَلْقًا وَغَيْرِهِ، وَيَتَنَظَّفَانِ وَيَتَزَيَّنَانِ إِلْحَاقًا لِكُلِّ ذَلِكَ بِالتَّرْجِيلِ وَغَسْلِ الرَّأْسِ الْوَارِدَيْنِ فِي الْحَدِيثِ.
(وَلَا يَشْهَدَانِ الْجَنَائِزَ وَلَا يُصَلِّيَانِ عَلَيْهَا، وَلَا يَعُودَانِ الْمَرْضَى) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَأَمْرُهُمَا فِي النِّكَاحِ مُخْتَلِفٌ)، فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمُعْتَكِفِ دُونَ الْمُحْرِمِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ» "، وَلِذَا قَالَ:(وَذَلِكَ الْمَاضِي مِنَ السُّنَّةِ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَالْمُعْتَكِفِ وَالصَّائِمِ) بِلَا اعْتِكَافٍ فَيَجُوزُ لَهُمَا دُونَ الْمُحْرِمِ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْإِحْرَامِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ فِيهِمَا خَرَجَ الْمُحْرِمُ بِالْحَدِيثِ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنَ النِّسَاءِ وَهُوَ لُزُومُهُ لِلْمَسْجِدِ، وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مُنْعَزِلٍ عَنِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَعَهُنَّ فِي الْمَنَاهِلِ وَيُخَالِطُهُنَّ فَيُخَافُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]
حَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْوُسُطَ مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا مِنْ صُبْحِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ مَنْ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ مِنْ صُبْحِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأُمْطِرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
6 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعِظَمِ قَدْرِهَا، أَيْ ذَاتُ الْقَدْرِ الْعَظِيمِ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا وَلِوَصْفِهَا بِأَنَّهَا {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، (سُورَةُ الْقَدْرِ: الْآيَةُ 3) ، أَوْ لِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا أَوْ لِنُزُولِ الْبَرَكَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، أَوْ لِمَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَحْيَاهَا بِالْعِبَادَةِ مِنَ الْقَدْرِ الْجَسِيمِ، وَقِيلَ: الْقَدْرُ هُنَا التَّضْيِيقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7](سُورَةُ الطَّلَاقِ: الْآيَةُ 7) ، وَمَعْنَى التَّضْيِيقِ إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا أَوْ لِضِيقِ الْأَرْضِ فِيهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: الْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَدَرِ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُوَاخِي لِلْقَضَاءِ، أَيْ يُقَدَّرُ فِيهَا أَحْكَامُ السَّنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4](سُورَةُ الدُّخَانِ: الْآيَةُ 4) ، وَبِهِ صَدَّرَ النَّوَوِيُّ وَنَسَبَهُ لِلْعُلَمَاءِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ الْقَدْرُ بِسُكُونِ الدَّالِ وَإِنْ كَانَ الشَّائِعُ فِي الْقَدَرِ مُوَاخِي الْقَضَاءِ فَتْحَهَا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَفْصِيلُ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ وَإِظْهَارُهُ وَتَحْدِيدُهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِيَحْصُلَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ فِيهَا مِقْدَارٌ بِمِقْدَارٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقَدْرُ بِسُكُونِ الدَّالِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا مَصْدَرُ قَدَّرَ اللَّهُ الشَّيْءَ قَدْرًا وَقَدَرًا كَالنَّهْرِ وَالنَّهَرِ.
701 -
695 - (مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ) بِتَحْتِيَّةٍ قَبْلَ الزَّايِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ) بِلَا يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ الْمَدَنِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) تَيْمِ قُرَيْشٍ الْمَدَنِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ (أَنَّهُ قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْوُسُطَ» ) بِضَمِّ الْوَاوِ وَالسِّينِ جَمْعُ " وُسْطَى "، وَيُرْوَى بِفَتْحِ السِّينِ مِثْلُ: كَبَرَ وَكَبُرَ، وَرَوَاهُ الْبَاجِيُّ بِإِسْكَانِهَا جَمْعُ " وَاسِطٍ " كَبَازِلٍ وَبُزْلٍ، قَالَهُ الْحَافِظُ.
وَتَعَقَّبَهُ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ الَّذِي فِي مُنْتَقَى الْبَاجِيِّ وَقَعَ فِي كِتَابِي مُقَيَّدًا بِضَمِّ الْوَاوِ وَالسِّينِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَمْعُ " وَاسِطٍ "، قَالَ فِي الْعَيْنِ: وَاسِطُ الرَّحْلِ مَا بَيْنَ قَادِمَتِهِ وَآخِرَتِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَسَطَ الْبُيُوتَ بَسَطَهَا إِذَا نَزَلَ وَسَطَهَا، وَاسْمُ الْفَاعِلِ وَاسِطٌ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِهِ وُسْطٌ كَبَازِلٍ وَبُزْلٌ.
وَأَمَّا الْوَسَطُ بِفَتْحِ
الْوَاوِ وَالسِّينِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَمْعُ أَوْسَطَ وَهُوَ جَمْعُ وَسِيطٍ، كَمَا يُقَالُ: كَبِيرًا وَأَكْبَرًا وَأَكْبَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْمٌ لِجَمْعِ الْوَقْتِ عَلَى التَّوْحِيدِ كَوَسَطِ الدَّارِ وَوَسَطِ الْوَقْتِ وَالشَّهْرِ، فَإِنْ كَانَ قُرِئَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالسِّينِ فَهَذَا عِنْدِي مَعْنَاهُ (مِنْ رَمَضَانَ) فِيهِ مُدَاوَمَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَعَلَّ مُرَادَهُ رَمَضَانُ لَا بِقَيْدِ وَسَطِهِ إِذْ هُوَ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ.
(فَاعْتَكَفَ عَامًا) مَصْدَرُ عَامَ إِذَا سَبَحَ فَالْإِنْسَانُ يَعُومُ فِي دُنْيَاهُ عَلَى الْأَرْضِ طُولَ حَيَاتِهِ فَإِذَا مَاتَ غَرِقَ فِيهَا أَيِ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ فِي عَامٍ، (حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةً) بِالنَّصْبِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالرَّفْعِ فَاعِلُ " كَانَ " التَّامَّةِ بِمَعْنَى ثَبَتَ نَحْوَهُ، (إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا)، وَقَوْلُهُ:(مِنْ صُبْحِهَا) رِوَايَةُ يَحْيَى وَابْنِ بُكَيْرٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٌ يَخْرُجُ فِيهَا (مِنِ اعْتِكَافِهِ) لَمْ يَقُولُوا مِنْ صُبْحِهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ: مَنِ اعْتَكَفَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أَوْ وَسَطَهُ خَرَجَ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ اعْتِكَافِهِ، وَمَنِ اعْتَكَفَ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى بَيْتِهِ حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهُ خَطَبَ أَوَّلَ الْيَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فَأَوَّلُ لَيَالِي اعْتِكَافِهِ الْآخِرِ لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ فَيُخَالِفُ قَوْلَهُ آخِرَ الْحَدِيثِ:" «فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ» "، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخُطْبَةَ كَانَتْ فِي صُبْحِ الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ، وَوُقُوعُ الْمَطَرِ فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ الطُّرُقِ، فَكَانَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَجُوُّزًا أَيْ مِنَ الصُّبْحِ الَّذِي قَبْلَهَا فَنِسْبَةُ الصُّبْحِ إِلَيْهَا مَجَازٌ.
وَحَكَى الْمُطَرِّزُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَجْعَلُ لَيْلَةَ الْيَوْمِ الْآتِيَةِ بَعْدَهُ وَمِنْهُ: {عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46](سُورَةُ النَّازِعَاتِ: الْآيَةُ 46) فَأَضَافَهُ إِلَى الْعَشِيَّةِ وَهُوَ قَبْلَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةٍ تَمْضِي وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْإِيضَاحِ.
وَقَالَ السِّرَاجُ الْبُلْقِينِيُّ: الْمَعْنَى حَتَّى إِذَا كَانَ الْمُسْتَقْبَلُ مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ (قَالَ مَنِ اعْتَكَفَ مَعِي) الْعَشْرَ الْوَسَطَ (فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ) لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِإِدْخَالِهِ اللَّيْلَةَ الْأُولَى.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «فَخَطَبَنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ» "، وَفِي أُخْرَى لَهُمَا:" «فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ» ".
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ فَأَخَذَهُ فَنَحَّاهُ فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ كَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ
أُوتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ» "، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ: "«أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ» فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ أَيْ قُدَّامَكَ "، (وَقَدْ رَأَيْتُ) وَفِي رِوَايَةٍ أُرِيِتُ بِهَمْزَةِ أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ أَيْ أُعْلِمْتُ، (هَذِهِ اللَّيْلَةَ) نَصِبَ مَفْعُولٌ بِهِ لَا ظَرْفٌ أَيْ أُرِيتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
وَجَوَّزَ الْبَاجِيُّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْبَصَرِ أَيْ رَأَى عَلَامَتَهَا الَّتِي أُعْلِمَتْ لَهُ بِهَا وَهِيَ السُّجُودُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، (ثُمَّ أُنْسِيتُهَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْوَارَ عِيَانًا ثُمَّ نَسِيَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ رَأَى ذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَلَّ أَنْ يُنْسَى، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ كَذَا وَكَذَا فَنَسِيَ كَيْفَ قِيلَ لَهُ.
(وَقَدْ رَأَيْتُنِي) بِضَمِّ التَّاءِ، وَفِيهِ عَمَلُ الْفِعْلِ فِي ضَمِيرَيِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَيْ رَأَيْتُ نَفْسِي، (أَسْجُدُ مِنْ صُبْحَتِهَا) بِمَعْنَى فِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9](سُورَةُ الْجُمُعَةِ: الْآيَةُ 9) ، أَوْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، (فِي مَاءٍ وَطِينٍ) عَلَامَةٌ جُعِلَتْ لَهُ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَسِيَ عِلْمَ تَعْيِينِهَا تِلْكَ السَّنَةِ لَا رَفْعَ وَجُودِهَا لِأَمْرِهِ بِطَلَبِهَا بِقَوْلِهِ:( «فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» ) مِنْ رَمَضَانَ، ( «وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ» ) مِنْهُ أَيْ أَوْتَارِ لَيَالِيهِ، وَأَوَّلُهَا لَيْلَةَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخَرِ لَيْلَةِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلُهُ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَدِّثْ بِمَا هُنَا جَازِمًا بِهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْأَغْلَبُ فِي كُلِّ عَامٍ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:«إِنِّي قَدْ رَأَيْتُهَا فَنُسِّيتُهَا وَهِيَ لَيْلَةُ مَطَرٍ وَرِيحٍ، أَوْ قَالَ قَطْرٍ وَرِيحٍ» .
(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) ، يُقَالُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ اللَّيْلَةُ إِلَى الزَّوَالِ فَيُقَالُ الْبَارِحَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ» "(وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ) أَيْ عَلَى مِثْلِ الْعَرِيشِ، وَإِلَّا فَالْعَرِيشُ هُوَ السَّقْفُ، أَيْ أَنَّهُ كَانَ مُظَلَّلًا بِالْخُوصِ وَالْجَرِيدِ وَلَمْ يَكُنْ مُحْكَمَ الْبِنَاءِ بِحَيْثُ يَكِنُّ مِنَ الْمَطَرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: " «وَكَانَ السَّقْفُ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ» "، (فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ) أَيْ سَالَ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ سَقْفِهِ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ.
(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ) تَوْكِيدٌ كَقَوْلِكَ: أَخَذْتُ بِيَدِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي أَمْرٍ يَعِزُّ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِظْهَارًا لِلتَّعَجُّبِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْغَرِيبَةِ.
(رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ)، وَفِي رِوَايَةٍ: جَبِينِهِ (وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ) صَلَاةِ (صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ انْصَرَفَ، وَفِي
رِوَايَةٍ: " «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقَدِ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ وَأَنْفُهُ فِيهِمَا الْمَاءُ وَالطِّينُ» " تَصْدِيقُ رُؤْيَاهُ، وَفِيهِ السُّجُودُ عَلَى الطِّينِ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْخَفِيفِ وَالسُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ جَمِيعًا، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ وَحْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَحْدَهَا أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ قَالَهُ مَالِكٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ ذَقَنِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَجْزَأَ لِخَبَرِ: " «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ» " وَذَكَرَ مِنْهَا الْوَجْهَ، فَأَيُّ شَيْءٍ وُضِعَ مِنَ الْوَجْهِ أَجْزَأَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ذَكَرَ فِيهِ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ.
وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
702 -
696 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) مُرْسَلًا وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَعَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَوَكِيعٍ، الْأَرْبَعَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَحَرَّوْا) اطْلُبُوا، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ وَوَكِيعٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَالْقَطَّانِ:" الْتَمِسُوا "، وَهُمَا بِمَعْنَى الطَّلَبِ لَكِنْ مَعْنَى التَّحَرِّي أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الطَّلَبَ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَزَادَ عَبْدَةُ فِي أَوَّلِهِ قَالَتْ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ: تَحَرَّوْا "(لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) » وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ هِشَامٍ هَذَا التَّقْيِيدُ بِالْوِتْرِ وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:" «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي وِتْرِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» " فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
703 -
697 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ) مَوْلَاهُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَحَرَّوْا) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ مِنَ التَّحَرِّي، أَيِ اطْلُبُوا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، ( «لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» ) مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ: وَالْمُرَادُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَلَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَيَكُونُ قَالَهُ وَقَدْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ،
أَوْ أَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ ثُمَّ أَعْلَمَ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ، أَوْ حَضَّ عَلَى الْعَشْرِ مَنْ بِهِ بَعْضُ الْقُوَّةِ، وَعَلَى السَّبْعِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَشْرِ انْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ فَمُرْنِي لَيْلَةً أَنْزِلُ لَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
704 -
698 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضِرِ) سَالِمِ بْنِ أُمَيَّةَ (مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) الْقُرَشِيِّ التَّيْمِيِّ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ) أَبَا يَحْيَى الْمَدَنِيِّ حَلِيفَ الْأَنْصَارِ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَأُحُدًا وَمَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَوَهَمَ مَنْ قَالَ سَنَةَ ثَمَانِينَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ أَبَا النَّضِرِ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ وَلَا رَآهُ انْتَهَى.
وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي النَّضِرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَوَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ بِنَحْوِ حَدِيثِهِ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ) أَيْ بِعِيدُهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: إِنِّي أَكُونُ فِي بَادِيَتِي وَأَنَا بِحَمْدِ اللَّهِ أُصَلِّي بِهَا، (فَمُرْنِي لَيْلَةً أَنْزِلُ لَهَا)، وَلِأَبِي دَاوُدَ:«فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ أَنْزِلُهَا بِهَذَا الْمَسْجِدِ أُصَلِّيهَا فِيهِ» ، (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ» ) ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ: فَصَلِّهَا فِيهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ إِنَّ لَيْلَةَ الْجُهَنِيِّ مَعْرُوفَةٌ بِالْمَدِينَةِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَحَدِيثُهُ هَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ هَذَا الْخَبَرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَكَانَ الْجُهَنِيُّ يُمْسِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَعْنِي لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَلَا يَشْهَدُ شَيْئًا مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا وَلَا يَوْمَ الْفِطْرِ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْضَحُ الْمَاءَ عَلَى أَهْلِهِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَقَامَ مَلَأُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ يَعْنِي فِي ذَلِكَ الْعَامِ.
وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَقَالَ إِنِّي أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي رَمَضَانَ حَتَّى تَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
705 -
699 - (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ) الْخُزَاعِيِّ الْبَصْرِيِّ، قِيلَ: كَانَ قَصِيرًا طَوِيلَ الْيَدَيْنِ، وَكَانَ يَقِفُ عَلَى الْمَيِّتِ فَيَصِلُ إِحْدَى يَدَيْهِ إِلَى رَأْسِهِ وَالْأُخْرَى إِلَى رِجْلَيْهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: رَأَيْتُهُ وَلَمْ يَكُنْ بِذَاكَ الطُّولِ، وَكَانَ لَهُ جَارٌ يُقَالُ لَهُ حُمَيْدٌ الْقَصِيرُ فَقِيلَ لِهَذَا الطَّوِيلُ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُجْرَتِهِ (فِي رَمَضَانَ)، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ:«لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ» أَيْ بِتَعْيِينِهَا، (فَقَالَ: إِنِّي أُرِيتُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، (هَذِهِ اللَّيْلَةَ)، قَالَ الْحَافِظُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ رَأَى الْعِلْمِيَّةِ أَوِ الْبَصَرِيَّةِ (فِي رَمَضَانَ)، وَلِلْبُخَارِيِّ فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ (حَتَّى تَلَاحَى) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ تَنَازَعَ وَتَخَاصَمَ وَتَشَاتَمَ (رَجُلَانِ) مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ أَنَّهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَزَعَمَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ مُسْتَنَدًا قَالَهُ الْحَافِظُ، (فَرُفِعَتْ) أَيْ رُفِعَ بَيَانُهَا أَوْ عِلْمُ تَعْيِينِهَا مِنْ قَلْبِي فَنَسِيتُهُ لِلِاشْتِغَالِ بِالْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَفِي مُسْلِمٍ: فَنَسِيتُهَا، وَقِيلَ: رُفِعَتْ بَرَكَتُهَا تِلْكَ السَّنَةَ، وَقِيلَ: التَّاءُ فِي " رُفِعَتْ " لِلْمَلَائِكَةِ لَا لِلَّيْلَةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: قَدْ يُذْنِبُ الْبَعْضُ فَتَتَعَدَّى عُقُوبَتُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَيُجْزَى بِهِ مَنْ لَا سَبَبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «فَجَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ» .
وَعِنْدَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُمَا عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَحَجَزَ بَيْنَهُمَا» .
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنَسِيتُهَا» "، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ سَبَبَ النِّسْيَانِ الْإِيقَاظُ لَا الْمُلَاحَاةُ، وَجُمِعَ عَلَى اتِّحَادِ الْقِصَّةِ بِاحْتِمَالِ وُقُوعِ النِّسْيَانِ عَلَى سَبَبَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَسَمِعْتُ تَلَاحِيَ الرَّجُلَيْنِ فَقُمْتُ لِأَحْجِزَ بَيْنَهُمَا فَنَسِيتُهَا لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا، وَعَلَى تَعَدُّدِهَا بِاحْتِمَالِ أَنَّ الرُّؤْيَا فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنَامَيَّةٌ فَيَكُونُ سَبَبُ النِّسْيَانِ الْإِيقَاظَ، وَالْأُخْرَى يَقَظَةٌ فَسَبَبُ النِّسْيَانِ الْمُلَاحَاةُ، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا: "«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالُوا: بَلَى، فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَأَنَا أَعْلَمُهَا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا» "، فَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ النِّسْيَانِ، وَهَلْ أُعْلِمَ بِهَا بَعْدَ هَذَا النِّسْيَانِ؟ قَالَ الْحَافِظُ: فِيهِ احْتِمَالٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ رُفِعَ عِلْمُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَنْهُ فَأُنْسِيَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلِمَهَا بِسَبَبِ التَّلَاحِي، وَقَدْ قِيلَ: الْمِرَاءُ وَالْمُلَاحَاةُ شُؤْمٌ وَمِنْ شُؤْمِهَا حُرِمُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَمْ يُحْرَمُوهَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ لِقَوْلِهِ:( «فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» )، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ الْمُرَادُ بِالتَّاسِعَةِ تَاسِعَةٌ تَبْقَى فَتَكُونُ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَالسَّابِعَةِ سَابِعَةٌ تَبْقَى فَتَكُونُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَالْخَامِسَةِ خَامِسَةٌ تَبْقَى فَتَكُونُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ عَلَى الْأَغْلَبِ فِي أَنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ لِقَوْلِهِ:" «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» " يَعْنِي وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ تَاسِعَةٌ وَسَابِعَةٌ وَخَامِسَةٌ تَبْقَى بَعْدَ اللَّيْلَةِ تُلْتَمَسُ فِيهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، قَالَ: وَقِيلَ تَاسِعَةٌ تَمْضِي فَتَكُونُ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَجَزَمَ الْبَاجِيُّ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ:«تَاسِعَةٌ تَبْقَى سَابِعَةٌ تَبْقَى خَامِسَةٌ تَبْقَى»
وَرَجَّحَ الْحَافِظُ الثَّانِي لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: «الْتَمِسُوهَا فِي التِّسْعِ وَالسَّبْعِ وَالْخَمْسِ» أَيْ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى كَذَا قَالَ. وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مُحْتَمَلَةٌ، وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ نَصٌّ فِيمَا قَالَ مَالِكٌ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: " «تَاسِعَةٍ تَبْقَى وَسَابِعَةٍ تَبْقَى وَخَامِسَةٍ تَبْقَى» " يَقْتَضِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ إِحْدَى وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ انْتَهَى.
وَزَعَمَ الرَّوَافِضُ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى رُفِعَتْ أَصْلًا، أَيْ وُجُودُهَا وَهُوَ غَلَطٌ، فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْتِمَاسِهَا.
وَلِلْبُخَارِيِّ: «فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا» لَكُمْ أَيْ لِأَنَّ إِخْفَاءَهَا مِمَّا يَسْتَدْعِي قِيَامَ كُلَّ شَهْرٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَقِيَ مَعْرِفَتُهَا بِعَيْنِهَا، وَأَخَذَ مِنْهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ اسْتِحْبَابَ كَتْمِهَا لِمَنْ رَآهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهَا وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِيمَا قَدَّرَهُ لَهُ وَيُسْتَحَبُّ اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهَا كَرَامَةٌ، وَالْكَرَامَةُ يَنْبَغِي كَتْمُهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الطَّرِيقِ لِرُؤْيَةِ النَّفْسِ فَلَا يَأْمَنُ السَّلْبَ وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الرِّيَاءَ، وَلِلْأَدَبِ فَلَا يَتَشَاغَلُ عَنْ شُكْرِ اللَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَذِكْرِهَا لِلنَّاسِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْحَسَدَ فَيُوقِعَ غَيْرَهُ فِي الْمَحْذُورِ وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ:{يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5](سُورَةُ يُوسُفَ: الْآيَةُ 5) الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ: خَالَفَ مَالِكًا أَكْثَرُ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ فَرَوَوْهُ عَنْهُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ، وَصَوَّبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِثْبَاتَ عُبَادَةَ وَأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِهِ.
وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
706 -
700 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) هَكَذَا رَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ بُكَيْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ، وَرَوَاهُ يَحْيَى وَقَوْمٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ (أَنَّ رِجَالًا) لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرُوا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ) الْوَاقِعِ أَوِ الْكَائِنِ (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ جَمْعٌ فَلَيْسَ ظَرْفًا لِلْإِرَاءَةِ بَلْ صِفَةً لِقَوْلِهِ " فِي الْمَنَامِ " كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ مُتَعَقِّبًا قَوْلَ الْحَافِظِ أَيْ قِيلَ لَهُمْ فِي الْمَنَامِ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ بِاقْتِضَائِهِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَتَهُمْ، بَلْ تَفْسِيرُهُ أَنَّ نَاسًا أَرُوهُمْ إِيَّاهَا فَرَأَوْهَا.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ رُؤْيَاهُمْ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِ السَّبْعِ
لِقَوْلِهِ: فَلْيَتَحَرَّهَا إِلَى آخِرِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ آخِرَ الشَّهْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ السَّبْعُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَيْلَةُ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ وَآخِرُهَا لَيْلَةُ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا تَدْخُلُ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَا ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الثَّانِي تَدْخُلُ الثَّانِيَةُ فَقَطْ وَلَا يَدْخُلُ لَيْلَةَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» " انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا وَعَظَمَتَهَا وَأَنْوَارَهَا وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي لَيْلَةٍ مِنَ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُمْ هِيَ فِي كَذَا وَعَيَّنَ لَيْلَةً مِنَ السَّبْعِ وَنُسِيَتْ، أَوْ قَالَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أَرَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ أَعْلَمُ، وَالْمُرَادُ أُبْصِرُ مَجَازًا، (رُؤْيَاكُمْ) بِالْإِفْرَادِ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ رُؤْيَا وَاحِدَةً فَهُوَ مِمَّا عَاقَبَ الْإِفْرَادُ فِيهِ الْجَمْعَ لِأمْنِ اللَّبْسِ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُحَدِّثُونَ يَرْوُونَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَهُوَ جَائِزٌ، وَأَفْصَحُ مِنْهُ رُؤْيَاكُمْ جَمْعُ رُؤْيَا لِيَكُونَ جَمْعًا فِي مُقَابَلَةِ جَمْعٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ بِإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ يُعْلَمُ مِنْهُ التَّعَدُّدُ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِأَرَى لِيُجَانِسَ رُؤْيَاكُمْ وَهِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِأَرَى وَالثَّانِي قَوْلُهُ:(قَدْ تَوَاطَأَتْ) بِالْهَمْزِ أَيْ تَوَافَقَتْ، وَيُوجَدُ فِي نُسَخٍ بِطَاءٍ ثُمَّ يَاءٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ بِالْأَلِفِ وَلَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهِ مَهْمُوزًا، قَالَ تَعَالَى:{لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 37) ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِيَ بِلَا هَمْزٍ وَالصَّوَابُ الْهَمْزُ، وَفِي الْمَصَابِيحَ: يَجُوزُ تَرْكُ الْهَمْزِ، (فِي) رُؤْيَتِهَا فِي لَيَالِي (السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرَّيَهَا) أَيْ طَالَبَهَا وَقَاصِدَهَا ( «فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» ) مِنْ رَمَضَانَ، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ:" «أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَأَنَّ نَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» ".
قَالَ الْحَافِظُ: وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنَ الرُّؤْيَتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «إِنْ غُلِبْتُمْ فَلَا تُغْلَبُوا فِي السَّبْعِ الْبَوَاقِي» "، وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:«الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» " انْتَهَى.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: إِنَّ طَلَبَهَا فِي السَّبْعِ مُسْتَنَدُهُ الرُّؤْيَا وَهُوَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قِيلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ هِيَ فِي السَّبْعِ فَشَرْطُ التَّحَمُّلِ التَّمْيِيزُ وَهُمْ كَانُوا نِيَامًا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ رَأَى الْحَوَادِثَ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا فِي مَنَامِهِ فِي السَّبْعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ فِي السَّبْعِ، كَمَا لَوْ رَأَيْتَ حَوَادِثَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تِلْكَ اللَّيْلَةُ مَحَلًّا لِقِيَامِهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى الرُّؤْيَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِقَاعِدَةِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَيْهَا فِي أَمْرٍ ثَبَتَ اسْتِحْبَابُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَا أَنَّهَا أُثْبِتَ بِهَا حُكْمٌ، وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ السَّبْعُ الْأَوَاخِرُ لِسَبَبِ الْمَرَائِي الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهَا
فِيهَا وَهُوَ اسْتِدْلَالُ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَزِمَهُ اسْتِحْبَابٌ شَرْعِيٍّ مَخْصُوصٌ بِالتَّأْكِيدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ اللَّيَالِي، أَوْ أَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى الرُّؤْيَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إِقْرَارِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا كَأَحَدِ مَا قِيلَ فِي رُؤْيَا الْأَذَانِ ذَكَرَهُ الْأَبِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِك أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
706 -
701 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ أَرَاهُ اللَّهُ (أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ) الصَّالِحِ (مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ) لِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ إِذْ هِيَ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَقَلِيلٌ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا وَرَدَ.
(فَأَعْطَاهُ اللَّهُ) أَنْزَلَ عَلَيْهِ {لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ لَا مُسْنَدًا وَلَا مُرْسَلًا.
وَالثَّانِي: «إِنِّي لَا أَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ» .
وَالثَّالِثُ: «إِذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً» ، وَتَقَدَّمَا.
وَالرَّابِعُ: «قَوْلُهُ لِمُعَاذٍ: " حَسِّنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ» "، قَالَ: وَلَيْسَ مِنْهَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَلَا مَا يَدْفَعُهُ أَصْلٌ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَلِهَذَا شَوَاهِدُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُرْسَلَةٌ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: "«ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ: أَيُّوبُ وَزَكَرِيَّا وَحِزْقِيلُ وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَعَجِبَ الصَّحَابَةُ مِنْ ذَلِكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: عَجِبَتْ أُمَّتُكَ مِنْ عِبَادَةِ أَرْبَعَةٍ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] (سُورَةُ الْقَدْرِ: الْآيَةُ 3) هَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبَتْ أُمَّتُكَ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ» "، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: "«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ حَتَّى يُمْسِيَ، فَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَلْفَ شَهْرٍ» "، وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ
بِهِ أَصْحَابُنَا كُلُّهُمْ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَعَمْدَتُهُمْ أَثَرُ الْمُوَطَّأِ هَذَا، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَا يَدْفَعُ الصَّرِيحَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ:" قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مَاتُوا رُفِعَتْ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» "، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَهُوَ أَنَّ مُرَادَهُ السُّؤَالُ هَلْ تَخْتَصُّ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تُرْفَعُ بَعْدَهُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِأَثَرِ الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يُعَضِّدُهُ، فَفِي فَوَائِدِ أَبِي طَالِبٍ الْمُزَكَّى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ اللَّهَ وَهَبَ لِأُمَّتِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَلَمْ يُعْطِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمُ» انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
706 -
702 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ) حَضَرَهَا وَصَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ (مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا) نَصِيبِهِ مِنْ ثَوَابِهَا الْمُنَوِّهِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي نَحْوِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى:" وَمَا تَأَخَّرَ ".
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَا يَكُونُ رَأْيًا وَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا تَوْقِيفًا وَمَرَاسِيلُهُ أَصَحُّ الْمَرَاسِيلَ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: " «مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ» "، وَخَصَّهَا لِأَنَّهَا مِنَ اللَّيْلِ دُونَ الصُّبْحِ فَلَيْسَ مِنْهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرَانَيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» "، وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ:" «مَنْ صَلَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالنَّصِيبِ الْوَافِرِ» ".
وَفِي مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» "، وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا:" «فَمَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» ".
قَالَ فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ: مَعْنَى تَوْفِيقِهَا لَهُ أَوْ مُوَافَقَتِهِ لَهَا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي قَامَ فِيهَا بِقَصْدِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ مَعْنَى الْمُوَافَقَةِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَرْدُودٌ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ وَلَا الْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي نَظَرِي مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَلَا أُنْكِرُ حُصُولَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِمَنْ قَامَ لِابْتِغَائِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا وَلَمْ تُوَفَّقْ لَهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى حُصُولِ الثَّوَابِ الْمُعَيَّنِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى وُجُودِهَا وَبَقَائِهَا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ لِتَظَاهُرِ الْأَحَادِيثِ وَكَثْرَةِ رُؤْيَةِ الصَّالِحِينَ لَهَا، وَشَذَّ الرَّوَافِضُ وَالشِّيعَةُ وَالْحَجَّاجُ الظَّالِمُ الثَّقَفِيُّ فَقَالُوا: رُفِعَتْ رَأْسًا، وَكَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ سَنَةً وَاحِدَةً
فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ هَذَانِ قَوْلَانِ أَوْ قَوْلٌ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَشْهُورٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَزَيَّفَهُ الْمُهَلَّبُ وَقَالَ: لَعَلَّهُ بُنِيَ عَلَى دَوَرَانِ الزَّمَانِ لِنُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهِ حَتَّى تَنْتَقِلَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَنْ رَمَضَانَ، وَرُدَّ بِأَنَّ مَأْخَذَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ.
وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا فِي أَبِي دَاوُدَ وَمَوْقُوفًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِرَمَضَانَ مُمْكِنَةٌ فِي غَيْرِهِ، وَبِهِ جَزَمَ شَارِحُ الْهِدَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْحَاجِبِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ وَعَنْ أَنَسٍ وَأَبِي رَزِينٍ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَحَكَى ابْنُ الْمُلَقِّنِ لَيْلَةَ نِصْفِهِ، وَالَّذِي فِي الْمُفْهِمِ وَغَيْرِهِ لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ فَإِنْ ثَبَتَا فَهُمَا قَوْلَانِ.
وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ مِنْ رَمَضَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُبْهَمَةٌ عَلَيْنَا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَابْنِ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَلِلطَّحَاوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ تِسْعَ عَشْرَةَ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ، أَوْ مُبْهَمَةً فِي الْعَشْرِ الْوَسَطِ أَوْ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَمَالَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، أَوْ إِنْ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا فَلَيْلَةُ عِشْرِينَ وَنَاقِصًا فَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ لَيْلَةُ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ لَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ.
قَالَ عِيَاضٌ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ إِلَّا وَقِيلَ إِنَّهَا فِيهِ أَوْ فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا فِي هَذَا الْبَابِ، قَالَ الْحَافِظُ وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ: أَوْ فِي أَوْتَارِهِ بِزِيَادَةِ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، أَوْ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ كُلِّهِ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الصَّحِيحِ «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ» .
ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُوهُ هَلْ هِيَ مُحْتَمَلَةٌ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ بَعْضُ لَيَالِيهِ أَرْجَى؟ فَفِي أَنَّهَا إِحْدَى أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ سَبْعٌ أَقْوَالٌ، أَوْ تَنْتَقِلُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، أَوْ تَنْتَقِلُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ أَوْ لَيْلَةُ سِتَّ عَشْرَةَ أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
أَوْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ أَوْ تَاسِعُ لَيْلَةٍ أَوْ سَابِعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ آخِرُ لَيْلَةٍ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
أَوْ لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرِينَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدَيْنِ مُنْقَطِعَيْنِ، أَوْ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَبْعٌ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٌ يَمْضِينَ.
وَلِأَحْمَدَ
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «سَابِعَةٌ تَمْضِي أَوْ سَابِعَةٌ تَبْقَى» ، قَالَ النُّعْمَانُ: فَنَحْنُ نَقُولُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ لَيْلَةَ إِحْدَى أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ مُنْحَصِرَةٌ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ، أَوْ لَيْلَةُ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، «أَوْ فِي أَشْفَاعِ الْعَشْرِ الْوَسَطِ وَالْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوْ لَيْلَةُ الثَّالِثَةِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوِ الْخَامِسَةِ مِنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الثَّالِثَةَ تَحْتَمِلُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَتَحْتَمِلُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَيَنْحَلُّ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَبِهَذَا غَايَرَ مَا مَضَى، أَوْ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي.
رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ: " «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: تَحَرَّهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ» " ثُمَّ عَادَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: " إِلَى ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ "، «فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحْيِي لَيْلَةَ سِتَّ عَشْرَةَ إِلَى ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ يُقَصِّرُ، أَوْ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ أَوِ الْوَتْرِ مِنَ اللَّيَالِي» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مُرْسَلًا
أَوْ «لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى إِمْكَانِ حُصُولِهَا وَالْحَثِّ عَلَى الْتِمَاسِهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُعْلَمُ وَهَذَا يَصْلُحُ عَدُّهُ قَوْلًا.
وَأَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: قَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ بِهَا وَأَخْبَرَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ: هَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَبَعْضُهَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا التَّغَايُرَ وَأَرْجَحُهَا كُلُّهَا أَنَّهَا فِي وَتْرٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَرْجَى أَوْتَارِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَأَرْجَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَبِهِ جَزَمَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَحَلَفَ عَلَيْهِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ كَأَنَّهُ شِقُّ جَفْنَةٍ» "، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ: أَيْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَإِنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ فِيهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَذْكُرُ لَيْلَةَ الصَّهْبَاوَاتِ؟ قُلْتُ: أَنَا وَذَلِكَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» ".
وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «رَأَى رَجُلٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» "، وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ مَرْفُوعًا:" «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» "، وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ:" «مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» "، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَمُعَاوِيَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَنَحْوِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " دَعَا عُمَرُ الصَّحَابَةَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَقُلْتُ لِعُمْرَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوْ أَظُنُّ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ فَقُلْتُ: سَابِعَةٌ تَمْضِي أَوْ سَابِعَةٌ تَبْقَى مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَسَبْعَ أَرَضِينَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالدَّهْرُ يَدُورُ فِي سَبْعٍ، وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ مِنْ سَبْعٍ وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ،
وَالطَّوَافُ سَبْعٌ، وَالْجِمَارُ سَبْعٌ، وَإِنَّا نَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، قَالَ تَعَالَى:{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا - وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 27 - 28](سُورَةُ عَبَسَ: الْآيَةُ 27، 28) الْآيَةَ، قَالَ: فَالْأَبُّ لِلْأَنْعَامِ وَالسَّبْعَةُ لِلْإِنْسِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَلُومُونِي فِي تَقْرِيبِ هَذَا الْغُلَامِ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَدْرَكَ أَسْنَانَنَا مَا عَاشَرَهُ مِنَّا رَجُلٌ وَنِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ "، وَرَوَى ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْحَكَمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَعَا الْأَشْيَاخَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَتَكَلَّمْ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وِتْرًا» أَيِ الْوِتْرَ، فَقَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ تَاسِعَةً سَابِعَةً خَامِسَةً ثَالِثَةً، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ قُلْتُ: أَتَكَلَّمُ بِرَأْيِي؟ قَالَ: عَنْ رَأْيِكَ أَسْأَلُكَ، فَقُلْتُ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِي آخِرِهِ فَقَالَ عُمَرُ: أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي مَا اسْتَوَتْ شُئُونُ رَأْسِهُ، وَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى الْقَوْلَ كَمَا قُلْتَ "، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّسَبَ فِي سَبْعٍ ثُمَّ تَلَا:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23](سُورَةَ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 23) الْآيَةَ، وَقِيلَ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ عَدَدِ كَلِمَاتِ السُّورَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ هِيَ سَابِعُ كَلِمَةٍ بَعْدَ عِشْرِينَ نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَبَالَغَ فِي رَدِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهُ مِنْ مُلَحِ التَّفْسِيرِ لَا مِنْ مَتِينِ الْعِلْمِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: حِكْمَةُ إِخْفَائِهَا لِيُجْتَهَدَ فِي الْتِمَاسِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ عُيِّنَتْ لَهَا لَيْلَةٌ لَاقْتُصِرَ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ تَطَّرِدُ عِنْدَ الْقَائِلِ أَنَّهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ جَمِيعِ رَمَضَانَ أَوِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوْ أَوْتَارِهِ خَاصَّةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي أَلْيَقَ بِهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهَا عَلَامَةٌ تَظْهَرُ لِمَنْ وُفِّقَتْ لَهُ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: يَرَى كُلَّ شَيْءٍ سَاجِدًا، وَقِيلَ: يَرَى الْأَنْوَارَ فِي كُلِّ مَكَانٍ سَاطِعَةً حَتَّى الْأَمَاكِنِ الْمُظْلِمَةِ، وَقِيلَ: يَسْمَعُ سَلَامًا أَوْ خِطَابًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: عَلَامَتُهَا اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ مَنْ وُفِّقَتْ لَهُ.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِحُصُولِهَا رُؤْيَةُ شَيْءٍ وَلَا سَمَاعُهُ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا هَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهَا لِمَنْ قَامَهَا وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ؟ وَذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وَالْمُهَلَّبُ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَةٌ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَشْفِهَا لَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:«مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا» ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَهُوَ أَرْجَحُ فِي نَظَرِي.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ ذَلِكَ، وَفَرَّعُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا شَخْصٌ دُونَ آخَرَ وَإِنْ كَانَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي إِخْفَائِهَا دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَظْهَرُ لِلْعُيُونِ لَيْلَتَهَا مَا لَا يَظْهَرُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَمْ يَخْفَ عَنْ مَنْ قَامَ لَيَالِيَ السَّنَةِ فَضْلًا عَنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، تَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ التَّكْذِيبِ لِذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ فَيُخْتَصُّ بِهَا قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْصُرِ الْعَلَامَةَ وَلَمْ يَنْفِ الْكَرَامَةَ، وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو سَعِيدٍ نُزُولَ الْمَطَرِ، وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِنَ السِّنِينَ يَنْقَضِي رَمَضَانُ دُونَ مَطَرٍ مَعَ اعْتِقَادِنَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو رَمَضَانُ مَنْ
لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا مَنْ رَأَى الْخَوَارِقَ، بَلْ فَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا إِلَّا عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ خَارِقٍ، وَآخَرُ رَأَى الْخَوَارِقَ بِلَا عِبَادَةٍ، وَالَّذِي حَصَلَ لَهُ الْعِبَادَةُ أَفْضَلُ، وَالْعِبْرَةُ إِنَّمَا هِيَ بِالِاسْتِقَامَةِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تَكُونَ إِلَّا كَرَامَةً بِخِلَافِ الْخَارِقِ فَقَدْ يَقَعُ كَرَامَةً وَقَدْ يَقَعُ فِتْنَةً انْتَهَى.
وَقَدْ وَرَدَ لَهَا عَلَامَاتٌ أَكْثَرُهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَمْضِيَ، مِنْهَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:" أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَتِهَا لَا شُعَاعَ لَهَا "، وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ: مِثْلَ الطَّسْتِ.
وَلَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِثْلَ الطَّسْتِ صَافِيَةً.
وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " لَيْلَةُ الْقَدْرِ طَلْقَةٌ لَا حَارَةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا حَمْرَاءَ ضَعِيفَةً "، وَلِأَحْمَدَ عَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا:" أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا صَاحِيَةٌ لَا حَرَّ فِيهَا وَلَا بَرْدَ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرْمَى بِهِ فِيهَا، وَإِنَّ أَمَارَاتِهَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي صَبِيحَتِهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ فِيهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ "، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ إِلَّا صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ "، وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا:" لَيْلَةُ الْقَدْرِ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تُضِيءُ كَوَاكِبُهَا، وَلَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا "، وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى "، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ:" لَا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ وَلَا يَحْدُثُ فِيهَا دَاءٌ "، وَعَنِ الضَّحَّاكِ:" يَقْبَلُ اللَّهُ التَّوْبَةَ فِيهَا مِنْ كُلِّ تَائِبٍ، وَهِيَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا "، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْأَشْجَارَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تَسْقُطُ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَنَابِتِهَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَسْجُدُ فِيهَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ أَنَّ الْمِيَاهَ الْمَالِحَةَ تَعْذُبُ لَيْلَتَهَا.
وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ نَحْوَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْأَلُهُ الْعَوْنَ عَلَى التَّمَامِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، مُقَرِّبًا إِلَى دَارِ السَّلَامِ، مُتَوَسِّلًا بِحَبِيبِهِ خَيْرِ الْأَنَامِ.
[كِتَاب الْحَجِّ]
[بَاب الْغُسْلِ لِلْإِهْلَالِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْحَجِّ بَاب الْغُسْلِ لِلْإِهْلَالِ
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ «أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتُهِلَّ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
20 -
كِتَابُ الْحَجِّ
خَتَمَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخَامِسِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ الْمَقْرُوءَةِ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ تَقْدِيمُ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَكِتَابِ الْجِهَادِ عَلَى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ وَلَا مُنَاسَبَةٌ وَلَا حُسْنُ تَصْنِيفٍ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَعَسَّفَ تَوْجِيهٌ لِذَلِكَ بِأَنَّ لِلْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ تَعَلُّقًا مَا بِالصِّيَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يَحْلِفُ بِهِ أَوْ يَنْذِرَهُ فَأَلْحَقَهُمَا بِهِ وَلِلْجِهَادِ بِهِ نَوْعُ تَعَلُّقٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصِّيَامَ جِهَادٌ لِلنَّفْسِ عَلَى تَرْكِ شَهَوَاتِهَا كَمَا أَنَّ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ ذَلِكَ، إِذْ هِيَ لَا تَرْضَى بِالتَّعَبِ لَا سِيَّمَا الْمُؤَدِّي لِلْعَطَبِ.
وَالْحَجُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ الْكَسْرُ لِنَجْدٍ وَالْفَتْحُ لِغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: الْفَتْحُ الِاسْمُ وَالْكَسْرُ الْمَصْدَرُ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، وَوُجُوبُهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ إِجْمَاعًا إِلَّا لِعَارِضٍ كَالنَّذْرِ، وَفِي أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي لِخَوْفِ الْفَوَاتِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَالْقَوْلُ بِفَرْضِهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ شَاذٌّ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ لِنُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ابْتِدَاءُ الْفَرْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ وَالنَّخْعِيِّ:" وَأَقِيمُوا "، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْإِكْمَالُ بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ فَرْضِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي قِصَّةِ ضِمَامٍ ذِكْرُ الْحَجَّ وَقَدِمَ سَنَةَ خَمْسٍ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ فَإِنْ ثَبَتَ دَلَّ عَلَى تَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا أَوْ وُقُوعِهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ، إِذْ لَوِ اخْتَصَّتْ لَلَزِمَ أَنْ يَشُدَّ عَلَى الرَّاحِلَةِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ جِدًّا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ حَدِيثُ تَفْسِيرِهَا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةِ عَامَّةٌ لَيْسَتْ مُجْمَلَةٌ فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ، فَكَلَّفَ كُلَّ مُسْتَطِيعٍ قَدَرَ بِمَالٍ أَوْ بَدَنٍ.
1 -
بَابُ الْغُسْلِ لِلْإِهْلَالِ
أَيِ التَّلْبِيَةِ، وَأَصْلُهُ رَفْعُ الصَّوْتِ.
- 709 703 (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ آخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَتَيْنِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا لِيَحْيَى وَمَعْنٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَقُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ بِكْرٍ وَابْنُ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ: أَنَّ أَسْمَاءَ، وَعَلَى كُلٍّ هُوَ مُرْسَلٌ فَالْقَاسِمُ لَمْ يَلِقَ أَسْمَاءَ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ (وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ) بِالْمَدِّ بِطَرَفِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، (فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتُهِلَّ» ) تُحْرِمْ وَتُلَبِّي، فَفِيهِ صِحَّةُ إِحْرَامِ النُّفَسَاءِ وَمِثْلُهَا الْحَائِضُ وَأَوْلَى مِنْهُمَا الْجُنُبُ لِأَنَّهُمَا شَارَكَتَاهُ فِي شُمُولِ اسْمِ الْحَدَثِ، وَزَادَتَا عَلَيْهِ بِسَيَلَانِ الدَّمِ وَلِذَا صَحَّ صَوْمُهُ دُونَهُمَا، وَالِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ النُّفَسَاءَ إِذَا أُمِرَتْ بِهِ مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلطَّهَارَةِ كَالْحَائِضِ فَغَيْرُهُمَا أَوْلَى.
وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ إِذَا أَمَرَ الشَّارِعُ شَخْصًا أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِفِعْلٍ أَيَكُونُ أَمْرًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ أَمْ لَا؟ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، فَأَمْرُهُ لِأَبِي بَكْرٍ أَنْ يَأْمُرَهَا لَيْسَ أَمْرًا لَهَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ وَأَبُو بَكْرٍ مُبَلِّغٌ لِأَمْرِهِ، وَجُعِلَ أَمْرًا لِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" «نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِمُحَمَّدَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ» "، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ، وَفِيهِ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّ عَادَةَ الصَّحَابَةِ تَحَمُّلُ السُّنَنِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَاكْتِفَاؤُهُمْ بِذَلِكَ عَنْ سَمَاعِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ الْأَمْرُ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لَا يُرَخَّصُ فِي تَرْكِهَا إِلَّا لِعُذْرٍ، وَهُوَ آكَدُ اغْتِسَالَاتِ الْحَجِّ.
وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: أَنَّهُ آكَدُ مِنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَأَوْجَبَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَلَى مُرِيدِ الْإِحْرَامِ طَاهِرًا أَمْ لَا، وَفِيهِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ لَيْسَتَا شَرْطًا فِي الْحَجِّ لِأَنَّ أَسْمَاءَ لَمْ تُصَلِّهِمَا.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: " «أَنَّهُ خَرَجَ حَاجًّا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ فَوَلَدَتْ مُحَمَّدًا بِالشَّجَرَةِ، فَأَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ بِالْحَجِّ وَتَصْنَعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ» "، وَرَوَاهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَرَوِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلِهَذَا الِاخْتِلَافِ فِي إِسْنَادِهِ أَرْسَلَهُ مَالِكٌ فَكَثِيرًا مَا كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ انْتَهَى.
لَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ وَلَا فِي وَصْلِهِ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لِعُبَيْدِ اللَّهِ
فِيهِ إِسْنَادَيْنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَنَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَمُرْسَلَةٌ، إِذْ مُحَمَّدٌ لَمْ يَسْمَعْ أَبَاهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَمَرَهَا أَبُو بَكْرٍ أَنْ تَغْتَسِلَ ثُمَّ تُهِلَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
710 -
704 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) لَا يُنَافِيهِ الرِّوَايَتَانِ السَّابِقَتَانِ بِالشَّجَرَةِ وَبِالْبَيْدَاءِ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْبَيْدَاءُ بِطَرَفِهَا.
قَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِطَرَفِ الْبَيْدَاءِ لِتَبْعُدَ عَنِ النَّاسِ وَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَقِيقَةً وَهُنَاكَ بَاتَ وَأَحْرَمَ فَسَمَّى مَنْزِلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بَاسِمِ مَنْزِلِ إِمَامِهِمْ، قَالَ: وَالشَّجَرَةُ كَانَتْ سَمُرَةً، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُهَا مِنَ الْمَدِينَةِ وَيُحْرِمُ مِنْهَا، وَهِيَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ.
(فَأَمَرَهَا أَبُو بَكْرٍ أَنْ تَغْتَسِلَ ثُمَّ تُهِلَّ) بَعْدَ سُؤَالِهِ لِلْمُصْطَفَى وَأَمْرِهِ أَنْ يَأْمُرَهَا بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ، وَهَذَا وَقَفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَرَفَعَهُ الزُّهْرِيُّ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:" «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَكَانَتْ عَارِكًا - أَيْ نُفَسَاءَ - أَنْ تَغْتَسِلَ ثُمَّ تُهِلَّ بِالْحَجِّ» "، وَمَعْنَاهُ: أَمَرَهَا عَلَى لِسَانِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّشَبُّهِ مِنْ أَهْلِ التَّقْصِيرِ بِأَهْلِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِمْ طَمَعًا فِي دَرْكِ مَرَاتِبِهِمْ وَرَجَاءً لِمُشَارَكَتِهِمْ فِي نَيْلِ الْمَثُوبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اغْتِسَالَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَبْلَ أَوَانِ الطُّهْرِ لَا يُطَهِّرُهُمَا وَلَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ حُكْمِ الْحَدَثِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِفَضِيلَةِ الْمَكَانِ وَالْوَقْتِ، وَمِنْ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأَسْلَمِيِّينَ أَنْ يُمْسِكُوا بَقِيَّةَ نَهَارِ عَاشُورَاءٍ عَنِ الطَّعَامِ، وَكَذَا الْقَادِمُ فِي بَعْضِ نَهَارِ الصَّوْمِ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَعَادِمُ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْمَصْلُوبُ عَلَى خَشَبَةٍ وَالْمَحْبُوسُ فِي الْحُشِّ وَالْمَكَانِ الْقَذِرِ يُصَلُّونَ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ عِنْدَ بَعْضٍ، وَهَذَا بَابٌ غَرِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ.
قَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُ فِي اغْتِسَالِهِمَا التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكَمَالِ وَهُنَّ الطَّاهِرَاتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ لِشُمُولِ الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ الْغَسْلُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ التَّنْظِيفُ وَقَطْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ لِدَفْعِ أَذَاهَا عَنِ النَّاسِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ وَبِذَلِكَ عَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً أَوْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ كَمَا فِي الْأُمِّ، إِذْ لَا تَنْظِيفَ فِي التُّرَابِ لِأَنَّ التَّنْظِيفَ هُوَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ لِلْإِحْرَامِ، فَلَا يُنَافِي قِيَامُ التُّرَابِ مَقَامَهُ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ، فَأَوْلَى الْمَسْنُونُ وَبَعْدَ اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ قَدْ لَا تُوجَدُ عِلَّتُهُ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
711 -
705
- (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ)، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ:«حَتَّى إِذَا جَاءَ أَيِ ابْنُ عُمَرَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، (وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ) .
[بَاب غُسْلِ الْمُحْرِمِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ «يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ» وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ قَالَ فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقُلْتُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 -
بَابُ غُسْلِ الْمُحْرِمِ
712 -
706 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَى عُمَرَ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى، الْهَاشِمِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ أَبِي إِسْحَاقَ، مَاتَ بَعْدَ الْمِائَةِ، (عَنْ أَبِيهِ) مَوْلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَدَنِيِّ، مَاتَ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَدْخَلَ يَحْيَى بْنُ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمُ نَافِعًا وَهُوَ خَطَأٌ - لَا شَكَّ فِيهِ - مِمَّا يُحْفَظُ مِنْ خَطَأِ يَحْيَى وَغَلَطِهِ فِي الْمُوَطَّأِ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ مِنْ رُوَاتِهِ وَقَدْ طَرَحَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصَّوَابُ، (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَخِفَّةِ الْوَاوِ، (ابْنَ مَخْرَمَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، ابْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، (اخْتَلَفَا) وَهُمَا نَازِلَانِ (بِالْأَبْوَاءِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ، جَبَلٌ قُرْبَ مَكَّةَ وَعِنْدَهُ بَلْدَةٌ تُنْسَبُ إِلَيْهِ، قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوَبَائِهِ، وَهُوَ عَلَى الْقَلْبِ وَإِلَّا لَقِيلَ الْأَوْبَاءُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ السُّيُولَ تَتَبَوَّؤُهُ أَيْ تَحُلُّهُ.
(فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بْنُ عَبَّاسٍ (يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأَسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرَ بْنُ مَخْرَمَةَ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ)، قَالَ الْأَبِيُّ: الظَّنُّ بِهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُسْتَنَدٌ، قَالَ عِيَاضٌ: وَدَلَّ كَلَامُهُمَا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي تَحْرِيكِ الشَّعْرِ إِذْ لَا خِلَافَ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ، فَخَافَ الْمِسْوَرُ أَنْ يَكُونَ فِي تَحْرِيكِهِ بِالْيَدِ قَتْلُ بَعْضِ دَوَابٍّ أَوْ طَرْحُهَا، وَعَلِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ عِلْمُ ذَلِكَ.
(قَالَ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ (فَأَرْسَلَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ) خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ (الْأَنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ) بِفَتْحِ الْقَافِ تَثْنِيَةُ قَرْنٍ، وَهُمَا الْخَشَبَتَانِ الْقَائِمَتَانِ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَشِبْهُهُمَا مِنَ الْبِنَاءِ وَيُمَدُّ بَيْنَهُمَا خَشَبَةٌ يُجَرُّ عَلَيْهَا الْحَبْلُ الْمُسْتَقَى بِهِ وَيُعَلَّقُ عَلَيْهَا الْبَكَرَةُ، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: هُمَا مَنَارَتَانِ تُبْنَيَانِ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ مَدَرٍ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ مِنْ جَانِبَيْهَا فَإِنْ كَانَتَا مِنْ خَشَبٍ فَهُمَا نُوقَانِ، (وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ) فَفِيهِ التَّسَتُّرُ فِي الْغُسْلِ، (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ)، قَالَ عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: فِيهِ جَوَازُ السَّلَامِ عَلَى الْمُتَطَهِّرِ فِي حَالِ طَهَارَتِهِ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ عَلَى الْحَدَثِ، وَتَعَقَّبَهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ رَدَّ عليه السلام بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدْ لِقَوْلِهِ:(فَقَالَ: مَنْ هَذَا) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ سَلَامِهِ وَبَيْنَهَا بِشَيْءٍ فَيَدُلُّ عَلَى عَكْسِ مَا اسْتُدِلَّ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَدَّ السَّلَامَ وَتَرْكَ ذِكْرَهُ لِوُضُوحِهِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ وُقُوعِهِ، وَأَمَّا الْفَاءُ فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63](سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: الْآيَةُ 63) أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ، فَالِانْفِلَاقُ مُعْقِبٌ لِلضَّرْبِ لَا لِلْأَمْرِ بِالضَّرْبِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْمُسِيءِ صِلَاتَهُ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ، قُلْتُ: لَمَّا لَمْ يُصَرِّحُ بِذِكْرِ رَدِّ السَّلَامِ احْتُمِلَ الرَّدُّ وَعَدَمُهُ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ لِلْجَانِبَيْنِ، انْتَهَى وَفِيهِ وَقْفَةٌ.
(فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ)، وَفِي رِوَايَةٍ: يَسْأَلُكَ (كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمُ غَسْلِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنْبَأَهُ أَبُو أَيُّوبَ أَوْ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنِ الصَّحَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ؟ وَلَمْ يَقُلْ: هَلْ كَانَ يَغْسِلُ؟ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَصْلِ الْغَسْلِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَصْلِهِ، وَأَنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ كَانَ عِنْدَهُ مُتَقَرِّرُ الْجَوَازِ إِذْ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ غَسْلِ الرَّأْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ، إِذِ الشَّعَرُ عَلَيْهِ وَتَحْرِيكُ الْيَدِ يُخَافُ مِنْهُ نَتْفُ الشَّعَرِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا وَقَعَ فِي غَسْلِ الرَّأْسِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ: لَمْ يَقُلْ: هَلْ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ لِيُوَافِقَ اخْتِلَافَهُمَا بَلْ سَأَلَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ يَغْتَسِلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابَ، ثُمَّ أَحَبَّ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَّا بِفَائِدَةٍ أُخْرَى فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ.
(قَالَ: فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ) أَيْ خَفَضَ الثَّوْبَ وَأَزَالَهُ عَنْ رَأْسِهِ، (حَتَّى بَدَا) بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ ظَهَرَ (لِي رَأْسُهُ
ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ) لَمْ يُسَمَّ، (يَصُبُّ عَلَيْهِ)، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَضَّاحٍ: الْمَاءَ، (اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَرَّكَ) أَبُو أَيُّوبَ (رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ) بِالتَّثْنِيَةِ، (فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ) فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى نَتْفِ الشَّعْرِ، وَالْبَيَانُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ.
(ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ)، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: فَأَمَرَّ أَبُو أَيُّوبَ بِيَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ جَمِيعًا عَلَى جَمِيعِ رَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ.
وَزَادَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا فَأَخْبَرْتُهُمَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أُمَارِيكَ أَبَدًا أَيْ لَا أُجَادِلُكَ، وَفِيهِ رُجُوعُ الْمُخْتَلِفَيْنِ إِلَى مَنْ يَظُنَّانِ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمَ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ ابْنَ حُنَيْنٍ لِيَسْأَلَ أَبَا أَيُّوبَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ قَبُولُ خَبَرِ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَبُولُ خَبَرِ ابْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى النَّصِّ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَتَرْكُ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَ النَّصِّ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا حُجَّةٌ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَأَنَّ حَدِيثَ:" أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " مَحَلُّهُ فِي النَّقْلِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَهْلُ النَّظَرِ كَالْمُزْنِيِّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ عَدْلٌ رَضِيٌّ لَا فِي الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ وَإِلَّا لَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلْمَسْوَرِ: أَنْتَ نَجْمٌ وَأَنَا نَجْمٌ فَبِأَيِّنَا اقْتُدِيَ اهْتُدِيَ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى طَلَبِ الْبُرْهَانِ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ إِذَا اخْتَلَفُوا، وَفِيهِ الِاسْتِعَانَةُ فِي الطِّهَارَةِ لِقَوْلِهِ اصْبُبْ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَوْلَى تَرْكُهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَرَدَ فِي الِاسْتِعَانَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، وَفِي تَرْكِهَا شَيْءٌ لَا يُقَابِلُهَا فِي الصِّحَّةِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِيَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ وَهُوَ يَصُبُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَاءً وَهُوَ يَغْتَسِلُ اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي فَقَالَ يَعْلَى أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِي إِنْ أَمَرْتَنِي صَبَبْتُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اصْبُبْ فَلَنْ يَزِيدَهُ الْمَاءُ إِلَّا شَعَثًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
713 -
707 - (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ) الْمَكِّيِّ، (عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَسْلَمَ الْقُرَشِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَكِّيِّ، فَقِيهٌ ثِقَةٌ فَاضِلٌ لَكِنَّهُ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.
(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ هَمَّامٍ التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ قُرَيْشٍ صَحَابِيٌّ، مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ، (وَهُوَ يَصُبُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَاءً وَهُوَ يَغْتَسِلُ) وَهُوَ مُحْرِمٌ
(اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي، فَقَالَ يَعْلَى: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِي)، قَالَ الْبَوْنِيُّ: أَيْ تَجْعَلَنِي أُفْتِيكَ وَتُنَحِّي الْفُتْيَا عَنْ نَفْسِكَ إِنْ كَانَ فِي هَذَا شَيْءٌ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: مَعْنَاهُ إِنَّمَا أَفْعَلُهُ طَوْعًا لَكَ لِفَضْلِكَ وَأَمَانَتِكَ وَلَا أَرَى لِي فِيهِ انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَيِ الْفِدْيَةَ إِنْ مَاتَ شَيْءٌ مِنْ دَوَابِّ رَأْسِكَ أَوْ زَالَ شَيْءٌ مِنَ الشَّعَرِ لَزِمَتْنِي الْفِدْيَةُ فَإِنْ أَمَرْتَنِي كَانَتْ عَلَيْكَ، (إِنْ أَمَرْتَنِي صَبَبْتُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اصْبُبْ فَلَنْ يَزِيدَهُ الْمَاءُ إِلَّا شَعَثًا) لِأَنَّ الْمَاءَ يُلَبِّدُ الشَّعَرَ وَيَدْخُلُهُ مَعَ ذَلِكَ الْغُبَارُ، فَأَخْبَرَهُ عُمَرُ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى الْفَاعِلِ وَلَا عَلَى الْآمِرِ بِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غُسْلَهُ لَمْ يَكُنْ لِجَنَابَةٍ، إِذِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا كَانَ جُنُبًا أَوِ الْمَرْأَةَ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ وَطَهُرَتْ يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي غُسْلِ الْمُحْرِمِ تَبَرُّدًا أَوْ غَسْلِ رَأْسِهِ فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ بِلَا كَرَاهَةٍ كَمَا قَالَ عُمَرُ: لَا يَزِيدُهُ الْمَاءُ إِلَّا شَعَثًا.
قَالَ عِيَاضٌ: وَتُئُوِّلَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ وَتُئُوِّلَ عَلَيْهِ الْكَرَاهَةُ أَيْضًا وَقَدْ كَرِهَ غَمْرَ الْمُحْرِمِ رَأَسَهُ فِي الْمَاءِ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ بِأَنَّهُ فِي تَحْرِيكِ يَدِهِ عَلَيْهِ فِي غَسْلِهِ أَوْ فِي غَمْسِهِ قَدْ يَقْتُلُ بَعْضَ الدَّوَابِّ أَوْ يُسْقِطُ بَعْضَ الشَّعَرِ، وَقِيلَ: لَعَلَّهُ رَآهُ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَكَرِهَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ غَسْلَ الرَّأْسِ بِالْخَطْمِيِّ وَالسِّدْرِ، وَأَوْجَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ الْفِدْيَةَ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا كَانَ مُلَبَّدًا انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَنْتِفِ الشَّعَرَ.
وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بَاتَ بِذِي طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ وَلَا يَدْخُلُ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا حَتَّى يَغْتَسِلَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بِذِي طُوًى وَيَأْمُرُ مَنْ مَعَهُ فَيَغْتَسِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
714 -
708 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَنَا) قَرُبَ (مِنْ مَكَّةَ بَاتَ بِذِي طَوًى) مُثَلَّثُ الطَّاءِ وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ، مَقْصُورٌ، مُنَوَّنٌ وَقَدْ لَا يُنَوَّنُ، وَادٍ بِقُرْبِ مَكَّةَ يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِبِئْرِ الزَّاهِدِ (بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ حَتَّى يُصْبِحَ) أَيْ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّبَاحِ (ثُمَّ يُصَلِّي الصُّبْحَ)، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ: فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا أَيِ الْمَذْكُورَ مِنَ الْبَيَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ.
(ثُمَّ يَدْخُلُ) مَكَّةَ (مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ) الَّتِي يُنْزَلُ مِنْهَا إِلَى الْمُعَلَّى وَمَقَابِرِ مَكَّةَ بِجَنْبِ الْمُحَصَّبِ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الْحَجُونُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ، وَكَانَتْ صَعْبَةَ الْمُرْتَقَى فَسَهَّلَهَا مُعَاوِيَةُ ثُمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ ثُمَّ الْمَهْدِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَزْرَقَيُّ، ثُمَّ سُهِّلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَمَانِمِائَةٍ مَوْضِعٌ ثُمَّ سُهِّلَتْ
كُلُّهَا فِي زَمَنِ سُلْطَانِ مِصْرَ الْمَلِكِ الْمُؤَيَّدِ فِي حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَكُلُّ عَقَبَةٍ فِي جَبَلٍ أَوْ طَرِيقٍ تُسَمَّى ثَنِيَّةً بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالنُّونِ وَالتَّحْتِيَّةِ الثَّقِيلَةِ كَمَا فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ، وَابْنُ عُمَرَ اقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِالْمُصْطَفَى.
فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْنٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى» "، قَالَ الْحَافِظُ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَا رَأَيْتُهُ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، وَقَدْ عَزَّ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ اسْتِخْرَاجُهُ فَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ نَاجِيَةَ عَنِ الْبُخَارِيِّ مِثْلَهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخْلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى» "، وَكَدَاءٌ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مَمْدُودٌ مُنَوَّنٌ، وَقِيلَ: لَا يُصْرَفُ عَلَى إِرَادَةِ الْبُقْعَةِ لِلْعَلَمَيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، (وَلَا يَدْخُلُ) مَكَّةَ ( «إِذَا خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا حَتَّى يَغْتَسِلَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بِذِي طُوًى» ) اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَانَ مِنْ أتْبَعِ النَّاسِ لَهُ، (وَيَأْمُرُ مَنْ مَعَهُ فَيَغْتَسِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا) تَحْصِيلًا لِلْمُسْتَحَبِّ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لِغَيْرِ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ لِأَنَّهُ لِلطَّوَافِ، وَهُمَا لَا يَدْخُلَانِ الْمَسْجِدَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «وَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» "، وَيَغْتَسِلَانِ لِلْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَّا مِنْ الْاحْتِلَامِ قَالَ مَالِكٌ سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ لَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْغَسُولِ بَعْدَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ قَتْلُ الْقَمْلِ وَحَلْقُ الشَّعْرِ وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ وَلُبْسُ الثِّيَاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
715 -
709 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ «كَانَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَّا مِنَ الِاحْتِلَامِ» ) ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ غُسْلَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَانَ لِجَسَدِهِ دُونَ رَأْسِهِ قَالَهُ الْحَافِظُ.
(قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْغَسُولِ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ صَبُورٍ، وَهُوَ كَالْغِسْلِ بِالْكَسْرِ مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ سِدْرِ وَخَطْمِيٍّ وَنَحْوِهِمَا، (بَعْدَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) يَوْمَ النَّحْرِ (فَقَدْ حَلَّ لَهُ قَتْلُ الْقَمْلِ وَحَلْقُ الشَّعْرِ وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ) بِفَوْقِيَّةٍ فَفَاءٍ فَمُثَلَّثَةٍ الْوَسَخِ، (وَلُبْسُ الثِّيَابِ)
وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ سِوَى النِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَكُرِهَ الطِّيبُ حَتَّى يَطُوفَ لِلْإِفَاضَةِ فَيَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
[بَاب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»
قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا ذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ فَقَالَ لَمْ أَسْمَعْ بِهَذَا وَلَا أَرَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ سَرَاوِيلَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ السَّرَاوِيلَاتِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَهَا وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا كَمَا اسْتَثْنَى فِي الْخُفَّيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3 -
بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْإِحْرَامُ الدُّخُولُ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَالتَّشَاغُلُ بِأَعْمَالِهِمَا، وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَسْتَشْكِلُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الْإِحْرَامِ وَيَبْحَثُ فِيهِ كَثِيرًا، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ النِّيَّةُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْحَجِّ الَّذِي الْإِحْرَامُ رُكْنُهُ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، وَيَعْتَرِضُ عَلَى أَنَّهُ التَّلْبِيَةُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ وَالْإِحْرَامُ هُنَا رُكْنٌ، وَكَانَ يُحْرِمُ عَلَى تَعْيِينِ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ النِّيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ انْتَهَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُحْرِمَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَحْرَمَ بِمَعْنَى دَخَلَ فِي الْحُرْمَةِ أَيْ أَدْخَلَ نَفْسَهُ وَصَيَّرَهَا مُتَلَبِّسَةً بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةُ أَوْ هُمَا مَعًا، فَحَرُمَ عَلَيْهِ الْأَنْوَاعُ السَّبْعَةُ: لُبْسُ الْمَخِيطِ، وَالطِّيبُ، وَدَهْنُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَإِزَالَةُ الشَّعَرِ وَالظُّفُرِ، وَالْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَالصَّيْدُ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ النِّيَّةَ مُغَايِرَةٌ لَهُ لِشُمُولِهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ لِأَنَّهَا قَصْدُ فِعْلِ الشَّيْءِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ، فَأَرْكَانُ الْحَجِّ مَثَلًا: الْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالْوُقُوفُ وَالسَّعْيُ، وَالنِّيَّةُ: فِعْلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَكَانَ الَّذِي كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ.
716 -
710 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا)، قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، (سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟) وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ: " مَا نَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ إِذَا أَحْرَمْنَا؟ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ.
وَحَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَاللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْهُمَا، نَعَمْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَشَارَ نَافِعٌ إِلَى مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَظَهَرَ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بِذَلِكَ فِي عَرَفَاتٍ» فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ابْتَدَأَ بِهِ فِي الْخُطْبَةِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَجَابَ بِهِ السَّائِلَ ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ» ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالْمِيمِ جَمْعُ قَمِيصٍ، وَفِي رِوَايَةِ
التِّنِّيسِيِّ: لَا يَلْبَسُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْأَشْهَرِ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ إِذْ هُوَ جَوَابُ السُّؤَالِ أَوْ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ وَبِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ وَكُسِرَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
(وَلَا الْعَمَائِمَ) جَمْعُ عِمَامَةٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعُمُّ جَمِيعَ الرَّأْسِ، (وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ) جَمْعُ سِرْوَالٍ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالسَّرَاوِينُ بِالنُّونِ لُغَةٌ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ لُغَةٌ أَيْضًا.
(وَلَا الْبَرَانِسَ) جَمْعُ بُرْنُسٍ بِضَمِّ النُّونِ، قَالَ الْمَجْدُ: قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ أَوْ كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ، دُرَّاعَةٌ كَانَ أَوْ جُبَّةٌ.
(وَلَا الْخِفَافَ) بِكَسْرِ الْخَاءِ، جَمْعُ خُفٍّ، فَنَبَّهَ بِالْقَمِيصِ عَلَى كُلِّ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَخِيطُ، وَالْمَخِيطُ الْمَعْمُولُ عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ، وَبِالسَّرَاوِيلِ عَلَى الْمَخِيطِ الْمَعْمُولِ عَلَى قَدْرِ عُضْوٍ مِنْهُ كَالتُّبَّانِ وَالْقُفَّازِ وَغَيْرِهِمَا، وَبِالْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ عَلَى كُلِّ مَا يُغَطِّي الرَّأْسَ مَخِيطًا أَوْ غَيْرَهُ، وَبِالْخِفَافِ عَلَى كُلِّ مَا يَسْتُرُ الرِّجْلَ مِنْ مَدَاسٍ وَجَوْرَبٍ وَغَيْرِهِمَا.
وَالْمُرَادُ بِتَحْرِيمِ الْمَخِيطِ مَا يُلْبَسُ عَلَى الْوَضْعِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ، فَلَوِ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ مَثَلًا فَلَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَكَرَ الْعِمَامَةَ وَالْبُرْنُسَ مَعًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ لَا بِالْمُعْتَادِ وَلَا بِالنَّادِرِ وَمِنْهُ الْمِكْتَلُ يَحْمِلُهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ الْحَافِظُ: إِنْ أَرَادَ لَبِسَهُ كَالْقُبَّعِ صَحَّ مَا قَالَ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ وَضْعِهِ عَلَى رَأْسِهِ عَلَى هَيْئَةِ الْحَامِلِ لَهُ لَا يَضُرُّ فِي مَذْهَبِهِ كَالِانْغِمَاسِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى لَابِسًا، وَكَذَا سَتْرُ الرَّأْسِ بِالْيَدِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى اخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِالرَّجُلِ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ لُبْسُ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
فَإِنْ قِيلَ: السُّؤَالُ وَقَعَ عَمَّا يَجُوزُ لُبْسُهُ وَالْجَوَابُ وَقَعَ عَمَّا لَا يَجُوزُ فَمَا حِكْمَتُهُ؟ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: بِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ وَجَزْلِهِ لِأَنَّ مَا لَا يُلْبَسُ مُنْحَصِرٌ فَصَرَّحَ بِهِ، وَأَمَّا الْجَائِزُ فَغَيْرُ مُنْحَصِرٍ فَقَالَ: لَا يُلْبَسُ كَذَا أَيْ يُلْبَسُ مَا سِوَاهُ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَجَابَ بِمَا لَا يُلْبَسُ لِيَدُلَّ بِالِالْتِزَامِ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ أَحْصَرُ وَأَخْصَرُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ السُّؤَالِ أَنْ يَكُونَ عَمَّا لَا يُلْبَسُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْعَارِضَ فِي الْإِحْرَامِ الْمُحْتَاجَ لِبَيَانِهِ، إِذِ الْجَوَازُ ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ الْمَعْلُومِ بِالِاسْتِصْحَابِ فَكَانَ اللَّائِقُ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يُلْبَسُ، قَالَ: وَهَذَا يُشْبِهُ أُسْلُوبَ الْحَكِيمِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 215) الْآيَةَ، فَعَدَلَ عَنْ جِنْسِ الْمُنْفَقِ وَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ إِلَى جِنْسِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجَوَابِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَيْفَ كَانَ وَلَوْ بِتَغْيِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ وَلَا تُشْتَرَطُ الْمُطَابَقَةُ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْ نَافِعٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عُوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: " «مَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ» وَهِيَ شَاذَّةٌ وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ لَا عَلَى نَافِعٍ.
وَرَوَاهُ سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ» ؟ "، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو عُوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ نَافِعٍ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ مَرَّةً مَا يَتْرُكُ وَمَرَّةً مَا يَلْبَسُ، وَأَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ نَافِعٍ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى فَاسْتَقَامَتْ رِوَايَةُ نَافِعٍ لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَاتَّجَهَ الْبَحْثُ الْمُتَقَدِّمُ وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِمَا يَحْصُرُ أَنْوَاعَ مَا يُلْبَسُ كَأَنْ يُقَالَ مَا لَيْسَ بِمَخِيطٍ، وَلَا عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ كَالْقَمِيصِ أَوْ بَعْضِهِ كَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ وَلَا يَسْتُرُ الرَّأْسَ أَصْلًا وَلَا يُلْبَسُ مَا مَسُّهُ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ (إِلَّا أَحَدًا) بِالنَّصْبِ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بَعْدَ النَّفْيِ وَشِبْهِهِ (لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ) زَادَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ زِيَادَةً حَسَنَةً تُفِيدُ ارْتِبَاطَ ذِكْرِ النَّعْلَيْنِ بِمَا سَبَقَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ (فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ) ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ لَكِنَّهُ لَمَّا شُرِعَ لِلتَّسْهِيلِ لَمْ يُنَاسِبِ التَّثْقِيلَ وَإِنَّمَا هُوَ لِلرُّخْصَةِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ أَحَدٍ فِي الْإِثْبَاتِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
وَقَدْ ظَهَرْتَ فَلَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ
…
إِلَّا عَلَى أَحَدٍ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا
قَالَ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ إِلَّا أَنْ يَعْقُبَهُ النَّفْيُ وَكَانَ الْإِثْبَاتُ حِينَئِذٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَنَظِيرُ هَذَا زِيَادَةُ الْبَاءِ فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ فِي النَّفْيِ، وَقَدْ زِيدَتْ فِي الْإِثْبَاتِ الَّذِي هُوَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33](سُورَةُ الْأَحْقَافِ: الْآيَةُ 33) ، ( «وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» ) وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَفِيهِ أَنَّ وَاجِدَ النَّعْلَيْنِ لَا يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ صَارَا كَالنَّعْلَيْنِ جَازَ وَإِلَّا فَمَتَى سَتَرَا مِنْ ظَاهِرِ الرِّجْلِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا لِلْفَاقِدِ، وَهُوَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ لِفَقْدِهِ أَوْ تَرْكِ بَذْلِ الْمَالِكِ لَهُ أَوْ عَجْزِهِ عَنِ الثَّمَنِ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ، أَوْ عَنِ الْأُجْرَةِ وَلَوْ بِيعَ بِغَبْنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِلَّا إِنْ أُعِيرَ لَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ لَبِسَهُمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ كَمَا إِذَا احْتَاجَ لِحَلْقِ رَأْسِهِ يَحْلِقُ وَيَفْتَدِي، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ، وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَتْ فَدِيَةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْقَطْعِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهَا تَجِبُ إِذَا لَبِسَهُمَا بِلَا قَطْعٍ فَإِنْ لَبِسَهُمَا مَعَ وُجُودِ نَعْلَيْنِ افْتَدَى عِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا فِدْيَةَ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّ قَطْعَهُمَا شَرْطٌ فِي جَوَازِ لُبْسِهِمَا خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ فِي إِجَازَةِ لُبْسِهِمَا بِلَا قَطْعٍ لِإِطْلَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ:" «وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» "، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُوَافِقُ عَلَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيِّدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَيْهِ جَيِّدٌ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ زِيَادَةٌ
عَلَى الصُّوَرِ الْمُطْلَقَةِ، فَلَوْ عَمِلَ بِالْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَلْغَى الْأَمْرَ وَذَلِكَ لَا يَسُوغُ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ نَسْخَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَيْنِ -: انْظُرُوا أَيُّهُمَا قَبْلُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ قَالَ: حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ قَبْلُ لِأَنَّهُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَرَفَاتٍ.
وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا فِي الْأُمِّ فَقَالَ: كِلَاهُمَا صَادِقٌ حَافِظٌ، وَزِيَادَةُ ابْنِ عُمَرَ لَا تُخَالِفُ ابْنَ عَبَّاسٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَزَبَتْ عَنْهُ أَوْ شَكَّ أَوْ قَالَهَا فَلَمْ يَنْقُلْهَا عَنْهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافَقَتَهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:" «وَإِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلِيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» " وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَبَعْضُهُمْ سَلَكَ التَّرْجِيحَ فَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي رَفْعِهِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ مَرْدُودٌ فَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ، عَلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ جَاءَ بِإِسْنَادٍ وُصِفَ بِأَنَّهُ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ نَافِعٌ وَسَالِمٌ، بِخِلَافِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَأْتِ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُ حَتَّى قَالَ الْأَصِيلِيُّ: إِنَّهُ شَيْخٌ بَصْرِيٌّ لَا يُعْرَفُ مَعَ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ مَوْصُوفٌ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَلَّ بِقَوْلِ عَطَاءٍ: الْقَطْعُ فَسَادٌ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ لَا فِيمَا أَذِنَ فِيهِ، وَحَمْلُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْأَمْرَ بِالْقَطْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا عَلَى الِاشْتِرَاطِ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ لَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، (وَلَا تَلْبَسُوا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ (مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ) بِالتَّعْرِيفِ، وَلِيَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ " زَعْفَرَانٌ " بِالتَّنْكِيرِ مُنَوَّنٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَلِفٌ وَنُونٌ فَقَطْ، وَهُوَ لَا يُمْنَعُ الصَّرْفَ.
(وَلَا الْوَرْسُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، نَبْتٌ أَصْفَرُ طَيِّبُ الرِّيحِ يُصْبَغُ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ الْوَرْسُ بِطِيبٍ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى اجْتِنَابِ الطِّيبِ وَمَا يُشْبِهُهُ فِي مُلَايَمَةِ الشَّمِّ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَنْوَاعِ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّطَيُّبُ، وَهَذَا الْحُكْمُ شَامِلٌ لِلنِّسَاءِ، قِيلَ: فَعَدَلَ عَمَّا تَقَدَّمَ إِشَارَةً إِلَى اشْتِرَاكِهِمَا وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ نُكْتَةَ الْعُدُولِ أَنَّ الَّذِي يُخَالِطُهُ الزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ أَوْ لَا يَلْبَسُهُ قَالَهُ الْحَافِظُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ النُّكْتَتَيْنِ.
وَقَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: نَبَّهَ بِهِمَا عَلَى مَا هُوَ أَطْيَبُ رَائِحَةً مِنْهُمَا كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِذَا حَرُمَ فِي الثَّوْبِ فَفِي الْبَدَنِ أَوْلَى، وَفِي مَعْنَاهُ تَحْرِيمُهُ فِي الْمَأْكُولِ لِأَنَّ النَّاسَ يَقْصِدُونَ تَطْيِيبَ طَعَامِهِمْ كَمَا يَقْصِدُونَ تَطْيِيبَ لِبَاسِهِمْ، وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا فِيمَا
يُقْصَدُ لِلتَّطَيُّبِ بِهِ، أَمَّا الْفَوَاكِهُ كَالْأُتْرُجِّ وَالتُّفَّاحِ وَأَزْهَارِ الْبَرِّ كَالشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَنَحْوِهِمَا فَلَيْسَ بِحَرَامٍ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ لِلتَّطَيُّبِ انْتَهَى.
لَكِنْ فِي حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ فِي الْمَأْكُولِ الْمُطَيَّبِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِيهِ خِلَافًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَحْرُمُ لِأَنَّ الْوَارِدَ اللُّبْسُ وَالتَّطَيُّبُ وَالْأَكْلُ لَا يُعَدُّ تَطَيُّبًا.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ وَلِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْحَجِّ، فَإِنَّ الْحَاجَّ أَغْبَرُ، وَالْقَصْدُ عَنْ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ التَّرَفُّهِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا وَيَنْجَمِعَ هَمُّهُ لِمَقَاصِدِ الْآخِرَةِ وَالِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الْخَاشِعِ، وَلِيَتَذَكَّرَ الْقُدُومَ عَلَى رَبِّهِ فَيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِيَتَذَكَّرَ بِهِ الْمَوْتَ وَلُبْسَ الْأَكْفَانِ، وَيَتَذَكَّرَ الْبَعْثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً وَلِيَتَفَاءَلَ بِتَجَرُّدِهِ عَنْ ذُنُوبِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ، السِّتَّةُ عَنْ مَالِكٍ وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَهُمْ.
(قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا ذُكِرَ) فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ) مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، ( «وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ» ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَا يَجِدُ الْإِزَارَ وَالْخُفُّ لِمَنْ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ» "، (فَقَالَ لَمْ أَسْمَعْ بِهَذَا وَلَا أَرَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ سَرَاوِيلَ) عَلَى صِفَةِ لُبْسِهَا بِلَا فَتْقٍ (لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى) فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (عَنْ لُبْسِ السَّرَاوِيلَاتِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ مَنْ لُبِسَ الثِّيَابِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي) لَا يَجُوزُ (لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَهَا وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا كَمَا اسْتَثْنَى فِي الْخُفَّيْنِ) فَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ عَلَى مَا إِذَا فَتَقَهُ وَجَعَلَ مِنْهُ شِبْهَ إِزَارٍ فَيَجُوزُ كَمَا جَازَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ أَوْ عَلَى حَالِهِ لِضَرُورَةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَلَكِنْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ فَيُغَطِّيهَا وَيَفْتَدِي جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَشَارَ إِلَيْهِمَا عِيَاضٌ، وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: الْأَصْلُ أَنَّ تَضْيِيعَ الْمَالِ حَرَامٌ، وَالرُّخْصَةُ جَاءَتْ فِي اللُّبْسِ، فَظَاهِرُهَا إِبَاحَةُ اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ إِبَاحَةً لَا تَقْتَضِي غَرَامَةً، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ، فَإِذَا فَتَقَ السِّرْوَالَ وَاتَّزَرَ بِهِ لَمْ يَسْتُرْهَا وَالْخُفُّ لَا يُغَطِّي عَوْرَةً إِنَّمَا هُوَ لِبَاسُ رِفْقٍ وَزِينَةٍ فَلَا يَشْتَبِهَانِ فِيهِ نَظَرٌ، فَالْمَانِعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي قَالَ بِهِ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْهَا، وَزَعْمُهُ أَنَّهَا لَا تَسْتُرُ الْعَوْرَةَ إِنْ فُتِقَتْ وَاتَّزَرَ بِهَا مُكَابَرَةٌ، وَالْغَرَامَةُ لِلْمُحْرِمِ بِالْفِدْيَةِ مَعْهُودَةٌ
كَثِيرًا وَتَخْيِيرُهُ بَيْنَ الْفَتْقِ وَالِاتِّزَارِ وَبَيْنَ لُبْسِهَا كَمَا هِيَ وَالْفِدْيَةِ تَنْفِي ضَرَرَهُ.
[بَاب لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ فِي الْإِحْرَامِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4 -
بَابُ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصَبَّغَةِ فِي الْإِحْرَامِ
717 -
711 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ) مَوْلَاهُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهْيَ تَحْرِيمٍ (أَنْ يَلْبَسَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ (الْمُحْرِمُ) رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً (ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ) نَبْتٌ أَصْفَرُ مِثْلُ نَبَاتِ السِّمْسِمِ طَيِّبُ الرِّيحِ يُصْبَغُ بِهِ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ أَشْهَرُ طِيبٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ) حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَغُلُوِّهِ فَاحِشًا (فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ) بِالتَّنْكِيرِ وَلِيَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ الْخُفَّيْنِ (وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ) أَيْ إِنَّ قَطْعَهُمَا شَرْطٌ فِي جَوَازِ لُبْسِهِمَا خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَلَا فِدْيَةَ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: إِذَا اضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إِلَى الْخُفَّيْنِ خَرَقَ ظُهُورَهُمَا وَتَرَكَ فِيهِمَا قَدْرَ مَا يَسْتَمْسِكُ رَجْلَاهُ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ قَدَمٍ كَعْبَيْنِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا الْعَظْمُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لُغَةً وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ، لَكِنْ قَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْإِحَاطَةِ عَلَى الْقَدَمِ، وَلَا يَحْتَاجُ الْقَوْلُ بِهِ إِلَى مُخَالَفَةِ اللُّغَةِ، بَلْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ:" «فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» "، فَقَوْلُهُ " مَا أَسْفَلَ " بَدَلٌ مِنْ " الْخُفَّيْنِ " فَيَكُونُ اللُّبْسُ لَهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَالْقَطْعُ مِنْهُمَا فَمَا فَوْقُ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ (وَلِيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ) مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْرِ الْقَطْعِ عَلَى مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ، بَلْ يُرَادُ مَعَ الْأَسْفَلِ مَا يُخْرِجُ الْقَدَمَ عَنْ كَوْنِهِ مَسْتُورًا بِإِحَاطَةِ الْخُفِّ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى مُخَالَفَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ انْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي اللِّبَاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ هُنَا عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ عُمَرُ مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ فَقَالَ طَلْحَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمْ النَّاسُ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الْإِحْرَامِ فَلَا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
718 -
712 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) حَبَشِيٌّ مِنَ الثِّقَاتِ
الْمُخَضْرَمِينَ عَاشَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةِ سَنَةً، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَيُقَالُ: بَعْدَ سَنَةِ سِتِّينَ، (يُحَدِّثُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) التَّيْمِيِّ أَحَدِ الْعَشَرَةِ (ثَوْبًا مَصْبُوغًا) بِغَيْرِ زَعْفَرَانٍ وَوَرْسٍ (وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ) بِمِيمٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ مَغْرَةٌ، (فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي) يَأْتَمُّ (بِكُمُ النَّاسُ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ: إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ) فَإِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ جَاهِلٌ فَيَظُنُّ جَوَازَ لُبْسِ الْمُورَّسِ وَالْمُزَعْفَرِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْعُصْفُرَ طِيبٌ وَفِيهِ الْفِدْيَةُ قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ أَجَازَ الْجُمْهُورُ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ لِلْمُحْرِمِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَاتِ الْمُشَبَّعَاتِ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ لَيْسَ فِيهَا زَعْفَرَانٌ
قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ثَوْبٍ مَسَّهُ طِيبٌ ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ هَلْ يُحْرِمُ فِيهِ فَقَالَ نَعَمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ صِبَاغٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
719 -
713 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ) أُمِّهِ (أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَاتِ الْمُشَبَّعَاتِ) الَّتِي لَا يُنْفَضُ صَبْغُهَا كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، فَإِذَا نُفِضَ كُرِهَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ مَا يُنْفَضُ مِنْهُ يُشْبِهُ الطِّيبَ (وَهِيَ مُحْرِمَةٌ لَيْسَ فِيهَا زَعْفَرَانٌ) وَكَذَا جَاءَ عَنْ أُخْتِهَا.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: " كَانَتْ عَائِشَةُ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ " إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
(سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ثَوْبٍ مَسَّهُ طِيبٌ ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ هَلْ يُحْرَمُ فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ صِبَاغُ زَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ) فَيَحْرُمُ وَلَوْ ذَهَبَ رِيحُهُ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ» "، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ إِذَا صَارَ بِحَيْثُ لَوْ بُلَّ لَمْ تَفُحْ مِنْهُ رَائِحَةٌ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الثِّيَابِ إِلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ الْجِلْدَ بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ تُلَطِّخُ، وَأَمَّا الْمَغْسُولُ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ أَيْضًا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِذَا أَذْهَبَ الْغَسْلُ الرَّائِحَةَ جَازَ لِمَا رَوَاهُ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْمِيمِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ قَالَ فِيهِ: " «وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا» "، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الْحِمَّانِيَّ ضَعِيفٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَإِنْ كَانَ مُتْقِنًا لَكِنْ فِي حَدِيثِهِ عَنْ غَيْرِ الْأَعْمَشِ مَقَالٌ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَبُو مُعَاوِيَةَ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ فِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَجِئْ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ غَيْرُهُ، وَتَابَعَ الْحِمَّانِيَّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ الْأَزْدِيُّ، وَفِيهِ مَقَالٌ.
[بَاب لُبْسِ الْمُحْرِمِ الْمِنْطَقَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ لُبْسَ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5 -
بَابُ لُبْسِ الْمُحْرِمِ الْمِنْطَقَةَ
720 -
714 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ لُبْسَ الْمِنْطَقَةِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، مَا يُشَدُّ بِهِ الْوَسَطُ، وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ الْحِيَاصَةَ، (لِلْمُحْرِمِ) وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَوَازُ فَكَأَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْكَرَاهَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ فِي الْمِنْطَقَةِ يَلْبَسُهَا الْمُحْرِمُ تَحْتَ ثِيَابِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا جَعَلَ طَرَفَيْهَا جَمِيعًا سُيُورًا يَعْقِدُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
721 -
715 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ فِي الْمِنْطَقَةِ يَلْبَسُهَا الْمُحْرِمُ تَحْتَ ثِيَابِهِ إِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، (لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أَيْ يَجُوزُ (إِذَا جَعَلَ طَرَفَيْهَا جَمِيعًا سُيُورًا) جَمْعُ سَيْرٍ مِنَ الْجُلُودِ، (يَعْقِدُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) أَيْ يُدْخِلُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَأَجَازُوا عَقْدَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِدْخَالُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ وَلَمْ يُنْقَلْ كَرَاهَتُهُ إِلَّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْهُ جَوَازُهُ، وَمَنَعَ إِسْحَاقُ عَقْدَهُ وَكَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ.
[بَاب تَخْمِيرِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي الْفُرَافِصَةُ بْنُ عُمَيْرٍ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِالْعَرْجِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
6 -
بَابُ تَخْمِيرِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ تَغْطِيَتُهُ.
722 -
716 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) بْنِ الصِّدِّيقِ (أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْفُرَافِصَةُ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ فَأَلِفٌ فَفَاءٌ فَصَادٌ مُهْمَلَةٌ (ابْنُ عُمَيْرٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (الْحَنَفِيُّ) الْيَمَانِيُّ الْمَدَنِيُّ، رَوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرِ، وَعَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاسِمُ وَيَحْيَى أَيْضًا الرَّاوِي عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ، (أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِالْعَرْجِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالْجِيمِ، قَرْيَةٌ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، (يُغَطِّي وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ)، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ أُرْجُوَانٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ جَائِزًا، وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَوْفٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَعِيدٌ وَجَابِرٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَحْرُمُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَأَنْكَرَ مَا يُخَالِفُهُ، وَلَا يَجُوزُ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ إِجْمَاعًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ مَا فَوْقَ الذَّقَنِ مِنْ الرَّأْسِ فَلَا يُخَمِّرْهُ الْمُحْرِمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
723 -
717 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَا فَوْقَ الذَّقَنِ) بِفَتْحِ الذَّالِ وَالْقَافِ مُجْتَمَعُ لَحْيَيِ الْإِنْسَانِ، (مِنَ الرَّأْسِ فَلَا يُخَمِّرْهُ) لَا يُغَطِّيهِ (الْمُحْرِمُ) ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَفَّنَ ابْنَهُ وَاقِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَاتَ بِالْجُحْفَةِ مُحْرِمًا وَخَمَّرَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَقَالَ لَوْلَا أَنَّا حُرُمٌ لَطَيَّبْنَاهُ
قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا يَعْمَلُ الرَّجُلُ مَا دَامَ حَيًّا فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ انْقَضَى الْعَمَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
724 -
718 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَفَّنَ ابْنَهُ وَاقِدَ) بِالْقَافِ (بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
وَمَاتَ بِالْجُحْفَةِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، (مُحْرِمًا وَخَمَّرَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ) غَطَّاهُمَا، (وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّا حُرُمٌ) بِضَمَّتَيْنِ مُحْرِمُونَ (لَطَيَّبْنَاهُ) بِالْحَنُوطِ وَنَحْوِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا يَعْمَلُ الرَّجُلُ) بِالتَّكَالِيفِ (مَا دَامَ حَيًّا فَإِذَا مَاتَ فَقَدِ انْقَضَى الْعَمَلُ) فَلَا يُمْتَنَعُ تَطْيِيبُ الْمَيِّتِ الْمُحْرِمِ وَلَا تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" «وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ فَأُتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اغْسِلُوهُ وَكَفِّنُوهُ وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا» " بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا لِأَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِهِ وُجُودُهُ فَيَكُونُ خَاصًّا بِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَلَوِ اسْتَمَرَّ بَقَاؤُهُ عَلَى إِحْرَامِهِ لَأَمَرَ بِقَضَاءِ بَقِيَّةِ مَنَاسِكِهِ، وَلَوْ أُرِيدَ التَّحْرِيمُ فِي كُلِّ مُحْرِمٍ لَقَالَ: فَإِنَّ الْمُحْرِمَ كَمَا قَالَ: «إِنَّ الشَّهِيدَ يُبْعَثُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا» ، وَجَوَابُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ لِوَاحِدٍ فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ ثَبَتَ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَظْهَرَ التَّخْصِيصَ فِيهِ تَعَسُّفٌ، إِذِ التَّخْصِيصُ ظَاهِرٌ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يَقُولَ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ سَلَّمْنَا عَدَمَ ظُهُورِهِ فَوَقَائِعُ الْعَيْنِ لَا عُمُومَ لَهَا لِمَا يَطْرُقُهَا مِنَ الِاحْتِمَالِ وَذَلِكَ كَافٍ فِي إِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
725 -
719 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا تَنْتَقِبِ) بِفَوْقِيَّتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ قَافٌ مَكْسُورَةٌ، مَجْزُومٌ عَلَى النَّهْيِ فَتُكْسَرُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ خَبَرًا عَنِ الْحُكْمِ (الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ) أَيْ لَا تَلْبَسِ النِّقَابَ، وَهُوَ الْخِمَارُ الَّذِي تَشُدُّهُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْأَنْفِ أَوْ تَحْتَ الْمَحَاجِرِ، وَإِنْ قَرُبَ مِنَ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَبْدُوَ أَجْفَانُهَا فَهُوَ الْوَصْوَاصُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْأَوْلَى، فَإِنْ نَزَلَ إِلَى طَرَفٍ الْأَنْفِ فَهُوَ اللِّفَافُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِالْفَاءِ، فَإِنْ نَزَلَ إِلَى الْفَمِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْنَبَةِ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ اللِّثَامُ بِالْمُثَلَّثَةِ.
(وَلَا تَلْبَسِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ وَيَجُوزُ رَفْعُهُ (الْقُفَّازَيْنِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَشَدِّ الْفَاءِ، تَثْنِيَةُ قُفَّازٍ بِوَزْنِ رُمَّانٍ، شَيْءٌ يُعْمَلُ لِلْيَدَيْنِ يُحْشَى بِقُطْنٍ تَلْبَسُهُمَا الْمَرْأَةُ لِلْبَرْدِ أَوْ مَا تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فِي يَدَيْهَا فَتُغَطِّي أَصَابِعَهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَ مُعَانَاةِ الشَّيْءِ فِي غَزْلٍ وَنَحْوِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا بِقُفَّازَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، بِأَحَدِهِمَا أَوْ بِغَيْرِهِمَا، وَهَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ فَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ
الْمَرْفُوعِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ (وَلَا وَرْسَ) : " «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» "، وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَجُوَيْرِيَّةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ عُقْبَةَ، لَكِنْ بَيَّنَتْ رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ رَاهْوَيْهِ وَابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَأَيَّدَهُ بِرِوَايَةِ مَالِكٍ هَذِهِ، وَاسْتُشْكِلَ الْحُكْمُ بِالْإِدْرَاجِ لِأَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ النِّقَابِ وَالْقُفَّازِ مَرْفُوعًا مُفْرَدًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْمَدِينِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» "، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: إِبْرَاهِيمُ شَيْخٌ مَدَنِيٌّ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ حَدِيثٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلِأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنَ الثِّيَابِ، وَتَلْبَسُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ» "، قَالَ فِي الِاقْتِرَاحِ: دَعْوَى الْإِدْرَاجِ فِي أَوَّلِ الْمَتْنِ ضَعِيفَةٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الثِّقَاتِ إِذَا اخْتَلَفُوا وَكَانَ مَعَ أَحَدِهِمْ زِيَادَةٌ قُدِّمَتْ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ حَافِظًا خُصُوصًا إِنْ كَانَ أَحْفَظَ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِي نَافِعٍ أَحْفَظُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُ، وَقَدْ فَصَلَ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْمَوْقُوفِ، وَتَقَوَّى بِرِوَايَةِ مَالِكٍ وَهُوَ أَحْفَظُ أَصْحَابِ نَافِعٍ، وَأَمَّا الَّذِي ابْتَدَأَ فِي الْمَرْفُوعِ بِالْمَوْقُوفِ فَإِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ رَأَى أَشْيَاءَ مُتَعَاطِفَةً فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ لِجَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَمَعَ الَّذِي فَصَلَ زِيَادَةُ عِلْمٍ فَهُوَ أَوْلَى كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ وَنَحْوُهُ لِشَيْخِهِ الزَّيْنِ الْعِرَاقِيِّ الْحَافِظِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيَّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّهَا قَالَتْ كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
726 -
720 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ) زَوْجَتِهِ (فَاطِمَةَ بِنْتِ) عَمِّهِ (الْمُنْذِرِ) بْنِ الزُّبَيْرِ (أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ) نُغَطِّي (وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) جَدَّتِهَا وَجَدَّةِ زَوْجِهَا، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَلَا تُنْكِرُهُ عَلَيْنَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا بِقَصْدِ السَّتْرِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، بَلْ يَجِبُ إِنْ عَلِمَتْ أَوْ ظَنَّتِ الْفِتْنَةَ بِهَا أَوْ يُنْظَرُ لَهَا بِقَصْدِ لَذَّةٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْبَسُ الْمَخِيطَ كُلَّهُ وَالْخِفَافَ وَأَنَّ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا وَتَسْتُرَ شَعْرَهَا إِلَّا وَجْهَهَا فَتُسْدِلُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ سَدْلًا خَفِيفًا تُسْتَرُ بِهِ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ وَلَا تُخَمِّرُ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ فَذَكَرَ مَا هُنَا ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّخْمِيرُ سَدْلًا كَمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ بِنَا سَدَلْنَا الثَّوْبَ عَلَى وُجُوهِنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ فَإِذَا جَاوَزَنَا رَفَعْنَاهُ» " انْتَهَى.
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهَا.
[بَاب مَا جَاءَ فِي الطِّيبِ فِي الْحَجِّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
7 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي الطِّيبِ فِي الْحَجِّ
727 -
721 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصِّدِّيقِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ) عَمَّتِهِ (عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» )، وَلِلتِّنِّيسِيِّ: حِينَ يُحْرِمُ، وَمَعْنَاهَا كَمَا هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِحْرَامِ هُنَا فِعْلُ الْإِحْرَامِ لِمَنْعِ التَّطَيُّبِ فِي الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إِرَادَةُ الْإِحْرَامِ لِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، وَالْمُرَادُ تَطْيِيبُ بَدَنِهِ لَا ثِيَابِهِ لِحَدِيثِ:" «كُنْتُ أَجِدُ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ» "، وَلَا يُسْتَحَبُّ تَطْيِبُ الثِّيَابِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ اتِّفَاقًا، وَشَذَّ الْقَائِلُ بِاسْتِحْبَابِهِ.
(وَلِحِلِّهِ) بَعْدَ أَنْ يَرْمِيَ (قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَفِيهِ أَنَّ كَانَ لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ لِأَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُدَّعَى تَكْرَارُهُ إِنَّمَا هُوَ التَّطَيُّبُ لَا الْإِحْرَامُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَكَرُّرِ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مَعَ كَوْنِ الْإِحْرَامِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَمَرَّ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيهِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ تَقْتَضِيهِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: تَقْتَضِيهِ ظُهُورًا وَقَدْ تَدُلُّ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِهِ لَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْ كَانَ الْمُبَالَغَةُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ تُكَرِّرُ فِعْلَ التَّطْيِيبِ لَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِحْرَامِ لِمَا عَلِمَتْهُ مِنْ حُبِّهِ لَهُ، عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ " كُنْتُ " لَمْ تَتَّفِقِ الرُّوَاةُ عَلَيْهَا فَرَوَاهَا مَالِكٌ وَتَابَعَهُ مَنْصُورٌ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِلَفْظِ " كُنْتُ ".
وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِلَفْظِ " طَيَّبْتُ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَا سَائِرُ الطُّرُقِ لَيْسَ فِيهَا " كُنْتُ ".
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّطَيُّبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ، وَجَوَازُ اسْتِدَامَتِهِ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِهِ وَرَائِحَتِهِ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ ابْتِدَاؤُهُ فِي الْإِحْرَامِ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: يَحْرُمُ التَّطَيُّبُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِطِيبٍ يَبْقَى لَهُ رَائِحَةٌ بَعْدَهُ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ طِيبٌ لَا يَبْقَى لَهُ رِيحٌ، أَوْ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ غُسْلُ الْإِحْرَامِ، وَيُعَضِّدُ الثَّانِي رِوَايَةُ مُسْلِمٍ:" «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا» "، فَقَدْ ظَهَرَتْ عِلَّةُ تَطْيِيبِهِ أَنَّهَا كَانَتْ لِمُبَاشَرَةِ نِسَائِهِ، وَأَنَّ غُسْلَهُ بَعْدَهُ لِجِمَاعِهِنَّ وَغُسْلَهُ لِلْإِحْرَامِ أَذْهَبَهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَهَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ
قَبْلَ مُعَاوَدَتِهِ لِلْأُخْرَى، وَأَيُّ طِيبٍ يَبْقَى بَعْدَ اغْتِسَالَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهَا: ثُمَّ أَصْبَحَ يَنْضَخُ طِيبًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قَبْلَ غُسْلِهِ وَإِحْرَامِهِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " ثُمَّ «أَصْبَحَ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا» " أَيْ يُصْبِحُ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ، فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ يَنْضَخُ طِيبًا ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا.
وَفِي مُسْلِمٍ أَيْ وَالْبُخَارِيِّ أَنَّ الطِّيبَ الَّذِي طَيَّبَتْهُ بِهِ زُرَيْرَةٌ، وَهِيَ مِمَّا يُذْهِبُهَا الْغُسْلُ وَلَا يَبْقَى رِيحُهَا بَعْدَهُ، وَقَوْلُهَا: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ الْمُرَادُ أَثَرُهُ لَا جِرْمُهُ. انْتَهَى بِمَعْنَاهُ.
وَرَدَّ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ بِلَا دَلِيلٍ عَجِيبٍ، فَإِنَّ عِيَاضًا ذَكَرَ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ كَمَا تَرَى.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ عَيْنَهُ بَقِيَتْ، وَتُعُقِّبَ بِمَا لِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ:" «كُنَّا نَنْضَخُ وُجُوهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ فَنَعْرَقُ فَيَسِيلُ عَلَى وُجُوهِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْهَانَا» "، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي بَقَاءِ عَيْنِ الطِّيبِ، وَلَا صَرَاحَةَ فِيهِ لِأَنَّهُنَّ اغْتَسَلْنَ وَالْغُسْلُ يُذْهِبُ عَيْنَهُ، وَمَنْشَأُ هَذَا الْخِلَافِ اللَّامُ فِي " لِإِحْرَامِهِ " وَ " لِحِلِّهِ " هَلْ هِيَ لِلتَّأْقِيتِ؟ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78](سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 78) ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَأَبْطَلَهُ فِي الْمُفْهِمِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَهُ لَكَانَ الْحِلُّ وَالْإِحْرَامُ عِلَّتَيْنِ لِلتَّطَيُّبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ خِلَافُ مَقْصُودِ الشَّرْعِ مِنَ الْمُحْرِمِ قَطْعًا.
وَذَهَبَ الْبَاجِيُّ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الطِّيبَ لِلْإِحْرَامِ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنَ الطِّيبِ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي النِّكَاحِ، فَنَهَى النَّاسَ عَنْهُ وَكَانَ هُوَ أَمْلَكُ النَّاسِ لِإِرْبِهِ فَفَعَلَهُ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ قَالَ:" «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّا لَمْ نُثْبِتْهَا بِالْقِيَاسِ بَلْ بِمُخَالَفَةِ فِعْلِهِ لِنَهْيِهِ عَنِ الطِّيبِ، فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْخُصُوصِيَّةِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقِيَاسَ سَنَدًا لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَأَيَّدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّخْصِيصَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّاسِ عَامَّةً مَا جَهِلَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْمَنَاسِكِ وَغَيْرِهَا وَجَلَالَتِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ، وَمَوْضِعُ عَطَاءٍ مَنْ عَلْمِ الْمَنَاسِكِ مَوْضِعُهُ، وَمَوْضِعُ الزُّهْرِيِّ مِنْ عَلْمِ الْأَثَرِ مَوْضِعُهُ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ وَالْحَلْقِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَقَالَهُ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَهُ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَاللَّيْثُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِحُنَيْنٍ وَعَلَى الْأَعْرَابِيِّ قَمِيصٌ وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْزَعْ قَمِيصَكَ وَاغْسِلْ هَذِهِ الصُّفْرَةَ عَنْكَ وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَفْعَلُ فِي حَجِّكَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
728 -
722 - (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ) الْمَكِّيِّ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) الْمَكِّيِّ التَّابِعِيِّ فَهُوَ
مُرْسَلٌ، وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ.
(أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ لَكِنْ فِي تَفْسِيرِ الطَّرْطُوشِيِّ أَنَّ اسْمَهُ عَطَاءُ بْنُ أُمَيَّةَ.
قَالَ ابْنُ فَتْحُونَ: إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُوَ أَخُو يَعْلَى رَاوِي الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَطَأً مِنَ اسْمِ الرَّاوِي فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَ عَطَاءٍ وَيَعْلَى أَحَدًا.
وَقَوْلُ شَيْخِنَا ابْنِ الْمُلَقِّنِ: يَجُوزُ أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ لِأَنَّ فِي الشِّفَاءِ عَنْهُ: " «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ فَقَالَ: وَرْسٌ وَرْسٌ حُطَّ حُطَّ، وَغَشِيَنِي بِقَضِيبٍ فِي بَطْنِي فَأَوْجَعَنِي» " الْحَدِيثَ، لَكِنَّ عَمْرَو هَذَا لَا يُدْرِكُ ذَا فَإِنَّهُ صَاحِبُ ابْنِ وَهْبٍ، مُعْتَرَضٌ، فَأَمَّا أَوَّلًا فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ حَتَّى يُفَسِّرَ صَاحِبَهَا بِهَا.
وَأَمَا ثَانِيًا فَفِي الِاسْتِدْرَاكِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ لَا يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ صَاحِبُ صَاحِبِ مَالِكٍ بَلْ إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ آخَرُ اتِّفَاقًا فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَلَمْ يَثْبُتْ لِأَنَّهُ انْقَلَبَ عَلَى شَيْخِنَا، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الشِّفَاءِ سَوَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: سَوَادَةُ بْنُ عَمْرٍو، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْمَذْكُورَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ وَالْبَغْوَيُّ فِي مُعْجَمِهِ، (وَهُوَ بِحُنَيْنٍ) أَيْ مُنْصَرِفٌ مِنْ غَزْوَتِهَا، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ هُوَ الْجِعْرَانَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: " أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ: «أَرِنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ الْوَحْيُ وَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى فَجَاءَ يَعْلَى وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ» ".
(وَعَلَى الْأَعْرَابِيِّ قَمِيصٌ)، وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ (وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ) مِنْ زَعْفَرَانٍ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ؟) فِي عُمْرَتِي (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ سُكُوتِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ؟ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ: (انْزِعْ قَمِيصَكَ، وَاغْسِلْ هَذِهِ الصُّفْرَةَ)، وَلِمُسْلِمٍ: اخْلَعْ هَذِهِ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ هَذَا الزَّعْفَرَانَ، (عَنْكَ)، زَادَ الصَّحِيحَانِ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ نَصًّا فِي تَكْرَارِ الْغَسْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعَادَ لَفْظَ اغْسِلْ مَرَّةً ثُمَّ مَرَّةً عَلَى عَادَتِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ.
(وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَفْعَلُ)، وَفِي رِوَايَةٍ: وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ (فِي حَجِّكَ) مُطَابَقَةً لِقَوْلِهِ: أَنِ اصْنَعْ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ أَعْمَالَ الْحَجِّ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَأَنَّهُمْ كَانُوا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَلِّقُونَ الثِّيَابَ وَيَجْتَنِبُونَ الطِّيبَ فِي الْإِحْرَامِ إِذَا حَجُّوا وَيَتَسَاهَلُونَ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَجْرَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُهُ " وَاصْنَعْ " مَعْنَاهُ " اتْرُكْ " لِأَنَّ الْمُرَادَ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ أَنَّ التُّرْكَ فِعْلٌ.
قَالَ: وَقَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ أَرَادَ الْأَدْعِيَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التُّرُوكَ مُشْتَرَكَةٌ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ فِي الْحَجِّ أَشْيَاءَ زَائِدَةً عَلَى الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ وَمَا بَعْدَهُ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحَجُّ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْمَأْمُورُ بِهِ غَيْرُ نَزْعِ الثَّوْبِ وَغَسْلِ الْخَلُوقِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ بِهِمَا فَلَمْ تَبْقَ إِلَّا الْفِدْيَةُ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْحَصْرِ بَلِ الْمَأْمُورُ بِهِ الْغَسْلُ وَالنَّزْعُ.
فَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ فَقَالَ: «مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ؟ قَالَ: أَنْزِعُ عَنِّي هَذِهِ الثِّيَابَ، وَأَغْسِلُ عَنِّي هَذِهِ الْخَلُوقَ، فَقَالَ: مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ» .
وَفِيهِ مَنْعُ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لِلْأَمْرِ بِغَسْلِهِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بِالْجِعْرَانَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ بِاتِّفَاقٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ مِنَ الْأَمْرِ وَسَبَقَ أَجْوِبَةٌ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ طِيبٌ فِي إِحْرَامِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ثُمَّ عَلِمَ فَبَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ تَجِبُ مُطْلَقًا، وَإِنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا صَارَ عَلَيْهِ مَخِيطٌ نَزَعَهُ وَلَا يُمَزِّقُهُ وَلَا يَشُقُّهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِقَوْلِ النَّخَعِيِّ يَشُقُّهُ، وَالشَّعْبِيِّ يُمَزِّقُهُ، قَالَا: وَلَا يَنْزِعُهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُغَطِّيًا لِرَأْسِهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا.
وَعَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ نَحْوَهُ، وَرُدَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ فَخَلَعَهَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ.
وَقَدْ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَتَمْزِيقِ الثَّوْبِ إِضَاعَةً لَهُ فَلَا يَجُوزُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُفْتِيَ أَوِ الْحَاكِمَ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْحُكْمَ يُمْسِكُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بُيَّنَتْ بِالْوَحْيِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا يُتْلَى، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَحْضُرْهُ الْوَحْيُ، وَلَا دِلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَنْعِ اجْتِهَادِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحُكْمُ، أَوْ أَنَّ الْوَحْيَ بَدَرَهُ قَبْلَ تَمَامِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَلْزَمُ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ مَنْعِ مَا سِوَاهُ مِنْ طُرُقِ مَعْرِفَتِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ فَقَالَ مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ مِنْكَ لَعَمْرُ اللَّهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ طَيَّبَتْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَرْجِعَنَّ فَلْتَغْسِلَنَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
729 -
723 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ) سَمُرَةٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، (فَقَالَ: مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) ، زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ عُمَرُ، (فَقَالَ: مِنْكَ لَعَمْرُ اللَّهِ) لِأَنَّكَ تُحِبُّ الرَّفَاهِيَةَ وَكَانَ عُمَرُ يُسَمِّيهِ كِسْرَى الْعَرَبِ، (فَقَالَ مُعَاوِيَةُ) مُعْتَذِرًا:(إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ) رَمَلَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَشْهُورَةٌ بِكُنْيَتِهَا، (طَيَّبَتْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَرْجِعَنَّ فَلْتَغْسِلَنَّهُ)، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ:" أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَرْجِعَنَّ إِلَى أُمِّ حَبِيبَةَ فَلْتَغْسِلَنَّهُ عَنْكَ كَمَا طَيَّبَتْكَ "، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ قَالَ:" فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهَا حَتَّى لَحِقَهُمْ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ "، فَهَذَا عُمَرُ مَعَ جَلَالَتِهِ لَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ بِمَا مَرَّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ زُيَيْدٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ وَإِلَى جَنْبِهِ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ فَقَالَ عُمَرُ مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَبَّدْتُ رَأْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ لَا أَحْلِقَ فَقَالَ عُمَرُ فَاذْهَبْ إِلَى شَرَبَةٍ فَادْلُكْ رَأْسَكَ حَتَّى تُنْقِيَهُ فَفَعَلَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ مَالِكٌ الشَّرَبَةُ حَفِيرٌ تَكُونُ عِنْدَ أَصْلِ النَّخْلَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
730 -
724 - (مَالِكٌ عَنِ الصَّلْتِ بْنِ زُيَيْدٍ) بِضَمِّ الزَّايِ وَتَحْتَيَّتَيْنِ، تَصْغِيرُ زَيْدٍ الْكِنْدِيِّ، وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَفَى بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ (عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهِ) أَيِ الصَّلْتِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَإِلَى جَنْبِهِ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ) بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ الْكَنَدِيُّ الْمَدَنِيُّ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لَهُ شَرَفٌ وَحَالٌ جَمِيلَةٌ، وَوَهَمَ مِنْ عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ، (فَقَالَ عُمَرُ: مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ؟ فَقَالَ كَثِيرٌ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَبَّدْتُ رَأْسِي) أَيْ جَعَلْتُ فِيهِ شَيْئًا نَحْوَ الصَّمْغِ لِيَجْتَمِعَ شَعْرُهُ لِئَلَّا يَتَشَعَّثَ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ يَقَعَ فِيهِ الْقَمْلُ، (وَأَرَدْتُ أَنْ لَا أَحْلِقَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَاذْهَبْ إِلَى شَرَبَةٍ فَادْلُكْ رَأْسَكَ حَتَّى تُنْقِيَهُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبِالْقَافِ مِنَ الطِّيبِ، (فَفَعَلَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ) مَا أَمَرَهُ بِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: الشَّرَبَةُ حَفِيرٌ تَكُونُ عِنْدَ أَصْلِ النَّخْلَةِ)، وَفِي التَّمْهِيدِ: الشَّرَبَةُ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ عِنْدَ أُصُولِ الشَّجَرِ حَوْضٌ يَكُونُ مِقْدَارُ رَيِّهَا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هُوَ الْحَوْضُ حَوْلَ النَّخْلَةِ يُجْمَعُ فِيهَا الْمَاءُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ: " لَمَّا أَحْرَمُوا وَجَدَ عُمَرُ رِيحَ طِيبٍ فَقَالَ: مِمَّنْ هَذِهِ الرِّيحُ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ امْرَأَتَكَ عَطِرَةٌ أَوْ عَطَّارَةٌ إِنَّمَا الْحَاجُّ الْأَدْفَرُ الْأَغْبَرُ "، فَهَذَا عُمَرُ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى صَحَابِيَّيْنِ وَتَابِعِيٍّ
كَبِيرٍ الطِّيبَ بِمَحْضَرِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ صَحَابَةٍ وَغَيْرِهُمْ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى رَجُلًا قَدْ تَطَيَّبَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ بِطِينٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بَعْدَ أَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَقَبْلَ أَنْ يُفِيضَ عَنْ الطِّيبِ فَنَهَاهُ سَالِمٌ وَأَرْخَصَ لَهُ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَدَّهِنَ الرَّجُلُ بِدُهْنٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَقَبْلَ أَنْ يُفِيضَ مِنْ مِنًى بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ
قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ طَعَامٍ فِيهِ زَعْفَرَانٌ هَلْ يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ أَمَّا مَا تَمَسُّهُ النَّارُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الْمُحْرِمُ وَأَمَّا مَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
731 -
725 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فُرُّوخٍ الْمَعْرُوفِ بِرَبِيعَةَ الرَّأْيِ (أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ) بْنِ مَرْوَانَ الْأُمَوِيِّ (سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ عُمَرَ (وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) الْأَنْصَارِيَّ الْمَدَنِيَّ أَبَا زَيْدٍ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَأَبُوهُ الصَّحَابِيُّ الشَّهِيرُ (بَعْدَ أَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَقَبْلَ أَنْ يُفِيضَ) يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، (عَنِ الطِّيبِ فَنَهَاهُ سَالِمٌ) لِكَرَاهَتِهِ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ، (وَأَرْخَصَ لَهُ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) إِمَّا لِأَنَّهُ يَرَى جَوَازَهُ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مِنَ الْجَائِزِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدَّهِنَّ الرَّجُلُ بِدُهْنٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ) كَالزَّيْتِ، (قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَقَبْلَ أَنْ يُفِيضَ مِنْ مِنًى بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ) لِلْعَقَبَةِ، (قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ طَعَامٍ فِيهِ زَعْفَرَانٌ هَلْ يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا تَمَسُّهُ النَّارُ مِنْ ذَلِكَ) بِحَيْثُ أَمَاتَهُ الطَّبْخُ وَإِنْ بَقِيَ لَوْنُهُ لِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ بِالطَّبْخِ، (فَلَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الْمُحْرِمُ، وَأَمَّا مَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ) أَيْ يَحْرُمُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
[بَاب مَوَاقِيتِ الْإِهْلَالِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
8 -
بَابُ مَوَاقِيتِ الْإِهْلَالِ
جَمْعُ مِيقَاتٍ كَمَوَاعِيدٍ وَمِيعَادٍ، وَأَصْلُهُ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَكَانِ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: التَّوْقِيتُ وَالتَّأْقِيتُ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْمُدَّةِ، يُقَالُ: وَقَّتَ الشَّيْءَ بِالتَّشْدِيدِ يُوَقِّتُهُ، وَوَقَتَ بِالتَّخْفِيفِ يَقِتُهُ إِذَا بَيَّنَ مُدَّتَهُ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَقِيلَ لِلْمَوْضِعِ مِيقَاتٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيلَ: التَّوْقِيتُ لُغَةً التَّحْدِيدُ وَالتَّعْيِينُ، فَعَلَى هَذَا فَالتَّحْدِيدُ مِنْ لَوَازِمِ الْوَقْتِ، وَأَصْلُ الْإِهْلَالِ رَفْعُ الصَّوْتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى نَفْسِ الْإِحْرَامِ اتِّسَاعًا أَيْضًا.
732 -
726 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟» قَالَ: (يُهِلُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ يُحْرِمُ (أَهْلُ الْمَدِينَةِ) بِصِيغَةِ الْخَبَرِ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرُ أَيْ مَدِينَتِهِ صلى الله عليه وسلم (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ مُصَغَّرُ حَلْفَةٍ نَبَاتٌ مَعْرُوفٌ، وَهِيَ قَرْيَةٌ خَرِبَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مِائَتَا مِيلٍ قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَيْنَهُمَا عَشْرُ مَرَاحِلَ أَوْ تِسْعٌ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ، وَقَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ مِيلٌ وَاحِدٌ وَهْمٌ يَرُدُّهُ الْحِسُّ، وَبِهَا مَسْجِدٌ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الشَّجَرَةِ خَرَابٌ، وَبِهَا بِئْرٌ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ عَلِيٍّ، وَهِيَ أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ، فَقِيلَ: حِكْمَةُ ذَلِكَ أَنْ يُعَظِّمَ أُجُورَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: رِفْقًا بِأَهْلِ الْآفَاقِ لِأَنَّ الْمَدِينَةَ أَقْرَبُ الْآفَاقِ إِلَى مَكَّةَ أَيْ مَنْ لَهُ مِيقَاتٌ مُعَيَّنٌ.
(وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَمِصْرَ. وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: وَالْمَغْرِبَ (مِنَ الْجُحْفَةِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ خَرِبَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ خَمْسُ مَرَاحِلَ أَوْ سِتٌّ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: ثَلَاثُ مَرَاحِلَ فِيهِ نَظَرٌ، وَهِيَ مَهْيَعَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ بِوَزْنِ عَلْقَمَةَ، وَقِيلَ: بِوَزْنِ لَطِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَسُمِّيَتِ الْجُحْفَةَ لِأَنَّ السَّيْلَ أَجْحَفَ بِهَا، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ الْعَمَالِيقُ يَسْكُنُونَ يَثْرِبَ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي عَبِيلٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسَرَ الْمُوَحَّدَةِ وَهُمْ إِخْوَةُ عَادٍ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ يَثْرِبَ فَنَزَلُوا مَهْيَعَةَ فَجَاءَ سَيْلٌ فَأَجْحَفَهُمْ أَيِ اسْتَأْصَلَهُمْ فَسُمِّيَتِ الْجُحْفَةَ، وَالْمِصْرِيُّونَ الْآنَ يُحْرِمُونَ مِنْ رَابِغٍ بَرَاءٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ قُرْبَ الْجُحْفَةِ لِكَثْرَةِ حُمَّاهَا فَلَا يَنْزِلُهَا أَحَدٌ إِلَّا حُمَّ.
(وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ) كُلِّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَهُوَ اسْمٌ لِعَشَرَةِ مَوَاضِعَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الَّتِي أَعْلَى تِهَامَةِ وَالْيَمَنِ
وَأَسْفَلُهَا الشَّامُ وَالْعِرَاقُ (مِنْ قَرْنٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ فَنُونٌ بِلَا إِضَافَةٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَرْنُ الْمَنَازِلِ بِلَفْظِ جَمْعِ الْمَنْزِلِ، وَالْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ هُوَ اسْمُ الْمَكَانِ، وَضَبَطَ الْجَوْهَرِيُّ " قَرْنَ " بِفَتْحِ الرَّاءِ وَغَلَّطُوهُ، وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ فِي ذَلِكَ وَفِي نِسْبَةِ أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي قَرْنٍ، بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ، لَكِنْ حَكَى عِيَاضٌ عَنِ الْقَابِسِيِّ أَنَّ مَنْ سَكَّنَ الرَّاءَ أَرَادَ الْجَبَلَ، وَمَنْ فَتَحَ أَرَادَ الطَّرِيقَ، وَالْجَبَلُ الْمَذْكُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ مُرْحَلَتَانِ، وَفِي أَخْبَارِ مَكَّةَ لِلْفَاكِهِيِّ أَنَّ قَرْنَ الثَّعَالِبِ جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى أَسْفَلِ مِنًى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ سُمِّيَ قَرْنُ الثَّعَالِبِ لِكَثْرَةِ مَا كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ مِنَ الثَّعَالِبِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَوَاقِيتِ.
(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ رَاوِي الْحَدِيثِ: ( «وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ» ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ، مَكَانٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ مِيلًا، وَيُقَالُ: أَلَمْلَمُ بِالْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْيَاءُ تَسْهِيلٌ لَهَا، وَحَكَى ابْنُ السَّيِّدِ فِيهِ يَرَمْرَمَ بِرَاءَيْنِ بَدَلَ اللَّامَيْنِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: وَزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ، وَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الزَّعْمِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الَّذِي بَلَّغَ ابْنَ عُمَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَبُهُ رَفَعَهُ، وَعَائِشَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو السَّهْمِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّاحِبِ صَحِيحٌ حُجَّةٌ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ قَوْلَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُهِلُّوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَهْلَ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَهْلَ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثُ فَسَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُخْبِرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
734 -
727 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُهِلُّوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» ) فَفِي هَذَا أَنَّ الْخَبَرَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ، وَلِذَا أَتَى بِهِ الْإِمَامُ تِلْوَهُ فَهُوَ مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ، (وَأَهْلَ الشَّامِ) وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ (مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلَ
نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ) أَيْ قَرْنِ الْمَنَازِلِ لَا قَرْنِ الثَّعَالِبِ، (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:«أَمَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثُ فَسَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأُخْبِرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ» ) وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَحَكَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ سَنَةٍ وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْمَوَاقِيتَ؟ فَقَالَ: عَامَ حَجَّ.
وَفِي الْحَدِيثَيْنِ حُرْمَةُ مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ لِمُرِيدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ بِلَا إِحْرَامٍ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالُوا عَلَيْهِ الدَّمُ لَكِنْ بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَذَهَبَ عَطَاءٌ وَالنَّخْعِيُّ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَصِحُّ حَجُّهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ لِلْمِيقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى تَمَّ حَجُّهُ رَجَعَ لِلْمِيقَاتِ وَأَهَلَّ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ شَاذَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَلَوْ رَجَعَ لِلْمِيقَاتِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالنُّسُكِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، قَالَ مَالِكٌ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبْعِدَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ بِشَرْطِ أَنْ يَعُودَ مُلَبِّيًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَسْقُطُ، وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِيقَاتُهُ.
فَأَمَّا كَمِصْرِيٍّ وَشَامِيٍّ أَرَادَ النُّسُكَ فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ فَمِيقَاتُهُ ذُو الْحُلَيْفَةِ لِاجْتِيَازِهِ عَلَيْهَا، وَلَا يُؤَخِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْجُحْفَةَ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُهُ الْأَصْلِيُّ، فَإِنْ أَخَّرَ أَسَاءَ وَلَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ الْأَبِيُّ وَالْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ وَالْحَافِظُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَّا فَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الشَّامِيَّ مَثَلًا إِذَا جَاوَزَ ذَا الْحُلَيْفَةِ بِلَا إِحْرَامٍ إِلَى مِيقَاتِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْجُحْفَةُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافُهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَا قَالُوا، وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِذَارُ مَعَ وُجُودِ قَوْلِ هَذَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ رِفْقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأُمَّتِهِ فِي تَوْقِيتِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، فَجَعَلَ الْأَمْرَ لِأَهْلِ الْآفَاقِ بِالْقُرْبِ، وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَبْعَدَ الْمَوَاقِيتِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْآفَاقِ إِلَى مَكَّةَ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي الْمَوَاقِيتِ حُجَّةٌ لَنَا أَنَّ أَقَلَّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ سَفَرُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّهُ أَقَلَّ مَقَادِيرَ الْمَوَاقِيتِ لِأَهْلِ الْآفَاقِ وَالْمُسَافِرِينَ حَتَّى يَمُرَّ بِهِمْ سَفَرٌ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَرْنَ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ تَوْقِيتُ الْجُحْفَةِ لِأَهْلِ الشَّامِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى فَتْحِهَا، وَأَنَّهَا تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ تَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا، وَلَمْ تَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ فُتِحَتْ وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ تَابَعَ فِيهِ مَالِكًا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الِاعْتِصَامِ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ دِينَارٍ بِهِ وَزَادَ فَذَكَرَ: الْعِرَاقَ، فَقَالَ - أَيِ: ابْنُ عُمَرَ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ، وَلِأَحْمَدَ عَنْ صَدُقَةَ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَأَيْنَ الْعِرَاقُ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ عِرَاقٌ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: لَمْ يُوَقِّتْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ عِرْقٍ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ أَهْلُ الْمَشْرِقِ، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، فَمِيقَاتُ ذَاتِ عِرْقٍ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أُجْمِعَ
عَلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَتَوْا عُمَرَ فَوَقَّتَ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ، وَصَحَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ.
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: «وَمَهِلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ» إِلَّا أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي رَفْعِهِ لِأَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ: سَمِعْتُ أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْعِرَاقِيِّ: قَوْلُهُ أَحْسَبُهُ أَيْ أَظُنُّهُ، وَالظَّنُّ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْيَقِينِ فَلَيْسَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي رَفْعِهِ، وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ لَا يَقِينًا وَلَا ظَنًّا فَهُوَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ تَوْقِيفًا مِنَ الشَّارِعِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ضَمَّهُ جَابِرٌ إِلَى الْمَوَاقِيتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَشُكَّا فِي رَفْعِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو السَّهْمِيِّ قَالَا: " «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» "، قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا، فَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ لَمْ يَبْلُغْهُ، أَوْ رَأَى ضَعْفَ الْحَدِيثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ مِنْهَا لَا تَخْلُو عَنْ مَقَالٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: رُوِيَ فِي ذَاتِ عِرْقٍ أَخْبَارٌ لَا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمْ نَجِدْ فِيهَا حَدِيثًا ثَابِتًا لَكِنَّ الْحَدِيثَ بِمَجْمُوعِ الطُّرُقِ يَقْوَى كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا مَنْ أَعَلَّهُ بِأَنَّ الْعِرَاقَ لَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هِيَ غَفْلَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ لِأَهْلِ النَّوَاحِي قَبْلَ الْفُتُوحِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا سَتُفْتَحُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ.
وَبِهَذَا أَجَابَ الْمَاوَرْدَيُّ وَآخَرُونَ، لَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ نَاسٌ مُسْلِمُونَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ بِلَفْظِ:" «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟ فَأَجَابَهُ: وَكُلُّ جِهَةٍ عَيَّنَهَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا نَاسٌ مُسْلِمُونَ بِخِلَافِ الْمَشْرِقِ» "، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ» "، فَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتُ الْوُجُوبِ، وَالْعَقِيقُ مِيقَاتُ الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَبِأَنَّ الْعَقِيقَ مِيقَاتُ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُمْ أَهْلُ الْمُدَايِنِ، وَالْعَقِيقُ مِيقَاتٌ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَبِأَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْعَقِيقِ الْآنَ ثُمَّ حُوِّلَتْ وَقَرُبَتْ إِلَى مَكَّةَ، فَعَلَى هَذَا فَذَاتُ عِرْقٍ وَالْعَقِيقُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَيَتَعَيَّنُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْعَقِيقِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا قَالُوا يُسْتَحَبُّ احْتِيَاطًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِيقَاتٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ إِذَا حَاذَى مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ مُحِيطَةٌ بِالْحَرَمِ، فَذُو الْحُلَيْفَةِ شَامِيَّةٌ، وَيَلَمْلَمُ يَمَانِيَّةٌ، فَهِيَ تُقَابِلُهُ وَإِنْ
كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَقْرَبُ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْأُخْرَى، وَقَرْنٌ شَرْقِيَّةٌ وَالْجُحْفَةُ غَرْبِيَّةٌ فَهِيَ تُقَابِلُهَا وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا كَذَلِكَ، وَذَاتُ عِرْقٍ تُحَاذِي قَرْنًا، فَعَلَى هَذَا لَا تَخْلُو بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ تُحَاذِيَ مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، ثُمَّ الْمُحَاذَاةُ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ لَيْسَ مِيقَاتُهُ أَمَامَهُ كَالْمِصْرِيِّ يَمُرُّ بِبَدْرٍ وَهِيَ تُحَاذِي ذَا الْحُلَيْفَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهَا بَلْ يُؤَخِّرُ إِلَى الْجُحْفَةِ، وَالْعَقِيقُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَادٍ يَتَدَفَّقُ مَاؤُهُ فِي غَوْرِ تِهَامَةَ، وَهُوَ غَيْرُ الْعَقِيقِ الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ:" «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ» " يَعْنِي الْعَقِيقَ، وَهُوَ بِقُرْبِ الْبَقِيعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَهَلَّ مِنْ الْفُرُعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
735 -
728 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَهَلَّ) أَحْرَمَ (مِنَ الْفُرُعِ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ وَبِإِسْكَانِهَا، مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، يُقَالُ: هِيَ أَوَّلُ قَرْيَةٍ مَارَتْ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ التَّمْرَ بِمَكَّةَ، وَفِيهَا عَيْنَانِ يُقَالُ لَهُمَا الرُّبُضُ وَالتُّحُفُ كَانَتَا يَسْقِيَانِ عِشْرِينَ أَلْفَ نَخْلَةٍ كَانَتْ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالرُّبُضُ مَنَابِتُ الْأَرَاكِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَحْمَلُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مَرَّ بِمِيقَاتٍ لَا يُرِيدُ إِحْرَامًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَهَلَّ مِنْهُ، أَوْ جَاءَ إِلَى الْفَرْعِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي الْإِحْرَامِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ الْمَوَاقِيتِ وَمُحَالٌ أَنْ يَتَعَدَّاهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ فَيُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ دَمًا هَذَا لَا يَظُنُّهُ عَالِمٌ انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَهَلَّ مِنْ إِيلِيَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
735 -
729 - (مَالِكٌ عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ) قِيلَ: هُوَ نَافِعٌ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَهَلَّ مِنْ إِيلِيَاءَ) بِالْمَدِّ، أَيْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَامَ الْحَكَمَيْنِ لَمَّا افْتَرَقَ أَبُو مُوسَى وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِي عَنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ نَهَضَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا مَعَ كَوْنِهِ رَوَى حَدِيثَ الْمَوَاقِيتِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ مُجَاوَزَتِهَا حَلَالًا لَا مَنْعُ الْإِحْرَامِ قَبْلَهَا، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَقَدْرٌ آخَرُ لِعِلَّةٍ أُخْرَى هِيَ خَوْفُ أَنْ يَعْرِضَ لِلْمُحْرِمِ إِذَا بَعُدَتْ مَسَافَتُهُ مَا يُفْسِدُ إِحْرَامَهُ، وَأَمَّا قَصِيرُهَا فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْتِبَاسِ الْمِيقَاتِ وَالتَّضْلِيلِ عَنْهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، فَأَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إِحْرَامَهُ مِنَ الْبَصْرَةَ، وَأَنْكَرَ عُثْمَانُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ إِحْرَامَهُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَرَاهَةَ أَنْ يُضَيِّقَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْدُثَ فِي إِحْرَامِهِ وَكُلُّهُمْ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ إِذَا فَعَلَ لِأَنَّهُ زَادَ وَلَمْ يَنْقُصْ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» "، وَرَوَاهُ ابْنَ مَاجَهْ بِلَفْظِ:" «مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ كَفَّارَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ» "، وَفِي لَفْظٍ لَهُ:" «مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غُفِرَ لَهُ» " فَحَدِيثٌ مَعْلُولٌ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي مَتْنِهِ وَإِسْنَادِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَضَعَّفَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَغَيْرُهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ مِنْ الْجِعِرَّانَةِ بِعُمْرَةٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
735 -
730 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ) فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ بَعْدَ قَسْمِهِ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ ( «مِنَ الْجِعْرَانَةِ بِعُمْرَةٍ» ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ الْخُزَاعِيِّ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُعْجَمَةٌ وَكَسْرِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، ضَبَطَهُ الْأَمِيرُ ابْنُ مَاكُولَا تَبَعًا لِهِشَامِ بْنِ يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَيُقَالُ بِسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ السَّكَنِ تَبَعًا لِابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ:" «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلَةً فَنَظَرْتُ إِلَى ظَهْرِهِ كَأَنَّهُ سَبِيكَةُ فِضَّةٍ فَاعْتَمَرَ وَأَصْبَحَ بِهَا كَبَائِتٍ» ".
وَلَفْظُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا فَقَضَى عُمْرَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ خَرَجَ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ الطَّرِيقَ طَرِيقَ جَمْعٍ بِبَطْنِ سَرِفَ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خَفِيَتْ عُمْرَتُهُ عَلَى النَّاسِ» "، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلَا يُعْرَفُ لِمُحَرِّشٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ انْتَهَى.
[بَاب الْعَمَلِ فِي الْإِهْلَالِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
9 -
بَابُ الْعَمَلِ فِي الْإِهْلَالِ
هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَكُلُّ رَافِعٍ صَوْتَهِ بِشَيْءٍ فَهُوَ مُهِلٌ بِهِ.
738 -
731 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَصْدَرُ لَبَّى، أَيْ قَالَ لَبَّيْكَ، وَلَا يَكُونُ عَامِلُهُ إِلَّا مُضْمَرًا.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ» " وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ
طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّيًا» يَقُولُ (لَبَّيْكَ) لَفْظٌ مُثَنَّى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالَ يُونُسُ: اسْمٌ مُفْرَدٌ وَأَلِفُهُ إِنَّمَا انْقَلَبَتْ يَاءً لِاتِّصَالِهَا بِالضَّمِيرِ كَلَدَيَّ وَعَلَيَّ وَرُدَّ بِأَنَّهَا قُلِبَتْ يَاءً مَعَ الْمُظْهَرِ.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَأَصْلُهُ لَبَّا لَكَ فَثُنِّيَ عَلَى التَّأْكِيدِ أَيْ إِلْبَابًا بَعْدَ إِلْبَابٍ، وَهَذِهِ التَّثْنِيَةُ لَيْسَتْ حَقِيقِيَّةٌ بَلْ لِلتَّكْثِيرِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ وَمَعْنَاهُ إِجَابَةٌ بَعْدَ إِجَابَةٍ لَازِمَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَمِثْلُهُ حَنَانَيْكَ أَيْ تَحَنُّنًا بَعْدَ تَحَنُّنٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَى لَبَّيْكَ اتِّجَاهِي وَقَصْدِي إِلَيْكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تُلَبِّ دَارَكَ أَيْ تُجَاهَهَا، وَقِيلَ: مَحَبَّتِي لَكَ مِنْ قَوْلِهِمُ امْرَأَةٌ لَبَّةٌ أَيْ مُحِبَّةٌ، وَقِيلَ: إِخْلَاصِي لَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ حَسَبٌ لُبَابٌ أَيْ خَالِصٌ، وَمِنْهُ لُبُّ الطَّعَامِ وَلُبَابُهُ، وَقِيلَ: أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ مِنْ لَبَّ الرَّجُلُ بِالْمَكَانِ أَقَامَ، وَقِيلَ: قُرْبًا مِنْكَ مِنَ الْإِلْبَابِ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَقِيلَ: خَاضِعًا لَكَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مُسْتَجِيبٌ لِدُعَائِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فِي حَجِّ بَيْتِهِ.
(اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) أَيْ يَا اللَّهُ أَجَبْنَاكَ فِيمَا دَعَوْتَنَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى التَّلْبِيَةِ إِجَابَةُ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفَاسِيرِهِمْ بِأَسَانِيدَ قَوِيَّةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَأَقْوَى مَا فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" «لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قِيلَ لَهُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، قَالَ: فَنَادَى إِبْرَاهِيمُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَفَلَا تَرَوْنَ النَّاسَ يُجِيبُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ؟» "، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ:" «فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ» "، وَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ فَلَيْسَ حَاجٌّ يَحُجُّ مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ إِلَّا مَنْ كَانَ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَئِذٍ.
قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَفِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّلْبِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ بِأَنَّ وُفُودَهُمْ عَلَى بَيْتِهِ إِنَّمَا كَانَ بِاسْتِدْعَاءٍ مِنْهُ سبحانه وتعالى، (لَبَّيْكَ) فِي ذِكْرِهِ ثَلَاثًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ اللَّفْظِيَّ لَا يُزَادُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبُلَغَاءُ، وَأَمَّا تَكْرِيرُ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] (سُورَةُ الرَّحْمَنِ: الْآيَةُ 13) وَ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15](سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ: الْآيَةُ 15) فَلَيْسَ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي شَيْءٍ.
( «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ» ) رُوِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافٌ وَفَتْحِهَا تَعْلِيلٌ وَالْكَسْرُ أَجْوَدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، قَالَ ثَعْلَبٌ: لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَمَعْنَى الْفَتْحِ لِهَذَا السَّبَبِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَهِجَ الْعَامَّةُ بِالْفَتْحِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمَعْنَى عِنْدِي وَاحِدٌ لِأَنَّ مَنْ فَتَحَ أَرَادَ لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَرُدَّ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ لَيْسَ فِي الْحَمْدِ بَلْ فِي التَّلْبِيَةِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْكَسْرُ أَجْوَدُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِجَابَةَ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، وَأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لِلَّهِ عَلَى
كُلِّ حَالٍ، وَالْفَتْحُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَجَبْتُكَ لِهَذَا السَّبَبِ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ فَهُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً.
وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْكَسْرَ وَهُوَ خِلَافٌ.
نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَارَ الْفَتْحَ، وَأَبَا حَنِيفَةَ اخْتَارَ الْكَسْرَ، وَابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ اخْتِيَارِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لَكِنْ قَالَ فِي اللَّامِعِ وَالْعُدَّةِ أَنَّهُ إِذَا كُسِرَ صَارَ لِلتَّعْلِيلِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ عَنِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا قَرَّرَ فِي الْبَيَانِ.
(وَالنِّعْمَةَ لَكَ) بِكَسْرِ النُّونِ، الْإِحْسَانُ وَالْمِنَّةِ مُطْلَقًا، وَبِالْفَتْحِ وَالتَّنْعِيمَ قَالَ تَعَالَى:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11](سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ: الْآيَةُ 11) أَيِ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ مُسْتَقِرَّةٌ لَكَ، وَجَوَّزَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ الْمَوْجُودَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرُ إِنَّ هُوَ الْمَحْذُوفُ.
(وَالْمُلْكَ) بِالنَّصْبِ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ كَذَلِكَ أَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ.
قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَرَنَ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ وَأَفْرَدَ الْمُلْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ مُتَعَلَّقُ النِّعْمَةِ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَمْدَ إِلَّا لَكَ، وَأَمَّا الْمُلْكُ فَهُوَ مَعْنًى مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ذُكِرَ لِتَحْقِيقِ أَنَّ النِّعْمَةَ كُلَّهَا لِلَّهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمُلْكِ، (لَا شَرِيكَ لَكَ) فِي مُلْكِكَ (قَالَ) نَافِعٌ:(وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا) فَيَقُولُ: (لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَمَا فِي الْمَرْفُوعِ إِلَّا أَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ بِلَفْظِ اللَّهُمَّ، (وَسَعْدَيْكَ) قَالَ عِيَاضٌ: إِفْرَادُهَا وَتَثْنِيَتُهَا كَلَبَّيْكَ، وَمَعْنَاهُ سَاعَدْتُ طَاعَتَكَ مُسَاعَدَةً بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ وَإِسْعَادًا بَعْدَ إِسْعَادٍ وَلِذَا ثَنَّى، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِفِعْلٍ لَا يَظْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، قَالَ الْجِرْمِيُّ: لَمْ يُسْمَعْ سَعْدَيْكَ مُفْرَدًا، (وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ) أَيِ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللَّهِ وَمِنْ فَضْلِهِ أَيْ بِقُدْرَتِهِ وَكَرَمِهِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا مِنْ إِصْلَاحِ الْمُخَاطَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80](سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: الْآيَةُ 80)(لَبَّيْكَ وَالرُّغْبَى إِلَيْكَ)، قَالَ الْمَازِرِيُّ: يُرْوَى بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ وَبِضَمِّ الرَّاءِ مَعَ الْقَصْرِ، قَالَ: وَنَظِيرُهُ الْعَلْيَاءُ وَالْعُلْيَا وَالنَّعْمَاءُ وَالنُّعْمَى، قَالَ عِيَاضٌ: وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ فِيهِ أَيْضًا الْفَتْحَ مَعَ الْقَصْرِ مِثْلَ: سَكْرَى، وَمَعْنَاهَا الطَّلَبُ وَالْمَسْأَلَةُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْأَمْرُ وَالْمَقْصُودُ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.
(وَالْعَمَلُ) إِلَيْكَ أَيِ الْقَصْدُ بِهِ وَالِانْتِهَاءُ بِهِ إِلَيْكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ وَالْعَمَلُ لَكَ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ زَادَ ابْنُ عُمَرَ فِي التَّلْبِيَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ التَّحَرِّي لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَيِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، أَجَابَ الْأَبِيُّ بِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَيْسَتْ نَسْخًا، وَأَنَّ الشَّيْءَ وَحْدَهُ كَذَلِكَ هُوَ مَعَ غَيْرِهِ فَزِيَادَتُهُ لَا تَمْنَعُ مِنْ إِتْيَانِهِ بِتَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ فَهِمَ عَدَمَ الْقَصْرِ عَلَى أُولَئِكَ الْكَلِمَاتِ، وَأَنَّ الثَّوَابَ يَتَضَاعَفُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ، وَاقْتِصَارُ الْمُصْطَفَى بَيَانٌ لِأَقَلِّ مَا يَكْفِي.
وَأَجَابَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ خَلْطُ السُّنَّةِ
بِغَيْرِهَا، بَلْ لَمَّا أَتَى بِمَا سَمِعَهُ ضَمَّ إِلَيْهِ ذِكْرًا آخَرَ فِي مَعْنَاهُ، وَبَابُ الْأَذْكَارِ لَا تَحْجِيرَ فِيهِ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى تَحْرِيفِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الذِّكْرَ خَيْرُ مَوْضُوعٍ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ حَسَنٌ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ هَذَا الَّذِي زَادَهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ فِي دُعَاءِ اسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ:" «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» "، انْتَهَى.
وَالْجَوَابَانِ مُتَقَارِبَانِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ عُمَرُ يُهِلُّ بِإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ إِلَى آخِرِ مَا زَادَهُ هُنَا.
قَالَ الْحَافِظُ: فَعُرِفَ أَنَّهُ اقْتَدَى بِأَبِيهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: كَانَتْ تَلْبِيَةُ عُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرْفُوعِ، وَزَادَ: لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا وَمَرْهُوبًا إِلَيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ انْتَهَى.
وَقَدِ اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ الِاقْتِصَارَ عَلَى تَلْبِيَةِ الرَّسُولِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا وَكَرَاهَتِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُمُ التَّلْبِيَةَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ ثُمَّ فَعَلَهَا هُوَ، وَلَمْ يَقُلْ: لَبُّوا بِمَا شِئْتُمْ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا، بَلْ عَلَّمَهُمْ كَمَا عَلَّمَهُمُ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى فِي ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا عَلِمَهُ.
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ وَمَا هَكَذَا كُنَّا نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ لِفِعْلِ عُمَرَ وَابْنِهِ.
وَفِي النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُلَبِّي بِغَيْرِهَا وَلَهُ وَلِابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "«كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ» ".
وَلِلْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَلَمَّا قَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ: إِنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الْآخِرَةِ» "، وِلِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْعِلَلِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ:" «لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا» "، وَفِي مُسْلِمٍ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ عَنْ جَابِرٍ «حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ» إِلَى آخِرِهِ.
قَالَ: وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ تَلْبِيَتَهُ.
وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا» ، وَفِي ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ.
وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى تَلْبِيَةِ الرَّسُولِ أَفْضَلُ لِمُدَاوَمَتِهِ هُوَ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، وَأَمَّا عَدَمُ نَهْيِهِمْ عَنِ الزِّيَادَةِ فَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْمَنْعُ، كَمَا أَنَّ زِيَادَتَهُ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّلْبِيَةِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَيَجْزِي عِنْدَهُ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ كَمَا قَالَهُ هُوَ أَنَّ التَّسْبِيحَ وَغَيْرَهُ يَقُومُ فِي الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ مَقَامَ التَّكْبِيرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: سُنَّةٌ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَأَوْجَبُ مَالِكٌ فِي تَرْكِهَا الدَّمَ وَلَمْ يُوجِبْهُ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بِوُجُوبِهَا ابْنُ حَبِيبٍ وَالْبَاجِيُّ، وَقَالَ: قَوْلُ أَصْحَابِنَا سُنَّةٌ مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَجِّ وَإِلَّا فَهِيَ
وَاجِبَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ فِي تَرْكِهَا الدَّمَ فَهِيَ وَاجِبَةٌ غَيْرُ شَرْطٍ فَهُوَ فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ وَاجِبَةٌ شَرْطًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَهُ لَفْظُهَا بَلْ يَكْفِي مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ ذِكْرٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ زِيَادَةَ ابْنِ عُمَرَ، وَتَابَعَ مَالِكًا اللَّيْثُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
739 -
732 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) مُرْسَلٌ وَصَلَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» ) سُنَّةَ الْإِحْرَامِ، فَفِيهِ صَلَاتُهُمَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَأَنَّهَا نَافِلَةٌ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَاسْتَحَبَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ صَلَاةِ فَرْضٍ لِأَنَّهُ رَوَى أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتَا الصُّبْحَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ.
( «فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ» )، وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:«اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً» ، (أَهَلَّ) أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِحْرَامِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُهِلَّ إِذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَتَوَجَّهَ لِطَرِيقِهِ مَاشِيًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْأَفْضَلُ عَقِبَ الصَّلَاةِ لِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ» "، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَالْمُنْذِرِيُّ وَإِنْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ لِأَنَّ فِيهِ خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ «بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
740 -
733 - (مَالِكٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ بَيْدَاؤُكُمْ) بِالْمَدِّ، (هَذِهِ) الَّتِي فَوْقَ عَلَمَيْ ذِي الْحُلَيْفَةِ لِمَنْ صَعِدَ الْوَادِي قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ كَذَبُوا بِسَبَبِهَا كَذِبًا يَحْصُلُ لَهَا بِهِ الشَّرَفُ، (الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا) أَيْ بِسَبَبِهَا فَفِي لِلتَّعْلِيلِ نَحْوَ:{لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32](سُورَةُ يُوسُفَ: الْآيَةُ 32)، {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14] (سُورَةُ النُّورِ: الْآيَةُ 14)، وَحَدِيثِ:" «دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» "، فَتَقُولُونَ: إِنَّهُ أَحْرَمَ مِنْهَا وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهَا، (مَا أَهَلَّ) وَلِلْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ بِسَنَدِهِ: «وَاللَّهِ مَا أَهَلَّ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ) » ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُوسَى:" «مَا أَهَلَّ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ حِينَ قَامَ بِهِ بِعِيرُهُ وَلَا خُلْفَ فَالشَّجَرَةُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ» "، قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُنْكِرُ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: " «رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ» "، وَقَدْ أَزَالَ الْإِشْكَالَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: عَجِبْتُ لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِهْلَالِهِ فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ فَمِنْ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا، «خَرَجَ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْهُمَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوْمٌ فَحَفِظُوهُ، ثُمَّ رَكِبَ فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَسَمِعُوهُ حِينَ ذَاكَ فَقَالُوا: إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ قَوْمٌ لَمْ يُشْهَدُوهُ فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا سَمِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ إِهْلَالُهُ فِي مُصَلَّاهُ وَأَيْمُ اللَّهِ ثُمَّ أَهَلَّ ثَانِيًا وَثَالِثًا» .
فَعَلَى هَذَا كَانَ إِنْكَارُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَنْ يَخُصُّ الْإِهْلَالَ بِالْقِيَامِ عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ، وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ انْتَهَى.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ زَالَ بِهِ الْإِشْكَالُ لَكِنْ فِيهِ خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّاوِي عَنْهُ مُدَلِّسٌ، وَفِيهِ مَقَالٌ وَإِنْ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْمُنْذِرِيُّ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ كَمَا مَرَّ.
وَعَلَى تَسْلِيمِ تَوْثِيقِ خُصَيْفٍ وَتِلْمِيذِهِ فَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً.
وَقَالَ عِيَاضٌ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِنَا الْكَذِبُ الْعَمْدُ، فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمْ سَهْوًا إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِ نِسْبَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَحِلُّ، وَبَسَطَ هَذَا الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ فَقَالَ: إِنْ قُلْتَ كَيْفَ جَعَلَهُمْ كَاذِبِينَ مَعَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ بِاجْتِهَادٍ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الْخَطَأُ.
قُلْتُ: الْكَذِبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ عَمْدًا كَانَ أَوْ غَلَطًا أَوْ سَهْوًا وَالْعَمْدُ شَرْطٌ لِلْإِثْمِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي جَعْلِهِ شَرْطًا فِي صِدْقِ اسْمِ الْكَذِبِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ يَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا الذَّمُّ، وَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومِينَ بَلْ مَشْكُورُونَ لِصُدُورِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ.
قُلْتُ: أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ التَّنْفِيرَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَتَشْنِيعَهَا عَلَى قَائِلِهَا لِيَحْذَرَ مَعَ صِدْقِ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِنْكَارِ كَوْنِهِ أَهَلَّ أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى الْبَيْدَاءِ إِذْ هُوَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلْإِحْرَامِ السَّابِقِ.
قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ إِنْكَارَ كَوْنِ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ وَقَعَ عِنْدَ الْبَيْدَاءِ لَا لِكَوْنِهِ أَهَلَّ عِنْدَهَا، فَقَوْلُهُ: مَا أَهَلَّ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ إِهْلَالًا مَخْصُوصًا وَهُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ الْإِحْرَامَ انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ مِنْ
دُوَيْرَةِ الْأَهْلِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحْرِمْ مِنْ مَسْجِدِهِ مَعَ شَرَفِهِ الْمَعْلُومِ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَحَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ مُسْلِمٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قَالَ وَمَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا الْأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
741 -
734 - (مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كَيْسَانَ (الْمَقْبُرِيِّ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ) بِتَصْغِيرِهِمَا التَّيْمِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ الْمَكِّيِّ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ نَسَبٌ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ هَذَا عَمُّهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ لِأَنَّ عُبَيْدًا وَسَعِيدًا تَابِعِيَّانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، (أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةُ ابْنِ عُمَرَ، (رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا) مِنَ الْخِصَالِ (لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ) أَيْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ (يَصْنَعُهَا) مُجْتَمِعَةً، وَإِنْ كَانَ يَصْنَعُ بَعْضَهَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ.
وَظَاهِرُ السِّيَاقِ انْفِرَادُ ابْنِ عُمَرَ بِمَا كَانَ ذَكَرَ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ رَآهُمْ عُبَيْدٌ، (قَالَ: وَمَا هُنَّ يِابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنَ الْأَرْكَانِ) الْأَرْبَعَةِ لِلْكَعْبَةِ (إِلَّا) الرُّكْنَيْنِ (الْيَمَانِيَّيْنِ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ لِأَنَّ الْأَلْفَ بَدَلٌ مِنْ إِحْدَى يَائَيِ النَّسَبِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَفِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ تَشْدِيدُهَا عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ زَائِدَةٌ لَا بَدَلٌ وَالْمُرَادُ بِهِمَا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ وَالرُّكْنُ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَهُوَ الْعِرَاقِيُّ لِأَنَّهُ إِلَى جِهَتِهِ تَغْلِيبًا، وَلَمْ يَقَعِ التَّغْلِيبُ بِاعْتِبَارِ الْأَسْوَدِ خَوْفَ الِاشْتِبَاهِ عَلَى جَاهِلٍ، وَلَمْ يَقَعْ بِاعْتِبَارِ الْعِرَاقِيَّيْنِ لِخِفَّةِ الْيَمَانِيَّيْنِ، وَالتَّخْفِيفُ مِنْ مُحَسِّنَاتِ التَّغْلِيبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ غَيْرَ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَآهُمْ عُبَيْدٌ كَانُوا يَسْتَلِمُونَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَجَابِرٍ.
(وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ، (النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَفَوْقِيَّةٍ أَيِ الَّتِي لَا شَعَرَ فِيهَا مُشْتَقٌّ مِنَ السِّبْتِ وَهُوَ الْحَلْقُ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، أَوْ لِأَنَّهَا سُبِتَتْ بِالدِّبَاغِ أَيْ لَانَتْ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: السِّبْتُ كُلُّ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: جُلُودُ الْبَقَرِ مَدْبُوغَةً أَمْ لَا، أَوْ نَوْعٌ مِنَ الدِّبَاغِ يَقْلَعُ الشَّعَرَ، أَوْ جِلْدُ الْبَقَرِ الْمَدْبُوغُ بِالْقَرَظِ، وَقِيلَ: بِالسُّبْتِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ نَبْتٌ يُدْبَغُ بِهِ قَالَهُ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: سُوقُ السِّبْتِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: كَانَتْ سَوْدَاءَ لَا شَعَرَ فِيهَا، وَقِيلَ هِيَ الَّتِي لَا شَعَرَ عَلَيْهَا أَيَّ لَوْنٍ كَانَتْ، وَمِنْ أَيِّ جِلْدٍ كَانَتْ، وَبِأَيِّ دِبَاغٍ
دُبِغَتْ.
وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ اشْتِقَاقَهَا وَإِضَافَتَهَا إِلَى السِّبْتِ الَّذِي هُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ أَوْ إِلَى الدِّبَاغَةِ لِأَنَّ السِّينَ مَكْسُورَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ مِنَ السَّبْتِ الَّذِي هُوَ الْحَلْقُ كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ لَكَانَتِ النِّسْبَةُ سَبْتَيَّةٌ بِالْفَتْحِ، وَلَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَا فِي الشِّعْرِ فِيمَا عَلِمْتُ إِلَّا بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ لُبْسُ النِّعَالِ بِشَعَرِهَا غَيْرَ مَدْبُوغَةٍ، وَكَانَتِ الْمَدْبُوغَةُ تُعْمَلُ بِالطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَيَلْبَسُهَا أَهْلُ الرَّفَاهِيَةِ.
(وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا، (بِالصُّفْرَةِ) ثَوْبَكَ أَوْ شَعَرَكَ، (وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ) مُسْتَقِرًّا (بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ) أَيْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ لِلْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، (إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ) أَيْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، (وَلَمْ تُهْلِلْ) بِلَامَيْنِ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ (أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ) أَيْ يُوجَدَ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ أَيْ وُجِدَ (يَوْمُ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ يَكُونُ التَّامَّةِ وَالنَّصْبِ خَبَرٌ عَلَى أَنَّهَا نَاقِصَةٌ، (التَّرْوِيَةِ) ثَامِنُ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَرْوُونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ أَيْ يَحْمِلُونَهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَرَفَاتٍ لِيَسْتَعْمِلُوهُ شُرْبًا وَغَيْرَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
(فَتُهِلَّ أَنْتَ) وَتَبَيَّنَ مِنْ جَوَابِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُهِلُّ حَتَّى يَرْكَبَ قَاصِدًا إِلَى مِنًى (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ)، وَفِي رِوَايَةٍ: يَسْتَلِمُ مِنْهَا (إِلَّا) الرُّكْنَيْنِ (الْيَمَانِيَّيْنِ) بِالتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ وَمَسُّهُمَا وَاسْتِلَامُهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَالْعِرَاقِيُّ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِلَامُهُ بِالتَّقْبِيلِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِنْ قَدَرَ وَإِلَّا فَبِيَدِهِ أَوْ بِعُودٍ ثُمَّ وَضْعِهِ عَلَى فِيهِ بِلَا تَقْبِيلٍ، وَالْيَمَانِيُّ مَسُّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ بِلَا تَقْبِيلٍ، وَلَا يَمَسُّهُ بِفِيهِ بِخِلَافِ الشَّامِيَّيْنِ فَلَيْسَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَلَمْ يَمَسَّهُمَا فَالْعِلَّةُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَابِسِيُّ: لَوْ أُدْخِلَ الْحَجَرُ فِي الْبَيْتِ حَتَّى عَادَ الشَّامِيَّانِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ اسْتُلِمَا، قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَلِذَا لَمَّا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ عَلَى قَوَاعِدِهِ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَالَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ سَلَفًا وَخَلَفًا أَنَّ الشَّامِيَّيْنِ لَا يُسْتَلَمَانِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ وَالْفُقَهَاءُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبَعْضِ التَّابِعِينَ ثُمَّ ذَهَبَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اخْتِصَاصُ الرُّكْنَيْنِ بُيِّنَ بِالسُّنَّةِ وَمُسْتَنَدُ التَّعْمِيمِ الْقِيَاسُ، وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا بِأَنَّا لَمْ نَدَعِ اسْتِلَامَهُمَا هَجْرًا لِلْبَيْتِ، وَكَيْفَ يَهْجُرُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِهِ؟ وَلَكِنَّا نَتَّبِعُ السُّنَّةَ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِهِمَا هَجْرًا لَهُمَا لَكَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِ مَا بَيْنَ الْأَرْكَانِ هَجْرًا لَهَا وَلَا قَائِلَ بِهِ.
(وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ» ) أَشَارَ إِلَى تَفْسِيرِهَا
بِذَلِكَ وَهَكَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهَا الَّتِي لَا شَعَرَ فِيهَا.
(وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا) أَيِ النِّعَالِ أَيْ يَتَوَضَّأُ وَيَلْبَسُهَا وَرِجْلَاهُ رَطْبَتَانِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
(فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهُمَا) اقْتِدَاءً بِهِ، ( «وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا» )، قَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ: الْمُرَادُ صَبْغُ الشَّعَرِ، وَقِيلَ: صَبْغُ الثَّوْبِ، قَالَ: وَالْأَشْبَهُ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَبَغَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَبَغَ شَعَرَهُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَيَّنَ فِيهَا تَصْفِيرَ ابْنِ عُمَرَ لِحْيَتَهُ، وَاحْتَجَّ «بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ احْتِجَاجَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ حَتَّى عِمَامَتَهُ، وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّا يَتَطَيَّبُ بِهِ لَا أَنَّهُ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا شَعَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ إِلَّا ثِيَابَهُ، وَأَمَّا الْخِضَابُ فَلَمْ يَكُنْ يَخْضِبُ، وَتَعَقَّبَهُ فِي الْمُفْهِمِ بِأَنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ:" «انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ ذُو وَفْرَةٍ وَفِيهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ» "، قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: وَكَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ إِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ الْخِضَابِ فِي لِحْيَتِهِ فَقَطْ.
(وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ) أَيْ تَسْتَوِي قَائِمَةً إِلَى طَرِيقِهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَابَاتِهِ نَصٌّ فِي عَيْنِ مَا سُئِلَ عَنْهُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصٌّ فِي الرَّابِعِ أَجَابَ بِضَرْبٍ مِنَ الْقِيَاسِ، وَوَجَّهَ أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ فِي حَجِّهِ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ إِنَّمَا يُهِلُّ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ أَخَّرَ هُوَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُبْتَدَأُ فِيهِ بِأَعْمَالِ الْحَجِّ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى مِنًى وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَبْعَدَ مَنْ قَالَ هَذَا قِيَاسٌ بَلْ هُوَ تَمَسُّكٌ بِنَوْعِ الْفِعْلِ الَّذِي رَآهُ يَفْعَلُهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَا رَآهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ كَمَا رَآهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ فَقَطْ، بَلْ رَآهُ أَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَاسَ الْإِحْرَامَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ لِأَنَّهَا مِيقَاتُ الْكَائِنِ بِمَكَّةَ فَأَحْرَمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ التَّوَجُّهِ إِلَى مِنًى وَالشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ قِيَاسًا عَلَى إِحْرَامِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمِيقَاتِ حِينَ تَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ، فَالظَّاهِرُ قَوْلُ الْمَازِرِيُّ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جَاءَ ابْنُ عُمَرَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ نَزَعَ بِهَا فَأَخَذَ بِالْعُمُومِ فِي إِهْلَالِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَخُصَّ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُهِلُّ الْحَاجُّ إِلَّا فِي وَقْتٍ يَتَّصِلُ لَهُ عَمَلُهُ وَقَصْدُهُ إِلَى الْبَيْتِ وَمَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ وَالشَّعَائِرِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ وَاتَّصَلَ لَهُ عَمَلُهُ.
وَوَافَقَ ابْنَ عُمَرَ عَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَحَمَلَ شُيُوخُنَا رِوَايَةَ اسْتِحْبَابِ الْإِهْلَالِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ، وَرِوَايَةَ اسْتِحْبَابِهِ أَوَّلَ الشَّهْرِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي
مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ لِيَحْصُلَ لَهُ مِنَ الشَّعَثِ مَا يُسَاوِي مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْخِلَافُ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْمَذَاهِبِ كَانَ مَوْجُودًا فِي الصَّحَابَةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بِالتَّأْوِيلِ الْمُحْتَمَلِ فِيمَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ وَفِيمَا انْفَرَدَ بَعْضُهُمْ بِعِلْمِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَاخْتَلَفَ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَيْسَ اخْتِلَافُهُمْ بِشَيْءٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْحُجَّةَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ السُّنَّةُ وَأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا وَلَيْسَ مَنْ خَالَفَهَا حُجَّةٌ عَلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَسْتَوْحِشْ مِنْ مُفَارَقَةِ أَصْحَابِهِ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ لَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْجَمَاعَةُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ، وَلَعَلَّكَ وَهِمْتَ، كَمَا يَقُولُ الْيَوْمَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بَلِ انْقَادَ لِلْحَقِّ إِذْ سَمِعَهُ وَهَكَذَا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَفِي اللِّبَاسِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْحَجِّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى وَكُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَرْكَبُ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَحْرَمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
742 -
735 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ) رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ الْإِحْرَامِ، (ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَرْكَبُ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ) قَائِمَةً (أَحْرَمَ) اتِّبَاعًا لِمَا رَآهُ مِنْ فِعْلِ الْمُصْطَفَى لِذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا.
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ» ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَأَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
742 -
736 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ) بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيَّ أَحَدُ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ (أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَأَنَّ أَبَانَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ فَأَلِفٌ فَنُونٌ (ابْنَ عُثْمَانَ) بْنِ عَفَّانَ الْأُمَوِيَّ الْمَدَنِيَّ التَّابِعِيَّ الثِّقَةَ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ، (أَشَارَ عَلَيْهِ) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ (بِذَلِكَ) فَاتَّبَعُوهُ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ اسْتَمَرَّ عَلَى فِعْلِ الْمُصْطَفَى فَيُرَدُّ عَلَى مَنْ قَالَ يَحْرُمُ مِنَ الْبَيْدَاءِ أَوْ عَقِبَ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ.
[بَاب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ مَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ بِالْإِهْلَالِ يُرِيدُ أَحَدَهُمَا»
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ لِتُسْمِعْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا
قَالَ مَالِكٌ لَا يَرْفَعُ الْمُحْرِمُ صَوْتَهُ بِالْإِهْلَالِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ لِيُسْمِعْ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ مِنًى فَإِنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِيهِمَا
قَالَ مَالِكٌ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ التَّلْبِيَةَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ وَعَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
10 -
بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ
أَيِ التَّلْبِيَةِ، وَقَوْلُ عِيَاضٍ: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ تُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ بِالْإِهْلَالِ مَعَ قَوْلِهِ رَفْعِ الصَّوْتِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَاسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ رَفَعَ صَوْتَهُ وَكُلُّ شَيْءٍ ارْتَفَعَ صَوْتُهُ فَقَدِ اسْتَهَلَّ وَبِهِ سُمِّيَ الْهِلَالُ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا كَانَتْ تَعْتَنِي بِالْأَهِلَّةِ لِأَنَّهَا لَا تُؤَرِّخُ بِهَا، وَالْهِلَالُ يُسَمَّى بِذَلِكَ قَبْلَ الْعِنَايَةِ بِالتَّارِيخِ، وَبِأَنَّ جَعْلَ الْإِهْلَالِ مَأْخُوذًا مِنَ الْهِلَالِ أَوْلَى لِقَاعِدَةٍ تَصْرِيفِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ الْأَمْرُ فِي اللَّفْظَيْنِ أَيُّهُمَا أُخِذَ مِنَ الْآخَرِ جُعِلَتِ الْأَلْفَاظُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِلَذَّاتٍ أَصْلًا لِلْأَلْفَاظِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِلْمَعَانِي وَالْهِلَالُ ذَاتٌ فَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِهْلَالُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ فَهُوَ الْفَرْعُ انْتَهَى.
744 -
737 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ مَاتَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ هِشَامٍ (عَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ) الْخَزْرَجِيِّ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ (عَنْ أَبِيهِ) السَّائِبِ بْنِ خَلَّادِ بْنِ سُوِيدٍ أَبِي سَهْلٍ الْمَدَنِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ، وَعَمِلَ عَلَى الْيَمَنِ، وَمَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، (أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي» ) عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَ نَدْبٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَوُجُوبٍ عِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ، (أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ مَنْ مَعِي) بِالشَّكِّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرَّاوِي إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُصْطَفَى قَالَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْآخَرِ، وَتَجْوِيزُ ابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ الشَّكَّ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ نَوْعُ سَهْوٍ وَلَا يُعْصَمُ عَنْهُ رَكِيكٌ مُتَعَسَّفٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ: وَمَنْ مَعِي بِالْوَاوِ، قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ وَبَيَانٍ فَإِنَّ الَّذِينَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِأَصْحَابِهِ الْمُلَازِمِينَ لَهُ الْمُقِيمِينَ مَعَهُ فِي بَلَدِهِ وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَبِمَنْ مَعَهُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَدِمَ لِيَحُجَّ مَعَهُ وَلَمْ يَرَهُ إِلَّا فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: عَطَفَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ مُرَادَهُ الَّذِينَ صَحِبُوهُ وَعَرِفُوا بِهِ لِطُولِ الْمُلَازَمَةِ لَهُ دُونَ مَنْ رَافَقَهُ وَاتَّبَعَهُ فِي وَقْتٍ مَا فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيُفِيدَ أَنَّ مُرَادَهُ كُلُّ مَنْ صَحِبَهُ وَلَوْ فِي وَقْتٍ مَا حَتَّى مَنْ لَمْ يَرَهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُكَلِّمْهُ فَعَطَفَهُمْ عَلَيْهِمْ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ تَعْلِيمِهِمْ، إِذْ مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ أَوِ الْهِجْرَةِ أَحَقُّ بِتَأْكِيدِ
التَّعْرِيفِ بِالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَمَظِنَّةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى خَفَايَا الشَّرِيعَةِ وَدَقَائِقِهَا، (أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ) إِظْهَارًا لِشِعَارِ الْإِحْرَامِ وَتَعْلِيمًا لِلْجَاهِلِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، (أَوْ بِالْإِهْلَالِ) وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ كَمَا مَرَّ فَالتَّصْرِيحُ بِالرَّفْعِ مَعَهُ زِيَادَةُ بَيَانٍ، (يُرِيدُ أَحَدَهُمَا) يَعْنِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ أَحَدَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، لَكِنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ فِيمَا قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَتَى بَأَوِ الَّتِي لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ يُرِيدُ أَحَدَهُمَا.
وَفِي النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِالتَّلْبِيَةِ.
وَفِي ابْنِ مَاجَهْ عَنْهُ بِالْإِهْلَالِ.
وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ مَرْفُوعًا: " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْمُرَ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ» "، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ:" كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَلَبَّى حَتَّى أَسْمَعَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ "، وَلَهُ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:" كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى تُبَحَّ أَصْوَاتُهُمْ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، كَمَا أَفَادَهُ الْمِزِّيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِنَحْوِهِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَإِنِ اخْتُلِفَ عَلَى التَّابِعِيِّ فِي صَحَابِيِّهِ، فَقِيلَ: أَبُوهُ كَمَا هُنَا، وَقِيلَ: زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، وَقِيلَ: عَنْ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ خَلَّادٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَأَرْجُو أَنَّ رِوَايَةَ مَالِكٍ أَصَحُّ انْتَهَى.
وَهُوَ اخْتِلَافٌ لَا يَضُرُّ.
أَمَّا فِي الصَّحَابِيِّ فَلَا مَانِعَ أَنَّ خَلَّادًا سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ وَمِنْ زَيْدٍ، كَمَا أَنَّ أَبَاهُ قَدْ يَكُونُ سَمِعَهُ مِنْ زَيْدٍ ثُمَّ مِنَ الْمُصْطَفَى فَحَدَّثَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَوْ كَانَ السَّائِبُ يُرْسِلُهُ تَارَةً، وَأَمَّا رِوَايَةُ الثَّوْرِيِّ فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ خَلَّادٍ الرَّجُلَانِ وَلِهَذَا لَمْ يَلْتَفِتِ التِّرْمِذِيُّ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ إِلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَصَحَّحُوهُ كَمَا مَرَّ.
(مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ) لِأَنَّهُ يُخْشَى مِنْ صَوْتِهَا الْفِتْنَةُ (لِتُسْمِعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا) فَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ مَعِي فَلَيْسَ لَهُنَّ ذَلِكَ، (قَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْفَعُ الْمَحْرِمُ صَوْتَهُ بِإِهْلَالٍ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ) لِئَلَّا يَخْلِطَ عَلَيْهِمْ (لِيُسْمِعَ
نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ مِنًى فَإِنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِيهِمَا) ، وَوَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ جُعِلَ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ وَغَيْرِهِمَا فَكَانَ الْمُلَبِّي إِنَّمَا يَقْصِدُ إِلَيْهِ فَكَانَ وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَسْجِدُ مِنًى.
(قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ التَّلْبِيَةَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ) وَلَوْ نَافِلَةً، (وَعَلَى كُلِّ شَرَفٍ) مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ (مِنَ الْأَرْضِ) ، وَكَذَا يُنْدَبُ لِقِيَامٍ وَقُعُودٍ وَنُزُولٍ وَرُكُوبٍ وَصُعُودٍ وَهُبُوطٍ وَمُلَاقَاةِ رِفَاقٍ وَسَمَاعِ مُلَبٍّ، وَفِي تَلْبِيَةِ مَنْ رَجَعَ لِشَيْءٍ نَسِيَهُ فِي رُجُوعِهِ رِوَايَتَانِ.
[بَاب إِفْرَادِ الْحَجِّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَّلَ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يُحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
11 -
بَابُ إِفْرَادِ الْحَجِّ
هُوَ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ فِي أَشْهُرِهِ اتِّفَاقًا وَفِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ عِنْدَ مُجِيزِهِ، وَالِاعْتِمَارُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِمَنْ شَاءَ.
746 -
738 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ نَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الْأَسَدِيِّ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ عَلَّامَةٌ بِالْمَغَازِي، مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَتْ عَمْرَةُ عَنْهَا، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا يَأْتِي فِي الْمُوَطَّأِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْهَا فِي شَهْرِ الْحَجِّ، وَفِيهِمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا مُوَافِينَ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، (عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهَا، (فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) فَقَطْ، (وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ) جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَكَانَ قَارِنًا، (وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ) مُفْرِدًا، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا رِوَايَةَ عَمْرَةَ الْآتِيَةَ عَنْهَا وَالْأَسْوَدِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا:" «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ» "، وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ
عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا: " مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ "، وَلِمُسْلِمٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْهَا:" لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ "، وَلَهُ أَيْضًا:" مُلَبِّينَ بِالْحَجِّ "، فَظَاهِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا مُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا كَانُوا يَعْهَدُونَهُ مِنْ تَرْكِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَخَرَجُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَجَّ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَ الْإِحْرَامِ وَجَوَّزَ لَهُمُ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَمَّا عَائِشَةُ نَفْسُهَا فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ وَابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَتْ:" وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ "، فَادَّعَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ عُرْوَةَ وَأَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الْأَسْوَدِ وَالْقَاسِمِ وَعَمْرَةَ عَنْهَا أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَ عُرْوَةَ عَنْهَا أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ صَرِيحٌ، وَقَوْلُ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ عَنْهَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ لَيْسَ صَرِيحًا فِي إِهْلَالِهَا بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيطِ عُرْوَةَ وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِهَا وَقَدْ وَافَقَهُ جَابِرٌ الصَّحَابِيُّ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَكَذَا رَوَاهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ، وَجُمِعَ أَيْضًا بِاحْتِمَالِ أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا كَمَا صَنَعَ غَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ حَدِيثُ الْأَسْوَدِ وَمَنْ وَافَقَهُ، ثُمَّ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ مَا صَنَعُوا فَصَارَتْ مُتَمَتَّعَةً، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ حَدِيثُ عُرْوَةَ ثُمَّ لَمَّا دَخَلَتْ مَكَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ، وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى الطَّوَافِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ، أَمَرَهَا أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ.
( «وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ» ) عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، (فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةِ فَحَلَّ) لَمَّا وَصَلَ مَكَّةَ وَأَتَى بِأَعْمَالِهَا وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسُقْ مَعَهُ هَدْيًا، أَمَّا مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ هُوَ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ لَا يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ.
(وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) مُفْرِدًا (أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) قَارِنًا (فَلَمْ يُحِلُّوا) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِ الْحَاءِ، يُقَالُ: حَلَّ الْمُحْرِمُ وَأَحَلَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، (حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ) فَحَلُّوا، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ خَمْسَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
747 -
739 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ) عَمَّتِهِ (عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ» ) ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي مُسْلِمٍ، وَرَوَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا عُمَرُ فِي الْبُخَارِيِّ، وَأَنَسٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعِمْرَانُ بْنُ حَصِينٍ فِي مُسْلِمٍ، وَالْبَرَاءُ فِي أَبِي دَاوُدَ، وَعَلِيُّ فِي النَّسَائِيِّ، وَسُرَاقَةُ وَأَبُو طَلْحَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبُو سَعِيدٍ وَقَتَادَةُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي الْبُخَارِيِّ، وَجُمِعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلًا مُفْرِدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَدْخَلَهَا عَلَى الْحَجِّ، فَعُمْدَةُ رُوَاةِ الْإِفْرَادِ أَوَّلُ الْإِحْرَامِ، وَعُمْدَةُ رُوَاةِ الْقِرَانِ آخِرُهُ.
وَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا كَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَعِمْرَانَ فِي مُسْلِمٍ فَأَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَقَدِ انْتَفَعَ بِالِاكْتِفَاءِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَبِهَذَا الْجَمْعِ تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ وَيَأْتِي زِيَادَةٌ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فِي أَيِّهَا أَفْضَلُ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمِ الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ وَرُجِّحَ الْإِفْرَادُ بِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مَزِيَّةٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا جَابِرٌ فَهُوَ أَحْسَنُ الصَّحَابَةِ سِيَاقًا لِحَدِيثِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا مِنْ حِينِ خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى آخِرِهَا فَهُوَ أَضْبَطُ لَهَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ أَنَسٍ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُكَشَّفَاتُ الرُّءُوسِ وَإِنِّي كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّنِي لُعَابُهَا أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ.
وَأَمَّا عَائِشَةُ فَقُرْبُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْرُوفٌ وَكَذَلِكَ اطِّلَاعُهَا عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ وَظَاهِرِهِ وَفِعْلِهِ فِي خَلْوَتِهِ وَعَلَانِيَتِهِ مَعَ كَثْرَةِ فِقْهِهَا وَعَظِيمِ فِطْنَتِهَا.
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَالْفَهْمِ الثَّاقِبِ مَعْرُوفٌ مَعَ كَثْرَةِ بَحْثِهِ وَتَحَفُّظِهِ أَحْوَالَهُ صلى الله عليه وسلم الَّتِي لَمْ يَحْفَظْهَا غَيْرُهُ وَأَخْذُهُ إِيَّاهَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَبِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَاظَبُوا عَلَى الْإِفْرَادِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَاخْتُلِفَ عَنْ عَلِيٍّ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ وَعَلِمُوا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَجَّ مُفْرِدًا لَمْ يُوَاظِبُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي عَصْرِهِمْ وَبَعْدَهُمْ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى خِلَافِ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا الْخِلَافُ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا فَعَلُوهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ وَعَمِلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِأَحَدِهِمَا وَتَرَكَا الْآخَرَ دَلَّ ذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا عَمِلَا بِهِ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَرَاهَةُ الْإِفْرَادِ وَكَرِهَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا التَّمَتُّعَ حَتَّى فَعَلَهُ عَلِيٌّ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَبِأَنَّ الْإِفْرَادَ لَا يَجِبُ فِيهِ دَمٌ بِإِجْمَاعٍ بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ فَفِيهِمَا الدَّمُ لِجُبْرَانِ النَّقْصِ بِلَا شَكٍّ لِأَنَّ الصِّيَامَ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلَوْ كَانَ دَمَ نُسُكٍ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ كَالْأُضْحِيَةِ.
وَأَجَابُوا عَنْ أَحَادِيثِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ بِأَنَّهَا مُئَوَّلَةٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِمَا فَنُسِبَا إِلَيْهِ لِذَلِكَ نَحْوَ: بَنَى الْأَمِيرُ الْمَدِينَةَ.
وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ قَرْنُهُمَا بِالْفِعْلِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النور: 56](سُورَةُ النُّورِ: الْآيَةُ 56) ، وَبَسْطُ الْجِدَالِ يَطُولُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ سَتَّتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حَجْرِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ»
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهِلَّ بَعْدَهُ بِعُمْرَةٍ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
748 -
740 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ) مَالِكٌ (وَكَانَ يَتِيمًا فِي حَجْرِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) وَلِذَا اشْتُهِرَ بِيَتِيمِ عُرْوَةَ، (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ (عَنْ) خَالَتِهِ (عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ» ) ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَحَلَّلَ مِنْهُ بِمِنًى، وَلَمْ يَعْتَمِرْ تِلْكَ السَّنَةَ كَمَا قِيلَ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَنْ رَجَّحَ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا كَمَا فِي الْفَتْحِ، وَأَعَادَ الْإِمَامُ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا كَأَنَّهُ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي الْأَسْوَدِ بِالْوَجْهَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ مُخْتَصَرًا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي صِفَةِ حَجِّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ مُشَاهَدَةٍ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ عِيَاضٌ: أَجَابَ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ثُمَّ الْمُهَلَّبُ أَخُوهُ وَابْنُ الْمُرَابِطِ وَابْنُ الْقَصَّارِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ بِمَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لِلنَّاسِ فِعْلَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِيَدُلَّ عَلَى جَوَازِ جَمِيعِهَا، إِذْ لَوْ أَمَرَ بِوَاحِدٍ لَظُنَّ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَجْزِي، فَأُضِيفَ الْجَمِيعُ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَأَبَاحَهُ لَهُ وَنَسَبَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِمَّا لِأَمْرِهِ بِهِ وَإِمَّا لِتَأْوِيلِهِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِحْرَامُهُ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ فَأَخْذٌ بِالْأَفْضَلِ فَأَحْرَمَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ وَبِهِ تَظَاهُرُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَمَعْنَاهَا أَمَرَ بِهِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ بِأَنْ كَانَ قَارِنًا فَلَيْسَ إِخْبَارًا عَنِ ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ بَلْ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ حِينَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ حَجِّهِمْ وَقَلْبِهِ إِلَى عُمْرَةٍ لِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَكَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ فِي آخِرِ إِحْرَامِهِمْ قَارِنِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَدْخَلُوا الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُوَاسَاةً لِأَصْحَابِهِ وَتَأْنِيسًا لَهُمْ فِي فِعْلِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْكَرَةً عِنْدَهُمْ فِي أَشْهُرِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّحَلُّلُ مَعَهُمْ بِسَبَبِ الْهَدْيِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي تَرْكِ مُوَاسَاتِهِمْ
فَصَارَ صلى الله عليه وسلم قَارِنًا فِي آخِرِ أَمْرِهِ.
وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَشَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَمَنَعَهُ وَقَالَ: لَا يَدْخُلُ إِحْرَامٌ عَلَى إِحْرَامٍ كَمَا لَا تَدْخُلُ صَلَاةٌ عَلَى صَلَاةٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَجَعَلُوا هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِضَرُورَةِ الِاعْتِمَارِ حِينَئِذٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَمَنْ قَالَ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَيْ تَمَتَّعَ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفَعَلَهَا مَعَ الْحَجِّ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ فَانْتَظَمَتِ الْأَحَادِيثُ وَاتَّفَقَتْ، وَلَا يَبْعُدُ رَدُّ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ فِعْلٍ مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَالْإِفْرَادُ إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلِهِمْ أَوَّلًا، وَالْقِرَانُ إِخْبَارٌ عَنْ إِحْرَامِ الَّذِينَ مَعَهُمْ هَدْيٌ بِالْعُمْرَةِ ثَانِيًا، وَالتَّمَتُّعُ لِفَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ ثُمَّ إِهْلَالِهِمْ بِالْحَجِّ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا كَمَا فَعَلَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَقَوْلُ بَعْضِ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا مُنْتَظِرًا مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ إِفْرَادٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَمَتُّعٍ ثُمَّ أُمِرَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أُمِرَ بِالْعُمْرَةِ مَعَهُ فِي وَادِي الْعَقِيقِ بِقَوْلِهِ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ بِخِلَافِهِ مَعَ صِحَّتِهَا.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ أَنْعَمَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ وَأَجَادَ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: مَعْلُومٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ جَوَازُ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْآمْرِ كَالْفَاعِلِ لِحَدِيثِ رَجَمَ صلى الله عليه وسلم مَاعِزًا، وَقَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ مِنْهُمُ الْمُفْرِدُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَالْقَارِنُ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْخُذُ عَنْهُ أَمْرَ نُسُكِهِ وَيَصْدُرُ عَنْ تَعْلِيمِهِ، فَجَازَ أَنْ تُضَافَ كُلُّهَا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا وَأَذِنَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَهُ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ، فَحَكَى أَنَّهُ أَفْرَدَ وَخَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَعُمْرَةٍ فَلَمْ يَحْكِ إِلَّا مَا سَمِعَ، وَسَمِعَ أَنَسٌ وَغَيْرُهُ الزِّيَادَةَ وَلَا يُنْكَرُ قَبُولُهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّنَاقُضُ لَوْ كَانَ الزَّائِدُ نَافِيًا لِقَوْلِ صَاحِبِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَثْبَتَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ فَلَا تَنَاقُضَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَهُ يَقُولُ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ فَيَقُولُ لَهُ قُلْ: لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّلْقِينِ، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ ظَاهِرًا لَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا سَهْلٌ كَمَا ذَكَرْنَا انْتَهَى.
وَقِيلَ: أَهَلَّ أَوَّلًا بِالْحَجِّ مُفْرِدًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ فَيَجْعَلُوهُ عُمْرَةً وَفَسَخَ مَعَهُمْ وَمَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَتِهِ الْمَذْكُورَةِ سَوْقُ الْهَدْيِ فَاسْتَمَرَّ مُعْتَمِرًا حَتَّى أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا حَتَّى تَحَلَّلَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا وَآخِرًا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.
(مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ مَنْ أَهَلَّ) أَحْرَمَ (بِحَجٍّ مُفْرَدٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهِلَّ بَعْدَهُ بِعُمْرَةٍ) يُرْدِفُهَا عَلَيْهِ، (فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) لِضَعْفِهَا وَقُوَّتِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) الْمَدِينَةِ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ دَاخِلَةٌ فِي
أَعْمَالِ الْحَجِّ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِرْدَافِهَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ عَكْسِهِ فَيَسْتَفِيدُ بِهِ الْوُقُوفَ وَالرَّمْيَ وَالْمَبِيتَ.
[بَاب الْقِرَانِ فِي الْحَجِّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ دَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالسُّقْيَا وَهُوَ يَنْجَعُ بَكَرَاتٍ لَهُ دَقِيقًا وَخَبَطًا فَقَالَ هَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَلَى يَدَيْهِ أَثَرُ الدَّقِيقِ وَالْخَبَطِ فَمَا أَنْسَى أَثَرَ الدَّقِيقِ وَالْخَبَطِ عَلَى ذِرَاعَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ أَنْتَ تَنْهَى عَنْ أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَالَ عُثْمَانُ ذَلِكَ رَأْيِي فَخَرَجَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا وَهُوَ يَقُولُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا
قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهِ شَيْئًا وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ وَيَحِلَّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
12 -
بَابُ الْقِرَانِ فِي الْحَجِّ
مَصْدَرُ قَرَنَ، وَهُوَ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، أَوِ الْإِهْلَالُ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَيْهَا الْحَجَّ أَوْ عَكْسُهُ وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
750 -
741 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ) الصَّادِقِ (ابْنِ مُحَمَّدٍ) الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ) مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُدْرِكِ الْمِقْدَادَ وَلَا عَلِيًّا لَكِنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ بِنَحْوِهِ، (أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ) الصَّحَابِيَّ الشَّهِيرَ الْبَدْرِيَّ (دَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالسُّقْيَا) بِضَمِّ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ مَقْصُورٍ، قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِعُسْفَانَ، (وَهُوَ يَنْجَعُ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَعَيْنٍ مُهْمِلَةٍ مِنْ نَجَعَ كَمَنَعَ، وَبِضَمِّ أَوَّلِهُ وَكَسْرِ الْجِيمِ مِنْ أَنْجَعَ أَيْ يَسْقِي، (بَكَرَاتٍ لَهُ) جَمْعُ بَكْرَةٍ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَلَدُ النَّاقَةِ أَوِ الْفَتِيُّ مِنْهَا أَوِ الثَّنِيُّ إِلَى أَنْ يُجْذِعَ، أَوِ ابْنُ الْمَخَاضِ إِلَى أَنْ يُثَنِّيَ، أَوِ ابْنُ اللَّبُونِ أَوِ الَّذِي لَمْ يَبْزُلْ (دَقِيقًا وَخَبَطًا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَرَقٌ يُنْفَضُ بِالْمَخَابِطِ وَيُجَفَّفُ وَيُطْحَنُ وَيُخْلَطُ بِدَقِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُوخَفُ بِالْمَاءِ وَيُسْقَى لِلْإِبِلِ، وَيُقَالُ: نَجَعْتُ الْبَعِيرَ إِذَا سَقَيْتَهُ الْمَدِيدَ وَهُوَ أَنْ يَسْقِيَهُ الْمَاءَ بِالْبَزْرِ أَوِ السِّمْسِمِ أَوِ الدَّقِيقِ، وَاسْمُ الْمَدِيدِ النَّجُوعُ.
(فَقَالَ) الْمِقْدَادُ لَعَلِيٍّ: (هَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (يَنْهَى عَنْ أَنْ يُقْرَنَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ أَيِ الْإِنْسَانُ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، أَوْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَالنَّائِبُ قَوْلُهُ (بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَلَى يَدَيْهِ أُثَرُ الدَّقِيقِ وَالْخَبَطِ) لِاسْتِعْجَالِهِ لِأَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْهِ نَهْيُهُ عَنْ أَمْرٍ أَبَاحَهُ الْمُصْطَفَى، (فَمَا أَنْسَى أَثَرَ الدَّقِيقِ وَالْخَبَطِ عَلَى ذِرَاعَيْهِ) فَأَطْلَقَ الْيَدَيْنِ أَوَّلًا عَلَى مَا يَشْمَلُ الذِّرَاعَيْنِ (حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ: أَنْتَ تَنْهَى عَنْ أَنْ يُقْرَنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَوِ الْفَاعِلِ أَيِ الْإِنْسَانُ (بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟) ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ عَلِيٌّ: " مَا تُرِيدُ إِلَى أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا عَنْكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ "، (فَقَالَ عُثْمَانُ: ذَلِكَ رَأْيِي فَخَرَجَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا) لِأَنَّ مُعَارَضَةَ النَّصِّ بِالرَّأْيِ شَدِيدَةٌ عِنْدَهُمْ، (وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا) ، وَلِلنَّسَائِيِّ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ عُثْمَانُ:" تَرَانِي أَنْهَى النَّاسَ وَأَنْتَ تَفْعَلُهُ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ أَدَعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ "، وَلِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا: مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ عُثْمَانَ رَجَعَ عَنِ النَّهْيِ وَلَفْظُهُ، فَلَبَّى عَلِيٌّ فَلَمْ يَنْهَهُمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمَتَّعَ؟ قَالَ: بَلَى.
وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ أَيْ عُثْمَانُ: بَلَى وَلَكِنْ كُنَّا خَائِفِينَ.
قَالَ الْحَافِظُ: هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، فَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَهُمَا أَعْلَمُ مِنِ ابْنِ شَقِيقٍ فَلَمْ يَقُولَا ذَلِكَ، وَالتَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ إِنَّمَا كَانَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَا خَوْفَ فِيهَا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كُنَّا آمَنَ مَا يَكُونُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ " خَائِفِينَ " أَيْ: مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَفْرَدَ أَكْثَرَ أَجْرًا مِمَّنْ تَمَتَّعَ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ عَلَى بُعْدِهِ انْتَهَى.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ قَالَ: مَا كُنْتُ أَدَعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ، فَفِيهِ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ مَعًا، أَوْ عَطْفٌ مُسَاوٍ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى الْقِرَانِ تَمَتُّعًا لِأَنَّ الْقَارِنَ يَتَمَتَّعُ بِتَرْكِ السَّفَرِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي قِصَّةِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مِنَ الْفَوَائِدِ إِشَاعَةُ الْعَالِمِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَإِظْهَارُهُ، وَمُنَاظَرَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ فِي تَحْقِيقِهِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ لِقَصْدِ مُنَاصَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَيَانُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَوْلِ، وَجَوَازُ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ النَّصِّ، لِأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ جَوَازُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا لِيُعْمَلَ بِالْأَفْضَلِ كَمَا وَقَعَ لِعُمْرَ، لَكِنْ خَشِيَ عَلِيٌّ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرُهُ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ فَأَشَاعَ جَوَازَ ذَلِكَ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُلْزِمُ مُجْتَهِدًا آخَرَ بِتَقْلِيدِهِ لِعَدَمِ إِنْكَارِ عُثْمَانَ مَعَ أَنَّهُ الْإِمَامُ حِينَئِذٍ عَلَى عَلِيِّ رضي الله عنهما.
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا أَوْ أَرْدَفَهُ بِطَوَافِهَا (لَمْ يَأْخُذْ مَنْ شَعَرِهِ شَيْئًا وَلَمْ يَحْلِلْ) بِكَسْرِ اللَّامِ (مِنْ شَيْءٍ) لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ (حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ وَيَحِلَّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ) بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَقَطْ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحْلِلْ وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلُّوا»
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ مَعَهَا فَذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ قَالَ إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ
قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ أَهَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
751 -
742
- (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ نَوْفَلٍ أَبِي الْأَسْوَدِ يَتِيمِ عُرْوَةَ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) أَحَدِ الْفُقَهَاءِ التَّابِعِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ) أَرْسَلَهُ سُلَيْمَانُ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ وَصَلَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ) » فِي تِسْعِينَ أَلْفًا، وَيُقَالُ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَيُقَالُ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا فِي عِدَّةِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، وَأَمَّا الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ فَأَكْثَرُ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ وَالَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الْيَمَنِ مَعَ عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى وَفِي حَدِيثٍ:" «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَ هَذَا الْبَيْتَ أَنْ يَحُجَّهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ فَإِنْ نَقَصُوا كَمَّلَهُمُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ» "، قَالَ الْحَافِظُ فِي تَسْدِيدِ الْقَوْسِ: هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَلَمْ يُخْرِجْهُ شَيْخُنَا الْعِرَاقِيُّ.
(فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) مُفْرَدٍ وَهُمْ أَكْثَرُهُمْ، (وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) قَرَنَ بَيْنَهُمَا، (وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) فَقَطْ، (فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحْلِلْ) حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، (وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلُّوا) لَمَّا طَافُوا وَسَعَوْا وَحَلَقُوا أَوْ قَصَّرُوا مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا بِإِجْمَاعٍ، وَمَنْ سَاقَهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ قِيَاسًا عَلَى مَنْ لَمْ يَسُقْهُ، وَلِأَنَّهُ يُحِلُّ مِنْ نُسُكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: لَا يُحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ لِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيَتَحَلَّلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يُحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ» "، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا قَالُوهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُخْتَصَرَةٌ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْآتِيَةِ فِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» "، فَهَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِلْمَحْذُوفِ مِنْ تِلْكَ، وَتَقْدِيرُهَا: وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِاتِّحَادِ الْقِصَّةِ وَالرَّاوِي.
(مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ مَعَهَا فَذَلِكَ) جَائِزٌ (لَهُ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَ) يَسْعَى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، فَإِنْ طَافَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْهِ
فَلَيْسَ لَهُ الْإِرْدَافُ وَلَا يَنْعَقِدُ وَأَوْلَى إِنْ سَعَى لَهَا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا دَمَ لِأَنَّهُ كَالْعَدَمِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ بَعْدَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ حِلَاقِهَا، لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحَجِّ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، فَلَوْ حَلَقَ وَجَبَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَفِدْيَةٌ.
(وَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ قَالَ) كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ: (إِنْ صُدِدْتَ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّحَلُّلِ حِينَ حُصِرْنَا بِالْحُدَيْبِيَةِ، زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ: فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ.
(ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ) مُخْبِرًا لَهُمْ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ نَظَرُهُ (مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ) بِالرَّفْعِ أَيْ فِي حُكْمِ الْحَصْرِ فَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ فِي الْعُمْرَةِ مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةٍ بِوَقْتٍ فَهُوَ فِي الْحَجِّ أَجْوَزُ، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ، (أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ) فَأَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهَا وَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ وَإِنَّمَا أَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْإِعْلَامَ لِمَنْ يُرِيدُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، (قَالَ) ابْنُ عُمَرَ مُحْتَجًّا عَلَى إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، (وَقَدْ أَهَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ بَعْضُهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ:(عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ) لَهُمْ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ) الَّتِي أَهَلَّ بِهَا أَيْ يُدْخِلُهَا عَلَيْهَا، (ثُمَّ لَا يَحِلُّ) مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ (حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) يَوْمَ النَّحْرِ بِتَمَامِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ.
[بَاب قَطْعِ التَّلْبِيَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ «وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَانَ يُهِلُّ الْمُهِلُّ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
13 -
بَابُ قِطْعِ التَّلْبِيَةِ
753 -
743 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَوْفٍ الثَّقَفِيِّ) الْحِجَازِيِّ الثِّقَةِ، وَلَيْسَ لَهُ عَنْ
أَنَسٍ وَلَا غَيْرِهِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ (أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ) جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ ذَاهِبَانِ غَدْوَةً (مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ) أَيْ مِنَ الذِّكْرِ طُولَ الطَّرِيقِ (فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) وَأَسْلَمُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قُلْتُ لِأَنَسٍ غَدَاةَ عَرَفَةَ: مَا تَقُولُ فِي التَّلْبِيَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟ (قَالَ: كَانَ يُهِلُّ الْمُهِلُّ مِنَّا) أَيْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، (فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: لَا يَعِيبُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ مِنَّا الْمُلَبِّي وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ» .
(وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فِيهِمَا أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ كَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَاقْتَصَرَ الْحَافِظُ عَلَى الثَّانِي.
قَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْغُدُوِّ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ التَّلْبِيَةُ فَقَطْ.
وَحَكَى الْمُنْذِرِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ التَّكْبِيرِ عَلَى التَّلْبِيَةِ بَلْ عَلَى جَوَازِهِ فَقَطْ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ تَقْرِيرُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّكْبِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الصَّرِيحُ عَلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ لِمُدَاوَمَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ تَكْبِيرَهُ هَذَا كَانَ ذِكْرًا يَتَخَلَّلُ التَّلْبِيَةَ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ لَهَا وَفِيهِ بُعْدٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْعِيدِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ:«كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَدَاةِ عَرَفَةِ فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ وَمِنَّا الْمُهِلُّ، فَأَمَّا نَحْنُ فَنُكَبِّرُ» ، قَالَ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَعَجَبًا مِنْكُمْ كَيْفَ لَمْ تَقُولُوا لَهُ مَاذَا رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ يَصْنَعُ؟ وَأَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بِذَلِكَ الْوُقُوفَ عَلَى الْأَفْضَلِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ مِنْ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ فَأَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَا كَانَ يَصْنَعُ هُوَ لِيَعْرِفَ الْأَفْضَلَ مِنْهُمَا وَالَّذِي كَانَ يَصْنَعُهُ هُوَ التَّلْبِيَةُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يُلَبِّي فِي الْحَجِّ حَتَّى إِذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ
قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
754 -
744 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) جَدَّهُ الْأَعْلَى وَفِيهِ
انْقِطَاعٌ لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا (كَانَ يُلَبِّي فِي الْحَجِّ حَتَّى إِذَا زَاغَتْ) زَالَتْ (الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ) أَيْ فِعْلُ عَلِيٍّ (الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ) أَيِ اسْتَمَرَّ (عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَقَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ» " ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يَقْطَعُهَا مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُلَبِّي إِلَى فَرَاغِ رَمْيِهَا لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ حَدِيثَ الْفَضْلِ: " «لَبَّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» "، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ الْفَضْلِ:" «أَفَضْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مَعَ آخِرِ حَصَاةٍ» " قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُفَسِّرٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ أَيْ أَتَمَّ رَمْيَهَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَانَتْ تَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَجَعَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
755 -
745 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ) عَمَّتِهِ (عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَانَتْ تَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَجَعَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ) بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَفِي فِعْلِهَا وَفِعْلِ عَلِيٍّ ذَلِكَ - وَهُمَا بِالْمَكَانَةِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ الْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، قَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ التَّلْبِيَةَ إِجَابَةٌ فَهُوَ يُجِيبُ إِلَى الْأَخْذِ فِي انْتِهَاءِ الْمَنَاسِكِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ عَلَى مَا بَيَّنَ عليه السلام.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَغْدُوَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ فَإِذَا غَدَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ وَكَانَ يَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
756 -
746 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ) وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ (حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَ) يَسْعَى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ) بَعْدَ السَّعْيِ (يُلَبِّي حَتَّى يَغْدُوَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ فَإِذَا غَدَا) أَيْ ذَهَبَ (تَرَكَ التَّلْبِيَةَ) ، هَذَا فِي الْحَجِّ
(وَكَانَ يَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ) ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُحْرِمِ مِنَ الْمِيقَاتِ كَمَا يَأْتِي.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يُلَبِّي وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
757 -
747 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يُلَبِّي وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي الطَّوَافِ، وَلِذَا كَرِهَهَا ابْنُهُ سَالِمٌ وَمَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُقْتَدَى بِهِ يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ إِلَّا عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ سِرًّا وَأَحْمَدُ، وَكَانَ رَبِيعَةُ يُلَبِّي إِذَا طَافَ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ مُلَبِّيًا حَتَّى يَبْلُغَ الْغَايَةَ الَّتِي يَكُونُ إِلَيْهَا اسْتَجَابَتُهُ وَهِيَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ مِنْ عَرَفَةَ بِنَمِرَةَ ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إِلَى الْأَرَاكِ قَالَتْ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُهِلُّ مَا كَانَتْ فِي مَنْزِلِهَا وَمَنْ كَانَ مَعَهَا فَإِذَا رَكِبَتْ فَتَوَجَّهَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ تَرَكَتْ الْإِهْلَالَ قَالَتْ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَعْتَمِرُ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ ثُمَّ تَرَكَتْ ذَلِكَ فَكَانَتْ تَخْرُجُ قَبْلَ هِلَالِ الْمُحَرَّمِ حَتَّى تَأْتِيَ الْجُحْفَةَ فَتُقِيمَ بِهَا حَتَّى تَرَى الْهِلَالَ فَإِذَا رَأَتْ الْهِلَالَ أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
758 -
748 - (مَالِكٌ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ) بِلَالٍ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ عَلَّامَةٌ (عَنْ أُمِّهِ) مَرْجَانَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ تُكَنَّى أُمَّ عَلْقَمَةَ، مَقْبُولَةٌ الرِّوَايَةِ، (عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ مِنْ عَرَفَةَ بِنَمِرَةَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، مَوْضِعٌ قِيلَ: مِنْ عَرَفَاتٍ، وَقِيلَ: بِقُرْبِهَا خَارِجٌ عَنْهَا، (ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إِلَى الْأَرَاكِ) مَوْضِعٌ بِعَرَفَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ (قَالَتْ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُهِلُّ) تُلَبِّي (مَا كَانَتْ فِي مَنْزِلِهَا) الْمَوْضِعِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، (وَ) يُهِلُّ (مَنْ كَانَ مَعَهَا فَإِذَا رَكِبَتْ فَتَوَجَّهَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ) بِعَرَفَةَ (تَرَكَتِ الْإِهْلَالَ) التَّلْبِيَةَ، (قَالَتْ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَعْتَمِرُ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ) كَمَا فَعَلَتْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، (ثُمَّ تَرَكَتْ ذَلِكَ فَكَانَتْ تَخْرُجُ قَبْلَ هِلَالِ الْمُحَرَّمِ حَتَّى تَأْتِيَ الْجُحْفَةَ فَتُقِيمَ بِهَا حَتَّى تَرَى الْهِلَالَ فَإِذَا رَأَتِ الْهِلَالَ أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ) فَتَأْتِي مَكَّةَ تَفْعَلُ الْعُمْرَةَ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْمَدِينَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 197) فَيُسْتَحَبُّ
تَخْلِيصُ أَشْهُرِهِ كُلِّهَا لِلْحَجِّ، وَخُرُوجُهَا لِلْجُحْفَةِ لِفَضْلِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَالْإِحْرَامُ مِنَ التَّنْعِيمِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ وَالْمِيقَاتُ أَفْضَلُ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ غَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ مِنًى فَسَمِعَ التَّكْبِيرَ عَالِيًا فَبَعَثَ الْحَرَسَ يَصِيحُونَ فِي النَّاسِ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا التَّلْبِيَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
759 -
749 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الْإِمَامَ الْعَادِلَ (غَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ مِنًى فَسَمِعَ التَّكْبِيرَ عَالِيًا فَبَعَثَ الْحَرَسَ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ حَارِسٍ أَيِ الْأَعْوَانَ (يَصِيحُونَ) يَصْرُخُونَ (فِي النَّاسِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا التَّلْبِيَةُ) فَلَا تُبَدِّلُوهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ كَبَّرَ يَوْمَئِذٍ لِبَيَانِ الْجَوَازِ.
[بَاب إِهْلَالِ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَا شَأْنُ النَّاسِ يَأْتُونَ شُعْثًا وَأَنْتُمْ مُدَّهِنُونَ أَهِلُّوا إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
14 -
بَابُ إِهْلَالِ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ
760 -
750 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَا شَأْنُ النَّاسِ يَأْتُونَ شُعْثًا) مُغْبَرِّينَ مُتَلَبِّدِينَ لِعَدَمِ التَّعَاهُدِ بِالدُّهْنِ وَنَحْوِهِ لِأَجْلِ إِحْرَامِهِمْ، (وَأَنْتُمْ مُدَّهِنُونَ) عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ إِحْرَامِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كَانَ بَعِيدُ الدَّارِ أَشْعَثَ لِأَجْلِ الْقُدُومِ عَلَى الدَّارِ فَأَوْلَى أَهْلُهَا كَمَا قَالَ (أَهِلُّوا إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ) أَيْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ عُمَرَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فَكَانَ يُهِلُّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَبِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ وَالْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ إِذْ يَجُوزُ كُلٌّ بِإِجْمَاعٍ كَمَا مَرَّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَقَامَ بِمَكَّةَ تِسْعَ سِنِينَ وَهُوَ يُهِلُّ بِالْحَجِّ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ
قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا يُهِلُّ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ بِالْحَجِّ إِذَا كَانُوا بِهَا وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَرَمِ
قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ بِالْحَجِّ فَلْيُؤَخِّرْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى وَكَذَلِكَ صَنَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ مَكَّةَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِالطَّوَافِ قَالَ أَمَّا الطَّوَافُ الْوَاجِبُ فَلْيُؤَخِّرْهُ وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيَطُفْ مَا بَدَا لَهُ وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ كُلَّمَا طَافَ سُبْعًا وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ فَأَخَّرُوا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَكَانَ يُهِلُّ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَيُؤَخِّرُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَلْ يُهِلُّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ قَالَ بَلْ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ فَيُحْرِمُ مِنْه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
761 -
751 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ (أَقَامَ بِمَكَّةَ تِسْعَ
سِنِينَ وَهُوَ) خَلِيفَةٌ (يُهِلُّ بِالْحَجِّ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ) لِيَحْصُلَ لَهُ مِنَ الشَّعَثِ مَا يُسَاوِي مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ (وَ) شَقِيقُهُ (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ) ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا يُهِلُّ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ بِالْحَجِّ إِذَا كَانُوا بِهَا) ، فَإِذَا كَانُوا بِغَيْرِهَا وَأَرَادُوا الْحَجَّ أَحْرَمُوا مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي يَمُرُّونَ بِهِ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَحَلِّ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ، (وَ) إِنَّمَا يُهِلُّ (مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ) مُتَعَلِّقٌ بِـ يُهِلُّ أَيْ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ مِنْهَا، وَنُدِبَ الْمَسْجِدُ، (لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ) لِلْحِلِّ لِأَنَّهُ سَيَخْرُجُ لَهُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ فِي إِحْرَامِهِ، (وَمَنْ أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ بِالْحَجِّ فَلْيُؤَخِّرِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ طَوَافَ الْحَجِّ الْفَرْضِ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ (وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) لِيُوقِعَهُ عَقِبَ الطَّوَافِ (حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى) يَوْمَ النَّحْرِ، (وَكَذَلِكَ صَنَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ) مِنَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ (مِنْ مَكَّةَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِالطَّوَافِ؟ قَالَ: أَمَّا الطَّوَافُ الْوَاجِبُ) وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ (فَلْيُؤَخِّرْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أَيْ يَأْتِي بِهِ عَقِبَهُ بِلَا فَصْلٍ، (وَلْيَطُفْ مَا بَدَا لَهُ) مِنَ الطَّوَافِ النَّفْلِ، (وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ كُلَّمَا طَافَ سُبْعًا) بِضَمِّ السِّينِ، (وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ) مِنْ مَكَّةَ (فَأَخَّرُوا الطَّوَافَ) الْوَاجِبَ (بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى رَجَعُوا مِنْ مِنًى) بَيَانٌ لِمَا أَفَادَهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ، (وَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَكَانَ يُهِلُّ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ) لَا يُعَارِضُهُ مَا مَرَّ عَنْهُ مُسْنَدًا أَنَّهُ كَانَ يُهِلُّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ
أَيْ ثَامِنَ الْحَجَّةِ، وَاحْتُجَّ لَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفِعْلِ النَّبَوِيِّ، لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الْأَمْرَيْنِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كَانَ لَا تُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ.
وَفِي الْفَتْحِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى التَّوْسِعَةَ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ نَافِعٍ: " أَهَلَّ ابْنُ عُمَرَ مَرَّةً بِالْحَجِّ حِينَ رَأَى الْهِلَالَ، وَمَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ الْهِلَالِ مِنْ جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَمَرَّةً أُخْرَى حِينَ رَاحَ إِلَى مِنًى "، وَرَوَى أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ:" قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَهْلَلْتَ فِينَا إِهْلَالًا مُخْتَلِفًا، قَالَ: أَمَّا أَوَّلُ عَامٍ، فَأَخَذْتُ مَأْخَذَ أَهْلِ بَلَدِي، ثُمَّ نَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا أَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي حَرَامًا، وَأَخْرُجُ حَرَامًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كُنَّا نَفْعَلُ، قُلْتُ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَأْخُذُ؟ قَالَ: نُحْرِمُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ "
(وَيُؤَخِّرُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى) ، فَيَطُوفُ، وَيَسْعَى.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَلْ يُهِلُّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ؟ قَالَ: بَلْ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ، فَيُحْرِمُ مِنْهُ) ; لِأَنَّ شَرْطَ الْإِحْرَامِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَامِ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا يُزَارُ الْحَرَمُ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ، كَمَا يُزَارُ الْمَزُورُ فِي بَيْتِهِ مِنْ غَيْرِ بَيْتِهِ. قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
[بَاب مَا لَا يُوجِبُ الْإِحْرَامَ مِنْ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ الْهَدْيُ «وَقَدْ بَعَثْتُ بِهَدْيٍ فَاكْتُبِي إِلَيَّ بِأَمْرِكِ أَوْ مُرِي صَاحِبَ الْهَدْيِ قَالَتْ عَمْرَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
15 -
بَابُ مَا لَا يُوجِبُ الْإِحْرَامَ مِنْ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ
762 -
752 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ) بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ، (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَنْصَارِيَّةِ، (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ) ، أَيْ عَبْدَ اللَّهِ، (أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) بْنِ حَرْبٍ، قَالَ الْحَافِظُ: كَانَ شَيْخُ مَالِكٍ حَدَّثَ بِهِ كَذَلِكَ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَمَا كَانَ يُقَالُ لَهُ إِلَّا زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ، وَقِيلَ: اسْتِلْحَاقُ مُعَاوِيَةَ لَهُ، كَانَ يُقَالُ لَهُ: زِيَادُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ سُمَيَّةُ - مَوْلَاةُ الْحَارِثِ بْنِ كَلْدَةَ الثَّقَفِيِّ - تَحْتَ عُبَيْدٍ الْمَذْكُورِ، فَوَلَدَتْ لَهُ زِيَادًا عَلَى فِرَاشِهِ، فَكَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، شَهِدَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِقْرَارِ أَبِي سُفْيَانَ بِأَنَّ زِيَادًا وَلَدَهُ، فَاسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ لِذَلِكَ، وَزَوَّجَ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ، وَأَمَّرَ زِيَادًا عَلَى الْعِرَاقَيْنِ: الْبَصْرَةِ، وَالْكُوفَةِ، جَمَعَهُمَا لَهُ، وَمَاتَ فِي خِلَافَتِهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ.
وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ،
وَهُوَ وَهْمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْغَسَّانِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَجَمِيعُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى مُسْلِمٍ، وَالصَّوَابُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ أَنَّ زِيَادًا (كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِهَا (قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا) ، أَيْ بَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، (حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ) مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ (حَتَّى يُنْحَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، (الْهَدْيُ) بِالرَّفْعِ، نَائِبُ الْفَاعِلِ، (وَقَدْ بَعَثْتُ بِهَدْيٍ، فَاكْتُبِي إِلَيَّ بِأَمْرِكِ، أَوْ مُرِي صَاحِبَ الْهَدْيِ) ، أَيِ الَّذِي مَعَهُ الْهَدْيُ بِمَا يَصْنَعُ، وَكَأَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهَا لَمَّا بَلَغَهُ إِنْكَارُهَا عَلَيْهِ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَقِيلَ لَهَا إِنَّ زِيَادًا إِذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ أَمْسَكَ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ، حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَوَلَهُ كَعْبَةٌ يَطُوفُ بِهَا؟ (قَالَتْ عَمْرَةُ) بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ (قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ) - بِفَتْحِ الدَّالِ وَشَدِّ الْيَاءِ - وَفِي رِوَايَةٍ بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَفِيهِ رَفْعٌ مَجَازٌ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ أَنَّهَا فَتَلَتْ بِأَمْرِهَا، (ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ) الشَّرِيفَةِ، (ثُمَّ بَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ - تُرِيدُ أَبَاهَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَأَفَادَتْ أَنَّ وَقْتَ الْبَعْثِ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ عَامَ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ بِذَلِكَ عِلْمَهَا بِجَمِيعِ الْقِصَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ أَنَّهُ آخِرُ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ حَجَّ فِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ، فَأَرَادَتْ إِزَالَةَ هَذَا اللَّبْسِ، وَأَكْمَلَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا:(فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، فَأَصْبَحَ فِينَا حَلَالًا يَأْتِي مَا يَأْتِي الْحَلَالُ مِنْ أَهْلِهِ، (حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ وَانْقَضَى أَمْرُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ، وَبُعْدُ ذَلِكَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى فِي وَقْتِ الشُّبْهَةِ، فَلَأَنْ تَنْتَفِيَ عِنْدَ انْتِفَائِهَا أَوْلَى، وَحَاصِلُ اعْتِرَاضِهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَاسَ التَّوْلِيَةَ فِي أَمْرِ الْهَدْيِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ لَهُ، فَبَيَّنَتْ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ لَا اعْتِبَارَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ ابْنُ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَآخَرُونَ لِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّ قَمِيصَهُ
مِنْ جَيْبِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ رِجْلَيْهِ، وَقَالَ: إِنِّي أَمَرْتُ بِبُدْنِي الَّتِي بَعَثْتُ بِهَا أَنْ تُقَلَّدَ الْيَوْمَ، وَتُشْعَرَ عَلَى مَكَانِ كَذَا فَلَبِسْتُ قَمِيصِي، وَنَسِيتُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَخْرُجَ مِنْ قَمِيصِي مِنْ رَأْسِي» " وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.
وَقَدْ جَاءَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ كَشَفَ الْعَمَاءَ عَنِ النَّاسِ، وَبَيَّنَ لَهُمُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ عَائِشَةُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنْ عَمْرَةَ عَنْهَا، وَقَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّاسَ قَوْلُهَا أَخَذُوا بِهِ، وَتَرَكُوا فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ تَنَاوُلُ الْكَبِيرِ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُهْتَمُّ بِهِ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْ إِقَامَةِ الشَّرَائِعِ، وَأُمُورِ الدِّيَانَةِ، وَفِيهِ تَعَقَّبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَرُدَّ الِاجْتِهَادُ بِالنَّصِّ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم التَّأَسِّي بِهِ حَتَّى تَثْبُتَ الْخُصُوصِيَّةُ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْوَكَالَةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الَّذِي يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ وَيُقِيمُ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَأَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا مَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
763 -
753 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الَّذِي يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ، وَيُقِيمُ، هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؟ فَأَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: «لَا يَحْرُمُ إِلَّا مَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى» ) ، وَإِلَى ذَلِكَ صَارَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ إِلَّا الْجِمَاعَ لَيْلَةَ جَمْعٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ النُّسُكَ، صَارَ بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ مُحْرِمًا، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، قَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَأَمَّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَلَّدَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَصِيرُ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ مُحْرِمًا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِمْ، فَالطَّحَاوِيُّ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُ، وَلَعَلَّ الْخَطَّابِيَّ ظَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مُتَجَرِّدًا بِالْعِرَاقِ فَسَأَلَ النَّاسَ عَنْهُ فَقَالُوا إِنَّهُ أَمَرَ بِهَدْيِهِ أَنْ يُقَلَّدَ فَلِذَلِكَ تَجَرَّدَ قَالَ رَبِيعَةُ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ بِدْعَةٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ خَرَجَ بِهَدْيٍ لِنَفْسِهِ فَأَشْعَرَهُ وَقَلَّدَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَمْ يُحْرِمْ هُوَ حَتَّى جَاءَ الْجُحْفَةَ قَالَ لَا أُحِبُّ ذَلِكَ وَلَمْ يُصِبْ مَنْ فَعَلَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ الْهَدْيَ وَلَا يُشْعِرَهُ إِلَّا عِنْدَ الْإِهْلَالِ إِلَّا رَجُلٌ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَيَبْعَثُ بِهِ وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ
وَسُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَخْرُجُ بِالْهَدْيِ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَقَالَ نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ
وَسُئِلَ أَيْضًا عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْإِحْرَامِ لِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ مِمَّنْ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ فَقَالَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي نَأْخُذُ بِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِهَدْيِهِ ثُمَّ أَقَامَ فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ هَدْيُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
764 -
754 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ، (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) ، تَيْمِ قُرَيْشٍ، (عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ) - بِضَمِّ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ - (أَنَّهُ
رَأَىَ رَجُلًا) ، هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ (مُتَجَرِّدًا بِالْعِرَاقِ) ، أَيِ الْبَصْرَةِ، (فَسَأَلَ النَّاسَ عَنْهُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ أَمَرَ بِهَدْيِهِ أَنْ يُقَلَّدَ، فَلِذَلِكَ تَجَرَّدَ، قَالَ رَبِيعَةُ: فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) ، أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ، وَهِيَ خَالَتُهُ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ السُّنَّةَ خِلَافُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ اعْتَمَدَ الْقِيَاسَ، وَهُوَ لَا يُعْتَبَرُ فِي مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الثَّقَفِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ رَبِيعَةَ، أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ مُتَجَرِّدًا عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ، فَذَكَرَهُ، فَعُرِفَ اسْمُ الْمُبْهَمِ، وَتُعُيِّنَ خُصُوصُ الْمَحَلِّ مِنَ الْعِرَاقِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ خَرَجَ بِهَدْيٍ لِنَفْسِهِ، فَأَشْعَرَهُ، وَقَلَّدَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) - مِيقَاتُ الْمَدِينَةِ - (وَلَمْ يُحْرِمْ هُوَ حَتَّى جَاءَ الْجُحْفَةَ) - مِيقَاتُ الشَّامِ وَمِصْرَ - وَنَحْوِهِمَا، (قَالَ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ فَعَلَهُ) ، أَيْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ إِنْ كَانَ مِيقَاتُهُ الْمَدِينَةَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَعَدِّيهِ حِلًّا، وَإِنْ كَانَ مِيقَاتُهُ الْجُحْفَةَ، فَقَدَ أَفَاتَ نَفْسَهُ الْفَضِيلَةَ، (وَ) أَخْطَأَ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ (لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ الْهَدْيَ، وَلَا يُشْعِرَهُ إِلَّا عِنْدَ الْإِهْلَالِ) اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، (إِلَّا رَجُلٌ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ، فَيَبْعَثُ بِهِ، وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ) ، كَفِعْلِهِ، صلى الله عليه وسلم.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ يَخْرُجُ بِالْهَدْيِ غَيْرُ مُحْرِمٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) ، أَيْ يَجُوزُ، لَكِنْ لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الْمِيقَاتَ إِلَّا وَهُوَ مُحْرِمٌ، إِلَّا أَنْ لَا يُرِيدَ دُخُولَ مَكَّةَ.
(وَسُئِلَ أَيْضًا عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْإِحْرَامِ)، أَيِ: التَّجَرُّدِ (لِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ مِمَّنْ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ) ، كَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُوَافِقِيهِ، (فَقَالَ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ (الَّذِي نَأْخُذُ بِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ - أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِهَدْيِهِ، ثُمَّ أَقَامَ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، حَتَّى نُحِرَ هَدْيُهُ» )
بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلِ، أَيْ: نَحَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْحُجَّةُ، عِنْدَ الِاخْتِلَافِ خُصُوصًا، وَقَدْ صَحِبَهَا عَمَلُ الْمَدِينَةِ.
[بَاب مَا تَفْعَلُ الْحَائِضُ فِي الْحَجِّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ الَّتِي تُهِلُّ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ إِنَّهَا تُهِلُّ بِحَجِّهَا أَوْ عُمْرَتِهَا إِذَا أَرَادَتْ وَلَكِنْ لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهِيَ تَشْهَدُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا مَعَ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا تَقْرَبُ الْمَسْجِدَ حَتَّى تَطْهُرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
16 -
بَابُ مَا تَفْعَلُ الْحَائِضُ فِي الْحَجِّ
765 -
755 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يَقُولُ: الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ) ، أَوِ النُّفَسَاءُ، (الَّتِي تُهِلُّ) ، تُحْرِمُ (بِالْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ إِنَّهَا) - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - (تُهِلُّ بِحَجِّهَا، أَوْ عُمْرَتِهَا، إِذَا أَرَادَتْ، وَلَكِنْ لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ) ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، (وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، أَيْ وَلَا تَسْعَى، فَهُوَ مِنْ بَابِ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَطُوفُ مَجَازًا، (وَهِيَ تَشْهَدُ) : تَحْضُرُ (الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا) عَرَفَةَ، وَغَيْرَهَا (مَعَ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، لِأَنَّ السَّعْيَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَقَدُّمِ طَوَافٍ قَبْلَهُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الطَّوَافُ امْتَنَعَ السَّعْيُ لِأَجْلِهِ، لَا لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي السَّعْيِ، إِذْ لَا تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْكَافَّةِ إِلَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْمَجْدِ بْنِ تَيْمِيَةَ، رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ.
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَطَاءٍ قَوْلَيْنِ، فِي مَنْ بَدَأَ بِالسَّعْيِ قَبْلَ الطَّوَافِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ:" «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ، قَالَ: طُفْ وَلَا حَرَجَ» " وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُجْزِيهِ، وَأَوَّلُوا حَدِيثَ أُسَامَةَ عَلَى مَنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ.
(وَلَا تَقْرَبَ الْمَسْجِدَ حَتَّى تَطْهُرَ) - بِسُكُونِ الطَّاءِ، أَوْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَشَدِّ الْهَاءِ أَيْضًا عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ - أَيْ: حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا، وَتَغْتَسِلَ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا سَيَأْتِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا:" «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى تَطْهُرِي» ".
[بَاب الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَامَ الْقَضِيَّةِ وَعَامَ الْجِعِرَّانَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
17 -
بَابُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
767 -
756 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ جَابِرٍ، ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ» ) - بِالتَّخْفِيفِ أَفْصَحُ مِنَ التَّشْدِيدِ - فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرَ الْهَدْيَ بِهَا، وَحَلَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِي عَدِّهِمْ لَهَا عُمْرَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا عُمْرَةٌ تَامَّةٌ.
(وَعَامَ الْقَضِيَّةِ)، وَتُسَمَّى: عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ، وَالْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَاضَى قُرَيْشًا فِيهَا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَيُقِيمَ ثَلَاثًا، لَا أَنَّهَا وَقَعَتْ قَضَاءً عَنِ الْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَتَا عُمْرَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُجِبِ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ قَضَاءٌ عَنْهَا، وَتَسْمِيَةُ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعُ السَّلَفِ إِيَّاهَا بِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِهِ.
(وَعَامَ الْجِعْرَانَةِ) - بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَخِفَّةِ الرَّاءِ - عِنْدَ الْأَصْمَعِيِّ، وَصَوَّبَهُ الْخَطَّابِيُّ - وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَشَدِّ الرَّاءِ - بَيْنَ الطَّائِفِ، وَمَكَّةَ حِينَ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَّا ثَلَاثًا إِحْدَاهُنَّ فِي شَوَّالٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
767 -
757 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) ، مُرْسَلٌ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، كِلَاهُمَا، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَّا ثَلَاثًا» ) ، لَا يُخَالِفُ هَذَا الْحَصْرُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْهَا، أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا، وَفِيهِمَا عَنْ أَنَسٍ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا: عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ حَيْثُ رَدُّوهُ، وَمِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ.
وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ: اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَعُدَّ الَّتِي فِي حَجَّتِهِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، بَلْ فِي ذِي الْحِجَّةِ، (إِحْدَاهُنَّ فِي شَوَّالٍ) ، هَذَا مُغَايِرٌ لِقَوْلِهَا، وَلِقَوْلِ أَنَسٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي آخِرِ شَوَّالٍ، وَأَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ:" «لَمْ يَعْتَمِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ» " وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: " «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عُمَرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهَذِهِ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ» "، (وَاثْنَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ) : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ
وَعُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ:" «اعْتَمَرَ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ» " فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعُدَّ الَّتِي فِي حَجَّتِهِ، لِكَوْنِهَا فِي ذِي الْحَجَّةِ، وَحَدِيثُهُ مُقَيَّدٌ بِذِي الْقَعْدَةِ، وَلَمْ يَعُدَّ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْقَعْدَةِ أَوْ عَدَّهَا، وَلَمْ يَعُدَّ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ لِخَفَائِهَا عَلَيْهِ، كَمَا خَفِيَتْ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَرَّشٌ الْكَعْبِيُّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «اعْتَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ: إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ» .
قَالَتْ عَائِشَةُ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ "، زَادَ مُسْلِمٌ: وَابْنُ عُمَرَ يَسْمَعُ، فَمَا قَالَ لَا، وَلَا نَعَمْ، سَكَتَ فَسُكُوتُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوْ نَسِيَ، أَوْ شَكَّ، وَأَنَّهُ رَجَعَ لِصَوَابِهَا، فَلَا يُشْكِلُ بِأَنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِ عَائِشَةَ - النَّافِي - عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - الْمُثْبِتِ - خِلَافُ الْقَاعِدَةِ، وَتَعَسَّفَ مَنْ قَالَ: مُرَادُ ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: فِي رَجَبٍ قَبْلَ هِجْرَتِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنِ احْتَمَلَ، لَكِنَّ قَوْلَهَا: مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ مُطَابَقَةِ رَدِّهَا عَلَيْهِ، وَسُكُوتِهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَتِ الْأَرْبَعَ، وَأَنَّهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَمَا الَّذِي يَمْنَعُهُ أَنْ يُفْصِحَ بِمُرَادِهِ، فَيَرْتَفِعَ الْإِشْكَالُ، وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ: لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَعْتَمِرُونَ فِي رَجَبٍ، يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ، فَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُ وَافَقَهُمْ؟ وَهَبْهُ صلى الله عليه وسلم وَافَقَهُمْ فَكَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى مَرَّةٍ؟ وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، عَنْ عَائِشَةَ: "«خَرَجَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ، فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ» " الْحَدِيثَ، فَقَالَ فِي الْهَدْيِ: إِنَّهُ غَلِطَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِنُ أَنَّ قَوْلَهَا: فِي رَمَضَانَ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهَا: خَرَجْتُ، وَالْمُرَادُ: سَفَرُ مَكَّةَ، وَاعْتَمَرَ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، لَكِنْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ، فَلَمْ يَقُلْ فِي رَمَضَانَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ «أَعْتَمِرُ قَبْلَ أَنْ أَحُجَّ فَقَالَ سَعِيدٌ نَعَمْ قَدْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
768 -
758 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ) ، الْمَدَنِيِّ، الصَّدُوقِ، (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، فَقَالَ: أَعْتَمِرُ) - بِتَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ - (قَبْلَ أَنْ أَحُجَّ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: نَعَمْ، قَدِ «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ» ) ثَلَاثَ عُمَرٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَتَّصِلُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ، وَهُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ لِمَنْ شَاءَ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ.
وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَعْتَمِرَ قَبْلَ الْحَجِّ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَقِيتُ ابْنَ عُمَرَ، فَقُلْتُ: إِنَّا لَمْ نَحُجَّ قَطُّ، أَفَنَعْتَمِرُ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَمَا
يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ قَدِ اعْتَمَرَ صلى الله عليه وسلم عُمَرَهُ كُلَّهَا قَبْلَ حَجِّهِ، فَاعْتَمَرْنَا.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ قَدْ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ اعْتِمَارِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ، هَلِ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ، أَوِ التَّرَاخِي؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، إِذْ لَوْ كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا لَوَجَبَ إِذَا أَخَّرَهُ إِلَى سَنَةٍ أُخْرَى، أَنْ يَكُونَ قَضَاءً، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْقَضَاءَ خَاصٌّ بِمَا وُقِّتَ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ مُضَيَّقٍ، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يُعَدُّ تَأْخِيرُهُ قَضَاءٌ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، كَمَا فِي الزَّكَاةِ يُؤَخِّرُهَا بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهَا فَوْرًا، فَإِنَّهُ إِثْمٌ، وَلَا يُعَدُّ أَدَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَاءً، بَلْ هُوَ أَدَاءٌ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَاجِبٌ عَلَى الْكُفَّارِ فَوْرًا، فَلَوْ تَرَاخَى عَنْهُ كَافِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يُعَدُّ ذَلِكَ قَضَاءً، وَنُوزِعَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ تَقْدِيمِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ نَفْيُ الْفَوْرِيَّةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ فَأَذِنَ لَهُ فَاعْتَمَرَ ثُمَّ قَفَلَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَحُجَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
769 -
759 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ) بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ - رَبِيبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ عَلَى الصَّحِيحِ - (اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ، فَأَذِنَ لَهُ، فَاعْتَمَرَ، ثُمَّ قَفَلَ) - رَجَعَ - (إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَحُجَّ) تِلْكَ السَّنَةِ، وَفِي هَذَا، وَمَا سَبَقَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا، أَيْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا مِنْ مُبْتَدَعَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا.
وَلِابْنِ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" «وَاللَّهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ فِي ذِي الْحَجَّةِ، إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ» "، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
[بَاب قَطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ
قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَحْرَمَ مِنْ التَّنْعِيمِ إِنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَرَى الْبَيْتَ
قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَمِرُ مِنْ بَعْضِ الْمَوَاقِيتِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مَتَى يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ قَالَ أَمَّا الْمُهِلُّ مِنْ الْمَوَاقِيتِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ قَالَ وَبَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
18 -
بَابُ قِطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ
770 -
760 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ)
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُعْتَمِرِ مِنَ الْمَوَاقِيتِ كَمَا تَرَى بَعْدُ، لِأَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يُحْرِمُ مِنْ مِيقَاتِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ مَدَنِيٌّ.
(قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَحْرَمَ مِنَ التَّنْعِيمِ)، زَادَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَوِ الْجِعْرَانَةِ، أَوْ نَحْوِهِمَا (أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَرَى الْبَيْتَ)، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: يَقْطَعُ إِذَا دَخَلَ بُيُوتَ مَكَّةَ، أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ.
وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا:«يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» .
وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ أَعَلَّهُ أَبُو دَاوُدَ، فَقَالَ: رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَهَمَّامٌ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا.
(قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَعْتَمِرُ مِنْ بَعْضِ الْمَوَاقِيتِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، مَتَى يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ؟ قَالَ: أَمَّا الْمُهِلُّ مِنَ الْمَوَاقِيتِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ)، زَادَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: ثُمَّ لَا يُعَاوِدُهَا، (قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ) ، تَقَدَّمَ قَرِيبًا رِوَايَتُهُ لِذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، وَعَادَتُهُ إِطْلَاقُ الْبَلَاغِ عَلَى الصَّحِيحِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي التَّمَتُّعِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ حَجَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا يَذْكُرَانِ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ عز وجل فَقَالَ سَعْدٌ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أَخِي فَقَالَ الضَّحَّاكُ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ «فَقَالَ سَعْدٌ قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
19 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّمَتُّعِ
هُوَ عَلَى الْمَعْرُوفِ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ التَّحَلُّلُ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ، وَالْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ: 196) . الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ الْحَجِّ، قَالَ: وَمِنَ التَّمَتُّعِ أَيْضًا الْقِرَانُ، لِأَنَّهُ تَمَتُّعٌ بِسُقُوطِ سَفَرٍ لِلنُّسُكِ الْآخَرِ مِنْ بَلَدِهِ، وَمِنْهُ أَيْضًا: فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، انْتَهَى.
771 -
761 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) ، مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ)، الْهَاشِمِيِّ الْمَدَنِيِّ مَقْبُولٌ (أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ
أَبِي وَقَّاصٍ) ، مَالِكٍ الزُّهْرِيِّ، (وَالضِّحَاكَ بْنَ قَيْسِ) بْنِ خَالِدِ بْنِ وَهْبٍ الْفِهْرَيَّ، الْأَمِيرَ الْمَشْهُورَ، صَحَابِيٌّ قُتِلَ فِي وَقْعَةِ مَرْجِ رَاهِطٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، (عَامَ حَجِّ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ) ، وَكَانَ أَوَّلُ حَجَّةٍ حَجَّهَا بَعْدَ الْخِلَافَةِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَآخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا، سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْمُرَادُ الْأُولَى، لِأَنَّ سَعْدًا مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الصَّحِيحِ.
(وَهُمَا يَذْكُرَانِ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) ، أَيِ الْإِحْرَامَ، بِأَنْ يُحْرِمَ بِهَا فِي أَشْهُرِهِ، (فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ: لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ) ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ: 196) ، فَأَمْرُهُ بِالْإِتْمَامِ يَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ الْإِحْرَامِ إِلَى فَرَاغِ الْحَجِّ، وَمَنْعَ التَّحَلُّلِ، وَالْمُتَمَتِّعُ يَتَحَلَّلُ وَيَسْتَمْتِعُ بِمَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ، (فَقَالَ سَعْدٌ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أَخِي) ، مُلَاطَفَةً، وَتَأْنِيسًا، (فَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ) ، أَيِ التَّمَتُّعِ، رَوَى الشَّيْخَانِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى: كُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ، أَيْ بِجَوَازِ التَّمَتُّعِ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ لَمَّا قَدِمَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ قَالَ: أَنْ نَأْخُذَ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ، قَالَ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وَأَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ.
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَهُ، وَأَصْحَابُهُ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ تَظَلُّوا مُعَرِّسِينَ بِهِنَّ، أَيِ النِّسَاءِ فِي الْأَرَاكِ، ثُمَّ تُرَوِّحُونَ فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ، فَبَيَّنَ عُمَرُ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَرِهَ التَّمَتُّعَ، وَكَانَ مِنْ رَأْيِهِ، عَدَمُ التَّرَفُّهِ لِلْحَاجِّ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَكَرِهَ قُرْبَ عَهْدِهِمْ بِالنِّسَاءِ ; لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ الْبَلَلُ إِلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَنْ بَعُدَ عَهْدُهُ بِهِ، وَمَنْ يَنْفَطِمُ.
(فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ) ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْمُقَدَّمَةُ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ بِالرَّأْيِ، فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ إِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِأَنْوَاعِ الْإِحْرَامِ الثَّلَاثَةِ.
وَأَمَّا فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَجَابَ هُوَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِحْلَالِ لِمَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ: الْمُتْعَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُمَرُ، فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَقِيلَ: الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ الْحَجُّ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَلِذَا كَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَيْهَا كَمَا فِي مُسْلِمٍ، بِنَاءً عَلَى مُعْتَقَدِهِ أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ فِي سَنَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَطْ.
وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]
كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ الثَّانِي، وَهُوَ لِلتَّنْزِيهِ تَرْغِيبًا فِي الْإِفْرَادِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ التَّمَتُّعِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ - وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: " «نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُهَا، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ» "، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، يَعْنِي: عُمَرَ، وَوَقَعَ ذَلِكَ مِنْ عُثْمَانَ أَيْضًا كَمَا مَرَّ، وَلِمُعَاوِيَةَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قِصَّةٌ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَذَلِكَ يُعَكِّرُ عَلَى اسْتِظْهَارِ عِيَاضٍ وَغَيْرِهُ أَنَّ الْمُتْعَةَ الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، هِيَ فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، لَا الْعُمْرَةُ الَّتِي يُحَجُّ بَعْدَهَا، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَتَى عُمَرَ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ ; فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَمُنْقَطِعٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْحُفَّاظُ، وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ وَاللَّهِ لَأَنْ أَعْتَمِرَ قَبْلَ الْحَجِّ وَأُهْدِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
772 -
762 - (مَالِكٌ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ) الْجَزَرِيِّ، نَزِيلُ مَكَّةَ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ، قَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْ أَعْتَمِرَ قَبْلَ الْحَجِّ) فِي أَشْهُرِهِ، (وَأُهْدِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ) ، مُبَالَغَةٌ فِي جَوَازِ التَّمَتُّعِ، وَرَدٌّ عَلَى أَبِيهِ، وَعُثْمَانَ فِي كَرَاهَتِهِ.
وَفِي الْمُوَازِيَةِ: عَنْ مَالِكٍ مَا يُعْجِبُنِي قَوْلُ ابْنُ عُمَرَ هَذَا، وَإِفْرَادُ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، أَحَبُّ إِلَيَّ صَرُورَةً كَانَ أَوْ غَيْرَ صَرُورَةٍ قِيلَ: كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ مِنَ الْإِفْرَادِ، وَكَذَا تَأَوَّلَهُ أَبُو عَبِيدٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ إِلَى الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ، لِيَأْتِيَ أَوَّلًا بِمَا عَنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 27) ، وَتَكُونُ الْعُمْرَةُ تَبَعًا، وَلَا يَكُونُ الْحَجُّ تَبَعًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يُدْرِكَهُ الْحَجُّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إِنْ حَجَّ وَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ
قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ إِذَا أَقَامَ حَتَّى الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ
قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ انْقَطَعَ إِلَى غَيْرِهَا وَسَكَنَ سِوَاهَا ثُمَّ قَدِمَ مُعْتَمِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى أَنْشَأَ الْحَجَّ مِنْهَا إِنَّهُ مُتَمَتِّعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصِّيَامُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِثْلَ أَهْلِ مَكَّةَ
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ دَخَلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ حَتَّى يُنْشِئَ الْحَجَّ أَمُتَمَتِّعٌ هُوَ فَقَالَ نَعَمْ هُوَ مُتَمَتِّعٌ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ أَهْلِ مَكَّةَ وَإِنْ أَرَادَ الْإِقَامَةَ وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنَّمَا الْهَدْيُ أَوْ الصِّيَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يُرِيدُ الْإِقَامَةَ وَلَا يَدْرِي مَا يَبْدُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
773 -
763 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ) مَوْلَاهُ، (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ، أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ الْحَجِّ) ، لَا بَعْدَهُ فِي ذِي
الْحِجَّةِ، (ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يُدْرِكَهُ الْحَجُّ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إِنْ حَجَّ، وَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ) - تَيَسَّرَ - (مِنَ الْهَدْيِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ) : الْهَدْيَ، لِفَقْدِهِ، أَوْ فَقْدِ ثَمَنِهِ، (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) ، أَيْ أَيَّامِهِ، وَلَوْ أَيَّامَ مِنًى، (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ) مِنْ مِنًى، أَوْ إِلَى بَلَدِهِ عَلَى الْخِلَافِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ إِذَا أَقَامَ حَتَّى الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ) مِنْ عَامِهِ، فَلَوْ لَمْ يَحُجَّ مِنْهُ، أَوْ عَادَ لِبَلَدِهِ، ثُمَّ حَجَّ فِي عَامِهِ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ انْقَطَعَ إِلَى غَيْرِهَا، وَسَكَنَ سِوَاهَا) - تَفْسِيرٌ لِلِانْقِطَاعِ بِغَيْرِهَا -: (ثُمَّ قَدِمَ مُعْتَمِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى أَنْشَأَ الْحَجَّ مِنْهَا، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ) ، إِذْ لَيْسَ مِنْ سَاكِنِي مَكَّةَ، وَمَا فِي حُكْمِهَا حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنْهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، (يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، أَوِ الصِّيَامُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِثْلَ أَهْلِ مَكَّةَ) ; لِانْقِطَاعِهِ بِغَيْرِهَا.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ دَخَلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ، حَتَّى يُنْشِئَ الْحَجَّ أَمُتَمَتِّعٌ هُوَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ مُتَمَتِّعٌ) ، فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، أَوْ بَدَلُهُ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، (وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِقَامَةَ) بِهَا، (وَ) بَيَانُ (ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا الْهَدْيُ، أَوِ الصِّيَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ) وَقْتَ الْفِعْلِ، (وَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يُرِيدُ الْإِقَامَةَ وَلَا يَدْرِي مَا يَبْدُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ) ، هَلْ يُقِيمُ، أَوْ يَرْجِعُ بَعْدَ الْحَجِّ؟ (وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ) حِينَ الِاعْتِمَارِ، فَدَخَلَ فِي الْآيَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، أَوِ الصِّيَامُ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مَنْ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يُدْرِكَهُ الْحَجُّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إِنْ حَجَّ وَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
774 -
764
- (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ، (أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، يَقُولُ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ، أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ) - بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا - (أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يُدْرِكَهُ الْحَجُّ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إِنْ حَجَّ) ، لَا إِنْ لَمْ يَحُجَّ، (وَ) عَلَيْهِ (مَا اسْتَيْسَرَ) - تَيَسَّرَ - (مِنَ الْهَدْيِ) شَاةٌ، فَأَعْلَى، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ)، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَى أَمْصَارِكُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ إِلَى أَهْلِهِ، رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: مَعْنَاهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ مَرَّةً بِالْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَمَعْنَى الرُّجُوعِ: التَّوَجُّهُ مِنْ مَكَّةَ، فَيَصُومُهَا فِي الطَّرِيقِ - إِنْ شَاءَ - وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
[بَاب مَا لَا يَجِبُ فِيهِ التَّمَتُّعُ]
قَالَ مَالِكٌ مَنْ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ إِنَّمَا الْهَدْيُ عَلَى مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ وَكُلُّ مَنْ انْقَطَعَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ وَسَكَنَهَا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَنْشَأَ الْحَجَّ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَلَا صِيَامٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ إِذَا كَانَ مِنْ سَاكِنِيهَا سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ خَرَجَ إِلَى الرِّبَاطِ أَوْ إِلَى سَفَرٍ مِنْ الْأَسْفَارِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِهَا كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِمَكَّةَ أَوْ لَا أَهْلَ لَهُ بِهَا فَدَخَلَهَا بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَنْشَأَ الْحَجَّ وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مِنْ مِيقَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ دُونَهُ أَمُتَمَتِّعٌ مَنْ كَانَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَقَالَ مَالِكٌ لَيْسَ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُتَمَتِّعِ مِنْ الْهَدْيِ أَوْ الصِّيَامِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
20 -
بَابُ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ التَّمَتُّعُ
أَيْ دَمُهُ، أَوْ صَوْمُهُ، (قَالَ مَالِكٌ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ، أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ، أَوْ ذِي الْحِجَّةِ) ، أَيْ فِي أَوَائِلِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:(ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ) ، أَوْ بَدَلُهُ (إِنَّمَا الْهَدْيُ عَلَى مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ) ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ شَرْطَ التَّمَتُّعِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ تُقَدَّمَ الْعُمْرَةُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَكِّيًّا، فَمَتَى اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إِذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ عَادَ لِبَلَدِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ: إِيقَاعُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ.
(وَكُلُّ مَنِ انْقَطَعَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَسَكَنَهَا، ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ
الْحَجِّ، ثُمَّ أَنْشَأَ الْحَجَّ مِنْهَا، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلَا صِيَامٌ) ، إِيضَاحٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، إِذَا كَانَ مِنْ سَاكِنِيهَا، لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
(سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ خَرَجَ إِلَى الرِّبَاطِ) ، بِثَغْرٍ، (أَوْ إِلَى سَفَرٍ مِنَ الْأَسْفَارِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِهَا) ، سَوَاءٌ (كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِمَكَّةَ، أَوْ لَا أَهْلَ لَهُ بِهَا، فَدَخَلَهَا بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَنْشَأَ الْحَجَّ) مِنْ عَامِهِ، (وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مِنْ مِيقَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ دُونَهُ) مِنْ بَقِيَّةِ الْمَوَاقِيتِ، (أَمُتَمَتِّعٌ مَنْ كَانَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ) أَمْ لَا؟ (فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُتَمَتِّعِ مِنَ الْهَدْيِ، أَوِ الصِّيَامِ) إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، (وَ) دَلِيلُ (ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ) الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، وَهَذَا مِنْ حَاضِرِيهِ غَابَ عَنْهُ لِحَاجَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ.
[بَاب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْعُمْرَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
21 -
بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْعُمْرَةِ
هِيَ لُغَةً الزِّيَارَةُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
تُهِلُّ بِالْغَرْقَدِ رُكْبَانُهَا
…
كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ
وَقِيلَ: هِيَ الْقَصْدُ، قَالَ آخَرُ: لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرَهُ، أَيْ: قَصَدَ، وَشَرْعًا: قَصْدُ الْبَيْتِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ، قِيلَ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
776 -
765 - (مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ) - بِضَمِّ السِّينِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ - (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَفَرَّدَ سُمَيٌّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ حُجَّةٌ، فَرَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ، وَالسُّفْيَانَانِ، وَغَيْرُهُمَا حَتَّى أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ حَدَّثَ بِهِ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، ثُمَّ أَسْنَدَهُ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ الْحَافِظُ: فَكَأَنَّ سُهَيْلًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِيهِ، وَتَحَقَّقَ بِذَلِكَ تَفَرُّدُ سُمَيٍّ بِهِ، فَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (السِّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ) ، يَحْتَمِلُ كَمَا قَالَ الْبَاجِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ التِّينِ: أَنَّ إِلَى بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 52) ، أَيْ مَعَ الْعُمْرَةِ، (كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنَ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ، وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ عَصْرِنَا إِلَى تَعْمِيمِ ذَلِكَ ثُمَّ بَالَغَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي: الْبَاجِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، فَتَقْتَضِي مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ تَكْفِيرَ جَمِيعِ مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ الْعُمْرَةِ كَفَّارَةً، مَعَ أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ، فَمَاذَا تُكَفِّرُهُ الْعُمْرَةُ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّ تَكْفِيرَ الْعُمْرَةِ مُقَيَّدٌ بِزَمَنِهَا، وَتَكْفِيرُ الِاجْتِنَابِ عَامٌّ لِجَمِيعِ عُمُرِ الْعَبْدِ، فَتَغَايَرَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعُمْرَةَ الْأُولَى هِيَ الْمُكَفِّرَةُ، لِأَنَّهَا الَّتِي وَقَعَ الْخَبَرُ عَنْهَا أَنَّهَا تُكَفِّرُ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْعُمْرَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ الْمُكَفِّرَةُ، لِمَا قَبْلَهَا إِلَى الْعُمْرَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ التَّكْفِيرَ قَبْلَ وُقُوعِ الذَّنْبِ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَقَالَ الْأُبِّيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحَثِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ يُشْكِلُ بِمَا إِذَا اعْتَمَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا فَائِدَةَ لَهَا، لِأَنَّ فَائِدَتَهَا - وَهُوَ التَّكْفِيرُ - مَشْرُوطٌ بِفِعْلِهَا ثَانِيَةً، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَمْ تَنْحَصِرْ فَائِدَةُ الْعِبَادَةِ فِي تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، بَلْ يَكُونُ فِيهَا، وَفِي ثُبُوتِ الْحَسَنَاتِ، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: مَنْ فَعَلَ كَذَا، كُتِبَ لَهُ كَذَا كَذَا حَسَنَةً، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كَذَا كَذَا سَيِّئَةً، وَرُفِعَتْ لَهُ كَذَا كَذَا دَرَجَةً، فَتَكُونُ فَائِدَتُهَا إِذَا لَمْ تُكَرَّرْ ثُبُوتَ الْحَسَنَاتِ، وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ: إِذَا لَمْ تُكَرَّرْ كُفِّرَ بَعْضُ مَا وَقَعَ بَعْدَهَا، لَا كُلُّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْبَعْضِ.
(وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا رِيَاءَ فِيهِ، وَلَا سُمْعَةَ، وَلَا رَفَثَ، وَلَا فُسُوقَ، وَيَكُونُ بِمَالٍ حَلَالٍ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ صَاحِبُهُ عَلَى الْبِرِّ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَقْبُولُ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَرْجِعَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ، وَلَا يُعَاوِدَ الْمَعَاصِيَ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِثْمِ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَفْسِيرِهِ مُتَقَارِبَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ الْحَجُّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامُهُ، وَوَقَعَ مَوْقِعًا لِمَا طُلِبَ مِنَ الْمُكَلَّفِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ.
وَلِأَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ، عَنْ جَابِرٍ:" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بِرُّ الْحَجِّ؟ قَالَ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ "، قَالَ الْحَافِظُ: وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ الْأَبِّيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ بَعْدَهُ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " مَنْ حَجَّ
هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ " إِذِ الْمَعْنَى: حَجَّ، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا عَطَفَهُ بِالْفَاءِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّعْقِيبِ، وَإِذَا فُسِّرَ بِذَلِكَ كَانَ الْحَدِيثَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَفْسِيرُ الْحَدِيثِ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى، وَيَكُونُ الرُّجُوعُ بِلَا ذَنْبٍ، كِنَايَةً عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ السَّابِقِينَ.
(لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ) ، أَيْ لَا يَقْتَصِرُ لِصَاحِبِهِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَكْفِيرِ بَعْضِ ذُنُوبِهِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، مَرْفُوعًا:" «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةً بَيْنَهُمَا تَنْفِي الذُّنُوبَ، وَالْفَقْرَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجِّ الْمَبْرُورِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» "، قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: شَرْطُ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ طِيبُ النَّفَقَةِ فِيهِ، قِيلَ لِمَالِكٍ: رَجُلٌ سَرَقَ مَالًا، فَتَزَوَّجَ بِهِ أَيُضَارِعُ الزِّنَى؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَسُئِلَ عَمَّنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ، قَالَ: حَجُّهُ مُجْزٍ، وَيَأْثَمُ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ، وَبِالْحَقِيقَةِ لَا يَرْقَى إِلَى الْعَالَمِ الْمُطَهَّرِ إِلَّا الْمُطَهَّرُ، فَالْقَبُولُ أَخَصُّ مِنَ الْإِجْزَاءِ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ الْقَضَاءِ، وَالْقَبُولُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ فَلِذَا قَالَ: يُجْزِي، وَهُوَ إِثْمٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا، عَنْ مَالِكٍ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ سُمَيٍّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ كُنْتُ تَجَهَّزْتُ لِلْحَجِّ فَاعْتَرَضَ لِي فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ كَحِجَّةٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
777 -
766 - (مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ)، مَوْلَاهُ (يَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ ظَاهِرًا، لَكِنْ صَحَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَمِعَهُ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَصَارَ بِذَلِكَ مُسْنَدًا، فَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، يُقَالُ لَهَا: أُمُّ مَعْقِلٍ، هَكَذَا سَمَّاهَا الزُّهْرِيُّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ تَسْمِيَتُهَا أُمُّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَرَجَّحَ الْحَافِظُ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَتَا لِلْمَرْأَتَيْنِ، لِتُغَايُرِ قِصَّتَيْهِمَا، وَلِأَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ أَسَدِيَّةٌ، وَأُمَّ سِنَانٍ أَنْصَارِيَّةٌ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ: أَنَّ مَجِيئَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخَرُجِي مَعَنَا فِي وَجْهِنَا هَذَا؟ (فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ تَجَهَّزْتُ لِلْحَجِّ، فَاعْتَرَضَ لِي) ، أَيْ عَاقَنِي عَائِقٌ مَنَعَنِي، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَأَصَابَتْنَا هَذِهِ الْقُرْحَةُ - الْحَصْبَةُ، أَوِ الْجُدَرِيُّ - فَهَلَكَ فِيهَا أَبُو مَعْقِلٍ
وَأَصَابَنِي فِيهَا مَرَضِي هَذَا حَتَّى صَحِحْتُ مِنْهَا، وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِي نُرِيدُ أَنْ نَخْرُجَ عَلَيْهِ، فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلَّا خَرَجْتِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ:" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ الْحَجَّ، فَضَّلَ جَمَلِي، أَوْ قَالَتْ بِعِيرِي "، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ ضَلَّ، ثُمَّ وُجِدَ، فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْقُرْحَةُ، أَوْ ضَلَّ بَعْدَ حُصُولِهَا، ثُمَّ وُجِدَ، فَذَكَرَتْ لَهُ الْوَجْهَيْنِ، وَاقْتَصَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَلَى أَحَدِهِمَا.
(فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ، كَحِجَّةٍ» )، وَفِي لَفْظٍ: تَعْدِلُ حِجَّةً.
وَاعْتَمَرَ هُوَ فِي شَوَّالٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الِاعْتِمَارُ فِي رَمَضَانَ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ قَدْ تَفْضُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي أَوْقَاتٍ، وَأَنَّ الشُّهُورَ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَالْعَمَلَ فِي بَعْضِهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مِمَّا يَتَضَاعَفُ فِيهِ عَمَلُ الْبِرِّ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِهِ، وَأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنَ الْعُمْرَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ وَالْعَمَلِ، وَوَقَعَتْ لِأُمِّ طُلَيْقٍ قِصَّةٌ مِثْلُ هَذِهِ، أَخْرَجَهَا ابْنُ السَّكَنِ، وَابْنُ مِنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ، وَالدُّولَابِيُّ فِي الْكُنَى مِنْ طَرِيقِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ:«أَنَّ أَبَا طُلَيْقٍ حَدَّثَهُ أَنَّ امْرَأَتَهُ أُمُّ طُلَيْقٍ قَالَتْ لَهُ - وَكَانَ لَهُ جَمَلٌ يَغْزُو عَلَيْهِ، وَنَاقَةٌ يَحُجُّ عَلَيْهَا -: أَعْطِنِي جَمَلَكَ أَحُجُّ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنَّ جَمَلِي حُبِسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: إِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَعْطِنِي النَّاقَةَ، وَحُجَّ أَنْتَ عَلَى الْجَمَلِ، قَالَ: لَا أَوَثِرُكِ عَلَى نَفْسِي، قَالَتْ: فَأَعْطِنِي مِنْ نَفَقَتِكَ، قَالَ: مَا عِنْدِي فَضْلٌ عَنِّي، وَعَنْ عِيَالِي مَا أَخْرُجُ بِهِ، وَمَا أَتْرُكُهُ لَكُمْ، قَالَتْ: إِنَّكَ لَوْ أَعْطَيْتَنِي أَخْلَفَهَا اللَّهُ، فَلَمَّا أَبَيْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: إِذَا لَقِيتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُ بِالَّذِي قُلْتُ لَكَ، فَأَتَيْتُهُ، وَأَقْرَيْتُهُ مِنْهَا السَّلَامَ، وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَتْ، فَقَالَ: صَدَقَتْ أُمُّ طُلَيْقٍ، لَوْ أَعْطَيْتَهَا الْجَمَلَ، لَكَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَوْ أَعْطَيْتَهَا النَّاقَةَ، لَكَانَتْ، وَكُنْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَوْ أَعْطَيْتَهَا مِنْ نَفَقَتِكَ، لَأَخْلَفَهَا اللَّهُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَسْأَلُكَ مَا يَعْدِلُ الْحَجَّ، قَالَ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ» ، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ هِيَ أُمُّ طُلَيْقٍ، لَهَا كُنْيَتَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَبَا مَعْقِلٍ مَاتَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا طُلَيْقٍ عَاشَ حَتَّى سَمِعَ مِنْهُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، فَدَلَّ عَلَى تَغَايُرِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَغَايُرُ السِّيَاقَيْنِ أَيْضًا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّتِهِ، قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيَّةِ: مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ؟ قَالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحَانِ، فَرَكِبَ أَبُو فُلَانٍ - تَعْنِي: زَوْجَهَا - وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا، قَالَ: فَإِذَا كَانَ رَمَضَانَ اعْتَمِرِي فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حِجَّةً مَعِي» " وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: خَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، وَابْنُهُ، وَتَرَكَانِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِابْنَ أَنَسٌ مَجَازًا، لِأَنَّهُ رَبِيبُهُ لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ افْصِلُوا بَيْنَ حَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
778 -
767
- (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: افْصِلُوا) - فَرِّقُوا - (بَيْنَ حَجِّكُمْ، وَعُمْرَتِكُمْ) بِأَنْ تُحْرِمُوا بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَحْدَهُ، (فَإِنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ، وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ أَشْهُرَ الْحَجِّ) ، فَكَرِهَ عُمَرُ التَّمَتُّعَ، لِئَلَّا يَتَرَفَّهَ الْحَاجُّ، وَكَانَ مِنْ رَأْيِهِ عَدَمُ التَّرَفُّهِ لِلْحَاجِّ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ مُسْلِمٌ، وَمَرَّ قَرِيبًا مَا فِيهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ إِذَا اعْتَمَرَ رُبَّمَا لَمْ يَحْطُطْ عَنْ رَاحِلَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ
قَالَ مَالِكٌ الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَرْخَصَ فِي تَرْكِهَا
قَالَ مَالِكٌ وَلَا أَرَى لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا
قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُعْتَمِرِ يَقَعُ بِأَهْلِهِ إِنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْهَدْيَ وَعُمْرَةً أُخْرَى يَبْتَدِئُ بِهَا بَعْدَ إِتْمَامِهِ الَّتِي أَفْسَدَهَا وَيُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ بِعُمْرَتِهِ الَّتِي أَفْسَدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانٍ أَبْعَدَ مِنْ مِيقَاتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ إِلَّا مِنْ مِيقَاتِهِ
قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ثُمَّ وَقَعَ بِأَهْلِهِ ثُمَّ ذَكَرَ قَالَ يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَعُودُ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَعْتَمِرُ عُمْرَةً أُخْرَى وَيُهْدِي وَعَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ مِثْلُ ذَلِكَ
قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا الْعُمْرَةُ مِنْ التَّنْعِيمِ فَإِنَّهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ يُحْرِمَ فَإِنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَكِنْ الْفَضْلُ أَنْ يُهِلَّ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ التَّنْعِيمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
778 -
768 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ إِذَا اعْتَمَرَ رُبَّمَا لَمْ يَحْطُطْ عَنْ رَاحِلَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ) إِلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، كَمَا مَرَّ، وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَرْخَصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا، أَيْ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، فَرَأَى عُثْمَانُ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الرُّخْصَةِ، فَعَجَّلَ الْأَوْبَةَ إِلَى دَارِ مَقَامِهِ، لِقِيَامِهِ بِأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَالْخَاصَّةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) مُؤَكَّدَةٌ آكَدُ مِنَ الْوَتْرِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، (وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْخَصَ فِي تَرْكِهَا) ، حُمِلَ عَلَى السُّنِّيَّةِ لِأَنَّ تَرْكَهَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ، بَلْ ثَمَّةُ سُنَّةٌ يُقَاتَلُ عَلَيْهَا، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَابْنُ الْجَهْمِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، عَنْ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) ، لِعَطْفِهَا عَلَى الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَبِأَنَّ الْإِتْمَامَ إِذَا وَجَبَ وَجَبَ الِابْتِدَاءُ، وَبِأَنَّ مَعْنَى أَتِمُّوا: أَقِيمُوا، كَمَا أَنَّ مَعْنَى أَقِيمُوا: أَتِمُّوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103](سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 103) ، وَتُعُقِّبَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاقْتِرَانِ بِالْحَجِّ وُجُوبُ الْعُمْرَةِ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، لِضَعْفِ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ، وَالثَّانِي بِأَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ يَلْزَمُ إِتْمَامُهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَالثَّالِثُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ أَقِيمُوا بِمَعْنَى أَتِمُّوا، أَنْ يَكُونَ أَتِمُّوا بِمَعْنَى أَقِيمُوا، لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تَثْبُتُ بِالْعَكْسِ، مَعَ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أَتِمُّوا، هَلْ هُوَ كَمَالُهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَتَرَكِ قَطْعِهَا؟ وَهُوَ أَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ الْآيَةَ، أَوْ إِتْمَامُهَا أَنْ يُحْرِمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ فِي سَفَرَيْنِ وَقِيلَ غَيْرُ
هَذَا وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ: وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ، بِرَفْعِ الْعُمْرَةِ، فَفَصَلَ بِهَذَا، لِقِرَاءَةِ عَطْفِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ وَصَارَ مِنْ أَدِلَّةِ السُّنِّيَّةِ.
وَلِلْتِرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:" «أَتَى أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَقَدْ تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِطَرِيقٍ آخَرَ، عَنْ جَابِرٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَضَعَّفَهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا:" «الْحَجُّ جِهَادٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» "، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «الْحَجُّ فَرِيضَةٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ: " «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» "، فَذَكَرَ الْحَجَّ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَزِيَادَتُهَا فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ شَاذَّةٌ ضَعِيفَةٌ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَدِيٍّ عَنْ جَابِرٍ، مَرْفُوعًا:" «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ» "، ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ ابْنَ لَهِيعَةَ.
وَلِلْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ» "، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، مَعَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَالثَّابِتُ عَنْهُ فِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا.
وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقَرِينَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتِنْبَاطٌ لَهُ مِنَ الْآيَةِ، وَاجْتِهَادٌ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَلَا أَرَى لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا) مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، فَتُكْرَهُ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَأَكْثَرَ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعًا كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي سَنَةٍ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ التَّكْرِيرِ، نَعَمْ، إِنْ شَرَعَ فِي الْمَكْرُوهِ لَزِمَهُ إِتْمَامُهَا، لِأَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْجَائِزِ، وَأَجَازَ الْجُمْهُورُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ التَّكْرَارَ بِلَا كَرَاهَةٍ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ:" «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» " حَتَّى بَالَغَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لِمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ حُجَّةً مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لِمِثْلِهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهَا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَجِّ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُكْرَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالنَّحْرِ، وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُعْتَمِرِ: يَقَعُ بِأَهْلِهِ) - يُجَامِعُهَا - (إِنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْهَدْيَ، وَعُمْرَةً أُخْرَى) قَضَاءً عَنِ الَّتِي أَفْسَدَ، (يَبْتَدِئُ بِهَا) عَاجِلًا (بَعْدَ إِتْمَامِهِ الَّتِي أَفْسَدَهَا) بِالْوِقَاعِ (وَيُحْرِمُ) فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، (مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ بِعُمْرَتِهِ الَّتِي أَفْسَدَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ) ، فِي الَّتِي أَفْسَدَ، (مِنْ مَكَانٍ أَبْعَدَ مِنْ مِيقَاتِهِ) ، كَمِصْرِيٍّ أَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ بِعُمْرَةٍ، فَأَفْسَدَهَا
(فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ) فِي قَضَائِهَا، (إِلَّا مِنْ مِيقَاتِهِ) ، كَالْجُحْفَةِ، (قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ جُنُبٌ، أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) ، نَاسِيًا، (ثُمَّ وَقَعَ بِأَهْلِهِ) مُعْتَقِدًا تَمَامَ عُمْرَتِهِ، (ثُمَّ ذَكَرَ) ذَلِكَ، (قَالَ: يَغْتَسِلُ، أَوْ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَعُودُ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ) ، لِبُطْلَانِ الطَّوَافِ الْأَوَّلِ بِعَدَمِ الطَّهَارَةِ، (وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، لِأَنَّ صِحَّةَ السَّعْيِ بِتَقَدُّمِ الطَّوَافِ، وَقَدْ عُدِمَ بِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَهَذَا إِتْمَامٌ لِلْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ بِالْوِقَاعِ.
(وَيَعْتَمِرُ عُمْرَةً أُخْرَى) قَضَاءً عَنْهَا سَرِيعًا، (وَيَهْدِي) ; لِلْفَسَادِ، (وَعَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ مِثْلُ ذَلِكَ) ، إِذِ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ.
(قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الْعُمْرَةُ مِنَ التَّنْعِيمِ فَإِنَّهُ) ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ لَا يَتَعَيَّنُ، وَ (مَنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ) إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْحِلِّ، (فَإِنَّ ذَلِكَ مَجْزِيٌّ عَنْهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ) - لِلتَّبَرُّكِ، إِذْ شَرْطُ الْإِحْرَامِ: أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَامِ، (وَلَكِنَّ الْفَضْلَ: أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ التَّنْعِيمِ) ، كَالْجِعْرَانَةِ، وَالْحُدَيْبِيَةِ لِإِحْرَامِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمَا بِالْعُمْرَةِ.
[بَاب نِكَاحِ الْمُحْرِمِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
22 -
بَابُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ
779 -
769 - (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) ، هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا، وَتَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ، وَوَصَلَهُ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ
أَبِي رَافِعٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا لِسَنَدِهِ غَيْرَ مَطَرٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ مَطَرٍ، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَمَاتَ أَبُو رَافِعٍ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عُثْمَانَ بِقَلِيلٍ، وَقُتِلَ عُثْمَانُ فِي الْحِجَّةِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْمَعَ سُلَيْمَانُ مِنْ أَبِي رَافِعٍ، انْتَهَى.
وَهُوَ مُمْكِنٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي وِلَادَتِهِ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ نَحْوَ ثَمَانِ سِنِينَ مِنْ حَيَاةِ أَبِي رَافِعٍ، فَلَا يُسْتَغْرَبُ سَمَاعُهُ مِنْهُ.
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ)، اسْمُهُ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ الْعَشَرَةِ: أَسْلَمُ (مَوْلَاهُ) صلى الله عليه وسلم (وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) ، هُوَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيٍّ، كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ، (فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ) الْهِلَالِيَّةَ، آخِرَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا مِمَّنْ دَخَلَ بِهِنَّ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَزَوَّجَاهُ أَنَّهُ وَكَلَّهُمَا فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ، لَكِنْ، رَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «لَمَّا خَطَبَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ، فَأَنْكَحَهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» - فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَبِلَ النِّكَاحَ بِنَفْسِهِ، وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَمَّا حَلَّ تَزَوَّجَهَا، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَزَوَّجَاهُ عَلَى مَعْنَى خَطَبَا لَهُ فَقَطْ مَجَازًا.
(وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ) إِلَى عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ.
وَفِي مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ مَيْمُونَةَ:«تَزَوَّجَنِي صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفٍ» .
زَادَ الْبَرْقَانِيُّ: " وَبَنَى بِي حَلَالًا "، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وُقُوعَ الْعَقْدِ، وَهُوَ حَلَالٌ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ:" «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا، وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا» "، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مَهْرَانَ، قَالَ:" «دَخَلْتُ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، وَهِيَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فَسَأَلْتُهَا: أَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَتْ: لَا، وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجَهَا وَإِنَّهُمَا لَحَلَالَانِ» "، وَأَخْرَجَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي وَغَيْرِهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ:" «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا بِسَرِفٍ فِي قُبَّةٍ لَهَا، وَمَاتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا» "، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الرِّوَايَةُ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَهُوَ حَلَالٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ مَيْمُونَةَ نَفْسِهَا، وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، مَوْلَاهَا، وَعَنْ يَزِيدَ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَوَى أَنَّهُ نَكَحَهَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَرِوَايَةُ مَنْ ذَكَرَ مُعَارِضَةٌ لِرِوَايَتِهِ، وَالْقَلْبُ إِلَى رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ أَمْيَلُ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ أَقْرَبُ إِلَى الْغَلَطِ، انْتَهَى.
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: وَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَإِنْ كَانَتْ خَالَتُهُ مَا تَزَوَّجَهَا صلى الله عليه وسلم إِلَّا بَعْدَمَا حَلَّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَأَبَانُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْحَاجِّ وَهُمَا مُحْرِمَانِ إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُنْكِحَ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْضُرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبَانُ وَقَالَ سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
780 -
770
- (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ) ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، (عَنْ نُبَيْهِ) - بِضَمِّ النُّونِ - مُصَغَّرٌ (ابْنِ وَهْبِ) بْنِ عُثْمَانَ الْعَبْدَرِيِّ، (أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ) بْنِ قُصَيٍّ، أَيْ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْمَدَنِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَمَاتَ قَبْلَ نَافِعٍ الرَّاوِي عَنْهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِضَمِّ الْعَيْنَيْنِ - ابْنِ مَعْمَرِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ الْقُرَشِيِّ التَّيْمِيِّ، وَجَدُّهُ: مَعْمَرٌ صَحَابِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِي قُحَافَةَ وَالِدِ الصِّدِّيقِ، رَوَى عُمَرُ، عَنْ أَبَانٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَعَنْهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَكَانَ أَحَدَ وُجُوهِ قُرَيْشٍ، وَأَشْرَافِهَا، جَوَادًا، مُمَدَّحًا، شُجَاعًا، مَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ، (أَرْسَلَ) نُبَيْهًا الرَّاوِيَ الْمَذْكُورَ - كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ - (إِلَى أَبَانِ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ - (ابْنِ عُثْمَانَ) بْنِ عَفَّانَ الْأُمَوِيِّ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ، (وَأَبَانٌ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْحَاجِّ) مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، (وَهُمَا مُحْرِمَانِ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُنْكِحَ) - بِضَمٍّ فَسُكُونٍ - أُزَوِّجَ ابْنِي (طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ) الْقُرَشِيَّ التَّيْمِيَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَنْصَارِيَّ، وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ، فَفِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ نُبَيْهٍ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ يَخْطُبُ بِنْتَ شَيْبَةَ عَلَى ابْنِهِ (بِنْتَ شَيْبَةَ) اسْمُهَا: أَمَةُ الْحُمَيْدِ كَمَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَغَيْرُهُ (ابْنِ جُبَيْرِ) بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: بَنَتَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَزَعَمَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَإِنَّ مَالِكًا، وَهِمَ فِيهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ قَوْلُ مَالِكٍ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّهَا بِنْتُ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ كَمَا حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ فَلَا يَكُونُ خَطَأٌ، بَلِ الرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ إِحْدَاهُمَا: حَقِيقَةٌ، وَالْأُخْرَى مَجَازٌ.
(وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْضُرَ) فِيهِ نَدْبُ الِاسْتِئْذَانِ، لِحُضُورِ الْعَقْدِ، (فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبَانُ)، فَقَالَ: أَلَا أَرَاهُ عِرَاقِيًّا جَافِيًا، كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَلَهُ فِي أُخْرَى: أَعْرَابِيًّا، أَيْ جَاهِلًا بِالسُّنَّةِ كَالْأَعْرَابِ، وَمَعْنَى رِوَايَةِ الْقَافِ: آخِذًا بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ.
(وَقَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ)، يَعْنِي: أَبَاهُ، وَفِي تَصْرِيحِهِ بِسَمِعْتُ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَبَاهُ، فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ، (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْكِحُ) - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ - أَيْ لَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ (الْمُحْرِمُ) بِحَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا، (وَلَا يُنْكِحُ) - بِضَمِّ أَوَّلِهِ - أَيْ لَا يَعْقِدُ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَةٍ، وَلَا وِكَالَةٍ، وَهُوَ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا عَلَى النَّهْيِ، كَمَا ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ.
(وَلَا يَخْطُبُ) ، فَيُمْنَعُ مِنَ الْخِطْبَةِ أَيْضًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، كَمَا فِي الْمُفْهِمِ، وَحَمَلَ الشَّافِعِيَّةُ النَّهْيَ فِي الْخِطْبَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ السِّفَارَةَ فِي النِّكَاحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْخِطْبَةَ حَالَةَ النِّكَاحِ، فَأَمَّا السِّفَارَةُ فِيهِ فَمَمْنُوعَةٌ، فَإِنْ سَفَرَ، وَعَقَدَ سِوَاهُ، أَوْ سَفَرَ لِنَفْسِهِ، وَعَقَدَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، أَسَاءَ وَلَمْ يُفْسَخْ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، انْتَهَى.
وَفِيهِ حُرْمَةُ الْعَقْدِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَوْ عَقَدَ لَمْ يَصِحَّ، وَيُفْسَخْ أَيْضًا بِطَلْقَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، فَيُزَالُ الِاخْتِلَافُ بِالطَّلَاقِ احْتِيَاطًا لِلْفَرْجِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِلَا طَلَاقٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْكُوفِيُّونَ: يَصِحُّ نِكَاحُهُ، وَإِنْكَاحُهُ، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ، وَأَنَّهُ لِاشْتِغَالِهِ بِنُسُكِهِ لَا يَتَّسِعُ زَمَانُهُ لِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لَهُ، وَبِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ هُنَا: الْوَطْءُ، لَا الْعَقْدُ، فَقَوْلُهُ: لَا يَنْكِحُ، أَيْ لَا يَطَأُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، لَا عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ، وَحَمْلُهُ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، بَلْ عَنْ قَضِيَّةٍ يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهَا الْخَاصُّ، وَالْعَامُّ، وَحَمْلُ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى الشَّرْعِيَّاتِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ أَوْلَى.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَبَانَ رَاوِي الْحَدِيثَ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ: النَّهْيَ، وَأَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ بِالْحَدِيثِ، وَحَمْلُ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ، لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِذْ هُوَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَأَيْضًا، فَهُوَ خِلَافُ فَهْمِ رَاوِيهِ، وَلَوْ صَحَّ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يُنْكِحُ، نَهْيٌ عَنِ التَّزْوِيجِ بِلَا شَكٍّ، وَإِذَا مُنِعَ مِنَ الْعَقْدِ لِغَيْرِهِ، فَأَوْلَى لِنَفْسِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مَحْرِمٌ» "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، لِأَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ، وَغَيْرَهُ وَهَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ، وَخَالَفَتْهُ مَيْمُونَةُ، وَأَبُو رَافِعٍ، فَرَوَيَا أَنَّهُ نَكَحَهَا، وَهُوَ حَلَالٌ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، لِأَنَّ مَيْمُونَةَ هِيَ الزَّوْجَةُ، وَأَبُو رَافِعٍ هُوَ السَّفِيرُ بَيْنَهُمَا، فَهُمَا أَعْرَفُ بِالْوَاقِعَةِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ التَّعَلُّقِ بِالْقِصَّةِ مَا لَهُمَا، وَلِصِغَرِهِ حِينَئِذٍ عَنْهُمَا، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي سِنِّهِمَا، وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَهْمًا، فَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ بِأَنَّ مَعْنَى وَهُوَ مُحْرِمٌ: فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَحْرَمَ، وَأَنْجَدَ، وَأَتْهَمَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ، وَنَجَدًا، وَتِهَامَةَ، أَوْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، كَقَوْلِهِ: قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا.
أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا بِحَجٍّ، وَلَا بِعُمْرَةٍ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ قَلَّدَ هَدْيَهُ صَارَ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ، فَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلِمَ بِنِكَاحِهِ بَعْدَ أَنْ قَلَّدَ هَدْيَهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِغْضَاءِ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، فَقَدْ تَعَارَضَ هُوَ وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ، وَأَبِي رَافِعٍ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِالْخَبَرَيْنِ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ
إِلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ، لِأَنَّ لَا مُعَارِضَ لَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَغَيْرُهُ، وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ إِذَا تَعَارَضَ هُوَ وَالْفِعْلُ، لِقُوَّةِ الْقَوْلِ، لِدَلَالَتِهِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنَّمَا يُدَلُّ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ، وَلِتَعَدِّي الْقَوْلِ إِلَى الْغَيْرِ، وَالْفِعْلُ يَحْتَمِلُ قَصْرَهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَ عُثْمَانَ هَذَا مُسْلِمٌ فِي النِّكَاحِ، عَنْ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْحَجِّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ كِلَاهُمَا، عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنِ النَّسَائِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، وَيَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَتَابَعَ نَافِعًا عَلَيْهِ أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ عَنْ نُبَيْهٍ فِي مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكَاحَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
781 -
771 - (مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الصَّادِ - الْأُمَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، (أَنَّ أَبَا غَطَفَانَ) - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ - (ابْنَ طَرِيفٍ) - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ - وَقِيلَ: ابْنَ مَالِكٍ (الْمُرِّيَّ) - بِالرَّاءِ - الْمَدَنِيِّ، قِيلَ: اسْمُهُ سَعْدٌ ثِقَةٌ تَابِعِيٌّ، (أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكَاحَهُ) ، لِفَسَادِهِ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
782 -
772 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ) ، مُوَافَقَةً لِلْحَدِيثِ إِذْ لَفْظُهُ عَامٌّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنََّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلُوا عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ فَقَالُوا لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ إِنَّهُ يُرَاجِعُ امْرَأَتَهُ إِنْ شَاءَ إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
782 -
773 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ) ، وَالثَّلَاثَةُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، (سُئِلُوا عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، فَقَالُوا: لَا يَنْكِحُ) - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ - (الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ) - بِضَمِّهِ - وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ بَعْدَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّ الْعَمَلَ اتَّصَلَ بِهِ وَالْفَتْوَى، فَلَا يُمْكِنُ دَعْوَى نَسْخِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ: أَنَّهُ يُرَاجِعُ امْرَأَتَهُ - إِنْ شَاءَ - إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ)
لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ، فَأَمَّا إِنْ خَرَجَتْ مِنْ عِدَّتِهَا، فَلَا يُعِيدُهَا؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ فَدَخَلَ فِيهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى بِالْأَمْصَارِ، لِأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى وَلِيٍّ، وَلَا صَدَاقٍ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَعَنْ أَحْمَدَ مَنَعَهُ مِنَ الرَّجْعَةِ.
[بَاب حِجَامَةِ الْمُحْرِمِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوْقَ رَأْسِهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِلَحْيَيْ جَمَلٍ مَكَانٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
23 -
بَابُ حِجَامَةِ الْمُحْرِمِ
784 -
774 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) ، مُرْسَلٌ وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ، ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ) » ، أَيْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْحَازِمِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَوْقَ رَأْسِهِ)، وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: وَسَطَ رَأْسِهِ، وَقُيِّدَ بِالظَّرْفِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالرَّأْسِ، وَلَا بِالْقَفَا، بَلْ تَكُونُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، لُغَةً، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصِّ، قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: الْحَجْمُ الْمَصُّ، وَالْحَجَّامُ: الْمَصَّاصُ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ: مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الصُّدَاعِ يَعْرِضُ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَإِلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَثْءٍ كَانَ بِهِ - بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْهَمْزِ - وَقَدْ يُتْرَكُ رَضُّ الْعَظْمِ بِلَا كَسْرٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بِهِ الْأَمْرَانِ، (وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِلَحْيَيْ) - بِفَتْحِ اللَّامِ، وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَحْتِيَّتَيْنِ: أُولَاهُمَا: مَفْتُوحَةٌ - (جَمَلٍ) - بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَالْمِيمِ - (مَكَانٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ) ، وَهُوَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَقْرَبُ، وَقِيلَ: عَقَبَةٌ، وَقِيلَ: مَاءٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْحَاكِمِ عَنْ أَنَسٍ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ» "، وَلَفْظُ الْحَاكِمِ: عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمَيْنِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَهَذَا يُبَيِّنُ تَعَدُّدَهَا مِنْهُ فِي الْإِحْرَامِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا فِي إِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الثَّانِيَ فِي عُمْرَةٍ، وَالْأَوَّلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَفِيهِ الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ، وَغَيْرِهِ لِلْعُذْرِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَلَوْ أَدَّتْ إِلَى قَلْعِ الشَّعْرِ لَكِنْ يَفْتَدِي إِذَا قَلَعَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) ، الْآيَةَ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّدَاوِي، وَاسْتِعْمَالُ الطِّبِّ وَالتَّدَاوِي بِالْحِجَامَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: " «إِنَّ أَنْفَعَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ» "، وَفِيهِ أَيْضًا: " «إِنْ كَانَ الشِّفَاءُ فِي شَيْءٍ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيٍّ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» .
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلَّا مِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ
قَالَ مَالِكٌ لَا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
785 -
775
- (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلَّا) أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ، أَيْ الِاحْتِجَامِ (مِمَّا) ، أَيْ أَمْرٍ (لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ) ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْتَجِمْ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِنِ احْتَجَمَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ حَرُمَتْ، إِنْ لَزِمَ مِنْهَا قَلْعُ الشَّعْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا شَعْرَ فِيهِ، فَأَجَازَهَا الْجُمْهُورُ، وَلَا فِدْيَةَ، وَأَوْجَبَهَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَكَرِهَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَبِهِ (قَالَ مَالِكٌ: لَا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ) ، أَيْ يُكْرَهُ، لِأَنَّهَا قَدْ تُؤَدِّي لِضَعْفِهِ، كَمَا كُرِهَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ، مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ أَخَفُّ مِنَ الْحِجَامَةِ، فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُ الْمُجِيزِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِخْرَاجِ الدَّمِ فِي الْإِحْرَامِ، لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِالْحُرْمَةِ، بَلْ بِالْكَرَاهَةِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى عُلِمَتْ.
[بَاب مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مِنْ الصَّيْدِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضُهُمْ فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
24 -
بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مِنَ الصَّيْدِ
786 -
776 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) - بِفَتْحِ النُّونِ، وَإِسْكَانِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ - سَالِمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ تَيْمِ قُرَيْشٍ، (عَنْ نَافِعِ) بْنِ عَبَّاسٍ - بِمُوَحَّدَةٍ، وَمُهْمَلَةٍ، أَوْ تَحْتَانِيَّةٍ، وَمُعْجَمَةٍ - أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَقْرَعِ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ (مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ) ، حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْعِجْلِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُ، قِيلَ: لَهُ ذَلِكَ، لِلُزُومِهِ لَهُ إِنَّمَا هُوَ مَوْلَى عَقِيلَةَ بِنْتِ طَلْقٍ الْغِفَارِيَّةِ، (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الْحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ السُّلَمِيِّ:(أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ:" «انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ أُحْرِمْ» "(حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ بِسَنَدِهِ:" «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقَاحَةِ» " قَالَ عَمْرٌو: فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَلَفْظُ صَالِحٍ: مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَمْيَالٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَغَيْرِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ بِعُسْفَانَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ بِالْقَاحَةِ، وَهِيَ بِالْقَافِ، وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ.
(تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ)، وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ:" وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا رَجُلٌ حِلٌّ عَلَى فَرَسِي، وَكُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الْجِبَالِ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّقِينَ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، (فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ) فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو: " وَكُنْتُ نَسِيتُ سَوْطِيَ " وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ: " ثُمَّ رَكِبْتُهُ، فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي "، فَلَعَلَّهُ أَطْلَقَ النِّسْيَانَ عَلَى السُّقُوطِ، أَوْ عَكْسِهِ تَجُوُّزًا، (فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ) ، فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو: " قَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ "، (فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ، فَقَتَلَهُ) ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ: " قُلْتُ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَنَزَلْتُ، فَتَنَاوَلْتُهُ، ثُمَّ رَكِبْتُ، فَأَدْرَكْتُ الْحِمَارَ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي فَعَقَرْتُهُ "، أَوْ فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو: " فَأَتَيْتُ إِلَيْهِمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: قُومُوا فَاحْتَمِلُوا، قَالُوا: لَا نَمَسُّهُ، فَحَمَلْتُهُ حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ "، (فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضُهُمْ) مِنَ الْأَكْلِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي الْفُرُوعِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا إِذَا اسْتَنَدَ كُلٌّ إِلَى دَلِيلٍ فِي ظَنِّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ "، وَفِي أُخْرَى: " فَقُلْنَا: إِنَّا نَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ "، (فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ) ، أَيْ ذَكَرُوا لَهُ الْقِصَّةَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ لَمْ يُعِينُوهُ بِمُنَاوَلَةِ سَوْطٍ، وَلَا رُمْحٍ، وَلَا غَيْرِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرٍو: " وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكْتُهُ، فَحَدَّثْتُهُ "، الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ: " فَقُلْنَا: نَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ، فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ وَفِي أُخْرَى: أَوْ أَعَانَهُ؟ قَالُوا: لَا، (فَقَالَ) : فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا (إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ) - بِضَمِّ الطَّاءِ، وَسُكُونِ الْعَيْنِ - أَيْ طَعَامٌ (أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ) ، عز وجل.
وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ دَلَالَةٌ، أَوْ إِعَانَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، فَإِنْ صَادَهُ، أَوْ صِيدَ لِأَجْلِهِ بِإِذْنِهِ، أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَرُمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ، مَرْفُوعًا:" «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَادَ لَكُمْ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ: يَجُوزُ أَكْلُ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ صَادَهُ لِأَجْلِهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ أَنَّهُ صَادَهُ لِأَجْلِهِمْ،
وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى مِنْ طَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَمْ يُحْرِمْ أَبُو قَتَادَةَ مَعَ مُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؟ أَجَابَ عِيَاضٌ بِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ لَمْ تَكُنْ وُقِّتَتْ بَعْدُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا قَتَادَةَ، وَرُفْقَتَهُ لِكَشْفِ عَدُوٍّ لَهُمْ بِجِهَةِ السَّاحِلِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا بَعِيدٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ، بَلْ بَعَثَهُ أَهْلُهَا إِلَيْهِ لِيُعْلِمَهُ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقْصِدُونَ الْإِغَارَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَرُدَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي كِتَابِ الصَّيْدِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ الْخَمْسَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ مُتَابَعَاتٌ وَطُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا تَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فِي ثُبُوتِهِ، وَصِحَّتِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كَانَ يَتَزَوَّدُ صَفِيفَ الظِّبَاءِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ مَالِكٌ وَالصَّفِيفُ الْقَدِيدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
787 -
777 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ) أَبَاهُ (الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ) الْحِوَارِيَّ، (كَانَ يَتَزَوَّدُ صَفِيفَ الظِّبَاءِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ مَالِكٌ: وَالصَّفِيفُ) - بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ، وَفَاءَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ، بِزِنَةِ أَمِيرٍ -:(الْقَدِيدُ)، قَالَ الْقَامُوسُ: الصَّفِيفُ كَأَمِيرٍ، مَا صُفَّ فِي الشَّمْسِ، لِيَجِفَّ، وَعَلَى الْجَمْرِ لِيَنْشَوِيَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
788 -
778 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَى عُمَرَ: (أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ) - بِفَتْحٍ، فَسُكُونٍ - مَا كَانَ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ، وَيُجْمَعُ عَلَى وُحُوشٍ، وَيُقَالُ: حِمَارُ وَحْشٍ بِالْإِضَافَةِ وَالتَّنْوِينِ (مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ) السَّابِقِ، (إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) زِيَادَةٌ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ:" قَالُوا مَعَنَا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا "، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْهِبَةِ:" فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ، فَأَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا "، وَفِي رِوَايَةٍ:" قَدْ رَفَعْنَا لَهُ الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهُ "
وَجُمِعَ بِأَنَّهُ أَكَلَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَأَبِي عَوَانَةَ، فَقَالَ: كُلُوا وَأَطْعِمُونِي "، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَكَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَأَكَلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ قَالَ " الدَّارَقُطْنِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي: النَّيْسَابُورِيَّ، قَوْلُهُ: اصْطَدْتُهُ لَكَ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ غَيْرَ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذِهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ لَمْ نَكْتُبْهَا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ: تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مَعْمَرٌ، وَجَمَعَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ جَرَى لِأَبِي قَتَادَةَ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ قَضِيَّتَانِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَحَدِيثُ زَيْدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ، وَالصَّيْدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ هُنَا عَنْ قُتَيْبَةَ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ تِلْوَ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ عَنْ الْبَهْزِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ إِذَا حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقِيرٌ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ وَهُوَ صَاحِبُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْأُثَابَةِ بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ وَالْعَرْجِ إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يُجَاوِزَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
789 -
779 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ: (أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ) الْقُرَشِيُّ (عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - التَّيْمِيِّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ فَاضِلٌ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَالثَّلَاثَةُ مِنَ التَّابِعِينَ، (عَنْ عُمَيْرٍ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - (ابْنِ سَلَمَةَ) بْنِ مَنْتَابَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ جُدَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ (الضَّمْرِيِّ) ، نَسَبَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّهُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي صُحْبَتِهِ (عَنِ الْبَهْزِيِّ) - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَبِالزَّايِ - زَيْدِ بْنِ كَعْبٍ السُّلَمِيِّ الصَّحَابِيِّ، هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو أُوَيْسٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ يَحْيَى، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُشَيْمٌ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَلَمْ يَقُولُوا عَنِ الْبَهْزِيِّ، قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي رِوَايَةِ يَزِيدِ بْنِ الْهَادِ، وَعَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: وَلَمْ يَأْتِ ذَلِكَ مِنْ مَالِكٍ، لِأَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ عَنْ يَحْيَى، كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ مِنْ يَحْيَى كَانَ أَحْيَانًا يَقُولُ عَنِ الْبَهْزِيِّ، وَأَحْيَانًا لَا يَقُولُهُ، وَأَظُنُّ الْمَشْيَخَةَ الْأُولَى كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ هُوَ رِوَايَةً عَنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ قِصَّةِ فُلَانٍ، هَذَا كَلَامُ مُوسَى بْنِ هَارُونَ نَقَلَهُ فِي التَّمْهِيدِ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْعِلَلِ.
قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَيُونُسَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: إِنَّ الْبَهْزِيَّ حَدَّثَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُمَا غَيَّرَا
قَوْلَهُ عَنِ الْبَهْزِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: أَنَّ الْبَهْزِيَّ ظَنًّا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِكَوْنِ الرَّاوِي غَيْرَ مُدَلِّسٍ، فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهِ الصِّيغَتَانِ، انْتَهَى.
وَلَا يَظْهَرُ جَوَابُهُ مَعَ قَوْلِهِ حَدَّثَهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ) - بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَإِسْكَانِ الْوَاوِ، وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَالْمَدِّ - مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، (إِذَا حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقِيرٌ) ، أَيْ مَعْقُورٌ، (فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا حِمَارٌ عَقِيرٌ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، (فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ، فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنُكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ) الصِّدِّيقَ، (فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ) - بِكَسْرِ الرَّاءِ، مَصْدَرٌ كَالْمُرَافَقَةِ - قَالَهُ فِي الْمَشَارِقِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُ رُفْقَةٍ - بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا - الْقَوْمُ الْمُتَرَافِقُونَ فِي السَّفَرِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ جَوَازُ هِبَةِ الْمُشَارِعِ، وَأَنَّ الصَّائِدَ إِذَا أَثْبَتَ الصَّيْدَ بِرُمْحِهِ، أَوْ نُبْلِهِ فَقَدْ مَلَكَهُ، لِأَنَّهُ سَمَّاهُ صَاحِبَهُ، وَأَنَّ صَيْدَ الْحَلَالِ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ إِذَا لَمْ يُصَدْ لَهُ، وَرَدٌّ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ فِي اشْتِرَاطِهِمُ التَّرَاخِيَ فِي الطَّلَبِ، لِأَنَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ لِلْبَهْزِيِّ: هَلْ تَرَاخَيْتَ فِي الطَّلَبِ؟ وَأَبَاحَ أَكْلَهُ لِأَصْحَابِهِ الْمُحْرِمِينَ.
(ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْأُثَايَةِ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَمُثَلَّثَةٍ، فَأَلِفٍ، فَتَحْتِيَّةٍ فِيهَا - مَوْضِعٌ، أَوْ بِئْرٌ (بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ) - بِضَمِّ الرَّاءِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْهَاءِ - مَوْضِعٌ، (وَالْعَرْجِ) - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَبِالْجِيمِ - مَوْضِعٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، (إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ) - بِمُهْمَلَةٍ، فَأَلِفٍ، فَقَافٍ، فَفَاءٍ، أَيْ وَاقِفٌ مُنْحَنٍ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى رِجْلَيْهِ، وَقِيلَ: الْحَاقِفُ الَّذِي لَجَأَ إِلَى حِقْفٍ، وَهُوَ مَا انْعَطَفَ مِنَ الرَّمْلِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَاقِفٌ يَعْنِي: قَدِ انْحَنَى، وَتَثَنَّى فِي نَوْمِهِ، (فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ) زَادَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِسَنَدٍ، عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ:" «فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَقَالَ: لَا يَعْرِضُ لَهُ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُ النَّاسِ» "، (فَزَعَمَ)، أَيْ قَالَ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا) لَمْ يُسَمَّ (أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، لَا يَرِيبُهُ) - بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، فَتَحْتِيَّةٍ، فَمُوَحَّدَةٍ - قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَيْ لَا يَمَسُّهُ، وَلَا يُحَرِّكُهُ، وَلَا يُهَيِّجُهُ (أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يُجَاوِزَهُ) ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُنَفِّرَ الصَّيْدَ، وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَغَيْرُهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنْ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّبَذَةِ وَجَدَ رَكْبًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مُحْرِمِينَ فَسَأَلُوهُ عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوهُ عِنْدَ أَهْلِ الرَّبَذَةِ فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ثُمَّ إِنِّي شَكَكْتُ فِيمَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ عُمَرُ مَاذَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ فَقَالَ أَمَرْتُهُمْ بِأَكْلِهِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَوْ أَمَرْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَفَعَلْتُ بِكَ يَتَوَاعَدُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
790 -
780
- (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ) ، بِلَفْظِ تَثْنِيَةِ بَحْرٍ، مَوْضِعٌ بَيْنَ الْبَصْرَةِ، وَعُمَانَ (حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّبَذَةِ) - بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْمُوَحَّدَةِ، وَالْمُعْجَمَةِ - قُرْبَ الْمَدِينَةِ، (وَجَدَ رَكْبًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مُحْرِمِينَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوهُ عِنْدَ أَهْلِ الرَّبَذَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ) أَبُو هُرَيْرَةَ: (ثُمَّ إِنِّي شَكَكْتُ فِيمَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَاذَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ؟ فَقَالَ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، وَالْأَصْلُ، فَقُلْتُ:(أَمَرْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ أَمَرْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ) ، أَيْ بِمَنْعِ أَكْلِهِ، (لَفَعَلْتُ بِكَ يَتَوَاعَدُهُ) بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي الثَّانِيَةِ: لَأَوْجَعْتُكَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا نَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ قَالَ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ قَالَ فَقُلْتُ أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
791 -
781 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: أَنَّهُ) ، أَيْ أَبَا هُرَيْرَةَ (مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ) - بِفَتْحَاتٍ - وَلَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ فِي السَّابِقَةِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّبَذَةِ وَجَدَ رَكْبًا، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ وَجَدَهُمْ مَارِّينَ بِهِ لَمَّا اسْتَقَرَّ بِالرَّبَذَةِ فَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، (فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا نَاسًا أَحِلَّةً) ، جَمْعُ حَلَالٍ مِنِ أَهْلِ الرَّبَذَةِ، (يَأْكُلُونَهُ فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ) ، لِشَكِّي فِي فَتْوَايَ، (فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ) ؟ بِهِ (قَالَ: فَقُلْتُ أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَقَالَ لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ) بِالضَّرْبِ، أَوِ التَّقْرِيعِ، فَفِي هَذَا أَنَّ حِلَّ مَا لَمْ يَصِدْهُ الْمُحْرِمُ، وَلَا صِيدَ
لَهُ بَلْ صَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ كَانَ أَمْرًا مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْإِفْتَاءِ بِخِلَافِهِ، وَإِلَّا فَالْمُجْتَهِدُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ فِيمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادًا وَفَضْلًا عَنِ الْإِيجَاعِ بِضَرْبٍ، أَوْ غَيْرِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَقْبَلَ مِنْ الشَّامِ فِي رَكْبٍ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَجَدُوا لَحْمَ صَيْدٍ فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ بِأَكْلِهِ قَالَ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا قَالُوا كَعْبٌ قَالَ فَإِنِّي قَدْ أَمَّرْتُهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا ثُمَّ لَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ مَرَّتْ بِهِمْ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ أَنْ يَأْخُذُوهُ فَيَأْكُلُوهُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تُفْتِيَهُمْ بِهَذَا قَالَ هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ قَالَ وَمَا يُدْرِيكَ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ هِيَ إِلَّا نَثْرَةُ حُوتٍ يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ لُحُومِ الصَّيْدِ عَلَى الطَّرِيقِ هَلْ يَبْتَاعُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ أَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يُعْتَرَضُ بِهِ الْحَاجُّ وَمِنْ أَجْلِهِمْ صِيدَ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ وَأَنْهَى عَنْهُ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَجُلٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُحْرِمِينَ فَوَجَدَهُ مُحْرِمٌ فَابْتَاعَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ
قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَحْرَمَ وَعِنْدَهُ صَيْدٌ قَدْ صَادَهُ أَوْ ابْتَاعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ
قَالَ مَالِكٌ فِي صَيْدِ الْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ وَالْأَنْهَارِ وَالْبِرَكِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إِنَّهُ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَصْطَادَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
792 -
782 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ) ، أَيْ مَلْجَأَ الْعُلَمَاءِ الْحِمْيَرِيَّ التَّابِعِيَّ الْمَشْهُورَ، (أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي رَكْبٍ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَجَدُوا لَحْمَ صَيْدٍ) ، صَادَهُ حَلَالٌ، (فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) بِالْمَدِينَةِ (ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا؟ قَالُوا: كَعْبٌ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَمَّرْتُهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا) مِنْ نُسُكِكُمْ، لِعِلْمِهِ، فَتَقْتَدُوا فِيمَا عَرَضَ لَكُمْ، (ثُمَّ لَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ مَرَّتْ بِهِمْ رِجْلٌ) - بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ - قَطِيعٌ (مِنْ جَرَادٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ أَنْ يَأْخُذُوهُ، فَيَأْكُلُوهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تُفْتِيَهُمْ بِهَذَا؟) أَكْلِ الْجَرَادِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، (قَالَ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ) ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 96)، (قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟) ; يُعْلِمُكَ، (قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ) - أَيْ مَا - (هِيَ إِلَّا نَثْرَةُ حُوتٍ،) قَالَ الْهَرَوِيُّ، وَغَيْرُهُ: أَيْ عَطْسَتُهُ.
وَفِي الصِّحَاحِ، وَغَيْرِهِ: النَّثْرَةُ لِلْبَهَائِمِ كَالْعَطْسَةِ لَنَا.
(يَنْثُرُ) - بِضَمِّ الثَّاءِ وَكَسْرِهَا مِنْ بَابَيْ قَتَلَ وَضَرَبَ، أَيْ يَرْمِيهِ مُتَفَرِّقًا، (فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ)، وَبِذَلِكَ وَرَدَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ:" «أَنَّ الْجَرَادَ: نَثْرَةُ الْحُوتِ مِنَ الْبَحْرِ» "، وَفِي أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا:" «الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ:" «إِنَّمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ» " لَكِنَّهَا أَحَادِيثُ ضَعَّفَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ أَجَازَ لِلْمُحْرِمِ صَيْدَهُ، وَلِذَا قَالَ الْأَكْثَرُ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ، وَفِيهِ قِيمَتُهُ، وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى
رُجُوعِ كَعْبٍ عَنْ هَذَا، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، أَوْ حَسَنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ:" أَقْبَلْنَا مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي أُنَاسٍ مُحْرِمِينَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِعُمْرَةٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَكَعْبٌ عَلَى نَارٍ يَصْطَلِي، فَمَرَّتْ بِهِ رِجْلُ جَرَادٍ، فَأَخَذَ جَرَادَتَيْنِ فَقَتَلَهُمَا، وَكَانَ قَدْ نَسِيَ إِحْرَامَهُ، ثُمَّ ذَكَرَهُ فَأَلْقَاهُمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ، قَصَّ عَلَيْهِ كَعْبٌ قِصَّةَ الْجَرَادَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا جَعَلْتَ عَلَى نَفْسِكَ؟ قَالَ: دِرْهَمَيْنِ، قَالَ: بَخٍ دِرْهَمَانِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ جَرَادَةٍ " نَعَمْ، لَوْ عَمَّ الْجَرَادُ الْمَسَالِكَ، وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ وَطْئِهِ، فَلَا ضَمَانَ وَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُ.
وَقَدْ تَوَقَّفَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَنَّهُ مِنْ نَثْرَةِ حُوتٍ بِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَدْفَعُهُ.
وَقَدْ رَوَى السَّاجِيُّ عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: خَرَجَ أَوَّلُهُ مِنْ مَنْخَرِ حُوتٍ، فَأَفَادَ أَنَّ أَوَّلَ خَلْقِهِ مِنْ ذَلِكَ، لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ عُمَرُ، وَلَا صَدَّقَهُ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَالسُّنَّةُ فِيمَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْ لَا يُصَدَّقُوا، وَلَا يُكَذَّبُوا لِئَلَّا يُكَذَّبُوا فِي حَقٍّ جَاءُوا بِهِ، أَوْ يُصَدَّقُوا فِي بَاطِلٍ اخْتَلَقَهُ أَوَائِلُهُمْ وَحَرَّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ لُحُومِ الصَّيْدِ عَلَى الطَّرِيقِ هَلْ يَبْتَاعُهُ) ; يَشْتَرِيهِ (الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَعْتَرِضُ) - يَقْصِدُ (بِهِ - الْحَاجُّ وَمِنْ أَجْلِهِمْ صِيدَ، فَإِنِّي أَكْرَهُهُ) تَحْرِيمًا، (وَأَنْهَى عَنْهُ) تَحْرِيمًا، وَكَأَنَّهُ أَتَى بِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِالْكَرَاهَةِ: التَّحْرِيمُ، (فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَجُلٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُحْرِمِينَ) بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، (فَوَجَدَهُ مُحْرِمٌ، فَابْتَاعَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ) ، أَيْ يَجُوزُ لَهُ شِرَاؤُهُ، (قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَحْرَمَ وَعِنْدَهُ صَيْدٌ صَادَهُ، أَوِ ابْتَاعَهُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ) إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ، (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ) ، أَيْ يُبْقِيهِ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، وَهُوَ مَعَهُ إِلَى أَهْلِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا لِيَحْيَى وَطَائِفَةٍ.
وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ، وَطَائِفَةٌ فِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَحْرَمَ، وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّيْدِ قَدِ اسْتَأْنَسَ وَدَجَنَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ تَرَكَهُ فِي أَهْلِهِ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَسَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الْحَلَالِ يَصِيدُ الصَّيْدَ، أَوْ يَشْتَرِيهِ، ثُمَّ يُحْرِمُ وَهُوَ مَعَهُ فِي قَفَصٍ، فَقَالَ: يُرْسِلُهُ بَعْدَ أَنْ يُحْرِمَ وَلَا يُمْسِكَهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ.
فَتَحْصِيلُ قَوْلِ مَالِكٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ الصَّيْدُ حِينَ إِحْرَامِهِ أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ
قَوْلَيْهِ، وَالْآخَرُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِرْسَالُهُ كَانَ فِي يَدِهِ، أَوْ أَهْلِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي صَيْدِ الْحِيتَانِ) ، وَغَيْرِهَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، (فِي الْبَحْرِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالْبِرَكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ)، كَالْغَدِيرِ:(إِنَّهُ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَصْطَادَهُ) بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْبَحْرُ كُلُّ مَاءٍ مُجْتَمِعٍ مِنْ مِلْحٍ أَوْ عَذْبٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12](سُورَةُ فَاطِرٍ: الْآيَةُ 12) ، فَكُلُّ مَا كَانَ أَغْلَبُ عَيْشِهِ فِي الْمَاءِ، فَمِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ.
[بَاب مَا لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مِنْ الصَّيْدِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فِي وَجْهِي قَالَ إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
25 -
بَابُ مَا لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مِنَ الصَّيْدِ
793 -
783 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - بِفَتْحِهَا - (ابْنِ عُتْبَةَ) - بِضَمِّهَا - (ابْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذَلِيِّ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) الْحَبْرِ التَّرْجُمَانِ، (عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ) - بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَالْمُثَلَّثَةِ الثَّقِيلَةِ، فَأَلِفٍ، فَمِيمٍ - ابْنِ قَيْسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْمَرَ اللَّيْثِيِّ، حَلِيفِ قُرَيْشٍ، أُمُّهُ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَاسْمُهَا: فَاخِتَةُ، وَقِيلَ: زَيْنَبُ، وَيُقَالُ: هُوَ أَخُو مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ، وَكَانَ الصَّعْبُ يَنْزِلُ وَدَّانَ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُقَالُ: فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ وَيُقَالُ: الصِّدِّيقِ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ السَّكَنِ بِإِسْنَادٍ صَالِحٍ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ إِصْطَخْرُ نَادَ مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَقَالَ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَذْهَلَ النَّاسُ عَنْ ذِكْرِهِ» ، وَفَتْحُهَا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ.
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: لَمَّا رَكِبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، أَيْ يَشْكُونَهُ لِعُثْمَانَ، كَانُوا خَمْسَةً: مِنْهُمُ: الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ، وَلَهُ أَحَادِيثُ، وَآخَى صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ الصَّعْبِ، وَوَقَعَ فِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّعْبَ فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ الْأَوَّلُ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ الصَّعْبِ
بْنِ جَثَّامَةَ ( «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا» ) لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا فِي هَذَا، وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَاللَّيْثُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَيُونُسُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ كُلُّهُمْ، قَالُوا:" حِمَارًا وَحْشِيًّا " كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ:" «أَهْدَيْتُ لَهُ مِنْ لَحْمِ حِمَارِ وَحْشٍ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَهُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ "، وَلَهُ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ:" عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ يَقْطُرُ دَمًا "، وَفِي أُخْرَى لَهُ:" شِقَّ حِمَارِ وَحْشٍ "، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ عَقِيرٌ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَهْدَى بَعْضَهُ، لَا كُلَّهُ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ رِجْلٍ، وَعَجُزٍ، وَشِقٍّ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَهْدَى رِجْلًا مَعَهَا الْفَخِذُ، وَبَعْضُ جَانِبِ الذَّبِيحَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ رِوَايَةَ مَالِكٍ، وَمُوَافِقِيهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: حَدِيثُ مَالِكٍ أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى حِمَارًا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ أَهْدَى لَحْمَ حِمَارٍ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ (لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ) وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَضْطَرِبُ فِيهِ، فَرِوَايَةُ الْعَدَدِ الَّذِينَ لَمْ يَشُكُّوا فِيهِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: الْحِمَارُ عَقِيرٌ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بِحَمْلِ رِوَايَةِ أَهْدَى حِمَارًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ، وَيَمْتَنِعُ عَكْسُهُ، إِذْ إِطْلَاقُ الرِّجْلِ عَلَى كُلِّ الْحَيَوَانِ غَيْرُ مَعْهُودٍ، إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى زَيْدٍ أُصْبُعٌ، وَنَحْوُهُ، إِذْ شَرْطُ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ التَّلَازُمُ، كَالرَّقَبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالرَّأْسِ، فَإِنَّهُ لَا إِنْسَانَ دُونَهُمَا بِخِلَافِ نَحْوِ الرِّجْلِ، وَالظُّفْرِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الصَّعْبَ أَحْضَرَ الْحِمَارَ مَذْبُوحًا، ثُمَّ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّمَهُ لَهُ، فَمَنْ قَالَ أَهْدَى حِمَارًا، أَرَادَ بِتَمَامِهِ مَذْبُوحًا، لَا حَيًّا، وَمَنْ قَالَ لَحْمَ حِمَارٍ، أَرَادَ مَا قَدَّمَهُ لِلنَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَحْضَرَهُ لَهُ حَيًّا، فَلَمَّا رَدَّهُ عَلَيْهِ ذَكَّاهُ، وَأَتَاهُ بِعُضْوٍ مِنْهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِجُمْلَتِهِ، فَأَعْلَمَهُ بِامْتِنَاعِهِ أَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ حُكْمُ الْكُلِّ، انْتَهَى.
وَهَذَا الْجَمْعُ قَرِيبٌ، وَفِيهِ إِبْقَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ الَّذِي تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يُقْبَلْ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ: حَيًّا، فَكَأَنَّهُ فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ حِمَارًا.
وَفِي التَّمْهِيدِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ يَتَأَوَّلُ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَرَدَّهُ يَقْطُرُ دَمًا كَأَنَّهُ صِيدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَكْلُهُ.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ: وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ رِوَايَةَ لَحْمِ حِمَارٍ لِاحْتِيَاجِهَا لِلتَّأْوِيلِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ حِمَارِ وَحْشٍ فَلَا تَحْتَاجُ لِتَأْوِيلٍ، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ مَسْكُ صَيْدٍ حَيًّا، وَلَا يُذَكِّهِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَتَّفِقُ الْأَحَادِيثُ.
(وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْمَدِّ - جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُحْفَةِ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ مَيْلًا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَبَوُّءِ السُّيُولِ بِهِ لَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَبَاءِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: الْأَوْبَاءُ، أَوْ هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْهُ.
(أَوْ بِوَدَّانَ) - بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَشَدِّ الدَّالِ
الْمُهْمَلَةِ، فَأَلِفٍ، فَنُونٍ - مَوْضِعٌ قُرْبَ الْجُحْفَةِ، أَوْ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ أَقْرَبُ إِلَى الْجُحْفَةِ مِنَ الْأَبْوَاءِ بَيْنَهُمَا ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ، وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي، وَجَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِوَدَّانَ، وَجَزَمَ مَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو بِالْأَبْوَاءِ، (فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ رَدَّ الْحِمَارَ عَلَى الصَّعْبِ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَةُ كُلُّهَا عَلَى رَدِّهِ إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ:" «أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، فَأَكَلَ مِنْهُ، وَأَكَلَ الْقَوْمُ» " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا، فَلَعَلَّهُ رَدَّ الْحَيَّ، وَقِيلَ: اللَّحْمَ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنْ كَانَتِ الطُّرُقُ كُلُّهَا مَحْفُوظَةً، فَلَعَلَّهُ رَدَّهُ حَيًّا، لِكَوْنِهِ صِيدَ لِأَجْلِهِ، وَرَدَّ اللَّحْمَ تَارَةً لِذَلِكَ، وَقِيلَ: تَارَةً أُخْرَى حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِهِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الصَّعْبُ أَهْدَى حِمَارًا حَيًّا فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا، وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَحْمًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ.
وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَدَّهُ ظَنُّهُ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ، فَتَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ الْقَبُولُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى حَالِ رُجُوعِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَازِمٌ فِيهِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْجُحْفَةِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ.
(فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فِي وَجْهِي) مِنَ الْكَرَاهَةِ لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْكَسْرِ بِرَدِّ هَدِيَّتِهِ قَالَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ: (إِنَّا) - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِوُقُوعِهَا فِي الِابْتِدَاءِ - (لَمْ نَرُدَّهُ) - بِفَتْحِ الدَّالِ - رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ، وَقَالَ مُحَقِّقُو النُّحَاةِ: إِنَّهُ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ: ضَمُّ الدَّالِ كَآخِرِ الْمُضَاعَفِ مِنْ كُلِّ مُضَاعَفٍ مَجْزُومٍ اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ مُرَاعَاةً لِلْوَاوِ الَّتِي تُوجِبُهَا ضَمَّةُ الْهَاءِ بَعْدَهَا، لِخَفَاءِ الْهَاءِ فَكَأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَلِيَ الْوَاوَ، وَلَا يَكُونُ مَا قَبْلَ الْوَاوِ إِلَّا مَضْمُومًا هَذَا فِي الْمُذَكَّرِ، أَمَّا الْمُؤَنَّثُ مِثْلَ: رَدَّهَا، فَمَفْتُوحُ الدَّالِ مُرَاعَاةً لِلْأَلِفِ، ذَكَرَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَجَوَّزَ الْكَسْرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَضْعَفُ مِنَ الْفَتْحِ، وَإِنْ أَوْهَمَ ثَعْلَبٌ فَصَاحَةَ الْفَتْحِ، وَقَدْ غَلَّطُوهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْفَصِيحِ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى ضَعْفِهِ، (عَلَيْكَ) لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ (إِلَّا أَنَّا) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ - أَيْ لِأَجْلِ أَنَّا، (حُرُمٌ) - بِضَمِّ الْحَاءِ وَالرَّاءِ - جَمْعُ حَرَامٍ، وَالْحَرَامُ: الْمُحْرِمُ، أَيْ مُحْرِمُونَ، وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِهِ مَنْ حَرَّمَ لَحْمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا صَادَهُ الْمُحْرِمُ، أَوْ صَادَهُ حِلٌّ لَهُ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِهِ، وَقَالَ بِهِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَّلَ رَدَّهُ بِأَنَّهُ مُحْرِمٌ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَنَّكَ صِدْتَهُ لَنَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96](سُورَةُ الْمَائِدَةِ، الْآيَةُ 96) وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إِلَى أَنَّ مَا صَادَهُ حَلَالٌ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْمُحْرِمَ يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ بِخِلَافِ مَا قُصِدَ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِجَوَازِ مَا صِيدَ لَهُ بِلَا إِعَانَةٍ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ، مَرْفُوعًا:«صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادَ لَكُمْ» " الرِّوَايَةُ يُصَادَ - بِالْأَلِفٍ - عَلَى لُغَةٍ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِيكَ.
وَحَمَلُوا حَدِيثَ
الصَّعْبِ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَهُمْ بِاصْطِيَادِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِهِ فَصَادَهُ لِأَجْلِهِ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الِاصْطِيَادِ، وَعَلَى لَحْمِ مَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ الْمَبْنِيَّةِ لِلْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ، وَتَعْلِيلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلصَّعْبِ بِأَنَّهُ مُحْرِمٌ، لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ صِيدَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ بَيَّنَ الشَّرْطَ الَّذِي يُحَرِّمُ الصَّيْدَ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا صِيدَ لَهُ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ، وَقَبِلَ حِمَارَ الْبَهْزِيِّ، وَفَرَّقَهُ عَلَى الرِّفَاقِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَكَسَّبُ بِالصَّيْدِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَادَتِهِ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ، وَدَعْوَى نَسْخِهِ لِأَنَّهُ كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ، كَيْفَ وَالْحَدِيثُ الْمُتَأَخِّرُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْحُرْمَةِ الْعَامَّةِ صَرِيحًا، وَلَا ظَاهِرًا حَتَّى يُعَارِضَ الْأَوَّلَ فَيَنْسَخَهُ، هَذَا عَلَى رِوَايَةِ أَنَّهُ أَهْدَى لَحْمًا، أَمَّا عَلَى أَنَّهُ أَهْدَاهُ حَيًّا، فَوَاضِحٌ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ قَبُولُ صَيْدٍ وُهِبَ لَهُ وَشِرَاؤُهُ وَاصْطِيَادُهُ وَاسْتِحْدَاثُ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَصْلُ الْإِجْمَاعِ: الْآيَةُ، وَحَدِيثُ الصَّعْبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ، وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ رَدِّ هَدِيَّةِ الصَّدِيقِ لِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَيَّبَ نَفْسَهُ بِذِكْرِ عُذْرِ الرَّدِّ، وَفِيهِ رَدُّ مَا لَا يَجُوزُ - لِلْمُهْدَى - الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ أَيْضًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ أُرْجُوَانٍ ثُمَّ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا فَقَالُوا أَوَ لَا تَأْكُلُ أَنْتَ فَقَالَ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
794 -
784 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) الْعَدَوِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْعَنَزِيِّ، وُلِدَ عَلَى الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، (قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِالْعَرْجِ) - بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَبِالْجِيمِ - (وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةٍ) ; كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ (أُرْجُوَانٍ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَالْجِيمِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ وَاوٍ مَفْتُوحَةٍ، فَأَلِفٍ، فَنُونٍ - صُوفٌ أَحْمَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَرَى حِلَّ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ لِلْمُحْرِمِ، كَجَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَغَيْرِهِمْ كَمَا مَرَّ، (ثُمَّ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، فَقَالُوا: أَوَلَا تَأْكُلُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ) ; كَصِفَتِكُمْ، (إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي) ، وَأَنَا مُحْرِمٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا صِيدَ لِمُحْرِمٍ بِعَيْنِهِ، هَلْ لِغَيْرِ مَنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ يَأْكُلَهُ مِنْ سَائِرِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُحْرِمِينَ؟ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مَا صِيدَ لِمُحْرِمٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِ عُثْمَانَ هَذَا، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ يَاابْنَ أُخْتِي إِنَّمَا هِيَ عَشْرُ لَيَالٍ فَإِنْ تَخَلَّجَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ تَعْنِي أَكْلَ لَحْمِ الصَّيْدِ
قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ يُصَادُ مِنْ أَجْلِهِ صَيْدٌ فَيُصْنَعُ لَهُ ذَلِكَ الصَّيْدُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِ صِيدَ فَإِنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَ ذَلِكَ الصَّيْدِ كُلِّهِ
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَيَصِيدُ الصَّيْدَ فَيَأْكُلُهُ أَمْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ فَقَالَ بَلْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَمْ يُرَخِّصْ لِلْمُحْرِمِ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ وَلَا فِي أَخْذِهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَقَدْ أَرْخَصَ فِي الْمَيْتَةِ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ
قَالَ مَالِكٌ وَأَمَّا مَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ أَوْ ذَبَحَ مِنْ الصَّيْدِ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِحَلَالٍ وَلَا لِمُحْرِمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَكِيٍّ كَانَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَأَكْلُهُ لَا يَحِلُّ وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَالَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ ثُمَّ يَأْكُلُهُ إِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مِثْلُ مَنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
795 -
785
- (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ أُخْتِي) أَسْمَاءِ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، (إِنَّمَا هِيَ) ، أَيْ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ (عَشْرُ لَيَالٍ، فَإِنْ تَخَلَّجَ) - بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، وَجِيمٍ - أَيْ تَحَرَّكَ، وَيُرْوَى بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: دَخَلَ (فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ) شَكَكْتَ فِيهِ، (فَدَعْهُ) مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِثْمًا، أَوْ خَطَأً (تَعْنِي) عَائِشَةُ:(أَكَلَ لَحْمِ الصَّيْدِ) بِقَوْلِهَا الْمَذْكُورِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا خَاطَبَتْ بِهَذَا مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ لَحْمِ الصَّيْدِ جُمْلَةً مَا صَادَهُ حَلَالٌ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ، فَيَدَعُ مَا يُرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يُرِيبُهُ، وَيَتْرُكُ مَا شَكَّ فِيهِ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ: يُصَادُ مِنْ أَجْلِهِ صَيْدٌ، فَيُصْنَعُ لَهُ ذَلِكَ الصَّيْدُ، فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ أَجْلِهِ صِيدَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَ ذَلِكَ الصَّيْدِ كُلَّهُ) ، لَا بِقَدْرِ أَكْلِهِ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَقِيلَ: بِقَدْرِ أَكْلِهِ، وَقِيلَ: لَا جَزَاءَ، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَهُ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَهَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَيَصِيدُ الصَّيْدَ، فَيَأْكُلَهُ، أَمْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ؟ فَقَالَ: بَلْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَ) دَلِيلُ (ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَمْ يُرَخِّصْ لِلْمُحْرِمِ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ، وَلَا فِي أَخْذِهِ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ) ، بَلْ أَطْلَقَ الْمَنْعَ، فَقَالَ:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95)، وَقَالَ:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 96)، (وَقَدْ أَرْخَصَ فِي الْمَيْتَةِ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ) بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 173) .
(قَالَ مَالِكٌ: وَأَمَّا مَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ)
نَفْسُهُ، (أَوْ ذَبَحَ مِنَ الصَّيْدِ، فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِحَلَالٍ، وَلَا لِمُحْرِمٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَكِيٍّ) ، أَيْ مُذَكًّى، بَلْ مَيْتَةٌ سَوَاءٌ (كَانَ خَطَأً، أَوْ عَمْدًا، فَأَكْلُهُ لَا يَحِلُّ) لِأَحَدٍ، (وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ) مِنَ الْعُلَمَاءِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، لَا تَقْلِيدًا لَهُمْ، وَزِيَادَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ مِمَّنْ كُنْتُ أَقْتَدِي بِهِ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَمُرَادُهُ أَنَّهُمْ مِنْ شُيُوخِهِ إِذْ لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ.
(وَالَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ، ثُمَّ يَأْكُلُهُ، إِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ) ، أَيْ جَزَاءٌ (وَاحِدَةٌ، مِثْلُ مَنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْهُ) ، فَلَا يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، خِلَافًا لِقَوْلِ عَطَاءٍ وَطَائِفَةٍ: إِنْ ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ، ثُمَّ أَكَلَهُ، فَكَفَّارَتَانِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ زَنَى مِرَارًا قَبْلَ الْحَدِّ، إِنَّمَا عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَكَذَا الْمُحْرِمُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ إِنَّمَا عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
[بَاب أَمْرِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ]
قَالَ مَالِكٌ كُلُّ شَيْءٍ صِيدَ فِي الْحَرَمِ أَوْ أُرْسِلَ عَلَيْهِ كَلْبٌ فِي الْحَرَمِ فَقُتِلَ ذَلِكَ الصَّيْدُ فِي الْحِلِّ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ فَأَمَّا الَّذِي يُرْسِلُ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يَصِيدَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ جَزَاءٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْحَرَمِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ قَرِيبًا مِنْ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
26 -
بَابُ أَمَرِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ
(قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ شَيْءٍ صِيدَ فِي الْحَرَمِ) مِنَ الصَّيْدِ، وَإِنْ كَانَ الصَّائِدُ حِلَّا، (أَوْ أُرْسِلَ عَلَيْهِ كَلْبٌ) ، وَنَحْوُهُ (فِي الْحَرَمِ) مِنَ الْحِلِّ، فَأَخْرَجَهُ الْكَلْبُ مِنَ الْحَرَمِ، (فَقَتَلَ ذَلِكَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ) لِأَحَدٍ، (وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، فَأَمَّا الَّذِي يُرْسِلُ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يَصِيدَهُ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ) أَيْضًا كَالْأَوَّلِ، (وَ) لَكِنْ (لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ جَزَاءٌ) ، لِأَنَّ دُخُولَ الْكَلْبِ الْحَرَمَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَا مَقْدُورِهِ، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَمِ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ قَرِيبًا مِنَ الْحَرَمِ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ) لِأَنَّ الْقُرْبَ صَيَّرَ دُخُولَهُ كَأَنَّهُ مِنْ فِعْلِهِ.
[بَاب الْحُكْمِ فِي الصَّيْدِ]
قَالَ مَالِكٌ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]
قَالَ مَالِكٌ فَالَّذِي يَصِيدُ الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ يَقْتُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَبْتَاعُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ يَقْتُلُهُ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَصَابَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ
قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ أَنْ يُقَوَّمَ الصَّيْدُ الَّذِي أَصَابَ فَيُنْظَرَ كَمْ ثَمَنُهُ مِنْ الطَّعَامِ فَيُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا أَوْ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَيُنْظَرَ كَمْ عِدَّةُ الْمَسَاكِينِ فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ كَانُوا عِشْرِينَ مِسْكِينًا صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا عَدَدَهُمْ مَا كَانُوا وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا
قَالَ مَالِكٌ سَمِعْتُ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ حَلَالٌ بِمِثْلِ مَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
27 -
بَابُ الْحُكْمِ فِي الصَّيْدِ
(قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) ، أَيْ مُحْرِمُونَ، اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَقَدْ أَحْرَمْتُمْ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَقِيلَ: دَخَلْتُمْ فِي الْحَرَمِ، وَقِيلَ: هُمَا مَرَادَانِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ: أَحْرَمَ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ: الدُّخُولُ فِي حُرُمَاتِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ، وَأَنْجَدَ، وَأَتْهَمَ، وَأَصْبَحَ، وَأَمْسَى، إِذَا دَخَلَ نَجْدَ، أَوْ تِهَامَةَ، وَفِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ.
وَالثَّالِثُ اعْتَمَدَهُ الْفُقَهَاءُ، وَلَعَلَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْقَتْلَ دُونَ الذَّبْحِ لِلتَّعْمِيمِ، وَأُرِيدَ بِالصَّيْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا، إِلَّا الْمُسْتَثْنَيَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَا يُؤْكَلُ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِيهِ عُرْفًا، (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) ، ذَاكِرًا، عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، (فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) بِرَفْعِ جَزَاءٌ بِلَا تَنْوِينٍ، وَخَفْضِ مِثْلٍ، عَلَى أَنَّ جَزَاءَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِمَفْعُولِهِ تَخْفِيفًا، وَالْأَصْلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْزِيَ الْمَقْتُولَ مِنَ الصَّيْدِ مِثْلَهُ مِنَ النَّعَمِ، فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الثَّانِي، أَوْ أَنَّ مِثْلَ مُقْحَمَةٌ، كَقَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ أَيْ أَنْتَ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: فَجَزَاءٌ بِالرَّفْعِ مُنَّوَنًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَالْوَاجِبُ جَزَاءٌ، أَوْ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَيَلْزَمُهُ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِجَزَاءٍ، أَيْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مِثْلٌ أَيْ مُمَاثِلٌ مِمَّا قَتَلَهُ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ سَلَفًا وَخَلَفًا إِلَى أَنَّ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، فَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ، وَعَلَى إِثْمِهِ بِقَوْلِهِ:{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ مِنْ أَحْكَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَأِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي الْعَمْدِ، وَأَيْضًا فَقَتْلُ الصَّيْدِ إِتْلَافٌ، وَالْإِتْلَافُ مَضْمُونٌ فِي الْعَمْدِ، وَالنِّسْيَانِ، لَكِنَّ الْمُتَعَمِّدَ آثِمٌ، وَالْمُخْطِئَ غَيْرُ مَلُومٍ، وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ بِاعْتِبَارِ الْخِلْقَةِ وَالْهَيْئَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (يَحْكُمُ بِهِ) بِالْجَزَاءِ (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْأَنْوَاعَ تَتَشَابَهُ، فَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَالْفِيلِ بَدَنَةٌ لَهَا سَنَامَانِ، وَحِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ إِلَى آخِرِ مَا بُيِّنَ فِي الْفُرُوعِ، (هَدْيًا) حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ بِهِ (بَالِغُ الْكَعْبَةِ) صِفَةُ هَدْيًا، وَالْإِضَافَةُ لَفْظِيَّةٌ، أَيْ وَاصِلًا إِلَيْهَا بِأَنْ يُذْبَحَ، وَيُتَصَدَّقَ بِهِ، (أَوْ كَفَّارَةٌ) عَطْفٌ عَلَى جَزَاءٍ، (طَعَامُ مَسَاكِينَ) بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ تَقْدِيرُهُ: هِيَ طَعَامُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ بِإِضَافَةِ كَفَّارَةٍ إِلَى طَعَامٍ، لِأَنَّهَا لَمَّا تَنَوَّعَتْ إِلَى تَكْفِيرٍ بِالطَّعَامِ
وَبِالْجَزَاءِ الْمُمَاثِلِ، وَبِالصِّيَامِ حَسُنَتْ إِضَافَتُهَا لِأَحَدِ أَنْوَاعِهَا تَبْيِينًا لِذَلِكَ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي جَمْعِ مَسَاكِينَ هُنَا، لِأَنَّهُ لَا يُطْعَمُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ مِسْكِينٌ وَاحِدٌ، بَلْ جَمَاعَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِي الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ يُرَادُ بِهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَالْجُمَعُ يُرَادُ بِهِ عَنْ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) ، أَيْ أَوْ مَا سِوَاهُ مِنَ الصِّيَامِ، فَيَصُومُ عَنْ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا، أَوْ حِينًا، {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] : ثِقَلَهُ وَجَزَاءَ مَعْصِيَتِهِ {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) ، أَيْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) ، أَيْ فِي الْآخِرَةِ، وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ.
(قَالَ مَالِكٌ: فَالَّذِي يَصِيدُ الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ، ثُمَّ يَقْتُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَبْتَاعُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ يَقْتُلُهُ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ) بِقَوْلِهِ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) ، فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِمَا إِذَا صَادَهُ وَهُوَ حَلَالٌ، أَوِ ابْتَاعَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، (فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ) بِمَا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ.
(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَصَابَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ حُكِمَ عَلَيْهِ) بِالْجَزَاءِ.
(قَالَ مَالِكٌ) بَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ: (أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ، أَنْ يُقَوِّمَ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ، فَيَنْظُرَ كَمْ ثَمَنُهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمُ) - بِالرَّفْعِ، وَالنَّصْبِ (كُلَّ) ، بَالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ - (مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَيَنْظُرَ) - بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ - (كَمْ عِدَّةُ الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانُوا عِشْرِينَ مِسْكِينًا صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا عَدَدُهُمْ مَا كَانُوا) ، قَلُّوا، أَوْ كَثُرُوا، (وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95)، (قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ
وَهُوَ حَلَالٌ بِمِثْلِ مَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ) ، لِتَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُمَا عَلَى مَا مَرَّ.
[بَاب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ الدَّوَابِّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
28 -
بَابُ مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ
جَمْعُ دَابَّةٍ: اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ، لِأَنَّهُ يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ نَقَلَهُ الْعُرْفُ الْعَامُّ إِلَى ذَاتِ الْقَوَائِمِ الْأَرْبَعِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَيُسَمَّى هَذَا مَنْقُولًا عُرْفِيًّا، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْحَيَوَانِ لَشَمِلَ الْغُرَابَ، وَالْحِدَأَةَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ، لَكِنَّهُ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ الْأَكْثَرِ، وَقَدْ تَبِعَهُ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.
798 -
786 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَمْسٌ)، مُبْتَدَأٌ نَكِرَةٌ لِتَخْصِيصِهِ بِقَوْلِهِ:(مِنَ الدَّوَابِّ)، وَخَبَرُهُ:(لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ) بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ (فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ) ، أَيْ إِثْمٌ أَوْ حَرَجٌ - بِالرَّفْعِ - اسْمُ لَيْسَ مُؤَخَّرًا، (الْغُرَابُ) وَهُوَ يَخْتَلِسُ وَيَنْقُرُ ظَهْرَ الْبَعِيرِ، وَيَنْزَعُ عَيْنَيْهِ، زَادَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: الْأَبْقَعُ، وَهُوَ الَّذِي فِي ظَهْرِهِ، أَوْ بَطْنِهِ بَيَاضٌ، وَأَخَذَ بِهَذَا الْقَيْدِ قَوْمٌ، وَرَجَّحَ الْأَكْثَرُ الْإِطْلَاقَ، لِأَنَّ رِوَايَاتِهِ أَصَحُّ، (وَالْحِدَأَةُ) - بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ مَهْمُوزَةٌ - وَجَمْعُهَا حِدَا - بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْقَصْرِ، وَالْهَمْزَةِ، كَعِنَبٍ، وَعِنَبَةٍ - وَهِيَ أَخَسُّ الطَّيْرِ يَخْطِفُ أَطْعِمَةَ النَّاسِ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَالْحُدَيَّا - بِضَمِّ الْحَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ، وَشَدِّ الْيَاءِ، مَقْصُورٌ - تَصْغِيرُ الْحِدَأَةِ.
(وَالْعَقْرَبُ) وَاحِدَةُ الْعَقَارِبِ مُؤَنَّثَةٌ، وَالْأُنْثَى عَقْرَبَةٌ، وَعَقْرَبَاءٌ بِالْمَدِّ بِلَا صَرْفٍ، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَرْجُلٍ، وَعَيْنَاهَا فِي ظَهْرِهَا تَلْدَغُ، وَتُؤْلِمُ إِيلَامًا شَدِيدًا، وَرُبَّمَا مَاتَتْ بِلَسْعَتِهَا الْأَفْعَى، وَتَقْتُلُ الْفِيلَ وَالْبَعِيرَ بِلَسْعَتِهَا، وَلَا تَضْرِبُ الْمَيِّتَ، وَلَا النَّائِمَ حَتَّى يَتَحَرَّكَ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، فَتَضْرِبَهُ، وَتَأْوِي إِلَى الْخَنَافِسِ، وَتُسَالِمُهَا.
وَفِي ابْنِ مَاجَهْ: عَنْ عَائِشَةَ: «لَدَغَتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَقْرَبٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ مُصَلِّيًا، وَلَا غَيْرَهُ اقْتُلُوهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرِمِ» ، (وَالْفَأْرَةُ) - بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَتُسَهَّلُ - وَهِيَ الْفُوَيْسِقَةُ، رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ: " «أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ لِمَ سُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ الْفُوَيْسِقَةُ؟ قَالَ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ
لَيْلَةٍ، وَقَدْ أَخَذَتْ فَأْرَةٌ فَتِيلَةً لِتَحْرِقَ عَلَيْهِ الْبَيْتَ، فَقَامَ إِلَيْهَا وَقَتَلَهَا، وَأَحَلَّ قَتْلَهَا لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ» ".
وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ، فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا، فَاحْتَرَقَ مِنْهَا مَوْضِعُ دِرْهَمٍ " زَادَ الْحَاكِمُ:" «فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتُحْرِقَكُمْ» " قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ أَفْسَدُ مِنَ الْفَأْرِ، لِأَنَّهُ لَا يُبْقِي عَلَى حَقِيرٍ وَلَا جَلِيلٍ إِلَّا أَهْلَكَهُ وَأَتْلَفَهُ.
(وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) بِمَعْنَى عَاقِرٍ، أَيْ جَارِحٌ، وَهُوَ كُلُّ سَبُعٍ وَجَارِحٍ يَعْقِرُ، وَيَفْتَرِسُ، كَمَا أَفَادَهُ الْإِمَامُ بَعْدُ، وَفِيهِ جَوَازُ قَتْلِ الْمَذْكُورَاتِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَحُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الْفَأْرَةِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ، وَمُجَاهِدٍ:" «لَا يَقْتُلُ الْغُرَابَ، وَلَكِنْ يَرْمِيهِ» "، قَالَ عِيَاضٌ: لَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، لَكِنْ يُوَافِقُهُ مَا لِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ.
وَقَالَ حَسَنٌ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَرْفُوعًا:" «وَيَرْمِي الْغُرَابَ، وَلَا يَقْتُلُهُ» " قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغُرَابُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مَالِكٌ مِنْ جُمْلَةِ الْغِرْبَانِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيهِ الْفِدْيَةُ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَاللَّيْثُ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَأَيُّوبُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ كُلُّ هَؤُلَاءِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا ابْنُ جُرَيْجٍ وَحْدَهُ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ الْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
799 -
787 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ» ) ، أَوْ فِي الْحَرَمِ، (فَلَا جُنَاحَ) - لَا إِثْمَ - (عَلَيْهِ، الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ)، سُمِّيَ بِهِ لِسَوَادِهِ {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] (سُورَةُ فَاطِرٍ: الْآيَةُ 27) ، وَهُمَا لَفْظَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِهِ ; فَلِذَا اشْتَقُّوا الْغُرْبَةَ، وَالِاغْتِرَابَ، وَغُرَابُ الْبَيْنِ: هُوَ الْأَبْقَعُ، قَالَ صَاحِبُ الْمُجَالَسَةِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ بَانَ مِنْ نُوحٍ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْمَاءِ، فَذَهَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَ فَاسِقًا لِتَخَلُّفِهِ عَنْ نُوحٍ حِينَ أَرْسَلَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ أَرْضٍ، فَتَرَكَ أَمَرَهُ، وَسَقَطَ عَلَى جِيفَةٍ، وَقِيلَ: سُمِّيَ غُرَابًا لِأَنَّهُ نَأَى، وَاغْتَرَبَ لَمَّا نَفَّذَهُ نُوحٌ لِيَخْتَبِرَ أَمْرَ الطُّوفَانِ.
(وَالْحِدَأَةُ)
بِزِنَةِ عِنَبَةٍ، (وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيِ الْجَارِحُ الْمُفْتَرِسُ كَأَسَدٍ وَذِئْبٍ، سَمَّاهَا كِلَابًا لِاشْتِرَاكِهَا فِي السَّبْعِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ عَلَى عُتَيْبَةَ:" «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ، فَافْتَرَسَهُ الْأَسَدُ» " وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكَلْبُ الْمَعْرُوفُ، وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلٌ بِقِصَاصٍ، أَوْ رَجْمٌ بِزِنًا، أَوْ مُحَارَبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ إِقَامَةُ سَائِرِ الْحُدُودِ فِيهِ سَوَاءٌ جَرَى مُوجِبُ الْقَتْلِ وَالْحَدِّ فِي الْحَرَمِ، أَوْ خَارِجَهُ، ثُمَّ لَجَأَ صَاحِبُهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَآخَرُونَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ: مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ يُقَامُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَا فَعَلَهُ خَارِجَهُ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ إِتْلَافُ نَفْسٍ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ، بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يُكَلَّمُ، وَلَا يُجَالَسُ، وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ خَارِجَهُ، وَمَا كَانَ دُونَ النَّفْسِ يُقَامُ فِيهِ.
قَالَ عِيَاضٌ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَكَمِ نَحْوُهُ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 97) ، وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لِمُشَارَكَةِ فَاعِلِ الْجِنَايَةِ لِهَذِهِ الدَّوَابِّ فِي اسْمِ الْفِسْقِ، بَلْ فِسْقُهُ أَفْحَشُ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا، وَلِأَنَّ التَّضْيِيقَ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ أَمَانٌ، فَقَدْ خَالَفُوا ظَاهِرَ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْآيَةَ، قَالَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَعَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَقِيلَ: آمِنٌ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5](سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 5)، وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْبَيْتِ، لَا فِي الْحَرَمِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا فِي الْبَيْتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُمَا، فَيُقَامُ عَلَيْهِ خَارِجَهُ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يُنَزَّهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُخْرَجُ وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَحَمَّادٍ، وَأَعَادَ الْإِمَامُ الْحَدِيثَ لِإِفَادَةِ أَنَّ لَهُ فِيهِ شَيْخًا آخَرَ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عند مُسْلِمٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
800 -
788 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) ، مُرْسَلٌ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَمْسٌ فَوَاسِقُ) ، رُوِيَ بِالْإِضَافَةِ وَبِالتَّنْوِينِ، كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَبِالثَّانِي جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وَزَعْمُ أَنَّهُ قَالَ بِإِضَافَةِ خَمْسٍ لَا بِتَنْوِينِهِ
وَهْمٌ، فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ:" «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» " قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَبَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّنْوِينِ فَرْقٌ دَقِيقٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقْتَضِي الْحُكْمَ عَلَى خَمْسٍ مِنَ الْفَوَاسِقِ بِالْقَتْلِ، وَرُبَّمَا أَشْعَرَ التَّخْصِيصُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ.
وَأَمَّا التَّنْوِينُ فَيَقْتَضِي وَصْفَ الْخَمْسِ بِالْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَقَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ; وَهُوَ الْقَتْلُ مُعَلَّلٌ بِمَا جُعِلَ وَصْفًا ; وَهُوَ الْفِسْقُ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ التَّعْمِيمَ لِكُلِّ فَاسِقٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَهُوَ ضِدُّ مَا اقْتَضَاهُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ التَّخْصِيصُ.
(يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ) - بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالرَّاءِ، كَمَا ضَبَطَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ - أَيْ حَرَمِ مَكَّةَ - وَبِضَمِّ الْحَاءِ، وَالرَّاءِ، وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ فِي الْمَشَارِقِ - قَالَ: وَهُوَ جَمْعُ حَرَامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 1) ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُحَرَّمَةُ، وَالْفَتْحُ أَظْهَرُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ، (الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَائِشَةَ:" الْحَيَّةُ "، وَأَسْقَطَ الْعَقْرَبَ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ:" «سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَمَّا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ: " حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابِ، وَالْحَيَّةِ» ، قَالَ: وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا فَهِيَ سِتَّةٌ.
قَالَ عِيَاضٌ: سُمُّوا فَوَاسِقَ لِخُرُوجِهِمْ عَنِ السَّلَامَةِ مِنْهُمْ إِلَى الْإِضْرَارِ، وَالْأَذَى، فَخَرَجَتْ بِالْإِذَايَةِ عَنْ جِنْسِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنِ الْحُرْمَةِ الَّتِي لِغَيْرِهَا، وَالْأَمْرِ بِقَتْلِهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهَا، وَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقِيلَ: لِتَحْرِيمِ أَكْلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121](سُورَةُ الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 121) ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ، وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسِقًا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ بِذَلِكَ، لِخُرُوجِهَا عَنْ جُحْرِهَا، وَاغْتِيَالِهَا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْفَسَادِ، وَأَصْلُ الْفِسْقِ: الْخُرُوجُ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ الْغُرَابُ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ نُوحٍ، وَفِيهِمَا نَظَرٌ، إِذْ لَا يُسَمَّى كُلُّ خَارِجٍ، وَلَا مُتَخَلِّفٍ فَاسِقًا فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ.
قَالَ الْأَبِّيُّ: قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ لُغَةً، وَلَكِنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ خَصَّصَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَرَ بِالْقَتْلِ، وَعَلَّلَ بِالْفِسْقِ، فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى كُلِّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ، وَنَبَّهَ بِالْخَمْسَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْفِسْقِ، فَنَبَّهَ بِالْغُرَابِ عَلَى مَا يُجَانِسُهُ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ، وَكَذَا بِالْحِدَأَةِ، وَيَزِيدُ الْغُرَابَ بِحَلِّ سُفْرَةِ الْمُسَافِرِ، وَنَقْبِ جِرَابِهِ، وَبِالْحَيَّةِ عَلَى كُلِّ مَا يَلْسَعُ، وَالْعَقْرَبِ كَذَلِكَ - وَالْحَيَّةُ تَلْسَعُ وَتَفْتَرِسُ، وَالْعَقْرَبُ تَلْدَغُ، وَلَا تَفْتَرِسُ - وَبِالْفَأْرَةِ عَلَى مَا يُجَانِسُهَا مِنْ هَوَامِّ الْمَنْزِلِ الْمُؤْذِيَةِ، وَبِالْكَلْبِ الْعَقُورِ عَلَى كُلِّ مُفْتَرِسٍ، قَالَ: وَمَعْنَى فِسْقِهِنَّ: خُرُوجُهُنَّ عَنْ حَدِّ الْكَفِّ إِلَى الْأَذِيَّةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ فِي الْحَرَمِ
قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ الَّذِي أُمِرَ بِقَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ إِنَّ كُلَّ مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ وَأَخَافَهُمْ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ فَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ السِّبَاعِ لَا يَعْدُو مِثْلُ الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَالْهِرِّ وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنْ السِّبَاعِ فَلَا يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ وَأَمَّا مَا ضَرَّ مِنْ الطَّيْرِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَقْتُلُهُ إِلَّا مَا سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنْ الطَّيْرِ سِوَاهُمَا فَدَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
801 -
789
- (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ فِي الْحَرَمِ) ، إِمَّا لِأَنَّهُ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ الْحَيَّةُ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا أَوْلَى مِنَ الْعَقْرَبِ.
قَالَ الْأَبِّيُّ: وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ بِلَا إِنْذَارٍ، فَهُوَ مُخَصَّصٌ لِهَذَا الْعُمُومِ، وَالْإِنْذَارُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي حَيَّاتِ بُيُوتِ الْمَدِينَةِ آكَدُ مِنْ حَيَّاتِ بُيُوتِ غَيْرِهَا.
(قَالَ مَالِكٌ فِي) تَفْسِيرِ (الْكَلْبِ الْعَقُورِ الَّذِي أُمِرَ بِقَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ: أَنَّ كُلَّ مَا عَقَرَ النَّاسَ) جَرَحَهُمْ، (وَعَدَا عَلَيْهِمْ، وَأَخَافَهُمْ مِثْلَ الْأَسَدِ،) يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَيُجْمَعُ عَلَى أُسُودٍ، وَرُبَّمَا قِيلَ أَسَدَةٌ لِلْأُنْثَى.
(وَالنَّمِرِ) - بِفَتْحِ النُّونِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ - بِكَسْرِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْمِيمِ - سَبُعٌ أَخْبَثُ، وَأَجْرَأُ مِنَ الْأَسَدِ.
(وَالْفِهْدِ) - بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَسُكُونِ الْهَاءِ - سَبُعٌ مَعْرُوفٌ، وَالْأُنْثَى فِهْدَةٌ.
(وَالذِّيبِ) - بِالْهَمْزِ، وَعَدَمِهِ - يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَرُبَّمَا قِيلَ: ذِيبَةٌ - بِالْهَاءِ - (فَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ) ، وَبِهَذَا قَالَ السُّفْيَانَانِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: الْمُرَادُ الْكَلْبُ الْمَعْرُوفُ خَاصَّةً، وَأَلْحَقُوا بِهِ الذِّئْبَ، وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ، فَكُلُّ مَا كَانَ هَذَا نَعْتًا لَهُ مِنْ أَسَدٍ، وَنَمِرٍ، وَنَحْوِهِمَا هَذَا الْحُكْمُ.
وَحَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَى عُتَيْبَةَ بِالتَّصْغِيرِ ابْنِ أَبِي لَهَبٍ: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ، فَعَدَا عَلَيْهِ الْأَسَدُ، فَقَتَلَهُ» ".
(وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ السِّبَاعِ لَا يَعْدُو مِثْلُ الضَّبُعِ) - بِضَمِّ الْبَاءِ، لُغَةُ قَيْسٍ، وَسُكُونِهَا، لُغَةُ تَمِيمٍ - وَهِيَ أُنْثَى، وَقِيلَ: يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَرُبَّمَا قِيلَ فِي الْأُنْثَى: ضَبُعَةٌ.
(وَالثَّعْلَبِ) يَقَعُ عَلَى الْأُنْثَى وَالذَّكَرِ، وَيُخْتَصُّ بِثُعْلُبَانِ - بِضَمِّ الثَّاءِ، وَاللَّامِ - قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ فِي الْأُنْثَى: ثَعْلَبَةٌ بِالْهَاءِ.
(وَالْهِرِّ) ذَكَرُ الْقِطِّ، وَالْأُنْثَى هِرَّةٌ، قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْهِرُّ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَرُبَّمَا دَخَلَتْ فِيهَا الْهَاءُ، وَتَصْغِيرُهَا هُرَيْرَةُ.
(وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنَ السِّبَاعِ)، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يَقَعُ السَّبُعُ عَلَى كُلِّ مَا لَهُ نَابٌ يَعْدُو بِهِ، وَيَفْتَرِسُ، كَالذِّئْبِ، وَالْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ، وَأَمَّا الثَّعْلَبُ، فَلَيْسَ بِسَبُعٍ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَابٌ، لِأَنَّهُ لَا يَعْدُو بِهِ، وَلَا يَفْتَرِسُ، وَكَذَا الضَّبُعُ، وَعَلَى هَذَا فَعَدُّهُمَا فِي السِّبَاعِ تَجَوُّزٌ عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ لِلسِّبَاعِ فِي النَّابِ وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِسْ بِهِ، (فَلَا يَقْتُلُهُنَّ
الْمُحْرِمُ فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَدَاهُ، فَالْعِلَّةُ فِي قَتْلِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْحَدِيثِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله كَوْنُهُنَّ مُؤْذِيَاتٌ، فَكُلُّ مُؤْذٍ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ، وَفِي الْحَرَمِ قَتْلُهُ، وَلَا فِدْيَةَ، وَمَا لَا فَلَا، وَعِلَّتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَوْنُهُنَّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُ، فَكُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَلَا تُولَدُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ جَازَ قَتْلُهُ، وَلَا فِدْيَةَ.
وَأَمَّا (مَا ضَرَّ) آذَى (مِنَ الطَّيْرِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَقْتُلُهُ إِلَّا مَا سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغُرَابَ، وَالْحِدَأَةَ، وَإِنْ قَتَلَ الْمَحْرِمُ شَيْئًا مِنَ الطَّيْرِ سِوَاهُمَا فَدَاهُ) ، كَرَخْمٍ، وَنَسْرٍ إِلَّا أَنْ يَخَافَ مِنْهُ، وَلَا يَنْدَفِعَ إِلَّا بِقَتْلِهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ سِبَاعِ الطَّيْرِ غَيْرِ مَا فِي الْحَدِيثِ ابْتِدَاءً، وَمَنْ قَتَلَهَا فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، فَإِنِ ابْتَدَأَتْ بِالضَّرَرِ، فَلَا جَزَاءَ عَلَى قَاتِلِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِيمَنْ عَدَتْ عَلَيْهِ سِبَاعُ الطَّيْرِ، وَغَيْرُهَا.
[بَاب مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُقَرِّدُ بَعِيرًا لَهُ فِي طِينٍ بِالسُّقْيَا وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ مَالِكٌ وَأَنَا أَكْرَهُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
29 -
بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ
802 -
790 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) الْقُرَشِيِّ (عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ) - بِضَمِّ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ - (أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُقَرِّدُ بَعِيرًا لَهُ) ، أَيْ يُزِيلُ عَنْهُ الْقُرَادَ، وَيُلْقِيهِ (فِي طِينٍ بِالسُّقْيَا) - بِضَمِّ السِّينِ، وَسُكُونِ الْقَافِ، وَالْقَصْرِ - قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، (وَهُوَ مُحْرِمٌ) ، لِأَنَّهُ يَرَى حَلَّهُ، (قَالَ مَالِكٌ: وَأَنَا أَكْرَهُهُ) ، لِأَنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْبَعِيرِ، كَالْحَلَمِ، وَالْحُمْنَانِ، فَلَا يُلْقِيهِ الْمُحْرِمُ عَنِ الْبَعِيرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هَلَاكِهِ، إِلَّا أَنْ يَضُرَّ بِالْبَعِيرِ فَيُزِيلُهَا، وَيُطْعِمُ حَفْنَةً مِنْ طَعَامٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُسْأَلُ عَنْ الْمُحْرِمِ أَيَحُكُّ جَسَدَهُ فَقَالَتْ نَعَمْ فَلْيَحْكُكْهُ وَلْيَشْدُدْ وَلَوْ رُبِطَتْ يَدَايَ وَلَمْ أَجِدْ إِلَّا رِجْلَيَّ لَحَكَكْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
803 -
791 - (مَالِكٌ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ) بِلَالٍ (عَنْ أُمِّهِ) مَرْجَانَةَ: (أَنَّهَا قَالَتْ: «سَمِعْتُ
عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُ عَنِ الْمُحْرِمِ أَيَحُكُّ جَسَدَهُ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَلْيَحْكُكْهُ، وَلْيَشْدُدْ» ) زِيَادَةً فِي بَيَانِ الْإِبَاحَةِ، (وَلَوْ رُبِطَتْ يَدَايَ، وَلَمْ أَجِدْ إِلَّا رِجْلَيَّ) - بِالتَّثْنِيَةِ، أَوِ الْإِفْرَادِ - (لَحَكَكْتُ) زَادَتْ عَلَى الْمَسْئُولِ عَنْهُ، لَكِنَّ مَحْمَلَ قَوْلِهَا، وَيَشْدُدْ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى مَا إِذَا كَانَ يَرَى مَا يَحُكَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَرَهُ، كَرَأْسِهِ، وَظَهْرِهِ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ الْحَكُّ بِرِفْقٍ، لِأَنَّهُ إِذَا شَدَّدَ مَعَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ رُبَّمَا أَتَى عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ لِشَكْوٍ كَانَ بِعَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
804 -
792 - (مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى) بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي الْأُمَوِيِّ الْمَكِّيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ) - مَعْرُوفَةٌ، وَجَمْعُهَا مَرَاءٍ كَجَوَارٍ وَغَوَاشٍ - (لِشَكْوٍ) - بِالتَّنْوِينِ - مَصْدَرُ شَكَا، وَفِي رِوَايَةٍ: لِشَكْوَى - بِالْقَصْرِ - مَصْدَرٌ أَيْضًا، أَيْ وَجَعٍ (كَانَ بِعَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ) لِضَرُورَةِ الْوَجَعِ، لَا لِرَفَاهِيَةٍ، وَلَا زِينَةٍ، وَلَا دَفْعِ شَعَثٍ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ مَالِكٍ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى شَعَثًا فَيُصْلِحَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْزِعَ الْمُحْرِمُ حَلَمَةً أَوْ قُرَادًا عَنْ بَعِيرِهِ
قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
812 -
793 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْزِعَ الْمُحْرِمُ حَلَمَةً) - بِفَتْحَتَيْنِ - قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الصَّغِيرَةُ مِنَ الْقِرْدَانِ، أَوِ الضَّخْمَةُ ضِدٌّ، وَحَلَمُ الْبَعِيرِ كَفَرَحٍ: كَثُرَ حَلَمُهُ، فَهُوَ حَلَمٌ.
(أَوْ قُرَادًا) - بِزِنَةِ غُرَابٍ - مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَعِيرِ وَنَحْوُهُ، وَهُوَ كَالْقَمْلِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْجَمْعُ قِرْدَانُ بِوَزْنِ غِرْبَانَ، (عَنْ بَعِيرِهِ) ، وَأَمَّا عَنْ نَفْسِهِ فَيَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دَوَابِّ الْإِنْسَانِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) ، لِأَنَّ تَقْرِيدَهُ سَبَبٌ لِإِهْلَاكِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ ابْنُ عُمَرَ أَبَاهُ فِيهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ ظُفْرٍ لَهُ انْكَسَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ سَعِيدٌ اقْطَعْهُ
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَكِي أُذُنَهُ أَيَقْطُرُ فِي أُذُنِهِ مِنْ الْبَانِ الَّذِي لَمْ يُطَيَّبْ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا وَلَوْ جَعَلَهُ فِي فِيهِ لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا
قَالَ مَالِكٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبُطَّ الْمُحْرِمُ خُرَاجَهُ وَيَفْقَأَ دُمَّلَهُ وَيَقْطَعَ عِرْقَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
805 -
794
- (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ: أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ ظُفْرٍ لَهُ انْكَسَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ سَعِيدٌ: اقْطَعْهُ) - قَلِّمْهُ - وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَشْتَكِي أُذُنَهُ)، أَيِ الْوَجَعَ بِهَا (أَيَقْطُرُ) - يُنْقِطُ - (فِي أُذُنِهِ مِنَ الْبَانِ الَّذِي لَمْ تُطَيَّبْ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا) ، فَيَجُوزُ، (وَلَوْ جَعَلَهُ فِي فِيهِ لَمْ أَرَ بَأْسًا) ، إِذْ لَا خِلَافَ فِي إِبَاحَةِ مَا لَمْ يُطَيَّبْ، (قَالَ مَالِكٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبُطَّ) - بِضَمِّ الْبَاءِ - يَشُقَّ (الْمُحْرِمُ خُرَاجَهُ) - بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، بِزِنَةِ غُرَابٍ - بَثْرَةَ الْوَاحِدَةِ: خُرَاجَةٌ، (وَيَفْقَأَ) - بِالْهَمْزَةِ - يَشُقَّ (دُمَّلَهُ) عَرَبِيٌّ مَعْرُوفَةٌ مُذَكَّرٌ جَمْعُهُ دَمَامِيلُ، (وَيَقْطَعَ عِرْقَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ) ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ مِنْ أَذًى كَانَ بِهِ كَمَا مَرَّ.
[بَاب الْحَجِّ عَمَّنْ يُحَجُّ عَنْهُ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
30 -
بَابُ الْحَجِّ عَمَّنْ يُحَجُّ عَنْهُ
806 -
795 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) الْهِلَالِيِّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ) أَكْبَرُ وَلَدِهِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى أَبُوهُ، اسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بَأَجْنَادِينَ، هَكَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَقَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ: أَنَّ امْرَأَةً، فَذَكَرَهُ، فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ الْفَضْلِ، وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلَتْ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا، فَقَالَ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنَ الْفَضْلِ، وَغَيْرِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، انْتَهَى.
وَكَأَنَّهُ
رَجَّحَ هَذَا لِأَنَّ الْفَضْلَ كَانَ رَدِيفَ الْمُصْطَفَى حِينَئِذٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ تَقَدَّمَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى مَعَ الضَّعَفَةِ، فَكَأَنَّ الْفَضْلَ حَدَّثَ أَخَاهُ بِمَا شَاهَدَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، لَكِنْ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ حَاضِرًا، فَلَا مَانِعَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مَعَهُ، فَحَمَلَهُ تَارَةً عَنْ أَخِيهِ، وَتَارَةً حَدَّثَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، فَقَالَ: كَانَ الْفَضْلُ (رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَفِيهِ جَوَازِ الْإِرْدَافِ، وَهُوَ مِنَ التَّوَاضُعِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إِذَا أَطَاقَتْهُ الدَّابَّةُ، وَالرَّجُلُ الْجَلِيلُ جَمِيلٌ بِهِ الِارْتِدَافُ، وَالْأَنَفَةُ مِنْهُ تَجَبُّرٌ وَتَكَبُّرٌ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
(فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ)، قَالَ: الْحَافِظُ: لَمْ تُسَمَّ (مِنْ خَثْعَمَ) - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ - غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَالتَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ الْقَبِيلَةِ لَا الْعَلَمِيَّةِ، وَوَزْنُ الْفِعْلِ، قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهَا، وَاسْمُهُ أَفْتَلُ بْنُ أَنْمَارٍ، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ إِنَّمَا سُمِّيَ خَثْعَمَ بِجَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: خَثْعَمُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا تَحَالَفَ وَلَدُ أَفْتَلَ عَلَى إِخْوَتِهِ نَحَرُوا بَعِيرًا، ثُمَّ تَخَثْعَمُوا بِدَمِهِ، أَيْ تَلَطَّخُوا بِهِ بِلُغَتِهِمْ، (تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ) الْمَرْأَةُ (إِلَيْهِ) ، وَكَانَ جَمِيلًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا النَّظَرُ هُوَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ، فَإِنَّهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى النَّظَرِ إِلَى الصُّورَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِذَا قَالَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ الْفَضْلُ أَبْيَضُ وَسِيمًا.
( «فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ» ) الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْمَرْأَةُ، مَنْعًا لَهُ عَنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ وَرَدًّا إِلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عِيَاضٌ: فِيهِ مَا يَلْزَمُ الْأَئِمَّةَ مِنْ تَغْيِيرِ مَا يُخْشَى فِتْنَتُهُ، وَمَنْعُهُ مَا يُنْكَرُ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ حُرْمَةُ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْأَبِّيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّ صَرْفَهُ وَجْهَ الْفَضْلِ لَيْسَ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ، كَمَا يُعْطِيهِ كَلَامُ عِيَاضٍ وَالنَّوَوِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ لِخَوْفِ الْوُقُوعِ، كَمَا يُعْطِيهِ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: إِنْ أَرَادَ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمَ النَّظَرِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، فَهُوَ مَحَلُّ وِفَاقٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَعَمَّ مِنْ خَوْفِهَا وَأَمْنِهِ، فَفِي حَالَةِ أَمْنِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا وَجْهَانِ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصْطَفَى خَشِيَ عَلَيْهِمَا الْفِتْنَةَ، وَبِهِ صَرَّحَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً، فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا» ، قَالَ النَّوَوِيُّ نَفْسُهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَضْعَ يَدِهِ عَلَى الْفَضْلِ كَانَ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ عَنْهُ وَعَنْهَا.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: وَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَكَأَنَّهُ صَرَفَ وَجْهَهُ، بَلْ عُنُقَهُ، وَوَضْعُ يَدِهِ عَلَيْهِ مُبَالَغَةٌ فِي مَنْعِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْوَلِيِّ: فَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ، فَلَوَى عُنُقَهُ تَارَةً، وَوَضْعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ تَارَةً، وَبَيَّنَ اسْتِفْتَاءَ مَا يَقُولُهُ، (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي) - لَمْ يُسَمَّ أَيْضًا - (شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ) ، صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ، أَوْ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَدَاخِلَةِ، أَوْ شَيْخًا بَدَلٌ لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِأَنْ أَسْلَمَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَحَصَلَ لَهُ الْمَالُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجُهُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، (أَفَأَحُجُّ) أَيْ: أَيَصِحُّ أَنْ أَنُوبَ عَنْهُ، فَأَحُجَّ (عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ) ، أَيْ حُجِّي عَنْهُ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ كَالشَّافِعِيِّ: تَجِبُ الِاسْتِنَابَةُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ الْحَجِّ الْفَرْضِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَهَا: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ، لَا يُوجِبُ دُخُولَ أَبِيهَا فِي هَذَا الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ بِالِاسْتِطَاعَةِ نَزَلَ وَأَبُوهَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، فَسَأَلَتْ هَلْ يُبَاحُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَجْرٌ، وَلَا يُخَالِفُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ: فَحُجِّي عَنْهُ، لِأَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ وَإِرْشَادٍ، وَرُخْصَةٌ لَهَا أَنْ تُعَلَّ لِمَا رَأَى مِنْ حِرْصِهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ لِأَبِيهَا.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ خَاصٌّ بِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 97) ، وَكَانَ أَبُوهَا مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَكَانَتِ ابْنَتُهُ مَخْصُوصَةٌ بِذَلِكَ الْجَوَابِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ، مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، قَالَ الْمَارِي لِلْآيَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ أَنَّهَا الْبَدَنِيَّةُ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْمَالِيَّةَ، لَقَالَ: أَحُجَّاجُ الْبَيْتِ، وَالْحَجُّ فَرْعٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَمَلٌ بِدُونِ صَرْفٍ كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، فَلَا اسْتِنَابَةَ فِيهِ.
وَالثَّانِي: مَالُ صَرْفٍ كَالصَّدَقَةِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: الِاسْتِطَاعَةُ عِنْدَ مَالِكٍ هِيَ الْقُدْرَةُ وَلَوْ عَلَى رِجْلَيْهِ دُونَ مَشَقَّةٍ فَادِحَةٍ، وَقَالَ الْأَكْثَرُ: هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ الِاسْتِطَاعَةِ لَا كُلُّهَا، وَلَعَمْرِي إِنَّهُ بَيِّنٌ إِنْ صَحَّ، فَإِنْ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ السَّبَبُ فَقَدْ تَضَمَّنَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ، أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَصِحَّةَ الْجِسْمِ.
(وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، يَوْمَ النَّحْرِ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَأَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عِنْدَ الْمَنْحَرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الرَّمْيِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَشُعَيْبٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ سَبْعَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ قَالَ مَنْ حُبِسَ بِعَدُوٍّ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ حَيْثُ حُبِسَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
31 -
بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ
أَيْ مُنِعَ، يُقَالُ: حَصَرَهُ الْعَدُوُّ، وَأَحْصَرَهُ: إِذَا حَبَسَهُ، وَمَنَعَهُ عَنِ الْمُضِيِّ، مِثْلُ: صَدَّهُ، وَأَصَدَّهُ.
- (مَالِكٌ: مَنْ حُبِسَ بِعَدُوٍّ، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مِنْ مَمْنُوعَاتِ الْإِحْرَامِ، (وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ حَيْثُ حُبِسَ) ، أَيْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ، أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ.
(وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ) لِمَا أُحْصِرَ عَنْهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَنَحَرُوا الْهَدْيَ وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا يَعُودُوا لِشَيْءٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
808 -
796 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَّ هُوَ، وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ) لَمَّا صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، (فَنَحَرُوا الْهَدْيَ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مِنْ مَمْنُوعِ النُّسُكِ (قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ) ، أَيْ بِلَا طَوَافٍ، وَلَا وُصُولِ هَدْيٍ إِلَى الْبَيْتِ، (ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ) الْمُتَقَدِّمِينَ فِي صُحْبَتِهِ الْمُلَازِمِينَ لَهُ، (وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ) مِنَ الْخَارِجِينَ لِلْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُ، الْمُتَأَخِّرِينَ فِي صُحْبَتِهِ عَنْ أُولَئِكَ (أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا، وَلَا) أَمْرَهُمْ أَنْ (يَعُودُوا لِشَيْءٍ) يَفْعَلُونَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ نَفَذَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ طَوَافًا وَاحِدًا وَرَأَى ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ وَأَهْدَى»
قَالَ مَالِكٌ فَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ كَمَا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فَأَمَّا مَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ دُونَ الْبَيْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
808 -
797 (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ حِينَ خَرَجَ) : أَيْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ (إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ) ، حِينَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَخْبَارِ، أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ بَقِيَ النَّاسُ بِلَا خَلِيفَةٍ شَهْرَيْنِ، وَأَيَّامًا، فَأَجْمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ، وَالْعَقْدِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الزُّبَيْرِ وَتَمَّ لَهُ مُلْكُ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَأَعْمَالِ الْمَشْرِقِ، وَبَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ، وَمِصْرَ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ مَرْوَانُ، وَوَلِيَ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَمَنَعَ النَّاسَ الْحَجَّ خَوْفًا أَنْ يُبَايِعُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ بَعَثَ جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيْهِ الْحَجَّاجَ، فَقَاتَلَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَحَاصَرَهُمْ حَتَّى غَلَبَهُمْ، وَقَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَصَلَبَهُ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِقَوْلِ وَلَدَيْهِ: عُبَيْدُ اللَّهِ، وَسَالِمٌ: لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ إِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21](سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 21) .
(إِنْ صُدِدْتُ) - بِضَمِّ الصَّادِ - مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ مُنِعْتُ (عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا) أَنَا، وَمَنْ مَعِي (كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) مِنَ التَّحَلُّلِ حَيْثُ مَنَعُوهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ بِالْحُدَيْبِيَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ تَأْخِيرِ تِلَاوَةِ الْآيَةِ إِلَى هُنَا، قَالَ عِيَاضٌ: تَوَقَّعَ الْحَصْرَ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْهُ إِذْ لَوْ تَحَقَّقَهُ، لَمْ تَثْبُتْ لَهُ رُخْصَةُ الْحَصْرِ، لِأَنَّهُ غَرَّرَ بِإِحْرَامِهِ، بِالْإِجْمَاعِ، وَتَعَقَّبَهُ الْأَبِّيُّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِهِ أَنْ لَا يَتَرَخَّصَ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَحَقَّقَ وَاشْتَرَطَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ ضُبَاعَةَ، (فَأَهَلَّ) ابْنُ عُمَرَ (بِعُمْرَةٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الدَّارِ، أَيِ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، أَوِ الْمُرَادُ دَارَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَيَكُونُ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ دَاخِلِ بَيْتِهِ، ثُمَّ أَظْهَرَهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ (مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) سَنَةَ سِتٍّ، لِيَحْصُلَ لَهُ الْمُوَافَقَةُ، (ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَ مَا أَمْرُهُمَا) ، أَيِ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، (إِلَّا وَاحِدٌ) فِي حُكْمِ الْحَصْرِ، فَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ فِي الْعُمْرَةِ مَعَ أَنَّهَا مَحْدُودَةٌ بِوَقْتٍ، فَهُوَ فِي الْحَجِّ أَجْوَزُ، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ، (ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ) ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ نَظَرُهُ، (فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ) - بِالرَّفْعِ - وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ: " ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ "، (أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ) ، وَعَبَّرَ بَأُشْهِدُكُمْ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالنِّيَّةِ، لِيَعْلَمَ مَنِ اقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ انْتَقَلَ نَظَرُهُ لِلْقِرَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُكْمِ الْحَصْرِ، (ثُمَّ نَفَذَ) - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - مَضَى وَلَمْ يُصَدَّ، (حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ، فَطَافَ طَوَافًا وَاحِدًا) لِقِرَانِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْكُوفِيُّونَ عَلَى الْقَارِنِ طَوَافَانِ، وَسَعْيَانِ، وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: طَوَافًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ طَافَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا طَوَافًا يُشْبِهُ الطَّوَافَ الَّذِي لِلْآخَرِ وَلَا يَخْفَى مَا
فِيهِ وَرَدَّهُ قَوْلُهُ (وَرَأَى ذَلِكَ مُجْزِيًا) - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَكَسْرِ الزَّايِ بِلَا هَمْزٍ - كَافِيًا (عَنْهُ) ، إِذْ عَلَى هَذَا الْحَمْلِ يَضِيعُ، إِذْ كُلُّ مَنْ طَافَ طَوَافَيْنِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ مَجْزِيٌّ، وَيُمْنَعُ التَّأْوِيلُ عَلَى بُعْدِهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ، كَفَاهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ» "، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمُرَادِ.
(وَأَهْدَى) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ - فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْإِهْدَاءِ زَادَ الْقَعْنَبِيُّ شَاةً، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقَدِيدٍ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَوْلُهُ مُجْزِيًا بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ رَأَى، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا بِزِيَادَةِ أَنَّ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا تَنْصِبُ الْجُزْأَيْنِ، أَوْ خَبَرُ كَانَ مَحْذُوفَةً، وَلِبَعْضِ رُوَاتِهِ مُجْزِئٌ - بِالرَّفْعِ، وَالْهَمْزِ - خَبَرُ أَنَّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ النَّصْبَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمُوَطَّأِ اتَّفَقُوا عَلَى رِوَايَتِهِ بِالرَّفْعِ عَلَى الصَّوَابِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حِكَايَتَهُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ، وَبِتَقْدِيرِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ النَّصْبَ خَطَأٌ، مَعَ أَنَّ لَهُ وَجْهًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، انْتَهَى.
وَلَعَلَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى، وَمَنْ وَافَقَهُ، فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ، فَنَصْبُ مُجْزِيًا مُتَعَيَّنٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِتَمَامِهِ، وَقَبْلَهُ بِقَلِيلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ مُخْتَصَرًا بِدُونِ قَوْلِهِ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ نَظَرَ إِلَى آخِرِهِ، وَفِي الْمَغَازِي عَنْ قُتَيْبَةَ مُخْتَصَرًا كَذَلِكَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، تَامًّا الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ، وَتَابَعَهُ أَيُّوبُ وَاللَّيْثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَجُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ بِنَحْوِهِ، (قَالَ مَالِكٌ: فَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ) ، يَفْعَلُ (كَمَا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ) ، أَيْ كَفِعْلِهِ مِنَ التَّحَلُّلِ، وَنَحْرِ هَدْيِهِ، وَلَا قَضَاءَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَقَدْ تَخَلَّفَ جَمَاعَةٌ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِلَا ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ، وَلَا مَالٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمُ الْمُصْطَفَى بِعَدَمِ التَّخَلُّفِ، وَلَا بِالْقَضَاءِ، (فَأَمَّا مَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ) كَمَرَضٍ، (فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ دُونَ الْبَيْتِ) ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَجَمَاعَةٌ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، كَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَغَيْرِهِمْ فِي أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ حَابِسٍ مِنْ عَدُوٍّ وَمَرَضٍ، وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى أَفْتَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا لُدِغَ أَنَّهُ مُحْصَرٌ، رَوَاهُ ابْنُ حَزْمٍ وَالطَّحَاوِيُّ لَنَا أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي حُكْمِ إِحْصَارِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ بِالْعَدُوِّ، وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ:" إِذَا أَمِنْتُمْ " فَعُلِمَ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْإِحْلَالِ فِي الْعَدُوِّ كَانَ لِتَحْصِيلِ الْأَمْنِ مِنْهُ، وَالْإِحْلَالُ لَا يَجُوزُ مِنَ الْمَرَضِ، فَلَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ فِي
مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَدُوِّ وَارِدًا فِي الْمَرَضِ، فَلَا يُلْحِقُ بِهِ دَلَالَةً وَلَا قِيَاسًا لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ التَّحَلُّلِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِ شَيْءٍ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا أَوْ الدَّوَاءِ صَنَعَ ذَلِكَ وَافْتَدَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
32 -
بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ
809 -
798 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ) أَبِيهِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ، (فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِ شَيْءٍ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا) لِأَجْلِ الْمَرَضِ، (أَوِ الدَّوَاءِ) الْمُطَيَّبِ، (صَنَعَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ، (وَافْتَدَى) ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ الْمُحْرِمُ لَا يُحِلُّهُ إِلَّا الْبَيْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
810 -
799 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) مِنْ عَمْرَةَ أَوْ غَيْرِهَا، (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: الْمُحْرِمُ لَا يُحِلُّهُ إِلَّا الْبَيْتَ) مَا لَمْ يُحْصَرْ بِعَدُوٍّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَاهُ الْمُحْرِمُ يَمْرَضُ مَرَضًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ، فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى لُبْسٍ، أَوْ دَوَاءٍ فَعَلَ، وَافْتَدَى، فَإِذَا بَرِئَ أَتَى الْبَيْتَ، وَطَافَ، وَسَعَى، فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ سَوَاءٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَانَ قَدِيمًا أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ كُسِرَتْ فَخِذِي فَأَرْسَلْتُ إِلَى مَكَّةَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَالنَّاسُ فَلَمْ يُرَخِّصْ لِي أَحَدٌ أَنْ أَحِلَّ فَأَقَمْتُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى أَحْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
811 -
800 - (مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ) كَيْسَانَ (السَّخْتَيَانِيِّ) - بِفَتْحِ السِّينِ، وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ - الْبَصْرِيِّ الثِّقَةِ الْحُجَّةِ مِنْ كِبَارِ الْعُبَّادِ، (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ)
- بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ - الْبَلَدِ الْمَشْهُورَةِ (كَانَ قَدِيمًا أَنَّهُ) ، أَيِ الرَّجُلُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْحَرَمِيُّ شَيْخُ أَيُّوبَ، وَمُعَلِّمُهُ كَمَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، (قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ) مُعْتَمِرًا (حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ) زَادَ جَمَاعَةٌ، وَقَعْتُ عَنْ رَاحِلَتِي (كُسِرَتْ فَخِذِي، فَأَرْسَلْتُ إِلَى مَكَّةَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالنَّاسُ) الْفُقَهَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَسْتَفْتِهِمْ فِي التَّحَلُّلِ، (فَلَمْ يُرَخِّصْ لِي أَحَدٌ أَنْ أَحِلَّ)، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَأَرْسَلْتُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَا: الْعُمْرَةُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ كَوَقْتِ الْحَجِّ يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ، (فَأَقَمْتُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ) الَّذِي كُسِرَتْ فَخِذُهُ عِنْدَهُ (سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى أَحْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) بَعْدَ أَنْ صَحَّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ حُبِسَ دُونَ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
812 -
801 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حُبِسَ دُونَ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ)، أَيْ وَيَسْعَى نَحْوَ: وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبِ وَالْعَيُونَا.
وَاسْتُعْمِلَ الطَّوَافُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْمَشْيُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ حُزَابَةَ الْمَخْزُومِيَّ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَسَأَلَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عَنْ الْعُلَمَاءِ فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَذَكَرَ لَهُمْ الَّذِي عَرَضَ لَهُ فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَدَاوَى بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَيَفْتَدِيَ فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَيُهْدِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ
قَالَ مَالِكٌ وَعَلَى هَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا الْحَجُّ وَأَتَيَا يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَحِلَّا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَرْجِعَا حَلَالًا ثُمَّ يَحُجَّانِ عَامًا قَابِلًا وَيُهْدِيَانِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ
قَالَ مَالِكٌ وَكُلُّ مَنْ حُبِسَ عَنْ الْحَجِّ بَعْدَ مَا يُحْرِمُ إِمَّا بِمَرَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ أَوْ بِخَطَإٍ مِنْ الْعَدَدِ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْهِلَالُ فَهُوَ مُحْصَرٌ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُحْصَرِ
قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِك عَمَّنْ أَهَلَّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَصَابَهُ كَسْرٌ أَوْ بَطْنٌ مُتَحَرِّقٌ أَوْ امْرَأَةٌ تُطْلَقُ قَالَ مَنْ أَصَابَهُ هَذَا مِنْهُمْ فَهُوَ مُحْصَرٌ يَكُونُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ إِذَا هُمْ أُحْصِرُوا قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ قَدِمَ مُعْتَمِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى إِذَا قَضَى عُمْرَتَهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ كُسِرَ أَوْ أَصَابَهُ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْضُرَ مَعَ النَّاسِ الْمَوْقِفَ
قَالَ مَالِك أَرَى أَنْ يُقِيمَ حَتَّى إِذَا بَرَأَ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَحِلُّ ثُمَّ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ مَرِضَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحْضُرَ مَعَ النَّاسِ الْمَوْقِفَ قَالَ مَالِكٌ إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنْ اسْتَطَاعَ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ فَدَخَلَ بِعُمْرَةٍ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ نَوَاهُ لِلْعُمْرَةِ فَلِذَلِكَ يَعْمَلُ بِهَذَا وَعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَصَابَهُ مَرَضٌ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَلَّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافًا آخَرَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ وَسَعْيَهُ إِنَّمَا كَانَ نَوَاهُ لِلْحَجِّ وَعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
812 -
802 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ حُزَابَةَ) - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الزَّايِ، فَأَلِفٍ، فَمُوَحَّدَةٍ، فَهَاءٍ - (الْمَخْزُومِيِّ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَسَأَلَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ) عَنِ الْعُلَمَاءِ، (فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَذَكَرَ لَهُمُ الَّذِي عَرَضَ لَهُ، فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَدَاوَىَ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَيَفْتَدِي) لِلتَّدَاوِي
(فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ) بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ، (ثُمَّ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ، وَيَهْدِي مَا اسْتَيْسَرَ) - تَيَسَّرَ - (مِنَ الْهَدْيِ، قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ (فِيمَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ) ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ، وَقَالَ بِهِ جُمْلَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ مَكَّةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَيْنَ الْمَعْدِلُ عَنْ هَذَا؟ وَزَادَ ذَلِكَ تَقْوِيَةً بِقَوْلِهِ:(وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا أَيُّوبَ) خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ الْبَدْرِيَّ (الْأَنْصَارِيَّ) أَحَدَ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا يَأْتِي مَوْصُولًا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ فَذَكَرَهُ، (وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ) الصَّحَابِيَّ، كَمَا يَأْتِي مَوْصُولًا أَيْضًا، عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ هَبَّارًا (حِينَ فَاتَهُمَا الْحَجُّ، وَأَتَيَا يَوْمَ النَّحْرِ، أَنْ يَحِلَّا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعَا حَلَالًا) مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِمَا، (ثُمَّ يَحُجَّانِ عَامًا قَابِلًا) - بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالصِّفَةِ - (وَيَهْدِيَانِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ)، وَفِي الْبُخَارِيِّ: عَنْ سَالِمٍ، قَالَ:" «كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا، فَيُهْدِيَ، أَوْ يَصُومَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا» " وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: السُّنَّةُ كَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، فَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَكُلُّ مَنْ حُبِسَ عَنِ الْحَجِّ بَعْدَمَا يُحْرِمُ إِمَّا بِمَرَضٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ، أَوْ بِخَطَأٍ مِنَ الْعَدَدِ، أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْهِلَالُ، فَهُوَ مُحْصَرٌ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُحْصَرِ) يَتَحَلَّلُ بِفِعْلِ عُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ دَمٌ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أَصَابَهُ كَسْرٌ) لِبَعْضِ أَعْضَائِهِ، (أَوْ بَطْنٌ مُتَحَرِّقٌ) ، أَيْ إِسْهَالُ بَطْنٍ مَنَعَهُ، (أَوِ امْرَأَةٍ تُطْلِقُ) أَخَذَهَا الْمَخَاضُ - وَهُوَ وَجَعُ الْوِلَادَةِ - (قَالَ: مَنْ أَصَابَهُ هَذَا مِنْهُمْ، فَهُوَ مُحْصَرٌ يَكُونُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ إِذَا هُمْ أُحْصِرُوا) ،
فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكِّيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ قَدِمَ مُعْتَمِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى إِذَا قَضَى عُمْرَتَهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ كُسِرَ) - بِضَمٍّ فَكَسْرٍ - مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، (أَوْ أَصَابَهُ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْضُرَ مَعَ النَّاسِ الْمَوْقِفَ) بِعَرَفَةَ، (قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يُقِيمَ حَتَّى إِذَا بَرَأَ) - بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَالرَّاءِ مِنْ بَابِ نَفَعَ، وَبِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْضًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَفِي لُغَةٍ: بِضَمِّ الرَّاءِ مِنْ بَابِ قَرُبَ - صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، (خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ) لِيَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ، (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ)، وَفِي نُسْخَةٍ: وَيَسْعَى بَيْنَ (الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّ، ثُمَّ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ) جَبْرًا لِذَلِكَ، (قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) : إِخْبَارٌ مِنَ السَّائِلِ عَنْ فِعْلِهِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ جَهْلًا، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْمُحْرِمَ مِنْ مَكَّةَ إِنَّمَا يَطُوفُ، وَيَسْعَى بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، (ثُمَّ مَرِضَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحْضُرَ مَعَ النَّاسِ الْمَوْقِفَ) بِعَرَفَةَ، (قَالَ مَالِكٌ) : أَعَادَهُ لِيَفْصِلَ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ (إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ) بِكَوْنِهِ لَمْ يَأْتِ مِنْهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا بِالْإِحْرَامِ، وَطَوَافُهُ، وَسَعْيُهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ، (فَإِنِ اسْتَطَاعَ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ، فَدَخَلَ بِعُمْرَةٍ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، وَعَلَّلَ إِعَادَتَهُمَا دَفْعًا لِتَوَهُّمِ السَّائِلِ أَنَّهُ فَعَلَهُمَا، فَيُجْزِيهِ عَنْ طَوَافِ وَسَعْيِ الْعُمْرَةِ الَّتِي لَزِمَتْهُ وَإِنْ لَمْ تُجْزِهِ عَنْ حَجِّهِ بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ نَوَاهُ لِلْعُمْرَةِ) الَّتِي يَأْتِي بِهَا لِلْإِحْلَالِ، (فَلِذَلِكَ يَعْمَلُ بِهَذَا) ، أَيْ يَأْتِي بِالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، (وَعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ، وَالْهَدْيُ)، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَبَلَ وَأَقْبَلَ بِمَعْنًى يُقَالُ: عَامٌ قَابِلٌ، أَيْ مُقْبِلٌ، (فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَصَابَهُ مَرَضٌ حَالَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْحَجِّ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافًا آخَرَ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
لِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ، وَسَعْيَهُ إِنَّمَا كَانَ نَوَاهُ لِلْحَجِّ) الَّذِي فَاتَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ لَا فَرْقَ فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بَيْنَ مَنْ بِمَكَّةَ، وَغَيْرِهِمْ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلُّ بِفِعْلِ عُمْرَةٍ، إِلَّا أَنَّ مَنْ بِهَا يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ، لِيَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ بِخِلَافِ مَنْ أَتَى مُحْرِمًا مِنَ الْحِلِّ، (وَعَلَيْهِ حَجُّ) عَامٍ (قَابِلٍ، وَالْهَدْيُ) .
[بَاب مَا جَاءَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ]
قَالَ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ» قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
813 -
803 33 - بَابُ مَا جَاءَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ
اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ بَنَاهَا، فَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: أَنَّ اللَّهَ وَضَعَهَا أَوَّلًا لَا بِبِنَاءِ أَحَدٍ.
وَلِلْأَزْرَقِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَتْهَا قَبْلَ آدَمَ.
وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ عَطَاءٍ: أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ آدَمُ.
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ شِيثُ بْنُ آدَمَ.
وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ كَثِيرٍ زَاعِمًا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ مُطْلَقًا، إِذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ مَعْصُومٍ أَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا قَبْلَهُ، وَيُقَالُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ مَعْصُومٍ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِصَّةَ بِنَاءِ آدَمَ لَهَا، وَرَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ، إِذْ لَا يُقَالُ رَأْيًا.
وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ:" حَجَّ آدَمَ، فَلَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، فَقَالُوا: بِرَّ نُسُكَكَ يَا آدَمُ "، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" أَنَّ الْبَيْتَ رُفِعَ فِي الطُّوفَانِ، فَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ يَحُجُّونَهُ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، فَبَنَاهُ عَلَى أَسَاسِ آدَمَ، وَجَعَلَ طُولَهُ فِي السَّمَاءِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ بِذِرَاعِهِمْ، وَذَرَعَهُ فِي الْأَرْضِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِهِمْ، وَأَدْخَلَ الْحَجَرَ فِي الْبَيْتِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ سَقْفًا، وَجَعَلَ لَهُ بَابًا، وَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا عِنْدَ بَابِهِ يُلْقَى فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْبَيْتِ "، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَإِنْ كَانَتْ مُفْرَدَاتُهَا ضَعِيفَةٌ، لَكِنْ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ:" أَنَّ بِنَاءَ إِبْرَاهِيمَ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ، ثُمَّ انْهَدَمَ، فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، ثُمَّ انْهَدَمَ، فَبَنَتْهُ جُرْهُمُ، ثُمَّ بَنَاهُ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ " نَقَلَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، ثُمَّ قُرَيْشٌ، فَجَعَلُوا ارْتِفَاعَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا.
وَفِي رِوَايَةٍ: عِشْرِينَ، وَلَعَلَّ رَاوِيَهَا جَبَرَ الْكَسْرَ، وَنَقَّصُوا مِنْ طُولِهَا، وَمِنْ عَرْضِهَا أَذْرُعًا أَدْخَلُوهَا فِي الْحَجَرِ، لِضِيقِ النَّفَقَةِ بِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا حُوصِرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ جِهَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ تَضَعْضَعَتْ مِنَ الرَّمْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَهَدَمَهَا فِي خِلَافَتِهِ، وَبَنَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَعَادَ طُولَهَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَأَدْخَلَ مِنَ الْحَجَرِ تِلْكَ الْأَذْرُعِ، وَجَعَلَ لَهَا بَابًا آخَرَ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، شَاوَرَ الْحَجَّاجُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فِي نَقْضِ بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا مَا زَادَهُ فِي طُولِهَا، فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِي الْحَجَرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ الْبَابَ الَّذِي فَتَحَهُ، فَفَعَلَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَطَاءٍ.
وَذَكَرَ الْفَاكِهِيُّ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ نَدِمَ عَلَى إِذْنِهِ لِلْحَجَّاجِ فِي هَدْمِهَا، وَلَعَنَ الْحَجَّاجَ، وَبَقِيَ بِنَاءُ الْحَجَّاجِ إِلَى الْآنِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
وَتَبِعَهُ بْنُ عِيَاضٍ، وَغَيْرُهُ أَنَّ الرَّشِيدَ، أَوْ أَبَاهُ الْمَهْدِيَّ، أَوْ جَدَّهُ الْمَنْصُورَ أَرَادَ أَنْ يُعِيدَ الْكَعْبَةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَنَاشَدَهُ مَالِكٌ وَقَالَ: أَخْشَى أَنْ تَصِيرَ مِلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ، فَتَرَكَ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ خَشْيَةُ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ أَشَارَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا أَرَادَ هَدْمَهَا، وَتَجْدِيدَ بِنَائِهَا بِأَنْ يَرُمَّ مَا وَهِيَ مِنْهَا، وَلَا يَتَعَرَّضَ لَهَا بِزِيَادَةٍ، وَلَا نَقْصٍ، وَقَالَ: لَا آمَنُ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ، فَيُغَيِّرُ الَّذِي صَنَعْتَ، أَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ.
وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَلَا غَيْرِهِمْ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِمَّا صَنَعَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى الْآنِ، إِلَّا فِي الْمِيزَابِ، وَالْبَابِ، وَعَتَبَتِهِ، وَكَذَا وَقَعَ تَرْمِيمُ الْجِدَارِ وَالسَّقْفِ، وَسُلَّمِ السَّطْحِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَجُدِّدَ فِيهَا الرُّخَامُ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَوَّلُ مَنْ فَرَشَهَا بِالرُّخَامِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَتَحَصَّلَ مِنَ الْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا بُنِيَتْ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَنَاهَا بَعْدَ قُصَيٍّ، وَقَبْلَ بِنَاءِ قُرَيْشٍ، قَالَ الْفَاسِيُّ: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ وَهْمًا، قَالَ: وَاسْتَمَرَّ بِنَاءُ الْحَجَّاجِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَسَيَبْقَى عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُخَرِّبَهَا الْحَبَشَةُ، وَتُقِلَّهَا حَجَرًا حَجَرًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ.
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا الْبِنَاءَ لَا يُغَيَّرُ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ: مِمَّا تَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ الِاحْتِيَاجُ فِي الْكَعْبَةِ إِلَّا فِيمَا صَنَعَهُ الْحَجَّاجُ، إِمَّا مِنَ الْجِدَارِ الَّذِي بَنَاهُ فِي الْجِهَةِ الشَّامِيَّةِ، وَإِمَّا فِي السُّلَّمِ الَّذِي جَدَّدَهُ لِلسَّطْحِ، أَوْ لِلْعَتَبَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لِزِيَادَةٍ مَحْضَةٍ، كَالرُّخَامِ، أَوْ لِتَحْسِينٍ كَالْبَابِ، وَالْمِيزَابِ، وَكَذَا مَا رَوَاهُ الْفَاكِهِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ بَكْرِ بْنِ حَبِيبٍ السَّهْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ - هُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ - قَالَ: جَاوَرْتُ بِمَكَّةَ، فَعَابَتْ - بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَمُوَحَّدَةٍ - أُسْطُوَانَةٌ مِنْ أَسَاطِينِ الْبَيْتِ، فَأُخْرِجَتْ، وَجِيءَ بِأُخْرَى، لِيُدْخِلُوهَا مَكَانَهَا فَطَالَتْ عَنِ الْمَوْضِعِ، وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، وَالْكَعْبَةُ لَا تُفْتَحُ لَيْلًا، فَتَرَكُوهَا لِيَعُودُوا مِنْ غَدٍ، فَيُصْلِحُوهَا، فَجَاءُوا مِنْ غَدٍ، فَأَصَابُوهَا أَقْوَمَ مِنْ قِدْحٍ - بِكَسْرِ الْقَافِ - أَيْ سَهْمٍ.
(مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) التَّيْمِيَّ الْمَدَنِيَّ أَخَا الْقَاسِمِ، مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ قُتِلَ بِوَقْعَةِ الْحِرَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، (أَخْبَرَ) هُوَ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ)، قَالَ الْحَافِظُ: بِنَصْبِ " عَبْدَ " عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ سَالِمًا كَانَ حَاضِرًا لِذَلِكَ، فَتَكُونُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو أُوَيْسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، لَكِنَّهُ سَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَوَهِمَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَغْرَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، فَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَالْمَحْفُوظُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ، لَكِنَّهُ اخْتَصَرَهُ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ
فَتَابَعَ سَالِمًا فِيهِ.
(عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِعَائِشَةَ:(أَلَمْ تَرَيْ) - مَجْزُومٌ بِحَذْفِ النُّونِ - أَيْ أَلَمْ تَعْرِفِي؟ (أَنَّ قَوْمَكِ) : أَيْ قُرَيْشًا، (حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ) قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِخَمْسِ سِنِينَ، كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَبْنِيَّةً بِالرَّضْمِ لَيْسَ فِيهَا مَدَرٌ، وَكَانَتْ قَدْرَ مَا تَفْتَحُهَا الْعَنَاقُ، وَكَانَتْ ثِيَابُهَا تُوضَعُ عَلَيْهَا تُسْدَلُ سَدْلًا، وَكَانَتْ ذَاتَ رُكْنَيْنِ كَهَيْئَةِ هَذِهِ الْحَلْقَةِ، فَأَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ مِنَ الرُّومِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْ جُدَّةَ انْكَسَرَتْ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ، لِيَأْخُذُوا خَشَبَهَا، فَوَجَدُوا الرُّومِيَّ الَّذِي فِيهَا نَجَّارًا، فَقَدِمُوا بِهِ، وَبِالْخَشَبِ لِيَبْنُوا بِهِ الْبَيْتَ، فَكُلَّمَا أَرَادُوا هَدْمَهُ بَدَتْ لَهُمْ حَيَّةٌ فَاتِحَةً فَاهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ طَيْرًا أَعْظَمَ مِنَ النَّسْرِ، فَغَرَزَ مَخَالِبَهُ فِيهَا، فَأَلْقَاهَا نَحْوًا مِنْ جِيَادٍ، فَهَدَمَتْ قُرَيْشٌ الْكَعْبَةَ، وَبَنَوْهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُ الْحِجَارَةَ مِنْ جِيَادٍ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ يَضَعُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَبَدَتْ عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِهَا، فَنُودِيَ يَا مُحَمَّدُ خَمِّرْ عَوْرَتَكَ، فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَبَيْنَ الْمَبْعَثِ خَمْسُ سِنِينَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحُلُمَ أَجْمَرَتِ امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ مِجْمَرِهَا فِي ثِيَابِ الْكَعْبَةِ، فَاحْتَرَقَتْ، فَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي هَدْمِهَا وَهَابُوهُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ مَنْ يُرِيدُ الْإِصْلَاحَ، ثُمَّ هُدِمَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ سَالِمًا، تَابَعُوهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَبِهِ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ الْحَرِيقُ تَقَدَّمَ وَقْتُهُ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْبِنَاءِ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ السَّيْلَ كَانَ يُصِيبُ الْكَعْبَةَ، فَتَسَاقَطَ مِنْ بِنَائِهَا، وَكَانَتْ رَضْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ، فَأَرَادَتْ قُرَيْشُ رَفْعَهَا، وَتَسْقِيفَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزَهَا وَجَمَعَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ الْبِنَاءِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ.
وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَنَّ اسْمَ النَّجَّارِ الَّذِي بَنَاهَا لِقُرَيْشٍ بَاقُومَ، بِمُوَحَّدَةٍ فَأَلِفٍ فَقَافٍ مَضْمُومَةٍ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَمِيمٍ.
وَعِنْدَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ «عَنْ عَلِيٍّ: " فَلَمَّا أَرَادُوا رَفْعَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ اخْتَصَمُوا فِيهِ، فَقَالُوا: يَحْكُمُ بَيْنَنَا أَوَّلُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ، فَحَكَمَ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ» "، وَلِلطَّيَالِسِيِّ: " قَالُوا: نُحَكِّمُ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ مِنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ، فَأَمَرَ بِثَوْبٍ، فَوَضَعَ الْحَجَرَ فِي وَسَطِهِ وَأَمَرَ كُلَّ فَخْذٍ أَنْ يَأْخُذُوا بِطَائِفَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، فَرَفَعُوهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ فَوَضَعَهُ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم، (اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ الْأَسَاسُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ: " «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجِدَارِ مِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ، لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا» " زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ:" «فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا، يَدَعُونَهُ يَرْتَقِي، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا دَفَعُوهُ، فَسَقَطَ» "، أَيْ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي أَخْرَجُوهَا لِبِنَائِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَيُوَضِّحُهُ مَا لِابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، أَنَّ أَبَا وَهَبِ بْنِ عَايِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، قَالَ لِقُرَيْشٍ: لَا تُدْخِلُوا مِنْ كَسْبِكُمْ إِلَّا طَيِّبًا، وَلَا تُدْخِلُوا فِيهِ مَهْرَ بَغِيٍّ، وَلَا بَيْعَ رِبًا، وَلَا مَظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَعِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: لَا تَجْعَلُوا فِيهَا مَالًا أُخِذَ غَصْبًا، وَلَا قُطِعَتْ فِيهِ رَحِمٌ، وَلَا انْتُهِكَتْ فِيهِ حُرْمَةٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تُدْخِلُوا فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ إِلَّا طَيِّبَ أَمْوَالِكُمْ، وَتَجَنَّبُوا الْخَبِيثَ فَإِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، فَلَعَلَّهُمَا جَمِيعًا قَالَا ذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ: " أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا تَقَرَّبَتْ لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، أَيْ بِالنَّفَقَةِ الطَّيِّبَةِ فَعَجَزَتْ، فَتَرَكُوا بَعْضَ الْبَيْتِ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ ".
(قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟) أَيْ أُسُسِهِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَوْلَا حِدْثَانُ) بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، فَأَلِفٍ فَنُونٍ، مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ وُجُوبًا، أَيْ مَوْجُودٌ يَعْنِي قُرْبَ عَهْدِ (قَوْمِكَ بِالْكُفْرِ، لَفَعَلْتُ) أَيْ: لَرَدَدْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ» "، وَفِيهِ تَرْكُ مَا هُوَ صَوَابٌ خَوْفَ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ أَشَدَّ، وَاسْتِئْلَافُ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَاجْتِنَابُ وَلِيِّ الْأَمْرِ مَا يَتَسَارَعُ النَّاسُ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَمَا يُخْشَى مِنْهُ تَوَلُّدُ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا، وَتَأَلُّفَ قُلُوبِهِمْ بِمَا لَا يُتْرَكُ فِيهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ، كَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، وَجَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِرَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَفِيهِ سَدُّ الذَّرَائِعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «أَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجِدَارَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أَلْصَقَ بَابَهُ إِلَى الْأَرْضِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ:" تَنْفِرُ " الْفَاءُ بَدَلَ الْكَافِ.
وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّفْرَةَ الَّتِي خَشِيَهَا صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْسِبُوهُ إِلَى الِانْفِرَادِ بِالْفَخْرِ دُونَهُمْ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا أَمِنَ وُقُوعَهَا، عَادَ اسْتِحْبَابُ الْمَصْلَحَةِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: " «سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدِهِمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّينِي عَلَى بِنَائِهِ، لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ» ، قَالَ: أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَأَنَا أَجِدُ مَا أُنْفِقَ وَلَسْتُ
أَخَافُ النَّاسَ، فَزَادَ فِيهِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَزَادَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ، فَأَقَرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الْحَجَرِ، فَرَدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسَدَّ الْبَابَ الَّذِي فَتَحَهُ فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ.
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ: بَلَى أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا، قَالَتْ: " «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ، أَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ، فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ» ، فَنَكَتَ عَبْدُ الْمَلِكِ سَاعَةً بِعَصَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُ وَمَا تَحَمَّلَ، (قَالَ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ:(فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عِيَاضٌ: لَيْسَ هَذَا شَكًّا فِي رِوَايَتِهَا، فَإِنَّهَا مِنَ الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ بِحَيْثُ لَا يُسْتَرَابُ فِيمَا تَنْقُلُهُ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يَأْتِي بِصُورَةِ الشَّكِّ مُرَادًا بِهِ الْيَقِينُ وَالتَّقْرِيرُ، وَمِنْهُ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111] (سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: الْآيَةُ 111)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ} [سبأ: 50](سُورَةُ سَبَإٍ: الْآيَةُ 50) الْآيَةُ (مَا أُرَى) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ - أَيْ أَظُنُّ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ) افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ وَالْمُرَادُ هُنَا مَسَّهُمَا بِالْقُبْلَةِ، أَوِ الْيَدِ (اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَقْرُبَانِ مِنَ الْحِجْرِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عَلَى صِفَةِ نِصْفِ الدَّائِرَةِ، وَقَدْرُهَا: تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَزَادَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: وَلَا طَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ (إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ) الْكَعْبَةَ (لَمْ يُتَمَّمْ) مَا نَقُصَ مِنْهُ، وَهُمَا الرُّكْنَانِ اللَّذَانِ كَانَا فِي الْأَصْلِ (عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) ، فَالْمَوْجُودُ الْآنَ فِي جِهَةِ الْحِجْرِ نَقْصُ الْجِدَارِ الَّذِي بَنَتْهُ قُرَيْشٌ، فَلِذَا لَمْ يَسْتَلِمْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَبِيُّ: هَذَا مِنْ فِقْهِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ تَعْلِيلِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ، عَلَّلَ عَدَمَ الِاسْتِلَامِ بِعَدَمِ أَنَّهُمَا مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ غَيْرُهُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ عَائِشَةَ بِذَلِكَ، فَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى بَعْضَهَا، وَبَنَاهَا ابْنُ اخْتِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ لَهَا: فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكَ أَنْ يَبْنُوهُ، فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ. . . إِلَخْ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي أَحَادِيثِ
الْأَنْبِيَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي التَّفْسِيرِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى عَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ مُتَابَعَاتٌ، وَطُرُقٌ كَثِيرَةٌ بِزِيَادَاتٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ مَا أُبَالِي أَصَلَّيْتُ فِي الْحِجْرِ أَمْ فِي الْبَيْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
814 -
804 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: مَا أُبَالِي أَصَلَّيْتُ فِي الْحِجْرِ أَمْ فِي الْبَيْتِ)، لِأَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجِدَارِ أَيِ الْحِجْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْحِجْرَ كُلَّهُ مِنَ الْبَيْتِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَأَبِي عَوَانَةَ بِطُرُقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" «كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي، وَأَدْخَلَنِي الْحِجْرَ، فَقَالَ: صَلِّي فِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَيْتِ، وَلَكِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوهُ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ، فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ» "، وَلِأَحْمَدَ عَنْهَا:" أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى شَيْبَةَ الْحَجَبِيِّ لِيَفْتَحَ لَهَا الْبَيْتَ بِاللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا فَتَحْنَاهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا إِسْلَامٍ بِلَيْلٍ "، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا مُطْلَقَةٌ، وَجَاءَتْ رِوَايَاتٌ أَصَحُّ مِنْهَا مُقَيَّدَةً مِنْهَا: لِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ حَتَّى أُزِيدَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَلَهُ أَيْضًا: أَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ.
وَلَهُ أَيْضًا: وَزِدْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ.
وَلِلْبُخَارِيِّ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ حَزَرَهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا.
وَفِي جَامِعِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ: فِيهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: سِتَّةُ أَذْرُعٍ وَشَيْءٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَدَدٍ لَقِيَهُمْ مِنْ عُلَمَاءَ قُرَيْشٍ، كَمَا فِي الْمَعْرِفَةِ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَجْتَمِعُ عَلَى أَنَّهَا فَوْقَ السِّتِّ وَدُونَ السَّبْعَةِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ، مَرْفُوعًا عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَكُنْتُ أُدْخِلُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، فَهِيَ شَاذَّةٌ وَالرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ أَرْجَحُ لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَنِ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ وَجْهًا، وَهُوَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا مَا عَدَا الْفُرْجَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْحِجْرِ، فَيَجْتَمِعُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ الَّذِي عَدَّ الْفُرْجَةَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَشَيْءٍ، وَلِهَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ:" وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ "، فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَلَى جَبْرِهِ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الْجَمْعُ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الِاضْطِرَابِ وَالطَّعْنِ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُقَيَّدَةِ لِأَجْلِ الِاضْطِرَابِ، كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِاضْطِرَابِ أَنْ تَتَسَاوَى الْوُجُوهُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّرْجِيحُ، أَوِ الْجَمْعُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ هُنَا فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا هِيَ قَاعِدَةُ مَذْهَبِهِمَا، فَإِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ سَائِغٌ مَجَازًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ مُتَوَارِدَةٌ عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ قُرَيْشًا قَصَّرُوا عَنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
أَعَادَهُ عَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ الْحَجَّاجَ أَعَادَهُ عَلَى بِنَاءِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ تَأْتِ رِوَايَةٌ قَطُّ صَرِيحَةٌ أَنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْبَيْتِ، انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ سَمِعْتُ بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ مَا حُجِرَ الْحِجْرُ فَطَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ إِلَّا إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ كُلِّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
815 -
805 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: مَا حُجِرَ) بِالتَّخْفِيفِ بُنِيَ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ مُنِعَ (الْحِجْرُ، فَطَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ إِلَّا إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ كُلِّهِ) ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الطَّوَافِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُ طَافَ مِنْ دَاخِلِ الْحِجْرِ، وَكَانَ عَمَلًا مُسْتَمِرًّا، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِيجَابِ الطَّوَافِ مِنْ وَرَائِهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ مِنَ الْبَيْتِ، فَلَعَلَّ إِيجَابَ الطَّوَافِ مِنْ وَرَائِهِ احْتِيَاطًا، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُ فَعَلُوهُ اسْتِحْبَابًا لِلرَّاحَةِ مِنْ تَسَوُّرِ الْحِجْرِ، لَا سِيَّمَا وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَطُوفُونَ جَمِيعًا، فَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الْمَرْأَةِ التَّكَشُّفُ، فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا حَسْمَ هَذِهِ الْمَادَّةِ.
وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُهَلَّبُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: أَنَّ حَائِطَ الْحِجْرِ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَ عُمَرُ فَبَنَاهُ، وَوَسَّعَهُ قَطْعًا لِلشَّكِّ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ حَوْلَ الْبَيْتِ فَفِيهِ نَظَرٌ.
وَقَدْ أَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى أَنَّ عُمْدَتَهُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ لَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْبَيْتِ حَائِطٌ، كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ الْبَيْتِ حَتَّى كَانَ عُمَرُ، فَبَنَى حَوْلَهُ حَائِطًا جِدَارُهُ قَصِيرٌ، فَبَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، انْتَهَى.
وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، لَا فِي الْحِجْرِ، فَدَخَلَ الْوَهْمُ عَلَى قَائِلِهِ مِنْ هُنَا، وَلَمْ يَزَلِ الْحِجْرُ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، نَعَمْ، فِي الْحُكْمِ بِفَسَادِ طَوَافِ مَنْ طَافَ دَاخِلَ الْحِجْرِ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ نَظَرٌ، وَقَدْ قَالَ بِصِحَّتِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ كَأَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ، وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ عَرْضَ مَا بَيْنَ الْمِيزَابِ، وَمُنْتَهَى الْحِجْرِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَثُلُثُ ذِرَاعٍ مِنْهَا عَرْضُ جِدَارِ الْحِجْرِ ذِرَاعَانِ وَثُلُثٌ، وَفِي بَطْنِ الْحِجْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَعَلَى هَذَا فَنِصْفُ الْحِجْرِ لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ، فَلَا يَفْسُدُ طَوَافُ مَنْ طَافَ دُونَهُ.
وَقَوْلُ الْمُهَلَّبِ: الْفَضَاءُ لَا يُسَمَّى بَيْتًا إِنَّمَا الْبَيْتُ الْبُنْيَانُ؛ لِأَنَّ شَخْصًا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا، فَانْهَدَمَ ذَلِكَ الْبَيْتُ، لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ مَكَانَ ذَلِكَ الْبَيْتِ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ مِنَ الطَّوَافِ مَا شُرِعَ لِلْخَلِيلِ اتِّفَاقًا، فَعَلَيْنَا أَنْ نَطُوفَ حَيْثُ طَافَ، وَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِانْهِدَامِ جِرْمِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا يَسْقُطُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْهَا بِفَوَاتِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، فَحُرْمَةُ
الْبُقْعَةِ ثَابِتَةٌ وَلَوْ فُقِدَ الْجِدَارُ، وَأَمَّا الْيَمِينُ فَمُتَعَلِّقَةٌ بِالْعُرْفِ، وَيُؤَيِّدُهُ لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ، فَنُقِلَتْ حِجَارَتُهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ بَقِيَتْ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ بِالْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا، وَلَا حُرْمَةَ لِتِلْكَ الْحِجَارَةِ الْمَنْقُولَةِ إِلَى غَيْرِ مَسْجِدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ أَصْلُ الْجِدَارِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، كَمَا فِي فَتْحِ الْبَارِي.
[بَاب الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ» قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
34 -
بَابُ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ
أَيْ فِي بَعْضِهِ، وَبَقَاءُ مَشْرُوعِيَّتِهِ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هُوَ بِسُنَّةٍ، مَنْ شَاءَ رَمَلَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَرْمُلْ، وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْمِيمِ: الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ شَبِيهٌ بِالْهَرْوَلَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يُحَرِّكَ الْمَاشِي مَنْكِبَيْهِ فِي مِشْيَتِهِ.
816 -
806 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ) الصَّادِقِ (بْنِ مُحَمَّدٍ) فَقِيهٌ صَدُوقٌ إِمَامٌ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، (عَنْ أَبِيهِ) مُحَمَّدِ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيِّ الثِّقَةِ الْفَاضِلِ مِنْ سَادَاتِ آلِ الْبَيْتِ، (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ» ) بِفَتْحَتَيْنِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: ( «مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ» ) وَهِيَ الْأُوَلُ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدُمُ، فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَمْشِي أَرْبَعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " «كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» ، فَالرَّمَلُ سُنَّةٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، فَلَوْ تَرَكَهُ فِيهَا وَلَوْ عَمْدًا، لَمْ يَرْمُلْ فِيمَا بَقِيَ كَتَارِكِ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ لَا يَقْرَأُهَا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَيْئَةَ الطَّوَافِ فِي الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ السَّكِينَةُ فَلَا تُغَيَّرُ، وَلَا فَرْقَ فِي سُنِّيَّةِ الرَّمَلِ بَيْنَ مَاشٍ وَرَاكِبٍ، أَوْ مَحْمُولٍ لِمَرَضٍ أَوْ صَبِيٍّ، وَلَا دَمَ بِتَرْكِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ "، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِيعَابُ الرَّمَلِ فِي جَمِيعِ الطَّوْفَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِمْ» "، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الِاسْتِيعَابِ، فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ لِكَوْنِهِ
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، فَهُوَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ فِي الْبَدَنِ، فَرَمَلُوا إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ فِيمَا عَدَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا جُلُوسًا فِي الْحِجْرِ فَلَا يَرَوْنَهُمْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا حَجَّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ عَشْرٍ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ لِأَنَّهُ الْآخِرُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدِيثُ الْبَابِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَيَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ:" «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ الثَّلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ» "(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ) أَيِ اسْتَمَرَّ (عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) ، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ.
فَفِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ:«قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّمَلَ بِالْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشْيَ أَرْبَعَةٍ أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قُلْتُ: مَا قَوْلُكَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنَ الْهُزَالِ، وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا، وَيَمْشُوا أَرْبَعًا» ، أَيْ صَدَقُوا فِي أَنَّ الْمُصْطَفَى فَعَلَهُ، وَكَذَبُوا فِي أَنَّهُ سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ سُنَّةً مَطْلُوبَةً عَلَى تَكَرُّرِ السِّنِينَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ تِلْكَ السَّنَةَ لِإِظْهَارِ الْقُوَّةِ لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى "، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
وَكَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَحَظَ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ:" «مَا لَنَا وَالْمُرْمِلَ إِنَّمَا كُنَّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ» "، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ:" ثُمَّ رَمَلَ فَهَمَّ بِتَرْكِهِ لِفَقْدِ سَبَبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَهُ حِكْمَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا فَرَأَى الِاتِّبَاعَ أَوْلَى "، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ بَاعِثًا عَلَى تَذَكُّرِ سَبَبِهِ فَيَذْكُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ لَا يُشَكِّلُ قَوْلُهُ رَأْيَنَا، مَعَ أَنَّ الرُّؤْيَا بِالْعَمَلِ مَذْمُومٌ لِأَنَّ صُورَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ صُورَةَ الرِّيَاءِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مَذْمُومَةً؛ لِأَنَّ الْمَذْمُومَ أَنْ يُظْهِرَ الْعَمَلَ، لِيُقَالَ: إِنَّهُ عَامِلٌ، وَلَا يَعْمَلُهُ إِذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَمَا وَقَعَ لَهُمْ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمُخَادَعَةِ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ أَوْهَمُوا الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ أَقْوِيَاءٌ، لِئَلَّا يَطْمَعُوا فِيهِمْ، وَقَدْ صَحَّ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَيَمْشِي أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
817 -
807 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَرْمُلُ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ) ، أَيِ الْأَوَّلُ، (وَيَمْشِي أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ) ، أَيِ الْأَخِيرَةُ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمِ بْنِ أَخْضَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، وَذَكَرَ، أَيِ: ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ، وَلَهُ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:" «رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا» " فَكَأَنَّ نَافِعًا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، مَرْفُوعًا، وَمَوْقُوفًا، وَتَارَةً يَجْمَعُهُمَا مَعًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ يَسْعَى الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ يَقُولُ
اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَا
…
وَأَنْتَ تُحْيِي بَعْدَ مَا أَمَتَّا
يَخْفِضُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
818 -
808 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ يَسْعَى) ، أَيْ يُسْرِعُ الْمَشْيَ، أَيْ يَرْمُلُ (الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ) الْأُوَلَ، جَمْعُ شَوْطٍ - بِفَتْحِ الشِّينِ - وَهُوَ الْجَرْيُ مَرَّةً إِلَى الْغَايَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الطَّوْفَةُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ تَسْمِيَةِ الطَّوْفَةِ شَوْطًا، وَنُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالشَّافِعِيِّ كَرَاهَتُهُ (يَقُولُ) : اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَا وَأَنْتَ تُحْيِي بَعْدَمَا أَمَتَّا هَذَا بَيْتٌ فِيهِ زِحَافُ الْخَزْمِ بِمُعْجَمَتَيْنِ، وَهُوَ زِيَادَةُ سَبَبٍ خَفِيفٍ فِي أَوَّلِهِ، (يَخْفِضُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ) كَيْ لَا يَشْتَغِلَ النَّاسُ بِسَمَاعِهِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مِنَ الشِّعْرِ الْجَارِي مَجْرَى الذِّكْرِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا الشِّعْرُ كَلَامٌ؛ فَحَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَكَانَ عُرْوَةُ شَاعِرًا، وَالشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ بِهِ رَطْبَةٌ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا: يَا فَالِقَ الْإِصْبَاحِ أَنْتَ رَبِّي وَأَنْتَ مَوْلَايَ وَأَنْتَ حَسْبِي فَأَصْلِحَنَّ بِالْيَقِينِ قَلْبِي وَنَجِّنِي مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْكَرْبِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ التَّنْعِيمِ قَالَ ثُمَّ رَأَيْتُهُ يَسْعَى حَوْلَ الْبَيْتِ الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
819 -
809 (مالكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ رَأَى) أَخَاهُ (عَبْدَ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ) الْمَعْرُوفِ الْآنَ بِمَسَاجِدِ عَائِشَةَ، (قَالَ) عُرْوَةُ:(ثُمَّ رَأَيْتُهُ) عَبْدَ اللَّهَ (يَسْعَى) يَرْمُلُ (حَوْلَ الْبَيْتِ الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ) الْأُوَلَ لِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْرَمَ مِنَ التَّنْعِيمِ وَالْجُعْرَانَةِ وَنَحْوِهِمَا بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ، وَلِذَا عَقَّبَهُ بِهِ فَقَالَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى وَكَانَ لَا يَرْمُلُ إِذَا طَافَ حَوْلَ الْبَيْتِ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
820 -
810
- (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ) مُفْرَدًا، أَوْ قَارِنًا، (لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ) طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، (وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى) ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى بَعْدُ، (وَكَانَ لَا يَرْمُلُ) بِضَمِّ الْمِيمِ مُضَارِعُ رَمَلَ بِفَتْحِهَا، وَالِاسْمُ الرَّمَلُ بِالْفَتْحِ أَيْضًا، كَطَلَبَ يَطْلُبُ طَلَبًا (إِذَا طَافَ حَوْلَ الْبَيْتِ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ) لِأَنَّهُ لَا يَشْرَعُ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْهُ أَيْضًا نَدْبُهُ.
[بَاب الْاسْتِلَامِ فِي الطَّوَافِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ وَرَكَعَ الرَّكْعَتَيْنِ وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
35 -
بَابُ الِاسْتِلَامِ فِي الطَّوَافِ
افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ - بِالْفَتْحِ - أَيِ التَّحِيَّةِ، قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقِيلَ مِنَ السِّلَامِ بِالْكَسْرِ، أَيِ الْحِجَارَةِ.
822 -
811 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) مِمَّا صَحَّ فِي مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَغَيْرِهِمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجَّةِ النَّبَوِيَّةِ، عَنْ جَابِرٍ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ» ) ، أَيْ أَدَّاهُ وَفَرَغَ مِنْهُ، فَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْأَدَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 200) ، أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْعِبَادَةِ الْمَفْعُولَةِ خَارِجَ وَقْتِهَا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، ( «وَرَكَعَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ» ) إِلَى السَّعْيِ، فَيُسَنُّ تَقْبِيلُهُ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَبِيَدِهِ، ثُمَّ عَوَّدَ وَوَضَعَهُمَا عَلَى فِيهِ.
فَفِي مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ:" «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمَجَنَّتِهِ، ثُمَّ يُقَبِّلُهُ» "، زَادَ أَبُو دَاوُدَ:" «ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَطَافَ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ» ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَيْفَ صَنَعْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ اسْتَلَمْتُ وَتَرَكْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَبْتَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
822 -
812
- (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ قَالَ) مُرْسَلٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ:(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزُّهْرِيِّ أَحَدِ الْعَشْرَةِ: (كَيْفَ صَنَعْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ) كُنْيَتُهُ (فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنِ) ، وَكَذَا لِيَحْيَى، وَأَبِي مُصْعَبٍ، وَغَيْرِهِمَا لَمْ يُقَبِّلُوا الْأَسْوَدَ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرُهُ عَنْ هِشَامٍ، وَزَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ، وَالْقَعْنَبِيُّ: وَالْأَكْثَرُ الْأَسْوَدُ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ: فِي اسْتِلَامِكَ الْحَجَرَ، فَزَعَمَ ابْنُ وَضَّاحٍ أَنَّ يَحْيَى سَقَطَ مِنْ كِتَابِهِ الْأَسْوَدُ، وَأَمَرَهُ بِإِلْحَاقِهَا فِي كِتَابِ يَحْيَى، وَهُوَ مِمَّا تَسَوَّرَ فِيهِ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَهِيَ صَوَابٌ تُوبِعَ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرَانِ جَائِزَانِ، أَيْ إِثْبَاتُ لَفْظِ الْأَسْوَدِ، وَحَذْفُهَا، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ مُلَخَّصًا.
(فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اسْتَلَمْتُ) حِينَ قَدَرْتُ، (وَتَرَكْتُ) حِينَ عَجَزْتُ، فَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَى الرُّكْنَ، فَوَجَدَهُمْ يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ اسْتَقْبَلَهُ، وَكَبَّرَ وَدَعَا، ثُمَّ طَافَ فَإِذَا وَجَدَ خَلْوَةً اسْتَلَمَهُ.
(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَصَبْتَ) ، فَفِي تَصْوِيبِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْمُزَاحَمَةُ.
وَقَدْ رَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَرَاهَتُهَا، وَقَالَ: لَا تُؤْذِي وَلَا تُؤْذَى، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ:" قَالَ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: «يَا أَبَا حَفْصٍ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ فَلَا تُزَاحِمْ عَلَى الرُّكْنِ، فَإِنَّكَ تُؤْذِي الضَّعِيفَ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَكَبِّرْ وَامْضِ» " مُرْسَلٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: " «سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ، وَيُقَبِّلُهُ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ زَحَمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غَلَبْتُ، قَالَ: اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمِينِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ» "، فَظَاهِرُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَرَ الزِّحَامَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الِاسْتِلَامِ.
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنِ حَتَّى يُدْمَى.
وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَوِيَتِ الْأَفْئِدَةُ إِلَيْهِ، فَأُرِيدُ أَنْ يَكُونَ فُؤَادِي مَعَهُمْ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا وَكَانَ لَا يَدَعُ الْيَمَانِيَ إِلَّا أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
823 -
813 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا)
وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: كَانَ إِذَا بَدَأَ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَإِذَا خَتَمَ، (وَكَانَ لَا يَدَعُ الْيَمَانِيَّ) لَا يَتْرُكُ اسْتِلَامَهُ (إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ) ، فَيُكَبِّرُ وَيَمْضِي، وَكَذَا أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ رَأَى أَبَاهُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ مَهْجُورًا.
وَمَرَّ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: «إِنَّمَا تَرَكَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ» .
وَعَلَى هَذَا حَمَلَ ابْنُ الْقَصَّارِ ابْنَ التِّينِ اسْتِلَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَمَرَ الْكَعْبَةَ أَتَمَّهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ: أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَرَدَّ الرُّكْنَيْنِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ، وَاعْتَمَرَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ، فَلَمْ يَزَلِ الْبَيْتُ عَلَى بِنَائِهِ إِذَا طَافَ الطَّائِفُ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ جَمِيعَهَا حَتَّى قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ.
وَعِنْدَهُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي أَنَّ آدَمَ لَمَّا حَجَّ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا.
وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ لَمَّا فَرَغَا مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ، طَافَا بِهِ سَبْعًا يَسْتَلِمَانِ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ: أَنَّهُ لَا يَسْتَلِمُ إِلَّا الْأَسْوَدَ، وَالْيَمَانِيَّ.
وَرُوِيَ اسْتِلَامُ الْكُلِّ عَنْ جَابِرٍ وَأَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَمُعَاوِيَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسُوِيدِ بْنِ غَفْلَةَ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ:" «كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ فَكَانَ مُعَاوِيَةُ لَا يَمُرُّ بِرُكْنٍ إِلَّا اسْتَلَمَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا الْحَجَرَ، وَالْيَمَانِيَّ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا» "، زَادَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ.
" «فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْتَ» "، وَقَدْ أَجَابَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّا لَمْ نَدَعِ اسْتِلَامَهُمَا هَجْرًا لِلْبَيْتِ، وَكَيْفَ يَهْجُرُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِهِ وَلَكِنَّا نَتَّبِعُ السُّنَّةَ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِهِمَا هَجْرًا لَكَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِ مَا بَيْنَ الْأَرْكَانِ هَجْرًا لَهَا، وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حِفْظُ الْمَرَاتِبِ، وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ، وَتَنْزِيلُ كُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلَتَهُ.
[بَاب تَقْبِيلِ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ فِي الْاسْتِلَامِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ «قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لِلرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ قَبَّلَهُ» قَالَ مَالِكٌ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ إِذَا رَفَعَ الَّذِي يَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَدَهُ عَنْ الرُّكْنِ الْيَمَانِي أَنْ يَضَعَهَا عَلَى فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
36 -
بَابُ تَقْبِيلِ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ فِي الِاسْتِلَامِ
824 -
814 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مُرْسَلٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَا خِلَافٍ يَسْتَنِدُ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ ثَابِتَةٍ، وَزَعَمَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ مُسْنَدًا أَرْبَعَةَ عَشَرَ
رَجُلًا، انْتَهَى.
وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ مِنْهَا: طَرِيقُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ (ابْنَ الْخَطَّابِ قَالَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لِلرُّكْنِ الْأَسْوَدِ) مُخَاطِبًا لَهُ، لِيُسْمِعَ الْحَاضِرِينَ:(إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ) مَخْلُوقٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لِأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ "، (وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ، ثُمَّ قَبَّلَهُ) » عُمَرُ، لِأَنَّ مُتَابَعَتَهُ عليه السلام مَشْرُوعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْ مَعْنَاهَا، وَفِيهَا نَفْعٌ بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ، فَمَعْنَاهُ إِنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى ضُرٍّ، وَلَا نَفْعٍ كَبَاقِي الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ، فَأَشَاعَ عُمَرُ هَذَا فِي الْمَوْسِمِ، لِيَشْتَهِرَ فِي الْبُلْدَانِ، وَيَحْفَظَهُ أَهْلُ الْمَوْسِمِ الْمُخْتَلِفُو الْأَوْطَانِ، لِئَلَّا يَغْتَرَّ بَعْضُ قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ الَّذِينَ أَلِفُوا عِبَادَةَ الْأَحْجَارِ وَتَعْظِيمَهَا، وَرَجَاءَ نَفْعِهَا، وَخَوْفِ الضَّرَرِ بِالتَّقْصِيرِ فِي تَعْظِيمِهَا، وَالْعَهْدُ بِذَلِكَ قَرِيبٌ، فَخَافَ عُمَرُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَاهُ يُقَبِّلُهُ فَيُفْتَنُ بِهِ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «حَجَجْنَا مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا طَافَ اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ قَبَّلَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: بَلَى إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، قَالَ: بِمَ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] (سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 172) ، خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وَمَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَقَرَّرَهُمْ بِأَنَّهُ الرَّبُّ، وَأَنَّهُمُ الْعَبِيدُ وَأَخَذَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ، وَكَتَبَ ذَلِكَ فِي رَقٍّ، وَكَانَ لِهَذَا الْحَجَرِ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ، فَقَالَ: افْتَحْ فَفَتَحَ فَاهُ، فَأَلْقَمَهُ ذَلِكَ الرَّقَّ، وَقَالَ: اشْهَدْ لِمَنْ وَافَاكَ بِالْمُوَافَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَلَهُ لِسَانٌ ذَلِقٌ يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ بِالتَّوْحِيدِ، فَهُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَضُرُّ، وَيَنْفَعُ، فَقَالَ عُمَرُ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَعِيشَ فِي قَوْمٍ لَسْتُ فِيهِمْ يَا أَبَا حَسَنٍ» "، قَالَ الْحَاكِمُ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَحْتَجَّا بِأَبِي هَارُونَ عِمَارَةَ بْنِ جُوَيْنٍ الْعَبْدِيِّ، قَالَ غَيْرُهُ: وَلَا مِنْ شَرْطِ غَيْرِهِمَا، فَأَبُو هَارُونَ ضَعَّفَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ جَوَازَ تَقْبِيلِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ.
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَبْرِهِ، وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْهُ.
وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَانِيِّ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ، وَقُبُورِ الصَّالِحِينَ.
(قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يُسْتَحَبُّ إِذَا رَفَعَ الَّذِي يَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَدَهُ عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، أَنْ يَضَعَهَا عَلَى فِيهِ) ، هَكَذَا قَالَ يَحْيَى وَابْنُ
وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ بَكِيرٍ، وَأَبُو مُصْعَبٍ، وَجَمَاعَةُ الْيَمَانِيِّ، زَادَ ابْنُ وَهْبٍ: مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، فَعَجِبَ مِنِ ابْنِ وَضَّاحٍ وَقَدْ رَوَى مُوَطَّأُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَهِيَ بِأَيْدِي أَهْلِ بِلَادِنَا فِي الشُّهْرَةِ كَرِوَايَةِ يَحْيَى، وَفِيهِمَا جَمِيعًا الْيَمَانِيُّ كَيْفَ أَنْكَرَهُ عَلَى يَحْيَى، وَأَمَرَهُ بِطَرْحِهِ، وَلَكِنَّ الْغَلَطَ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَكَأَنَّهُ رَأَى رِوَايَةَ الْقَعْنَبِيِّ، وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى قَوْلِهِ: الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ، فَأَنْكَرَ الْيَمَانِيُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ وَضَّاحٍ لَمْ يَرْوِ مُوَطَّأِ الْقَعْنَبِيِّ فَهَذَا مِمَّا تَسَوَّرَ فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ يَحْيَى، وَهِيَ صَوَابٌ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
[بَاب رَكْعَتَا الطَّوَافِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ السُّبْعَيْنِ لَا يُصَلِّي بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ كُلِّ سُبْعٍ رَكْعَتَيْنِ فَرُبَّمَا صَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الطَّوَافِ إِنْ كَانَ أَخَفَّ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ فَيَقْرُنَ بَيْنَ الْأُسْبُوعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ يَرْكَعُ مَا عَلَيْهِ مِنْ رُكُوعِ تِلْكَ السُّبُوعِ قَالَ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يُتْبِعَ كُلَّ سُبْعٍ رَكْعَتَيْنِ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ فِي الطَّوَافِ فَيَسْهُو حَتَّى يَطُوفَ ثَمَانِيَةَ أَوْ تِسْعَةَ أَطْوَافٍ قَالَ يَقْطَعُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ زَادَ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَعْتَدُّ بِالَّذِي كَانَ زَادَ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى التِّسْعَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ سُبْعَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الطَّوَافِ أَنْ يُتْبِعَ كُلَّ سُبْعٍ رَكْعَتَيْنِ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ شَكَّ فِي طَوَافِهِ بَعْدَمَا يَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَلْيَعُدْ فَلْيُتَمِّمْ طَوَافَهُ عَلَى الْيَقِينِ ثُمَّ لِيُعِدْ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لِطَوَافٍ إِلَّا بَعْدَ إِكْمَالِ السُّبْعِ وَمَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ يَنْقُضُ وُضُوءَهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ بَيْنَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ وَقَدْ طَافَ بَعْضَ الطَّوَافِ أَوْ كُلَّهُ وَلَمْ يَرْكَعْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَسْتَأْنِفُ الطَّوَافَ وَالرَّكْعَتَيْنِ وَأَمَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَا أَصَابَهُ مِنْ انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ وَلَا يَدْخُلُ السَّعْيَ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ بِوُضُوءٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
37 -
بَابٌ رَكْعَتَا الطَّوَافِ
825 -
815 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ السُّبْعَيْنِ) حَالَ كَوْنِهِ (لَا يُصَلِّي بَيْنَهُمَا) الرَّكْعَتَيْنِ، (وَلَكِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ كُلِّ سُبْعٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ - أَيْ سَبْعِ طَوْفَاتٍ (رَكْعَتَيْنِ) اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، (فَرُبَّمَا صَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ) ، أَيْ خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَمَلًا بِالْمُسْتَحَبِّ، (أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ) ، لِجَوَازِهِ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الطَّوَافِ، إِنْ كَانَ أَخَفَّ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَطَوَّعَ) بِهِ، (فَيَقْرُنَ) - بِالنَّصْبِ - (بَيْنَ الْأُسْبُوعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ يَرْكَعُ مَا عَلَيْهِ مِنْ رُكُوعِ تِلْكَ السُّبُوعِ) - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُوَحَّدَةِ - لُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْأُسْبُوعِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ جَمْعُ سُبْعٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، كَبَرْدٍ، وَبُرُودٍ، وَفِي حَاشِيَةِ الصِّحَاحِ مَضْبُوطٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ كَضَرْبٍ، وَضُرُوبٍ، (قَالَ: لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ) ، أَيْ يُكْرَهُ، (وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يُتْبِعَ كُلَّ سُبْعٍ رَكْعَتَيْنِ)، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:«لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُبُوعًا قَطُّ، إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْهُ، وَقَدْ قَالَ:" «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» "، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ قَرْنَ الطَّوَافِ، وَيَقُولُ: عَلَى كُلِّ سُبْعٍ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ لَا
يَقْرُنُ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَعِنْدَ ابْنِ السَّمَّاكِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَافَ ثَلَاثَةَ أَسَابِيعَ جَمِيعًا، ثُمَّ أَتَى الْمَقَامَ، فَصَلَّى خَلْفَهُ سِتَّ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ» "، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ فِي الطَّوَافِ، فَيَسْهُو حَتَّى يَطُوفَ ثَمَانِيَةً، أَوْ تِسْعَةَ أَطْوَافٍ، قَالَ: يَقْطَعُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ زَادَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَمَّدَ الزِّيَادَةَ، وَلَوْ قُلْتَ: كَبَعْضِ شَوْطٍ بَطَلَ طَوَافُهُ، (وَلَا يُعْتَدُّ بِالَّذِي كَانَ زَادَ) سَهْوًا، (وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى التِّسْعَةِ، حَتَّى يُصَلِّيَ سُبْعَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الطَّوَافِ أَنْ يُتْبِعَ كُلَّ سَبْعٍ رَكْعَتَيْنِ) ، فَإِذَا بَنَى خَالَفَ السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ عَنْهُ، صلى الله عليه وسلم.
(قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ شَكَّ فِي طَوَافِهِ بَعْدَمَا يَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ) ، أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ السُّبْعَ، (فَلْيَعُدْ فَلْيُتَمِّمْ طَوَافَهُ عَلَى الْيَقِينِ)، وَيُلْغِي مَا شَكَّ فِيهِ لِحَدِيثِ:" «مَنْ شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى، أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ، وَالطَّوَافُ صَلَاةٌ» "، (ثُمَّ لِيُعِدِ الرَّكْعَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لِطَوَافٍ إِلَّا بَعْدَ إِكْمَالِ السُّبْعِ) بِلَا خِلَافٍ، (وَمَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ بِنَقْضِ وُضُوئِهِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَوْ بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ) الْحَالُ أَنَّهُ (وَقَدْ طَافَ بَعْضَ الطَّوَافِ، أَوْ كُلَّهُ وَلَمْ يَرْكَعْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ، وَيَسْتَأْنِفُ الطَّوَافَ وَالرَّكْعَتَيْنِ) ، فَلَا يَبْنِي إِذَا أَحْدَثَ، (وَأَمَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَا أَصَابَهُ) ، فَاعِلُ يَقْطَعُ (مِنِ انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ) ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ صِحَّةٍ لَهُ، (وَلَا يَدْخُلُ السَّعْيَ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ بِوُضُوءٍ) ، أَيْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ.
[بَاب الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فِي الطَّوَافِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى عُمَرُ طَوَافَهُ نَظَرَ فَلَمْ يَرَ الشَّمْسَ طَلَعَتْ فَرَكِبَ حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طُوًى فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ الطَّوَافِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
38 -
بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فِي الطَّوَافِ
826 -
816 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (عَنْ حُمَيْدِ) بِضَمِّ الْحَاءِ (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ أَحْمَدُ: أَخْطَأَ فِيهِ سُفْيَانُ، قَالَ الْأَثْرَمُ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بِهِ نُوحُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ، انْتَهَى.
فَإِنْ صَحَّ احْتَمَلَ أَنَّ لِابْنِ شِهَابٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ.
(أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ) بِلَا إِضَافَةٍ (الْقَارِيَّ) - بِشَدِّ الْيَاءِ - نِسْبَةً إِلَى الْقَارَّةِ: بَطْنٌ مِنْ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ وَيُقَالُ لَهُ: رُؤْيَةٌ، وَذَكَرَهُ الْعِجْلِيُّ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ.
(أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ) طَوَافَ الْوَدَاعِ، (فَلَمَّا قَضَى عُمَرُ طَوَافَهُ نَظَرَ، فَلَمْ يَرَ الشَّمْسَ طَلَعَتْ، فَرَكِبَ) بِدُونِ صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى النَّفْلَ بَعْدَ الصُّبْحِ مُطْلَقًا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، (حَتَّى أَنَاخَ) بِتَرْكِ رَاحِلَتِهِ (بِذِي طُوًى، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) سُنَّةَ الطَّوَافِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ:" ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي طُوًى، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ " رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَطُوفُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَدْخُلُ حُجْرَتَهُ فَلَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
827 -
817 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَطُوفُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ يَدْخُلُ حُجْرَتَهُ) بَيْتَهُ وَالْجَمْعُ حُجُرٌ، وَحُجُرَاتٌ، (فَلَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُ)، هَلْ يُصَلِّيهِمَا فِي حُجْرَتِهِ؟ أَوْ يَنْتَظِرُ غُرُوبَ الشَّمْسِ؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: خَالَفَ مَالِكٌ بْنَ عُيَيْنَةَ، رَوَى ابْنُ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ:" رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَا أَدْرِي أَصَلَّى، أَمْ لَا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ: أَلَمْ تَرَهُ صَلَّى؟ قَالَ لَا، قَالَ: لَكِنِّي رَأَيْتُهُ صَلَّى " انْتَهَى.
وَإِنَّمَا يَكُونُ خِلَافًا إِذَا كَانَتْ رُؤْيَةً وَاحِدَةً، أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَتْ وَهُوَ
ظَاهِرُ سِيَاقِهِمَا، فَلَا خِلَافَ، بَلْ صُدِّقَ كُلٌّ مِنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَيْتَ يَخْلُو بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا يَطُوفُ بِهِ أَحَدٌ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ بَعْضَ أُسْبُوعِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ أَوْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا طَافَ حَتَّى يُكْمِلَ سُبْعًا ثُمَّ لَا يُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبَ قَالَ وَإِنْ أَخَّرَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطُوفَ الرَّجُلُ طَوَافًا وَاحِدًا بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ لَا يَزِيدُ عَلَى سُبْعٍ وَاحِدٍ وَيُؤَخِّرُ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَمَا صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَيُؤَخِّرُهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ صَلَّاهُمَا إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
828 -
818 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَيْتَ يَخْلُو بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا يَطُوفُ بِهِ أَحَدٌ) ، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مُشَاهَدَةٍ مِنْ ثِقَةٍ، لَا إِخْبَارٌ عَنْ حُكْمٍ، فَسَقَطَ قَوْلُ أَبِي عُمَرَ، هَذَا خَبَرٌ مُنْكَرٌ رَفَعَهُ مَنْ رَأَى الطَّوَافَ بَعْدَهُمَا، وَتَأْخِيرَهُ الصَّلَاةَ كَمَالِكٍ وَمُوَافَقِيهِ، وَمَنْ رَأَى الطَّوَافَ وَالصَّلَاةَ مَعًا بَعْدَهُمَا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَرِهَ الثَّوْرِيُّ، وَالْكُوفِيُّونَ الطَّوَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالصُّبْحِ، فَإِنْ فُعِلَ فَلْتُؤَخَّرِ الصَّلَاةُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَعَلَّ هَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يُكْرَهُ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرْ: رَخَّصَ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ الطَّوَافِ فِي كُلِّ وَقْتٍ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ أَخْذًا بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:" «كُنَّا نَطُوفُ فَنَمْسَحُ الرُّكْنَ الْفَاتِحَةَ وَالْخَاتِمَةَ، وَلَمْ نَكُنْ نَطُوفُ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ، قَالَ: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ» "، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا، فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ، أَوْ نَهَارٍ» "، وَبَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عُمُومٌ، وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَهَذَا عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْقَاتِ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَكَانِ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ عَامَّةٌ فِي الْمَكَانِ خَاصَّةٌ فِي الْأَوْقَاتِ، وَمَتَى كَانَ الدَّلِيلَانِ كَذَلِكَ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَحَدِيثُ: إِلَّا بِمَكَّةَ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: حَدِيثٌ سَاقِطٌ لَا يُشْتَغَلُ بِهِ، وَلَمْ يُورِدْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ بَعْضَ أُسْبُوعِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، أَوْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ) يَقْطَعُ وُجُوبًا، وَيُسْتَحَبُّ كَمَالُ الشَّوْطِ (يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا طَافَ) فَيُتِمُّهُ (حَتَّى يُكْمِلَ سُبْعًا، ثُمَّ لَا يُصَلِّي) رَكْعَتَيْهِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) ، وَيَرْتَفِعَ قَدْرَ رُمْحٍ، (أَوْ) حَتَّى (تَغْرُبَ)
فَيُصَلِّيهِمَا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ.
(قَالَ: وَإِنْ أَخَّرَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ) قَبْلَ أَنْ يَتَنَقَّلَ، وَإِلَّا ابْتَدَأَهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ تَقْدِيمَهُمَا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَفْضَلُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّهُ الْأَظْهَرُ لِاتِّصَالِهِمَا حِينَئِذٍ بِالطَّوَافِ، وَلَا يُفَوِّتَانِهِ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ لِخِفَّتِهِمَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ خِيرَةٌ، وَهِيَ:(قَالَ مَالِكٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطُوفَ الرَّجُلُ طَوَافًا وَاحِدًا بَعْدَ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ لَا يَزِيدُ عَلَى سُبْعٍ وَاحِدٍ) ، لِكَرَاهَةِ جَمْعِ أُسْبُوعَيْنِ فَأَكْثَرَ قَبْلَ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُمَا بَعْدَ عَصْرٍ وَصُبْحٍ، وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِمَا مُرَاعَاةً لِلْقَوْلِ بِالسُّنِّيَّةِ؛ وَلِذَا قَالَ:(وَيُؤَخِّرُ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) ، وَتَحِلَّ النَّافِلَةُ (كَمَا صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) فِيمَا مَرَّ عَنْهُ مُسْنَدًا، (وَيُؤَخِّرُهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ صَلَّاهُمَا إِنْ شَاءَ) قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، (وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) فَخَيَّرَهُ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا قَبْلَ ظَاهِرِهِ أَفْضَلِيَّةُ التَّقْدِيمِ، فَهُوَ اخْتِلَافُ قَوْلٍ، وَفِي الِاسْتِذْكَارِ، وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، عَنْ مَالِكٍ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَرْكَعَهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، انْتَهَى.
فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورُهَا الثَّالِثُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ، وَفِي الِاسْتِذْكَارِ أَيْضًا جَوَازُ الطَّوَافِ بَعْدَ صُبْحٍ وَعَصْرٍ وَتَأْخِيرِ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَوْ تَغْرُبَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَمُعَاذِ بْنِ عَفْرٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، انْتَهَى.
[بَاب وَدَاعِ الْبَيْتِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَا يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنْ الْحَاجِّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ إِنَّ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وَقَالَ {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] فَمَحِلُّ الشَّعَائِرِ كُلِّهَا وَانْقِضَاؤُهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
39 -
بَابُ وَدَاعِ الْبَيْتِ
وَيُسَمَّى طَوَافُ الصَّدْرِ - بِفَتْحِ الدَّالِ - لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنِ الْبَيْتِ، أَيْ يَرْجِعُ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ مَالِكٍ وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِمَا لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُ: وَاجِبٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى تَارِكِهِ.
829 -
819
- (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَا يَصْدُرَنَّ) لَا يَنْصَرِفَنَّ (أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ) ، فَسَمَّاهُ نُسُكًا لِكَوْنِهِ عِبَادَةً، كَمَا (قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، إِنَّ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ نَظُنُّ، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) بِمَا أَرَادَ (لِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] جَمْعُ شَعِيرَةٍ، أَوْ شِعَارَةٍ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ أَعْلَامُ الْحَجِّ وَأَفْعَالُهُ، (فَإِنَّهَا) أَيْ فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا {مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] مِنَ الْمُعَظَّمِينَ. وَسُمِّيَتِ الْبُدْنُ: شَعَائِرُ لِإِشْعَارِهَا فِي سَنِمِهَا بِمَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهَا هَدْيٌ: (وَقَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا} [الحج: 33] أَيْ مَكَانُ حِلِّ نَحْرِهَا {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] أَيْ عِنْدَهُ، (فَمَحِلُّ الشَّعَائِرِ كُلِّهَا وَانْقِضَاؤُهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فَلِذَا جَعَلَهُ آخِرَ النُّسُكِ لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَاهُ الْعِبَادَةُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَدَّ رَجُلًا مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ لَمْ يَكُنْ وَدَّعَ الْبَيْتَ حَتَّى وَدَّعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
830 -
820 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَدَّ رَجُلًا مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ: اسْمُ وَادٍ بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَنُسِبَ إِلَيْهِ قَرْيَةٌ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا مَرُّ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَقُولُونَ بَيْنَ مَرِّ الظَّهْرَانِ، وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لَا يَرَوْنَ رَدَّهُ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ مِنْ مِثْلِهِ.
(لَمْ يَكُنْ وَدَّعَ الْبَيْتَ حَتَّى وَدَّعَ) لِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ أَصْحَابِهِ، أَوْ لِأَنَّ عُمَرَ يَرَى وُجُوبَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَفَاضَ فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَإِنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ أَوْ عَرَضَ لَهُ فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ قَالَ مَالِكٌ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَهِلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ حَتَّى صَدَرَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا فَيَرْجِعَ فَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يَنْصَرِفَ إِذَا كَانَ قَدْ أَفَاضَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
831 -
821
- (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَفَاضَ) طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ فَهُوَ حَقِيقٌ) بِمَعْنَى: خَلِيقٌ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَقِّ الثَّابِتِ، (أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَإِنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ) شَيْءٌ مَنَعَهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ، (فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ) ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي عَدَمِهِ، (قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَهِلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ حَتَّى صَدَرَ) رَجَعَ (لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا) لِأَنَّهُ تَرَكَ مُسْتَحَبًّا، وَلَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا فَيَرْجِعُ) اسْتِحْبَابًا، إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوْتَ رُفْقَتِهِ، (فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِذَا كَانَ قَدْ أَفَاضَ) أَيْ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ.
[بَاب جَامِعِ الطَّوَافِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ قَالَتْ فَطُفْتُ رَاكِبَةً بَعِيرِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَانِبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
40 -
بَابُ جَامِعِ الطَّوَافِ
832 -
822 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلِ) بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيِّ الْأَسَدِيِّ يَتِيمِ عُرْوَةَ، (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ، (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ)، وَفِي نُسْخَةٍ: ابْنَةِ (أَبِي سَلَمَةَ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيِّ الصَّحَابِيِّ، وَبِنْتُهُ صَحَابِيَّةٌ رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (عَنْ) أُمِّهَا (أُمِّ سَلَمَةَ) هِنْدٍ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ، (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: لَمْ يَذْكُرْ زَيْنَبَ، وَتَعَقَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ التَّتَبُّعِ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، فَقَدْ رَوَاهُ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّهَا وَلَمْ يَسْمَعْهُ عُرْوَةُ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِأَنَّ سَمَاعَهُ مِنْهَا مُمْكِنٌ، فَإِنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاتِهَا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ
سَنَةً وَهُوَ مَعَهَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَيْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ أَوَّلًا مِنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّهَا، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنَ الْأُمِّ، فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَلَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا، قَالَ: وَقَدْ زَادَ الْأَصِيلِيُّ فِي طَرِيقِ هِشَامٍ زَيْنَبَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ السَّكَنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ زَيْنَبٌ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ، فَأَمَّا أَبُو الْأَسْوَدِ فَبِإِثْبَاتِ زَيْنَبَ، (أَنَّهَا قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي) ، أَيْ أَتَوَجَّعُ، وَهُوَ مَفْعُولُ شَكَوْتُ، أَيْ أَنِّي مَرِيضَةٌ، ( «فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ» ) ، لِأَنَّ سُنَّةَ النِّسَاءِ التَّبَاعُدُ عَنِ الرِّجَالِ فِي الطَّوَافِ، وَلِأَنَّ بِقُرْبِهَا يُخَافُ تَأَذِّي النَّاسِ بِدَابَّتِهَا، وَقَطْعِ صُفُوفِهِمْ، (وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ)، زَادَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: بَعِيرَكِ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ، فَقَالَ لَهَا:«إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ» ، (قَالَتْ: فَطُفْتُ) رَاكِبَةً بَعِيرِي، (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي) الصُّبْحَ بِالنَّاسِ (إِلَى جَانِبِ الْبَيْتِ) الْكَعْبَةِ (وَهُوَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ) أَيْ بِسُورَةِ الطُّورِ، وَلِذَا حُذِفَتْ وَاوُ الْقَسَمِ، لِأَنَّهُ صَارَ عَلَمًا عَلَيْهَا، {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3](سُورَةُ الطُّورِ: الْآيَةُ 23) ، وَفِيهِ جَازَ طَوَافُ الرَّاكِبِ لِعُذْرٍ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْمَحْمُولُ لِلْعُذْرِ، أَمَّا بِلَا عُذْرٍ، فَمَنَعَهُ مَالِكٌ، وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 29) وَمَنْ طَافَ رَاكِبًا، لَمْ يَطُفْ بِهِ إِنَّمَا طَافَ بِهِ غَيْرُهُ وَرُكُوبُهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَ لِلْعُذْرِ، فَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَهُوَ يَشْتَكِي، فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ» ".
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَافَ رَاكِبًا، لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيَسْأَلُوهُ» ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِلْأَمْرَيْنِ، وَكَذَا رُكُوبُ أُمِّ سَلَمَةَ لِلْعُذْرِ، زَادَ هِشَامٌ فِي رِوَايَتِهِ: فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ، أَيْ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ مِنْ مَكَّةَ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَازِمًا لَمَا أَقَرَّهَا صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ
وَفِي رِوَايَةِ حَسَّانِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَتْ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ أُصَلِّ حَتَّى خَرَجْتُ، فَصَلَّيْتُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَكْمَلَتْ طَوَافَهَا قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَدْرَكَتْهُمْ فَصَلَّتْهَا مَعَهُمْ، وَرَأَيْتُ أَنَّهَا تَجْزِيهَا عَنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قَضَاهُمَا حَيْثُ ذَكَرَ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، نَعَمْ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَبَاعَدَ، وَرَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ أَكْبَرَ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا غَيْرُ قَضَائِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ لِلْحَجِّ، وَتَعَلُّقَاتِهِ أَحْكَامًا تَخُصُّهُ لَا دَخْلَ فِيهَا بِالْقِيَاسِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ، وَغَيْرُهُ عَلَى جَوَازِ إِدْخَالِ الدَّوَابِّ الَّتِي
يُؤْكَلُ لَحْمُهَا الْمَسْجِدَ لِلْحَاجَةِ، لِأَنَّ بَوْلَهَا لَا يُنَجِّسُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الدَّوَابِّ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، بَلْ ذَلِكَ دَائِرٌ مَعَ التَّلْوِيثِ، وَعَدَمِهِ فَحَيْثُ يُخْشَى التَّلْوِيثُ مُنِعَ الْإِدْخَالُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نَاقَتَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مُنَوَّقَةً، أَيْ مُدَرَّبَةً مُعَلَّمَةً، فَيُؤْمَنُ مِنْهَا مَا يُحْذَرُ مِنَ التَّلْوِيثِ وَهِيَ سَائِرَةٌ، وَلَعَلَّ بَعِيرَ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ كَذَلِكَ كَذَا قِيلَ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ الْبَعِيرِ وَبَعْرِهِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ النَّاقَةَ مُنَوَّقَةٌ لَمْ يَثْبُتْ إِنَّمَا أَبْدَاهُ الْحَافِظُ احْتِمَالًا، وَتَرَجَّى أَنَّ بَعِيرَ أُمِّ سَلَمَةَ كَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَالْقَعْنَبِيِّ وَالتِّنِّيسِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ أَبَا مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْتَفْتِيهِ فَقَالَتْ إِنِّي أَقْبَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ هَرَقْتُ الدِّمَاءَ فَرَجَعْتُ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنِّي ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ هَرَقْتُ الدِّمَاءَ فَرَجَعْتُ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنِّي ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ هَرَقْتُ الدِّمَاءَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِنَّمَا ذَلِكِ رَكْضَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ فَاغْتَسِلِي ثُمَّ اسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ ثُمَّ طُوفِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
833 -
823 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (الْمَكِّيِّ: أَنَّ أَبَا مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سُفْيَانَ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَقْبَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَابِ)، وَفِي نُسْخَةٍ: عِنْدَ بَابِ (الْمَسْجِدِ هَرَقْتُ) - بِفَتْحَتَيْنِ، وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَكَسْرِ ثَانِيهِ - وَصُوِّبَ الْأَوَّلُ صَبَبْتُ (الدِّمَاءَ) بِالنَّصْبِ جَمْعُ دَمٍ، (فَرَجَعْتُ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنِّي، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ) وَفِي نُسْخَةٍ: بِبَابِ (الْمَسْجِدِ هَرَقْتُ الدِّمَاءَ، فَرَجَعْتُ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنِّي، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ هَرَقْتُ الدِّمَاءَ) ثَالِثَ مَرَّةٍ، (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا ذَلِكِ) - بِكَسْرِ الْكَافِ - لِأُنْثَى (رَكْضَةٌ) - ضَرْبَةٌ - قَالَ الْهَرَوِيُّ: أَيْ دَفْعَةٌ، وَحَرَكَةٌ (مِنَ الشَّيْطَانِ) بِأَنْ يَكُونَ دَفَعَ الْعَرَقَ فَسَالَ مِنْهُ الدَّمُ، لِيَمْنَعَهَا مِنَ الطَّوَافِ، وَيُوَسْوِسُ إِلَيْهَا بِبُطْلَانِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَجَازٌ نُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُحِبُّهُ لِمَا يُدْخِلُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِلْبَاسِ.
(فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ اسْتَثْفِرِي) بِإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَمُثَلَّثَةٍ سَاكِنَةٍ، وَكَسْرِ الْفَاءِ - أَيْ شُدِّي فَرْجَكِ (بِثَوْبٍ) ، أَيْ بِخِرْقَةٍ عَرِيضَةٍ بَعْدَ أَنْ تُحْتَشَى قُطْنًا، وَتُوثِقِي طَرَفَيِ الْخِرْقَةِ فِي شَيْءٍ تَشُدِّيهِ عَلَى وَسَطِكِ، فَيَمْنَعُ بِذَلِكَ سَيْلَ الدِّمَاءِ، مَأْخُوذٌ مِنْ
ثَفَرِ الدَّابَّةِ - بِفَتْحِ الْفَاءِ - الَّذِي يُجْعَلُ تَحْتَ ذَنَبِهَا، وَقِيلَ: مِنَ الثَّفْرِ - بِإِسْكَانِ الْفَاءِ - وَهُوَ الْفَرْجُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ لِلسِّبَاعِ فَاسْتُعِيرَ لِغَيْرِهَا.
(ثُمَّ طُوفِي) بِالْبَيْتِ، قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ تَفْسِيرِ الْغَرِيبِ: سَأَلْتُ ابْنَ نَافِعٍ أَذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ بَعْدَمَا تَلَوَّمَتْ أَيَّامَ الْحَيْضِ، ثُمَّ شَكَتْ طُولَ ذَلِكَ بِهَا وَمُعَاوَدَتَهُ إِيَّاهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِيمَا نَرَى فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ذَهَبَتْ، ثُمَّ رَجَعَتْ وَذَهَبَتْ، ثُمَّ رَجَعَتْ، ثُمَّ سَأَلَتْ، فَرَآهُ ابْنُ عُمَرَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِمَّنْ قَعَدَتْ عَنِ الْمَحِيضِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَمَ حَيْضٍ، وَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ احْتِيَاطًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَآهَا كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَالْحَيْضُ لَهُ غَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَفْتَاهَا ابْنُ عُمَرَ فَتْوَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ: إِنَّ عَجُوزًا اسْتَفْتَتْ. . . إِلَخْ، وَدَلَّ جَوَابُهُ أَنَّهَا مِمَّنْ لَا تَحِيضُ، لِقَوْلِهِ: رَكْضَةٌ يُرِيدُ الِاسْتِحَاضَةَ، وَلِذَا قَالَ لَهَا: طُوفِي، وَإِنَّمَا يَحِلُّ الطَّوَافُ لِمَنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّلَاةُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: اغْتَسِلِي، فَعَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ نَدْبِ الِاغْتِسَالِ لِلطَّوَافِ، لَا أَنَّهُ اغْتِسَالٌ لِلْحَيْضِ، وَلَا لَازِمٌ، انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ مُرَاهِقًا خَرَجَ إِلَى عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَطُوفُ بَعْدَ أَنْ يَرْجِعَ قَالَ مَالِك وَذَلِكَ وَاسِعٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَسُئِلَ مَالِك هَلْ يَقِفُ الرَّجُلُ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ يَتَحَدَّثُ مَعَ الرَّجُلِ فَقَالَ لَا أُحِبُّ ذَلِكَ لَهُ قَالَ مَالِكٌ لَا يَطُوفُ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
833 -
824 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) مَالِكٌ الزُّهْرِيُّ، (كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ مُرَاهَقًا) - بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَكَسْرِهَا - يَعْنِي ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ حَتَّى يَخَافَ فَوْتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (خَرَجَ إِلَى عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) طَوَافَ الْقُدُومِ، (وَ) يَسْعَى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) بَعْدَهُ، (ثُمَّ يَطُوفُ) لِلْإِفَاضَةِ (بَعْدَ أَنْ يَرْجِعَ) وَيَسْقُطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ، لِأَنَّ مَحَلَّ وُجُوبِهِ لِغَيْرِ الْمُرَاهِقِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ وَاسْعٌ) جَائِزٌ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) لِلتَّبَرُّكِ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَقِفُ الرَّجُلُ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ) ، وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ لِمَنْ لَمْ يُرَاهِقْ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ (يَتَحَدَّثُ مَعَ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ لَهُ) لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَوْقُوفًا، وَمَرْفُوعًا:" «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ، فَمَنْ نَطَقَ، فَلَا يَنْطِقُ إِلَّا بِخَيْرٍ» "، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ
أَعْمَالِ الْحَجِّ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ، فَيَكُونُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَفْضَلُ، قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ «الْحَجُّ عَرَفَةُ» ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُعْظَمُ الْحَجِّ عَرَفَةُ، بَلْ يَجُوزُ إِدْرَاكُ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَوْ سَلِمَ فَمَا لَا يَقُومُ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَنْجَبِرُ، وَالْوُقُوفُ، وَالطَّوَافُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَلَا تَفْضِيلَ، فَالْكَلَامُ وَإِنْ جَازَ لِلطَّائِفِ لَكِنْ يَنْبَغِي تَجَنُّبُهُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ الطَّائِفُ خَاضِعًا حَاضِرَ الْقَلْبِ مُلَازِمًا لِلْأَدَبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَرَوَى الْأَزْرَقِيُّ، وَغَيْرُهُ، عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْحِجْرِ تَحْتَ الْمِيزَابِ، فَسَمِعْتُ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو، وَإِلَيْكَ يَا جِبْرِيلُ مَا أَلْقَى مِنَ النَّاسِ مِنْ تَفَكُّهِهِمْ حَوْلِي فِي الْكَلَامِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَطُوفُ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ) مُتَوَضٍّ وُجُوبًا فِي الطَّوَافِ، وَاسْتِحْبَابًا فِي السَّعْيِ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ، فَقَالُوا: لَا يَجِبُ فِي الطَّوَافِ، وَمِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ لَمَّا حَاضَتْ: " «غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي» " - بِفَتْحِ التَّاءِ، وَالطَّاءِ، وَالْهَاءِ - الْمُشَدَّدَتَيْنِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَأَصْلُهُ: تَتَطَهَّرِي، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ:" حَتَّى تَغْتَسِلِي "، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي نَهْيِ الْحَائِضِ عَنِ الطَّوَافِ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا وَتَغْتَسِلَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الطَّوَافِ لَوْ فَعَلَتْهُ، وَفِي مَعْنَى الْحَائِضِ الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ.
[بَاب الْبَدْءِ بِالصَّفَا فِي السَّعْيِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّفَا وَهُوَ يَقُولُ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
41 -
بَابُ الْبَدْءِ بِالصَّفَا فِي السَّعْيِ
835 -
825 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ) الصَّادِقِ (بْنِ مُحَمَّدِ) الْبَاقِرِ (بْنِ عَلِيِّ) زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ، (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ) بَعْدَ أَنْ طَافَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَرَأَ فِيهِمَا بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] كَمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ، (وَهُوَ يُرِيدُ الصَّفَا وَهُوَ يَقُولُ)، وَفِي مُسْلِمٍ: " «فَلَمَّا دَنَا إِلَى الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] » (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 158) ، ( «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ) بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ
عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " ابْدَأْ " بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ أَيْضًا، (فَبَدَأَ بِالصَّفَا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ: إِنَّهُ اعْتَبَرَ تَقْدِيمَ الْمَبْدُوءِ بِهِ فِي التِّلَاوَةِ فَقَدَّمَهُ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ فِي حَقِّ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَبْدُوءَ مُقَدَّمٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَأَنَّ السَّاعِيَ إِذَا بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِذَلِكَ، انْتَهَى.
وَنَحْوُهُ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْجُمْهُورُ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ:" «ابْدَأُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» " هَكَذَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْجَمْعِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: الْوَاوُ تُرَتِّبُ لِامْتِثَالِهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: لَا تُرَتِّبُ لِأَنَّهَا لَوْ رَتَّبَتْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا التَّوْجِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَأَسِّيًا لَا الْتِزَامًا، انْتَهَى، أَيْ لَا إِلْزَامًا، لِأَنَّ الْوَاوَ تُرَتِّبُ.
وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمَرْوِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الْحَجَّةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَغَيْرِهِمَا، وَالْإِمَامُ رَوَى مِنْهُ جُمْلَةً فَرَّقَهَا تَحْتَ التَّرَاجِمِ، وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْبَلَاغِ كَمَا مَرَّ، وَرُبَّمَا ذَكَرَ إِسْنَادَهُ كَهَذَا الْحَدِيثِ وَتَالِيهِ وَهُوَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَصْنَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَدْعُو وَيَصْنَعُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
836 -
826 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ) بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا» ) ، وَفِي مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ فَرَقَى عَلَيْهِ، أَيِ الصَّفَا حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ (يُكَبِّرُ)، أَيْ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ (ثَلَاثًا) مِنَ الْمَرَّاتِ، (وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) نَصْبُ حَالٍ، أَيْ مُنْفَرِدًا، (لَا شَرِيكَ لَهُ) عَقْلًا وَسَمْعًا، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ، {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ - قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 19 - 1] فِي آيٍ أُخَرَ، (لَهُ الْمُلْكُ) - بِضَمِّ الْمِيمِ - أَصْنَافُ الْمَخْلُوقَاتِ، (وَلَهُ الْحَمْدُ) فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ: يُحْيِي وَيُمِيتُ، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْضًا، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ:«لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ، (يَصْنَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَدْعُو) بَيْنَ ذَلِكَ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، أَيْ بَيْنَ الثَّلَاثِ مَرَّاتٍ، (وَيَصْنَعُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) الَّذِي فَعَلَهُ عَلَى الصَّفَا مِنَ الْوُقُوفِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، فَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الرُّقِيِّ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَا وَاجِبٍ فَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّ سَعْيُهُ، لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنْ يَصْعَدَ أَعْلَاهُمَا بِحَيْثُ
يَرَى الْبَيْتَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصْعَدُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ الْبَيْتُ» "، قَالَ أَبُو عُمَرَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: وَلَا حَدَّ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ، وَيَحْضُرُهُ، وَقَدْ زَادَ اللَّيْثُ فِي رِوَايَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، ذَكَرَ اللَّهَ، وَحَمِدَهُ، وَدَعَا بِمَا قُدِّرَ لَهُ، انْتَهَى.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى أَنَّ الْمَرْوَةَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّفَا، قَالَ: لِأَنَّهَا تُقْصَدُ بِالذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِخِلَافِ الصَّفَا فَإِنَّهَا تُقْصَدُ ثَلَاثًا، وَأَمَّا الْبُدَاءَةُ بِالصَّفَا فَلَيْسَ بِوَارِدٍ، لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصَّفَا تُقْصَدُ أَرْبَعًا أَيْضًا، أَوَّلُهَا: عِنْدَ الْبُدَاءَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِذَلِكَ، وَتَمْتَازُ الصَّفَا بِالِابْتِدَاءِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ يَتَعَادَلَانِ، ثُمَّ مَا ثَمَرَةُ هَذَا التَّفْضِيلِ، مَعَ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِمَا مَعًا، انْتَهَى.
وَجَزَمَ الشِّهَابُ الْقَرَافِيُّ تِلْمِيذُ الْعِزِّ بِأَنَّ الصَّفَا أَفْضَلُ، قَالَ: لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْهُ أَرْبَعًا، وَمِنَ الْمَرْوَةِ ثَلَاثًا، وَمَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ فِيهِ أَكْثَرَ، فَهُوَ أَفْضَلُ، انْتَهَى.
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ عَلَى الْعِزِّ أَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لِهَذَا التَّفْضِيلِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا يَدْعُو يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَإِنِّي أَسْأَلُكَ كَمَا هَدَيْتَنِي لِلْإِسْلَامِ أَنْ لَا تَنْزِعَهُ مِنِّي حَتَّى تَتَوَفَّانِي وَأَنَا مُسْلِمٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
837 -
827 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا يَدْعُو، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ) ، فَحَمَلَ الدُّعَاءَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الطَّلَبِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعِبَادَةُ، وَوَجْهُ الرَّبْطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] أَنَّ الدُّعَاءَ أَخَصُّ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْهَا اسْتَكْبَرَ عَنِ الدُّعَاءِ، فَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ تَرَكَهُ اسْتِكْبَارًا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَفَرَ، (وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) كَمَا قُلْتَ، (وَإِنِّي أَسْأَلُكَ كَمَا هَدَيْتَنِي لِلْإِسْلَامِ أَنْ لَا تَنْزِعَهُ مِنِّي حَتَّى تَتَوَفَّانِي وَأَنَا مُسْلِمٌ) ، تَتْمِيمًا لِنِعْمَتِكَ الْعَظِيمَةِ، لِأَفُوزَ بِالْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35](سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: الْآيَةُ 35)، وَبِيُوسُفَ فِي قَوْلِهِ:{تَوَفَنِّي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101](سُورَةُ يُوسُفَ: الْآيَةُ 101)، وَبِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ:" «وَإِذَا أَرَدْتَ، أَوْ أَدَرْتَ بِالنَّاسِ فِتْنَةً، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» " قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَا يَأْمَنُ الْفِتْنَةَ وَالِاسْتِدْرَاجَ إِلَّا مَفْتُونٌ، وَلَا نِعْمَةً أَفْضَلُ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِ تَزْكُو الْأَعْمَالُ، انْتَهَى.
وَأَرَدْتُ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الدَّالِ مِنَ الْإِرَادَةِ، وَبِتَأْخِيرِهَا عَنِ الدَّالِ مِنَ الْإِدَارَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الدُّعَاءِ لَا أَنَّهَا شَكٌّ.
[بَاب جَامِعِ السَّعْيِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ «أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تبارك وتعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَلَّا لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] »
ـــــــــــــــــــــــــــــ
42 -
بَابُ جَامِعِ السَّعْيِ
838 -
828 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، (سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 6) ، وَهَلْ يُقَالُ لَهُنَّ أَيْضًا أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ؟ قَوْلَانِ مُرَجَّحَانِ، (وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ) ، أَيْ صَغِيرٌ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كِنَايَةٌ عَنِ الشَّبَابِ وَأَوَّلِ الْعُمُرِ، وَالْحَدِيثُ ضِدُّ الْقَدِيمِ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ عُذْرِهِ فِي السُّؤَالِ، وَأَنَّ الْتِبَاسَهُ عَلَيْهِ نَشَأَ مِنَ الْحَدَاثَةِ، (أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ)، أَيْ أَخْبِرِينِي عَنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تبارك وتعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] جَبَلَيِ السَّعْيِ اللَّذَيْنِ يُسْعَى مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، وَالصَّفَا فِي الْأَصْلِ جَمْعُ صَفَاةٍ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ، وَالْحَجَرُ الْأَمْلَسُ، وَالْمَرْوَةُ فِي الْأَصْلِ حَجَرٌ أَبْيَضُ بَرَّاقٌ، {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، أَيِ الْمَعَالِمِ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا، قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّعَائِرُ أَعْمَالُ الْحَجِّ وَكُلُّ مَا جُعِلَ عِلْمًا لِطَاعَةِ اللَّهِ.
{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ} [البقرة: 158] : لَا إِثْمَ {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ} [البقرة: 158] بِشَدِّ الطَّاءِ أَصْلُهُ يَتَطَوَّفُ أُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً لِقُرْبِ مَخْرَجِهِ، وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، (بِهِمَا) أَيْ يَسْعَى بَيْنَهُمَا، (فَمَا عَلَى الرَّجُلِ) وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، وَالْمُرَادُ الْحَاجُّ أَوِ الْمُعْتَمِرُ (شَيْءٌ) ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، وَابْنِ وَهْبٍ وَالتِّنِّيسِيِّ: فَمَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَظُنُّ - وَبِفَتْحِهَا أَعْتَقِدُ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ:" فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ "، (أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ، إِذْ مَفْهُومُهَا أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ، وَهُوَ الْإِثْمُ عَنْ فَاعِلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا قِيلَ فِيهِ ذَلِكَ، لِأَنَّ رَفْعَ الْإِثْمِ عَلَّامَةُ الْإِبَاحَةِ، وَيُزَادُ الْمُسْتَحَبُّ بِإِثْبَاتِ الْأَجْرِ وَالْوُجُوبِ بِعِقَابِ التَّارِكِ.
(فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رَدًّا عَلَيْهِ: (كَلَّا) رَدْعٌ لَهُ، وَزَجْرٌ عَنِ اعْتِقَادِهِ ذَلِكَ وَفَهْمِهِ مِنَ الْآيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ:" بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي "، (لَوْ كَانَ) الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ (كَمَا تَقُولُ)، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ (لَكَانَتِ) الْآيَةُ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ، أَيْ لَا جُنَاحَ فِي تَرْكِ الطَّوَافِ بِهِمَا، فَكَانَتْ تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ
الْإِثْمِ عَنِ التَّارِكِ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْمُبَاحِ، أَمَّا وَلَفْظُهَا بِدُونِ لَا، فَهِيَ سَاكِتَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ مُصَرِّحَةٌ بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَحِكْمَتُهُ مُطَابِقَةٌ جَوَابَ السَّائِلِينَ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ لَا يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ، فَجَاءَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِسُؤَالِهِمْ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَمُسْتَفَادٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ كَفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ نُسُكٍ مَعَ قَوْلِهِ:" «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» "، قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا مِنْ بَدِيعِ فِقْهِ عَائِشَةَ، وَمَعْرِفَتِهَا بِأَحْكَامِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا اقْتَضَى ظَاهِرُهَا رَفْعَ الْحَرَجِ مِنَ الطَّائِفِ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ نَصًّا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَلَوْ كَانَ نَصًّا لَقَالَ أَنْ لَا يَطُوفَ، وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ وَاجِبًا، وَيَعْتَقِدُ إِنْسَانٌ أَنَّهُ قَدْ يُمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِهِ عَلَى صِفَةٍ كَمَنْ عَلَيْهِ الظُّهْرُ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَشْرَعُ لَهُ صَلَاتُهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، فَسَأَلَ فَقِيلَ: لَا حَرَجَ عَلَيْكَ إِنْ صَلَّيْتَهُ، فَالْجَوَابُ صَحِيحٌ، وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ الظُّهْرِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ لَهُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ لِوُرُودِهِ عَلَى سَبَبٍ فَقَالَتْ:(إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ) بِالرَّاءِ كَمَا عَزَاهُ الْخَطَّابِيُّ لِأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَأَنَّ فِي بَعْضِهَا الْأَنْصَابَ - بِالْمُوَحَّدَةِ - بَدَلَ الرَّاءِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ جَمْعُ نُصُبٍ، وَهُوَ مَا يُنْصَبُ مِنَ الْأَصْنَامِ لِيُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، انْتَهَى.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمَا: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَرَأُوا الْآيَةَ أَنْ لَا يَطُوفَ، وَأَجَابَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّحَاوِيُّ بِحَمْلِهَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَا حُجَّةَ فِي الشَّوَاذِّ إِذَا خَالَفَتِ الْمَشْهُورَ، (كَانُوا يُهِلُّونَ) ، أَيْ يَحُجُّونَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمُوا، (لِمَنَاةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، فَأَلِفٍ، ثُمَّ تَاءٍ مَخْفُوضٌ بِالْفَتْحَةِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّسَائِكَ كَانَتْ تُمَنَّى، أَيْ تُرَاقُ عِنْدَهَا وَهِيَ صَنَمٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَتْ صَخْرَةً نَصَبَهَا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ لِهُذَيْلٍ، فَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا.
(وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ - أَيْ مُقَابِلَ (قُدَيْدٍ) بِضَمِّ الْقَافِ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ، ثُمَّ مُهْمَلَةٌ، قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى - ثَنْيَةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى قُدَيْدٍ.
(وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ) - بِالْمُهْمَلَةِ، وَالْجِيمِ، أَيْ يَتَحَرَّزُونَ، (أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، أَيْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْحَرَجِ، وَهُوَ الْإِثْمُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: يَتَحَنَّثُ، وَيَتَأَثَّمُ، أَيْ يَنْفِي الْحِنْثَ وَالْإِثْمَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَهُمَا، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الطَّوَافِ بِمَنَاةَ.
(فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ) ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَهْلٍ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمُوا هُمْ
وَغَسَّانُ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي آبَائِهِمْ مَنْ أَحْرَمَ لِمَنَاةَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظٍ: إِنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَخَالَفَهُمَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عِنْدَهُ عَنْ هِشَامٍ، وَخَالَفَ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُهِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِصَنَمَيْنِ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ، يُقَالُ: لَهُمَا إِسَافٌ وَنَائِلَةُ، ثُمَّ يَجِيئُونَ فَيَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحْلِقُونَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا لِلَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ تَحَرُّجَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِئَلَّا يَفْعَلُوا فِي الْإِسْلَامِ شَيْئًا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ أَفْعَالَهَا إِلَّا مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ، فَخَشَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَبْطَلَهُ، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَنْصَارَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا فَرِيقَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَطُوفُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ بَاقِي الرِّوَايَاتِ، وَاشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي الْإِسْلَامِ فِي التَّوَقُّفِ عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، لِكَوْنِهِ كَانَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْجَمْعِ الْبَيْهَقِيُّ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِصَنَمَيْنِ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ وَهْمٌ، فَإِنَّهُمَا مَا كَانَا قَطُّ عَلَى شَطِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَنَاةُ مِمَّا يَلِي جِهَةَ الْبَحْرِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ، وَلِلنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ: كَانَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ صَنَمَانِ مِنْ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُمَا إِسَافٌ وَنَائِلَةُ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا طَافُوا يَمْسَحُونَ بِهِمَا.
وَسَقَطَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَتِهِ: إِهْلَالُهُمْ أَوَّلًا لِمَنَاةَ، فَكَأَنَّهُمْ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ يَبْدَءُونَ بِهَا، ثُمَّ يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَجْلِ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ، فَمِنْ ثَمَّ تَحَرَّجُوا عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ.
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ: " قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ "، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، أَعْلَامُ مَنَاسِكِهِ جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَهِيَ الْعَلَامَةُ.
{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ} [البقرة: 158] : إِثْمَ (عَلَيْهِ) فِي {أَنْ يَطَوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، زَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: قَالَتْ: فَطَافُوا.
وَزَادَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: " فَلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ "، أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: " «وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا» "، وَالْمُرَادُ فَرْضُهُ بِالسُّنَّةِ، لَا نَفْيَ الْفَرِيضَةِ لِقَوْلِهَا: مَا أَتَمَّ اللَّهُ. . . إِلَخْ.
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَلَا غَيْرِهِ، وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَاجِبٌ فَإِنْ تَرَكَهُ عَصَى، وَجَبَرَ بِالدَّمِ، وَصَحَّ حَجُّهُ.
وَقَالَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ أَنَسٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ
وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ تَطَوُّعٌ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 184](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 184) ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لَا إِلَى خُصُوصِ السَّعْيِ، لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالسَّعْيِ لِغَيْرِ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" قَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ "، وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ صَنَمٌ بِالصَّفَا يُدْعَى إِسَافٌ، وَوَثَنٌ بِالْمَرْوَةِ يُدْعَى نَائِلَةَ، فَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ رَمَى بِهِمَا، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَجْلِ أَوْثَانِهِمْ، فَأَمْسَكُوا عَنِ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمَا زَنَيَا فِي الْكَعْبَةِ، فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ، فَوُضِعَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُعْتَبَرَ بِهِمَا، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ عُبِدَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمُبَاحَثَةِ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ بِحُضُورِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَعْبِيرِهِ بِلَفْظِ: أَرَأَيْتَ، وَلَفْظِ: مَا أَرَى؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تُنْكِرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَأَبُو دَاوُدَ هُنَا عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِنَحْوِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَتَابَعَهُ فِي شَيْخِهِ هِشَامُ بْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا بِنَحْوِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فَخَرَجَتْ تَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مَاشِيَةً وَكَانَتْ امْرَأَةً ثَقِيلَةً فَجَاءَتْ حِينَ انْصَرَفَ النَّاسُ مِنْ الْعِشَاءِ فَلَمْ تَقْضِ طَوَافَهَا حَتَّى نُودِيَ بِالْأُولَى مِنْ الصُّبْحِ فَقَضَتْ طَوَافَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَكَانَ عُرْوَةُ إِذَا رَآهُمْ يَطُوفُونَ عَلَى الدَّوَابِّ يَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النَّهْيِ فَيَعْتَلُّونَ بِالْمَرَضِ حَيَاءً مِنْهُ فَيَقُولُ لَنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ لَقَدْ خَابَ هَؤُلَاءِ وَخَسِرُوا قَالَ مَالِكٌ مَنْ نَسِيَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي عُمْرَةٍ فَلَمْ يَذْكُرْ حَتَّى يَسْتَبْعِدَ مِنْ مَكَّةَ أَنَّهُ يَرْجِعُ فَيَسْعَى وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ النِّسَاءَ فَلْيَرْجِعْ فَلْيَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يُتِمَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ أُخْرَى وَالْهَدْيُ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَلْقَاهُ الرَّجُلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَيَقِفُ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ فَقَالَ لَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ نَسِيَ مِنْ طَوَافِهِ شَيْئًا أَوْ شَكَّ فِيهِ فَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ سَعْيَهُ ثُمَّ يُتِمُّ طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عَلَى مَا يَسْتَيْقِنُ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ سَعْيَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
839 -
829 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَخَرَجَتْ تَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) ، شَكَّ الرَّاوِي (مَاشِيَةً، وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَقِيلَةً) ضِدَّ خَفِيفَةٍ كِنَايَةٌ عَنْ سِمَنِهَا، أَوْ بُطْئِهَا فِي الْمَشْيِ، (فَجَاءَتْ حِينَ انْصَرَفَ النَّاسُ مِنْ) صَلَاةِ (الْعِشَاءِ) لِتَطُوفَ، وَتَسْعَى لَيْلًا لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، (فَلَمْ تَقْضِ) تُتِمَّ (طَوَافَهَا حَتَّى نُودِيَ بِالْأَوَّلِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْأُولَى (مِنَ الصُّبْحِ، فَقَضَتْ طَوَافَهَا فِيمَا بَيْنَهَا) ، أَيِ الْأُولَى، (وَبَيْنَهُ) أَيِ الِانْصِرَافِ مِنَ الْعِشَاءِ، أَوْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ، وَبَيْنَ الْبَدْءِ بِالْأُولَى، فَحَاصِلُهُ أَنَّهَا لِثِقَلِهَا أَقَامَتْ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى الْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِلصُّبْحِ.
(وَكَانَ عُرْوَةُ إِذَا رَآهُمْ يَطُوفُونَ عَلَى
الدَّوَابِّ يَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النَّهْيِ فَيَعْتَلُّونَ) ، أَيْ يَتَمَسَّكُونَ لَهُ بِالْمَرَضِ حَيَاءً مِنْهُ لَا حَقِيقَةً، يُقَالُ: اعْتَلَّ إِذَا تَمَسَّكَ بِحُجَّةٍ ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْفَارَابِيُّ.
(فَيَقُولُ لَنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ: لَقَدْ خَابَ هَؤُلَاءِ، وَخَسِرُوا) لِمُخَالَفَةِ الْمُصْطَفَى لِأَنَّهُ سَعَى مَاشِيًا كَمَا يَأْتِي، (قَالَ مَالِكٌ: مَنْ نَسِيَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي عُمْرَةٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ حَتَّى يَسْتَبْعِدَ مِنْ مَكَّةَ) ، أَيْ يُجَاوِزُهَا بِبُعْدٍ (أَنَّهُ يَرْجِعُ) وُجُوبًا مُجْتَنِبًا مَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَيَسْعَى، وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ رُجُوعِهِ لَهُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ لَمْ تَفْسَدْ أَمْ لَا، (وَ) لَكِنْ (إِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ النِّسَاءَ) ، فَفَسَدَتْ، (فَلْيَرْجِعْ فَلْيَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يُتِمَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ) ، الَّتِي فَسَدَتْ لِوُجُوبِ إِتْمَامِهَا، (ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ أُخْرَى) قَضَاءً عَنِ الَّتِي أَفْسَدَ، (وَالْهَدْيُ) فِي الْقَضَاءِ لِلْفَسَادِ.
(سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَلْقَاهُ الرَّجُلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَيَقِفُ مَعَهُ فَيُحَدِّثُهُ، فَقَالَ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ) ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ حِينَئِذٍ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ نَسِيَ مِنْ طَوَافِهِ شَيْئًا، أَوْ شَكَّ فِيهِ فَلَمْ يَذْكُرْ) ذَلِكَ، (إِلَّا وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ سَعْيَهُ، ثُمَّ يُتِمُّ طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عَلَى مَا يَسْتَيْقِنُ) ، فَيَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ إِنْ شَكَّ، (وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ سَعْيَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا سَعَى لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِتَقَدُّمِ طَوَافٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا نَزَلَ مِنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَشَى حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ» قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ جَهِلَ فَبَدَأَ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ قَالَ لِيَرْجِعْ فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لْيَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ وَيَسْتَبْعِدَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنْ كَانَ أَصَابَ النِّسَاءَ رَجَعَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يُتِمَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ أُخْرَى وَالْهَدْيُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
840 -
830 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما ( «أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا نَزَلَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» ) كَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَضَّاحٍ، وَلِابْنِ يَحْيَى بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ: وَالْمَرْوَةُ، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِلَفْظِ بَيْنَ الْمُفِيدَةِ؛ لِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا لِيَحْيَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ: إِذَا نَزَلَ مِنَ الصَّفَا مَشَى، وَلَا أَعْلَمُ لِرِوَايَةِ يَحْيَى وَجْهًا إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَا رَوَاهُ النَّاسُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ نَزَلَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فَنَزَلَ بَيْنَهُمَا، وَرِوَايَةُ غَيْرِهِ مِنَ الصَّفَا، وَالصَّفَا جَبَلٌ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، (مَشَى) الْمَشْيُ الْمُعْتَادُ (حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ)، قَالَ عِيَاضٌ: مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَبَّ الْمَاءَ وَانْصَبَّ، أَيِ انْحَدَرَتْ، وَمِنْهُ إِذَا مَشَى كَأَنَّهُ يَنْحَطُّ فِي صَبَبٍ، أَيْ مَوَاضِعِ مُنْحَدَرٍ (فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى) ، أَيْ مَشَى بِقُوَّةٍ، أَيْ أَسْرَعَ فِي الْمَشْيِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: رَمَلَ (حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ) ، أَيْ بَطْنِ الْوَادِي، فَيَمْشِي عَلَى الْعَادَةِ بَاقِيَ السَّعْيِ، فَيُسَنُّ الْإِسْرَاعُ بِبَطْنِ الْوَادِي، وَلَا دَمَ فِي تَرْكِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ: أَخْبَرَتْنِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَنَّهُنَّ «رَأَيْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ، وَيَقُولُ: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ، فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمِّلِ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ مُخْتَصَرَةٌ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْأَوَّلِ، وَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَى الْأُولَى قَوِيَتْ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ جَهِلَ فَبَدَأَ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ; قَالَ: لِيَرْجِعَ) وُجُوبًا، (فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لِيَسْعَ)، وَفِي نُسْخَةٍ:(ثُمَّ يَسْعَى) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، (وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ) ، أَيِ اسْتَمَرَّ جَهْلُهُ (حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ، وَيَسْتَبْعِدَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ) وَبَعْدَهُ (يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ أَوَّلًا كُلَّ فِعْلٍ (وَإِنْ كَانَ أَصَابَ النِّسَاءَ رَجَعَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى يُتِمَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ) الَّتِي فَسَدَتْ لِوُجُوبِ إِتْمَامِ الْمُفْسَدِ، (ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ أُخْرَى) قَضَاءً، (وَالْهَدْيُ) فِي الْقَضَاءِ جَبْرًا.
[بَاب صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ «أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
43 -
بَابُ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ
841 -
831 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سَالِمِ بْنِ أُمَيَّةَ (مَوْلَى عُمَرَ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - (ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِتَصْغِيرِ عَبْدٍ، (عَنْ عُمَيْرٍ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ - مُصَغَّرٌ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهِلَالِيِّ الْمَدَنِيِّ (مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ)، وَفِي رِوَايَةٍ: مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ، وَلَا مُنَافَاةَ فَهَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَالْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أُمِّهِ، وَلِمُلَازَمَتِهِ لَهُ، وَأَخْذُهُ عَنْهُ ثِقَةٌ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، (عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ) لُبَابَةَ - بِضَمِّ اللَّامِ، وَخِفَّةِ الْمُوَحَّدَتَيْنِ - (بِنْتِ الْحَارِثِ) الْهِلَالِيَّةِ أُمِّ بَنِي الْعَبَّاسِ السِّتَّةِ النُّجَبَاءِ كُنِّيَتْ كَأَبِيهِمْ بِاسْمِ أَكْبَرِهِمْ:(أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا)، أَيِ اخْتَلَفُوا كَمَا فِي رِوَايَةٍ:(عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ) ، وَهُمْ بِهَا (فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ) عَلَى عَادَتِهِ فِي صِيَامِ عَرَفَةَ، (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ) ، لِكَوْنِهِ مُسَافِرًا، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ، مُعْتَادًا لَهُمْ فِي الْحَضَرِ، فَمَنْ قَالَ صَائِمٌ أَخَذَ بِمَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ، وَمَنْ نَفَاهُ أَخَذَ بِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، (فَأَرْسَلْتُ) - بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ (إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ) ، وَلَمْ يُسَمِّ الرَّسُولُ بِذَلِكَ، نَعَمْ فِي النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا أَرْسَلَتْ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ بِأَنْ يَكُونَ الْأُخْتَانِ أَرْسَلَتَا مَعًا، أَوْ أَرْسَلَتَا قَدَحًا وَاحِدًا، وَنُسِبَ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَيْمُونَةَ أَرْسَلَتْ بِسُؤَالِ أُمِّ الْفَضْلِ لَهَا ذَلِكَ، لِكَشْفِ الْحَالِ أَوْ عَكْسِهِ، وَفِيهِ التَّحْلِيلُ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ سُؤَالِ وَفِطْنَةِ الْمُرْسِلَةِ لِاسْتِكْشَافِهَا عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ اللَّطِيفَةِ اللَّائِقَةِ بِالْحَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ بَعْدَ الظَّهِيرَةِ، (وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ) هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ، خِلَافَ مَا فِي نُسَخٍ سَقِيمَةٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، وَإِنْ صَحَّ الْمَعْنَى، لَكِنَّ الْمَدَارَ عَلَى الرِّوَايَةِ، (فَشَرِبَ) زَادَ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ: وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ: وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِعَرَفَةَ، أَيْ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُفْطِرٌ؛ لِأَنَّ الْعِيَانَ أَقْوَى مِنَ الْخَبَرِ، فَفِطْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِهِ لِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ وَلِلتَّقَوِّي عَلَى
عَمَلِ الْحَجِّ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْعَوْنِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ الْمَطْلُوبِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ وَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَحَبُّ فِطْرُهُ لِلْحَاجِّ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ صَوْمُهُ مَكْرُوهٌ؟ وَصَحَّحَهُ الْمَالِكِيَّةُ، أَوْ خِلَافَ الْأُولَى، وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ فِعْلَهُ الْمُجَرَّدَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِ صَوْمِهِ، إِذْ قَدْ يَتْرُكُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَيَكُونُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ لِمَصْلَحَةِ التَّبْلِيغِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:" «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ» "، وَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَجِبُ فِطْرُهُ لِلْحَاجِّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، حَتَّى قَالَ عَطَاءٌ: كُلُّ مَنْ أَفْطَرَهُ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الذِّكْرِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَالْأَصْهَارِ، وَتَرْكُ السُّؤَالِ عَمَّا وُجِدَ بِأَيْدِي الْفُضَلَاءِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ وَلَمْ يَسْأَلْ هَلْ هُوَ مِنْ مَالِهَا، أَوْ مِنْ مَالِ الْعَبَّاسِ زَوْجِهَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مِمَّا أُذِنَ لِلنِّسَاءِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ الْعَبَّاسَ يُسِرُّ بِذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ الْوُقُوفَ رَاكِبًا أَفْضَلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ رَاكِبًا.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " «ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْمَوْقِفِ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ» "، وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرِ أَنَّ فِي الرُّكُوبِ عَوْنًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ الْمَطْلُوبِ حِينَئِذٍ كَمَا ذَكَرُوا مِثْلَهُ فِي الْفِطْرِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ اسْتِحْبَابَ الرُّكُوبِ يَخْتَصُّ بِمَنْ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْهُ، وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَفِيهِ أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ظَهْرِ الدَّوَابِّ مُبَاحٌ إِذَا لَمْ يُجْحَفْ بِهَا، وَذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ ظُهُورِهَا مَنَابِرَ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أُجْحِفَ بِهَا لَا مُطْلَقًا، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَفِي الصِّيَامِ عَنِ التِّنِّيسِيِّ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَمُسْلِمٍ فِي الصَّوْمِ، عَنْ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عِنْدَ مُسْلِمٍ الثَّلَاثَةُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَ الْقَاسِمُ وَلَقَدْ رَأَيْتُهَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَدْفَعُ الْإِمَامُ ثُمَّ تَقِفُ حَتَّى يَبْيَضَّ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ تَدْعُو بِشَرَابٍ فَتُفْطِرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
842 -
832 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ، (عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ) عَمَّتَهُ (عَائِشَةَ كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَرَفَةَ) ، وَهِيَ حَاجَّةٌ، لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى اسْتِحْبَابَ فِطْرِهِ، (قَالَ الْقَاسِمُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَدْفَعُ الْإِمَامُ، ثُمَّ تَقِفُ) هِيَ (حَتَّى يَبْيَضَّ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ) لِخُلُوِّهَا بِذَهَابِهِمْ، (ثُمَّ تَدْعُو بِشَرَابٍ) مَا (فَتُفْطِرُ) عَلَيْهِ، قَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا أَرَادَتْ أَنْ يَخْلُوَ لَهَا الْمَوْضِعُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُرَى شَيْءٌ مِنْهَا غَيْرُ فِطْرِهَا، وَلَمْ تَرِدْ بِهَا شَيْئًا مِنْ طُلُوعِ قَمَرٍ، وَلَا غَيْرِهِ، قَالَ: وَالدَّفْعُ مَعَ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ، يُرِيدُ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ كَعُذْرِ عَائِشَةَ، فَالْأَحَبُّ مَا فَعَلَتْ
لِأَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِهَا، وَلَا يَعْلَمُونَ الْعُذْرَ كَذَا قَالَهُ الْبَوْنِيُّ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِي، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا لَمْ يُضْعِفْ عَنِ الدُّعَاءِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَصُومُهُ فِي الشِّتَاءِ، وَلَا أَصُومُهُ فِي الصَّيْفِ، أَيْ لِئَلَّا يُضْعِفَهُ مَعَ الْحَرِّ عَنِ الدُّعَاءِ.
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: " «حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَ عُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَصُومُهُ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ» .
[بَاب مَا جَاءَ فِي صِيَامِ أَيَّامِ مِنًى]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ مِنًى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
44 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي صِيَامِ أَيَّامِ مِنًى
843 -
833 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سَالِمٍ (مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِضَمِّ الْعَيْنَيْنِ - (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) : لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِي إِرْسَالِهِ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَاسِمُ بْنُ أَصْبُغٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ مِنًى» ) ، أَيْ أَيَّامِ رَمْيِ الْجِمَارِ بِهَا، وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَتَعَجَّلُ الْحَاجُّ مِنْهَا فِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ، وَالْمَعْدُودَاتُ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ قَوْلُ الْعَرَجِيِّ: مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاثُ مِنًى حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفَرُ، وَقَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ نَزَلُوا ثَلَاثَ مِنًى بِمَنْزِلِ غِبْطَةٍ وَهَمُّو عَلَى غَرَضٍ لَعَمْرُكَ مَا هَمُّو وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ صِيَامَهَا لَا يَجُوزُ تَطَوُّعًا.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ جَوَازُهُ، وَلَا يَصِحُّ، وَفِي جَوَازِهَا لِمُتَمَتِّعٍ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا خَلَا مَا قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ أَيَّامَ مِنًى يَطُوفُ يَقُولُ إِنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
844 -
834 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) ، مُرْسَلًا عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ وَتَابَعَهُ يُونُسُ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ) - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، فَأَلِفٍ، فَفَاءٍ - ابْنَ
قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سُعَيْدٍ - بِضَمِّ السِّينِ - ابْنِ سَهْمٍ السَّهْمِيِّ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، مَاتَ بِمِصْرَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ (أَيَّامَ مِنًى يَطُوفُ) فِي النَّاسِ، (يَقُولُ:«إِنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» ) ، بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا، رِوَايَتَانِ بِمَعْنًى كَمَا فِي النِّهَايَةِ، وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الْغَنَائِمِ: أَنَّهُ بِالْفَتْحِ فَقَطْ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55](سُورَةُ الْوَاقِعَةِ: الْآيَةُ)، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ الْأَفْصَحُ الْأَقْيَسُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْأَكْلِ، وَعَقَّبَهُمَا بِقَوْلِهِ:(وَذِكْرِ اللَّهِ) ، لِئَلَّا يَسْتَغْرِقَ الْعَبْدُ فِي حُظُوظِ نَفْسِهِ، وَيَنْسَى حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ إِلَى الْأَيَّامِ أُوهِمَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُمَا، لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ فِيهَا فَتَدَارَكَ بِقَوْلِهِ: وَذِكْرِ اللَّهِ لِئَلَّا يَسْتَغْرِقُوا أَوْقَاتَهُمْ بِاللَّذَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَيَنْسَوْا نَصِيبَهُمْ مِنَ الرُّوحَانِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ فِي التَّتْمِيمِ لِلصِّيَانَةِ، أَيِ الِاحْتِرَاسِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَسَقَى دِيَارَكَ غَيْرُ مُفْسِدِهَا
…
صَوْبَ الرَّبِيعِ وَدِيمَةً تَهْمَى
وَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِأَنَّ الْقَوْمَ زَارُوا اللَّهَ وَهُمْ فِي ضِيَافَتِهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَيْسَ لِلضَّيْفِ أَنْ يَصُومَ دُونَ إِذْنِ مَنْ أَضَافَهُ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ مَقْبُولٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: جَمْعُ سِرِّ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ إِلَى زِيَارَةِ بَيْتِهِ، فَأَجَابُوهُ، وَقَدْ أَهْدَى كُلٌّ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ، وَذَبَحُوا هَدْيَهُمْ، فَقَبِلَهُ مِنْهُمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ ضِيَافَةً، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَأَوْسَعَ زُوَّارَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَسُنَّةُ الْمُلُوكِ إِذَا أَضَافُوا أَطْعَمُوا مَنْ عَلَى الْبَابِ كَمَا يُطْعِمُونَ مَنْ فِي الدَّارِ، وَالْكَعْبَةُ هِيَ الدَّارُ، وَسَائِرُ الْأَقْطَارِ بَابُ الدَّارِ، فَعَمَّ اللَّهُ الْكُلَّ بِضِيَافَتِهِ، فَمَنَعَ صِيَامَهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ - وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا - فَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا، قَالَ: عَنْ سَعِيدٍ غَيْرِ صَالِحٍ، وَهُوَ كَثِيرُ الْخَطَأِ ضَعِيفٌ يَعْنِي أَنَّ الصَّوَابَ الْأَوَّلَ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ نُبَيْشَةَ، مَرْفُوعًا:" «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ» " وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ، «فَنَادَى أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» "، زَادَ أَصْحَابُ السُّنَنِ:" وَذِكْرِ اللَّهِ فَلَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ " فَقَدْ عَدَّدَ صلى الله عليه وسلم الْمُنَادَى لِكَثْرَةِ النَّاسِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
845 -
835 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ) - بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ - (عَنِ الْأَعْرَجِ)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ» ) تَحْرِيمًا، (يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ الْأَضْحَى) ، فَيَحْرُمُ صِيَامُهُمَا عَلَى مُتَطَوِّعٍ، وَنَاذِرٍ وَقَاضٍ فَرْضًا، وَمُتَمَتِّعٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، وَلَا يَنْعَقِدُ نَذْرُ صَوْمِ أَحَدِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْضَى وَإِنْ صَامَهُ أَجْزَأَهُ، وَمَرَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي الصِّيَامِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِي عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ أُخْتِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَوَجَدَهُ يَأْكُلُ قَالَ فَدَعَانِي قَالَ فَقُلْتُ لَهُ إِنِّي صَائِمٌ فَقَالَ هَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِنَّ وَأَمَرَنَا بِفِطْرِهِنَّ» قَالَ مَالِكٌ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
846 -
836 - (مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ) - بِتَحْتِيَّةٍ، فَزَايٍ - (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِي) - بِالْيَاءِ، وَحَذْفِهَا - اللَّيْثِيِّ الْمَدَنِيِّ (عَنْ أَبِي مُرَّةَ) ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ مُرَّةَ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا يَقُولُ يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، زَادَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ وَضَّاحٍ: أُخْتُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا صَوَابٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: امْرَأَةُ عَقِيلٍ خَطَأٌ.
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي) الْقُرَشِيِّ السَّهْمِيِّ أَحَدِ الْمُكْثِرِينَ وَالْعَبَادِلَةِ الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ: (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْقَعْنَبِيِّ، وَرُوحِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ شَيْخِ مَالِكٍ، (عَنْ أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي، فَوَجَدَهُ يَأْكُلُ قَالَ، فَدَعَانِي) لِلْأَكْلِ مَعَهُ (قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي صَائِمٌ فَقَالَ: هَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي نَهَانَا) مُعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِنَّ) نَهْيَ تَحْرِيمٍ، (وَأَمَرَنَا بِفِطْرِهِنَّ) أَمْرَ إِيجَابٍ، (قَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ) ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الذَّبْحَ فِيهَا يَجِبُ بَعْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَرِّقُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَضَاحِي إِذَا قُدِّدَتْ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَرِّقُونَ لِلشَّمْسِ فِي غَيْرِ بُيُوتٍ وَلَا أَبْنِيَةٍ لِلْحَجِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ ثَالِثُ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
[بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْهَدْيِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى جَمَلًا كَانَ لِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
45 -
بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْهَدْيِ
847 -
837 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ قَاضِيهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ لِمَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَلَطَ يَحْيَى، فَقَالَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَرْوِ نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ شَيْئًا، بَلْ عَبْدُ اللَّهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ نَافِعٍ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ، وَلِسُوِيدِ بْنِ سَعِيدٍ، مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ مِنْ خَطَأِ سُوِيدٍ وَغَلَطِهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ يَحْيَى، إِلَّا كَمَا رَوَاهُ سَائِرُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ يَسْتَنِدُ مِنْ وُجُوهٍ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى جَمَلًا» ) : ذَكَرَ الْإِبِلَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسَمَّى جَمَلًا إِذَا أَرْبَعَ، أَيْ دَخَلَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَذَكَرَ الْمُنْذِرِيُّ: أَنَّ اسْمَ هَذَا الْجَمَلِ: عُصَيْفِيرٌ، (كَانَ لِأَبِي جَهْلٍ) عَمْرِو (بْنِ هِشَامٍ) الْمَخْزُومِيِّ - فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ - الْأَحْوَلِ كَنَّتْهُ الْعَرَبُ أَبَا الْحَكَمِ، وَكَنَّاهُ الشَّارِعُ بِأَبِي جَهْلٍ (فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) شَكَّ الرَّاوِي، وَوَرَدَ أَنَّهُ فِي عُمْرَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدَايَاهُ جَمَلًا كَانَ لِأَبِي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ "، وَفِي رِوَايَةٍ:" مِنْ ذَهَبٍ يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ» "، وَابْنُ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّحْدِيثِ، لَكِنَّ لَهُ شَاهِدٌ فِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُقْسِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى فِي بُدْنِهِ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ بُرَّتُهُ مِنْ فِضَّةٍ» "، وَبُرَّةٌ - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْخَفِيفَةِ، وَهَاءٍ - حَلْقَةٌ تُجْعَلُ فِي أَنْفِ الْبَعِيرِ، وَفِيهِ إِهْدَاءُ الذَّكَرِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَرَاهَتُهُ فِي الْإِبِلِ، وَإِنَّمَا أَغَاظَهُمْ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِأَبِي جَهْلٍ، فَحَازَهُ الْمُصْطَفَى فَغَاظَهُمْ أَنْ يَرُوهُ فِي يَدِهِ، وَصَاحِبُهُ قَتِيلٌ سَلِيبٌ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، أَوْ بِسَبَبِ حِلْيَتِهِ أَوْ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
848 -
838
- (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا)، قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ، (يَسُوقُ بَدَنَةً) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: مُقَلَّدَةٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: مُقَلَّدَةٌ نَعْلًا، وَالْبَدَنَةُ تَقَعُ عَلَى الْجَمَلِ، وَالنَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا كَانَ هَدْيًا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتِ الْبُدْنَ بِبَدَنِهَا، بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْمُهْمَلَةِ لِلْأَكْثَرِ، وَبِضَمِّهَا، وَسُكُونِ الدَّالِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: لِبَدَانَتِهَا، أَيْ سِمَنِهَا.
وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّمَا سَمِّيَتِ الْبُدْنَ مِنْ قِبَلِ السِّمَانَةِ، (فَقَالَ: ارْكَبْهَا) لِضَرُورَتِكَ، فَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ وَقَدْ أُجْهِدَ، فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا» .
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ)، أَيْ: هَدْيٌّ، (فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّانِيَةِ، أَوِ الثَّالِثَةِ) بِالشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ:" وَيْلَكَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ ارْكَبْهَا " وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَالثَّوْرِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عِجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:" «ارْكَبْهَا وَيْحَكَ قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْحَكَ» "، زَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا» "، وَهَذِهِ الطُّرُقُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ الْبَدَنَةَ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنَ الْإِبِلِ الْمُهْدَاةِ إِلَى الْبَيْتِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَدْلُولَهَا اللُّغَوِيَّ لَمْ يَحْسُنِ الْجَوَابُ بِأَنَّهَا بَدَنَةٌ لَأَنَّ كَوْنَهَا مِنَ الْإِبِلِ مَعْلُومٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّجُلَ ظَنَّ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ كَوْنُهَا هَدْيًا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْفَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا كَانَتْ مُقَلَّدَةً، وَلِذَا قَالَ لَمَّا زَادَ فِي مُرَاجَعَتِهِ: وَيْلَكَ تَأْدِيبًا لِمُرَاجَعَتِهِ مَعَ عَدَمِ خَفَاءِ الْحَالِ عَلَيْهِ، وَبِهِ جَزْمُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَبَالَغَ فَقَالَ: الْوَيْلُ لِمَنْ رَاجَعَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّهِ مَا اشْتَرَطَ لَهَلَكَ الرَّجُلُ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَهِمَ عَنْهُ تَرْكَ رُكُوبِهَا عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي السَّائِبَةِ، وَغَيْرِهَا، فَزَجَرَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَعَلَى الْحَالَتَيْنِ فَهِيَ دُعَاءٌ، وَرَجَّحَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ قَالُوا: وَالْأَمْرُ هُنَا وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لِلْإِرْشَادِ; لَكِنَّهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ لِتَوَقُّفِهِ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَا تَرَكَ الِامْتِثَالَ عِنَادًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ غُرْمٌ بِرُكُوبِهَا، أَوْ إِثْمٌ، وَأَنَّ الْإِذْنَ بِرُكُوبِهَا إِنَّمَا هُوَ لِلشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَغْلَظَ لَهُ بَادَرَ إِلَى الِامْتِثَالِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى هَلَكَةٍ مِنَ الْجُهْدِ، وَوَيْلٌ يُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ، فَالْمَعْنَى أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَكَةِ فَارْكَبْ، فَعَلَى هَذَا هِيَ إِخْبَارٌ، وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ تُدَعِّمُ بِهَا الْعَرَبُ كَلَامَهَا، وَلَا تَقْصِدُ مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِمْ: لَا أُمَّ لَكَ، وَيُقَوِّيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
بِلَفْظِ وَيْحَكَ بَدَلَ وَيْلَكَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: وَيْلَكَ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ يَسْتَحِقُّهَا، وَوَيْحٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ تَكْرِيرُ الْفَتْوَى، وَالنَّدْبُ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَزَجْرُ مَنْ لَمْ يُبَادِرْ، وَتَوْبِيخُهُ، وَجَوَازُ مُسَايَرَةِ الْكِبَارِ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ الْكَبِيرَ إِذَا رَأَى مَصْلَحَةً لِلصَّغِيرِ لَا يَأْنَفُ عَنْ إِرْشَادِهِ إِلَيْهَا، وَاحْتَجَّ بِإِطْلَاقِهِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 33) ، مَنْ أَجَازَ رُكُوبَ الْهَدْيِ اخْتِيَارًا حَيْثُ لَا يَضُرُّهَا.
وَرَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ، وَكَرِهَهُ الْجُمْهُورُ، وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ، مَرْفُوعًا:" «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا» "، قَالَ الْمَازِرِيُّ: لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ وَالْمُقَيَّدُ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ، وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ خَرَجَ عَنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ، وَلَوْ أُبِيحَ النَّفْعُ بِلَا ضَرُورَةٍ أُبِيحَ إِجَارَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ، ثُمَّ إِذَا رَكِبَ لِلْعُذْرِ لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ بَعْدَ الرَّاحَةِ اسْتِصْحَابًا لِإِبَاحَةِ الرُّكُوبِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى وُجُودِ غَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: يَجِبُ رُكُوبُهَا تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلِمُخَالَفَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ.
وَرَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْيَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا كَثِيرًا، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ:" «أَنَّ عَلِيًّا سُئِلَ هَلْ يَرْكَبُ الرَّجُلُ هَدْيَهُ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِالرِّجَالِ يَمْشُونَ، فَيَأْمُرُهُمْ يَرْكَبُونَ هَدْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» "، إِسْنَادُهُ صَالِحٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ:" «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْبَدَنَةِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهَا سَيِّدُهَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا وَيَرْكَبَهَا غَيْرُ مُنْهِكِهَا» " قُلْتُ: هَذَا الْمُرْسَلُ مُقَيَّدٌ بِالْحَاجَةِ، وَعَلَيْهَا يُحْمَلُ حَدِيثُ عَلِيٍّ، فَلَا يُرَدُّ عَلَى أَبِي عُمَرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وَالْوَاجِبِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلْ صَاحِبَ الْبَدَنَةِ عَنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابِعِهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يُهْدِي فِي الْحَجِّ بَدَنَتَيْنِ بَدَنَتَيْنِ وَفِي الْعُمْرَةِ بَدَنَةً بَدَنَةً قَالَ وَرَأَيْتُهُ فِي الْعُمْرَةِ يَنْحَرُ بَدَنَةً وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ وَكَانَ فِيهَا مَنْزِلُهُ قَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ طَعَنَ فِي لَبَّةِ بَدَنَتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ الْحَرْبَةُ مِنْ تَحْتِ كَتِفِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
849 -
839 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَهْدِي فِي الْحَجِّ بَدَنَتَيْنِ بَدَنَتَيْنِ) بِالتَّكْرِيرِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ التَّثْنِيَةِ (وَفِي الْعُمْرَةِ بَدَنَةٌ بَدَنَةٌ) بِالتَّكْرِيرِ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ لِفَضْلِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، (قَالَ: وَرَأَيْتُهُ فِي الْعُمْرَةِ يَنْحَرُ بَدَنَةً) ، مُفْرَدُ بُدْنٍ - بِسُكُونِ الدَّالِ - وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِضَمِّهَا، وَبِهِ قَرَأَ الْأَعْرَجُ - وَرِوَايَةٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَأَصْلُهَا مِنَ الْإِبِلِ، (وَهِيَ قَائِمَةٌ)
لِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ (فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ) - بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَكَسْرِ السِّينِ - ابْنِ أَبِي الْعَاصِي بْنِ أُمَيَّةَ، وَهُوَ أَخُو عَتَّابٍ أَمِيرِ مَكَّةَ، وَجَدُّ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: كَانَ جَزَّارًا.
وَرَوَى ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ خَالِدٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ حِينَ رَاحَ إِلَى مِنًى» "، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ فُقِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَقِيلَ: مَاتَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، (وَكَانَ فِيهَا) ، أَيِ الدَّارُ، (مَنْزِلُهُ)، أَيِ ابْنِ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ (قَالَ) ابْنُ دِينَارٍ:(وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ) ، أَيِ ابْنِ عُمَرَ (طَعَنَ فِي لَبَّةِ) - بِفَتْحِ اللَّامِ، وَالْمُوَحَّدَةِ - (بَدَنَتِهِ حَتَّى خَرَجَتِ الْحَرْبَةُ مِنْ تَحْتِ كَتِفِهَا) مِنْ قُوَّةِ الطَّعْنَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَهْدَى جَمَلًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
850 -
840 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدَ الْعَزِيزِ أَهْدَى جَمَلًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) ، اقْتِدَاءً بِفِعْلِ الْمُصْطَفَى فَلَا كَرَاهَةَ فِي إِهْدَاءِ الذُّكُورِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ أَهْدَى بَدَنَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بُخْتِيَّةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
851 -
841 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ) - بِالْهَمْزَةِ - الْمَخْزُومِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَقِيلَ جُنْدُبُ بْنُ فَيْرُوزَ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.
(أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشِ) - بِشَدِّ التَّحْتِيَّةِ، وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ - (ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ) ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ (الْمَخْزُومِيُّ) الصَّحَابِيُّ ابْنُ الصَّحَابِيِّ، وُلِدَ بِالْحَبَشَةِ، وَحَفِظَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى عَنْ عُمَرَ، وَغَيْرِهِ، وَأَبُوهُ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ.
(أَهْدَى بَدَنَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بُخْتِيَّةٌ) - بِضَمِّ الْبَاءِ، وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ، فَتَحْتِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ - أُنْثَى بَخْتِيٍّ، قَالَ فِي الْمَشَارِقِ: إِبِلٌ غِلَاظٌ لَهَا سَنَامَانِ.
وَفِي النِّهَايَةِ: جِمَالٌ طِوَالُ الْأَعْنَاقِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: نَجِيبَةٌ - بِفَتْحِ النُّونِ، وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ، وَمُوَحَّدَةٍ - مُؤَنَّثُ نَجِيبٍ وَاحِدِ النُّجُبِ، قَالَ فِي الْمَشَارِقِ: وَهُوَ مَا اتُّخِذَ لِلسَّيْرِ وَالرَّحَائِلِ.
وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْقَوِيُّ مِنَ الْإِبِلِ الْخَفِيفُ السَّرِيعُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ إِذَا نُتِجَتْ النَّاقَةُ فَلْيُحْمَلْ وَلَدُهَا حَتَّى يُنْحَرَ مَعَهَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَحْمَلٌ حُمِلَ عَلَى أُمِّهِ حَتَّى يُنْحَرَ مَعَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
852 -
842 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا نُتِجَتْ) - بِضَمِّ النُّونِ، وَكَسْرِ التَّاءِ - أَيِ (الْبَدَنَةُ، فَلْيُحْمَلْ وَلَدُهَا) عَلَى غَيْرِهَا، (حَتَّى يُنْحَرَ مَعَهَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَحْمَلٌ، حُمِلَ عَلَى أُمِّهِ حَتَّى يُنْحَرَ مَعَهَا) .
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى بَدَنَتِكَ فَارْكَبْهَا رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ وَإِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى لَبَنِهَا فَاشْرَبْ بَعْدَ مَا يَرْوَى فَصِيلُهَا فَإِذَا نَحَرْتَهَا فَانْحَرْ فَصِيلَهَا مَعَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
853 -
843 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى بَدَنَتِكَ: فَارْكَبْهَا رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ) بِالْفَاءِ، وَالدَّالِ، وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ؛ أَيْ ثَقِيلٍ صَعْبٍ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَى ظَهْرِهَا» "، (وَإِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى لَبَنِهَا، فَاشْرَبْ بَعْدَمَا يَرْوَى فَصَيْلُهَا) ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، وَلَوْ فَضَلَ عَنْ رِيِّهِ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلْيَتَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ. وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ، وَإِلَّا غَرُمَ إِنْ أَضَرَّهَا، أَوْ فَصَيْلَهَا بِشُرْبِهِ أَرْشَ النَّقْصِ، أَوِ الْبَدَلِ إِنْ حَصَلَ تَلَفٌ، (فَإِذَا نَحَرْتَهَا فَانْحَرْ فَصَيْلَهَا مَعَهَا) وُجُوبًا.
[بَاب الْعَمَلِ فِي الْهَدْيِ حِينَ يُسَاقُ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنْ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ يُقَلِّدُهُ قَبْلَ أَنْ يُشْعِرَهُ وَذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُوَجَّهٌ لِلْقِبْلَةِ يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهُ مِنْ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يُسَاقُ مَعَهُ حَتَّى يُوقَفَ بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ يَدْفَعُ بِهِ مَعَهُمْ إِذَا دَفَعُوا فَإِذَا قَدِمَ مِنًى غَدَاةَ النَّحْرِ نَحَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَكَانَ هُوَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بِيَدِهِ يَصُفُّهُنَّ قِيَامًا وَيُوَجِّهُهُنَّ إِلَى الْقِبْلَةِ ثُمَّ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
46 -
بَابُ الْعَمَلِ فِي الْهَدْيِ حِينَ يُسَاقُ
854 -
844 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَهْدَى هَدَيًا مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ) ، أَيِ الْهَدْيُ بِأَنْ يُعَلِّقَ فِي عُنُقِهِ نَعْلَيْنِ، (وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَتْبَعِ النَّاسِ لِلْمُصْطَفَى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَلَّدَ الْهَدْيَ، وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ» "، (يُقَلِّدُهُ قَبْلَ
أَنْ يُشْعِرَهُ، وَذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ) أَيِ: الْهَدْيُ (مُوَجَّهٌ لِلْقِبْلَةِ) فِي حَالَتَيِ التَّقْلِيدِ، وَالْإِشْعَارِ (يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ) مِنَ النِّعَالِ الَّتِي تُلْبَسُ فِي الْإِحْرَامِ، (وَيُشْعِرُهُ) مِنَ الْإِشْعَارِ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - وَهُوَ لُغَةُ الْإِعْلَامِ، وَشَرْعًا شَقُّ سَنَامِ الْهَدْيِ (مِنَ الشِّقِّ) - بِكَسْرِ الشِّينِ - أَيِ الْجَانِبِ (الْأَيْسَرِ) ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَإِلَى الْإِشْعَارِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.
(ثُمَّ يُسَاقُ مَعَهُ حَتَّى يُوقَفَ بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ يَدْفَعُ بِهِ مَعَهُمْ إِذَا دَفَعُوا، فَإِذَا قَدِمَ مِنًى غَدَاةَ النَّحْرِ نَحَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكَمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) ، (وَكَانَ هُوَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بِيَدِهِ)، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ (يَصُفُّهُنَّ) بِالْفَاءِ (قِيَامًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] (سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 36) ، (وَيُوَجِّهُهُنَّ إِلَى الْقِبْلَةِ) اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ بِذَبِيحَتِهِ الْقِبْلَةَ، فَيُسْتَحَبُّ اسْتِقْبَالُهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى تَبَرُّكًا، وَاتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، (ثُمَّ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 36](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 36) ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ:" أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُشْعِرُ بُدْنَهُ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ضِعَافًا، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَهَا أَشْعَرَ الشِّقَّ الْأَيْمَنَ "، وَبِهَذَا بَانَ أَنَّهُ كَانَ يُشْعِرُ مِنَ الْأَيْمَنِ تَارَةً، وَمِنَ الْأَيْسَرِ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا تَهَيَّأَ لَهُ، وَلَمْ أَرَ فِي حَدِيثِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ ذَلِكَ عَلَى إِحْرَامِهِ.
وَفِي الِاسْتِذْكَارِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُشْعَرُ الْهَدْيُ إِلَّا عِنْدَ الْإِهْلَالِ يُقَلِّدُهُ ثُمَّ يُشْعِرُهُ ثُمَّ يُصَلِّي ثُمَّ يُحْرِمُ قَالَهُ الْحَافِظُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا طَعَنَ فِي سَنَامِ هَدْيِهِ وَهُوَ يُشْعِرُهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
855 -
845 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا طَعَنَ)، أَيْ ضَرَبَ (فِي سَنَامِ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ (هَدْيِهِ وَهُوَ يُشْعِرُهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 185) .
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ الْهَدْيُ مَا قُلِّدَ وَأُشْعِرَ وَوُقِفَ بِهِ بِعَرَفَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
856 -
846
- (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْهَدْيُ مَا قُلِّدَ وَأُشْعِرَ وَوُقِفَ بِهِ بِعَرَفَةَ) ، فَغَيْرُهُ لَيْسَ بِهَدْيٍ إِنِ اشْتَرَاهُ بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى، وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ إِلَى الْحِلِّ وَعَلَيْهِ بَدَلُهُ، فَإِنْ سَاقَهُ مِنَ الْحِلِّ اسْتَحَبَّ وُقُوفَهُ بِعَرَفَةَ بِهِ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ كَمَا فِي الِاسْتِذْكَارِ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ، وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهَا صَارَتْ هَدْيًا لِيَتَّبِعَهَا مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَتَّى لَوِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا تَمَيَّزَتْ، أَوْ ضَلَّتْ عُرِفَتْ، أَوْ عَطِبَتْ عَرَفَهَا الْمَسَاكِينُ بِالْعَلَامَةِ، فَأَكَلُوهَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِعَارِ الشَّرْعِ، وَحَثِّ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا وَعَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، وَكَانَ مَشْرُوعًا قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ، بَلْ وَقَعَ الْإِشْعَارُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ بِزَمَانٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَغَيْرُهُ: الِاعْتِلَالُ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُثْلَةِ مَرْدُودٌ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابٍ آخَرَ كَالْكَيِّ، وَشَقِّ أُذُنِ الْحَيَوَانِ لِيَصِيرَ عَلَامَةً، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسْمِ، وَكَالْخِتَانِ وَالْحِجَامَةِ، وَشَفَقَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَالِهِ عَادَةً، فَلَا يُتَوَهَّمُ سَرَيَانُ الْجُرْحِ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْهَلَاكِ، وَقَدْ كَثُرَ تَشْنِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِطْلَاقِ كَرَاهَةِ الْإِشْعَارِ حَتَّى قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هَذِهِ طَامَّةٌ مِنْ طَوَامِّ الْعَالَمِ أَنْ تَكُونَ مُثْلَةً شَيْءٌ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُفٍّ لِكُلِّ عَاقِلٍ يَتَعَقَّبُ حُكْمَهُ، قَالَ: وَهَذِهِ قَوْلَةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَا يُعْلَمُ لَهُ فِيهَا مُتَقَدِّمٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا مُوَافِقٌ مِنْ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ إِلَّا مَنْ قَلَّدَهُ، وَلِذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَهُ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَقَالَا بِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ النَّخَعِيَّ وَافَقَهُ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ الْإِشْعَارَ مُثْلَةٌ، فَقَالَ وَكِيعٌ: أَقُولُ لَكَ أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ، وَتَقُولُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ! مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ، وَقَدِ انْتَصَرَ الطَّحَاوِيُّ، فَقَالَ: لَمْ يَكْرَهْ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَ الْإِشْعَارِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَا يُفْعَلُ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ هَلَاكُ الْبُدْنِ لِسَرَايَةِ الْجُرْحِ لَا سِيَّمَا مَعَ الطَّعْنِ بِالشَّفْرَةِ، فَأَرَادَ سَدَّ الْبَابِ عَنِ الْعَامَّةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ فَلَا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ التَّخْيِيرَ فِي الْإِشْعَارِ، وَتَرْكِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ مَكْرُوهٍ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِثُبُوتِ فِعْلِهِ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُجَلِّلُ بُدْنَهُ الْقُبَاطِيَّ وَالْأَنْمَاطَ وَالْحُلَلَ ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَكْسُوهَا إِيَّاهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
857 -
847 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُجَلِّلُ بُدْنَهُ) ، أَيْ يَكْسُوهَا الْجِلَالَ - بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَخِفَّةِ اللَّامِ - جَمْعُ جُلٍّ - بِضَمِّ الْجِيمِ - مَا يُجْعَلُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ (الْقَبَاطِيِّ) - بِالْقَافِ - جَمْعُ
الْقُبْطِيِّ - بِالضَّمِّ - ثَوْبٌ رَقِيقٌ مِنْ كِتَّانٍ يُعْمَلُ بِمِصْرَ نِسْبَةً إِلَى الْقِبْطِ - بِالْكَسْرِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ - فُرِّقَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالثَّوْبِ.
(وَالْأَنْمَاطَ) جَمْعُ نَمَطٍ - بِفَتْحَتَيْنِ - ثَوْبٌ مِنْ صُوفٍ ذُو لَوْنٍ مِنْ أَلْوَانٍ، وَلَا يَكَادُ يُقَالُ لِلْأَبْيَضِ نَمَطٌ، (وَالْحُلَلَ) جَمْعُ حُلَّةٍ - بِضَمِّ الْحَاءِ - لَا يَكُونُ إِلَّا ثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، (ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَكْسُوهَا إِيَّاهَا)، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لِأَنَّ كِسْوَتَهَا مِنَ الْقُرَبِ، وَكَرَائِمِ الصَّدَقَاتِ، وَكَانَتْ تُكْسَى مِنْ زَمَنِ تُبَّعٍ الْحِمْيَرِيِّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُجَمِّلُ بِهَا بُدْنَهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لِلَّهِ فَتَعْظِيمُهُ وَتَجْمِيلُهُ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ، ثُمَّ يَكْسُوهَا الْكَعْبَةَ فَيَحْصُلُ عَلَى فَضِيلَتَيْنِ، وَعَمَلَيْنِ مِنَ الْبِرِّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ بِجِلَالِ بُدْنِهِ حِينَ كُسِيَتْ الْكَعْبَةُ هَذِهِ الْكِسْوَةَ قَالَ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
858 -
848 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ بِجِلَالِ) - بِجِيمٍ مَكْسُورَةٍ، وَلَامٍ خَفِيفَةٍ - (بُدْنِهِ حِينَ كُسِيَتِ الْكَعْبَةُ هَذِهِ الْكِسْوَةَ؟ قَالَ: كَانَ يَتَصَدَّقُ بِهَا) ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَيْسَ التَّصَدُّقُ بِجِلَالِ الْبُدْنِ فَرْضًا، وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ أَهْدَاهُ لِلَّهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ أُضِيفَ إِلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَلِيٍّ: " «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلَالِ الْبُدْنِ الَّتِي نُحِرَتْ، وَبِجُلُودِهَا» "، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّجْلِيلِ، وَالتَّصَدُّقِ بِذَلِكَ الْجِلِّ، وَلَفْظُ أَمَرَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي صِيغَةِ أَفْعَلَ، لَا لَفْظِ أَمَرَ.
وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ فِي الضَّحَايَا وَالْبُدْنِ الثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
859 -
849 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ فِي الضَّحَايَا وَالْبُدْنِ) ، أَيِ الْهَدَايَا (الثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ) لَا مَا دُونَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَشُقُّ جِلَالَ بُدْنِهِ وَلَا يُجَلِّلُهَا حَتَّى يَغْدُوَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
860 -
850 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَشُقُّ جِلَالَ بُدْنِهِ، وَلَا يُجَلِّلُهَا حَتَّى يَغْدُوَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ) ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بَكِيرٍ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: زَادَ فِيهِ
غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا مَوْضِعَ السَّنَامِ، وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلَالَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا، أَيْ لِئَلَّا تَسْقُطَ، وَلِيَظْهَرَ الْإِشْعَارُ لِئَلَّا يَسْتَتِرَ تَحْتَهَا.
وَنَقَلَ عِيَاضٌ: أَنَّ التَّجْلِيلَ يَكُونُ بَعْدَ الْإِشْعَارِ، لِئَلَّا يَتَلَطَّخَ بِالدَّمِ، وَإِنْ شُقَّ الْجِلَالُ مِنَ الْأَسْنِمَةِ، قُلْتُ: قِيمَتُهَا، فَإِنْ كَانَتْ نَفِيسَةً لَمْ تُشَقُّ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُجَلِّلُ بُدْنَهُ الْأَنْمَاطَ وَالْبُرُودَ وَالْحُبُرَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يَنْزِعُهَا فَيَطْوِيهَا حَتَّى يَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَيُلْبِسُهَا إِيَّاهَا، حَتَّى يَنْحَرَهَا، ثُمَّ يَتَصَدَّقَ بِهَا، قَالَ نَافِعٌ: وَرُبَّمَا دَفَعَهَا إِلَى بَنِي شَيْبَةَ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَفِي هَذَا كُلِّهِ اسْتِحْبَابُ التَّقْلِيدِ وَالتَّجْلِيلِ وَالْإِشْعَارِ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ إِظْهَارَ التَّقَرُّبِ بِالْهَدْيِ أَفْضَلُ مِنْ إِخْفَائِهِ، وَالْمُقَرَّرُ إِخْفَاءُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ غَيْرِ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظُّهُورِ كَالْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ، فَكَانَ الْإِشْعَارُ وَالتَّقْلِيدُ كَذَلِكَ، فَيُخَصُّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الْإِخْفَاءِ، وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ وَغَيْرِهِمَا إِظْهَارُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَهْدِيهَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْعَثَهَا مَعَ مَنْ يُقَلِّدُهَا وَيُشْعِرُهَا، وَلَا يَقُولُ أَنَّهَا لِفُلَانٍ، فَتَحْصُلُ سُنَّةُ التَّقْلِيدِ مَعَ كِتْمَانِ الْعَمَلِ، وَأَبْعَدُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ إِذَا شَرَعَ فِيهِ صَارَ فَرْضًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: إِنَّ التَّقْلِيدَ جُعِلَ عِلْمًا لِكَوْنِهَا هَدْيًا حَتَّى لَا يَطْمَعَ صَاحِبُهَا فِي الرُّجُوعِ فِيهَا، انْتَهَى. وَلَعَلَّ الْجَوَابَ بِالتَّخْصِيصِ أَوْلَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِبَنِيهِ يَا بَنِيَّ لَا يُهْدِيَنَّ أَحَدُكُمْ مِنْ الْبُدْنِ شَيْئًا يَسْتَحْيِي أَنْ يُهْدِيَهُ لِكَرِيمِهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ وَأَحَقُّ مَنْ اخْتِيرَ لَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
861 -
851 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِبَنِيهِ: يَا بَنِيَّ لَا يُهْدِيَنَّ أَحَدُكُمْ لِلَّهِ مِنَ الْبُدْنِ شَيْئًا يَسْتَحِي أَنْ يُهْدِيَهُ لِكَرِيمِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ، وَأَحَقُّ مَنِ اخْتِيرَ لَهُ)، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 32)، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ: الْهَدْيُ، وَالْأَنْعَامُ الْمُشْعَرَةُ، وَمَعْنَى تَعْظِيمِهَا: التَّسْمِينُ وَالِاهْتِبَالُ بِأَمْرِهَا، وَالْمُغَالَاةُ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: الشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَمْرٌ أَشْعَرَ بِهِ، وَأَعْلَمَ، وَعَلَى هَذَا فَالْهَدْيُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ، فَالْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لَهُ إِمَّا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَإِمَّا مَعَ غَيْرِهِ.
[بَاب الْعَمَلِ فِي الْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ أَوْ ضَلَّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ صَاحِبَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنْ الْهَدْيِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنْ الْهَدْيِ فَانْحَرْهَا ثُمَّ أَلْقِ قِلَادَتَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
47 -
بَابُ الْعَمَلِ فِي الْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ، أَوْ ضَلَّ
862 -
852 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ صَاحِبَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ صُورَةً لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَصْلِ؛ لِأَنَّ عُرْوَةَ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْ نَاجِيَةَ - بِالنُّونِ وَالْجِيمِ - الصَّحَابِيِّ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي نَاجِيَةُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ خَمْسَتُهُمْ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَكَذَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، وَرُوحُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: فِي الْإِصَابَةِ: وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَالِدَ نَاجِيَةَ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخُزَاعِيُّ، وَبَعْضُهُمْ: الْأَسْلَمِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ التَّعَدُّدُ، فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذُؤَيْبًا الْخُزَاعِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْبُدْنِ أَيْضًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيَّ عَيْنًا فِي فَتْحِ مَكَّةَ» "، وَقَدْ جَزَمَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيِّ، وَأَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ بِأَنَّ عُرْوَةَ تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْأَسْلَمِيِّ، انْتَهَى.
لَكِنَّ جَزْمَهَا بِذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَكَذَا بَعَثَهُ عَيْنًا فِي الْفَتْحِ. وَكَوْنُ ذُؤَيْبٍ مَعَ الْبُدْنِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ السَّائِلُ، فَلَعَلَّ الصَّوَابَ، وَرِوَايَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْأَسْلَمِيُّ لَا سِيَّمَا، وَهُمْ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيُّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ اخْتَلَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَطَائِفَةٌ رَوَتْ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَاجِيَةُ الْأَسْلَمِيُّ، وَطَائِفَةٌ رَوَتْ: أَنَّ ذُؤَيْبًا الْخُزَاعِيَّ وَالِدَ قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ، وَرُبَّمَا بَعَثَ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا مَعَهُ هَدْيًا، فَسَأَلَهُ كَمَا سَأَلَهُ نَاجِيَةُ، انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَسْلَمَ: أَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ صَاحِبَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ) - بِكَسْرِ الطَّاءِ - أَيْ هَلَكَ (مِنَ الْهَدْيِ) ؟ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ، وَالنِّهَايَةِ: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْعَطَبِ عَنْ آفَةٍ تَعْتَرِيهِ تَمْنَعُهُ عَنِ السَّيْرِ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ، (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنَ الْهَدْيِ فَانْحَرْهَا» ) وُجُوبًا، (ثُمَّ أَلْقِ قِلَادَتَهَا فِي دَمِهَا) ، قَالَ مَالِكٌ مَرَّةً أَمْرَهُ بِذَلِكَ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ، فَلَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
يَنْبَغِي، وَتَأَوَّلَهُ مَرَّةً عَلَى أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهَا بِشَيْءٍ حَتَّى لَا تُحْبَسَ قِلَادَتُهَا لِتُقَلَّدَ بِهَا غَيْرُهَا، (ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا)، زَادَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ، وَلَا أَهْلَ رُفْقَتِكَ» "، قَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ: نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ حِمَايَةً أَنْ يَتَسَاهَلَ، فَيَنْحَرَهُ قَبْلَ أَوَانِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ أَمْكَنَ أَنْ يُبَادِرَ بِنَحْرِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الشَّرْعِ، وَحَمَلَهَا مَالِكٌ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ غَيْرُ مَالِكٍ، لِدِقَّةِ نَظَرِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: فَمَا عَطِبَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَلَا سَائِقُهُ، وَلَا رُفْقَتُهُ لِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ بَيَانٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ، فَيَأْكُلُ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَالْأَغْنِيَاءُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَضْمَنُهُ لِتَعَلُّقِهِ بِذِمَّتِهِ، وَأَجَازَ الْجُمْهُورُ بَيْعَهُ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ، فَإِنْ بَلَّغَهُ مَحِلَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ جَزَاءٍ وَفِدْيَةٍ، وَنُذُرِ مَسَاكِينَ وَأَكْلٍ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ مَنْ سَاقَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا فَعَطِبَتْ فَنَحَرَهَا ثُمَّ خَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا غَرِمَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
863 -
853 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ قَالَ مَنْ سَاقَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا فَعَطِبَتْ) بِكَسْرِ الطَّاءِ (فَنَحَرَهَا، ثُمَّ خَلَّى بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا يَأْكُلُونَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) أَيْ لَا بَدَلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَقْتِ الْبَيَانِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَيْهِ الْبَدَلَ، (وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا، أَوْ أَمَرَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا) غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، (غَرِمَهَا) - بِكَسْرِ الرَّاءِ - دَفَعَ بَدَلَهَا هَدْيًا كَامِلًا، لَا قَدْرَ أَكْلِهِ، أَوْ مَا أُمِرَ بِأَكْلِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
863 -
854 - (مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ) - بِمُثَلَّثَةٍ - (ابْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ) - بِكَسْرِ الدَّالِ، وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلُ ذَلِكَ) الْمَرْوِيُّ عَنْ سَعِيدٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
-
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً جَزَاءً أَوْ نَذْرًا أَوْ هَدْيَ تَمَتُّعٍ فَأُصِيبَتْ فِي الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
865 -
855 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً جَزَاءً) عَنْ صَيْدٍ لَزِمَهُ، (أَوْ نَذْرًا) أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، (أَوْ هَدْيَ تَمَتُّعٍ) ، أَوْ قِرَانَ، (فَأُصِيبَتْ فِي الطَّرِيقِ، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ) وَلَهُ الْأَكْلُ، وَإِطْعَامُ الْغَنِيِّ، وَالْقَرِيبِ لِضَمَانِهِ بَدَلَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً ثُمَّ ضَلَّتْ أَوْ مَاتَتْ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَذْرًا أَبْدَلَهَا وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ لَا يَأْكُلُ صَاحِبُ الْهَدْيِ مِنْ الْجَزَاءِ وَالنُّسُكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
866 -
856 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً) مَثَلًا، (ثُمَّ ضَلَّتْ، أَوْ مَاتَتْ) قَبْلَ بُلُوغِ الْمَحِلِّ، (فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَذْرًا أَبْدَلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا) ، أَيْ لَمْ يُبْدِلْهَا.
(مَالِكٌ: أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا يَأْكُلُ صَاحِبُ الْهَدْيِ مِنَ الْجَزَاءِ) لِلصَّيْدِ (وَالنُّسُكِ) ، وَهُوَ مَا كَانَ لِإِلْقَاءِ تَفَثٍ، أَوْ رَفَاهِيَةٍ يَمْنَعُهُمَا الْإِحْرَامُ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ أَكْلِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ لِنَقْصٍ فِي حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ مُطْلَقًا مِنْهُ، حَتَّى هَدْيِ الْفَسَادِ عَنِ الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ.
[بَاب هَدْيِ الْمُحْرِمِ إِذَا أَصَابَ أَهْلَهُ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلُوا عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَقَالُوا يَنْفُذَانِ يَمْضِيَانِ لِوَجْهِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا ثُمَّ عَلَيْهِمَا حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ قَالَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَإِذَا أَهَلَّا بِالْحَجِّ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ تَفَرَّقَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
48 -
بَابُ هَدْيِ الْمُحْرِمِ إِذَا أَصَابَ أَهْلَهُ
869 -
857 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ) عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ صَخْرٍ، أَوْ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ (سُئِلُوا عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ) جَامَعَ (أَهْلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ)
وَمِثْلِهِ الْعُمْرَةُ، (فَقَالُوا: يَنْفُذَانِ) بِضَمِّ الْفَاءِ، وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ (يَمْضِيَانِ لِوَجْهِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَا) يُتِمَّا (حَجَّهُمَا) ، أَيِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِوُجُوبِ إِتْمَامِ فَاسِدِ الْحَجِّ، وَكَذَا الْعُمْرَةُ.
(ثُمَّ عَلَيْهِمَا حَجُّ قَابِلٍ) عَاجِلًا قَضَاءً عَنْ هَذَا الْفَاسِدِ، (وَالْهَدْيُ) فِي الْقَضَاءِ جَبْرًا لِفِعْلِهِمَا، (قَالَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَإِذَا أَهَلَّا) أَحْرَمَا (بِالْحَجِّ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ تَفَرَّقَا) وُجُوبًا، (حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا) ، لِئَلَّا يَتَذَكَّرَا مَا كَانَ مِنْهُمَا أَوَّلًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مَا تَرَوْنَ فِي رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ الْقَوْمُ شَيْئًا فَقَالَ سَعِيدٌ إِنَّ رَجُلًا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَبَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِلَى عَامٍ قَابِلٍ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِيَنْفُذَا لِوَجْهِهِمَا فَلْيُتِمَّا حَجَّهُمَا الَّذِي أَفْسَدَاهُ فَإِذَا فَرَغَا رَجَعَا فَإِنْ أَدْرَكَهُمَا حَجٌّ قَابِلٌ فَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ وَالْهَدْيُ وَيُهِلَّانِ مِنْ حَيْثُ أَهَلَّا بِحَجِّهِمَا الَّذِي أَفْسَدَاهُ وَيَتَفَرَّقَانِ حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا قَالَ مَالِكٌ يُهْدِيَانِ جَمِيعًا بَدَنَةً بَدَنَةً قَالَ مَالِكٌ يُهْدِيَانِ جَمِيعًا بَدَنَةً بَدَنَةً قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِي الْحَجِّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ وَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَحَجُّ قَابِلٍ قَالَ فَإِنْ كَانَتْ إِصَابَتُهُ أَهْلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِرَ وَيُهْدِيَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ قَالَ مَالِكٌ وَالَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْهَدْيُ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاءٌ دَافِقٌ قَالَ وَيُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا الْمَاءُ الدَّافِقُ إِذَا كَانَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ فَأَمَّا رَجُلٌ ذَكَرَ شَيْئًا حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ مَاءٌ دَافِقٌ فَلَا أَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ مَاءٌ دَافِقٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الْقُبْلَةِ إِلَّا الْهَدْيُ وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يُصِيبُهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ مِرَارًا فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَهِيَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُطَاوِعَةٌ إِلَّا الْهَدْيُ وَحَجُّ قَابِلٍ إِنْ أَصَابَهَا فِي الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ أَصَابَهَا فِي الْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا عَلَيْهَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَفْسَدَتْ وَالْهَدْيُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
869 -
858 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ: (أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبَ) الْقُرَشِيَّ (يَقُولُ: مَا تَرَوْنَ فِي رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ) : جَامَعَهَا، (وَهُوَ مُحْرِمٌ) بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، (فَلَمْ يَقُلْ لَهُ الْقَوْمُ شَيْئًا) ، لِأَنَّهُ سُؤَالُ تَنْبِيهٍ لِيُفِيدَهُمُ الْحُكْمَ، (فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ رَجُلًا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَبَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا) مِنْ وُقُوعِ الْوِقَاعِ (إِلَى عَامٍ قَابِلٍ) ، وَهَذَا حَرَجٌ شَدِيدٌ لَمْ يَرْضَهُ، (فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) : وَلَمْ يَقُلْ: فَقُلْتُ: لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ نِسْبَةَ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ: فَكَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ (لِيَنْفُذَا لِوَجْهِهِمَا) : لِقَصْدِهِمَا، (فَلْيُتِمَّا حَجَّهُمَا الَّذِي أَفْسَدَاهُ) ، لِوُجُوبِ ذَلِكَ، فَإِذَا فَرَغَا رَجَعَا، (فَإِنْ أَدْرَكَهُمَا حَجٌّ قَابِلٌ) بِأَنْ عَاشَا إِلَيْهِ، (فَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ وَالْهَدْيُ، وَيُهِلَّانِ مِنْ حَيْثُ أَهَلَّا بِحَجِّهِمَا الَّذِي أَفْسَدَاهُ وَيَتَفَرَّقَانِ) مِنْ إِهْلَالِهِمَا (حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا) ، أَيْ يُتِمَّاهُ.
(قَالَ مَالِكٌ: يُهْدِيَانِ جَمِيعًا بَدَنَةً بَدَنَةً) بِالتَّكْرِيرِ أَيْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ هَدْيٌ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ)، أَيْ: جَامَعَهَا (فِي الْحَجِّ: مَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ) لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ (أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ) إِتْمَامُ حَجِّهِ هَذَا الْفَاسِدِ، وَ (الْهَدْيُ، وَحَجُّ قَابِلٍ، فَإِنْ كَانَتْ إِصَابَتُهُ أَهْلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ) ، وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِرَ وَيَهْدِيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ) ؛ لِأَنَّ حَجَّهُ الْأَوَّلَ لَمْ يَفْسَدْ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ غَايَتُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ نَقْصُ جَبْرٍ بِالْعُمْرَةِ وَالْهَدْيِ.
(وَالَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ، أَوِ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْهَدْيُ فِي الْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ) خِتَانُ الرَّجُلِ، وَخِفَاضُ الْمَرْأَةِ، فَهُوَ تَغْلِيبٌ، (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاءٌ دَافِقٌ) ذُو انْدِفَاقٍ مِنَ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ فِي رَحِمِهَا، (قَالَ: وَيُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا الْمَاءُ الدَّافِقُ إِذَا كَانَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ) لِلْجَسَدِ اسْتِدْعَاؤُهَا نُزُولَهُ، وَكَذَا بِإِدَامَةِ نَظَرٍ، أَوْ إِدَامَةِ فِكْرٍ.
(فَأَمَّا رَجُلٌ ذَكَرَ شَيْئًا حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ مَاءٌ دَافِقٌ) بِدُونِ إِدَامَةٍ، وَلَوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ، (فَلَا أَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا) ، أَيْ فَسَادًا، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهَدْيُ عِنْدَ الْأَبْهَرَيِّ، وَرَجَّحَ غَيْرُهُ وُجُوبَهُ.
(وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ مَاءٌ دَافِقٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الْقُبْلَةِ إِلَّا الْهَدْيُ) ، وَكَذَا لَوْ خَرَجَ بِالْقُبْلَةِ مَذْيٌ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْهَدْيُ، (وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يُصِيبُهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ مِرَارًا فِي الْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ وَهِيَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُطَاوِعَةٌ) ، وَأَوْلَى مُكْرَهَةٌ (إِلَّا الْهَدْيُ، وَحَجُّ قَابِلٍ إِنْ أَصَابَهَا فِي الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَهَا فِي الْعُمْرَةِ; فَإِنَّمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي أُفْسِدَتْ) فَوْرًا بَعْدَ إِتْمَامِ الْفَاسِدَةِ، (وَالْهَدْيُ) لِلْجَبْرِ.
[بَاب هَدْيِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ خَرَجَ حَاجًّا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالنَّازِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ وَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ النَّحْرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ فَإِذَا أَدْرَكَكَ الْحَجُّ قَابِلًا فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
49 -
بَابُ هَدْيِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ
870 -
859 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) بِتَحْتِيَّةٍ، وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ (أَنَّ أَبَا أَيُّوبٍ) خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ (الْأَنْصَارِيَّ خَرَجَ حَاجًّا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالنَّازِيَةِ) بِنُونٍ فَأَلِفٍ فَزَايٍ مَنْقُوطَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَهَاءٍ - عَيْنٍ قُرْبَ الصَّفْرَاءِ (مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ، أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ، وَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: اصْنَعْ مَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ) ، أَيْ تَحَلَّلْ مِنْ حَجِّكِ هَذَا الَّذِي فَاتَكَ بِفِعْلِ عُمْرَةٍ، (ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ، فَإِذَا أَدْرَكَكَ الْحَجُّ قَابِلًا، فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) شَاةً فَأَعْلَى.
وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْحَرُ هَدْيَهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْطَأْنَا الْعِدَّةَ كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَقَالَ عُمَرُ اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ وَانْحَرُوا هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ ثُمَّ احْلِقُوا أَوْ قَصِّرُوا وَارْجِعُوا فَإِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَحُجُّوا وَأَهْدُوا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ثُمَّ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ قَابِلًا وَيَقْرُنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَيُهْدِي هَدْيَيْنِ هَدْيًا لِقِرَانِهِ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ وَهَدْيًا لِمَا فَاتَهُ مِنْ الْحَجِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
871 -
860 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) الْهِلَالِيِّ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ: (أَنَّ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ) بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيَّ الْأَسَدِيَّ أَسْلَمَ بِالْجُعْرَانَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي التَّارِيخِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ هَبَّارٍ: أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ (جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْحَرُ هَدْيَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْطَأْنَا الْعِدَّةَ كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ) الَّذِي هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ (يَوْمُ عَرَفَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ، فَطُفْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ)، وَكَانَ هَبَّارٌ قَدْ حَجَّ مِنَ الشَّامِ كَمَا فِي رِوَايَةِ:(وَانْحَرُوا هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ، ثُمَّ احْلِقُوا، أَوْ قَصِّرُوا، وَارْجِعُوا) ، وَقَدْ أَحْلَلْتُمْ، (فَإِذَا كَانَ عَامٌ
قَابِلٌ، فَحُجُّوا، وَأَهْدُوا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ) إِلَى أَهْلِهِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: عَنْ سَالِمٍ قَالَ: " «كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا، فَيُهْدِي، أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا» "، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: السُّنَّةُ كَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَهُوَ قَدْ صَرَّحَ بِإِضَافَتِهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِلَا رَيْبٍ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، ثُمَّ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ قَابِلًا، وَيَقْرُنَ) - بِضَمِّ الرَّاءِ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَفِي لُغَةٍ بِكَسْرِهَا كَضَرَبَ - (بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيُهْدِي هَدْيَيْنِ هَدْيًا لِقِرَانِهِ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، وَهَدْيًا لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْحَجِّ) ، فَلَوْ أَفْسَدَهُ مَعَ الْفَوَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ هَدْيٌ ثَالِثٌ.
[بَاب هَدْيِ مَنْ أَصَابَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ وَهُوَ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
50 -
بَابُ هَدْيِ مَنْ أَصَابَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ
872 -
861 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (الْمَكِّيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) - بِرَاءٍ، وَمُوَحَّدَةٍ خَفِيفَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ، وَهُوَ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ) ، أَيْ يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، (فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ) ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ لِوُقُوعِ الْخَلَلِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَا أَظُنُّهُ إِلَّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ يَعْتَمِرُ وَيُهْدِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
873 -
862 - (مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ) - بِمُثَلَّثَةٍ - (ابْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (عَنْ عِكْرِمَةَ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرْبَرِيِّ (مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) ثِقَةٌ حُجَّةٌ عِنْدَ رُؤَسَاءِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، كَأَحْمَدَ وَابْنِ مَعِينٍ، وَابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ كَذِبٌ، وَلَا بِدْعَةٌ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي التَّمْهِيدِ فِي حَدِيثِ:" «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ» "، وَقَالَ: إِنَّهُ نَزَلَ الْمَغْرِبَ، وَمَكَثَ بِالْقَيْرَوَانِ مُدَّةً، قِيلَ: وَبِهَا مَاتَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ.
(قَالَ) ثَوْرٌ: (لَا أَظُنُّهُ)، أَيْ عِكْرِمَةُ قَالَ:(إِلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ) ، وَقَدْ رَمَى الْجَمْرَةَ (يَعْتَمِرُ وَيُهْدِي) ، لِجَبْرِ الْخَلَلِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ الْإِفَاضَةَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ فَقَالَ أَرَى إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ النِّسَاءَ فَلْيَرْجِعْ فَلْيُفِضْ وَإِنْ كَانَ أَصَابَ النِّسَاءَ فَلْيَرْجِعْ فَلْيُفِضْ ثُمَّ لْيَعْتَمِرْ وَلْيُهْدِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ هَدْيَهُ مِنْ مَكَّةَ وَيَنْحَرَهُ بِهَا وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ مَعَهُ مِنْ حَيْثُ اعْتَمَرَ فَلْيَشْتَرِهِ بِمَكَّةَ ثُمَّ لْيُخْرِجْهُ إِلَى الْحِلِّ فَلْيَسُقْهُ مِنْهُ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ يَنْحَرُهُ بِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
873 -
863 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: فِي ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) يَعْتَمِرُ وَيُهْدِي.
(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَنْحَرُ بَدَنَةً، يَعْنِي، وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ، فَمَالَ إِلَى رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ دُونَ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ فِي الْمَنَاسِكِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَذَلِكَ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ عِكْرِمَةَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ الْإِفَاضَةَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، قَالَ: أَرَى إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ النِّسَاءَ) ، أَيْ جَامَعَ وَلَوْ وَاحِدَةً، فَالْجَمْعُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، (فَلْيَرْجِعْ) وُجُوبًا حَلَالًا إِلَّا مِنْ نِسَاءٍ وَصَيْدٍ وَكُرْهِ الطِّيبُ، (فَلْيُفِضْ ثُمَّ لِيَعْتَمِرْ وَلِيُهْدِ) ، وَمَحَلُّ وُجُوبِ رُجُوعِهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ تَطَوَّعَ بِطَوَافٍ، فَيُجْزِيهِ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ الْمَنْسِيِّ، كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ نَفْسُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَطَوُّعَاتِ الْحَجِّ تُجْزِئُ عَنْ وَاجِبَاتِهِ.
(وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ هَدْيَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَيَنْحَرَهُ بِهَا) ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، (وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ مَعَهُ مِنْ حَيْثُ اعْتَمَرَ فَلْيَشْتَرِهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ لِيَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ فَلْيَسُقْهُ مِنْهُ إِلَى مَكَّةَ،
ثُمَّ يَنْحَرُهُ بِهَا) ، لِيَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَمَا هُوَ سُنَّةُ الْهَدْيِ.
[بَاب مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ]
وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ {مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] شَاةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
51 -
بَابُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
875 -
864 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ) الصَّادِقِ (بْنِ مُحَمَّدٍ) الْبَاقِرِ، (عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ) فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} [البقرة: 196] : تَيَسَّرَ (مِنَ الْهَدْيِ: شَاةٌ) تُذْبَحُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] فَمِمَّا يُحْكَمُ بِهِ فِي الْهَدْيِ شَاةٌ وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ هَدْيًا وَذَلِكَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا وَكَيْفَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِبَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ فَالْحُكْمُ فِيهِ شَاةٌ وَمَا لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِشَاةٍ فَهُوَ كَفَّارَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ إِطْعَامِ مَسَاكِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
875 -
865 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ) فِي تَفْسِيرِ (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: شَاةٌ) ، فَوَافَقَ عَلِيًّا عَلَى تَفْسِيرِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) أَيْ مُحْرِمُونَ، وَدَاخِلَ الْحَرَمِ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَ الْقَتْلَ دُونَ الذَّبْحِ لِلتَّعْمِيمِ، فَشَمِلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَمَا لَا، إِلَّا الْفَوَاسِقَ، وَمَا أُلْحِقَ بِهَا، {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا، فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، وَلَفْظُهُ يَشْمَلُ الشَّاةَ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مِنْ أَحْكَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَأِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ إِتْلَافٌ وَالْإِتْلَافُ مَضْمُونٌ فِي الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ لَكِنَّ الْمُتَعَمِّدَ آثِمٌ وَالْمُخْطِئَ غَيْرُ مَلُومٍ {يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95] بِالْجَزَاءِ {ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 95] رَجُلَانِ صَالِحَانِ، فَإِنَّ الْأَنْوَاعَ تَتَشَابَهُ، فَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَالْفِيلِ بِذَاتِ سَنَامَيْنِ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ، وَبَقَرَةٍ بَقَرَةٌ، (مِنْكُمْ) : مِنَ الْمُسْلِمِينَ، (هَدْيًا) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] صِفَةُ هَدْيًا، وَالْإِضَافَةُ لَفْظِيَّةٌ، أَيْ وَاصِلًا إِلَيْهِ
بِأَنْ يَذْبَحَ فِيهِ، وَيَتَصَدَّقَ بِهِ، (أَوْ كَفَّارَةٌ) عَطْفٌ عَلَى جَزَاءٍ (طَعَامُ مَسَاكِينَ) بَدَلَ مِنْهُ، أَوْ تَقْدِيرُهُ هِيَ طَعَامٌ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ:(كَفَّارَةُ) بِلَا تَنْوِينٍ، وَ (طَعَامِ) بِالْخَفْضِ عَلَى الْإِضَافَةِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَمَّا تَنَوَّعَتْ إِلَى تَكْفِيرٍ بِالطَّعَامِ، وَتَكْفِيرٍ بِالْجُزْءِ الْمُمَاثِلِ، وَتَكْفِيرٍ بِالصِّيَامِ حَسُنَتْ إِضَافَتُهَا لِأَحَدِ أَنْوَاعِهَا تَبْيِينًا لِذَلِكَ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ.
{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] ، أَيْ أَوْ مَا سَاوَاهُ مِنَ الصَّوْمِ، فَيَصُومُ عَنْ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا، (فَمِمَّا يُحْكَمُ بِهِ فِي الْهَدْيِ شَاةٌ) ، لِأَنَّ النَّعَمَ اسْمٌ لِلْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، (وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ هَدْيًا) بِقَوْلِهِ:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالْفِقْهِ.
(وَذَلِكَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ، (وَكَيْفَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ شَيْءٍ) مِنَ الْجَزَاءِ (لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِبَعِيرٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، فَالْحُكْمُ فِيهِ شَاةٌ) ، إِذْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَزْيَدَ مِمَّا لَزِمَهُ، فَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُقَوِّيَةٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَوِ التَّعَجُّبِيِّ، (وَمَا لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِشَاةٍ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ إِطَعَامِ مَسَاكِينَ)، قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَحْسَنَ مَالِكٌ فِي احْتِجَاجِهِ هَذَا، وَأَتَى بِمَا لَا مَزِيدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حُسْنًا، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
877 -
866 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَا اسْتَيْسَرَ) : تَيَسَّرَ (مِنَ الْهَدْيِ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ) لِأَهْلِ الْجِدَّةِ اسْتِحْبَابًا، فَلَا يُخَالِفُ قَوْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ شَاةً يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ:" لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا شَاةً لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَ "، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَعْلَى الْهَدْيِ بَدَنَةٌ، فَكَيْفَ تَكُونُ مَا اسْتَيْسَرَ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ مَوْلَاةً لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُقَالُ لَهَا رُقَيَّةُ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَعَ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى مَكَّةَ قَالَتْ فَدَخَلَتْ عَمْرَةُ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَأَنَا مَعَهَا فَطَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ دَخَلَتْ صُفَّةَ الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ أَمَعَكِ مِقَصَّانِ فَقُلْتُ لَا فَقَالَتْ فَالْتَمِسِيهِ لِي فَالْتَمَسْتُهُ حَتَّى جِئْتُ بِهِ فَأَخَذَتْ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ ذَبَحَتْ شَاةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
878 -
867 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ: (أَنَّ
مَوْلَاةً لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَنْصَارِيَّةِ (يُقَالُ لَهَا: رُقَيَّةُ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَعَ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) مَوْلَاتِهَا (إِلَى مَكَّةَ قَالَتْ: فَدَخَلَتْ عَمْرَةُ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) ثَامِنَ الْحَجَّةِ، (وَأَنَا مَعَهَا، فَطَافَتْ بِالْبَيْتِ، وَ) سَعَتْ (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ دَخَلَتْ صُفَةَ الْمَسْجِدِ) - بِضَمِّ الصَّادِ - مُفْرَدَةُ صُفَفٍ كَغُرْفَةٍ، وَغُرَفٍ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مُؤَخَّرُ الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ: سَقَائِفُ الْمَسْجِدِ، (فَقَالَتْ: أَمَعَكَ مِقَصَّانِ؟) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْقَافِ، وَالصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِقَصُّ الْمِقْرَاضُ، وَهُمَا مِقَصَّانِ:(فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَتْ: فَالْتَمِسِيهِ) : اطْلُبِيهِ، (فَالْتَمَسْتُهُ حَتَّى جِئْتُ بِهِ) إِلَيْهَا، (فَأَخَذَتْ) بِهِ (مِنْ قُرُونِ) ، أَيْ ضَفَائِرِ (رَأْسِهَا) فِي الْمَسْجِدِ إِرَادَةً لِلسَّتْرِ، وَالْمُبَادَرَةِ بِالتَّقْصِيرِ، وَالْإِحْرَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ بِالْحَجِّ، (فَلَمَّا كَانَ) وُجِدَ (يَوْمُ النَّحْرِ ذَبَحَتْ شَاةً) عَنْ تَمَتُّعِهَا، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ لِلْمُوَطَّأِ، قَالَ مَالِكٌ: أَرَاهَا كَانَتْ مُعْتَمِرَةً، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَأْخُذْ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهَا بِمَكَّةَ، يَعْنِي أَنَّهَا دَخَلَتْهَا بِعُمْرَةٍ، وَحَلَّتْ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ تَقْصِيرُ شَعْرِهَا لِلْعُمْرَةِ، وَالْهَدْيُ لِلتَّمَتُّعِ لِإِحْرَامِهَا بِالْحَجِّ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: أُدْخِلَ هَذَا هُنَا شَاهِدًا عَلَى أَنَّ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شَاةٌ، لِأَنَّ عَمْرَةَ كَانَتْ مُتَمَتِّعَةً، وَالْمُتَمَتِّعُ لَهُ تَأْخِيرُ الذَّبْحِ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ.
[بَاب جَامِعِ الْهَدْيِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَدْ ضَفَرَ رَأْسَهُ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي قَدِمْتُ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ كُنْتُ مَعَكَ أَوْ سَأَلْتَنِي لَأَمَرْتُكَ أَنْ تَقْرِنَ فَقَالَ الْيَمَانِي قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ خُذْ مَا تَطَايَرَ مِنْ رَأْسِكَ وَأَهْدِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا هَدْيُهُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ هَدْيُهُ فَقَالَتْ لَهُ مَا هَدْيُهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا أَنْ أَذْبَحَ شَاةً لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
52 -
بَابُ جَامِعِ الْهَدْيِ
879 -
868 - (مَالِكٌ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ) - بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ - الْجَزَرِيِّ (الْمَكِّيِّ) نَزِيلِ مَكَّةَ مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ:(أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ ضَفَرَ رَأْسَهُ) - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْفَاءِ الْخَفِيفَةِ (فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةُ ابْنِ عُمَرَ (إِنِّي
قَدِمْتُ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ مَعَكَ، أَوْ سَأَلْتَنِي لَأَمَرْتُكَ أَنْ تَقْرِنَ) - بِضَمِّ الرَّاءِ، وَكَسْرِهَا - أَيْ لَأَعْلَمْتُكَ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْقِرَانَ مِثْلُ التَّمَتُّعِ، (فَقَالَ الْيَمَانِيُّ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ) الَّذِي أَخْبَرْتُكَ مِنَ التَّمَتُّعِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: مَعْنَاهُ قَدْ فَاتَنِي الَّذِي تَقُولُ، لِأَنِّي طُفْتُ وَسَعَيْتُ لِلْعُمْرَةِ، فَمَاذَا عَلَيَّ الْحِلَاقُ، أَوِ التَّقْصِيرُ؟ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: خُذْ مَا تَطَايَرَ) ، أَيِ ارْتَفَعَ (مِنْ) شَعْرِ (رَأْسِكَ) ، أَيْ قَصِّرْ، (وَأَهْدِ) لِلتَّمَتُّعِ، (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا هَدْيُهُ) بِفَتْحٍ، فَسُكُونٍ فَتَحْتِيَّةٍ خَفِيفَةٍ، وَبِكَسْرِ الدَّالِ، وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ - قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ مِمَّا يُهْدَى لِلَّهِ تَعَالَى، (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: هَدْيُهُ، فَقَالَتْ لَهُ: مَا هَدْيُهُ) بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا أَيْضًا، وَاحِدَةُ الْهَدْيِ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ النَّعَمِ بِالتَّثْقِيلِ، وَالْخِفَّةِ أَيْضًا، وَقِيلَ: الْمُثْقَلُ جَمْعُ الْمُخَفَّفِ، أَجْمَلَ الْهَدْيَ أَوَّلًا، وَثَانِيًا رَجَاءَ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِالْأَفْضَلِ، فَلَمَّا اضْطُرَّ لِلْكَلَامِ صَرَّحَ، (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا أَنْ أَذْبَحَ شَاةً، لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَ) ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ أَوَّلًا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً، إِمَّا لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ قُيِّدَ بِعَدَمِ الْوُجُودِ، فَمَنْ وَجَدَ الْبَقَرَةَ، أَوِ الْبَدَنَةَ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ: الصِّيَامُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الشَّاةِ، لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ تَفْضِيلُ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ فِي الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ إِذَا حَلَّتْ لَمْ تَمْتَشِطْ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا هَدْيٌ لَمْ تَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْحَرَ هَدْيَهَا وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ لَا يَشْتَرِكُ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ فِي بَدَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِيُهْدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةً بَدَنَةً وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ بُعِثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ يَنْحَرُهُ فِي حَجٍّ وَهُوَ مُهِلٌّ بِعُمْرَةٍ هَلْ يَنْحَرُهُ إِذَا حَلَّ أَمْ يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَجِّ وَيُحِلُّ هُوَ مِنْ عُمْرَتِهِ فَقَالَ بَلْ يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَجِّ وَيُحِلُّ هُوَ مِنْ عُمْرَتِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْهَدْيِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَدْيَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَكَّةَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَأَمَّا مَا عُدِلَ بِهِ الْهَدْيُ مِنْ الصِّيَامِ أَوْ الصَّدَقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِغَيْرِ مَكَّةَ حَيْثُ أَحَبَّ صَاحِبُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَعَلَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
880 -
869 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ) بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ (إِذَا حَلَّتْ) مِنْ إِحْرَامِهَا.
(لَمْ تَمْتَشِطْ) تُسَرِّحْ شَعْرَهَا، (حَتَّى تَأْخُذَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا) لِلتَّحَلُّلِ بِذَلِكَ.
(وَإِنْ كَانَ لَهَا هَدْيٌ لَمْ تَأْخُذْ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْحَرَ هَدْيَهَا)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) .
(مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: لَا يَشْتَرِكُ الرَّجُلُ، وَامْرَأَتُهُ فِي بَدَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَنْحَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَدَنَةً بَدَنَةً) بِالتَّكْرِيرِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَجَازَ الْأَكْثَرُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْهَدْيِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَبَحَ عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ» " وَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدٌ قَرِيبًا.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ بُعِثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ يَنْحَرُهُ فِي حَجٍّ وَهُوَ) ، أَيِ الْمَبْعُوثِ مَعَهُ (مُهِلٌ بِعُمْرَةٍ هَلْ يَنْحَرُهُ إِذَا حَلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ، أَمْ يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَجِّ، وَيُحِلُّ هُوَ مِنْ عُمْرَتِهِ)، قَبْلَ نَحْرِهِ؟ (فَقَالَ: بَلْ يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَجِّ) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 33)، وَقَالَ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) ، أَيْ يَوْمَ النَّحْرِ، وَسَائِرَ أَيَّامِ مِنًى.
(وَيُحِلُّ هُوَ مِنْ عُمْرَتِهِ) قَبْلَ نَحْرِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَلَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِعُمْرَتِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَالَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْهَدْيِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ) ، كَتَمَتُّعٍ وَقِرَانٍ، (فَإِنَّ هَدْيَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَكَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وَيُسْتَحَبُّ الْمَرْوَةُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسُ الْكَعْبَةِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحٌ وَلَا نَحْرٌ فِيهَا، وَلَا فِي الْمَسْجِدِ.
(فَأَمَّا مَا عُدِلَ بِهِ الْهَدْيُ مِنَ الصِّيَامِ، أَوِ الصَّدَقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِغَيْرِ مَكَّةَ حَيْثُ أَحَبَّ صَاحِبُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَعَلَهُ) ، لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِي الصِّيَامِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَلَا أَهْلِ الْحَرَمِ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّدَقَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ فَمَرُّوا عَلَى حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ مَرِيضٌ بِالسُّقْيَا فَأَقَامَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَتَّى إِذَا خَافَ الْفَوَاتَ خَرَجَ وَبَعَثَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ فَقَدِمَا عَلَيْهِ ثُمَّ إِنَّ حُسَيْنًا أَشَارَ إِلَى رَأْسِهِ فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِرَأْسِهِ فَحُلِّقَ ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا فَنَحَرَ عَنْهُ بَعِيرًا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَكَانَ حُسَيْنٌ خَرَجَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
882 -
870 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ يَعْقُوبِ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ
أَبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ الْجَوَادِ ابْنِ الْجَوَادِ: (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَخَرَجَ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَرُّوا عَلَى حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ) بْنِ أَبِي طَالِبٍ، (وَهُوَ مَرِيضٌ بِالسُّقْيَا) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِسْكَانِ الْقَافِ، وَتَحْتِيَّةٍ، وَالْقَصْرِ (فَأَقَامَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَتَّى إِذَا خَافَ الْفَوَاتَ) لِلْحَجِّ، (خَرَجَ وَبَعَثَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - الصَّحَابِيَّةِ زَوْجَةِ عَلِيٍّ يَوْمَئِذٍ، (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَقَدِمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ حُسَيْنًا أَشَارَ إِلَى رَأْسِهِ) يَشْكُو وَجَعَهُ (فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِرَأْسِهِ فَحُلِّقَ، ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا فَنَحَرَ)، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196)، (قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَكَانَ حُسَيْنٌ خَرَجَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) - أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - (فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ) ، وَلَمْ يَخْرُجْ أَبُوهُ عَلِيٌّ.
[بَاب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
53 -
بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ
884 -
871 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّآتِهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، مُرْسَلًا بِلَفْظِ الْمُوَطَّأِ، وَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» ) ، أَيْ أَنَّ الْوَاقِفَ بِأَيِّ جُزْءٍ مِنْهَا آتٍ بِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ مُتَّبِعٌ لِطَرِيقَتِهِ، وَإِنْ بَعُدَ مَوْقِفِهِ عَنْ مَوْقِفِي أَرَادَ بِهِ رَفَعَ تَوَهُّمِ تَعَيُّنِ الْمَوْقِفِ الَّذِي اخْتَارَهُ هُوَ لِلْوُقُوفِ، (وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَنُونٍ، وَفِي لُغَةٍ بِضَمَّتَيْنِ - مَوْضِعٌ بَيْنَ مِنًى وَعَرَفَاتٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ
جِهَةَ عَرَفَةَ، وَالْعَلَمَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ جِهَةَ مِنًى.
(وَالْمُزْدَلِفَةُ) الْمَكَانُ الْمَعْرُوفُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُتَقَرَّبُ فِيهَا مِنْ زَلَفَ إِذَا تَقَرَّبَ، وَقِيلَ: لِمَجِيءِ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي زَلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ: أَيْ سَاعَاتٍ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مِنَ الْحَرَمِ (كُلُّهَا مَوْقِفٌ)، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ:" «قَدْ وَقَفْتُ هَهُنَا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» "(وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرِ) - بِكَسْرِ السِّينِ مُشَدَّدَةٌ - بَيْنَ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيلَ أَبْرَهَةَ كَلَّ فِيهِ وَأَعْيَا، فَحُسِرَ أَصْحَابُهُ بِفِعْلِهِ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الْحَسَرَاتِ، وَإِضَافَتُهُ لِلْبَيَانِ كَشَجَرِ أَرَاكٍ، وَبَقِيَّةُ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَذْكُورَةِ عَقِبَ هَذَا: وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ; فَفِي أَيِّ مَحِلٍّ وَقَفَ أَجْزَأَ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الصَّخْرَاتِ الَّتِي وَقَفَ عِنْدَهَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَوَامِّ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِصُعُودِ الْجَبَلِ، وَتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُقُوفُ إِلَّا فِيهِ فَغَلَطٌ، بَلِ الصَّوَابُ جَوَازُ الْوُقُوفِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، وَأَنَّ الْفَضِيلَةَ فِي مَوْقِفِهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الصَّخْرَاتِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ، فَلْيَقْرُبْ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ جَاءَ أَيْضًا مَوْصُولًا، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:" «وَقَفْتُ هَهُنَا وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَهُنَا وَجَمْعُ كُلِّهَا مَوْقِفٌ» "، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّيْلَمِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا: " «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ» .
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اعْلَمُوا أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ وَأَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ قَالَ مَالِكٌ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قَالَ فَالرَّفَثُ إِصَابَةُ النِّسَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] قَالَ وَالْفُسُوقُ الذَّبْحُ لِلْأَنْصَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] قَالَ وَالْجِدَالُ فِي الْحَجِّ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ وَكَانَتْ الْعَرَبُ وَغَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ نَحْنُ أَصْوَبُ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ نَحْنُ أَصْوَبُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَ {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67] فَهَذَا الْجِدَالُ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
884 -
872 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ) عَمِّهِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اعْلَمُوا أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ) - بِالنُّونِ - لِكَوْنِهَا فِي الْحَرَمِ، (وَأَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ) ، عَقَّبَ الْمَرْفُوعَ بِالْمَوْقُوفِ إِشَارَةً إِلَى اسْتِمْرَارِ الْعَمَلِ بِهِ، فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ.
(قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] بِالْفَتْحِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّ لَا لِلتَّبْرِئَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فَتْحَةُ بِنَاءٍ، وَقِيلَ: إِعْرَابٌ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى إِلْغَاءِ لَا، وَمَا بَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ، سَوَّغَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ تَقَدُّمَ النَّفْيِ عَلَيْهَا، وَفِي الْحَجِّ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّالِثِ، وَحَذْفُ خَبَرِ الْأَوَّلَيْنِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِمَا.
(قَالَ: فَالرَّفَثُ إِصَابَةُ النِّسَاءِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ) -
بِدَلِيلِ أَنَّهُ (قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] أَيْ جِمَاعِهِنَّ بِلَا شَكٍّ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا الرَّفَثُ فِي آيَةِ الْحَجِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْفُحْشُ فِي الْكَلَامِ، وَقِيلَ: التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَخَصَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا خُوطِبَ بِهِ النِّسَاءُ، قَالَ عِيَاضٌ: يَعْنِي مَنْ ذَكَرَ الْجِمَاعَ، وَمَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِ لَا كُلَّ كَلَامٍ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: الرَّفَثُ: إِتْيَانُ النِّسَاءِ، وَالتَّكَلُّمُ بِذَلِكَ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ.
(قَالَ: وَالْفُسُوقُ: الذَّبْحُ لِلْأَنْصَابِ) جَمْعُ نُصُبٍ - بِضَمَّتَيْنِ - حِجَارَةٌ تُنْصَبُ، وَتُعْبَدُ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] فَسَمَّى ذَلِكَ فِسْقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْحَجِّ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْفُسُوقُ: الْمَعَاصِي فِي الْحَرَمِ، وَلِذَا قِيلَ الْمُرَادُ: مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّرْكُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْعِصْيَانُ، وَالْخُرُوجُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَالْفُجُورُ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: إِنَّمَا خَصَّ مَالِكٌ الْفُسُوقَ بِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الْحَجَّ شُرِعَ فِيهِ الذَّبْحُ، فَخُصَّ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنِ الْمَعَاصِي جُمْلَةً، وَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْحَجِّ، وَغَيْرُهُ لَكِنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِي الْحَجِّ.
(قَالَ: وَالْجِدَالُ فِي الْحَجِّ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَكَرَ الْقَعْنَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ، وَذَكَرَ الْهُذَلِيُّ أَنَّ أَبَا السَّمَّاكِ قَرَأَ بِالْكَسْرِ - جَبَلٌ (بِالْمُزْدَلِفَةِ بِقَزَحٍ) - بِفَتْحِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الزَّايِ، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ: كُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَمَأْزِمَيْ عَرَفَاتٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ لِلْعِبَادَةِ، وَمَوْضِعٌ لَهَا، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الشَّعَائِرُ الْمَعَالِمُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا.
(وَكَانَتِ الْعَرَبُ، وَغَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ) عَلَى أَصْلِ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَقَالَ سُفْيَانُ: كَانَ الشَّيْطَانُ قَدِ اسْتَهْوَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ عَظَّمْتُمْ غَيْرَ حَرَمِكُمُ اسْتَخَفَّ النَّاسُ بِحَرَمِكُمْ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تُجَاوِزُ الْحَرَمَ، وَتَقُولُ: نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ، وَكَانَ سَائِرُ النَّاسِ يَقِفُ بِعَرَفَةَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 199) ، رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: عَنْ عَائِشَةَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتَ، فَيَقِفُ بِهَا، ثُمَّ يَفِيضُ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: " «كَانَتْ قُرَيْشٌ
إِنَّمَا تَدْفَعُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَتَقُولُ نَحْنُ الْحُمْسُ فَلَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ، وَقَدْ تَرَكُوا الْمَوْقِفَ بِعَرَفَةَ، قَالَ. فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، ثُمَّ يُصْبِحُ مَعَ قَوْمِهِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَيَقِفُ مَعَهُمْ، وَيَدْفَعُ إِذَا دَفَعُوا تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ لَهُ» "، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جُبَيْرٍ: "«رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَهُنَا» "، وَالْحُمْسُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْمِيمِ السَّاكِنَةِ، وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ هُمْ قُرَيْشٌ، وَمَنْ أَخَذَ مَأْخَذَهَا مِنَ الْقَبَائِلِ مِنَ التَّحَمُّسِ، وَهُوَ التَّشَدُّدُ.
(فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ) : يَتَخَاصَمُونَ، (يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ) لِأَنَّا لَمْ نَخْرُجْ مِنَ الْحَرَمِ، (وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ) لِأَنَّا اتَّبَعْنَا الشَّرَائِعَ الْقَدِيمَةَ، وَلَمْ نَبْتَدِعْ، (فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 34]- بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَسْرِهَا - شَرِيعَةً، {هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] : عَامِلُونَ بِهِ، {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} [الحج: 67] ، {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج: 67] إِلَى دِينِهِ، {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى} [الحج: 67] : دِينٍ (مُسْتَقِيمٍ فَهَذَا الْجِدَالُ فِيمَا نَرَى) : نَظُنُّ، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) بِمَا أَرَادَ، (وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ)، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:" «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» "، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجِدَالَ لِارْتِفَاعِهِ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَقُرَيْشٍ بِالْإِسْلَامِ، وَوَقَفَ الْكُلُّ بِعَرَفَةَ.
[بَاب وُقُوفِ الرَّجُلِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ وَوُقُوفِهِ عَلَى دَابَّتِهِ]
سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَقِفُ الرَّجُلُ بِعَرَفَةَ أَوْ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَوْ يَرْمِي الْجِمَارَ أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ فَقَالَ كُلُّ أَمْرٍ تَصْنَعُهُ الْحَائِضُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَالرَّجُلُ يَصْنَعُهُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ ثُمَّ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ الْفَضْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ طَاهِرًا وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِلرَّاكِبِ أَيَنْزِلُ أَمْ يَقِفُ رَاكِبًا فَقَالَ بَلْ يَقِفُ رَاكِبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ أَوْ بِدَابَّتِهِ عِلَّةٌ فَاللَّهُ أَعْذَرُ بِالْعُذْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
54 -
بَابُ وُقُوفِ الرَّجُلِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، وَوُقُوفِهِ عَلَى دَابَّتِهِ
(سُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ يَقِفُ الرَّجُلُ بِعَرَفَةَ، أَوْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، أَوْ يَرْمِي الْجِمَارَ) يَوْمَ النَّحْرِ، وَغَيْرِهِ، (أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ؟) ، أَيْ غَيْرُ مُتَوَضٍّ، (فَقَالَ) مُعْطِيًا الْحُكْمَ بِدَلِيلِهِ مِنَ الْقِيَاسِ:(كُلُّ أَمْرٍ تَصْنَعُهُ الْحَائِضُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَالرَّجُلُ يَصْنَعُهُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، ثُمَّ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ)، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْحَائِضِ:" «اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» " فَأَبَاحَ لَهَا الْفِعْلَ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَكَذَلِكَ الرَّجُلُ، (وَلَكِنِ الْفَضْلُ) ، أَيِ الْمُسْتَحَبُّ
(أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ فِي السُّؤَالِ (كُلِّهِ طَاهِرًا) مُتَوَضِّئًا، لِفِعْلِهِ كَذَلِكَ، صلى الله عليه وسلم (وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ) ، أَيْ عَدَمَ الطَّهَارَةِ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِلرَّاكِبِ: أَيَنْزِلُ أَمْ يَقِفُ رَاكِبًا؟) أَيْ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ (فَقَالَ: بَلْ يَقِفُ رَاكِبًا) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.
(إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ، أَوْ بِدَابَّتِهِ عِلَّةٌ فَاللَّهُ أَعْذَرُ بِالْعُذْرِ) ، أَيْ بِسَبَبِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ: أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ لِمَنَافِعَ وَأَغْرَاضٍ لِرَاكِبِهَا جَائِزٌ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُجْحِفًا بِالدَّابَّةِ، أَوْ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ، وَأَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ وَلِمَنْ يَتَّخِذُ ذَلِكَ عَادَةً لِلتَّحَدُّثِ عَلَيْهَا، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا فَأَخَذَهُ الْحَدِيثُ مَعَ جَمَاعَةٍ، وَلَمْ يَطُلْ ذَلِكَ كَثِيرًا حَتَّى يَضُرَّ بِهَا فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاصِدًا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَبْلِيغِ كَلَامِهِ، أَوْ لِخَوْفٍ عَلَى الدَّابَّةِ إِنْ تَرَكَهَا، أَوْ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَرْكَبُهَا لِيُحْرِزَهَا وَيُحْرِزَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ.
[بَاب وُقُوفِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِعَرَفَةَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
55 -
بَابُ وُقُوفِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِعَرَفَةَ
886 -
873 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ مِنْ) ، أَيْ بَعْضُ (لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ) ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْعِيدِ (قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ) ، وَلَوْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الزَّوَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ، (وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا بِنَحْوِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَرْفُوعًا، وَزَادَ فِيهِ:" «وَلِيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ قَابِلًا» "، وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: " «شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الْحَجِّ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ أَدْرَكَهَا قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» .
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يُعْتَقُ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِي عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يُحْرِمْ فَيُحْرِمُ بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ ثُمَّ يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ إِذَا لَمْ يُدْرِكْ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ وَيَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَقْضِيهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
887 -
874 -
- (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ) ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِفِعْلِ عُمْرَةٍ.
(وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) فَفِي فَحْوَى كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَكْفِي الْوُقُوفَ نَهَارًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ رحمه الله وَأَنَّ الْوُقُوفَ الرُّكْنَ إِنَّمَا هُوَ الْوُقُوفُ بِاللَّيْلِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَفَ أَيَّ جُزْءٍ مِنْ زَوَالِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ فَجْرِ النَّحْرِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَفِي التِّرْمِذِيِّ صَحِيحًا مَرْفُوعًا:" «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ؛ أَيِ الصُّبْحَ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَوَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» ".
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: لَيْسَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ مِنَ الْغُرُوبِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ تُطَوُّعًا، وَيُكَلِّفُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ الْوُقُوفَ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْمَغْرِبِ، مَعَ كَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِيمَا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَكُونُ حَظُّهُ مِنَ الْفَرْضِ لِمَا دَخَلَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ الِانْصِرَافَ لَا مَا سِوَاهُ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ جَاءَتْ أَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ وَلَمْ يَقِفْ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ الْمَشْيُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْمَحِلِّ، وَالْوُقُوفُ عِبَادَةٌ يُؤْتَى بِهَا عَلَى صِفَةِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَتَى بِالنَّاسِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَأَتَوْا لِامْتِثَالِ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِلْأُمَّةِ، فَلَوْ كَانَ فِي تَطَوُّعٍ وَالْفَرْضُ مِنَ الْغُرُوبِ لَبَيَّنَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يُفْهَمُ مِنْ مُجَرَّدِ فِعْلِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي تَطَوُّعٍ، بَلِ الْمَفْهُومُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي امْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يُعْتَقُ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ مِنْ) ، أَيْ بَدَلِ (حَجَّةِ الْإِسْلَامِ) ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ فِي وَقْتِ عَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ نَفْلٌ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يُحْرِمْ فَيُحْرِمُ بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ، ثُمَّ يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْزَأَ عَنْهُ) حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إِذَا نَوَاهَا، (وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ إِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ) ، فَيَتَحَلَّلُ بِفِعْلِ
عُمْرَةٍ، (وَيَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ) الْمَذْكُورِ الَّذِي عُتِقَ (حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَقْضِيهَا) ، أَيْ يَفْعَلُهَا.
[بَاب تَقْدِيمِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَالِمٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُ أَهْلَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِمِنًى وَيَرْمُوا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
56 -
بَابُ تَقْدِيمِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
888 -
875 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَالِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ) - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - وَفِي نُسْخَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - وَلَهُ، وَلَدَانِ بِتَكْبِيرِ الْعَبْدِ، وَتَصْغِيرِهِ (ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُ أَهْلَهُ) : نِسَاءَهُ، (وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى) خَوْفَ التَّأَذِّي بِالْعَجَلَةِ، وَالزِّحَامِ (حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِمِنًى، وَيَرْمُوا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ:" كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى مِنًى، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدُمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدُمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ "، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ مَوْلَاةً لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ جِئْنَا مَعَ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنًى بِغَلَسٍ قَالَتْ فَقُلْتُ لَهَا لَقَدْ جِئْنَا مِنًى بِغَلَسٍ فَقَالَتْ قَدْ كُنَّا نَصْنَعُ ذَلِكَ مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
889 -
876 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ مَوْلَاةً) لَمْ تُسَمَّ لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: أَنَّ مَوْلًى بِالتَّذْكِيرِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) - ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ - (أَخْبَرَتْهُ: قَالَتْ: جِئْنَا مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ (مِنًى) - بِالصَّرْفِ - (بِغَلَسٍ) - بِفَتْحَتَيْنِ - ظُلْمَةِ آخِرِ اللَّيْلِ، (قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: لَقَدْ جِئْنَا مِنًى بِغَلَسٍ) ، يَعْنِي تَقَدَّمْنَا عَلَى الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ، (فَقَالَتْ: قَدْ كُنَّا نَصْنَعُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: نَفْعَلُ (ذَلِكَ مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكِ) - بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابُ الْمُؤَنَّثِ - وَهَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عَلَى قَوْلٍ ثُمَّ
هُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِبْهَامُ الْمَوْلَاةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْسَانَ مَوْلَى أَسْمَاءَ:" أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحَلُوا فَارْتَحَلْنَا، وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: مَا أَرَانَا إِلَّا قَدْ غُلِسْنَا، فَقَالَتْ يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ لِلظَّعْنِ "، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ السَّائِلِ هُنَا ذَكَرٌ، أَوْ فِي رِوَايَةٍ أُنْثَى لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا سَأَلَاهَا فِي عَامٍ، أَوْ عَامَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبِ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، إِذْ لَوْ وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ بِالْعُذْرِ كَوُقُوفِ عَرَفَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ النُّزُولِ بِهَا وَاجِبًا بِقَدْرِ حَطِّ الرَّحْلِ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ فَالدَّمُ عَلَى الْأَشْهَرِ وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَبِيتَ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يُقَدِّمُ نِسَاءَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ رَمْيَ الْجَمْرَةِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَمَنْ رَمَى فَقَدْ حَلَّ لَهُ النَّحْرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
889 -
877 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - أَحَدَ الْعَشْرَةِ (كَانَ يُقَدِّمُ نِسَاءَهُ، وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى) عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ.
(مَالِكٌ: أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ رَمْيَ الْجَمْرَةِ) لِلْعَقَبَةِ (حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَمَنْ رَمَى فَقَدْ حَلَّ لَهُ النَّحْرُ) ، وَهُوَ فِي اللِّبَّةِ كَالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ تَأْمُرُ الَّذِي يُصَلِّي لَهَا وَلِأَصْحَابِهَا الصُّبْحَ يُصَلِّي لَهُمْ الصُّبْحَ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ ثُمَّ تَرْكَبُ فَتَسِيرُ إِلَى مِنًى وَلَا تَقِفُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
892 -
878 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ) زَوْجَتِهِ (فَاطِمَةَ بِنْتِ) عَمِّهِ (الْمُنْذِرِ) بْنِ الزُّبَيْرِ، (أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى) جَدَّتَهَا (أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ تَأْمُرُ الَّذِي يُصَلِّي لَهَا، وَلِأَصْحَابِهَا) ، أَيْ بِهِمَا إِمَامًا (الصُّبْحَ يُصَلِّي لَهُمُ الصُّبْحَ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، ثُمَّ تَرْكَبُ فَتَسِيرُ إِلَى مِنًى، وَلَا تَقِفُ) عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ.
[بَاب السَّيْرِ فِي الدَّفْعَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ «وَأَنَا جَالِسٌ مَعَهُ كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ قَالَ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» قَالَ مَالِكٌ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
57 -
بَابُ السَّيْرِ فِي الدُّفْعَةِ
893 -
879 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) الْحِبُّ ابْنُ الْحِبِّ (وَأَنَا جَالِسٌ مَعَهُ) ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ:" سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا شَاهِدٌ "، أَوْ قَالَ:" سَأَلْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ "( «كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ» ؟) زَادَ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنْ عَرَفَةَ، كَذَا فِي الْفَتْحِ، وَلَعَلَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَضَّاحٍ، عَنْ يَحْيَى، وَإِلَّا فَرِوَايَةُ ابْنِهِ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ كَأَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، أَيِ انْصَرَفَ مِنْهَا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ سُمِّيَ دَفْعًا لِازْدِحَامِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا، فَيَدْفَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (قَالَ) أُسَامَةُ:(كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، سَيْرٌ بَيْنَ الْإِبْطَاءِ وَالْإِسْرَاعِ، قَالَ فِي الْمَشَارِقِ: وَهُوَ سَيْرٌ سَهْلٌ فِي سُرْعَةٍ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ، وَقِيلَ: الَّذِي يَتَحَرَّكُ بِهِ عُنُقُ الدَّابَّةِ، وَفِي الْفَائِقِ: الْعَنَقُ الْخَطْوُ الْفَسِيحُ وَانْتَصَبَ الْمُؤَكَّدُ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ، وَفِي التَّمْهِيدِ: سَيْرٌ مَعْرُوفٌ لِلدَّوَابِّ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي غَيْرِهَا، قَالَ:
يَا جَارَتِي يَا طَوِيلَةَ الْعُنُقْ أَخْرَجَتْنِي بِالصُّدُودِ عَنْ عَنَقْ
(فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ فَوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيْ مَكَانًا مُتَّسِعًا، كَذَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَالْقَعْنَبِيُّ، وَالتِّنِّيسِيُّ، وَطَائِفَةٌ، وَرَوَاهُ يَحْيَى، وَأَبُو مُصْعَبٍ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، وَجَمَاعَةٌ فُرْحَةً، بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِ الرَّاءِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ بِمَعْنَى فَجْوَةٍ (نَصَّ) بِفَتْحِ النُّونِ، وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ، أَيْ أَسْرَعَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: النَّصُّ تَحْرِيكُ الدَّابَّةِ حَتَّى تَسْتَخْرِجَ بِهِ أَقْصَى مَا عِنْدَهَا، وَأَصْلُهُ غَايَةُ الشَّيْءِ يُقَالُ: نَصَصْتُ الشَّيْءَ: رَفَعْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَنُصَّ الْحَدِيثَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّ الْوَثِيقَةَ فِي نَصِّهِ
أَيِ ارْفَعْهُ إِلَيْهِمْ وَانْسُبْهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي ضَرْبٍ سَرِيعٍ مِنَ السَّيْرِ.
(قَالَ مَالِكٌ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ) أَيْ أَرْفَعُ مِنْهُ فِي السُّرْعَةِ، وَكَذَا بَيَّنَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ: أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَدْرَجَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَسُفْيَانُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَوَكِيعٌ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَعِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ وَكِيعٍ، وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ مِنْ سُفْيَانَ، وَهُمَا إِنَّمَا أَخَذَاهُ عَنْ هِشَامٍ فَرَجَعَ التَّفْسِيرُ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَكْثَرُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ فَلَمْ يَذْكُرُوا التَّفْسِيرَ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَكْثَرُ مِنْ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ السَّيْرِ فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَلْزَمُ أَئِمَّةَ الْحَاجِّ فَمَنْ دُونَهُمْ فِعْلَهُ لِأَجْلِ الِاسْتِعْجَالِ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ لَا تُصَلَّى إِلَّا مَعَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، أَيْ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ الْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ عِنْدَ الزَّحْمَةِ، وَبَيْنَ الْإِسْرَاعِ عِنْدَ عَدَمِهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ نَاقَتَهُ رَافِعَةً يَدَيْهَا حَتَّى أَتَى جَمْعًا مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الزِّحَامِ دُونَ غَيْرِهِ، يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَهُ حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيجَافِ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ نَاقَتَهُ رَافِعَةً يَدَيْهَا حَتَّى أَتَى جَمْعًا» "، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهِ أُسَامَةُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ قَالَ: فَمَا زَالَ يَسِيرُ عَلَى هَنِيَّتِهِ حَتَّى أَتَى جَمْعًا، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ أُسَامَةَ، وَرُجِّحَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ وَسُكُونِهِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَوَكِيعٌ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، الْعَشَرَةُ عَنْ هِشَامٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
894 -
880 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ) بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ عَمَلًا بِالسُّنَّةِ.
[بَاب مَا جَاءَ فِي النَّحْرِ فِي الْحَجِّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِمِنًى هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَقَالَ فِي الْعُمْرَةِ هَذَا الْمَنْحَرُ يَعْنِي الْمَرْوَةَ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا مَنْحَرٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
58 -
بَابُ مَا جَاءَ فِي النَّحْرِ فِي الْحَجِّ
896 -
881 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِمِنًى) هَذَا الْمَكَانُ الَّذِي نَحَرْتُ فِيهِ (الْمَنْحَرُ) الْأَفْضَلُ (وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ) يَجُوزُ النَّحْرُ فِيهِ، زَادَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ:" فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ "، وَهُوَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ لَا إِيجَابٍ، وَلَا نَدْبٍ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَنْحَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا رَوَاهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: كَانَ مَنْزِلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى عَنْ يَسَارِ الْمُصَلَّى.
قَالَ: وَقَالَ غَيْرُ طَاوُسٍ مِنْ أَشْيَاخِنَا مِثْلَهُ، وَزَادَ: فَأَمَرَ بِنِسَائِهِ أَنْ يَنْزِلْنَ حَيْثُ الدَّارُ بِمِنًى، وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ أَنْ يَنْزِلُوا بِالشِّعْبِ وَرَاءَ الدَّارِ، قُلْتُ: وَالشِّعْبُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَلِلنَّحْرِ فِيهِ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ: هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ.
(وَقَالَ فِي الْعُمْرَةِ: هَذَا الْمَنْحَرُ) الْأَفْضَلُ (يَعْنِي الْمَرْوَةَ) بَيَانٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ (وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَجِيمَيْنِ، جَمْعُ فَجٍّ، بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ (وَطُرُقُهَا مَنْحَرٌ) يَجُوزُ النَّحْرُ فِيهَا، قَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: يُرِيدُ: كُلُّ مَا قَارَبَ بُيُوتَ مَكَّةَ مِنْ فِجَاجِهَا وَطُرُقِهَا مَنْحَرٌ، وَمَا تَبَاعَدَ مِنَ الْبُيُوتِ فَلَيْسَ بِمَنْحَرٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلَا نُرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ قَالَتْ عَائِشَةُ فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا فَقَالُوا نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ» قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ أَتَتْكَ وَاللَّهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
896 -
882 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ: (أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّارِيخِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَاحْتَجَّ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ قَالَ: لِأَنَّ أَوَّلَ ذِي الْحِجَّةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّ الْوَقْفَةَ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ يَقْتَضِي أَنَّ خُرُوجَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِنَاءً عَلَى تَرْكِ عَدِّ يَوْمِ الْخُرُوجِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ يَوْمُ الْخَمِيسِ بِإِلْغَاءِ يَوْمِ الْخُرُوجِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ الْمُتَعَيِّنَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ السَّبْتِ بِنَاءً عَلَى عَدِّ يَوْمِ الْخُرُوجِ، أَوْ عَلَى تَرْكِ عَدِّهِ، وَيَكُونُ ذُو الْقِعْدَةِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، أَيَّدَهُ الْحَافِظُ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَالْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ: أَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْعِ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ فِي التَّارِيخِ لِئَلَّا يَكُونَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، فَلَا يَصِحُّ الْكَلَامُ، فَيَقُولُ مَثَلًا: إِنْ بَقِينَ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَكُونُ عَلَى الْغَالِبِ.
(وَلَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ، أَيْ: نَظُنُّ (إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ) لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ رِوَايَةُ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْهَا: لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، وَلَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا أَوَّلًا مُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ، لَكِنَّ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ السَّابِقَةِ فِي الْمُوَطَّأِ: فَمِنَّا مَنْ أَهَّلَ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَّلَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَّلَ بِالْحَجِّ، فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا كَانُوا يَعْهَدُونَهُ مِنْ تَرْكِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَخَرَجُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا هُوَ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَ الْإِحْرَامِ وَجَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، تَقَدَّمَ مَزِيدٌ لِذَلِكَ.
(فَلَمَّا دَنَوْنَا) قَرُبْنَا (مِنْ مَكَّةَ) بِسَرِفَ كَمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ، أَوْ بَعْدَ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيِهِمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَيَحْتَمِلُ تَكْرِيرُهُ الْأَمْرَ بِذَلِكَ مَرَّتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَنَّ الْعَزِيمَةَ كَانَتْ آخِرًا حِينَ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ.
( «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ أَنْ يَحِلَّ» ) بِفَتْحِ أَوَّلَهُ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، أَيْ يَصِيرُ حَلَالًا بِأَنْ يَتَمَتَّعَ، وَهَذَا فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ تِلْكَ السَّنَةِ خَاصَّةً أَوْ مَنْسُوخٌ.
(قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدُخِلَ) بِضَمِّ الدَّالِ، وَكَسْرِ الْخَاءِ، مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ (عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ) بِالنَّصْبِ ظَرْفًا، أَيْ فِي يَوْمِ النَّحْرِ (بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: نَحَرَ) وَلِلْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: ذَبَحَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ) فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ ذَبْحِ الْبَقَرِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، إِلَّا أَنَّ الذَّبْحَ يُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 67) وَخَالَفَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، فَاسْتَحَبَّ نَحْرَهَا، وَأَخَذَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ اللَّحْمِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَوْ كَانَ بِعِلْمِهَا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ، لَكِنْ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ احْتِمَالَ أَنَّهُ
اسْتَأْذَنَهُنَّ، وَلَمَّا رَأَتِ اللَّحْمَ احْتَمَلَ عِنْدَهَا أَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاسْتِئْذَانُ، وَأَنَّهُ غَيْرُهُ، فَاسْتَفْهَمَتْ عَنْهُ لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَخَذَ بِظَاهِرِهِ جَمَاعَةٌ فَأَجَازُوا الِاشْتِرَاكَ فِي الْهَدْيِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَقَرَةٌ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ:" «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ عَنْ أَزْوَاجِهِ بَقَرَةً وَاحِدَةً» "، فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: تَفَرَّدَ يُونُسُ بِذَلِكَ، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَرِوَايَةُ يُونُسَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُمَا، وَيُونُسُ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَقَدْ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَلَفْظٌ أَصْرَحُ مِنْ لَفْظِ يُونُسَ، قَالَ: مَا ذَبَحَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَّا بَقَرَةً.
وَلِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:" «ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ» "، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَمَّارٌ الذُّهْنِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:" «ذَبَحَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حَجِّنَا بَقَرَةً بَقَرَةً» "، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، فَهُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، انْتَهَى.
وَلَا شُذُوذَ فَإِنَّ عَمَّارًا الذُّهْنِيَّ، بِضَمِّ الذَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَنُونٍ، ثِقَةٌ صَدُوقٌ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، فَإِنَّهُ قَدْ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْ غَيْرُهُ، وَزِيَادَتُهُ لَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَ مَعْمَرٍ: مَا ذَبَحَ إِلَّا بَقَرَةً، الْمُرَادُ بِهَا جِنْسُ بَقَرَةٍ، أَيْ لَا بَعِيرَ، وَلَا غَنَمَ، فَلَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الصَّرِيحَةَ: أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَقَرَةٌ، فَمِنْ شَرْطِ الشُّذُوذِ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَقَدْ أَمْكَنَ فَلَا تَأْيِيدَ فِيهَا لِرِوَايَةِ يُونُسَ الَّتِي حَكَمَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِشُذُوذِهَا، لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِقَوْلِهِ: وَاحِدَةً، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا شَاهِدَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ قُوَّتِهِ، إِذْ قَوْلُهُ: ذَبَحَ بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ، لَا صَرَاحَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْبَحْ سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ ذَلِكَ، فَتُعَارِضُهُ الرِّوَايَةُ الصَّرِيحَةُ فِي التَّعَدُّدِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَضَاحِيِّ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بِلَفْظِ:" «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرَةِ» "، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَكِنْ بِلَفْظِ أَهْدَى بَدَلَ ضَحَّى، قَالَ الْحَافِظُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّصَرُّفَ مِنَ الرُّوَاةِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ النَّحْرِ، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ فَقَوِيَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ أَهْدَى، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ هَدْيٌ لِلتَّمَتُّعِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: لَا ضَحَايَا عَلَى أَهْلِ مِنًى، قِيلَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْحَقُهُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ مَا عَمِلَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا عِلْمِهِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ الِاسْتِئْذَانِ كَمَا مَرَّ، وَفِيهِ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنَ الْهَدْيِ.
(قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ) الَّذِي أَخْبَرَتْنِي بِهِ عَمْرَةُ (لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (فَقَالَ أَتَتْكَ) عَمْرَةُ (وَاللَّهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ) أَيْ سَاقَتْهُ لَكَ سِيَاقًا تَامًّا لَمْ
تَخْتَصِرْ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى رِوَايَتِهِ هُوَ عَنْ عَائِشَةَ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ هُنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْجِهَادِ: عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ ثَلَاثَتُهُمْ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَسُفْيَانُ عَنْ مُسْلِمٍ، وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ، خَمْسَتُهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
897 -
883 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ) أُخْتِهِ (حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: مَا شَأْنُ) أَيْ أَمْرُ وَحَالُ (النَّاسِ حَلُّوا) هَكَذَا لِيَحْيَى اللَّيْثِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ وَابْنِ بُكَيْرٍ وَالْقَعْنَبِيِّ وَأَبِي مُصْعَبٍ وَغَيْرِهِمْ، وَزَادَ التِّنِّيسِيُّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَابْنُ وَهْبٍ: بِعُمْرَةٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَيْ أَنَّ إِحْرَامَهُمْ بِعُمْرَةٍ كَانَ سَبَبًا لِسُرْعَةِ حَلِّهِمْ (وَلَمْ تَحْلِلْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَكَسْرِ ثَالِثِهِ (أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي) بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ، مِنَ التَّلْبِيدِ، وَهُوَ جَعْلُ شَيْءٍ فِيهِ مِنْ نَحْوِ صَمْغٍ لِيَجْتَمِعَ الشَّعْرُ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ قَمْلٌ (وَقَلَّدْتُ هَدْيِي) : عَلَّقْتُ شَيْئًا فِي عُنُقِهِ لِيُعْلَمَ (فَلَا أَحِلُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَالرَّفْعِ، مِنْ إِحْرَامِي (حَتَّى أَنْحَرَ) الْهَدْيَ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحِلُّ مِنَ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَيَفْرَغَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ بَقَائِهِ عَلَى إِحْرَامِهِ كَوْنَهُ أَهْدَى، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ، وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ مُتَظَاالفِرَةٌ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ السَّبَبَ فِي عَدَمِ تَحَلُّلِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ، كَوْنُهُ أَدْخَلَهَا عَلَى الْحَجِّ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ لِمَنْ قَالَ كَانَ مُفْرِدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ انْفِصَالٌ، لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ بِهِ أُشْكِلَ عَلَيْهِ بِتَعْلِيلِهِ عَدَمُ التَّحَلُّلِ بِسَوْقِ الْهَدْيِ، لِأَنَّ التَّحَلُّلَ يَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ كَانَ قَارِنًا عِنْدَهُ، وَجَنَحَ الْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى تَوْهِيمِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ:" «وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ» "، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ غَيْرُهُ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ انْفِرَادِهِ بِأَنَّهَا زِيَادَةُ حَافِظٍ، فَيَجِبُ قَبُولُهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ، فَقَدْ تَابَعَهُ أَيُّوبُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُمَا مَعَ مَالِكٍ حُفَّاظُ أَصْحَابِ نَافِعٍ، انْتَهَى.
وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُسْلِمٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ بِدُونِهَا.
وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: " «فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ» ، وَلَا تُنَافِي هَذِهِ
رِوَايَةَ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْقَارِنَ لَا يَحِلُّ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَلَا مِنَ الْحَجِّ حَتَّى يَنْحَرَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ حَفْصَةَ: وَلَمْ تَحْلِلْ عُمْرَتَكَ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ ; ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا: مِنْ عُمْرَتِكَ: مِنْ إِحْرَامِكَ الَّذِي ابْتَدَأْتَهُ مَعَهُمْ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» "، أَيْ فَأَطْلَقْتُ اسْمَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِنِيَّةِ الْحَجَّةِ الْوَاحِدَةِ تَجَوُّزًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَمْ تَحْلِلْ مِنْ حَجِّكِ بِعُمْرَةٍ كَمَا أَمَرْتَ أَصْحَابَكَ، وَمِنْ تَأْتِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11](سُورَةُ الرَّعْدِ: الْآيَةُ 11) أَيْ بِأَمْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ بِعُمْرَةٍ مِنْ إِحْرَامِكَ وَقِيلَ: ظَنَّتْ أَنَّهُ فَسَخَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَتْ: لِمَ لَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ عُمْرَتِكَ؟ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعُمْرَةِ هُنَا الْحَجُّ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا قَصْدًا.
وَجَزَمَ بِهِ الْمُنْذِرِيُّ، وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُ رُوِيَ حَلُّوا، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ حَجَّتِكَ، وَهَذَا نَحْوُ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ، وَضُعِّفَتْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ بِمَا فِي الصَّحِيحِ، عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ: " ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ".
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ، مَرْفُوعًا:" «إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ» ".
وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَلِأَحْمَدَ عَنْ سُرَاقَةَ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» "، وَلَهُ عَنْ طَلْحَةَ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» "، وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا نُصْرَةً لِمَنْ قَالَ: كَانَ مُفْرِدًا، فَنَقَلَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنْهُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ قَتَادَةَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ رَوَوْهُ عَنْ أَنَسٍ كَذَلِكَ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى أَنَسٍ نَفْسِهِ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ غَيْرَهُ كَيْفَ يُهِلُّ بِالْقِرَانِ، فَظَنَّ أَنَّهُ أَهَّلَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِمَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْ حَدِيثِ عُمَرَ بِأَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ بِلَفْظِ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ، وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ رَوَاهُ وَقُلْ، فَقَالَ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِذْنًا فِي الْقِرَانِ لَا أَمْرًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ نَفْسِهِ.
وَعَنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِذْنُهُ لِأَصْحَابِهِ فِي الْقِرَانِ بِدَلِيلِ رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَمَتَّعَ، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِكُلِّ ذَلِكَ إِذْنُهُ.
وَعَنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: بِأَنَّهُ سَاقَهُ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ، وَقَدْ رَوَاهَا أَنَسٌ، يَعْنِي فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَجَابِرٌ فِي مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ فِيهَا لَفْظُ: وَقَرَنْتُ.
وَأَجَابَ عَنْ بَاقِيهَا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ أَذِنَ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم بِهِ مُحْرِمًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَأَنَّ كُلًّا أَضَافَ إِلَيْهِ مَا أَمَرَ بِهِ اتِّسَاعًا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَرَّ لَهُ مَزِيدٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ الَّذِي لَمْ يَعْتَمِرْ
فِي سَنَتِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَانِ، وَتَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ بِأَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، أَمَّا قَدِيمًا فَالثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكُمْ وَلِعُمْرَتِكُمْ أَنْ تُنْشِئُوا لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَفَرًا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَأَمَّا حَدِيثًا، فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِتَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، انْتَهَى. وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ فِي مُسْلِمٍ عَنْ نَافِعٍ.
[بَاب الْعَمَلِ فِي النَّحْرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ بَعْضَ هَدْيِهِ وَنَحَرَ غَيْرُهُ بَعْضَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
59 -
بَابُ الْعَمَلِ فِي النَّحْرِ
898 -
884 - (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ) الصَّادِقِ (بْنِ مُحَمَّدٍ) الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا لِيَحْيَى وَالْقَعْنَبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، وَرَوَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ نَافِعٍ وَأَبُو مُصْعَبٍ وَالشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالُوا عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنَّمَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْهُ، وَأَرْسَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ، لَمْ يَقُلْ عَنْ جَابِرٍ، وَلَا عَنْ عَلِيٍّ، وَالْمَتْنُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ عَنْ جَابِرٍ وَعَلِيٍّ، انْتَهَى.
وَعَلَى رِوَايَةِ يَحْيَى وَمُوَافِقِهِ فِيهِ انْقِطَاعٌ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ) بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ (بَعْضَ هَدْيِهِ) وَكَانَ مِائَةَ بَدَنَةٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَلِيٍّ (وَنَحَرَ غَيْرُهُ بَعْضَهُ) هُوَ عَلِيٌّ، فَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ:" «لَمَّا نَحَرَ صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ نَحَرَ ثَلَاثِينَ بِيَدِهِ، وَأَمَرَنِي فَنَحَرْتُ سَائِرَهَا» "، وَفِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ:" «ثُمَّ انْصَرَفَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ» "، وَهَذَا أَصَحُّ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ، عَنْ غَرَفَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِنْدِيِّ:" «شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتَى بِالْبُدْنِ فَقَالَ: ادْعُوا لِي أَبَا الْحَسَنِ، فَدُعِيَ لَهُ عَلِيٌّ، فَقَالَ: خُذْ بِأَسْفَلِ الْحَرْبَةِ، وَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم بِأَعْلَاهَا، ثُمَّ طَعَنَا بِهَا الْبُدْنَ، فَلَمَّا فَرَغَ رَكِبَ بَغْلَتَهُ، وَأَرْدَفَ عَلِيًّا» "، وَجَمَعَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم انْفَرَدَ بِنَحْرِ ثَلَاثِينَ بَدَنَةٍ، وَهِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَاشْتَرَكَ هُوَ وَعَلِيٌّ فِي نَحْرِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ غَرَفَةَ، بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَقِيلَ مُهْمَلَةٍ.
وَقَوْلُ جَابِرٍ: نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، مُرَادُهُ كُلُّ مَا لَهُ دَخْلٌ فِي نَحْرِهِ، إِمَّا مُنْفَرِدًا بِهِ، أَوْ مَعَ مُشَارَكَةِ عَلِيٍّ، وَجُمِعَ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَلِيٍّ
وَجَابِرٍ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَنْحَرَ فَنَحَرَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ نَحَرَ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، قَالَ: فَإِنْ سَاغَ هَذَا وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ، أَيْ مَعَ مُشَارَكَةِ عَلِيٍّ لِيَلْتَئِمَ مَعَ حَدِيثِ غَرَفَةَ وَإِنْ لَمْ يَعَرِّجِ الْحَافِظُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ حِكْمَةَ نَحْرِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهَا سِنِي عُمْرِهِ، وَهِيَ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ عَلَى كُلِّ سَنَةٍ بَدَنَةٌ نَقَلَهُ عِيَاضٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَأَعْطَى عَلِيًّا الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْيَمَنِ، وَهِيَ تَمَامُ الْمِائَةِ، انْتَهَى.
وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا:«نَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ» ، فَلَعَلَّهَا الَّتِي اطَّلَعَ هُوَ عَلَيْهَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ مَنْ نَذَرَ بَدَنَةً فَإِنَّهُ يُقَلِّدُهَا نَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهَا ثُمَّ يَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهَا مَحِلٌّ دُونَ ذَلِكَ وَمَنْ نَذَرَ جَزُورًا مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ فَلْيَنْحَرْهَا حَيْثُ شَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
899 -
885 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: مَنْ نَذَرَ بَدَنَةً فَإِنَّهُ يُقَلِّدُهَا نَعْلَيْنِ) يَجْعَلُهُمَا فِي عُنُقِهَا عَلَامَةً (وَيُشْعِرُهَا) فِي سَنَامِهَا (ثُمَّ يَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهَا مَحِلٌّ دُونَ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَبَّرَ بِبَدَنَةٍ عُلِمَ أَنَّهَا هَدْيٌ (وَمَنْ نَذَرَ جَزُورًا مِنَ الْإِبِلِ، أَوِ الْبَقَرِ، فَلْيَنْحَرْهَا حَيْثُ شَاءَ) أَيْ فِي أَيِّ مَكَانٍ، لِأَنَّهُ أَرَادَ إِطْعَامَ لَحْمِهِ مَسَاكِينَ مَوْضِعِهِ، أَوْ مَا نَوَى مِنَ الْمَوَاضِعِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْحَرُ بُدْنَهُ قِيَامًا قَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْحَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَإِنَّمَا الْعَمَلُ كُلُّهُ يَوْمَ النَّحْرِ الذَّبْحُ وَلُبْسُ الثِّيَابِ وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ وَالْحِلَاقُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُفْعَلُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
900 -
886 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْحَرُ بُدْنَهُ قِيَامًا) حَالٌ سَوَّغَ وُقُوعَهَا مِنَ النَّكِرَةِ مَعَ تَأَخُّرِهَا عَنْهَا تَخْصِيصُ النَّكِرَةِ بِالْإِضَافَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ: " رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بِبَدَنَتِهِ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم " وَهَذَا مَرْفُوعٌ لِقَوْلِهِ: سُنَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 36) قَالَ: قِيَامًا، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ.
وَ (صَوَافَّ) بِالتَّشْدِيدِ، جَمْعُ صَافَّةٍ، أَيْ مُصْطَفَّةً فِي قِيَامِهَا.
وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَوَافَّ، أَيْ قِيَامًا عَلَى ثَلَاثَةِ قَوَائِمَ مَعْقُولَةٍ.
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (صَوَافِنَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا نُونٌ، جَمْعُ صَافِنَةٍ، وَهِيَ الَّتِي رَفَعَتْ إِحْدَى يَدَيْهَا بِالْعَقْلِ لِئَلَّا تَضْطَرِبَ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَظُنُّ اخْتِيَارَ الْعُلَمَاءِ نَحْرَ الْبُدْنِ قِيَامًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 36) وَالْوُجُوبُ
لُغَةً: السُّقُوطُ إِلَى الْأَرْضِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ) لِنَهْيِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْ ذَلِكَ.
(وَلَا يَنْبَغِي) : لَا يَجُوزُ (لِأَحَدٍ أَنْ يَنْحَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ كُلُّهُ يَوْمَ النَّحْرِ الذَّبْحُ وَلُبْسُ الثِّيَابِ وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ) إِزَالَةُ الْأَوْسَاخِ، وَالشَّعَثِ كَطُولِ الظُّفْرِ (وَالْحِلَاقُ) بِكَسْرِ الْحَاءِ، مَصْدَرُ حَلَقَ (لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ) لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
[بَاب الْحِلَاقِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
60 -
بَابُ الْحِلَاقِ
901 -
887 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْإِمَامِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الْحَجِّ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:" «حَلَقَ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ» "، فَقَالَ:(اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ عَلَى الَّذِي تَوَلَّى السُّؤَالَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ (وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ قُلْ وَارْحَمِ الْمُقَصِّرِينَ (قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا) : قُلْ (وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فَالْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ وَهُوَ يُسَمَّى الْعَطْفُ التَّلْقِينِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 124)(قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ) قَالَ الْحَافِظُ: فِيهِ إِعْطَاءُ الْمَعْطُوفِ حُكْمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا السُّكُوتُ بِلَا عُذْرٍ، ثُمَّ هُوَ هَكَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ الدُّعَاءُ لِلْمُحَلِّقِينَ مَرَّتَيْنِ، وَعَطَفَ الْمُقَصِّرِينَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَانْفَرَدَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ دُونَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ بِإِعَادَةِ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّقَصِّي، وَأَغْفَلَهُ فِي التَّمْهِيدِ، بَلْ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَى مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رَاجَعْتُ أَصْلَ
سَمَاعِي مِنْ مُوَطَّأِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، فَوَجَدْتُهُ كَمَا قَالَ فِي التَّقَصِّي، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ:" ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ "، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ اللَّيْثِ، وَإِلَّا فَأَكْثَرُهُمْ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ وَلِمُسْلِمٍ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: فِي الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ مَالِكٍ سَوَاءٌ، وَبَيَانُ كَوْنِهَا فِي الرَّابِعَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْمُقَصِّرِينَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ وَارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ دُعَائِهِ لَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ لِلْمُقَصِّرِينَ فِي الرَّابِعَةِ.
وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ: قَالَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالْمُقَصِّرِينَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ بِأَنَّ مَنْ قَالَ الرَّابِعَةَ فَعَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، وَمَنْ قَالَ الثَّالِثَةَ أَرَادَ أَنَّ الْمُقَصِّرِينَ عَطْفٌ عَلَى الدَّعْوَةِ الثَّالِثَةِ، أَوْ أَرَادَ بِالثَّالِثَةِ مَسْأَلَةَ السَّائِلِينَ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لَا يُرَاجَعُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَلَوْ لَمْ يَدْعُ لَهُمْ ثَالِثَ مَسْأَلَةٍ مَا سَأَلُوهُ.
وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: " «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ» "، وَرِوَايَةُ مَنْ جَزَمَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَنْ شَكَّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ فِيهِ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ تَقْصِيرُ حَذْفٍ، وَإِنَّمَا جَرَى ذَلِكَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ، وَهَذَا مَحْفُوظٌ مَشْهُورٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ:" «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغْفِرُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً» " وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " «حَلَّقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» " الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، بَلْ قَالَ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ، وَتَجَوَّزَ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ تَعْيِينُ الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ وَقَعَ لَقَطَعْنَا بِأَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لِأَنَّهُ شَهِدَهَا، وَلَمْ يَشْهَدِ الْحُدَيْبِيَةَ، وَلَمْ يَسُقِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا شَيْئًا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْهُ، بَلْ صَرَّحَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِأَنَّهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَإِلَيْهِ يُومِي صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ وَمَالِكٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ، فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَكَانَ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ حَبَشِيٍّ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ فِيهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ وَرَدَ تَعْيِينُ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَكَذَا جَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَوَرَدَ تَعْيِينُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَرْيَمَ السَّلُولِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ وَأُمِّ الْحُصَيْنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَارَبَ الثَّقَفِيُّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأُمُّ عُمَارَةَ عِنْدَ الْحَارِثِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا تَعْيِينُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَصَحُّ إِسْنَادًا، وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ الْأَقْرَبُ، قُلْتُ: بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِتَظَافُرِ الرِّوَايَاتِ بِذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَّا أَنَّ السَّبَبَ فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ، فَالَّذِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَبَبُهُ تَوَقُّفُ مَنْ تَوَقَّفَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الْإِحْلَالِ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُزْنِ، لِكَوْنِهِمْ مُنِعُوا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ مَعَ اقْتِدَارِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَخَالَفَهُمْ صلى الله عليه وسلم وَصَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ تَوَقَّفُوا، فَأَشَارَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنْ يَحِلَّ هُوَ، فَفَعَلَ، فَحَلَقَ بَعْضٌ، وَقَصَّرَ بَعْضٌ، فَكَانَ مَنْ بَادَرَ إِلَى الْحَلْقِ أَسْرَعَ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ مِمَّنْ قَصَّرَ، وَصَرَّحَ بِهَذَا السَّبَبِ فِي حَدِيثٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُحَلِّقِينَ ظَاهَرْتَ لَهُمْ بِالتَّرَحُّمِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا» .
وَأَمَّا سَبَبُ تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ أَكْثَرُ مَنْ حَجَّ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَتَحَلَّلُوا مِنْهَا، وَيَحْلِقُوا رُءُوسَهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ الطَّاعَةِ كَانَ التَّقْصِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَخَفَّ مِنَ الْحَلْقِ، فَفَعَلَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَرَجَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِعْلَ مَنْ حَلَقَ، لِأَنَّهُ أَبْيَنُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَإِنْ تَبِعَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقَصِّرَ فِي الْعُمْرَةِ، وَيَحْلِقَ فِي الْحَجِّ إِذَا قَرُبَ مَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ هُنَا، وَالْأَوْلَى قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرِهِ: إِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ حُبُّ تَوْفِيرِ الشُّعُورِ وَالتَّزَيُّنِ بِهَا، وَالْحَلْقُ فِيهِمْ قَلِيلٌ، وَرُبَّمَا رَأَوْهُ مِنَ الشُّهْرَةِ وَمِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ لِذَا كَرِهُوا الْحَلْقَ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى التَّقْصِيرِ.
وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِي عَنِ الْحَلْقِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَّا رِوَايَةً عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ تَعَيَّنَ الْحَلْقُ أَوَّلَ حَجَّةٍ، وَثَبَتَ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِبَادَةِ، وَأَبْيَنُ لِلْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ، وَأَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النِّيَّةِ، وَالْمُقَصِّرُ يُبْقِي عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَتَزَيَّنُ بِهِ بِخِلَافِ الْحَالِقِ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِلَّهِ وَإِشَارَةً إِلَى التَّجَرُّدِ، وَلِذَا اسْتَحَبَّ الصُّلَحَاءُ إِلْقَاءَ الشُّعُورِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَتَعْلِيلُ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمُقَصِّرَ مُبْقٍ عَلَى نَفْسِهِ الشَّعْرَ الَّذِي هُوَ زِينَةٌ، وَالْحَاجُّ مَأْمُورٌ بِتَرْكِهَا، بَلْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ، فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْحَلْقَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَنِ الْأَمْرِ بِالتَّقَشُّفِ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ فِي الْحَجِّ خَاصَّةً، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ:(الْمُحَلِّقِينَ) ، وَقَالَ بِوُجُوبِهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَاسْتَحَبَّهُ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ، وَيُجْزِي الْبَعْضُ عِنْدَهُمْ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الرُّبُعُ إِلَّا أَبَا يُوسُفَ، فَقَالَ: النِّصْفُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ مَا يَجِبُ حَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَالتَّقْصِيرُ كَالْحَلْقِ يَأْخُذُ الرَّجُلَ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ مِنْ قُرْبِ أَصْلِهِ اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَجْزَأَ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَإِنْ لَمْ
يَزِدْ عَلَى قَدْرِ مَا تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ، وَهُوَ قَدْرُ أُنْمُلَةٍ، وَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ بِإِجْمَاعٍ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا:" «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» "، وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيٍّ:" «نَهَى أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» " وَفِيهِ أَيْضًا الدُّعَاءُ لِمَنْ فَعَلَ مَا شُرِعَ لَهُ، وَتَكْرَارُهُ لِمَنْ فَعَلَ، الرَّاجِحُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُخَيَّرُ فِيهِمَا، وَالتَّنْبِيهُ بِالتَّكْرَارِ عَلَى الرُّجْحَانِ، وَطَلَبُ الدُّعَاءِ لِمَنْ فَعَلَ الْجَائِزَ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ مُتَابَعَاتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ مَكَّةَ لَيْلًا وَهُوَ مُعْتَمِرٌ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيُؤَخِّرُ الْحِلَاقَ حَتَّى يُصْبِحَ قَالَ وَلَكِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفُ بِهِ حَتَّى يَحْلِقَ رَأْسَهُ قَالَ وَرُبَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَوْتَرَ فِيهِ وَلَا يَقْرَبُ الْبَيْتَ قَالَ مَالِكٌ التَّفَثُ حِلَاقُ الشَّعْرِ وَلُبْسُ الثِّيَابِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ الْحِلَاقَ بِمِنًى فِي الْحَجِّ هَلْ لَهُ رُخْصَةٌ فِي أَنْ يَحْلِقَ بِمَكَّةَ قَالَ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَالْحِلَاقُ بِمِنًى أَحَبُّ إِلَيَّ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعَرِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ وَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحِلَّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
902 -
888 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ مَكَّةَ لَيْلًا، وَهُوَ مُعْتَمِرٌ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَ) يَسْعَى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أَوِ اسْتَعْمَلَهُ فِي حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، لِأَنَّ الشَّرْعِيَّةَ السَّعْيُ (وَيُؤَخِّرُ الْحِلَاقَ حَتَّى يُصْبِحَ) إِذْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِهِ إِذَا شَغَلَهُ عَنْهُ مَانِعٌ، وَأَظُنُّهُ لَمْ يَجِدْ فِي اللَّيْلِ مَنْ يَحْلِقُهُ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
(قَالَ) عَبْدُ الرَّحْمَنِ: (وَلَكِنَّهُ) أَيْ أَبَاهُ الْقَاسِمَ (لَا يَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ، فَيَطُوفُ بِهِ حَتَّى يَحْلِقَ رَأْسَهُ، قَالَ: وَرُبَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَوْتَرَ فِيهِ) : صَلَّى الْوِتْرَ (وَلَا يَقْرَبُ الْبَيْتَ) أَيْ لَا يَطُوفُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلْعُمْرَةِ طَوَافَانِ.
(قَالَ مَالِكٌ: التَّفَثُ حِلَاقُ الشَّعْرِ، وَلُبْسُ) مَصْدَرٌ (الثِّيَابِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ) مِنْ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَإِزَالَةِ الْأَوْسَاخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ الْحِلَاقَ بِمِنًى فِي الْحَجِّ، هَلْ لَهُ رُخْصَةٌ فِي أَنْ يَحْلِقَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: ذَلِكَ وَاسِعٌ) أَيْ جَائِزٌ (وَالْحِلَاقُ بِمِنًى أَحَبُّ إِلَيَّ) أَفْضَلُ لِلِاتِّبَاعِ.
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ (أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ، وَلَا يَحِلُّ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحِلَّ بِمِنًى
يَوْمَ النَّحْرِ وَ) دَلِيلُ (ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] أَيْ حَيْثُ يَحِلُّ ذَبْحُهُ.
[بَاب التَّقْصِيرِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ رَأْسِهِ وَلَا مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا حَتَّى يَحُجَّ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
61 -
بَابُ التَّقْصِيرِ
903 -
889 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ رَأْسِهِ، وَلَا مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا حَتَّى يَحُجَّ) طَلَبًا لِمَزِيدِ الشَّعَثِ الْمَطْلُوبِ فِي الْحَجِّ، لَكِنْ (قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْقَوِيَّةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَلَقَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
904 -
890 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَلَقَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ) لِطُولِهِمَا، لِتَرْكِهِ الْأَخْذَ مِنْهُمَا مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ، لَا لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّحَلُّلِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ إِنِّي أَفَضْتُ وَأَفَضْتُ مَعِي بِأَهْلِي ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى شِعْبٍ فَذَهَبْتُ لِأَدْنُوَ مِنْ أَهْلِي فَقَالَتْ إِنِّي لَمْ أُقَصِّرْ مِنْ شَعَرِي بَعْدُ فَأَخَذْتُ مِنْ شَعَرِهَا بِأَسْنَانِي ثُمَّ وَقَعْتُ بِهَا فَضَحِكَ الْقَاسِمُ وَقَالَ مُرْهَا فَلْتَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهَا بِالْجَلَمَيْنِ قَالَ مَالِكٌ أَسْتَحِبُّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُهْرِقَ دَمًا وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا فَلْيُهْرِقْ دَمًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
905 -
891 - (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخٍ (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ يُسَمَّ (أَتَى الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَفَضْتُ) : طُفْتُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (وَأَفَضْتُ مَعِيَ أَهْلِي، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى شِعْبٍ، فَذَهَبْتُ لِأَدْنُوَ مِنْ أَهْلِي) : أُجَامِعَهَا (فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُقَصِّرْ مِنْ شَعْرِي بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ
أَيْ إِلَى الْآنِ (فَأَخَذْتُ مِنْ شَعْرِهَا بِأَسْنَانِي، ثُمَّ وَقَعْتُ بِهَا) : جَامَعْتُهَا (فَضَحِكَ الْقَاسِمُ) تَعَجُّبًا (وَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهَا بِالْجَلَمَيْنِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَبِالْمِيمِ بِلَفْظِ تَثْنِيَةِ الْجَلَمِ، بِفَتْحَتَيْنِ، الْمِقْرَاضُ يُقَالُ فِيهِ: الْجَلَمُ، وَالْجَلَمَانِ، كَمَا يُقَالُ: الْمِقْرَاضُ، وَالْمِقْرَاضَانِ، وَالْقَلَمُ، وَالْقَلَمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْجَلَمَانِ، وَالْقَلَمَانِ اسْمًا وَاحِدًا عَلَى فَعَلَانِ كَالسَّرَطَانِ وَالدَّبَرَانِ، وَتُجْعَلَ النُّونُ حَرْفَ إِعْرَابٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْقَيَا عَلَى بَابِهِمَا فِي إِعْرَابِ الْمُثَنَّى، فَيُقَالُ: شَرَيْتُ الْجَلَمَيْنِ، وَالْقَلَمَيْنِ، قَالَهُ فِي الْمِصْبَاحِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ بِالْأَسْنَانِ لَيْسَ هُوَ مِنَ الشَّأْنِ، وَلَمْ يَفْعَلِ الرَّجُلُ حَرَامًا، لِأَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ حَلَالٌ، لَكِنَّهُ أَسَاءَ بِوَطْئِهَا قَبْلَ أَنْ تُقَصِّرَ، فَعَلَيْهَا التَّقْصِيرُ لَا غَيْرَ، وَلَمْ يَرَ الْقَاسِمُ الدَّمَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ، وَلَكِنْ (قَالَ مَالِكٌ: أَسْتَحِبُّ فِي مِثْلِ هَذَا) أَيْ تَقْدِيمِ الْإِفَاضَةِ عَلَى الْحَلْقِ (أَنْ يُهْرِقَ دَمًا) وَلَا يَجِبُ (وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا فَلْيُهْرِقْ دَمًا) رَوَاهُ الْإِمَامُ فِيمَا يَأْتِي عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهِ يُقَالُ لَهُ الْمُجَبَّرُ قَدْ أَفَاضَ وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ جَهِلَ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ فَيُفِيضَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
906 -
892 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهِ) وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَصْغَرُ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ الَّذِي (يُقَالُ لَهُ: الْمُجَبَّرُ) بِجِيمٍ وَمُوَحَّدَةٍ ثَقِيلَةٍ مَفْتُوحَةٍ، بِوَزْنِ مُحَمَّدٍ لُقِّبَ بِذَلِكَ، وَاسْمُهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قِيلَ: لِأَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَهُوَ حَمْلٌ، فَلَمَّا وُلِدَ سَمَّتْهُ حَفْصَةُ بَاسِمِ أَبِيهِ، وَقَالَتْ: لَعَلَّ اللَّهَ يُجَبِّرُهُ، وَقِيلَ: سَقَطَ فَتَكَسَّرَ فَجُبِّرَ، فَقِيلَ لَهُ: الْمُجَبَّرُ (قَدْ أَفَاضَ وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ جَهِلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ) عَمُّهُ (عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ، فَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ فَيَفِيضَ) لِيَأْتِيَ بِالتَّرْتِيبِ الْمَطْلُوبِ بِاتِّفَاقٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ دَعَا بِالْجَلَمَيْنِ فَقَصَّ شَارِبَهُ وَأَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ وَقَبْلَ أَنْ يُهِلَّ مُحْرِمًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
906 -
893
(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ دَعَا بِالْجَلَمَيْنِ) بِفَتْحَتَيْنِ (فَقَصَّ شَارِبَهُ، وَأَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ، وَقَبْلَ أَنْ يُهِلَّ) بِالتَّلْبِيَةِ (مُحْرِمًا) لِئَلَّا يَطُولَ ذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ.
[بَاب التَّلْبِيدِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَنْ ضَفَرَ رَأْسَهُ فَلْيَحْلِقْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالتَّلْبِيدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
62 -
بَابُ التَّلْبِيدِ
هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُحْرِمُ فِي رَأْسِهِ صَمْغًا، أَوْ غَيْرَهُ لِيَتَلَبَّدَ شَعْرُهُ، أَيْ يَلْتَصِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَلَا يَتَخَلَّلُهُ الْغُبَارُ، وَلَا يُصِيبُهُ الشَّعَثُ، وَلَا الْقَمْلُ، وَإِنَّمَا يُلَبَّدُ الشَّعْرُ مِنْ طُولِ مُكْثِهُ، وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ.
وَفِي أَبِي دَاوُدَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبَّدَ رَأْسَهُ بِالْعَسَلِ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الصَّمْغِ فِي إِلْصَاقِ بَعْضِ الشَّعْرِ بِبَعْضٍ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْغِسْلِ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مَا يُغْسَلُ بِهِ مِنْ خِطْمِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مِمَّا يُلَبَّدُ بِهِ الشَّعْرُ أَيْضًا.
908 -
894 - (مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ ضَفَّرَ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ، رَأْسَهُ أَيْ جَعَلَهُ ضَفَائِرَ كُلُّ ضَفِيرَةٍ عَلَى حِدَةٍ بِثَلَاثِ طَاقَاتٍ فَمَا فَوْقَهَا (فَلْيَحْلِقْ) وُجُوبًا فَإِنْ قَصَّرَ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ الْحَلْقُ (وَلَا تَشَبَّهُوا) الضَّفْرَ (بِالتَّلْبِيدِ) لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُ، فَيَجُوزُ التَّقْصِيرُ عِنْدَ عُمَرَ لِمَنْ لَبَّدَ دُونَ مَنْ ضَفَّرَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ تَشَبَّهُوا، بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَيْ لَا تَتَشَبَّهُوا، وَمَعْنَى الضَّمِّ: لَا تُشَبِّهُوا عَلَيْنَا فَتَفْعَلُوا مَا لَا يُشْبِهُ التَّلْبِيدَ الَّذِي سُنَّةُ فَاعِلِهِ الْحَلْقُ، وَجَاءَ مِثْلُ قَوْلِ عُمَرَ هَذَا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهٍ حَسَنٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَنْ عَقَصَ رَأْسَهُ أَوْ ضَفَرَ أَوْ لَبَّدَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِلَاقُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
909 -
895 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ،
(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ عَقَصَ رَأْسَهُ) لَوَى شَعْرَهُ، وَأَدْخَلَ أَطْرَافَهُ فِي أُصُولِهِ (أَوْ ضَفَرَ) رَأَسَهُ (أَوْ لَبَّدَ) رَأْسَهُ (فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِلَاقُ) وَلَا يُجْزِيهِ التَّقْصِيرُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ: مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ كَالْحَنَفِيَّةِ: لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا إِنْ نَذَرَهُ، أَوْ كَانَ شَعْرُهُ خَفِيفًا لَا يُمْكِنُ تَقْصِيرُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَعْرٌ فَيُمِرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ، وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ لِتَعَيُّنِ الْحَلْقِ لِمَنْ لَبَّدَ بِحَدِيثِ:" «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ» "، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَالَ:" وَالْمُقَصِّرِينَ ".
[بَاب الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ وَتَعْجِيلِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
63 -
بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَتَعْجِيلِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ
910 -
896 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ) عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي الْجِهَادِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ " وَلَهُ فِي الْمَغَازِي، عَنْ فُلَيْحٍ عَنْ نَافِعٍ، وَهُوَ مُرْدِفٌ أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ ثُمَّ اتَّفَقَا وَمَعَهُ بِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: عِنْدَ الْبَيْتِ، وَقَالَ لِعُثْمَانَ: ائْتِنَا بِالْمِفْتَاحِ، فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ، فَفَتْحَ لَهُ الْبَيْتَ، فَدَخَلَ.
وَلِمُسْلِمٍ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ: ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بِالْمِفْتَاحِ، فَذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ فَأَبَتْ أَنْ تُعْطِيَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ، أَوْ أُخْرِجَنَّ هَذَا السَّيْفَ مِنْ صُلْبِي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَعْطَتْهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَتَحَ الْبَابَ.
وَظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ أَنَّ فَاعِلَ فَتَحَ هُوَ عُثْمَانُ الْمَذْكُورُ، لَكِنْ رَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ بَنُو أَبِي طَلْحَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ فَتْحَ الْكَعْبَةِ غَيْرَهُمْ، فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم الْمِفْتَاحَ، فَفَتَحَهَا بِيَدِهِ، وَدَخَلَ (هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) بْنِ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ، الْحِبُّ بْنُ الْحِبِّ، الْخَلِيقُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْإِمَارَةِ بِالنَّصِّ النَّبَوِيِّ، الْمُخْتَصُّ أَبُوهُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُصَرِّحْ فِي كِتَابِهِ بِاسْمِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ سِوَى زَيْدٍ الْبَدْرِيِّ (وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ، أَحَدُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ (وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ) ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الْقُرَشِيُّ (الْحَجَبِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، نِسْبَةً إِلَى حِجَابَةِ الْكَعْبَةِ، وَلِذَا يُقَالُ لِأَهْلِ بَيْتِهِ الْحَجَبَةُ، وَيُعْرَفُونَ الْآنَ بِالشَّيْبِيِّينَ نِسْبَةً إِلَى
شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُثْمَانَ هَذَا لَا وَلَدُهُ، لَهُ أَيْضًا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: وَلَمْ يَدْخُلْهَا مَعَهُمْ أَحَدٌ.
وَلِلنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ زِيَادَةُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أَخِي الْفَضْلُ، وَكَانَ مَعَهُ حِينَ دَخَلَهَا (فَأَغْلَقَهَا) الْحَجَبِيُّ (عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ: فَأَجَافَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَلِبَعْضِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ: فَأَغْلَقَاهَا بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ لِعُثْمَانَ وَبِلَالٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عُثْمَانَ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنْ وَظِيفَتِهِ، وَلَعَلَّ بِلَالًا سَاعَدَهُ فِي ذَلِكَ، وَرِوَايَةُ الْجَمْعِ يَدْخُلُ فِيهَا الْأَمْرُ بِذَلِكَ وَالرَّاضِي بِهِ، زَادَ أَبُو عَوَانَةَ: مِنْ دَاخِلٍ (وَمَكَثَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا (فِيهَا) زَادَ يُونُسُ: نَهَارًا طَوِيلًا، وَفُلَيْحٌ: زَمَانًا بَدَلَ نَهَارًا.
وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ: فَأَطَالَ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ: فَمَكَثَ فِيهَا مَلِيًّا. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ: فَأَجَافُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ طَوِيلًا.
وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ: فَمَكَثَ فِيهَا سَاعَةً.
وَلِلنَّسَائِيِّ: فَوَجَدْتُ شَيْئًا فَذَهَبْتُ، ثُمَّ جِئْتُ سَرِيعًا فَوَجَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَارِجًا مِنْهَا.
(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: بِلَالًا أَوْ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بِالشَّكِّ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ سَأَلَ بِلَالًا كَمَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ.
وَلِأَبِي يَعْلَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَ بِلَالًا، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ.
وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أُسَامَةَ، وَلِمُسْلِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى؟ فَقَالُوا: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِلَالًا بِالسُّؤَالِ، ثُمَّ أَرَادَ زِيَادَةَ الِاسْتِثْبَاتِ، فَسَأَلَ عُثْمَانَ وَأُسَامَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُمْ كَمْ صَلَّى بِالْجَمْعِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَزْمِ عِيَاضٍ بِوَهْمِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِالشَّكِّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ (حِينَ خَرَجَ) وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ خَرَجَ فَابْتَدَرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فَسَبَقْتُهُمْ، وَفِي أُخْرَى: وَكُنْتُ رَجُلًا شَابًّا قَوِيًّا فَبَادَرْتُ النَّاسَ فَبَدَرْتُهُمْ، وَفِي أُخْرَى: كُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ وَلِجَ عَلَى أَثَرِهِ، وَأُخْرَى: فَرَقِيتُ الدَّرَجَةَ فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ، وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: وَأَجِدُ بِلَالًا قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَسَأَلْتُهُ: (مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ.
وَلِلصَّحِيحَيْنِ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَأَلْتُهُ أَيْنَ صَلَّى؟ فَظَهَرَ أَنَّهُ سَأَلَ أَوَّلًا هَلْ صَلَّى أَمْ لَا؟ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ.
(فَقَالَ جَعَلَ عَمُودًا) بِالْإِفْرَادِ (عَنْ يَمِينِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ) هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ وَيَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ مَهْدِيٍّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَبِشْرُ بْنُ عَمْرٍو.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْقَعْنَبِيُّ وَأَبُو مُصْعَبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَإِسْمَاعِيلُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ مَهْدِيٍّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ بِتَثْنِيَةِ الْأَوَّلِ، وَإِفْرَادِ الثَّانِي عَكْسُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَالْجَمْعُ بِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ بَعِيدُ الِاتِّحَادِ يُخْرِجُ الْحَدِيثَ، وَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ الرِّوَايَةَ
الثَّانِيَةَ، وَيَأْتِي تَوْجِيهُهُمَا مَعًا، وَلَا إِشْكَالَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ:(وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ) أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَالْجُمْهُورُ بِإِفْرَادِ عَمُودٍ فِيهِمَا، فَمُشْكِلٌ مَعَ قَوْلِهِ: وَكَانَ الْبَيْتُ. . . إِلَخْ، لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ اثْنَانِ، وَجُمِعَ بِأَنَّهُ حَيْثُ ثَنَّى أَشَارَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَيْثُ أَفْرَدَ، أَشَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَوْمَئِذٍ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ هَيْئَتِهِ الْأُولَى.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ عَمُودٍ جِنْسٌ يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ، فَهُوَ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ التَّثْنِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنِ الْأَعْمِدَةَ لَمْ تَكُنْ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ بَلِ اثْنَانِ عَلَى سَمْتٍ، وَالثَّالِثُ عَلَى غَيْرِ سَمْتِهِمَا، وَيُشْعِرُ بِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَانِ عَلَى يَسَارِ الدَّاخِلِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ عَمُودَانِ عَلَى الْيَسَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى بَيْنَهُمَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ثَمَّ عَمُودٌ آخَرَ عَلَى الْيَمِينِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ وَعَلَى غَيْرِ سَمْتِ الْعَمُودَيْنِ، فَيَصِحُّ رِوَايَةُ: جَعَلَ عَنْ يَمِينِهِ عَمُودَيْنِ، وَرِوَايَةُ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: وَيَجُوزُ أَنَّ هُنَاكَ ثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ مُصْطَفَّةٍ، فَصَلَّى إِلَى جَنْبِ الْأَوْسَطِ، فَمَنْ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، لَمْ يَعْتَبِرِ الَّذِي صَلَّى إِلَى جَنْبِهِ، وَمَنْ قَالَ: عَمُودَيْنِ اعْتَبَرَهُ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: انْتَقَلَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَلَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِذَلِكَ أَقِلَّتُهُ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ رَابِعٌ، قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودَيْنِ فِي يَسَارِهِ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَعْمِدَةٍ اثْنَانِ مُجْتَمِعَانِ، وَاثْنَانِ مُنْفَرِدَانِ، فَوَقَفَ عِنْدَ الْمُجْتَمِعَيْنِ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يُتَابِعْ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ.
(ثُمَّ صَلَّى) رَكْعَتَيْنِ كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ، وَشَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ.
وَزَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَتِهِ: وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ.
وَلِابْنِ مَهْدِيٍّ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ عُفَيْرٍ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ لَمْ يَقُولُوا نَحْوَ، انْتَهَى.
وَلِلْبُخَارِيِّ، عَنْ فُلَيْحٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" بَيْنَ ذَيْنِكَ الْعَمُودَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَكَانَ الْبَيْتُ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ سَطْرَيْنِ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مِنَ السَّطْرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَجَعَلَ بَابَ الْبَيْتِ خَلْفَ ظَهْرِهِ "، وَقَالَ فِي آخِرِهِ:" وَعِنْدَ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاءُ ".
قَالَ الْحَافِظُ: وَكُلُّ هَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ قَبْلَ أَنْ يُهْدَمَ وَيُبْنَى زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
فَأَمَّا الْآنُ فَفِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حَتَّى يَدْخُلَ وَيَجْعَلَ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ يَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ
أَذْرُعٍ فَيُصَلِّي يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِلَالٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهِ.
وَجَزَمَ بِرَفْعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَطَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، وَغَيْرِهِمَا عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ:" وَصَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ "، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ وَهَذَا فِيهِ الْجَزْمُ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، لَكِنْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ:" نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ "، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
وَعِنْدَ الْأَزْرَقِيِّ وَالْفَاكِهِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: " «أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ، أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ذِرَاعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً» " فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ اتِّبَاعَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ، فَإِنَّهُ يَقَعُ قَدَمَاهُ فِي مَكَانِ قَدَمَيْهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ سَوَاءً، وَتَقَعُ رُكْبَتَاهُ أَوْ يَدَاهُ أَوْ وَجْهُهُ إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ".
وَأَمَّا قَدْرُ الصَّلَاةِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «فَسَأَلْتُ بِلَالًا أَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَنْ يَسَارِكَ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ» "، وَاسْتَشْكَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْمَشْهُورَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ قَالَ: وَنَسِيْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِالْكَيْفِيَّةِ، وَهِيَ تَعْيِينُ الْمَوْقِفِ فِي الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِالْكَمِّيَّةِ، وَنَسِيَ هُوَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهَا، وَأُجِيبُ بِاحْتِمَالِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اعْتَمَدَ فِي قَوْلِهِ: رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحَقِّقِ لَهُ، لِأَنَّ بِلَالًا ثَبَتَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَنَفَّلَ بِالنَّهَارِ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَتَحَقَّقَ فِعْلُهُمَا لَمَّا اسْتُقْرِئَ مِنْ عَادَتِهِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: رَكْعَتَيْنِ مِنِ ابْنِ عُمَرَ لَا بِلَالٍ.
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ نَافِعٍ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَاسْتَقْبَلَنِي بِلَالٌ فَقُلْتُ: مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ هَاهُنَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ لَفْظًا وَلَمْ يُجِبْهُ لَفْظًا، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ مِنْهُ صَلَاةَ الرَّكْعَتَيْنِ بِإِشَارَتِهِ لَا بِنُطْقِهِ.
وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ هَلْ زَادَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ أَمْ لَا؟ وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَسِيَ أَنْ يَسْأَلَ بِلَالًا، ثُمَّ لَقِيَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَسَأَلَهُ، فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ رَاوِيَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَنَسِيتُ هُوَ نَافِعٌ مَوْلَاهُ، وَيَبْعُدُ مَعَ طُولِ مُلَازَمَتِهِ لَهُ إِلَى مَوْتِهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى حِكَايَةِ النِّسْيَانِ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِحِكَايَةِ الذِّكْرِ أَصْلًا.
وَنَقَلَ عِيَاضٌ أَنَّ قَوْلَهُ: رَكْعَتَيْنِ غَلَطٌ مِنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى، وَإِنَّمَا دَخَلَ الْوَهْمُ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدُ مَرْدُودٌ، وَالْمُغَلِّطُ هُوَ الْغَالِطُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ وَبَعْدَ، فَلَمْ يَهُمَّ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ يَحْيَى الْقَطَّانُ بِذَلِكَ، بَلْ تَابَعَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو عَاصِمٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عِنْدَ أَحْمَدَ
أَيْضًا بِاخْتِصَارٍ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ ابْنُ عُمَرَ، فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ:" «فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلْتُ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَقَالُوا: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ السَّارِيَةِ الْوُسْطَى» " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَمِنْ حَدِيثِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ:" «لَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْعَمُودِ» " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، هَذَا وَفِي مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ صَلَّى فِي قِبَلِ الْبَيْتِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ " وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتُ كَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ» "، وَلَمْ يَقُلْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ قُتَيْبَةُ تَارَةً لِأُسَامَةَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَتَارَةً لِأَخِيهِ الْفَضْلِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ مَعَهُمْ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنِ الْفَضْلَ تَلَقَّاهُ عَنْ أُسَامَةَ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أُسَامَةَ إِثْبَاتَ صِلَاتِهِ فِيهَا، فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أُسَامَةَ، وَتَرَجَّحَتْ رِوَايَةُ بِلَالٍ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ وَأُسَامَةُ نَافٍ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَاخْتُلِفَ عَلَى مَنْ نَفَى، وَجَمَعَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ إِثْبَاتِ بِلَالٍ وَنَفْيِ أُسَامَةَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْكَعْبَةَ، وَاشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ، فَرَأَى أُسَامَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فَاشْتَغَلَ أُسَامَةُ بِالدُّعَاءِ فِي نَاحِيَةٍ وَالْمُصْطَفَى فِي نَاحِيَةٍ، ثُمَّ صَلَّى فَرَآهُ بِلَالٌ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلَمْ يَرَهُ أُسَامَةُ لِبُعْدِهِ وَاشْتِغَالِهِ، وَلِأَنَّ بِإِغْلَاقِ الْبَابِ تَكُونُ الظُّلْمَةُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَحْجُبَهُ بَعْضُ الْأَعْمِدَةِ، فَنَفَاهَا عَمَلًا بِظَنِّهِ.
وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أُسَامَةَ غَابَ بَعْدَ دُخُولِهِ لِحَاجَةٍ، فَلَمْ يَشْهَدْ صَلَاتَهُ، انْتَهَى.
وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: " «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ، فَرَأَى صُوَرًا فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا يُصَوِّرُونَ مَا لَا يَخْلُقُونَ» "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَلَعَلَّهُ اسْتَصْحَبَ النَّفْيَ لِسُرْعَةِ عَوْدِهِ.
قَالَ: وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى التَّطَوُّعِ، وَالنَّفْيِ عَلَى الْفَرْضِ.
وَجَمَعَ غَيْرُهُ بِحَمْلِ الصَّلَاةِ الْمُثْبَتَةِ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، وَالْمَنْفِيَّةِ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ، وَرُدَّ بِأَنَّ كَوْنَهَا رَكْعَتَيْنِ صَرِيحٌ فِي الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ مَرَّتَيْنِ صَلَّى فِي إِحْدَاهُمَا، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْأُخْرَى، وَقَدْ يُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ أُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: كَمَا تُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ، تُسَبِّحُ وَتُكَبِّرُ، وَلَا تَرْكَعُ وَلَا تَسْجُدُ، ثُمَّ عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ سَبِّحْ وَكَبِّرْ وَتَضَرَّعْ وَاسْتَغْفِرْ، وَلَا تَرْكَعْ وَلَا تَسْجُدْ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْأَشْبَهُ عِنْدِي فِي الْجَمْعِ أَنْ يُجْعَلَ الْخَبَرَانِ فِي وَقْتَيْنِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي الْفَتْحِ صَلَّى فِيهَا، عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ عَنْ بِلَالٍ، وَنَفَى ابْنُ عَبَّاسٍ الصَّلَاةَ فِيهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لِأَنَّهُ نَفَاهَا، وَأَسْنَدَهُ إِلَى أُسَامَةَ، وَابْنُ عُمَرَ أَثْبَتَهَا وَأَسْنَدَهُ إِلَى بِلَالٍ وَإِلَى أُسَامَةَ أَيْضًا، فَبَطَلَ التَّعَارُضُ، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ، لَكِنْ تَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ يَوْمَ
الْفَتْحِ لَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ حَجَّ فَلَمْ يَدْخُلْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَامَ الْفَتْحِ مَرَّتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَحْدَةِ فِي خَبَرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَحْدَةُ السَّفَرِ لَا الدُّخُولِ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْجَمْعِ، لَكِنْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ حَزِينٌ، فَقَالَ: دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ فَأَخَافُ أَنْ أَكُونَ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي» ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ فِي الْفَتْحِ، وَلَا فِي عُمْرَتِهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْفَتْحِ، فَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي النَّفْلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِأَنَّهُ الْوَاقِعُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْعُ الْفَرْضِ دَاخِلَهَا لِلْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِهَا خُصَّ مِنْهُ النَّفْلُ بِالسُّنَّةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ، وَقَيَّدَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ النَّفْلَ بِغَيْرِ الرَّوَاتِبِ وَمَا يُطْلَبُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَأَلْحَقَ الْجُمْهُورُ بِهِ الْفَرْضَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُقِيمِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ دَاخِلَهَا مُطْلَقًا، وَعَلَّلَهُ بِلُزُومِ اسْتِدْبَارِ بَعْضِهَا، وَقَدْ أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِهَا، فَيُحْمَلُ اسْتِقْبَالُ جَمِيعِهَا، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ مَنْعُ صَلَاةِ الْفَرْضِ دَاخِلَهَا، وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْإِجْزَاءُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَنَّ الْأَشْهَرَ أَنْ يُعِيدَ فِي الْوَقْتِ.
وَعَنِ ابْنِ حَبِيبٍ: يُعِيدُ أَبَدًا، وَعَنْ أَصْبَغَ: إِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا.
قَالَ الْحَافِظُ: وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ إِنْ لَمْ يَرْجُ جَمَاعَةً أَفْضَلَ مِنْهَا خَارِجَهَا مُشْكِلٌ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَهَا مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهَا بِخِلَافِ دَاخِلِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ؟ وَفِيهِ رِوَايَةُ الصَّحَابِيِّ وَسُؤَالُ الْمَفْضُولِ وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ وَالْحُجَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُقَالُ هُوَ أَيْضًا خَبَرٌ وَاحِدٌ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ فَرْدٌ يَنْضَمُّ إِلَى نَظَائِرَ مِثْلِهِ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، وَاخْتِصَاصُ السَّابِقِ بِالْبُقْعَةِ الْفَاصِلَةِ وَالسُّؤَالِ عَنِ الْعِلْمِ وَالْحِرْصِ فِيهِ، وَفُضِّلَ ابْنُ عُمَرَ لِحِرْصِهِ عَلَى تَتَبُّعِ آثَارِهِ صلى الله عليه وسلم لِيَعْمَلَ بِهَا، وَأَنَّ الْفَاضِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ كَانَ يَغِيبُ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ الْفَاضِلَةِ، وَيَحْضُرُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ فَيَطَّلِعُ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعُمَرَيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ بِلَالٍ وَمَنْ مَعَهُ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي، لَكِنْ رَوَى الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ:" «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي» " فَدَلَّ فِعْلُهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَبْوَابِ وَالْغَلْقِ لِلْمَسَاجِدِ، وَأَنَّ السُّتْرَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ حَيْثُ يُخْشَى الْمُرُورُ لِصَلَاتِهِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ إِلَى أَحَدِهِمَا، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِقُرْبِهِ مِنَ الْجِدَارِ كَمَا مَرَّ أَنَّ بَيْنَ مُصَلَّاهُ وَالْجِدَارِ
نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ.
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ دُخُولِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ، وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ مَغْفُورًا لَهُ» "، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَمَحِلُّهُ حَيْثُ لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِدُخُولِهِ، أَوْ يَتَأَذَّى هُوَ بِنَحْوِ زَحْمَةٍ وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ نَافِعٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
911 -
897 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ) الْأُمَوِيِّ (إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ) الثَّقَفِيِّ الظَّالِمِ الْمُبْتِرِ الْمُخْتَلَفِ فِي كُفْرِهِ وَلِيَ إِمْرَةَ الْعِرَاقِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ (أَنْ لَا تُخَالِفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ) أَيْ أَحْكَامِهِ، وَلِلْقَعْنَبِيِّ: كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الْحَجِّ، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى قِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَهُ وَالِيًا عَلَى مَكَّةَ، وَأَمِيرًا عَلَى الْحَاجِّ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ: أَنَّ الْحُجَّاجَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ يَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ (قَالَ) سَالِمٌ: (فَلَمَّا كَانَ) وُجِدَ (يَوْمُ عَرَفَةَ جَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَأَنَا مَعَهُ) ابْنُ عُمَرَ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَصَاحَ بِهِ) : نَادَاهُ (عِنْدَ سُرَادِقِهِ) بِضَمِّ السِّينِ، قَالَهُ الْحَافِظُ وَالْكِرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ الَّذِي يُحْيِهِ بِالْخَيْمَةِ، وَلَهُ بَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَيْهَا إِنَّمَا يَعْمَلُهُ غَالِبُ الْمُلُوكِ وَالْأَكَابِرِ (أَيْنَ هَذَا) أَيِ الْحَجَّاجُ بَيَانٌ لِلصِّيَاحِ (فَخَرَجَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، مُلَاءَةٌ يَلْتَحِفُ بِهَا، قَالَ الْحَافِظُ: أَيْ إِزَارٌ كَبِيرٌ (مُعَصْفَرَةٌ) مَصْبُوغَةٌ بِالْعُصْفُرِ (فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةُ ابْنِ عُمَرَ (فَقَالَ: الرَّوَاحَ) بِالنَّصْبِ، أَيْ عَجِّلْ، أَوْ رُحْ، أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ (إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدْخُلُ عِنْدَهُمَا فِي الْمُسْنَدِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُطْلِقَتْ مَا لَمْ تُضَفْ إِلَى صَاحِبِهَا كَسُنَّةِ الْعُمَرَيْنِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ وَجُمْهُورِهِمْ، عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ سَالِمٍ لِابْنِ شِهَابٍ، إِذْ قَالَ لَهُ: أَفَعَلَ ذَلِكَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَهَلْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا سُنَّتَهُ؟ (فَقَالَ: أَهَذِهِ السَّاعَةُ) وَقْتُ الْهَاجِرَةِ (قَالَ: نَعَمْ) هُوَ وَقْتُ الرَّوَاحِ إِلَى الْمَوْقِفِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: " «غَدَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَنَزَلَ نَمِرَةَ وَهُوَ مَنْزِلُ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ بِعَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْجَرًا، فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَوَجَّهَ مِنْ مِنَى حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ بِهَا، لَكِنْ فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ تَوَجُّهَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَفْظُهُ: فَضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرَحَلَتْ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي (قَالَ: فَأَنْظِرْنِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ أَخِّرْنِي، وَيُرْوَى بِأَلِفِ وَصْلٍ وَضَمِّ الظَّاءِ، أَيِ انْتَظِرْنِي (حَتَّى أُفِيضَ عَلَيَّ مَاءً) أَيْ أَغْتَسِلَ (ثُمَّ أَخْرُجَ) بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى أُفِيضَ (فَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ) عَنْ مَرْكُوبِهِ، وَانْتَظَرَ (حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ) مِنْ مُغْتَسَلِهِ، فَفِيهِ الْغُسْلُ لِوُقُوفِ عَرَفَةَ لِانْتِظَارِ ابْنِ عُمَرَ لَهُ، وَالْعُلَمَاءُ يَسْتَحِبُّونَهُ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ إِنَّمَا انْتَظَرَهُ لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّ اغْتِسَالَهُ عَنْ ضَرُورَةٍ.
(فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي) عَبْدِ اللَّهِ (فَقُلْتُ لَهُ) أَيِ الْحَجَّاجِ (إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ) : تُوَافِقَ (السُّنَّةَ) النَّبَوِيَّةَ (الْيَوْمَ، فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الصَّادِ وَقَطْعِهَا وَكَسْرِ الصَّادِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الْجُمْعَةِ أَثْنَاءَ حَدِيثٍ لِعَمَّارٍ الْأَمْرَ بِإِقْصَارِ الْخُطْبَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ.
وَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَغَارِبَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: وَمَعْنَى قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ تَعَلُّقٌ بِالصَّلَاةِ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: كُلُّ صَلَاةٍ يُخْطَبُ لَهَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقِيلَ لَهُ، فَعَرَفَةُ يُخْطَبُ فِيهَا، وَلَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا تِلْكَ لِلتَّعْلِيمِ.
(وَعَجِّلِ الصَّلَاةَ) هَكَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ كَيَحْيَى وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ يُوسُفَ وَأَشْهَبُ، وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ قَالُوا: الصَّلَاةَ، قَالَ: لَكِنْ لَهَا وَجْهٌ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْوُقُوفِ يَسْتَلْزِمُ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ، قَالَهُ الْحَافِظُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مِنْ مَالِكٍ، وَكَأَنَّهُ ذَكَّرَ بِاللَّازِمِ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِتَعْجِيلِ الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ تَعْجِيلُ الْوُقُوفِ.
(قَالَ) سَالِمٌ: (فَجَعَلَ) الْحَجَّاجُ (يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْمَا يَسْمَعَ ذَلِكَ) الَّذِي قُلْتُ لَهُ (مِنْهُ) فَفِيهِ الْفَهْمُ بِالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ لِقَوْلِهِ: (فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ) نَظَرُهُ إِلَيْهِ (عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: صَدَقَ سَالِمٌ) وَفِيهِ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَاجِّ إِلَى الْخُلَفَاءِ، وَأَنَّ الْأَمِيرَ يَعْمَلُ فِي الدِّينِ
لِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَيَسِيرُ إِلَى رَأْيِهِمْ، وَمُدَاخَلَةُ الْعُلَمَاءِ السَّلَاطِينَ وَأَنَّهُ لَا نَقِيصَةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَفَتْوَى التِّلْمِيذِ بِحَضْرَةِ مُعَلِّمِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَابْتِدَاءُ الْعَالِمِ بِالْفَتْوَى قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، قَالَهُ الْمُهَلَّبُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ إِنَّمَا ابْتَدَأَ بِذَلِكَ لِمَسْأَلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ كَمَا كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَفِيهِ طَلَبُ الْعُلُوِّ لِتَشَوُّفِ الْحَجَّاجِ إِلَى مَا أَخْبَرَهُ بِهِ سَالِمٌ مِنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، وَتَعْلِيمُ الْفَاجِرِ السُّنَنِ لِمَنْفَعَةِ النَّاسِ، وَاحْتِمَالُ الْمَفْسَدَةِ الْخَفِيفَةِ لِتَحْصِيلِ الْمُصْلَحَةِ الْكَثِيرَةِ، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ مُضِيِّ ابْنِ عُمَرَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَتَعْلِيمِهِ، وَفِيهِ الْحِرْصُ عَلَى نَشْرِ الْعِلْمِ لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ، وَصِحَّةُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ، وَأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى مَسْجِدِ عَرَفَةَ حِينَ الزَّوَالِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرَيْنِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ سُنَّةٌ، وَلَا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ بِقَدْرِ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ تَعَلُّقَاتِ الصَّلَاةِ كَالْغُسْلِ وَنَحْوِهِ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ الْمُعَصْفَرَ لِلْمُحْرِمِ، وَرَدَّهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنَيِّرِ بِأَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يَكُنْ يَتَّقِي الْمُنْكَرَ الْأَعْظَمَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَتَّقِيَ الْمُعَصْفَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْهَ ابْنُ عُمَرَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُنْجَعُ فِيهِ النَّهْيُ، وَلِعِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ لَا يَقْتَدُونَ بِالْحَجَّاجِ، وَنَظَرَ فِيهِ الْحَافِظُ بِأَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا هِيَ بِعَدَمِ إِنْكَارِ ابْنِ عُمَرَ فَبِهِ يَتَمَسَّكُ النَّاسُ فِي اعْتِقَادِ الْجَوَازِ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ تَأْمِيرُ الْأَدْوَنِ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ بِأَنَّ صَاحِبَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَا سِيَّمَا فِي تَأْمِيرِ الْحَجَّاجِ، وَإِنَّمَا أَطَاعَ ابْنُ عُمَرَ بِذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الْفِتْنَةِ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَالْقَعْنَبِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَشْهَبَ الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
[بَاب الصَّلَاةِ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَالْجُمُعَةِ بِمِنًى وَعَرَفَةَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِمِنًى ثُمَّ يَغْدُو إِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ إِلَى عَرَفَةَ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فِي الظُّهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَنَّهُ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَنَّ الصَّلَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ إِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ وَإِنْ وَافَقَتْ الْجُمُعَةَ فَإِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ وَلَكِنَّهَا قَصُرَتْ مِنْ أَجْلِ السَّفَرِ قَالَ مَالِكٌ فِي إِمَامِ الْحَاجِّ إِذَا وَافَقَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ بَعْضَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِنَّهُ لَا يُجَمِّعُ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
64 -
بَابُ الصَّلَاةِ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَالْجُمُعَةِ بِمِنًى وَعَرَفَةَ
التَّرْوِيَةُ ثَامِنُ الْحَجَّةِ، بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَخِفَّةِ التَّحْتِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْوُونَ فِيهِ إِبِلَهُمْ، وَيَتَرَوَّوْنَ مِنَ الْمَاءِ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا آبَارٌ وَلَا عُيُونٌ، وَأَمَّا الْآنَ، فَكَثُرَ جِدًّا وَاسْتَغْنَوْا عَنْ حَمْلِ الْمَاءِ.
وَقَدْ رَوَى الْفَاكِهِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا مُجَاهِدُ إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَرَأَيْتَ الْبِنَاءَ يَعْلُو حَاسِيَتَهَا فَخُذْ حِذْرَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ أَظَلَّكَ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ تَرْوِيَةً لِأَنَّ آدَمَ رَأَى فِيهِ حَوَّاءَ وَاجْتَمَعَ بِهَا، أَوْ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ رَأَى لَيْلَتَهُ ذَبْحَ ابْنِهِ فَأَصْبَحَ يَتَرَوَّى، أَوْ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَرَى إِبْرَاهِيمَ فِيهِ الْمَنَاسِكَ، أَوْ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهِ الْمَنَاسِكَ وَهِيَ شَاذَّةٌ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنَ الْأَوَّلِ، لَقِيلَ: يَوْمُ الرَّوِيَّةِ، أَوِ الثَّانِي لَقِيلَ: يَوْمُ التَّرَوِّي، بِشَدِّ الْوَاوِ، وَالثَّالِثِ لَقِيلَ: الرُّؤْيَا، وَالرَّابِعِ لَقِيلَ: الرِّوَايَةُ، وَقَوْلُهُ: وَالْجُمُعَةِ أَيْ تَرْكُ صَلَاتِهَا إِذَا وَافَقَتْ أَيَّامَ مِنًى وَعَرَفَةَ.
912 -
898
(مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِمِنًى، ثُمَّ يَغْدُو) بِمُعْجَمَةٍ، يَذْهَبُ وَقْتَ الْغُدْوَةِ (إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى عَرَفَةَ) اتِّبَاعًا لِمَا رَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَوَى أَحْمَدُ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ إِذَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَنَسٍ: " «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى» " وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: " «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى وَرَكِبَ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ» .
وَفِي أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَالْفَجْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِمِنًى» "، وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ:" «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى خَمْسَ صَلَوَاتٍ» "، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:" مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الظُّهْرَ وَمَا بَعْدَهَا، وَالْفَجْرَ بِمِنًى، ثُمَّ يَغْدُونَ إِلَى عَرَفَةَ "، وَقَدِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ، فَإِشَارَةٌ إِلَى مُتَابَعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّ الْأُمَرَاءَ إِذْ ذَاكَ مَا كَانُوا يُوَاظِبُونَ عَلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ) لِأَنَّ الظُّهْرَ سِرِّيَّةٌ، وَأَنَّهُ يَخْطُبُ بِالنَّاسِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِجَامِعِ نَمِرَةَ يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا مَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: " «حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرَحَلَتْ لَهُ فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ» " الْحَدِيثَ، فَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْطُبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمَغَارِبَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا لِلْعِرَاقِيِّينَ، وَمَرَّ تَأْوِيلُهُ، فَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: خَالَفَ فِيهَا الْمَالِكِيَّةَ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا عَلَى اسْتِحْبَابِهَا خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ عِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ حُجَّةٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ خُطْبَةَ عَرَفَةَ فَرْدَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ، وَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ ضَعِيفٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ لَا يَرِدُ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ فِي خَبَرِ جَابِرٍ شَيْئًا مِنَ الْمَنَاسِكِ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ، فَيُنَافِي قَوْلَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ فِي خُطَبِ الْحَجَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى الْخُطْبَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اكْتَفَى بِفِعْلِهِ لِلْمَنَاسِكِ عَنْ بَيَانِهِ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَوْضَحُ، وَاعْتَنَى بِمَا أَهَمَّهُ فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي قَالَهَا، وَالْخُطَبَاءُ بَعْدَهُ لَيْسَتْ أَفْعَالُهُمْ قُدْوَةً، وَلَا النَّاسُ يَعْتَنُونَ بِمُشَاهَدَتِهَا وَنَقْلِهَا فَاسْتُحِبَّ لَهُمُ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ.
(وَإِنَّ الصَّلَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ إِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ، وَإِنْ وَافَقَتِ الْجُمُعَةَ فَإِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ، وَلَكِنَّهَا قُصِرَتْ مِنْ أَجْلِ السَّفَرِ) لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ حَجَّتَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بَعْدَ ذِكْرِ الْخُطْبَةِ:" ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا "(قَالَ مَالِكٌ فِي إِمَامِ الْحَاجِّ إِذَا وَافَقَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ بَعْضَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ: (إِنَّهُ لَا يُجَمِّعُ) بِالتَّثْقِيلِ، لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ (فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ) لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ.
[بَاب صَلَاةِ الْمُزْدَلِفَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
65 -
بَابُ صَلَاةِ الْمُزْدَلِفَةِ
913 -
899 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا» ) أَيْ جَمَعَ بَيْنِهِمَا جَمْعَ تَأْخِيرٍ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَاتٌ أُخَرُ مِنْهَا الَّتِي تَلِيهَا.
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِإِقَامَةِ إِقَامَةِ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ مَدْلُولَ جَمِيعًا تَأْكِيدُ كَوْنِهِ صَلَّاهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَأَمَّا جَمْعُهُمَا، أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتِهَا فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلرِّوَايَاتِ الْأُخَرِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَرَ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلَا يُمْكِنُ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ بِحَيْثُ يُصَلِّي كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتِهَا، وَفِيهِ الْجَمْعُ بِالْعِشَاءَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمْعُ تَأْخِيرٍ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ «دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ فَتَوَضَّأَ فَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ فَقُلْتُ لَهُ الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَكَ فَرَكِبَ فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاءُ فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
914 -
900
(مَالِكٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ، الْمَدَنِيِّ (عَنْ كُرَيْبٍ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، وَمُوَحَّدَةٍ (مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) الْمَدَنِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ الْأَثْبَاتُ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا أَشْهَبَ، وَابْنَ الْمَاجِشُونِ، فَقَالَا عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ، وَالصَّحِيحُ إِسْقَاطُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ إِسْنَادِهِ (أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ) ، أَيْ رَجَعَ مِنْ وُقُوفِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، لِأَنَّ عَرَفَةَ اسْمٌ لِلْيَوْمِ، وَعَرَفَاتٌ بِلَفْظِ الْجَمْعِ اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفًا، لَكِنْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ عَرَفَةَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ أَيْضًا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ (حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:(نَزَلَ فَبَالَ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ: لَمَّا أَتَى الشِّعْبُ الَّذِي يَنْزِلُهُ الْأُمَرَاءُ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ: الشِّعْبُ الَّذِي يُنِيخُ النَّاسُ فِيهِ لِلْمَغْرِبِ، وَلِلْفَاكِهِيِّ عَنْ عَطَاءٍ: الشِّعْبُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْخُلَفَاءُ الْآنَ الْمَغْرِبَ، وَالْمُرَادُ بِالْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بَنُو أُمَيَّةَ، كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهِ الْمَغْرِبَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ هُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عِكْرِمَةُ فَقَالَ: اتَّخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبَالًا وَاتَّخَذْتُمُوهُ مُصَلًّى، رَوَاهُ الْفَاكِهِيُّ، وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ:" «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِجَمْعٍ» "، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
وَنُقِلَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَابْنِ الْقَاسِمِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِجْزَاءِ، وَقَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ (فَتَوَضَّأَ) بِمَاءِ زَمْزَمَ، كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ مُسْنَدِ أَبِيهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ مَنَعَ اسْتِعْمَالَهُ لِغَيْرِ الشُّرْبِ (فَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ) أَيْ خَفَّفَهُ، فَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ: فَتَوَضَّأَ وَضَوْءًا خَفِيفًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، أَوْ خَفَّفَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالِبِ عَادَتِهِ، أَوِ الْمُرَادُ اللُّغَوِيُّ وَاسْتُبْعِدَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَيِ اسْتَنْجَى بِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَضَاءَةِ وَهِيَ النَّظَافَةُ، وَمَعْنَى الْإِسْبَاغِ الْإِكْمَالُ، أَيْ لَمْ يُكْمِلْ وُضُوءَهُ فَيَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ تَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، لَكِنَّ الْأُصُولَ تَدْفَعُهُ لِأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ مَرَّتَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ عِيسَى بْنَ دِينَارٍ سَبَقَ أَبَا عُمَرَ إِلَى مَا اخْتَارَهُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الصَّرِيحَةِ، وَقَدْ تَابَعَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَرْمَلَةَ
عَلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ أَخُو مُوسَى عِنْدَ مُسْلِمٍ بِمِثْلِ لَفْظِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ أَخُوهُمَا فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْسَ بِالْبَالِغِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِلَفْظِ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ، وَلَمْ يَكُنْ عَادَتُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَحَدٌ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ.
وَأَمَّا اعْتِلَالُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُشْرَعُ مَرَّتَيْنِ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِاحْتِمَالٍ أَنَّهُ تَوَضَّأْ ثَانِيًا عَنْ حَدَثٍ طَارِئٍ، وَلَيْسَ شَرْطُ تَجْدِيدِهِ إِلَّا لِمَنْ صَلَّى بِهِ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَلْ أَجَازَهُ جَمَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ خِلَافَهُ، أَوْ إِنَّمَا تَوَضَّأَ، أَوَّلًا لِيَسْتَدِيمَ الطَّهَارَةَ، وَلَا سِيَّمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، لِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ حِينَئِذٍ، وَخَفَّفَ الْوُضُوءَ لِقِلَّةِ الْمَاءِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا تَرَكَ إِسْبَاغَهُ حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ لِيَكُونَ مُسْتَصْحِبًا لِلطَّهَارَةِ فِي طَرِيقِهِ، وَتَجَوَّزَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ وَأَرَادَهَا أَسْبَغَهُ.
(فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَتَذْكُرُ أَوْ تُرِيدُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَتُصَلِّي (يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ: حَضَرَتِ الصَّلَاةُ مَثَلًا (قَالَ: الصَّلَاةُ) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ (أَمَامَكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ مَوْضِعُ هَذِهِ الصَّلَاةِ قُدَّامَكَ، وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ، فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْحَالِ، وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ، أَوِ التَّقْدِيرُ وَقْتُ الصَّلَاةِ قُدَّامَكَ، فَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، إِذِ الصَّلَاةُ نَفْسَهَا لَا تُوجَدُ قَبْلَ إِيجَادِهَا، وَإِذَا وُجِدَتْ لَا تَكُونُ أَمَامَهُ، أَوْ مَعْنَى أَمَامَكَ: لَا تَفُوتُكَ وَسَتُدْرِكُهَا، وَفِيهِ تَذْكِيرُ التَّابِعِ مَا تَرَكَهُ مَتْبُوعُهُ لِيَفْعَلَهُ، أَوْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ، أَوْ يُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ صَوَابِهِ.
(فَرَكِبَ) نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ (فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ) بِمَاءِ زَمْزَمَ (فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ) فِيهِ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ دُونَ فَصْلٍ بِصَلَاةٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْدَثَ (ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ) بِالنَّاسِ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ.
(ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ) مِنَّا (بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ) رِفْقًا بِالدَّوَابِّ، أَوْ لِلْأَمْنِ مِنْ تَشْوِيشِهِمْ بِهَا (ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ، فَصَلَّاهَا) بِالنَّاسِ، وَبَيَّنَ مُسْلِمٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ: أَنَّهُمْ لَمْ يَزِيدُوا بَيْنَ الْوُقُوفِ عَلَى الْإِنَاخَةِ، وَلَفْظُهُ: فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ، وَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ، فَصَلُّوا، ثُمَّ حَلُّوا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ خَفَّفَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاتَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ، وَمَعْنَاهُ الْيَسِيرُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَقْطَعُ ذَلِكَ الْجَمْعُ وَجَمْعُ التَّأْخِيرِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَطَائِفَةٍ بِسَبَبِ السَّفَرِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِسَبَبِ النُّسُكِ، وَأَغْرَبَ الْخَطَابِيُّ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْحَاجُّ الْمَغْرِبَ إِذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمُزْدَلِفَةَ، وَلَوْ أَجْزَأَتْهُ فِي غَيْرِهَا لَمَّا أَخَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَقْتِهَا الْمُوَقَّتِ لَهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ.
(وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أَيْ لَمْ يَتَنَفَّلْ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْجَمْعِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ يَجْعَلُهُمَا كَصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَوَجَبَ الْوَلَاءُ
كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ الْوَلَاءِ لَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّوَاتِبَ.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَمَرَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ، فَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لَهُمَا، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ، وَاخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَقُلْتُ بِهِ.
وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ إِنْ أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ كَوْنَ الْعِشَاءَيْنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ؛ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْأَذَانَيْنِ وَالْإِقَامَتَيْنِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ خَالِدٍ كَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ مَالِكٍ حَيْثُ أَخَذَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْكُوفِيِّينَ، مَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَرْوِهِ، وَيَتْرُكُ مَا رُوِيَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَنَا أَعْجَبُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ حَيْثُ أَخَذُوا بِرِوَايَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَرَكُوا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ بِهِ أَحَدًا.
وَأَجَابَ الْحَافِظُ بِأَنَّ مَالِكًا اعْتَمَدَ صَنِيعَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ فِي الْمُوَطَّأِ فَقَدْ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، ثُمَّ أَوَّلَهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَهُ تَفَرَّقُوا عَنْهُ فَأَذِنَ لَهُمْ لِيَجْتَمِعُوا لِيَجْمَعَ بِهِمْ وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفَهُ وَلَوْ تَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ عُمَرَ، لِكَوْنِهِ الْإِمَامَ الَّذِي يُقِيمُ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ،، لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ فِي حَقِّ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَحْتَاجُ فِي جَمْعِهِمْ إِلَى مَنْ يُؤَذِّنُهُمْ.
وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ، أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُ رَآهُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُخَيَّرِ فِيهِ، وَعَنْهُ صِفَةٌ رَابِعَةٌ: الْإِقَامَةُ لَهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَخَامِسَةٌ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَسَادِسَةٌ: تَرْكُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِمَا، رَوَاهُ ابْنُ حَزْمٍ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
فَلِلَّهِ دَرُّ مَالِكٍ مَا أَدَقَّ نَظَرَهُ، لَمَّا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ، وَأَخَذَ بِمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ لِاعْتِضَادِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَنَّ فِي الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ أَنَّ الْوَقْتَ لَهُمَا جَمِيعًا وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُصَلَّى فِي وَقْتِهَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ أَوْلَى بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مِنَ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فَائِتَةً تُقْضَى، وَإِنَّمَا هِيَ صَلَاةٌ تُصَلَّى فِي وَقْتِهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ فِي وَقْتِهَا فَسُنَّتُهَا أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا وَتُقَامَ فِي الْجَمَاعَةِ وَهَذَا بَيِّنٌ، انْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْوُضُوءِ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ
أَيْضًا هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مُوسَى فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْخَطْمِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
915 -
901 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ عَدِيٍّ) بِالدَّالِ (ابْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ) الْكُوفِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَفِيهِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ، يَحْيَى عَنْ عَدِيٍّ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ) بِيَاءٍ قَبْلَ الزَّايِ، ابْنِ زَيْدٍ، بِلَا يَاءٍ، ابْنِ حُصَيْنٍ الْأَنْصَارِيَّ (الْخَطْمِيَّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي خَطْمَةَ، بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، زَادَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ) خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ (الْأَنْصَارِيَّ، أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا) أَيْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا جَمْعَ تَأْخِيرٍ، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، كِلَاهُمَا عَنْ عَدِيٍّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْجُعْفِيُّ ضَعِيفٌ لَكِنَّ تَقَوَّى بِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ ذِكْرُ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، كَذَا قَالَ الْحَافِظُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ ابْنِ حَزْمٍ بِالنَّظَرِ إِلَى الصِّحَّةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
916 -
902 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا) اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقَّبَ الْمَرْفُوعَ بِالْمَوْقُوفِ إِشَارَةً إِلَى بَقَاءِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُ احْتِمَالُ النَّسْخِ. وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ:" كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الَّذِي أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُ فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ، وَلَا يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّيَ بِجَمْعٍ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ بِالْفَاءِ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، مِنَ الِانْتِفَاضِ كِنَايَةً عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَقَدِ اتَّبَعَهُ حَتَّى فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِالشِّعْبِ، لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ.
[بَاب صَلَاةِ مِنًى]
قَالَ مَالِكٌ فِي أَهْلِ مَكَّةَ إِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِمِنًى إِذَا حَجُّوا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَنْصَرِفُوا إِلَى مَكَّةَ
وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ» وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّاهَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَلَّاهَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَنَّ عُثْمَانَ صَلَّاهَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ شَطْرَ إِمَارَتِهِ ثُمَّ أَتَمَّهَا بَعْدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
66 -
بَابُ صَلَاةِ مِنًى
(قَالَ مَالِكٌ فِي أَهْلِ مَكَّةَ: أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِمِنًى إِذَا حَجُّوا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) بِالتَّكْرِيرِ لِلتَّعْمِيمِ فِي كُلِّ رُبَاعِيَّةٍ (حَتَّى يَنْصَرِفُوا إِلَى مَكَّةَ) لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَصَرُوا مَعَهُ بِمِنًى، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ أَتِمُّوا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَصَّرَ لِلنُّسُكِ، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ مِنًى وَمَكَّةَ مَسَافَةُ قَصْرٍ، وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:«شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْفَتْحَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» ؛ فَضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، عَلَى أَنَّهُ تَرَكَ إِعْلَامَهُمْ بِمِنًى اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ فِي الْفَتْحِ وَقِصَّةَ مِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانِ لَا بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ بَعْدَ الْعَهْدِ.
918 -
903 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) مُرْسَلٌ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ بِمِنًى)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: وَعَرَفَةَ (رَكْعَتَيْنِ) قَصْرًا (وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّاهَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ) فِي خِلَافَتِهِ (وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَلَّاهَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ صَلَّاهَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ) وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْخُلَفَاءِ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْفِعْلِ النَّبَوِيِّ وَحْدَهُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَمْ يُنْسَخْ، إِذْ لَوْ نُسِخَ مَا فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ (شَطْرَ) أَيْ نِصْفَ (إِمَارَتِهِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ خِلَافَتِهِ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ: ثَمَانِ سِنِينَ، أَوْ سِتَّ سِنِينَ بِالشَّكِّ، وَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ أَنَّ الصَّحِيحَ سِتٌّ، لِأَنَّ خِلَافَتَهُ كَانَتْ ثِنْتَى عَشْرَةَ سَنَةً (ثُمَّ أَتَمَّهَا بَعْدُ) بِالْبَنَّاءِ عَلَى الضَّمِّ، لِأَنَّ الْقَصْرَ وَالْإِتْمَامَ جَائِزَانِ لِلْمُسَافِرِ، فَرَأَى عُثْمَانُ تَرْجِيحَ طَرَفِ الْإِتْمَامِ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ مَشَقَّةٍ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ.
وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ
عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَتَمَّ لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ، أَوْ لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ دَارٌ، أَوْ لِعَزْمِهِ عَلَى الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ، أَوْ لِأَنَّهُ اسْتَجَدَّ لَهُ أَرْضًا بِمِنًى، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ عَائِشَةَ، وَأَكْثَرُهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هِيَ ظُنُونٌ مِمَّنْ قَالَهَا، وَيَرُدُّ الْأَوَّلَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَافِرُ بِزَوْجَاتِهِ وَقَصَرَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرِ حَرَامٌ، وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: لَمْ يُنْقَلَا فَلَا يَكْفِي الظَّنُّ فِي ذَلِكَ.
وَالْأَوَّلُ وَإِنْ نُقِلَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ لَمَّا قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلَدٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي صَلَاةَ مُقِيمٍ» " فَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَفِي رُوَاتِهِ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُ عُرْوَةَ: إِنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تَتَأَهَّلَ عَائِشَةُ أَصْلًا، فَدَلَّ عَلَى وَهَاءِ ذَلِكَ الْخَبَرِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ مُرَادَ عُرْوَةَ التَّشْبِيهُ بِعُثْمَانَ فِي الْإِتْمَامِ بِتَأْوِيلٍ لَا اتِّحَادُ تَأْوِيلِهِمَا، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْأَسْبَابَ اخْتَلَفَتْ فِي تَأَوُّلِ عُثْمَانَ، وَتَكَاثَرَتْ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ عَائِشَةَ، وَالْمَنْقُولُ أَنَّ سَبَبَ إِتْمَامِ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْرَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ شَاخِصًا سَائِرًا، وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي مَكَانٍ أَثْنَاءَ سَفَرِهِ، فَلَهُ حُكْمُ الْمُقِيمِ فَيُتِمُّ، لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا صَلَّى بِنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، فَقَالَا: لَقَدْ عِبْتَ أَمْرَ ابْنِ عَمِّكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، قَالَ: وَكَانَ عُثْمَانُ حَيْثُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهَا الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى وَعَرَفَةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ، وَقَامَ بِمِنًى أَتَمَّ الصَّلَاةَ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ رَأَيَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَصَرَ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ عَلَى أُمَّتِهِ، فَأَخَذَا أَنْفُسَهُمَا بِالشِّدَّةِ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ آخِرِهِمُ الْقُرْطُبِيُّ، لَكِنَّ مَا قَبْلَهُ أَوْلَى لِتَصْرِيحِ الرَّاوِي بِالسَّبَبِ.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: إِنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ أَرْبَعًا، لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَأَحَبَّ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ.
وَلَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا نَادَاهُ بِمِنًى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِلْتُ أُصَلِّيهِمَا مُنْذُ رَأَيْتُكُمْ عَامَ أَوَّلَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلُ سَبَبِ الْإِتْمَامِ، وَلَا يُعَارِضُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، بَلْ يُقَوِّيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَالَةَ الْإِقَامَةِ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ قَرِيبٌ إِلَى قِيَاسِ الْإِقَامَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ السَّائِرِ، وَهَذَا مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ عُثْمَانَ.
قَالَهُ الْحَافِظُ وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْحُجَّاجَ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَبِمَكَّةَ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مِنًى وَعَرَفَةَ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقْصُرَ أَهْلُ مَكَّةَ بِهَا أَوْ أَهْلُ مِنًى بِهَا أَوْ عَرَفَةَ بِهَا لِقَصْرِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
قَالَ
عِيَاضٌ: وَلِأَنَّ فِي تَكْرَارِ مَشَاعِرِ الْحَجِّ، وَمَنَاسِكِهِ مِقْدَارُ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُ: إِنَّمَا يَجُوزُ الْقَصْرُ لِغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَمِنًى وَعَرَفَةَ، لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ أَوْ فِي سَفَرٍ قَصِيرٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِمِنًى، لَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتِمُّوا، وَلَيْسَ بَيْنَ مِنًى وَمَكَّةَ مَسَافَةُ قَصْرٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لِلنُّسُكِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: " «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» "، فَكَأَنَّهُ تَرَكَ إِعْلَامَهُمْ بِذَلِكَ بِمِنًى اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ بِمَكَّةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ فَالْقِصَّةُ فِي الْفَتْحِ، وَقِصَّةُ مِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ لِبُعْدِ الْعَهْدِ، قَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَصْلَ الْبَحْثِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى لَا قَصْرَ فِيهَا، وَهِيَ مِنْ مَحَالِّ الْخِلَافِ، انْتَهَى.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُدَّعَى أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ لَوْ صَحَّ مِنْ أَدِلَّتِنَا، إِذْ قَوْلُهُ ذَلِكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فِيهَا دُونَ قَوْلِهِ لَهُمْ لَمَّا حَجُّوا مَعَهُ بِمِنًى وَعَرَفَةَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَقْصُرُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا فَهِمَهُ أَسْلَمُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ كَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ثُمَّ صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَكْعَتَيْنِ بِمِنًى وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ شَيْئًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
919 -
904 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ) إِمَامًا، لِأَنَّهُ الْخَلِيفَةُ، وَلَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ (رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ) مِنَ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ (فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ جَمْعُ سَافِرٍ، كَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ (ثُمَّ صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَكْعَتَيْنِ بِمِنًى) بِالنَّاسِ (وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ شَيْئًا) أَيْ لِأَهْلِ مَكَّةَ لِخُرُوجِهِمْ مِنْهَا لِلْحَجِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سُنَّتَهُمْ حِينَئِذٍ الْقَصْرُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَلَّى لِلنَّاسِ بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ثُمَّ صَلَّى عُمَرُ رَكْعَتَيْنِ بِمِنًى 113 وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ شَيْئًا
سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَيْفَ صَلَاتُهُمْ بِعَرَفَةَ أَرَكْعَتَانِ أَمْ أَرْبَعٌ وَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْحَاجِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَةَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ وَكَيْفَ صَلَاةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي إِقَامَتِهِمْ فَقَالَ مَالِكٌ يُصَلِّي أَهْلُ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَمِنًى مَا أَقَامُوا بِهِمَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَكَّةَ قَالَ وَأَمِيرُ الْحَاجِّ أَيْضًا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَأَيَّامَ مِنًى وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ سَاكِنًا بِمِنًى مُقِيمًا بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ بِمِنًى وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ سَاكِنًا بِعَرَفَةَ مُقِيمًا بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ بِهَا أَيْضًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
920 -
905 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَلَّى لِلنَّاسِ) أَيْ بِهِمْ إِمَامًا (بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ) سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ (قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ
ثُمَّ صَلَّى عُمَرُ) الرُّبَاعِيَّةَ (رَكْعَتَيْنِ بِمِنًى، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ شَيْئًا) فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ بِمِنًى إِذَا حَجُّوا، إِذْ لَوْ لَزِمَهُمُ الْإِتْمَامُ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ كَمَا بَيَّنَهُ فِي مَكَّةَ، وَزَعْمُ أَنَّهُ تَرَكَهُ اكْتِفَاءً بِالْبَيَانِ بِمَكَّةَ مَمْنُوعٌ، وَسَنَدُهُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ لَا سِيَّمَا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ، وَتَقَدَّمَ فِي الْقَصْرِ طَرِيقٌ ثَالِثٌ لِأَثَرِ عُمَرَ، وَهُوَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ فَذَكَرَهُ.
(سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَيْفَ صَلَاتُهُمْ بِعَرَفَةَ) الرُّبَاعِيَّةُ (رَكْعَتَانِ) هِيَ (أَمْ أَرْبَعٌ؟ وَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْحَاجِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَةَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) إِتْمَامًا (أَوْ رَكْعَتَيْنِ؟) قَصْرًا (وَكَيْفَ صَلَاةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي إِقَامَتِهِمْ؟) أَيَّامَ الرَّمْيِ (فَقَالَ مَالِكٌ: يُصَلِّي أَهْلُ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَمِنًى مَا أَقَامُوا) مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ (بِهِمَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) بِكُلِّ رُبَاعِيَّةٍ (يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَكَّةَ) عَمَلًا بِالسُّنَّةِ (قَالَ: وَأَمِيرُ الْحَاجِّ أَيْضًا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَأَيَّامَ مِنًى) لِأَنَّ سَبَبَ الْقَصْرِ النُّسُكُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَعِيدٍ وَقَرِيبٍ (وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ سَاكِنًا بِمِنًى مُقِيمًا بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ) الْأَحَدَ (يُتِمُّ الصَّلَاةَ بِمِنًى، وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ سَاكِنًا بِعَرَفَةَ مُقِيمًا بِهَا) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْلِ أَهْلِهَا، فَالْمَدَارُ عَلَى الْإِقَامَةِ (فَإِنَّ ذَلِكَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ بِهَا أَيْضًا) لِأَنَّهُمَا فِي أَوْطَانِهِمَا كَأَهْلِ مَكَّةَ إِذَا أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ بِمَكَّةَ يُتِمُّونَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى مِنًى وَعَرَفَةَ، فَالضَّابِطُ أَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَكَانٍ يُتِمُّونَ فِيهِ، وَيَقْصُرُونَ فِيمَا عَدَاهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: السِّرُّ فِي الْقَصْرِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُتَقَارِبَةِ إِظْهَارُ اللَّهِ تَعَالَى لِفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى اعْتَدَّ لَهُمْ بِالْحَرَكَةِ الْقَرِيبَةِ اعْتِدَادَهُ بِالسَّفَرِ الْبَعِيدِ، فَجَعَلَ الْوَافِدِينَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مَكَّةَ كَأَنَّهُمْ سَافَرُوا إِلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَسْفَارٍ: سَفَرٌ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَلِهَذَا يَقْصُرُ أَهْلُ عَرَفَةَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَسَفَرٌ إِلَى مِنًى وَلِهَذَا يَقْصُرُ أَهْلُ الْمُزْدَلِفَةِ بِمِنًى، وَسَفَرٌ إِلَى مَكَّةَ، وَلِهَذَا يَقْصُرُ أَهْلُ مَكَّةَ فَهِيَ عَلَى قُرْبِهَا مِنْ عَرَفَةَ مَعْدُودَةٌ بِثَلَاثِ مَسَافَاتٍ كُلُّ مَسَافَةٍ مِنْهَا سَفَرٌ طَوِيلٌ، وَسِرُّ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ وَفْدُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْبَعِيدَ كَالْقَرِيبِ فِي إِسْبَاغِ الْفَضْلِ، انْتَهَى.
[بَاب صَلَاةِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ وَمِنًى]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ لِمِنًى فَيَقْصُرَ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ عَلَى مُقَامٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ لَيَالٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
67 -
بَابُ صَلَاةِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ وَمِنًى
(قَالَ مَالِكٌ: مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ) بِمَكَّةَ (حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى، فَيَقْصُرَ) بِالنَّصْبِ (وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ) عَزَمَ وَصَمَّمَ (عَلَى مُقَامٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ لَيَالٍ) بِأَيَّامِهَا.
[بَاب تَكْبِيرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ شَيْئًا فَكَبَّرَ فَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ ثُمَّ خَرَجَ الثَّانِيَةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَكَبَّرَ فَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ ثُمَّ خَرَجَ الثَّالِثَةَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَكَبَّرَ فَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى يَتَّصِلَ التَّكْبِيرُ وَيَبْلُغَ الْبَيْتَ فَيُعْلَمَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ خَرَجَ يَرْمِي
قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ وَأَوَّلُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ دُبُرَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَآخِرُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ دُبُرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثُمَّ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ قَالَ مَالِكٌ وَالتَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ بِمِنًى أَوْ بِالْآفَاقِ كُلُّهَا وَاجِبٌ وَإِنَّمَا يَأْتَمُّ النَّاسُ فِي ذَلِكَ بِإِمَامِ الْحَاجِّ وَبِالنَّاسِ بِمِنًى لِأَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا وَانْقَضَى الْإِحْرَامُ ائْتَمُّوا بِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الْحِلِّ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَاجًّا فَإِنَّهُ لَا يَأْتَمُّ بِهِمْ إِلَّا فِي تَكْبِيرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَالَ مَالِكٌ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
68 -
بَابُ تَكْبِيرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
922 -
906 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ شَيْئًا) قَلِيلًا (فَكَبَّرَ فَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ) اتِّبَاعًا لَهُ، لِأَنَّهُ الْإِمَامُ (ثُمَّ خَرَجَ الثَّانِيَةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَكَبَّرَ فَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ) الثَّالِثَةَ (حَتَّى زَاغَتْ) بِزَايٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَتَيْنِ، زَالَتْ (الشَّمْسُ فَكَبَّرَ فَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى يَتَّصِلَ التَّكْبِيرُ وَيَبْلُغَ الْبَيْتَ) الْكَعْبَةَ (فَيُعْلَمَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ خَرَجَ يَرْمِي) الْجَمْرَةَ.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ:" «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إِلَّا أَنْ يَخْلِطَهَا بِتَكْبِيرٍ أَوْ تَهْلِيلٍ» ".
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ) أَيْ عَقِبَهَا، بِضَمَّتَيْنِ، وَتَسْكِينُ الْبَاءِ
تَخْفِيفٌ وَأَصْلُهُ خِلَافُ الْقُبُلِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (وَأَوَّلُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ دُبُرَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَآخِرُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ دُبُرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ) احْتُجَّ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ.
قَالَ الْحَافِظُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالْمَكْتُوبَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَبِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْمُنْفَرِدِ، وَبِالْمُؤَدَّاةِ دُونَ الْمَقْضِيَّةِ، وَبِالْمُقِيمِ دُونَ الْمُسَافِرِ، وَبِسَاكِنِ الْمِصْرِ دُونَ الْقَرْيَةِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ، فَقِيلَ: مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقِيلَ: مِنْ ظُهْرِهِ، وَقِيلَ: مِنْ عَصْرِهِ، وَقِيلَ: مِنْ صُبْحِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقِيلَ: مِنْ ظُهْرِهِ، وَفِي الِانْتِهَاءِ إِلَى ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، أَوْ عَصْرِهِ، أَوْ ظُهْرِ ثَانِيهِ، أَوْ صُبْحِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ ظُهْرِهِ أَوْ عَصْرِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ وَاضِحٌ، مَا وَرَدَ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ:" مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ مِنًى "، أَخْرَجَهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا صِفَةُ التَّكْبِيرِ فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ:" كَبِّرُوا اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا "، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ:" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ "، وَقِيلَ: يُكَبَّرُ ثَلَاثًا وَيُزَادُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. . . إِلَخْ.
وَقِيلَ: يُكَبَّرُ ثِنْتَيْنِ بَعْدَهُمَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، جَاءَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَدْ أُحْدِثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ زِيَادَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، انْتَهَى.
(قَالَ) مَالِكٌ: (وَالتَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِالرِّجَالِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: " كَانَ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ ".
(مَنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ وَحْدَهُ بِمِنًى، أَوْ بِالْآفَاقِ كُلُّهَا وَاجِبٌ) مَنْدُوبٌ مُتَأَكَّدٌ (وَإِنَّمَا يَأْتَمُّ) يَقْتَدِي (النَّاسُ فِي ذَلِكَ بِإِمَامِ الْحَاجِّ وَبِالنَّاسِ بِمِنًى) فِي رَمْيِ الْجِمَارِ وَالتَّكْبِيرِ (لِأَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا وَانْقَضَى الْإِحْرَامُ ائْتَمُّوا بِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الْحِلِّ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَاجًّا) مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ كُلِّهِمْ، وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ (فَإِنَّهُ لَا يَأْتَمُّ بِهِمْ إِلَّا فِي تَكْبِيرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) وَحِكْمَتُهُ كَمَا قَالَ الْحَطَّابُ إِنَّ
الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَذْبَحُونَ فِيهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ، فَشُرِعَ فِيهَا التَّكْبِيرُ إِشَارَةً إِلَى تَخْصِيصِ الذَّبْحِ لَهُ وَعَلَى اسْمِهِ عز وجل.
(قَالَ مَالِكٌ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ) كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ: وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ " وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَظَاهِرُهُ إِدْخَالُ يَوْمِ الْعِيدِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ "، وَرَجَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28](سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ 28) فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مَعْلُومَاتٍ، وَلَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٍ، بَلْ تَسْمِيَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 203) الْآيَةَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَعْدُودَاتٍ لِأَنَّهَا إِذَا زِيدَ عَلَيْهَا شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ حَصْرًا، أَيْ فِي حُكْمِ حَصْرِ الْعَدَدِ، ثُمَّ مُقْتَضَى كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ يَوْمَانِ، لَكِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ يَقْتَضِي دُخُولَ يَوْمِ الْعِيدِ فِيهَا.
وَقَدْ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ قَوْلَيْنِ: أَحَدَهُمَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَرِّقُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ: أَيْ يُقَدِّدُونَهَا وَيُبْرِزُونَهَا لِلشَّمْسِ.
ثَانِيَهُمَا: لِأَنَّهَا كُلَّهَا أَيَّامُ تَشْرِيقٍ لِصَلَاةِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَصَارَتْ تَبَعًا لِيَوْمِ النَّحْرِ، وَهَذَا أَعْجَبُ الْقَوْلَيْنِ إِلَيَّ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعِيدَ إِنَّمَا يُصَلَّى بَعْدَ أَنْ تُشْرِقَ الشَّمْسُ.
وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لِأَنَّ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا لَا تُنْحَرُ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَكَأَنَّ مَنْ أَخْرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْهَا لِشُهْرَتِهِ بِلَقَبٍ يَخُصُّهُ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَبَعٌ لَهُ فِي التَّسْمِيَةِ كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ:" لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ "، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَوْقُوفًا، وَمَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ جُمُعَةٍ، وَلَا صَلَاةَ عِيدٍ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا: " «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ التَّشْرِيقِ فَلْيُعِدْ» " أَيْ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّشْرِيقُ التَّكْبِيرُ دُبُرَ الصَّلَاةِ، أَيْ لَا تَكْبِيرَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا لَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَعْرِفُهُ، وَلَا وَافَقَهُ عَلَيْهِ صَاحِبَاهُ وَلَا غَيْرُهُمَا، انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
[بَاب صَلَاةِ الْمُعَرَّسِ وَالْمُحَصَّبِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا» قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ
قَالَ مَالِكٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُجَاوِزَ الْمُعَرَّسَ إِذَا قَفَلَ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ وَإِنْ مَرَّ بِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ فَلْيُقِمْ حَتَّى تَحِلَّ الصَّلَاةُ ثُمَّ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَّسَ بِهِ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَاخَ بِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
69 -
بَابُ صَلَاةِ الْمُعَرَّسِ وَالْمُحَصَّبِ
923 -
907 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَاخَ) بِنُونٍ وَمُعْجَمَةٍ، أَيْ بَرَّكَ رَاحِلَتَهُ (بِالْبَطْحَاءِ) بِالْمَدِّ، حِينَ صَدَرَ مِنَ الْحَجِّ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ (الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ) احْتِرَازًا عَنِ الْبَطْحَاءِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى (فَصَلَّى بِهَا) وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَمَاكِنُ نُزُولِهِ صلى الله عليه وسلم لِيُتَأَسَّى بِهِ فِيهَا، إِذْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ عَنْ حِكْمَةٍ، وَأَيْضًا لِطَلَبِ فَضْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ:" «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ فِي مُعَرَّسِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ» "(قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) تَأَسِّيًا بِالْمُصْطَفَى، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ شَدِيدَ التَّأَسِّي بِهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ بِالْمُنَاخِ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُنِيخُ بِهِ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُجَاوِزَ الْمُعَرَّسَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ الثَّقِيلَةِ، وَبِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ خَفِيفَةً: مَوْضِعُ النُّزُولِ (إِذَا قَفَلَ) بِقَافٍ فَفَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ (حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ) تَأَسِّيًا (وَإِنَّ مَرَّ بِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ فَلْيُقِمْ) بِهِ (حَتَّى تَحِلَّ الصَّلَاةُ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ) يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ تَيَسَّرَ لَهُ (لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَّسَ بِهِ) بِشَدِّ الرَّاءِ: نَزَلَ بِهِ لِيَسْتَرِيحَ، وَصَلَّى بِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: التَّعْرِيسُ نُزُولُ الْمُسَافِرِ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَخَصَّهُ غَيْرُهُ بِنُزُولِهِ آخِرَ اللَّيْلِ.
(وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَاخَ بِهِ) : بَرَّكَ رَاحِلَتَهُ تَأَسِّيًا، وَقِيلَ مُرَادُهُ صلى الله عليه وسلم بِالنُّزُولِ بِذِيِ الْحُلَيْفَةِ فِي رُجُوعِهِ وَالْمُقَامِ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ؛ لِئَلَّا يَفْجَأَ النَّاسُ أَهَالِيهِمْ كَمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، حَتَّى يَبْلُغَهُمُ الْخَبَرُ فَتَمْتَشِطَ
الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ، وَيُصْلِحَ النِّسَاءُ مِنْ شَأْنِهِنَّ، لِئَلَّا تَقَعَ عَيْنٌ أَوْ أَنْفٌ عَلَى مَا يُكْرَهُ، فَيَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْأُلْفَةِ، حَكَاهُ عِيَاضٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُحَصَّبِ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ مِنْ اللَّيْلِ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
924 -
908 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) إِذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى (بِالْمُحَصَّبِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ وَمُوَحَّدَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ: اسْمٌ لِمَكَانٍ مُتَّسِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى مِنًى، وَيُقَالُ لَهُ الْأَبْطَحُ وَالْبَطْحَاءُ وَخَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ وَالْخَيْفُ، وَإِلَى مِنًى يُضَافُ وَدَلِيلُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَكَّةَ وَأَحْرَازِهَا وَمِنًى وَأَقْطَارِهَا:
يَا رَاكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى
…
وَاهْتِفْ بِقَاطِنِ خَيْفِهَا وَالنَّاهِضِ
قَالَ الْأُبِّيُّ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا جُعِلَ مِنْ مِنًى فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْمُحَصَّبِ، أَمَّا إِذَا عُلِّقَ بِرَاكِبًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى
…
وَفِي نَظَرٍ لَوْلَا التَّحَرُّجُ عَادِمُ
وَأَبْيَنُ مِنْهُمَا قَوْلُ مَجْنُونِ بَنِي عَامِرٍ:
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى
…
فَهَيَّجَ لَوْعَاتِ الْفُؤَادِ وَمَا يَدْرِي
دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا أَطَارَ
…
بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي
وَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا رَحَلُوا مِنْ مِنًى نَزَلُوا بِأَبْطَحِ مَكَّةَ وَصَلَّوُا الظُّهْرَ وَالثَّلَاثَةَ بَعْدَهَا وَيَدْخُلُونَ مَكَّةَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مِنًى.
(ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ مِنَ اللَّيْلِ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ) اتِّبَاعًا لِلْفِعْلِ النَّبَوِيِّ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ» "، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً " قَالَ نَافِعٌ: " «وَقَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ» "، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ:" «نُزُولُ الْأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إِذَا خَرَجَ» "، أَيْ أَسْهَلَ لِتَوَجُّهِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لِيَسْتَوْعِبَ فِي ذَلِكَ الْبَطِيءَ وَالْمُتَعَذِّرَ، وَيَكُونُ مَبِيتُهُمْ وَقِيَامُهُمْ فِي السَّحَرِ، وَرَحِيلُهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِيهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: "«وَكَانَ عَلَى ثِقْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى، وَلَكِنْ جِئْتُ، فَضَرَبْتُ قُبَّتَهُ فَجَاءَ فَنَزَلَ» ، انْتَهَى.
لَكِنْ لَمَّا نَزَلَهُ كَانَ النُّزُولُ بِهِ مُسْتَحَبًّا اتِّبَاعًا لَهُ لِتَقْرِيرِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ نَفَى كَوْنَهُ سُنَّةً كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ، فَلَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ كَابْنِ عُمَرَ أَرَادَ دُخُولَهُ فِي عُمُومِ التَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ لَا الْإِلْزَامَ بِذَلِكَ.
[بَاب الْبَيْتُوتَةِ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ زَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَبْعَثُ رِجَالًا يُدْخِلُونَ النَّاسَ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
70 -
بَابُ الْبَيْتُوتَةِ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى
بِنَصْبِ لَيَالِيَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْمَبِيتِ بِمِنًى فِي لَيَالِيهَا لِلْخَبَرِ الْآتِي: أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ، لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالرُّخْصَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُقَابِلَهَا عَزِيمَةٌ، وَأَنَّ الْإِذْنَ إِنَّمَا وَقَعَ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ لَمْ يَحْصُلْ إِذْنٌ، وَبِالْوُجُوبِ قَالَ الْجُمْهُورُ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَوُجُوبُ الدَّمِ بِتَرْكِهِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَبِيتُ إِلَّا بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ.
925 -
909 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَبْعَثُ رِجَالًا يُدْخِلُونَ النَّاسَ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ) إِلَى مِنًى، لِأَنَّ الْعَقَبَةَ لَيْسَتْ مِنْ مِنًى بَلْ هِيَ حَدُّ مِنًى مِنْ جِهَةِ مَكَّةَ، وَهِيَ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ عِنْدَهَا عَلَى الْهِجْرَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنْ الْحَاجِّ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
926 -
910 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ) فَإِنْ بَاتَ جُلَّ لَيْلَةٍ فَالدَّمُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَيْتُوتَةِ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ إِلَّا بِمِنًى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
927 -
911 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَيْتُوتَةِ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى: لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ إِلَّا بِمِنًى) لِوُجُوبِ الْمَبِيتِ بِهَا لِلْحَاجِّ، وَلَوْ لِضَرُورَةٍ كَخَوْفٍ عَلَى مَتَاعِهِ أَوْ مَرَضٍ.
وَقَدْ
رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ حَبَسَهُ مَرَضٌ، فَبَاتَ بِمَكَّةَ عَلَيْهِ هَدْيٌ إِلَّا لِلرُّعَاةِ لِلْحَدِيثِ الْآتِي، وَأَهْلِ السِّقَايَةِ لِحَدِيثِ الصَّحِيحِ:" «رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ» ".
[بَاب رَمْيِ الْجِمَارِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وُقُوفًا طَوِيلًا حَتَّى يَمَلَّ الْقَائِمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
71 -
بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ
جَمْعُ جَمْرَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِمُجْتَمِعِ الْحَصَى، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا، يُقَالُ: تَجَمَّرَ بَنُو فُلَانٍ إِذَا اجْتَمَعُوا، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْحَصَى الصِّغَارَ جِمَارًا، فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِلَازِمِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ آدَمَ أَوْ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَحَصَّبَهُ جَمَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ أَسْرَعَ، ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ.
وَقَالَ الشِّهَابُ الْقَرَافِيُّ: الْجِمَارُ اسْمٌ لِلْحَصَى لَا لِلْمَكَانِ، وَالْجَمْرَةُ اسْمٌ لِلْحَصَاةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَوْضِعُ جَمْرَةً بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ، وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْحَصَى فِيهِ، وَالْأُولَى مِنْهَا هِيَ الَّتِي إِلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ أَقْرَبُ، وَمِنْ بَابِهِ الْكَبِيرِ إِلَيْهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ وَمِائَتَا ذِرَاعٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا وَسُدُسُ ذِرَاعٍ، وَمِنْهَا إِلَى الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى مِائَتَا ذِرَاعٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَمِنَ الْوُسْطَى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِائَتَا ذِرَاعٍ وَثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِذِرَاعِ الْحَدِيدِ.
929 -
912 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ) إِحْدَاهُمَا: الْأُولَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى، وَالثَّانِيَةُ: الْوُسْطَى (وُقُوفًا طَوِيلًا حَتَّى يَمَلَّ الْقَائِمُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، اتِّبَاعًا لِمَا صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَطَالَ الْوُقُوفَ عِنْدَهُمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وُقُوفًا طَوِيلًا يُكَبِّرُ اللَّهَ وَيُسَبِّحُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُو اللَّهَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
929 -
913 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وُقُوفًا طَوِيلًا) مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (يُكَبِّرُ اللَّهَ) زَادَ سَالِمٌ: عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ، أَيْ مِنَ السَّبْعِ فَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلَّا الثَّوْرِيُّ، فَقَالَ: يُطْعِمُ، وَإِنْ جَبَرَهُ بِدَمٍ
فَأَحَبُّ إِلَيَّ (وَيُسَبِّحُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُو اللَّهَ) بِخُضُوعِ قَلْبٍ، وَخُشُوعِ جَوَارِحَ (وَلَا يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) لِلدُّعَاءِ، زَادَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْهُ وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ الْحَصَى الَّتِي يُرْمَى بِهَا الْجِمَارُ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلًا أَعْجَبُ إِلَيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
930 -
914 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ) اتِّبَاعًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» .
(مَالِكٌ: أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: الْحَصَى الَّتِي يُرْمَى بِهَا الْجِمَارُ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ) بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، أَصْلُهُ الرَّمْيُ بِطَرَفَيِ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْحَصَى الصِّغَارِ مَجَازًا، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ قَدْرُ الْفُولَةِ أَوِ النَّوَاةِ، أَوْ دُونَ الْأُنْمُلَةِ عَرْضًا وَطُولًا، وَلَا يُجْزِئُ الصَّغِيرَ جِدًّا كَقَمْحَةٍ وَحِمِّصَةٍ كَالْعَدَمِ، وَإِنَّمَا (قَالَ مَالِكٌ: وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلًا أَعْجَبُ إِلَيَّ) مَعَ أَنَّ فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» " فَرَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لِئَلَّا يَنْقُصَ الرَّامِي مِنْهُ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَفِي أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، مَرْفُوعًا:" «وَإِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» "، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ الرَّمْيِ بِمَا يُسَمَّى حَجَرًا، لِأَنَّهُ رَمَى بِالْحَجَرِ وَقَالَ:«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» .
وَقَالَ: فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، فَيُجْزِئُ الْمَرْمَرُ وَالْبِرَامُ وَالْكَذَّانُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَجَرِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَلَا يُجْزِئُ اللَّآلِئُ، وَمَا لَيْسَ بِحَجَرٍ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ كَنُورَةٍ وَزِرْنِيخٍ وَإِثْمِدٍ وَنَحْوِهَا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ بِزِرْنِيخٍ وَنَحْوِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ مَنْ غَرَبَتْ لَهُ الشَّمْسُ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ بِمِنًى فَلَا يَنْفِرَنَّ حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِنْ الْغَدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
931 -
915 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ غَرَبَتْ لَهُ الشَّمْسُ) أَيْ عَلَيْهِ
وَمَعْنَاهُ: مَنْ ظَهَرَ لَهُ غُرُوبُهَا (مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) وَهُوَ ثَانِيهَا (وَهُوَ بِمِنًى، فَلَا يَنْفِرَنَّ حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِنَ الْغَدِ) لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا رَمَوْا الْجِمَارَ مَشَوْا ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ وَأَوَّلُ مَنْ رَكِبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
932 -
916 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا رَمَوُا الْجِمَارَ مَشَوْا ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ) مُرَادُهُ بِالنَّاسِ الصَّحَابَةُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" كَانَ يَمْشِي إِلَى الْجِمَارِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا "، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْجِمَارَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَاشِيًا ذَاهِبًا، وَرَاجِعًا، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» "(وَأَوَّلُ مَنْ رَكِبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) لِعُذْرِهِ بِالسِّمَنِ.
وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ لَا يَرْكَبُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ مِنْ أَيْنَ كَانَ الْقَاسِمُ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ مِنْ حَيْثُ تَيَسَّرَ قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يُرْمَى عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرِيضِ فَقَالَ نَعَمْ وَيَتَحَرَّى الْمَرِيضُ حِينَ يُرْمَى عَنْهُ فَيُكَبِّرُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ وَيُهَرِيقُ دَمًا فَإِنْ صَحَّ الْمَرِيضُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الَّذِي رُمِيَ عَنْهُ وَأَهْدَى وُجُوبًا قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى عَلَى الَّذِي يَرْمِي الْجِمَارَ أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضٍّ إِعَادَةً وَلَكِنْ لَا يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
933 -
917 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، مِنْ أَيْنَ كَانَ الْقَاسِمُ) أَبَاكَ (يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ؟ فَقَالَ: مِنْ حَيْثُ تَيَسَّرَ) مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَحِلًّا مِنْهَا لِلرَّمْيِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ فَوْقِهَا أَوْ تَحْتِهَا أَوْ بِظَهْرِهَا لِمَا صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: " رَمَى عَبْدُ اللَّهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أُنَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ هَذَا مُقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، صلى الله عليه وسلم.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْلُو إِذَا رَمَى الْجَمْرَ "، وَجُمِعَ بِأَنَّ الَّتِي تُرْمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي هِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ لِأَنَّهَا عِنْدَ الْوَادِي بِخِلَافِ الْجَمْرَةِ بَيْنَ الْأَخِيرَتَيْنِ، وَتَمْتَازُ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ عَنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: اخْتِصَاصُهَا بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنْ لَا يُوقَفَ عِنْدَهَا، وَتُرْمَى ضُحًى وَمِنْ أَسْفَلِهَا نَدْبًا.
(سُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ يُرْمَى عَنِ الصَّبِيِّ، وَالْمَرِيضِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ) يُرْمَى عَنْهُمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَ حُمِلَا وَرَمَيَا بِأَنْفُسِهِمَا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي الْمُدَوَّنَةِ (وَيَتَحَرَّى
الْمَرِيضُ حِينَ يُرْمَى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (عَنْهُ) وَقْتَ رَمْيِ النَّائِبِ (فَيُكَبِّرُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ وَيُهَرِيقُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ (دَمًا) وُجُوبًا (فَإِنْ صَحَّ الْمَرِيضُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الَّذِي رُمِيَ) بِضَمِّ الرَّاءِ (عَنْهُ وَأَهْدَى) وُجُوبًا فِيهِمَا (قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى عَلَى الَّذِي يَرْمِي الْجِمَارَ، أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ إِعَادَةً) لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ فِيهِمَا (وَلَكِنْ لَا يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ) لِتَفْوِيتِهِ الْفَضِيلَةَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لَا تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
934 -
918 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ) بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، لِغَيْرِ الْمُتَعَجِّلِ، وَالْيَوْمَيْنِ لِلْمُتَعَجِّلِ (حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) فَيُسْتَحَبُّ رَمْيُهَا عَقِبَهُ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، أَعَادَ رَمْيَهَا بَعْدَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعِ.
[بَاب الرُّخْصَةِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا الْبَدَّاحِ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجِينَ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَيْنِ ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
72 -
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ
935 -
919 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو (بْنِ حَزْمٍ) فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ (عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا الْبَدَّاحِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ فَأَلِفٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ (ابْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ) ابْنِ الْجَدِّ، بِفَتْحِ الْجِيمِ، ابْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْقُضَاعِيَّ الْبَلَوِيَّ الْعَجْلَانِيَّ الْأَنْصَارِيَّ، مَوْلَاهُمْ وَلَا خُلْفَ، فَإِنَّهُ مِنْ بَلِيِّ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَهُمْ حُلَفَاءُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنَ الْأَنْصَارِ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ: رَوَاهُ يَحْيَى فَقَالَ عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ عَاصِمٍ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ: ابْنُ عَاصِمٍ كَمَا قَالَ جَمِيعُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
وَالَّذِي عِنْدَنَا فِي رِوَايَةِ يَحْيَى: أَنَّهُ كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَلَا يُوقَفُ عَلَى اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ اسْمُهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَبُو الْبَدَّاحِ لَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَمْرٍو، انْتَهَى.
وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَابْنُ حِبَّانَ: كُنْيَتُهُ أَبُو عَمْرٍو، وَقِيلَ كُنْيَتُهُ: أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ: أَبُو عُمَرَ، وَيُقَالُ: اسْمُهُ عَدِيٌّ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ فِيمَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَهَذَا يَدْفَعُ زَعْمَ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَيَدْفَعُ قَوْلَ ابْنِ مَنْدَهْ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم (أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ) عَاصِمٍ، شَهِدَ أُحُدًا، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَهُ عَلَى قُبَاءٍ، أَوْ عَلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، فَكَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا يُقَالُ: رَدَّهُ مِنَ الرَّوْحَاءِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّهُ عَاشَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَمِائَةً (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ، جَمْعُ رَاعٍ (فِي الْبَيْتُوتَةِ) مَصْدَرُ بَاتَ (خَارِجِينَ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ) جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَيْنِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ لَهُمَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ كَمَا بَيَّنَهُ الْإِمَامُ بَعْدُ (ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ، الِانْصِرَافُ مِنْ مِنًى، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ، لَكِنَّهُ قَالَ عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَا قَالَ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ، فَكَأَنَّهُمَا نَسَبَا أَبَا الْبَدَّاحِ إِلَى جَدِّهِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سُفْيَانَ، فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَنْ مُسَدَّدٍ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ، وَلِهَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رِوَايَةُ مَالِكٍ أَصَحُّ.
وَأَمَّا زَعْمُ أَنَّ تَصْحِيحَهُ لِقَوْلِهِ: " ابْنَ عَاصِمٍ "، وَقَوْلُ سُفْيَانَ:" بْنِ عَدِيٍّ "، وَالرَّدُّ عَلَى التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى الْجَدِّ سَائِغٌ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى التِّرْمِذِيِّ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَذْكُرِ الِاخْتِلَافَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ أُرْخِصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ يَقُولُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي تَأْخِيرِ رَمْيِ الْجِمَارِ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ رَمَوْا مِنْ الْغَدِ وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى كَانَ الْقَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ بَدَا لَهُمْ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الْآخِرِ وَنَفَرُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
936 -
920 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَرْخَصَ
لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ) مَا فَاتَهُمْ رَمْيُهُ نَهَارًا (يَقُولُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ) أَيْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَبِهِمُ الْقُدْوَةُ، وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وِفَاقٌ لِلْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَرْخَصَ لَهُمْ فِي تَأْخِيرِ الْيَوْمِ الثَّانِي فَرَمْيُهُمْ بِاللَّيْلِ أَوْلَى.
(قَالَ مَالِكٌ: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ) أَيْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ (الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرِعَاءِ الْإِبِلِ) وَأَلْحَقَ بِهَا رِعَاءَ غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الِاشْتِغَالُ بِالرَّعْيِ (فِي) تَأْخِيرِ (رَمْيِ الْجِمَارِ فِيمَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ، نَظُنُّ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) بِمَا أَرَادَ رَسُولُهُ (أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ) جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ لِرَعْيِهِمْ (فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ) وَهُوَ ثَانِيهِ أَتَوْا يَوْمَ الثَّالِثِ، وَ (رَمَوْا مِنَ الْغَدِ، وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ) لِمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ (فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى) ثَانِي النَّحْرِ (ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ) الْحَاضِرِ ثَالِثِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَفْسِيرُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِهِ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ لِلْيَوْمَيْنِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ (لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى كَانَ الْقَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ مَا فَاتَ وَقْتُهُ.
وَيَدُلُّ لِفَهْمِ الْإِمَامِ رِوَايَةُ سُفْيَانَ لِحَدِيثِ الْبَابِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا» "(فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا) لِأَنَّهُمْ تَعَجَّلُوا فِي يَوْمَيْنِ (وَإِنْ أَقَامُوا) بِمِنًى (إِلَى الْغَدِ رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الْآخِرِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ (وَنَفَرُوا) : انْصَرَفُوا، وَأَمَّا أَهْلُ السِّقَايَةِ فَإِنَّمَا يُرَخَّصُ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْبَيَاتِ بِمِنًى لَا فِي تَرْكِ رَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، فَيَبِيتُونَ بِمَكَّةَ، وَيَرْمُونَ الْجِمَارَ نَهَارًا، وَيَعُودُونَ لِمَكَّةَ كَمَا فِي الطِّرَازِ الْمُذَهَّبِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" «اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ:" «رَخَّصَ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ» "، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْعَبَّاسِ وَهُوَ جُمُودٌ، وَقِيلَ: يُدْخَلُ مَعَهُ آلُهُ، وَقِيلَ: فَرِيقُهُ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَقِيلَ: كُلُّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى السِّقَايَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قِيلَ: يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ حَتَّى لَوْ عَمِلَ سِقَايَةً لِغَيْرِهِ لَمْ يُرَخَّصْ لِصَاحِبِهَا فِي الْمَبِيتِ لِأَجْلِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ وَهُوَ
الصَّحِيحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ إِعْدَادُ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ، وَهَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَاءِ، أَوْ يُلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، مَحَلُّ احْتِمَالٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِأَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرِّعَاءِ، وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِذَلِكَ مَنْ لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ، أَوْ أَمْرٌ يَخَافُ فَوْتَهُ، أَوْ مَرِيضٌ يَتَعَاهَدُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ الدَّمُ فِي الْمَذْكُورَاتِ سِوَى الرِّعَاءِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ، فَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى غَيْرَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ عَنْ كُلِّ لَيْلَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَنْ كُلِّ لَيْلَةٍ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: التَّصَدُّقُ بِدِرْهَمٍ، وَعَنِ الثَّلَاثَةِ: دَمٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ ابْنَةَ أَخٍ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ نُفِسَتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَتَخَلَّفَتْ هِيَ وَصَفِيَّةُ حَتَّى أَتَتَا مِنًى بَعْدَ أَنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ تَرْمِيَا الْجَمْرَةَ حِينَ أَتَتَا وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئًا قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ نَسِيَ جَمْرَةً مِنْ الْجِمَارِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ مِنًى حَتَّى يُمْسِيَ قَالَ لِيَرْمِ أَيَّ سَاعَةٍ ذَكَرَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ كَمَا يُصَلِّي الصَّلَاةَ إِذَا نَسِيَهَا ثُمَّ ذَكَرَهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا صَدَرَ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ بَعْدَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَاجِبٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
937 -
921 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ الْعَدَوِيِّ الْمَدَنِيِّ صَدُوقٌ يُقَالُ اسْمُهُ: عُمَرُ (عَنْ أَبِيهِ) نَافِعٍ الشَّهِيرِ شَيْخِ مَالِكٍ، رَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةِ ابْنِهِ:(أَنَّ ابْنَةَ أَخٍ) لَمْ تُسَمَّ هِيَ وَلَا أَبُوهَا (لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، ابْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّةِ زَوْجِ ابْنِ عُمَرَ، قِيلَ: لَهَا إِدْرَاكٌ، وَأَنْكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: تَابِعِيَّةٌ ثِقَةٌ (نُفِسَتْ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا، مَعَ كَسْرِ الْفَاءِ فِيهِمَا، لُغَتَانِ، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ، أَيْ وَلَدَتْ، وَأَمَّا بِمَعْنَى حَاضَتْ فَبِضَمِّ النُّونِ فَقَطْ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ الْوَجْهَانِ.
(بِالْمُزْدَلِفَةِ فَتَخَلَّفَتْ هِيَ وَصْفِيَّةُ) عَمَّتُهَا (حَتَّى أَتَتَا مِنًى بَعْدَ أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ تَرْمِيَا الْجَمْرَةَ حِينَ أَتَتَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئًا) هَدْيًا لِعُذْرِهِمَا، تِلْكَ بِالْوِلَادَةِ وَالْعَمَّةُ بِمُعَاوَنَتِهَا، لَكِنِ اسْتَحَبَّ مَالِكٌ لِمَنْ عَرَضَ لَهُ مِثْلُ مَا عَرَضَ لِصَفِيَّةَ أَنْ يَهْدِيَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِمْ فِي الْوَقْتِ الْمَطْلُوبِ.
(قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ نَسِيَ جَمْرَةً مِنَ الْجِمَارِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ مِنًى حَتَّى يُمْسِيَ؟ قَالَ: لِيَرْمِ أَيَّ سَاعَةِ ذَكَرَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، كَمَا يُصَلِّي الصَّلَاةَ إِذَا نَسِيَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَمَا صَدَرَ) رَجَعَ مِنْ مِنًى (وَهُوَ بِمَكَّةَ، أَوْ بَعْدَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ) وَاجِبٌ.
[بَاب الْإِفَاضَةِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ إِذَا جِئْتُمْ مِنًى فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ لَا يَمَسَّ أَحَدٌ نِسَاءً وَلَا طِيبًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
73 -
بَابُ الْإِفَاضَةِ
938 -
922 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ) اتِّبَاعًا لَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا مَرَّ (وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: إِذَا جِئْتُمْ مِنًى فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، لَا يَمَسَّ أَحَدٌ نِسَاءً وَلَا طِيبًا) لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ (حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ فِي الطِّيبِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ فَقَطْ، وَقَالَ: يَحْرُمُ الصَّيْدُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) وَمَنْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، فَهُوَ حَرَامٌ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَائِفَةٌ: إِلَّا النِّسَاءَ وَالصَّيْدَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إِلَّا النِّسَاءَ خَاصَّةً.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ وَنَحَرَ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
939 -
923 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ، ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ وَنَحَرَ هَدْيًا، إِنْ كَانَ مَعَهُ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) أَعَادَهُ لِزِيَادَةِ ثُمَّ حَلَقَ. . . إِلَخْ، وَلَمْ يُدْخِلْ ذَلِكَ فِيمَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ كَذَلِكَ، وَهُمْ يُحَافِظُونَ عَلَى تَأْدِيَةِ مَا سَمِعُوهُ لَا سِيَّمَا مَالِكٌ.
[بَاب دُخُولِ الْحَائِضِ مَكَّةَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَتْ فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ قَالَتْ فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ هَذَا مَكَانُ عُمْرَتِكِ فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا مِنْهَا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
74 -
بَابُ دُخُولِ الْحَائِضِ مَكَّةَ
940 -
924 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا) مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا، وَقَالَ لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهَا (فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ) أَيْ أَدْخَلْنَاهَا عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ أَهْلَلْنَا بِهِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهَا وَحَالِ مَنْ كَانَ مِثْلَهَا فِي الْإِهْلَالِ بِعُمْرَةٍ، لَا عَنْ فِعْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهَا الْمُتَقَدِّمَ: فَمِنَّا مَنْ أَهَّلَ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَّلَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَّلَ بِالْحَجِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيمَا أَحْرَمَتْ بِهِ عَائِشَةُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ) لِمَنْ مَعَهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِمْ بِالْحَجِّ وَقُرْبِهِمْ مِنْ مَكَّةَ بِسَرِفَ، كَمَا فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ، أَوْ بَعْدَ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَيُحْتَمَلُ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ قَالَهُ مَرَّتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَنَّ الْعَزِيمَةَ كَانَتْ آخِرًا لَمَّا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ) بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَخِفَّةِ الْيَاءِ وَبِكَسْرِهَا وَشَدِّ الْيَاءِ، وَالْأُولَى أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَسَوْقُ الْهَدْيِ سُنَّةٌ لِمُرِيدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ (فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ) بِالْحَاءِ فِيهِمَا (مِنْهُمَا) أَيِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (جَمِيعًا) وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي بَقَاءِ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ عَلَى إِحْرَامِهِ أَنَّهُ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، لَا مُجَرَّدَ سَوْقُ الْهَدْيِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مُتَمَسِّكِينَ بِرِوَايَةِ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ يَهْدِ فَلْيُحْلِلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى، فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ» " وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يَحِلُّ بِتَمَامِ الْعُمْرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا، وَلِأَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ نُسُكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
وَأَجَابُوا عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ فِيهَا حَذْفًا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ مَالِكٍ هَذِهِ وَتَقْدِيرُهُ: وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَأَهْدَى فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالْمَخْرَجَ وَاحِدٌ وَهُوَ عَائِشَةُ
(قَالَتْ: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ) جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَقَعَتْ حَالًا، وَكَانَ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا بِسَرِفَ كَمَا صَحَّ عَنْهَا، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ) لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا تَدْخُلُهُ الْحَائِضُ (وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَعْقُبَ الطَّوَافَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ قَبْلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ: وَلَمْ أَسْعَ، نَحْوَ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ: وَلَمْ أَطُفْ، عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى التَّقْدِيرِ دُونَ الِانْسِحَابِ لِئَلَّا يَلْزَمَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، انْتَهَى.
أَيْ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الطَّوَافِ الشَّرْعِيِّ لَمْ تُوجَدْ لِأَنَّهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ سُمِّيَ السَّعْيُ طَوَافًا عَلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، فَالطَّوَافُ لُغَةً: الْمَشْيُ (فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: لَا أُصَلِّي، كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ: كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنِ الْحَيْضِ، وَهِيَ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَاتِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ دُخُولَهُ عَلَيْهَا وَشَكْوَاهَا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ (فَقَالَ: انْقُضِي) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (رَأْسَكِ) أَيْ حُلِّي ضُفُرَ شَعْرِهِ (وَامْتَشِطِي) أَيْ سَرِّحِيهِ بِالْمُشْطِ (وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي) : اتْرُكِي (الْعُمْرَةَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَجْعَلَ عُمْرَتَهَا حَجًّا.
وَلِذَا قَالَتْ: يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَاسْتَشْكَلَ إِذِ الْعُمْرَةُ لَا تُرْتَفَضُ كَالْحَجِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدِيمًا، وَلَا حَدِيثًا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ الْعِلْمُ عَلَيْهِ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ وَجَعْلِهَا حَجًّا، بِخِلَافٍ جَعْلِ الْحَجِّ عُمْرَةً فَإِنَّهُ وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ، وَاخْتَلَفَ فِي جَوَازِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّ مَعْنَى: دَعِي عُمْرَتَكِ: اتْرُكِي التَّحَلُّلَ مِنْهَا ; أَدْخِلِي عَلَيْهَا الْحَجَّ فَتَصِيرَ قَارِنَةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ، أَيْ عَنْ أَعْمَالِهَا، وَإِنَّمَا قَالَتْ: وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ إِفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِالْعَمَلِ أَفْضَلُ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا: " «فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: طَوَافُكِ يَسَعُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» " فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا قَارِنَةٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: انْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي ظَاهِرٌ فِي إِبْطَالِ الْعُمْرَةِ، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لِتَأْدِيَتِهِ إِلَى نَتْفِ الشَّعْرِ، وَأُجِيبَ بِجَوَازِهِمَا لِلْمُحْرَمِ وَحَيْثُ لَا يُؤَدِّي إِلَى نَتْفِ الشَّعْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ لِأَذًى بِرَأْسِهَا، فَأَبَاحَ لَهَا ذَلِكَ كَمَا أَبَاحَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْحِلَاقَ لِأَذًى بِرَأْسِهِ، أَوْ نَقْضُ رَأْسِهَا لِأَجْلِ الْغُسْلِ لِتُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ تَلَبَّدَتْ فَتَحْتَاجُ إِلَى نَقْضِ الضُّفُرِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالِامْتِشَاطِ تَسْرِيحُ شَعْرِهَا بِأَصَابِعِهَا بِرِفْقٍ حَتَّى لَا يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ تُضَفِّرُهُ كَمَا كَانَ، أَوْ أَعَادَتِ الشَّكْوَى بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَأَبَاحَ لَهَا الِامْتِشَاطَ حِينَئِذٍ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهُوَ تَعَسُّفٌ بَعِيدٌ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مَذْهَبُهَا أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ
اسْتَبَاحَ مَا يَسْتَبِيحُهُ الْحَاجُّ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا لَا يُعْلَمُ وَجْهُهُ.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ: (فَعَلْتُ) بِسُكُونِ اللَّامِ، مَا ذَكَرَ مِنَ النَّقْضِ وَالِامْتِشَاطِ وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَتَرْكِ الْعُمْرَةِ، وَبِظَاهِرِهِ اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ تَتْرُكُ الْعُمْرَةَ وَتُهِلُّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا كَمَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ بِأَنَّهَا تَرَكَتْهَا وَحَجَّتْ مُفْرِدَةً، وَيُقَوِّيهِ مَا لِأَحْمَدَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهَا: وَأَرْجِعُ بِحَجَّةٍ لَيْسَ مَعَهَا عُمْرَةٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهَا ضَعْفًا.
وَفِي مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: " «أَنَّ عَائِشَةَ أَهَّلَتْ بِعُمْرَةٍ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِسَرِفَ حَاضَتْ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَهِلِّي بِالْحَجِّ، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَسَعَتْ، فَقَالَ: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْتُ، قَالَ: فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ» " فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَإِنَّمَا أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ تَطَيُّبًا لِقَلْبِهَا لِكَوْنِهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ لَمَّا دَخَلَتْ مُعْتَمِرَةً.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «وَكَانَ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا سَهْلًا إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ» "(فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ) : أَتْمَمْنَاهُ، أَيْ وَطَهُرْتُ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهَا: أَنَّهَا طَهُرَتْ بِعَرَفَةَ.
وَعَنِ الْقَاسِمِ عَنْهَا: وَطَهُرْتُ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ عَرَفَةَ حِينَ قَدِمْنَا مِنًى.
وَلَهُ عَنْهُ أَيْضًا: فَخَرَجْتُ فِي حَجَّتِي حَتَّى نَزَلْنَا مِنًى، فَتَطَهَّرْتُ ثُمَّ طُفْنَا بِالْبَيْتِ.
فَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهَا طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
وَجُمِعَ بَيْنَ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ بِأَنَّهَا مَا رَأَتِ الطُّهْرَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ مِنًى.
وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ: " حَاضَتْ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَطَهُرَتْ يَوْمَ السَّبْتِ عَاشِرَهُ "، إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ.
(أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ) أَخِي (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى التَّنْعِيمِ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، مَكَانٌ خَارِجَ مَكَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنْهَا إِلَى جِهَةِ الْمَدِينَةِ، كَمَا نَقَلَهُ الْفَاكِهِيُّ.
وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: أَبْعَدُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ إِلَى مَكَّةَ بِقَلِيلٍ، وَلَيْسَ بِطَرَفِ الْحِلِّ بَلْ بَيْنَهُمَا نَحْوَ مِيلٍ، وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ طَرَفَ الْحِلِّ فَهُوَ تَجَوُّزٌ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَأَرَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْجِهَاتِ.
وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ التَّنْعِيمَ لِأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي عَنْ يَمِينِ الدَّاخِلِ يُقَالُ لَهُ: نَاعِمٌ، وَالَّذِي عَلَى الْيَسَارِ يُقَالُ لَهُ: مُنْعِمٌ، وَالْوَادِي نَعْمَانُ، أَيْ بِفَتْحِ النُّونِ.
وَرَوَى الْأَزْرَقِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: رَأَيْتُ عَطَاءً يَصِفُ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَحْرَمَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ، فَأَشَارَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَاءَ الْأَكَمَةِ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْخَرِبُ.
وَنَقَلَ الْفَاكِهِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ ثَمَّ مَسْجِدَيْنِ يَزْعُمُ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّ الْخَرِبَ الْأَدْنَى مِنَ الْحَرَمِ، وَهُوَ الَّذِي أَحْرَمَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَسْجِدُ الْأَبْعَدُ عَنِ الْأَكَمَةِ الْحَمْرَاءِ، وَرَجَّحَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ الْفَاكِهِيُّ: لَا أَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي عُمَيْرٍ يَذْكُرُ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ (فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (هَذَا) الِاعْتِمَارُ وَفِي
رِوَايَةٍ: هَذِهِ، أَيِ الْعُمْرَةُ (مَكَانُ) بِالرَّفْعِ خَبَرٌ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَعَامِلُهُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ الْخَبَرُ، أَيْ كَائِنَةٌ أَوْ مَجْعُولَةٌ مَكَانَ (عُمْرَتِكِ) قَالَ عِيَاضٌ: وَالرَّفْعُ أَوْجَهُ عِنْدِي، إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الظَّرْفَ إِنَّمَا أَرَادَ عِوَضَ عُمْرَتِكِ، فَمَنْ قَالَ: كَانَتْ قَارِنَةً، قَالَ: مَكَانَ عُمْرَتِكِ الَّتِي أَرَدْتِ أَنْ تَأْتِيَ بِهَا مُفْرِدَةً، وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ عُمْرَتُهَا مِنَ التَّنْعِيمِ تَطَوُّعًا، لَا عَنْ فَرْضٍ، لَكِنَّهُ أَرَادَ تَطْيِيبَ نَفْسِهَا بِذَلِكَ.
وَمَنْ قَالَ: كَانَتْ مُفْرِدَةً، قَالَ: مَكَانَ عُمْرَتِكِ الَّتِي فَسَخْتِ الْحَجَّ إِلَيْهَا، وَلَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا لِلْحَيْضِ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْوَجْهُ النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَتْ بِمَكَانٍ لِعُمْرَةٍ أُخْرَى، لَكِنْ إِنْ جُعِلْتَ - مَكَانُ - بِمَعْنَى - عِوَضُ أَوْ بَدَلُ - مَجَازًا، أَيْ هَذِهِ بَدَلُ عُمْرَتِكِ، جَازَ الرَّفْعُ حِينَئِذٍ.
(فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ) وَحْدَهَا (بِالْبَيْتِ، وَ) سَعَوْا، أَوْ طَافُوا بَيْنَ (الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحَلُّوا) مِنْهَا بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ (ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ) لِلْإِفَاضَةِ.
وَوَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ طَوَافًا وَاحِدًا، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَالَهُ عِيَاضٌ.
(بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ) يَوْمَ النَّحْرِ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا أَهَّلُوا بِالْحَجِّ) مُفْرَدًا (أَوْ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) لِأَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ تَنْدَرِجُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا بُدَّ لِلْقَارِنِ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، لِأَنَّ الْقِرَانَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ مَقْصُودَانِ فِيهِمَا فَلَا يَتَدَاخَلَانِ إِذْ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَحُكِيَ عَنِ الْعُمَرَيْنِ وَعَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا جَمَعَا بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا، وَطَافَا لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَيَا لَهُمَا سَعْيَيْنِ، وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ نَحْوَهُ، رَوَاهَا كُلَّهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِمَا فِي أَسَانِيدِ كُلٍّ مِنْهَا مِنَ الضَّعْفِ، وَفِي أَسَانِيدِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ الِاكْتِفَاءُ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ حُمِلَ عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ وَالْإِفَاضَةِ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَصْلًا.
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَاهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ» "، وَأَعَلَّهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الدَّرَاوَرْدِيَّ أَخْطَأَ فِي رَفْعِهِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ أَيُّوبَ وَاللَّيْثَ وَمُوسَى بْنَ عُقْبَةَ وَغَيْرَ وَاحِدٍ رَوَوْهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَوْقُوفًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الدَّرَاوَرْدِيَّ صَدُوقٌ، وَلَيْسَ مَا رَوَاهُ مُخَالِفًا لِرِوَايَةِ غَيْرِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ نَافِعٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ،
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَةِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
940 -
925 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ) الَّذِي رَوَيْتُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا، قَالَ الْحَافِظُ: لَيْسَ مُرَادُ الْمُحَدِّثِ بِقَوْلِهِ: بِمِثْلِ ذَلِكَ إِلَّا نَفْسَهُ، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بِهَذَيْنِ الْإِسْنَادَيْنِ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَلَا غَيْرِهِمْ عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ، فَذَكَرَهُمَا لَمَّا حَدَّثَ بِهِ يَحْيَى، انْتَهَى.
وَفِي قَوْلِهِ: يُمْكِنُ. . . إِلَخْ نَظَرٌ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْ لَمْ يَزِدْهَا أَوْثَقَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَفْسُهُ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَابْنِ مَهْدِيٍّ وَبَشِيرِ بْنِ عُمَرَ ثَمَانِيَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَسْعَدَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهِ.
حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ «قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى تَطْهُرِي» قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ تَدْخُلُ مَكَّةَ مُوَافِيَةً لِلْحَجِّ وَهِيَ حَائِضٌ لَا تَسْتَطِيعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ إِنَّهَا إِذَا خَشِيَتْ الْفَوَاتَ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ وَأَهْدَتْ وَكَانَتْ مِثْلَ مَنْ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَأَجْزَأَ عَنْهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إِذَا كَانَتْ قَدْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَصَلَّتْ فَإِنَّهَا تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَتَقِفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَتَرْمِي الْجِمَارَ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُفِيضُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
941 -
926 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (وَأَنَا حَائِضٌ فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ) لِأَنَّهُ صَلَاةٌ (وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) لِتَوَقُّفِهِ عَلَى سَبْقِ الطَّوَافِ وَإِنْ صَحَّ بِلَا طَهَارَةٍ ( «فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ» ) مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ( «غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى تَطْهُرِي» ) بِسُكُونِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ، كَذَا فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُصُولِ، قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقَالَ الْحَافِظُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْهَاءِ الْمُشَدِّدَتَيْنِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَأَصْلُهُ تَتَطَهَّرِي، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: حَتَّى تَغْتَسِلِي، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي نَهْيِ الْحَائِضِ عَنِ الطَّوَافِ لَوْ فَعَلَتْهُ، وَفِي مَعْنَاهَا: الْجُنُبُ وَالْمُحْدِثُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ وَحَمَّادٌ وَمَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ: لَا بَأْسَ بِالطَّوَافِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ
عَلَى قَوْلِ النَّوَوِيِّ: انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الطَّوَافِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي وُجُوبِهَا، وَجَبْرُهُ بِالدَّمِ إِنْ فَعَلَهُ فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ كَمَا تَرَى، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ انْفِرَادَهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، لَكِنْ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لِلطَّوَافِ وَاجِبَةٌ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ يُوَافِقُهُ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْوَلِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ الطَّوَافِ عَلَى الْحَائِضِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِاشْتِرَاطِهَا، فَالْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِهِ عَدَمُ الطَّهَارَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُدُ: لَيْسَتْ شَرْطًا فَالْعِلَّةُ كَوْنُهَا مَمْنُوعَةً مِنَ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ، بَلْ وَمِنْ دُخُولِهِ عَلَى رَأْيٍ، انْتَهَى، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تُهِلُّ) : تُحْرِمُ (بِالْعُمْرَةِ) مِنَ الْمِيقَاتِ (ثُمَّ تَدْخُلُ مَكَّةُ مُوَافِيَةً لِلْحَجِّ) أَيْ مُظِلَّةً عَلَيْهِ وَمُشْرِفَةً يُقَالُ: أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةِ كَذَا، أَيْ شَارَفَهَا، وَأَظَلَّ عَلَيْهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِيهَا (وَهِيَ حَائِضٌ لَا تَسْتَطِيعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ) لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ (إِنَّهَا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (إِذَا خَشِيَتِ الْفَوَاتَ) لِلْحَجِّ بِانْتِظَارِ الطُّهْرِ، وَأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بَعْدَهُ (أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ، وَأَهْدَتْ وَكَانَتْ) أَيْ صَارَتْ قَارِنَةً (مِثْلَ مَنْ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) ابْتِدَاءً (وَأَجْزَأَ عَنْهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ) لِأَنَّهُ الَّذِي عَلَى الْقَارِنِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ (وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إِذَا كَانَتْ قَدْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَصَلَّتْ) رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، ثُمَّ حَاضَتْ (فَإِنَّهَا تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) إِذْ لَيْسَتِ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهِ بِاتِّفَاقٍ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَ مَا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ قَبْلَ السَّعْيِ فَلْتَسْعَ، فَلَعَلَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ (وَتَقِفُ بِعَرَفَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَتَرْمِي الْجِمَارَ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُفِيضُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا) كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: " «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» ".
[بَاب إِفَاضَةِ الْحَائِضِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ حَاضَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَقِيلَ إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ فَقَالَ فَلَا إِذًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
75 -
بَابُ إِفَاضَةِ الْحَائِضِ
942 -
927 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتُكْسَرُ، وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ الْأُولَى، ابْنِ أَخْطَبَ، بِالْفَتْحِ وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ، الْإِسْرَائِيلِيَّةَ مِنْ سِبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ خَيْبَرَ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهَا زَيْنَبَ، فَلَمَّا صَارَتْ مِنَ الصَّفَا سُمِّيَتْ صَفِيَّةَ، وَمَاتَتْ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسِينَ، أَوْ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَغَلِطَ قَائِلُهُ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ لَمْ يَكُنْ وُلِدَ، وَقَدْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَلَهَا نَحْوُ سِتِّينَ لِقَوْلِهَا: مَا بَلَغْتُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً يَوْمَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم.
(حَاضَتْ) بَعْدَ أَنْ فَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ (فَذَكَرْتُ) بِسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ التَّاءِ، مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، أَيْ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَذَكَرْتُ (ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا حَائِضٌ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ (فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا؟) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ مَانِعَتُنَا (هِيَ) مِنَ السَّفَرِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَدْنَاهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ظَنَّهَا لَمْ تَطُفْ لِلْإِفَاضَةِ، وَهُوَ لَا يَتْرُكُهَا وَيُسَافِرُ، وَلَا يَأْمُرُهَا بِالتَّوَجُّهِ مَعَهُ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى إِحْرَامِهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقِيمَ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ، وَتَحِلَّ الْحِلَّ الثَّانِيَ (فَقِيلَ: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ) أَيْ طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَالْقَائِلُ نِسَاؤُهُ كَمَا فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ، وَمِنْهُنَّ صَفِيَّةُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ قَالَ لِصَفِيَّةَ: " «إِنَّكَ لَحَابِسَتُنَا أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: بَلَى» "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ:" «فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهَا حَائِضٌ» " الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهَا طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، فَكَيْفَ يَقُولُ أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمَ، فَكَيْفَ يُرِيدُ وِقَاعَهَا قَبْلَ التَّحَلُّلِ الثَّانِي؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَهُ نِسَاؤُهُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ، فَبَنَى عَلَى أَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ فَلَمَّا قِيلَ إِنَّهَا حَائِضٌ جَوَّزَ وُقُوعَهُ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى مَنْعِهَا فَاسْتَفْهَمَ فَأُعْلِمَ بِطَوَافِهَا.
(فَقَالَ: فَلَا) حَبْسَ عَلَيْنَا (إِذًا) بِالتَّنْوِينِ، أَيْ إِذَا أَفَاضَتْ، لِأَنَّهَا فَعَلَتْ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا.
وَحَدِيثُ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُوَيْسٍ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: " أَتَيْتُ عُمَرَ فَسَأَلْتُهُ
عَنِ الْمَرْأَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ تَحِيضُ، قَالَ: لِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ "، فَقَالَ الْحَارِثُ: كَذَلِكَ أَفْتَانِي.
وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ كَذَلِكَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّ الْحَائِضِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَحَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ الْآتِي.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ بِالْأَمْصَارِ لَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ الَّتِي أَفَاضَتْ طَوَافُ وَدَاعٍ.
وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَمَرَهَا بِالْمُقَامِ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ، فَكَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهُ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، إِذْ لَوْ حَاضَتْ قَبْلَهُ لَمْ تَسْقُطْ، وَثَبَتَ رُجُوعُ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ عَنْ ذَلِكَ، وَبَقِيَ عُمَرُ، فَخَالَفْنَاهُ لِثُبُوتِ حَدِيثِ عَائِشَةَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ الصَّحَابَةُ يَقُولُونَ إِذَا أَفَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فَقَدْ فَرَغَتْ إِلَّا عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَكُونُ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:" طَافَتِ امْرَأَةٌ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ حَاضَتْ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِحَبْسِهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ أَنْ سَافَرَ النَّاسُ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ " وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَحَقُّ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ بِالْبَيْتِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَاخْرُجْنَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
943 -
928 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو (بْنِ حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُهُ شِفَاءٌ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرٍ، وَلِيَ الْقَضَاءَ وَالْإِمْرَةَ وَالْمَوْسِمَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ (عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ) أَيْ فِي أَيَّامِ مِنًى لَيْلَةَ النَّفْرِ مِنْ مِنًى، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا) : تَمْنَعُنَا عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّ هُنَا لَيْسَ لِلتَّرَجِّي، بَلْ لِلِاسْتِفْهَامِ، أَوْ لِلظَّنِّ وَمَا شَاكَلَهُ، أَيْ كَالتَّوَهُّمِ (أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ بِالْبَيْتِ؟) طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ:" أَلَمْ تَكُنْ أَفَاضَتْ؟ "(قُلْنَ: بَلَى) طَافَتْ مَعَنَا، وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ قَالُوا: بَلَى، أَيِ النِّسَاءُ، وَمَنْ مَعَهُنَّ مِنَ الْمَحَارِمِ (قَالَ: فَاخْرُجْنَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: فَاخْرُجِي، خِطَابًا لِصَفِيَّةَ، لِأَنَّهَا كَانَتْ حَاضِرَةً كَمَا فِي مُسْلِمٍ، أَوْ لِعَائِشَةَ لِأَنَّهَا الْمُخْبِرَةُ لَهُ، أَيْ قَالَ لِعَائِشَةَ: اخْرُجِي فَإِنَّهَا تُوَافِقُكِ، أَوْ قَالَ لِعَائِشَةَ: قُولِي لَهَا: اخْرُجِي.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ هُنَا عَنْ يَحْيَى، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْحَيْضِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ إِذَا حَجَّتْ وَمَعَهَا نِسَاءٌ تَخَافُ أَنْ يَحِضْنَ قَدَّمَتْهُنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَفَضْنَ فَإِنْ حِضْنَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَنْتَظِرْهُنَّ فَتَنْفِرُ بِهِنَّ وَهُنَّ حُيَّضٌ إِذَا كُنَّ قَدْ أَفَضْنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
944 -
929
(مَالِكٌ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَخِفَّةِ الْجِيمِ، مَشْهُورٌ بِهَذِهِ الْكُنْيَةِ، وَهِيَ لَقَبٌ، كُنْيَتُهُ فِي الْأَصْلِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ (مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ) أُمِّهِ (عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ إِذَا حَجَّتْ وَمَعَهَا نِسَاءٌ تَخَافُ أَنْ يَحِضْنَ) قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ (قَدَّمَتْهُنَّ يَوْمَ النَّحْرِ، فَأَفَضْنَ) وَاسْتَنْبَطَتْ ذَلِكَ مِنِ اسْتِفْهَامِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ طَوَافِ صَفِيَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ (فَإِنَّ حِضْنَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَنْتَظِرْهُنَّ) لِأَنَّهُنَّ فَعَلْنَ الْوَاجِبَ (تَنْفِرُ بِهِنَّ وَهُنَّ حُيَّضٌ) بِالتَّثْقِيلِ، جَمْعُ حَائِضٍ (إِذَا كُنَّ قَدْ أَفَضْنَ) : طُفْنَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَقَّبَ الْمَرْفُوعَ بِالْمَوْقُوفِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى بَقَاءِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُ احْتِمَالُ النَّسْخِ، بَلْ هُوَ نَاسِخٌ لِمَا أَوْهَمَ خِلَافَهُ كَمَا مَرَّ، وَلِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ كَمَا رَجَعَ زَيْدٌ لِحَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ كَمَا يَأْتِي.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ فَقِيلَ لَهُ قَدْ حَاضَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهَا حَابِسَتُنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ طَافَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا إِذًا قَالَ مَالِكٌ قَالَ هِشَامٌ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ فَلِمَ يُقَدِّمُ النَّاسُ نِسَاءَهُمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُنَّ وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَقُولُونَ لَأَصْبَحَ بِمِنًى أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ امْرَأَةٍ حَائِضٍ كُلُّهُنَّ قَدْ أَفَاضَتْ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
945 -
930 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْأُولَى وَشَدِّ الثَّانِيَةِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ إِرَادَةُ الْوِقَاعِ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ:" وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ "(فَقِيلَ لَهُ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: فَقُلْتُ: (إِنَّهَا قَدْ حَاضَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّهَا حَابِسَتُنَا) : مَانِعَتُنَا مِنَ السَّفَرِ (فَقَالُوا) أَيِ النِّسْوَةُ، وَمَنْ مَعَهُنَّ مِنَ الْمَحَارِمِ بَعْدَ اسْتِفْهَامِهِ عَنْ طَوَافِهَا كَمَا مَرَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ:(يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ طَافَتْ) طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَا) حَبْسَ عَلَيْنَا (إِذًا) بِالتَّنْوِينِ، لِأَنَّهَا فَعَلَتِ الْفَرْضَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: " حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ: مَا أَرَانِي إِلَّا حَابِسَتُكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَقْرَى حَلْقَى، أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْفِرِي "، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: " «لَمَّا أَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ
إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً، فَقَالَ: عَقْرًا حَلْقًا إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْفِرِي» "، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا بَأْسَ انْفِرِي، وَأُخْرَى: اخْرُجِي، وَأُخْرَى: فَلْتَنْفِرْ، وَكُلُّهَا بَيَانٌ لِرِوَايَةِ: فَلَا إِذًا، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا كُلُّهَا: الرَّحِيلُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ: أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ رُكْنٌ، وَأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَا يَجِبُ، وَأَنَّ أَمِيرَ الْحَاجُّ يَلْزَمُهُ تَأْخِيرُ الرَّحِيلِ لِأَجْلِ الْحَائِضِ، قَيَّدَهُ مَالِكٌ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ، وَإِكْرَامُ صَفِيَّةَ بِالِاحْتِبَاسِ كَمَا احْتَبَسَ بِالنَّاسِ عَلَى عَقْدِ عَائِشَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَقْرَى حَلْقَى، بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ثُمَّ السُّكُونِ وَالْقَصْرِ بِلَا تَنْوِينٍ، فِي الرِّوَايَةِ، وَيَجُوزُ لُغَةً التَّنْوِينُ، وَصَوَّبَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالْعَقْرِ وَالْحَلْقِ، كَسَقْيًا وَرَعْيًا مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يُدْعَى بِهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ نَعْتٌ لَا دُعَاءٌ وَمَعْنَاهَا: عَقَرَهَا اللَّهُ، أَيْ جَرَحَهَا، أَوْ جَعَلَهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ، أَوْ عَقَرَ قَوْمَهَا، وَمَعْنَى حَلْقَى: حُلِقَ شَعْرُهَا وَهُوَ زِينَةُ الْمَرْأَةِ، وَأَصَابَهَا وَجَعٌ فِي حَلْقِهَا، أَوْ حَلْقِ قَوْمِهَا، أَيْ أَهْلَكَهُمْ، وَحُكِيَ أَنَّهَا كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْيَهُودُ لِلْحَائِضِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وَضِيعَةِ صَفِيَّةَ عِنْدَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، ثُمَّ اتَّسَعَ الْعَرَبُ فِي قَوْلِهِمَا بِغَيْرِ إِرَادَةِ حَقِيقَتِهِمَا كَمَا قَالُوا: قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَتَرِبَتْ يَدَاكَ وَنَحْوَهُمَا.
وَقَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِ: شَتَّانَ بَيْنِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا لِصَفِيَّةَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِعَائِشَةَ لَمَّا حَاضَتْ فِي الْحَجِّ: هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَيْلِ لَهَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ صَفِيَّةَ، تَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّضَاعِ قَدْرِ صَفِيَّةَ عِنْدَهُ، لَكِنِ اخْتَلَفَ الْكَلَامُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ، فَعَائِشَةُ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَهِيَ تَبْكِي أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهَا مِنَ النُّسُكِ فَسَلَّاهَا بِذَلِكَ، وَصْفِيَّةُ أَرَادَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَأَبْدَتِ الْمَانِعَ فَنَاسَبَ كُلًّا مِنْهُمَا مَا خَاطَبَهَا بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: قَالَ هِشَامٌ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ) الْحَدِيثَ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَمَقُولُهَا هُوَ:(فَلِمَ يُقَدِّمُ النَّاسُ نِسَاءَهُمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُنَّ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَقُولُونَ) مِنْ وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ (لَأَصْبَحَ بِمِنًى أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ امْرَأَةٍ حَائِضٍ كُلُّهُنَّ قَدْ أَفَاضَتْ) وَلِابْنِ وَضَّاحٍ: قَدْ أَفَضْنَ، أَيْ لَوْ كَانَ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبًا، لَأَصْبَحَ بِمِنًى هَذَا الْعَدَدُ يَنْتَظِرْنَ الطُّهْرَ حَتَّى يَطُفْنَ لِلْوَدَاعِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ، وَكَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَكِّيَّ لَيْسَ عَلَيْهِ وَدَاعٌ، وَكَذَا مَنْ حَجَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَمْ يُرِدِ الْخُرُوجَ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ لَكَانَ عَلَى الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَاضَتْ أَوْ وَلَدَتْ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَتْ» قَالَ مَالِكٌ وَالْمَرْأَةُ تَحِيضُ بِمِنًى تُقِيمُ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَفَاضَتْ فَحَاضَتْ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ فَلْتَنْصَرِفْ إِلَى بَلَدِهَا فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَائِضِ قَالَ وَإِنْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ تُفِيضَ فَإِنَّ كَرِيَّهَا يُحْبَسُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَحْبِسُ النِّسَاءَ الدَّمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
946 -
931
(مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: (أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ إِسْمَاعِيلُ (أَخْبَرَهُ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ) بِضَمِّ السِّينِ (بِنْتَ مِلْحَانَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، ابْنِ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، وَالِدَةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، يُقَالُ اسْمُهَا سَهْلَةُ، أَوْ رُمَيْلَةُ، أَوْ رُمَيْثَةُ، أَوْ مُلَيْكَةُ، أَوْ أُنَيْفَةُ مِنَ الصَّحَابِيَّاتِ الْفَاضِلَاتِ (اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَ) قَدْ (حَاضَتْ، أَوْ وَلَدَتْ) شَكَّ الرَّاوِي (بَعْدَمَا أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ) عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ (فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم أَنْ تَخْرُجَ (فَخَرَجَتْ) إِلَى الْمَدِينَةِ بِلَا طَوْفِ وَدَاعٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنْ سُلِّمَ أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا؛ لِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمْ يَسْمَعْ أُمَّ سُلَيْمٍ فَلَهُ شَوَاهِدُ، فَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: اخْتَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الْمَرْأَةِ إِذَا حَاضَتْ، وَقَدْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ زَيْدٌ: يَكُونُ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْفِرُ إِنْ شَاءَتْ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: لَا نُتَابِعُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَنْتَ تُخَالِفُ زَيْدًا، فَقَالَ: سَلُوا صَاحِبَتَكُمْ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ:«حِضْتُ بَعْدَمَا طُفْتُ بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَنِي صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْفِرَ» .
وَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ طَاوُسٍ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ تُصْدِرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، فَقَالَ: إِمَّا لَا فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ هَلْ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؟ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا أُرَاكَ إِلَّا قَدْ صَدَقْتَ.
وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: فَسَأَلَهَا، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: الْحَدِيثُ كَمَا حَدَّثَنِي.
وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَلْ أُمَّ سُلَيْمٍ وَصَوَاحِبَهَا هَلْ أَمَرَهُنَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؟ قَالَ الْحَافِظُ وَقَدْ عُرِفَ بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: أَنَّ الْأَنْصَارِيَّةَ هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَأَمَّا صَوَاحِبُهَا فَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِنَّ، انْتَهَى.
وَفِي هَذَا كُلِّهِ تَعَقُّبٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي عُمَرَ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ؛ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ وَهُمَا مُنْقَطِعَانِ، وَالْمَحْفُوظُ فِي هَذَا حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِقِصَّةِ صَفِيَّةَ، انْتَهَى، وَكَوْنُ حَدِيثِهِ عَنْ عَائِشَةَ بِذَلِكَ مَحْفُوظٌ لَا يَمْنَعُ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثَ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَرْسَلَهُ، كَيْفَ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ بَلْ وَافَقَهُ عِكْرِمَةُ وَطَاوُسٌ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَيْفَ لَا يَعْرِفُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَا فِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَهُمَا فِي يَدِهِ وَقَلْبِهِ؟ إِنَّ لِهَذَا لَعَجَبٌ (قَالَ مَالِكٌ: وَالْمَرْأَةُ تَحِيضُ) قَبْلَ الْإِفَاضَةِ (بِمِنًى تُقِيمُ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَا بُدَّ) لَا فِرَاقَ، وَلَا مَحَالَةَ (لَهَا مِنْ ذَلِكَ) لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ (وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَفَاضَتْ فَحَاضَتْ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، فَلْتَنْصَرِفْ إِلَى بَلَدِهَا) إِنْ شَاءَتْ، بِدُونِ طَوَافِ وَدَاعٍ (فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَائِضِ) لِصَفِيَّةَ، وَغَيْرِهَا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ طَاوُسٍ: رُخِّصَ، بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
وَفِي النَّسَائِيِّ: " «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ» " قَالَ، أَيْ طَاوُسٌ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَنْفِرُ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لَهُنَّ، وَهَذَا مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ.
وَكَذَا مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ حَجَّ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ إِلَّا الْحُيَّضُ رَخَّصَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
فَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ: الْحَائِضُ لَا تَنْفِرُ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: إِنَّهُ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ.
وَلَهُ لِلطَّحَاوِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ طَاوُسٍ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَسْأَلُ عَنِ النِّسَاءِ إِذَا حِضْنَ قَبْلَ النَّفْرِ، وَقَدْ أَفَضْنَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُخْصَةً لَهُنَّ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِ ابْنِ عُمَرَ بِعَامٍ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُقِيمُ عَلَى الْحَائِضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الْوَدَاعِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعَ الْأَمْرَ بِالْوَدَاعِ، وَلَمْ يَسْمَعِ الرُّخْصَةَ، ثُمَّ بَلَغَتْهُ فَعَمِلَ بِهَا.
(قَالَ: وَإِنْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ) أَوْ وَلَدَتْ (بِمِنًى قَبْلَ أَنْ تُفِيضَ، فَإِنَّ كَرِيَّهَا يُحْبَسُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَحْبِسُ النِّسَاءَ الدَّمُ) وَهُوَ نِصْفُ شَهْرٍ فِي الْحَيْضِ، وَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ بِأَنْ فِيهِ تَعَرُّضًا لِلْفَسَادِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَجَابَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ مَعَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، كَمَا أَنَّ مَحِلَّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ، عَنْ جَابِرٍ وَالثَّقَفِيِّ فِي فَوَائِدِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كِلَاهُمَا مَرْفُوعًا:" «أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ: الْمَرْأَةُ تَحُجُّ مَعَ الْقَوْمِ، فَتَحِيضُ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، فَلَيْسَ لِأَصْحَابِهَا أَنْ يُنَفِّرُوهَا حَتَّى يَسْتَأْمِرُوهَا، وَالرَّجُلُ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ، فَيُصَلِّي عَلَيْهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَأْمِرَ أَهْلَهَا» "، لَكِنَّ فِي إِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا ضَعْفًا شَدِيدًا.
[بَاب فِدْيَةِ مَا أُصِيبَ مِنْ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
76 -
بَابُ فِدْيَةِ مَا أُصِيبَ مِنَ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ
947 -
932 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي
الضَّبُعِ) بِضَمِّ الْبَاءِ، لُغَةُ قَيْسٍ، وَسُكُونِهَا، لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهِيَ أُنْثَى، وَقِيلَ: يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَرُبَّمَا قِيلَ فِي الْأُنْثَى ضَبُعَةٌ، بِالْهَاءِ، وَالذَّكَرِ ضِبْعَانُ، وَالْجَمْعُ ضَبَاعِينُ، وَيُجْمَعُ مَضْمُومُ الْبَاءِ عَلَى ضِبَاعٍ، وَسَاكِنُهَا عَلَى أَضْبُعٍ (بِكَبْشٍ) لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْقَدْرِ (وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ) لِلتَّقَارُبِ (وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالنُّونِ، أُنْثَى الْمَعْزِ قَبْلَ كَمَالِ حَوْلٍ (وَفِي الْيَرْبُوعِ) يَفْعُولٌ دُوَيْبَّةٌ نَحْوَ الْفَأْرَةِ، لَكِنْ ذَنَبُهُ وَأُذُنَاهُ أَطْوَلُ مِنْهَا، وَرِجْلَاهُ أَطْوَلُ مِنْ يَدَيْهِ، عَكْسُ الزَّرَافَةِ، وَالْجَمْعُ الْيَرَابِيعُ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ جَرْبُوعٌ، بِالْجِيمِ (بِجَفْرَةٍ) بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَفَاءٍ سَاكِنَةٍ، الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ، وَقِيلَ مِنْهُ وَمِنَ الْمَعْزِ جَمِيعًا، وَقِيلَ مِنَ الْمَعْزِ فَقَطْ.
قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ، لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنَ الْهَدْيِ فِي الْجَزَاءِ إِلَّا مَا يُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا، الثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ فَصَاعِدًا، وَمِنَ الضَّأْنِ الْجَذَعُ فَصَاعِدًا، قَالَ ابْنُ حُبَيْبٍ: فَفِي الْأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ عَنْزٌ مُسِنَّةٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُرَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إِلَى ثُغْرَةِ ثَنِيَّةٍ فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ قَالَ فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ حَتَّى دَعَا رَجُلًا يَحْكُمُ مَعَهُ فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ قَالَ لَا قَالَ فَهَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي فَقَالَ لَا فَقَالَ لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
948 -
933 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُرَيْرٍ) بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ ثُمَّ رَاءٍ بِلَا نَقْطٍ، الْعَبْدِيِّ الْبَصْرِيِّ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَأَنَّ مَالِكًا غَلِطَ فِيهِ بِذِكْرِهِ بِرَاءٍ آخِرَهُ، لِأَنَّ أَبَا الْأَصْمَعِيِّ قُرَيْبٌ بِمُوَحَّدَةٍ آخِرَهُ، فَقَدْ بَيَّنَ صَوَابَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَأَيْضًا فَالْأَصْمَعِيُّ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ سِيرِينَ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: طَرَحَ ابْنُ وَضَّاحٍ اسْمَهُ، وَقَالَ عَنِ ابْنِ قُرَيْرٍ تَبَعًا لِقَوْلِ ابْنِ مَعِينٍ: وَهِمَ مَالِكٌ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: لَمْ يُوهِمْ مَالِكٌ فِي اسْمِهِ، وَلَا فِي اسْمِ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَخُو عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنَا قُرَيْرٍ.
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلًا) قَالَ الْأَصِيلِيُّ: هُوَ قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ الْأَزْدِيُّ، انْتَهَى، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْهُ.
(جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي) لَمْ يُسَمَّ (فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ) نَرْمِي (إِلَى ثُغْرَةِ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ، أَعْلَى (ثَنِيَّةٍ) طَرِيقٌ فِي الْجَبَلِ (فَأَصَبْنَا ظَبْيًا، وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ) بِفَتْحِ اللَّامِ، فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ تَعَالَى تَعَالِيًا ارْتَفَعَ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَالِيَ كَانَ يُنَادِي السَّافِلَ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى هَلُمَّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَوْضِعُ الْمَدْعُوِّ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ أَوْ مُسَاوِيًا، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى خَاصٌّ، ثُمَّ
اسْتُعْمِلَ بِمَعْنًى عَامٍّ.
(حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ) زَادَ الْحَاكِمُ: فَقَالَ عُمَرُ تُرَى شَاةً تَكْفِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ (قَالَ: فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ) أُنْثَى الْمَعْزِ إِذَا أَتَى عَلَيْهَا الْحَوْلُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْعَنْزُ الْأُنْثَى مِنَ الظِّبَاءِ وَالْأَوْعَالِ.
(فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ) اسْتِقْلَالًا (حَتَّى دَعَا) : طَلَبَ (رَجُلًا يَحْكُمُ مَعَهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُفْتِيَكَ حَتَّى سَأَلَ الرَّجُلَ (فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ، فَدَعَاهُ، فَسَأَلَهُ هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا) إِذْ لَوْ قَرَأْتَهَا لَعَلِمَتْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ فِي الصَّيْدِ.
وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ قَبِيصَةَ: فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ ضَرْبًا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيَّ لِيَضْرِبَنِي فَقُلْتُ: إِنِّي لَمْ أَقُلْ شَيْئًا إِنَّمَا قَالَهُ هُوَ فَتَرَكَنِي، وَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: أَرَادَ أَنْ يَعْلُوَهُ فَأَخَذَ الدِّرَّةَ بِيَدِهِ مُرِيدًا ضَرْبَهُ، ثُمَّ تَمَهَّلَ حَتَّى اسْتَفْهَمَهُ عَنِ الْمَائِدَةِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ، فَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ.
(ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ يَحْكُمُ بِهِ) أَيْ بِالْمِثْلِ رَجُلَانِ {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] لَهُمَا فِطْنَةٌ يُمَيِّزَانِ بِهَا أَشْبَهَ الْأَشْيَاءِ بِهِ (هَدْيًا) حَالٌ مِنْ جَزَاءٌ {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] أَيْ يَبْلَغُ بِهِ الْحَرَمَ فَيُذْبَحُ بِهِ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِهِ، وَنُصِبَ نَعْتًا لِمَا قَبْلَهُ وَإِنْ أُضِيفَ، لِأَنَّ إِضَافَتَهُ لَفْظِيَّةٌ لَا تُفِيدُ تَعْرِيفًا.
(وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) أَحَدُ الْعَشَرَةِ، فَمَقَامُهُ فِي الْعَدَالَةِ مَعْلُومٌ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: أَرَدْتَ أَنْ تَقْتُلَ الْجَزَاءَ، وَتَتَعَدَّى فِي الْفُتْيَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فِي الْإِنْسَانِ عَشَرَةَ أَخْلَاقٍ، تِسْعَةٌ حَسَنَةٌ وَوَاحِدٌ سَيِّئٌ فَيُفْسِدُهَا ذَلِكَ السَّيِّئُ، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكَ وَعَثَرَاتِ اللِّسَانِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْبَقَرَةِ مِنْ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ وَفِي الشَّاةِ مِنْ الظِّبَاءِ شَاةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
949 -
934 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَقُولُ: فِي الْبَقَرَةِ مِنَ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ) لِأَنَّهَا تُمَاثِلُهَا، وَقَدْ حَكَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ فِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ، وَحِمَارِهِ بِبَقَرَةٍ (وَفِي الشَّاةِ)
الصَّغِيرَةِ (مِنَ الظِّبَاءِ شَاةٌ) تُمَاثِلُهَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي حَمَامِ مَكَّةَ إِذَا قُتِلَ شَاةٌ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَفِي بَيْتِهِ فِرَاخٌ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ فَيُغْلَقُ عَلَيْهَا فَتَمُوتُ فَقَالَ أَرَى بِأَنْ يَفْدِيَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ فَرْخٍ بِشَاةٍ قَالَ مَالِكٌ لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ فِي النَّعَامَةِ إِذَا قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ بَدَنَةً قَالَ مَالِكٌ أَرَى أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ عُشْرَ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ كَمَا يَكُونُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ وَقِيمَةُ الْغُرَّةِ خَمْسُونَ دِينَارًا وَذَلِكَ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ النُّسُورِ أَوْ الْعِقْبَانِ أَوْ الْبُزَاةِ أَوْ الرَّخَمِ فَإِنَّهُ صَيْدٌ يُودَى كَمَا يُودَى الصَّيْدُ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ فَفِي صِغَارِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي كِبَارِهِ وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ دِيَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
950 -
935 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي حَمَامِ مَكَّةَ إِذَا قُتِلَ: شَاةٌ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُهَا فِي الْعَبِّ، وَبِهِ حَكَمَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ مَكَّةَ وَاسْتِئْنَاسِ الْحَمَامِ فِيهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى قَاتِلِهِ إِلَّا عَدْلُهُ مِنْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ لِغَيْرِ مَكَّةَ، لَكَثُرَ قَتْلُهُ فِيهَا.
(وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ وَفِي بَيْتِهِ فِرَاخٌ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ فَيُغْلَقُ) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَكَسْرُهَا لُغَةٌ قَلِيلَةٌ (عَلَيْهَا فَتَمُوتُ، فَقَالَ: أَرَى بِأَنْ يَفْدِيَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ فَرْخٍ بِشَاةٍ) لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي مَوْتِهَا بِالْغَلْقِ (قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ فِي النَّعَامَةِ إِذَا قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ بَدَنَةً) لِأَنَّهَا تُقَارِبُهَا فِي الْقَدْرِ وَالصُّورَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ عُشْرَ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ، كَمَا يَكُونُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ غُرَّةٌ) بِضَمِّ الْغَيْنِ وَشَدِّ الرَّاءِ (عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ) أَيْ أَمَةٌ، بَيَانٌ لِغُرَّةٍ (وَقِيمَةُ الْغُرَّةِ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَذَلِكَ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ) لِأَنَّهَا خَمْسُمِائَةٍ (وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ النُّسُورِ) جَمْعُ نَسْرٍ، طَائِرٌ مَعْرُوفٌ (أَوِ الْعِقْبَانِ) بِمُوَحَّدَةٍ، جَمْعُ عُقَابٍ، طَائِرٌ مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَعْقُبٍ (أَوِ الْبُزَاةِ) جَمْعُ بَازِي كَقُضَاةٍ وَقَاضِي، ضَرْبٌ مِنَ الصُّقُورِ (أَوِ الرَّخَمِ) جَمْعُ رَخَمَةٍ كَقَصَبٍ وَقَصَبَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِضَعْفِهِ عَنِ الِاصْطِيَادِ (فَإِنَّهُ صَيْدٌ يُودَى كَمَا يُودَى الصَّيْدُ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ) أَوْ فِي الْحَرَمِ (وَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ فَفِي صِغَارِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي كِبَارِهِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ) بِفَتْحَتَيْنِ، صِفَةٌ، أَيْ قِيَاسُ (ذَلِكَ مَثَلُ دِيَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ)
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ مِثْلُ الصَّحِيحِ، وَالْقَبِيحُ مِثْلُ الْجَمِيلِ، وَالْأُنْثَى مِثْلُ الذَّكَرِ.
[بَاب فِدْيَةِ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ الْجَرَادِ وَهُوَ مُحْرِمٌ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أَصَبْتُ جَرَادَاتٍ بِسَوْطِي وَأَنَا مُحْرِمٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَطْعِمْ قَبْضَةً مِنْ طَعَامٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
77 -
بَابُ فِدْيَةِ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنَ الْجَرَادِ وَهُوَ مُحْرِمٌ
952 -
936 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنِّي أَصَبْتُ جَرَادَاتٍ) جَمْعُ جَرَادَةٍ، وَالْجَرَادُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، سُمِّي بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْرُدُ الْأَرْضَ، أَيْ يَأْكُلُ مَا عَلَيْهَا (بِسَوْطِي وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَطْعِمْ قَبْضَةً) بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالضَّمُّ لُغَةٌ، أَيْ حَفْنَةً (مِنْ طَعَامٍ) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ فِي الْجَرَادِ قِيمَتَهُ، وَفِي الْوَاحِدَةِ قَبْضَةٌ، أَيْ حَفْنَةٌ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ جَرَادَاتٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ فَقَالَ كَعْبٌ دِرْهَمٌ فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ إِنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ لَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
953 -
937 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَسَأَلَهُ عَنْ جَرَادَةٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٍ، فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ) بْنِ مَاتِعٍ الْمَعْرُوفِ بِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: (تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ فَقَالَ كَعْبٌ: دِرْهَمٌ، فَقَالَ عُمَرُ) لِكَعْبٍ: (إِنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ) حَتَّى تُعْطِيَ مِنْهَا دِرْهَمًا (لَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ) مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورَةِ، يَعْنِي: فَإِنَّمَا فِيهَا قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَإِلَى احْتِيَاجِهِ لِحُكُومَةٍ، ذَهَبَ ابْنُ الْمَوَّازِ قَالَ: فَإِنْ أَخْرَجَ بِغَيْرِ حُكُومَةٍ أَعَادَ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: أَنَّ الْجَرَادَ لَا حُكُومَةَ فِيهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ كَعْبٍ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّهُ نَثْرَةُ حُوتٍ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ.
[بَاب فِدْيَةِ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ «أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا فَآذَاهُ الْقَمْلُ فِي رَأْسِهِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَقَالَ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
78 -
بَابُ فِدْيَةِ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ
954 -
938 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالزَّايِ، أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِيَ أُمَيَّةَ الْحِرَّانِيِّ وَثَّقَهُ الْأَئِمَّةُ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ ثَبَتٌ.
وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّ حَدِيثَهُ عَنْ عَطَاءٍ رَدِيٌّ، قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ عَنَى بِذَلِكَ حَدِيثَ عَائِشَةَ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُهَا، وَلَا يَتَوَضَّأُ» "، قَالَ: وَإِذَا رَوَى الثِّقَاتُ عَنْهُ فَأَحَادِيثُهُ مُسْتَقِيمَةٌ، وَأَنْكَرَ يَحْيَى الْقَطَّانُ حَدِيثَهُ عَنْ عَطَاءٍ فِي لَحْمِ الْبَغْلِ، لَكِنِ احْتَجَّ بِهِ السِّتَّةُ، وَكَفَى بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ تَوْثِيقًا، قَالَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى: لَا نُبَالِي أَنْ نَسْأَلَ عَنْ مَنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ، وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا شُعْبَةُ وَالسُّفْيَانَانِ، وَقَالَا: إِنَّهُ ثِقَةٌ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ بِحَرَّانَ.
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) كَذَا لِيَحْيَى وَأَبِي مُصْعَبٍ وَابْنِ بُكَيْرٍ وَالْقَعْنَبِيِّ وَمُطَرِّفٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَعْنٍ وَسَعِيدِ بْنِ عُفَيْرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُصْعَبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ الصُّورِيِّ.
وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَنْ أَسْقَطَ مُجَاهِدًا فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ لَمْ يَلْقَ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَلَا رَآهُ، وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَالِكًا هُوَ الَّذِي وَهِمَ فِي إِسْقَاطِ مُجَاهِدٍ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْقَعْنَبِيَّ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ بِإِثْبَاتِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَنْهُ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
(عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، ابْنِ أُمَيَّةَ الْبَلَوِيِّ، حَلِيفِ الْأَنْصَارِ، شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَنَزَلَتْ فِيهِ قِصَّةُ الْفِدْيَةِ، وَسَكَنَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ.
(أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا) بِالْحُدَيْبِيَةِ (فَأَذَاهُ الْقَمْلُ فِي رَأْسِهِ) وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ: " «وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا» "، وَفِي رِوَايَةٍ:" «وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي» "، وَلِأَحْمَدَ:" «وَقَعَ الْقَمْلُ فِي رَأْسِي وَلِحْيَتِي حَتَّى حَاجِبِي وَشَارِبِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ أَصَابَكَ بَلَاءٌ» " وَلِلطَّبَرَانِيِّ: " «إِنَّ هَذَا لَأَذًى، قُلْتُ: شَدِيدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ (فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ) » أَيْ يُزِيلَ شَعْرَهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِمُوسَى أَوْ مِقَصٍّ أَوْ نُورَةٍ ( «وَقَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) كَمَا بَيَّنَ قَوْلَهُ: (أَوْ صَدَقَةٍ)(سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) بِقَوْلِهِ: ( «أَوْ أَطْعِمْ
سِتَّةَ مَسَاكِينَ» ) الْمُرَادُ بِهِمْ مَا يَشْمَلُ الْفُقَرَاءُ (مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ) بِالتَّكْرِيرِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ التَّثْنِيَةِ (لِكُلِّ إِنْسَانٍ) مِنْهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ:" «لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ» "، وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَالْجُمْهُورِ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، فَإِنَّهُ بِفَتْحَتَيْنِ وَتُسَكَّنُ الرَّاءُ أَيْضًا: مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَلِأَحْمَدَ: نِصْفُ صَاعِ طَعَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ، وَلِمُسْلِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ: نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: نِصْفُ صَاعِ زَبِيبٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْأَحْكَامِ إِذَا خَالَفَ، وَالْمَحْفُوظُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ رِوَايَةُ التَّمْرِ، لِأَنَّهَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا عَلَى رَاوِيهَا، قَالَ: وَعُرِفَ بِذَلِكَ قُوَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ.
(أَوِ انْسُكْ) أَيْ تَقَرَّبْ (بِشَاةٍ) تَذْبَحُهَا (أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ) صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّعْبِيرِ بَأَوِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّخْيِيرِ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ.
حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
955 -
939 - (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ) الْمَكِّيِّ الْأَعْرَجِ الْقَارِيِّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ سَعْدٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ كَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ لَكِنِ احْتَجَّ بِهِ السِّتَّةُ، وَكَفَى بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ (عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ) كُنْيَةُ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، الْمَخْزُومِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَكِّيِّ، ثِقَةٌ إِمَامٌ فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الْعِلْمِ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَلِيَحْيَى بْنِ الْحَجَّاجِ، وَهُوَ خَطَأٌ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ الْحَجَّاجُ، فَالصَّوَابُ أَبِي بِأَدَاةِ الْكُنْيَةِ (عَنْ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ (بْنِ أَبِي لَيْلَى) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثُمَّ الْكُوفِيِّ، ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ عُمَرَ، مَاتَ بِوَقْعَةِ الْجَمَاجِمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، قِيلَ إِنَّهُ غَرِقَ (عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) لَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ مَعَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِهِ:( «لَعَلَّكَ أَذَاكَ هَوَامُّكَ» ) بِشَدِّ الْمِيمِ، جَمْعُ هَامَّةٍ، بِشَدِّهَا، وَهِيَ الدَّابَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْقَمْلُ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، لِأَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى مَا يَدِبُّ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ كَالْحَشَرَاتِ وَالْقَمْلِ (فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) آذَانِي ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احْلِقْ» ) بِكَسْرِ اللَّامِ (رَأْسَكَ) : أَزِلْ شَعْرَهُ ( «وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ» ) مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ
كَمَا فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ (أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ) أَيْ تَقَرَّبْ بِهَا، وَهَذَا دَمُ تَخْيِيرٍ اسْتُفِيدَ بِأَوِ الْمُكَرَّرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، وَمَرَّ فِي السَّابِقِ: أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ فَانْسُكْ نَسِيكَةً، وَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَطْعِمُ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ:" أَوِ انْسُكْ مَا تَيَسَّرَ "، وَلَهُمَا أَيْضًا:" «أَتَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا» "، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] قَالَ: " «فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً» "، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَالْآيَةَ وَرَدَتْ لِلتَّخْيِيرِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّاةِ، أَمَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِئُ إِلَّا لِعَادِمِ الْهَدْيِ، بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ النُّسُكِ، فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ عَدِمَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ بِسُوقِ الْبُرَمِ بِالْكُوفَةِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَنْفُخُ تَحْتَ قِدْرٍ لِأَصْحَابِي وَقَدْ امْتَلَأَ رَأْسِي وَلِحْيَتِي قَمْلًا فَأَخَذَ بِجَبْهَتِي ثُمَّ قَالَ احْلِقْ هَذَا الشَّعَرَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَنْسُكُ بِهِ» قَالَ مَالِكٌ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى إِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَفْتَدِي حَتَّى يَفْعَلَ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَى صَاحِبِهَا وَأَنَّهُ يَضَعُ فِدْيَتَهُ حَيْثُ مَا شَاءَ النُّسُكَ أَوْ الصِّيَامَ أَوْ الصَّدَقَةَ بِمَكَّةَ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ قَالَ مَالِكٌ لَا يَصْلُحُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَنْتِفَ مِنْ شَعَرِهِ شَيْئًا وَلَا يَحْلِقَهُ وَلَا يُقَصِّرَهُ حَتَّى يَحِلَّ إِلَّا أَنْ يُصِيبَهُ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ وَلَا يَقْتُلَ قَمْلَةً وَلَا يَطْرَحَهَا مِنْ رَأْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَلَا مِنْ جِلْدِهِ وَلَا مِنْ ثَوْبِهِ فَإِنْ طَرَحَهَا الْمُحْرِمُ مِنْ جِلْدِهِ أَوْ مِنْ ثَوْبِهِ فَلْيُطْعِمْ حَفْنَةً مِنْ طَعَامٍ قَالَ مَالِكٌ مَنْ نَتَفَ شَعَرًا مِنْ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ إِبْطِهِ أَوْ اطَّلَى جَسَدَهُ بِنُورَةٍ أَوْ يَحْلِقُ عَنْ شَجَّةٍ فِي رَأْسِهِ لِضَرُورَةٍ أَوْ يَحْلِقُ قَفَاهُ لِمَوْضِعِ الْمَحَاجِمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا إِنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ وَمَنْ جَهِلَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ افْتَدَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
956 -
940 - (مَالِكٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ) كَانَ فَاضِلًا عَالِمًا بِالْقُرْآنِ عَامِلًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَإِدْخَالُهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ رَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ: قَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَلِمَالِكٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ هَذَا ثَانِيهَا (أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ بِسُوقِ الْبُرَمِ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، جَمْعُ بُرْمَةٍ، وَهِيَ الْقِدْرُ مِنَ الْحَجَرِ (بِالْكُوفَةِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا الشَّيْخَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِيِ لَيْلَى، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ فِي التَّابِعِينَ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِيهِ عَطَاءٌ: شَيْخٌ، وَأَظُنُّ قَائِلَ ذَلِكَ لَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ كُوفِيٌّ وَأَنَّهُ الَّذِي يَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ كَعْبٍ ظَنَّ أَنَّهُ هُوَ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ، عَنْ كَعْبٍ، وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الشَّيْخُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَطَاءٌ، فَهُوَ كُوفِيٌّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْقَاهُ عَطَاءٌ، وَهُوَ أَشْبَهُ عِنْدِي، انْتَهَى.
وَرِوَايَةُ ابْنِ مَعْقِلٍ، وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ، فِي الصَّحِيحَيْنِ:(عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ (وَأَنَا أَنْفُخُ تَحْتَ قِدْرٍ لِأَصْحَابِي) وَفِي رِوَايَةٍ: قِدْرٍ لِي، وَفِي رِوَايَةٍ: تَحْتَ بُرْمَةٍ لِي، فَبَيَّنَ أَنَّ الْقِدْرَ بُرْمَةٌ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ إِضَافَتِهِ لَهُ تَارَةً، وَلِأَصْحَابِهِ أُخْرَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (وَقَدِ امْتَلَأَ رَأْسِي وَلِحْيَتِي قَمْلًا) زَادَ أَحْمَدُ: حَتَّى
حَاجِبِي وَشَارِبِي ( «فَأَخَذَ بِجَبْهَتِي ثُمَّ قَالَ: احْلِقْ هَذَا الشَّعَرَ» ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " فَدَعَا الْحَلَّاقُ فَحَلَقَ رَأْسَهُ "( «وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ» ) مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ (وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ) بِقَوْلِهِ لِي: أَتَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا (إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَنْسُكُ بِهِ) فَلَمْ يَأْمُرْنِي بِهِ، فَلَا يُخَالِفُ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّاةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: " فَحَلَقْتُ رَأْسِي، وَنَسَكْتُ "، وَلَهُ وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ تَدُورُ عَلَى نَافِعٍ، قَالَ:" «فَحَلَقَ فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَهْدِيَ بَقَرَةً» "، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى نَافِعٍ فِي الْوَاسِطَةِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبٍ، وَعَارَضَهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ كَعْبٌ، وَفَعَلَهُ إِنَّمَا هُوَ شَاةٌ، بَلْ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: لَفْظُ بَقَرَةٍ مُنْكَرٌ شَاذٌّ، ثُمَّ لَا يُعَارِضُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ سَأَلَهُ: أَتَجِدُ شَاةً؟ قَالَ: لَا، لِاحْتِمَالٍ أَنَّهُ وَجَدَهَا بَعْدَمَا أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَا يَجِدُهَا فَنَسَكَ بِهَا.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قَالَ: فَحَلَقْتُ وَصُمْتُ فَإِمَّا أَنَّهَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، أَوْ أَنَّهُ فَعَلَ الصَّوْمَ أَيْضًا بِاجْتِهَادِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِمُجْمَلِ الْقُرْآنِ، لِإِطْلَاقِ الْفِدْيَةِ فِيهِ وَتَقْيِيدِهَا بِالسُّنَّةِ، وَحُرْمَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ عَنِ الْمُحْرِمِ وَالرُّخْصَةِ لَهُ فِي حَلْقِهَا إِذَا أَذَاهُ الْقَمْلُ، أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْجَاعِ، وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْعَامِدِ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنَّ إِيجَابَهَا عَلَى الْمَعْذُورِ مِنَ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَأَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ لِعُذْرٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَتَخَيَّرُ الْعَامِدُ بَلْ يَتَعَيَّنُ الدَّمُ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: إِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَفْتَدِي حَتَّى يَفْعَلَ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَأَنَّهُ يَضَعُ فِدْيَتَهُ حَيْثُمَا شَاءَ) بِزِيَادَةِ مَا (النُّسُكَ أَوِ الصِّيَامَ أَوِ الصَّدَقَةَ بِمَكَّةَ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ) زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِقَوْلِهِ: حَيْثُ شَاءَ، بِخِلَافِ جَزَاءِ الصَّيْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) وَالْإِطْلَاقِ فِي آيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) وَلَمَّا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُجْمَلَهَا فِي أَحَادِيثِ كَعْبٍ لَمْ يُقَيِّدْ بِمَكَّةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ (قَالَ مَالِكٌ: لَا يَصْلُحُ لِلْمُحْرِمِ) أَيْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ ضِدِّ الْفَسَادِ، وَهُوَ حَرَامٌ (أَنْ يَنْتِفَ مِنْ شَعَرِهِ شَيْئًا وَلَا يَحْلِقَهُ) : يُزِيلَهُ بِمُوسَى، أَوْ
مِقَصٍّ أَوْ نُورَةٍ (وَلَا يُقَصِّرَهُ حَتَّى يَحِلَّ إِلَّا أَنْ يُصِيبَهُ أَذًى فِي رَأْسِهِ) كَقَمْلٍ، وَصُدَاعٍ (فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى) بِقَوْلِهِ:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: " فِيَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً "، وَفِي لَفْظِ:" فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ خَاصَّةً، ثُمَّ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً "، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ لِأَصَحِّ قَوْلَيْ مَالِكٍ: إِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
(وَلَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ) لِأَنَّهُ إِزَالَةُ أَذًى، أَوْ تَرَفُّهٌ (وَلَا يَقْتُلَ قَمْلَةً) وَاحِدَةً، وَأَوْلَى مَا زَادَ (وَلَا يَطْرَحَهَا مِنْ رَأَسِهِ إِلَى الْأَرْضِ) قَيْدٌ (وَلَا مِنْ جِلْدِهُ) جَسَدِهِ (وَلَا مِنْ ثَوْبِهِ، فَإِنْ طَرَحَهَا الْمُحْرِمُ مِنْ جِلْدِهِ، أَوْ مِنْ ثَوْبِهِ، فَلْيُطْعِمْ حَفْنَةً مِنْ طَعَامٍ) أَيْ مِلْءَ يَدٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لُغَةً مِلْءَ الْيَدَيْنِ.
(قَالَ مَالِكٌ: مَنْ نَتَفَ شَعَرًا مَنْ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ إِبِطِهِ، أَوِ اطَّلَى) بِشَدِّ الطَّاءِ، افْتَعَلَ (جَسَدَهَ بِنُورَةٍ) بِضَمِّ النُّونِ، حَجَرُ الْكَاسِ، ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى أَخْلَاطٍ تُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ زِرْنِيخٍ وَغَيْرِهِ، يُسْتَعْمَلُ لِإِزَالَةِ الشَّعَرِ (أَوْ يَحْلِقُ عَنْ شَجَّةِ رَأْسِهِ لِضَرُورَةٍ، أَوْ يَحْلِقُ قَفَاهُ لِمَوْضِعِ الْمَحَاجِمِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا إِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ، وَمَنْ جَهِلَ) وَفِي نُسْخَةٍ: نَسِيَ (فَحَلَقَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ افْتَدَى) لِأَنَّهُ أَلْقَى التَّفَثَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، وَقَدْ أُمِرَ كَعْبٌ بِالْفِدْيَةِ فِي الْحَلْقِ قَبْلَ مَحِلِّهِ لِضَرُورَتِهِ، فَكَيْفَ بِالْجَاهِلِ وَالنَّاسِي.
[بَاب مَا يَفْعَلُ مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا قَالَ أَيُّوبُ لَا أَدْرِي قَالَ تَرَكَ أَوْ نَسِيَ قَالَ مَالِكٌ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ هَدْيًا فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِمَكَّةَ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ نُسُكًا فَهُوَ يَكُونُ حَيْثُ أَحَبَّ صَاحِبُ النُّسُكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
79 -
بَابُ مَا يَفْعَلُ مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا
957 -
941 - (مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ) كَيْسَانَ (السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ.
(قَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي قَالَ تَرَكَ أَوْ نَسِيَ) يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ أَحَدَهُمَا: فَأَوْ لِلشَّكِّ لَا لِلتَّنْوِيعِ.
(قَالَ مَالِكٌ: مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ) الدَّمِ (هَدْيًا، فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِمَكَّةَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95)(وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ نُسُكًا، فَهُوَ يَكُونُ حَيْثُ أَحَبَّ صَاحِبُ النُّسُكِ) لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ هَدْيًا.
[بَاب جَامِعِ الْفِدْيَةِ]
قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْبَسَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ يُقَصِّرَ شَعَرَهُ أَوْ يَمَسَّ طِيبًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِيَسَارَةِ مُؤْنَةِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ قَالَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أُرْخِصَ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِدْيَةُ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْفِدْيَةِ مِنْ الصِّيَامِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ النُّسُكِ أَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ وَمَا النُّسُكُ وَكَمْ الطَّعَامُ وَبِأَيِّ مُدٍّ هُوَ وَكَمْ الصِّيَامُ وَهَلْ يُؤَخِّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَمْ يَفْعَلُهُ فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَذَا أَوْ كَذَا فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ أَيَّ شَيْءٍ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَعَلَ قَالَ وَأَمَّا النُّسُكُ فَشَاةٌ وَأَمَّا الصِّيَامُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَمَّا الطَّعَامُ فَيُطْعِمُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ بِالْمُدِّ الْأَوَّلِ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَالِكٌ وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ إِذَا رَمَى الْمُحْرِمُ شَيْئًا فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ الصَّيْدِ لَمْ يُرِدْهُ فَقَتَلَهُ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ وَكَذَلِكَ الْحَلَالُ يَرْمِي فِي الْحَرَمِ شَيْئًا فَيُصِيبُ صَيْدًا لَمْ يُرِدْهُ فَيَقْتُلُهُ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٌ قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يُصِيبُونَ الصَّيْدَ جَمِيعًا وَهُمْ مُحْرِمُونَ أَوْ فِي الْحَرَمِ قَالَ أَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ جَزَاءَهُ إِنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَدْيِ فَعَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ وَإِنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالصِّيَامِ كَانَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ الصِّيَامُ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَوْمُ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ خَطَأً فَتَكُونُ كَفَّارَةُ ذَلِكَ عِتْقَ رَقَبَةٍ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ أَوْ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ قَالَ مَالِكٌ مَنْ رَمَى صَيْدًا أَوْ صَادَهُ بَعْدَ رَمْيِهِ الْجَمْرَةَ وَحِلَاقِ رَأْسِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُفِضْ إِنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَ ذَلِكَ الصَّيْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَمَنْ لَمْ يُفِضْ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مَسُّ الطِّيبِ وَالنِّسَاءِ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيمَا قَطَعَ مِنْ الشَّجَرِ فِي الْحَرَمِ شَيْءٌ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا حَكَمَ عَلَيْهِ فِيهِ بِشَيْءٍ وَبِئْسَ مَا صَنَعَ قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَجْهَلُ أَوْ يَنْسَى صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أَوْ يَمْرَضُ فِيهَا فَلَا يَصُومُهَا حَتَّى يَقْدَمَ بَلَدَهُ قَالَ لِيُهْدِ إِنْ وَجَدَ هَدْيًا وَإِلَّا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَهْلِهِ وَسَبْعَةً بَعْدَ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
80 -
بَابُ جَامِعِ الْفِدْيَةِ
(قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي) : لَا يَجُوزُ (لَهُ أَنْ يَلْبَسَهَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَوْ يُقَصِّرَ شَعْرَهُ، أَوْ يَمَسَّ طِيبًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِيَسَارَةِ مُؤْنَةِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ، قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ) إِذْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ الذَّنْبَ وَيُكَفِّرَ (وَإِنَّمَا أُرْخِصَ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِدْيَةُ) إِلَّا أَنْ ذَا الْعُذْرِ لَا يَأْثَمُ، وَغَيْرُهُ آثِمٌ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْفِدْيَةِ مِنَ الصِّيَامِ، أَوِ الصَّدَقَةِ، أَوِ النُّسُكِ أَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ؟) وَلَوْ عَامِدًا بِلَا ضَرُورَةٍ (وَمَا النُّسُكُ؟ وَكَمِ الطَّعَامُ وَبِأَيِّ مُدٍّ هُوَ؟) بِالْمُدِّ النَّبَوِيِّ أَمْ مُدِّ هِشَامٍ؟ (وَكَمِ الصِّيَامُ؟ وَهَلْ يُؤَخِّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَمْ يَفْعَلُهُ فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَذَا، أَوْ كَذَا) بِأَوْ (فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ، أَيَّ شَيْءٍ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَعَلَ) وَقَدْ جَاءَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ بِأَوْ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، «وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ» " رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، وَرْوَرَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ (قَالَ: وَأَمَّا النُّسُكُ فَشَاةٌ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِكَعْبٍ: " أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ "، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَكْفِي فِي النُّسُكِ، فَأَعْلَى مِنْهَا أَوْلَى فِي الْكِفَايَةِ مِنْ بَقَرٍ أَوْ إِبِلٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ.
(وَأَمَّا الصِّيَامُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَمَّا الطَّعَامُ فَيُطْعِمُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: مُدَّيْنِ مَفْعُولُ يُطْعِمُ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ فَهُوَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ (بِالْمُدِّ الْأَوَّلِ مُدِّ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَارُودِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: " كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُدِّ الْأَوَّلِ، وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ: قَالَ لَنَا مَالِكٌ: مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ، وَلَا نَرَى الْفَضْلَ إِلَّا فِي مُدِّ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ لَنَا مَالِكٌ: لَوْ جَاءَ أَمِيرٌ فَضَرَبَ مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ؟ قُلْتُ: كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَفَلَا تُرَى أَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ غَرِيبٌ مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا أَبُو قُتَيْبَةَ، وَهُوَ سَلْمٌ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَلَا عَنْهُ إِلَّا الْمُنْذِرُ، وَقَوْلُهُ: أَفَلَا تُرَى. . . إِلَخْ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَمْدَادُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ، وَالْحَادِثُ، وَهُوَ الْهِشَامِيُّ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثُ الْمَفْرُوضُ وُقُوعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، وَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ الَّذِي تَحَقَّقَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ لِنَقْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَهُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ بِمِثْلِ هَذَا إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَسَمِعَتْ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِذَا رَمَى الْمُحْرِمُ فَأَصَابَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ لَمْ يُرِدْهُ) الْمُحْرِمُ الرَّامِي (فَقَتَلَهُ إِنَّ) بِالْكَسْرِ، مَقُولُ الْقَوْلِ (عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ، وَكَذَلِكَ الْحَلَالُ يَرْمِي فِي الْحَرَمِ شَيْئًا، فَيُصِيبُ صَيْدًا لَمْ يُرِدْهُ) الرَّامِي (فَيَقْتُلُهُ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ) فِي الْفِدْيَةِ، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ وَالْإِتْلَافُ مَضْمُونٌ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ لَكِنَّ الْعَامِدَ آثِمٌ بِخِلَافِ الْمُخْطِئِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ سَلَفًا، وَخَلَفًا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي الْعَمْدِ وَإِنَّهُ آثِمٌ بِقَوْلِهِ:{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95](سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 95) وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مِنْ أَحْكَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَأِ أَيْضًا.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يُصِيبُونَ الصَّيْدَ جَمِيعًا وَهُمْ مُحْرِمُونَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) أَوْ فِي الْحَرَمِ (وَهُمْ حَلَالٌ، قَالَ: أَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ جَزَاؤُهُ إِنْ) بِالْكَسْرِ، اسْتِئْنَافٌ (حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَدْيِ، فَعَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ، وَإِنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالصِّيَامِ كَانَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمُ الصِّيَامُ) بِبَدَلِ ذَلِكَ، أَوْ إِطْعَامٌ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِطْعَامٌ وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ اكْتِفَاءً (وَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَوْمُ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ خَطَأً، فَتَكُونُ كَفَّارَةُ ذَلِكَ عِتْقَ رَقَبَةٍ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، أَوْ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ) لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ مِثْلَ قَتْلِ الْخَطَأِ، فَيَكُونُ اسْتَدَلَّ بِالْقِيَاسِ (قَالَ مَالِكٌ: مَنْ رَمَى صَيْدًا، أَوْ صَادَهُ بَعْدَ رَمْيِهِ الْجَمْرَةَ، وَحِلَاقِ رَأْسِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُفِضْ) : لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (إِنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَ ذَلِكَ الصَّيْدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى، قَالَ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَمَنْ لَمْ يُفِضْ) : لَمْ يَحِلَّ الْحِلَّ الْأَكْبَرَ (فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ)
مِنَ الْمَمْنُوعِ (مَسُّ الطِّيبِ وَالنِّسَاءِ) الْأَوَّلُ كَرَاهَةً، وَالثَّانِي تَحْرِيمًا كَالصَّيْدِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي إِبَاحَتِهِ فِي الْآيَةِ الْإِحْلَالَ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيمَا قَطَعَ مِنَ الشَّجَرِ فِي الْحَرَمِ شَيْءٌ) لَا جَزَاءَ وَلَا غَيْرَهُ سِوَى الْحُرْمَةِ، فَيَتُوبَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَةِ فَتْحِ مَكَّةَ:" «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً» "، فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ جَزَاءٍ، وَلَا غَيْرِهِ، وَالْكَفَّارَاتُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا.
(وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا حَكَمَ عَلَيْهِ فِيهِ بِشَيْءٍ وَبِئْسَ مَا صَنَعَ) لِارْتِكَابِ الْحُرْمَةِ، فَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ (قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَجْهَلُ أَوْ يَنْسَى صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أَوْ يَمْرَضُ فِيهَا، فَلَا يَصُومُهَا حَتَّى يَقْدَمَ) بِفَتْحِ الدَّالِ (بَلَدَهُ قَالَ: لِيُهْدِ إِنْ وُجِدَ هَدْيًا، وَإِلَّا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَهْلِهِ وَسَبْعَةً بَعْدَ ذَلِكَ) لِأَنَّ الصِّيَامَ بِكُلِّ مَكَانٍ سَوَاءٌ.
[بَاب جَامِعِ الْحَجِّ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ بِمِنًى وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْحَرْ وَلَا حَرَجَ ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ قَالَ فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
81 -
بَابُ جَامِعِ الْحَجِّ
959 -
942 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ مَالِكٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ (عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ) بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ التَّيْمِيِّ الْمَدَنِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ، ثِقَةٌ فَاضِلٌ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَأَبُوهُ طَلْحَةُ أَحَدُ الْعَشَرَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ الْعَاصِي) بِالْيَاءِ وَحَذْفِهَا، وَالْإِثْبَاتُ أَصَحُّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ: « (أَنَّهُ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) عَلَى نَاقَتِهِ» كَمَا فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَيُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَمَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، فَرِوَايَةُ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ مَالِكٍ: جَلَسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَامَ رَجُلٌ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَكِبَ نَاقَتَهُ، وَجَلَسَ عَلَيْهَا (لِلنَّاسِ بِمِنًى) زَادَ التِّنِّيسِيُّ وَالنَّيْسَابُورِيُّ وَغَيْرُهُمَا: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَقَفَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، وَأُخْرَى: فَخَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ عِيَاضٌ: جَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ، وَمَعْنَى خَطَبَ أَيْ عَلَّمَ النَّاسَ لَا أَنَّهَا مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ الْمَشْرُوعَةِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ ذَلِكَ فِي مَوْطِنَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، وَلَمْ يُقَلْ فِي هَذَا خُطَبٌ.
وَالثَّانِي: يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْخُطْبَةِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ يُعَلِّمُ الْإِمَامُ فِيهَا النَّاسَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ، وَصَوَّبَ النَّوَوِيُّ هَذَا الثَّانِي.
قَالَ الْحَافِظُ: فَإِنْ قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو وَابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي خَطَبَ فِيهِ مِنَ النَّهَارِ، قُلْنَا: نَعَمْ، لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، لَكِنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ بَعْضَ السَّائِلِينَ قَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ الزَّوَالِ لِإِطْلَاقِ الْمَسَاءِ عَلَى مَا بَعْدَهُ فَكَأَنَّ السَّائِلَ عَلِمَ أَنَّ السُّنَّةَ رَمْيُ الْجَمْرَةِ ضُحًى، فَلَمَّا أَخَّرَهَا إِلَى الزَّوَالِ سَأَلَ عَنْهُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَمْرٍو مَخْرَجُهُ وَاحِدٌ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ غَايَتُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، وَاجْتَمَعَ مِنْ مَرْوِيِّهِمْ، وَمَرْوِيِّ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَخْطُبُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّهَا الْخُطْبَةُ الْمَشْرُوعَةُ لِتَعَلُّمِ بَقِيَّةِ الْمَنَاسِكِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ خَطَبَ مَجَازًا عَنْ مُجَرَّدِ التَّعْلِيمِ بَلْ هِيَ حَقِيقِيَّةٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ رَمَاهَا، فَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ، فَذَكَرَ خُطْبَتَهُ» " فَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ أَفَاضَ، وَرَجَعَ إِلَى مِنًى، انْتَهَى.
وَقَالَ الْأُبِّيُّ: تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ خُطْبَةً.
(وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ: فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، وَأُخْرَى فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ (فَجَاءَهُ رَجُلٌ) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ، وَلَا عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِمَّنْ سَأَلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَكَانُوا جَمَاعَةً، لَكِنْ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ: كَانَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ، فَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي عَدَمِ ضَبْطِ أَسْمَائِهِمْ (فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، أَيْ أَفْطَنْ، يُقَالُ: شَعُرْتُ بِالشَّيْءِ شُعُورًا إِذَا فَطِنْتَ لَهُ، وَقِيلَ: الشُّعُورُ: الْعِلْمُ، وَلَمْ يُفْصِحْ فِي رِوَايَةٍ مَالِكٍ بِمُتَعَلِّقِ الشُّعُورِ، وَبَيَّنَهُ يُونُسُ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: لَمْ أَشْعُرْ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ الْحَلْقِ (فَحَلَقْتُ) شَعْرَ رَأْسِي (قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ) وَفِي رِوَايَةٍ: قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، وَالْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ، جَعَلَ الْحَلْقَ مُسَبَّبًا عَنْ عَدَمِ
الشُّعُورِ كَأَنَّهُ يَعْتَذِرُ لِتَقْصِيرِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْحَرْ) وَفِي رِوَايَةٍ: اذْبَحْ (وَلَا حَرَجَ) قَالَ عِيَاضٌ: لَيْسَ أَمْرًا بِالْإِعَادَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِبَاحَةٌ لِمَا فَعَلَ، لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ أَمْرٍ فُرِغَ مِنْهُ، فَالْمَعْنَى: افْعَلْ ذَلِكَ مَتَى شِئْتَ، وَنَفْيُ الْحَرَجِ بَيِّنٌ فِي رَفْعِ الْفِدْيَةِ عَنِ الْعَامِدِ وَالسَّاهِي، وَفِي رَفْعِ الْإِثْمِ عَنِ السَّاهِي، وَأَمَّا الْعَامِدُ، فَالْأَصْلُ أَنَّ تَارِكَ السُّنَّةِ عَمْدًا لَا يَأْثَمُ إِلَّا أَنْ يَتَهَاوَنَ، فَيَأْثَمَ لِلتَّهَاوُنِ لَا لِلتُّرْكِ.
(ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ) : أَفْطِنْ، أَوْ أَعْلَمْ، زَادَ يُونُسُ: أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَّحْرِ (فَنَحَرْتُ) الْهَدْيَ (قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ) الْجَمْرَةَ (قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ) أَيْ لَا ضِيقَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ:" وَقَالَ آخَرُ: أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ "، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ زِيَادَةُ الْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ، فَحَاصِلُ مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو السُّؤَالُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَالنَّحْرِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالْإِفَاضَةِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالْأُولَيَانِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا السُّؤَالُ عَنِ الْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَفِي حَدِيثٍ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ: السُّؤَالُ عَنِ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ وَفِي حَدِيثِهِ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ: وَالسُّؤَالُ عَنِ الرَّمْيِ وَالْإِفَاضَةِ مَعًا قَبْلَ الْحَلْقِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ: السُّؤَالُ عَنِ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ: السُّؤَالُ عَنِ السَّعْيِ قَبْلَ الطَّوَافِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، ثُمَّ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ، أَيِ الرُّكْنِ، فَهَذَا مَا تَحَذَّرَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ، وَبَقِيَ عِدَّةُ صُوَرٍ لَمْ يَذْكُرْهَا الرُّوَاةُ إِمَّا اخْتِصَارًا، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ، وَبَلَغَتْ بِالتَّقْسِيمِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ صُورَةً مِنْهَا صُورَةُ التَّرْتِيبِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَهِيَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ نَحْرُ الْهَدْيِ أَوْ ذَبْحُهُ، ثُمَّ الْحَلْقُ، أَوِ التَّقْصِيرُ ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى، فَنَحَرَ، وَقَالَ لِلْحَالِقِ: جُزَّ " وَلِأَبِي دَاوُدَ: " رَمَى ثُمَّ نَحَرَ ثُمَّ حَلَقَ» "، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَطْلُوبِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَهْمِ اسْتَثْنَى الْقَارِنَ، فَقَالَ: لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَطُوفَ، كَأَنَّهُ لَاحَظَ أَنَّهُ فِي عَمَلِ الْعُمْرَةِ وَالْعُمْرَةُ يَتَأَخَّرُ فِيهَا الْحَلْقُ عَنِ الطَّوَافِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْإِجْزَاءِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفُوا فِي الدَّمِ، فَأَوْجَبَهُ مَالِكٌ فِي تَقْدِيمِ الْإِفَاضَةِ عَلَى الرَّمْيِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَتِهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَلَا يَلْزَمُ بِزِيَادَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي ابْنِ شِهَابٍ، وَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ فِي تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ شَيْءٍ مِنَ التَّحَلُّلِ.
وَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي كُلِّ الْمُخَالَفَةِ، وَتَأَوَّلَ: لَا حَرَجَ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ، لِأَنَّهُ فُعِلَ عَلَى الْجَهْلِ لَا
الْقَصْدِ فَأُسْقِطَ الْحَرَجُ، وَعُذْرُهُمْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِ السَّائِلِ: لَمْ أَشْعُرْ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى الْجَوَازِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الدَّمِ فِي شَيْءٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ (قَالَ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: ( «فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ» ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: يَوْمَئِذٍ (عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ، وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ) عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ وَالْفِدْيَةِ وَالدَّمِ، لِأَنَّ اسْمَ الضِّيقِ يَشْمَلُ ذَلِكَ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ لِمَنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَيْ كَالسَّائِلِينَ، قَالَ: وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ الْمُخَالَفَةَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ وُجُوبَهَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَمْ يُسْقِطِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَرَجَ، وَقَدْ أَجْزَأَ الْفِعْلُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، لَأَنَّ الْجَهْلَ وَالنِّسْيَانَ لَا يَضَعَانِ الْحُكْمَ اللَّازِمَ فِي الْحَجِّ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الرَّمْيَ وَنَحْوَهُ، فَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، لَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، قَالَ: وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَلَا حَرَجَ، عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فَقَطْ، ثُمَّ يَخُصُّ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ، فَلْيَكُنْ فِي الْجَمِيعِ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مَعَ تَعْمِيمِ الشَّارِعِ الْجَمِيعَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ - كَذَا قَالَ - وَجَوَابُهُ: إِنَّ مَالِكًا خَصَّ مِنَ الْعُلُومِ تَقْدِيمَ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ، فَأَوْجَبَ فِيهِ الْفِدْيَةَ لِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ إِلْقَاءُ التَّفَثِ قَبْلَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ التَّحَلُّلِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمَرِيضِ، أَوْ مَنْ بِرَأْسِهِ أَذًى إِذَا حَلَقَ قَبْلَ مَحِلِّ الْحَلْقِ، مَعَ جَوَازِ ذَلِكَ لَهُ لِضَرُورَتِهِ، فَكَيْفَ بِالْجَاهِلِ وَالنَّاسِي؟ وَخَصَّ مِنْهُ أَيْضًا تَقْدِيمَ الْإِفَاضَةِ عَلَى الرَّمْيِ لِئَلَّا يَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى النِّسَاءِ وَالصَّيْدِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ:" «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ زِيَادَةُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَلَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي ابْنِ شِهَابٍ، وَمَحَلُّ قَبُولِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْ لَمْ يَزِدْهَا أَوْثَقَ مِنْهُ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ الَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَإِنْ كَانَ صَدُوقًا، وَرَوَى لَهُ الشَّيْخَانِ، لَكِنَّهُ يُخْطِئُ بَلْ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ فِي تَضْعِيفِهِ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَتَكَلَّمُ فِيهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: إِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا، فَلَا لِقَوْلِهِ: لَمْ أَشْعُرْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَوْ وَجَبَ لَمَا سَقَطَ بِالسَّهْوِ، كَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ السَّعْيِ وَالطَّوَافِ، إِذْ لَوْ سَعَى قَبْلَهُ وَجَبَتْ إِعَادَةُ السَّعْيِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا قَالَهُ أَحْمَدُ قَوِيٌّ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ لِقَوْلِهِ:" «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» "، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرَخَّصَةُ قَدْ قُرِنَتْ بِقَوْلِ السَّائِلِ: لَمْ أَشْعُرْ، فَيَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَبْقَى حَالَةُ الْعَمْدِ عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ فِي الْحَجِّ، وَأَيْضًا الْحُكْمُ إِذَا رُتِّبَ عَلَى وَصْفٍ يُمْكِنُ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ لَمْ يَجُزْ طَرْحُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الشُّعُورِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ، فَلَا يُمْكِنُ طَرْحُهُ بِإِلْحَاقِ الْعَمْدِ بِهِ إِذْ لَا يُسَاوِيهِ، وَالتَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: فَمَا سُئِلَ. . . إِلَخْ، لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَاعًى جَوَابُهُ، إِنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ مِنَ الرَّاوِي يَتَعَلَّقُ بِمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ
وَهُوَ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَةِ السَّائِلِ، وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصَّيْنِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ حُجَّةٌ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ، انْتَهَى.
وَفِيهِ وُجُوبُ اتِّبَاعِ أَفْعَالِهِ، لِأَنَّ الَّذِينَ خَالَفُوهُ لَمَّا عَلِمُوا سَأَلُوا عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ وَجَوَازِ سُؤَالِ الْعَالِمِ وَاقِفًا وَرَاكِبًا، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ كَرَاهَةِ ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ فِي الطَّرِيقِ، لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِمِنًى لَا يُعَدُّ مِنَ الطُّرُقِ، لِأَنَّهُ مَوْقِفُ عِبَادَةٍ وَذَكَرَ وَوَقَّتَ - حَاجَةً إِلَى التَّعَلُّمِ خَوْفَ الْفَوَاتِ - إِمَّا بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْعِلْمِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَهُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
960 -
943 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ) بِقَافٍ ثُمَّ فَاءٍ، بِزِنَةٍ رَجَعَ، وَمَعْنَاهُ:( «مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ» ) اللَّهَ تَعَالَى (عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ فَاءٍ، أَيْ مَكَانٍ عَالٍ (مِنَ الْأَرْضِ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ: إِذَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ، أَيِ ارْتَفَعَ عَلَى ثَنِيَّةٍ، بِمُثَلَّثَةٍ فُنُونٍ فَتَحْتِيَّةٍ، هِيَ الْعَقَبَةُ، وَفَدْفَدٌ بِفَتْحِ الْفَاءَيْنِ بَعْدَ كُلِّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ، الْأَشْهُرُ أَنَّهُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ، وَقِيلَ: الْفَلَاةُ الْخَالِيَةُ مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: غَلِيظُ الْأَوْدِيَةِ ذَاتِ الْحَصَى.
(ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجْهُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ هُوَ نَدْبُ الذِّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْأَحْوَالِ وَالتَّقَلُّبَاتِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُرَاعِي ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: مُنَاسَبَتُهُ أَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ مَحْبُوبٌ لِلنَّفْسِ، وَفِيهِ ظُهُورٌ وَغَلَبَةٌ، فَيَنْبَغِي لِلْمُتَلَبِّسِ بِهِ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ، وَيَسْتَمْطِرُ مِنْهُ الْمَزِيدَ.
(ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ بِلَا، أَوْ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ الْمُقَدَّرِ، أَوْ مِنِ اسْمِ لَا بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ قَبْلَ دُخُولِهَا (وَحْدَهُ) حَالٌ، أَيْ مُنْفَرِدٌ (لَا شَرِيكَ لَهُ) عَقْلًا لِاسْتِحَالَتِهِ، وَنَقْلًا:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163](سُورَةُ الْبَقَرَةِ الْآيَةُ: 163) فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِوَحْدَهُ، لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا لَا شَرِيكَ لَهُ (لَهُ الْمُلْكُ) بِضَمِّ الْمِيمِ، السُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ وَأَصْنَافُ الْمَخْلُوقَاتِ (وَلَهُ الْحَمْدُ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ:" «يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ» "(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ) قَالَ الْحَافِظُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِهَذَا الذِّكْرِ عَقِبَ التَّكْبِيرِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُكْمِلُ الذِّكْرَ مُطْلَقًا، ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّسْبِيحِ إِذَا هَبَطَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي تَعْقِيبِ التَّكْبِيرِ بِالتَّهْلِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ
بِإِيجَادِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ.
(آيِبُونَ) بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نَحْنُ آيِبُونَ، جَمْعُ آيِبٍ بِوَزْنِ رَاجِعٍ، وَمَعْنَاهُ: أَيْ رَاجِعُونَ إِلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارُ بِمَحْضِ الرُّجُوعِ، فَإِنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، بَلِ الرُّجُوعُ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ تَلَبُسُهُمْ بِالْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالِاتِّصَافِ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ (تَائِبُونَ) مِنَ التَّوْبَةِ، وَهِيَ الرُّجُوعُ عَمَّا هُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا إِلَى مَا هُوَ مَحْمُودٌ شَرْعًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَهُ صلى الله عليه وسلم تَوَاضُعًا، أَوْ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ، أَوِ الْمُرَادُ أُمَّتُهُ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ التَّوْبَةُ لِإِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ.
( «عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» ) كُلُّهَا رَفْعٌ بِتَقْدِيرِ: نَحْنُ، وَقَوْلُهُ: لِرَبِّنَا مُتَعَلِّقٌ بِسَاجِدُونَ، أَوْ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ.
(صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ) فِيمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ بِقَوْلِهِ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20](سُورَةُ الْفَتْحِ: الْآيَةُ 20) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55](سُورَةُ النُّورِ: الْآيَةُ: 55) الْآيَةَ.
وَهَذَا فِي سَفَرِ الْغَزْوِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قَوْلُهُ:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27](سُورَةُ الْفَتْحِ: الْآيَةُ 27)(وَنَصَرَ عَبْدَهُ) مُحَمَّدًا، صلى الله عليه وسلم (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا سَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ وَفِعْلَهُ خَلْقٌ لِرَبِّهِ، وَالْكُلُّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُبِيدَ الْكُفَّارَ بِلَا قِتَالٍ لَفَعَلَ، وَفِيهِ التَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قِيلَ الْأَحْزَابُ هُنَا: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، الَّذِينَ تَحَزَّبُوا، أَيْ تَجَمَّعُوا فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَنَزَلَ فِيهِمْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ أَحْزَابُ الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ وَالْمَوَاطِنِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ قِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ، إِنَّمَا شُرِعَ مِنْ بَعْدِ الْخَنْدَقِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ غَزَوَاتِهِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا بِنَفْسِهِ مَحْصُورَةٌ، وَالْمُطَابِقُ مِنْهَا لِذَلِكَ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25](سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 25) وَقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلَنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9](سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 9) الْآيَةَ.
وَأَصْلُ الْحِزْبِ: الْقِطْعَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنَ النَّاسِ، فَاللَّامُ إِمَّا جِنْسِيَّةٌ، أَيْ كُلُّ مَنْ تَحَزَّبَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا عَهْدِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ: مَنْ تَقَدَّمَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أَيِ اللَّهُمَّ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
ثُمَّ ظَاهَرُ الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ قَوْلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَفَرٍ طَاعَةً كَصِلَةِ رَحِمٍ، وَطَلَبِ عِلْمٍ لِمَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنِ اسْمِ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الصَّحَابِيُّ عَلَى الثَّلَاثِ لِانْحِصَارِ سَفَرِهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، وَقِيلَ: يَتَعَدَّى أَيْضًا إِلَى السَّفَرِ الْمُبَاحِ، لِأَنَّ الْمُسَافِرَ فِيهِ لَا ثَوَابَ لَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا يُحَصِّلُ لَهُ الثَّوَابَ
وَقِيلَ: يُشْرَعُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ مُرْتَكِبَهَا أَحْوَجُ إِلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ مَنْ غَيْرِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا يَخُصُّهُ بِسَفَرِ الطَّاعَةِ لَا يُمْنَعُ مَنْ سَافَرَ فِي مُبَاحٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي خُصُوصِ هَذَا الذِّكْرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الِاخْتِصَاصِ لِكَوْنِهَا عِبَادَاتٍ مَخْصُوصَةً، شُرِعَ لَهَا ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ، فَتُخْتَصُّ بِهِ كَالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عَقِبَ الْأَذَانِ، وَعَقِبَ الصَّلَاةِ، انْتَهَى.
وَفِيهِ جَوَازُ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنِ الْمُتَكَلَّفِ، لِأَنَّهُ يَشْغَلُ عَنِ الْإِخْلَاصِ، وَيَقْدَحُ فِي النِّيَّةِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ.
وَفِيهِ الدَّعَوَاتُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَيُّوبُ وَالضَّحَّاكُ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِيَ فِي مِحَفَّتِهَا فَقِيلَ لَهَا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَتْ بِضَبْعَيْ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
961 -
944 - (مَالِكٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ) بِالْقَافِ، ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الْأَسَدِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا السُّفْيَانَانِ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَآخَرُونَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثِقَةٌ حُجَّةٌ أَسَنُّ مِنْ أَخِيهِ مُوسَى، وَمُحَمَّدٌ أَسَنُّ مِنْهُ، وَسَمِعَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَهِيَ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ، وَزَعَمَ ابْنُ مَعِينٍ أَنَّهُمْ مَوَالِيهَا، لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ مَوَالِي آلِ الزُّبَيْرِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِي الْمُوَطَّأِ، مَرْفُوعًا، هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ (عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) مُرْسَلًا، عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ وَوَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ وَأَبُو مُصْعَبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، فَزَادُوا (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةٍ) وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا» "(وَهِيَ فِي مِحَفَّتِهَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحُكِيَ فِي الْمَشَارِقِ الْكَسْرُ، وَالْفَتْحُ بِلَا تَرْجِيحٍ شِبْهُ الْهَوْدَجِ إِلَّا أَنَّهُ لَا قُبَّةَ عَلَيْهَا.
(فَقِيلَ لَهَا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَتْ بِضَبْعَيْ صَبِيٍّ) بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنَ، مُثَنًّى، وَهُمَا بَاطِنَا السَّاعِدِ (كَانَ مَعَهَا) وَلِأَبِي دَاوُدَ: فَفَزِعَتِ امْرَأَةٌ، فَأَخَذَتْ بِعُضْوِ صَبِيٍّ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ مِحَفَّتِهَا، وَهُوَ بِكَسْرِ الزَّايِ، أَيْ ذُعِرَتْ خَوْفًا أَنْ يَفُوتَهَا الْمُصْطَفَى وَيَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا سُؤَالُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَزَعِ هُنَا: الِاسْتِغَاثَةُ، وَالِالْتِجَاءُ، أَيِ اسْتَغَاثَتْ بِهِ، أَوْ بَادَرَتْ أَوْ قَصَدَتْهُ.
( «فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ» ) لَهُ حَجَّ وَزَادَهَا عَلَى السُّؤَالِ (وَلَكِ أَجْرٌ) تَرْغِيبًا لَهَا.
قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَجْرُ لَهَا فِيمَا تَتَكَلَّفُهُ مِنْ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ وَتَعْلِيمِهِ وَتَجْنِيبِهِ مَا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ.
وَقَالَ عُمَرُ وَكَثِيرُونَ: إِنَّ الصَّبِيَّ يُثَابُ وَتُكْتَبُ حَسَنَاتُهُ دُونَ السَّيِّئَاتِ.
وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ، أَوْ إِنَّمَا الْمُخَاطَبُ الْوَلِيُّ بِحَمْلِهِ عَلَى أَدَبِ الشَّرِيعَةِ لِلتَّمْرِينِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَدَّخِرُ لِلصَّبِيِّ ثَوَابَ مَا عَمِلَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّبِيُّ الَّذِي يُحْرِمُ عَنْهُ الْوَلِيُّ، الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ الْوَلِيُّ الَّذِي لَهُ النَّظَرُ فِي مَالِهِ مِنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ قَاضٍ أَوْ نَاظِرٍ، وَلَا يَصِحُّ إِحْرَامُ الْأُمِّ عَنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً أَوْ مُقَدَّمَةً مِنَ الْقَاضِي، وَقِيلَ: يَصِحُّ إِحْرَامُهَا وَإِحْرَامُ الْعُصْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَظَرٌ فِي الْمَالِ نَقَلَهُ الْأُبِّيُّ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، رحمه الله.
قَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّةِ الْإِحْرَامِ عَنْهُ مُطْلَقًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الصَّبِيَّ كَانَ مُمَيِّزًا فَأَحْرَمَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يُمَيِّزْ، فَلَعَلَّ لَهُ وَلِيًّا أَحْرَمَ عَنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا الَّتِي أَحْرَمَتْ فَلَعَلَّهَا وَلِيَّةُ مَالٍ، وَفِيهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى اسْتِفْتَاءِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَخْذِ عَنْهُمْ قَبْلَ فَوَاتِهِمْ، وَجَوَازُ رُكُوبِ الْمِحَفَّةِ وَالْمَحْمِلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ الرُّكُوبَ عَلَى الْقَتَبِ فِي حَقِّ مَنْ أَطَاقَهُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَحْمِلَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجِّ بِالصِّغَارِ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ قَرْنٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَحُجُّ بِهِمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُشْتَغَلُ بِهِ، وَلَا يُعْرَجُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ الْحَجِّ بِالصِّبْيَانِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ، بَلْ هُوَ مَرْدُودٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ انْعِقَادُ حَجِّ الصَّبِيِّ، وَصِحَّتُهُ، وَوُقُوعُهُ نَفْلًا، وَإِنَّهُ مُثَابٌ عَلَيْهِ فَيَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْكَبِيرُ مِمَّا يَمْنَعُهُ الْإِحْرَامُ، وَيَلْزَمُهُ مِنَ الْفِدْيَةِ وَالْهَدْيِ مَا يَلْزَمُهُ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْعَقِدُ، وَإِنَّمَا يُجَنَّبُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَفْعَلُ لِلتَّمْرِينِ لِيَفْعَلَهُ إِذَا بَلَغَ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ، وَتَأَوَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ لِلتَّمْرِينِ، وَاحْتِمَالُ أَنَّ الصَّبِيَّ كَانَ بَالِغًا لَا يَصِحُّ إِذْ لَا فَائِدَةَ لِقَوْلِهَا: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ عَلَى أَنَّهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ صُرِّحَ بِأَنَّهُ صَغِيرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رَفْعُهَا لَهُ، إِذْ لَا يُرْفَعُ الْكَبِيرُ، وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا فَأَخَذَتْ بِضَبْعَيْ صَبِيٍّ وَهِيَ فِي مِحَفَّةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ مِحَفَّتِهَا.
قَالَ عِيَاضٌ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِذَا بَلَغَ عَنْ حَجَّةِ الْفَرْضِ، إِلَّا فِرْقَةً شَذَّتْ، فَقَالَتْ: يُجْزِئُهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتِ الْعُلَمَاءُ إِلَى قَوْلِهَا.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ دَاوُدَ فِي الْمَمْلُوكِ الْبَالِغِ إِذَا حَجَّ قَبْلَ عِتْقِهِ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ دُونَ الصَّبِيِّ، وَفَرَّقَ بِخِطَابِ الْمَمْلُوكِ عِنْدَهُ بِهِ وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُخَاطَبُ بِالْحَجِّ، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْفَرْضِ كَالصَّبِيِّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، وَابْنِ وَهْبٍ وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
مُصْعَبٍ، الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ مُتَّصِلًا، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِي اتِّصَالِهِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ كِلَاهُمَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مَوْصُولًا، وَأَخُوهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، رَوَاهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُتَّصِلًا، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مُرْسَلًا، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمَوْصُولًا فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ عَنْهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ كَمَا اخْتُلِفَ عَلَى مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْ مَالِكٍ وَشَيْخِهِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَإِنَّ الرُّوَاةَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ الْقَاسِمِ، فَرَوَاهُ سَحْنُونُ عَنْهُ عَنْ مَالِكٍ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْهُ عَنْ مَالِكٍ مُتَّصِلًا، فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مَالِكٍ بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِالْوَجْهَيْنِ مِنْ طَرِيقِ السُّفْيَانَيْنِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ تَرَكَ تَخْرِيجَهُ فِي صَحِيحِهِ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ وَصَلَ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَسْنَدَهُ، فَقَوْلُهُ أَوْلَى وَأَصَحُّ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مُسْنَدٌ ثَابِتُ الِاتِّصَالِ لَا يَضُرُّهُ تَقْصِيرُ مَنْ قَصَّرَ بِهِ لِأَنَّ الَّذِينَ أَسْنَدُوهُ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ، انْتَهَى. وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَصَحَّحَ وَصْلَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
962 -
945 - (مَالِكٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَاسْمُهُ شِمْرٌ، بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، ابْنُ يَقْظَانَ الْعَقِيلِيُّ، ثُمَّ الشَّامِيُّ يُكَنَّى أَبَا إِسْمَاعِيلَ ثِقَةٌ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ أَنَسًا وَأَبُو أُمَامَةَ وَوَائِلَةَ، سَكَنَ الشَّامَ وَبِهَا مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ أَوْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، لِمَالِكٍ عَنْهُ، مَرْفُوعًا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (ابْنِ كَرِيزٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَزَايٍ مَنْقُوطَةٍ، الْخُزَاعِيِّ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، يُكَنَّى أَبَا الْمُطَرِّفِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَوَهِمَ مَنْ ظَنِّهِ أَحَدَ الْعَشَرَةِ لِأَنَّهُ تَيْمِيٌّ، وَاسْمُ جَدِّهِ عُثْمَانُ، وَهَذَا خُزَاعِيٌّ، وَجَدُّهُ كَرِيزٌ، فَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ، وَزَعَمَ ابْنُ الْحَذَّاءِ أَنَّهُ مِنَ الْغَرَائِبِ الَّتِي لَمْ يُوجَدْ لَهَا إِسْنَادٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ مِنْ قُصُورِهِ الشَّدِيدِ، فَقَدْ وَصَلَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا رُئِيَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (الشَّيْطَانُ يَوْمًا) أَيْ فِي يَوْمٍ (هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ) أَيْ أَذَلُّ (وَلَا أَدْحَرُ) بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَبِالرَّاءِ مُهْمَلَاتٍ، أَيْ أَبْعَدُ عَنِ الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى:(مَدْحُورًا)(سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 18) أَيْ مُبْعَدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (وَلَا أَحْقَرُ) : أَذَلُّ وَأَهْوَنُ عِنْدَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ النَّاسِ حَقِيرٌ أَبَدًا (وَلَا أَغْيَظُ) : أَشَدُّ غَيْظًا مُحِيطًا بِكَبِدِهِ، وَهُوَ
أَشَدُّ الْحَنَقِ (مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ) أَيِ الْمَلَائِكَةِ النَّازِلِينَ بِهَا عَلَى الْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - لَا يُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى الرَّحْمَةَ نَفْسَهَا، وَلَعَلَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ تَبْسُطُ أَجْنِحَتَهَا بِالدُّعَاءِ لِلْحَاجِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: غُفِرَ لِهَؤُلَاءِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَعَلِمَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِالرَّحْمَةِ، وَرُؤْيَتُهُ الْمَلَائِكَةَ لِلْغَيْظِ لَا لِلْإِكْرَامِ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيُّ (وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ) الْكَبَائِرِ الَّتِي زَيَّنَهَا لَهُمْ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَكَانَ يَوَدُّ أَنْ يُهْلِكَهُمْ بِهَا وَانْتِقَالَهُمْ مِنْهَا إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهَا كَمَا قِيلَ بَرِيدُهُ؛ فَيَخْلُدُوا فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ مِثْلَهُ (إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ) أَوَّلُ غَزْوَةٍ وَقَعَ فِيهَا الْقِتَالُ، وَكَانَتْ فِي ثَانِيَةِ الْهِجْرَةِ (قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ (إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالزَّايِ الْمَنْقُوطَةِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ يَصِفُّ (الْمَلَائِكَةَ) لِلْقِتَالِ وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فِي الصَّفِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا يَزَعُ النَّفْسُ اللَّحُوحُ عَنِ الْهَوَى
…
مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَافِرَ الْعَقْلِ كَامِلُهُ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَكُفُّهُمْ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ لَوْ رَأَى ذَلِكَ لَأَحَبَّهُ، وَلَكِنَّهُ رَآهُ يُعَبِّيهِمْ لِلْقَتَّالِ، وَالْمُعَبِّي يُسَمَّى وَازِعًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17](سُورَةُ النَّمْلِ: الْآيَةُ 17) أَيْ يَحْبِسُ أَوَّلَهَمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَفِيهِ فَضْلُ الْحَجِّ وَشُهُودُ عَرَفَةَ وَسِعَةُ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ.
وَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبِيدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو وَيَتَجَلَّى ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ» " وَلِأَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا» "، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ:" «مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاجِّينَ جَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَلَمْ يَرَوْا عِقَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمًا أَكْثَرُ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» "، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ:" «فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ فُلَانًا فِيهِمْ، وَهُوَ مُرْهَقٌ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: قَدْ غَفَرْتُ لَهُ» ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
963 -
946
(مَالِكٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ) مَيْسَرَةَ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ الْعَابِدِ (مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ) بِتَحْتِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ (ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ) الْقُرَشِيِّ الْمَخْزُومِيِّ الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ) الْخُزَاعِيِّ، فَكَافُهُ مَفْتُوحَةٌ، وَأَمَّا بِضَمِّهَا فَفِي عَبْدِ شَمْسٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِهِ، وَلَا أَحْفَظُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَحَادِيثُ الْفَضَائِلِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى مُحْتَجٍّ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ مُسْنَدًا مِنْ حَدِيثٍ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ أُخْرِجَ حَدِيثُ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ وَحَدِيثَ ابْنُ عَمْرٍو:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ أَعْظَمُهُ ثَوَابًا، وَأَقْرَبُهُ إِجَابَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَوْمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْحَاجَّ خَاصَّةً ( «وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي» ) وَلَفْظُ حَدِيثِ عَلِيٍّ:«أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَةَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) زَادَ فِي حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ» ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ يُحْيِي وَيُمِيتُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُرِيدُ أَنَّهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَفْضَلَ مَا دَعَا بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي تَفْضِيلِ الْأَذْكَارِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَالنَّبِيُّونَ يَدْعُونَ بِأَفْضَلَ الدُّعَاءِ، قَالَ: وَفِيهِ تَفْضِيلُ الدُّعَاءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَالْأَيَّامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَالتَّقْوَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَفْضَلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الشُّكْرِ وَفِيهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ مَا فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَافْتَتَحَ اللَّهُ كَلَامَهُ بِهِ وَخَتَمَ بِهِ، وَهُوَ آخِرُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَرَوَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ بِمَا قَالَتْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَسَاقَ جُمْلَةً مِنْهَا فِي التَّمْهِيدِ، وَقَدَّمَ الْإِمَامُ هَذَا الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدَّمْتُ ثَمَّةَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَجْرِيدِ الصِّحَاحِ لِرَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْأَنْدَلُسِيِّ زِيَادَةٌ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ هِيَ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةٍ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ. . . إِلَخْ
قَالَ الْحَافِظُ: حَدِيثٌ لَا أَعْرِفُ حَالَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ صَحَابِيَّهُ، وَلَا مَنْ خَرَّجَهُ بَلْ أَدْرَجَهُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ هَذَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُوطَّآتِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ احْتُمِلَ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّبْعِينَ التَّحْدِيدَ أَوِ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَثْرَةِ، وَعَلَى
كُلِّ حَالٍ مِنْهَا تَثْبُتُ الْمَزِيَّةُ، انْتَهَى.
وَفِي الْهَدْيِ لِابْنِ الْقِيَمِ: مَا اسْتَفَاضَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ أَنَّ وَقْفَةَ الْجُمُعَةِ تَعْدِلُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَجَّةٍ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، انْتَهَى.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اقْتُلُوهُ» قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
964 -
947 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، لَهُ فِي الْمُوَطَّأِ مَرْفُوعًا مِائَةٌ وَأَحَدٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا مِنْهَا:(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) الْأَنْصَارِيِّ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ هَذَا ثَالِثُهَا: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ» ) فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ (وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ ثُمَّ رَاءٍ، قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: مَا يُجْعَلُ مِنْ فَضْلِ دِرْعِ الْحَدِيدِ عَلَى الرَّأْسِ مِثْلُ الْقَلَنْسُوَةِ.
وَقَالَ فِي التَّمْهِيدِ: مَا غَطَّى الرَّأْسَ مِنَ السِّلَاحِ كَالْبَيْضَةِ وَشِبْهِهَا مِنْ حَدِيدٍ كَانَ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ زَادَ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ: مِنْ حَدِيدٍ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَهُ غَيْرَهُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَإِلَّا فَقَدَ رَوَاهُ خَارِجَهُ عَشَرَةٌ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ جَابِرٍ: " «دَخَلَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ» "، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ عَنْ مَالِكٍ، وَلَا مُعَارِضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ، لِإِمْكَانِ أَنَّ الْمِغْفَرَ فَوْقَ الْعِمَامَةِ، انْتَهَى. أَيْ وَهِيَ تَحْتَهُ وِقَايَةً لِرَأْسِهِ مِنْ صَدَأِ الْحَدِيدِ.
قَالَ غَيْرُهُ: أَوْ كَانَتِ الْعِمَامَةُ السَّوْدَاءُ مَلْفُوفَةً فَوْقَ الْمِغْفَرِ، إِشَارَةً لِلسُّؤْدُدِ وَثَبَاتِ دِينِهِ وَأَنَّهُ لَا يُغَيَّرُ.
وَجَمَعَ عِيَاضٌ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ دُخُولِهِ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، ثُمَّ أَزَالَهُ وَلَبِسَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَكَى كُلٌّ مِنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ مَا رَآهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الدُّخُولِ، فَزَعْمُ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ تَعَارُضَ الْحَدِيثَيْنِ مُتَعَقَّبٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ، وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ حِسَانٍ (فَلَمَّا نَزَعَهُ) أَيِ الْمِغْفَرَ (جَاءَهُ رَجُلٌ) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ يُسَمَّ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ فِي رِوَايَةٍ، وَإِلَّا فَقَدَ جَزَمَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ، وَالْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ أَبُو بَرْزَةَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ طَاهِرٍ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ.
(فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ خَطَلٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَلَامٍ، اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، فَلَمَّا أَسْلَمَ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ: اسْمُهُ هِلَالٌ، الْتَبَسَ عَلَيْهِ بِأَخٍ لَهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ أُهْدِرَ دَمُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَالَ: لَا أُؤَمِّنُهُمْ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ.
(مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ) وَذَلِكَ
كَمَا ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْحَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلَ عَلَى فَرَسٍ، وَبِيَدِهِ قَنَاةٌ، فَلَمَّا رَأَى خَيْلَ اللَّهِ وَالْقَتْلَ دَخَلَهُ رُعْبٌ حَتَّى مَا يَسْتَمْسِكُ مِنَ الرِّعْدَةِ، فَرَجَعَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْكَعْبَةِ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَطَرَحَ سِلَاحَهُ، وَدَخَلَ تَحْتَ أَسْتَارِهَا، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ سِلَاحَهُ وَفَرَسَهُ، فَاسْتَوَى عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اقْتُلُوهُ) زَادَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ: فَقُتِلَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَائِذٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:" «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْرَجَ مِنْ تَحْتِ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ابْنَ خَطَلٍ، فَضُرِبَتُ عُنُقُهُ صَبْرًا بَيْنَ زَمْزَمَ وَمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ: لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ بَعْدَ هَذَا صَبْرًا» "، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ فِي أَبِي مَعْشَرٍ مَقَالًا، وَاخْتُلِفَ هَلْ قَاتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ، أَوْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، أَوْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَوْ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، أَوْ أَبُو بَرْزَةَ، بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ ثُمَّ زَايٍ مَنْقُوطَةٍ مَفْتُوحَةٍ، الْأَسْلَمِيُّ وَهُوَ أَصَحُّ مَا جَاءَ فِي تَعْيِينِ قَاتِلِهِ، وَرَجَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ وَجَزَمَ بِهِ الْبَلَاذُرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتُحْمَلُ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا قَتْلَهُ، فَكَانَ الْمُبَاشِرَ مِنْهُمْ أَبُو بَرْزَةَ، وَجَزَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي تَهْذِيبِ السِّيرَةِ بِأَنَّ سَعِيدَ بْنِ حُرَيْثٍ، وَأَبَا بَرْزَةَ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: وَإِنَّمَا أُمِرَ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فَبَعَثَهُ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى مُسْلِمٌ يَخْدُمُهُ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ تَيْسًا، وَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا، وَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَاتَّخَذَ قَيْنَتَيْنِ تُغْنِيَانِ لَهُ بِهِجَاءِ النَّبِيِّ.
(قَالَ مَالِكٌ) جَوَابًا عَنْ كَوْنِ الْمِغْفَرِ عَلَى رَأْسِهِ: (وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ) أَيْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (مُحْرِمًا) إِذْ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّهُ تَحَلَّلَ يَوْمَئِذٍ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَظَاهِرُهُ الْجَزْمُ بِذَلِكَ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّهَا لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّقْوِيَةِ.
وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ عَنْ مَالِكٍ: وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا نُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا.
وَقَدْ وَرَّاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ جَزْمًا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْقَاطِ: فِيمَا نُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَصَرَّحَ جَابِرٌ بِمَا جَزَمَ بِهِ مَالِكٌ، أَوْ ظَنَّهُ فَقَالَ: بِغَيْرِ إِحْرَامٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَدُخُولُهَا بِلَا إِحْرَامٍ مِنَ الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَجَازَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمَ مَنْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا بِإِحْرَامٍ، فَإِنْ دَخَلَهَا أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَرَمَ لَا يُجِيرُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ، وَتَأَوَّلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُبِيحَ لَهُ الْقَتْلُ بِهَا.
وَأُجِيبُ
بِأَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُ سَاعَةُ الدُّخُولِ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَقَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ السَّاعَةَ مَا بَيْنَ أَوَّلِ النَّهَارِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَقَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا، لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَزَعَ الْمِغْفَرَ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِمَكَّةَ فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْجِهَادِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَفِي الْمَغَازِي عَنْ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي اللِّبَاسِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمُسْلِمٌ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ السَّبْعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ مَالِكٌ لَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ سِوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ، وَلَا يَكَادُ يَصِحُّ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يُثْبِتُ الْعُلَمَاءُ بِالنَّقْلِ إِسْنَادًا غَيْرَ إِسْنَادِ مَالِكٍ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَجَلِّهِمُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَكَذَا قَالَ الصَّلَاحُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ فِي نُكَتِهِ، بِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَأَبِي أُوَيْسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَابْنِ عَدِيٍّ وَمَعْمَرٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ذَكَرَهُ الْمِزِّيُّ، قَالَ: وَرَوَى ابْنُ مُسْدَى فِي مُعْجَمِ شُيُوخِهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْعَرَبِيِّ، قَالَ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْمُرْخِي حِينَ ذَكَرَ: أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَدْ رَوَيْتُهُ مِنْ ثَلَاثَ عَشَرَةَ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ مَالِكٍ فَقَالُوا لَهُ: أَفِدْنَا هَذِهِ الْفَوَائِدَ، فَوَعَدَهُمْ وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُمْ شَيْئًا، قَالَ الْحَافِظُ فِي نُكَتِهِ: قَدِ اسْتَبْعَدَ أَهْلُ إِشْبِيلِيَّةَ قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:
يَا أَهْلَ حِمْصَ وَمَنْ بِهَا أُوصِيكُمُ
…
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَصِيَّةَ مُشْفِقِ
فَخُذُوا عَنِ الْعَرَبِيِّ أَسْمَارَ الدُّجَى
…
وَخُذُوا الرِّوَايَةَ عَنْ إِمَامٍ مُتَّقِ
إِنَّ الْفَتَى ذَرِبُ اللِّسَانِ مُهَذَّبٌ
…
إِنْ لَمْ يَجِدْ خَبَرًا صَحِيحًا يَخْلَقُ
وَعَنَى بِأَهْلِ حِمْصَ أَهَّلَ إِشْبِيلِيَّةَ، قَالَ: وَقَدْ تَتَبَّعْتُ الْإِشَارَةَ فَوَجَدْتُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، بَلْ أَزْيَدُ، فَرَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ شَيْخُنَا - يَعْنِي الْعِرَاقِيَّ - وَرِوَايَةِ مَعْمَرٍ فِي مُعْجَمِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُقْرِيِّ، وَرِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ فِي مُعْجَمِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ جُمَيْعٍ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ فِي الْإِرْشَادِ لِلْخَلِيلِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ فِي رُوَاةِ مَالِكٍ لِلْخَطِيبِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى، وَأُسَامَةَ بْنِ اللَّيْثِيِّ فِي الضُّعَفَاءِ لِابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدٍ أَبِي عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي فَوَائِدِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ الْخُرَاسَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي
مُسْنَدِ مَالِكٍ لِابْنِ عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي فِي الْإِفْرَادِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَبَحْرِ بْنِ كَثِيرٍ السَّقَّاءِ، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرٌ الْأَنْدَلُسِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ فِي تَخْرِيجٍ لَهُ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، فَهَؤُلَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ نَفْسًا غَيْرَ مَالِكٍ، رَوَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ مُتَابِعًا لِلزَّهْرِيِّ فِي فَوَائِدِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءِ الْمَوْصِلِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِيِ وَقَّاصٍ وَأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَهُمَا فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَشْيَخَةِ الْكُبْرَى لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَهُمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ، فَهَذِهِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّهِمَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؟ يَعْنِي ابْنَ الْعَرَبِيِّ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا اطِّلَاعٍ.
وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي الْفَتْحِ، وَزَادَ: لَكِنْ لَيْسَ فِي طُرُقِهِ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ إِلَّا طَرِيقَ مَالِكٍ، وَأَقْرَبُهَا طَرِيقُ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَيَلِيهَا رِوَايَةُ أَبِي أُوَيْسٍ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: انْفَرَدَ بِهِ مَالِكٌ، أَيْ بِشَرْطِ الصِّحَّةِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ تُوبِعَ، أَيْ فِي الْجُمْلَةِ، انْتَهَى.
وَهَذَا الْحَمْلُ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيمَا نَقَلْتُهُ أَوَّلًا عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِقُدَيْدٍ جَاءَهُ خَبَرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَرَجَعَ فَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
965 -
948 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ) يُرِيدُ الْمَدِينَةَ (حَتَّى إِذَا كَانَ بِقُدَيْدٍ) بِضَمِّ الْقَافِ (وَجَاءَهُ خَبَرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ) بِالْفِتْنَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ (فَرَجَعَ فَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ) لِقُرْبِ الْمَوْضِعِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
965 -
949 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِثْلَ ذَلِكَ) وَاحْتَجَّ بِهِ ابْنُ شِهَابٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ عَلَى جَوَازِ دُخُولِهَا بِلَا إِحْرَامٍ، وَقَالُوا: إِنَّ مُوجِبَ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ، وَأَبَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَسْتُ آخُذُ بِقَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ، وَكَرِهَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مِثْلِ مَا عَمِلَ ابْنُ عُمَرَ مِنَ الْقُرْبِ إِلَّا رَجُلًا يَأْتِي بِالْفَاكِهَةِ مِنَ الطَّائِفِ، أَوْ يَنْقُلُ الْحَطَبَ يَبِيعُهُ، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: كَرِهَ الْأَكْثَرُ دُخُولَهَا بِلَا إِحْرَامٍ، وَرَخَّصُوا لِلْحَطَّابِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ يَكْثُرُ اخْتِلَافُهُ إِلَى مَكَّةَ وَلِمَنْ خَرَجَ مِنْهَا يُرِيدُ بَلَدَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا صَنَعَ ابْنُ عُمَرَ.
وَأَمَّا مَنْ
سَافَرَ إِلَيْهَا فِي تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا يَدْخُلْهَا إِلَّا مُحْرِمًا، لِأَنَّهُ يَأْتِي الْحَرَمَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَهَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَمَا دَخَلَهَا صلى الله عليه وسلم قَطُّ إِلَّا مُحْرِمًا إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ عَدَلَ إِلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ «وَأَنَا نَازِلٌ تَحْتَ سَرْحَةٍ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ مَا أَنْزَلَكَ تَحْتَ هَذِهِ السَّرْحَةِ فَقُلْتُ أَرَدْتُ ظِلَّهَا فَقَالَ هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ فَقُلْتُ لَا مَا أَنْزَلَنِي إِلَّا ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى وَنَفَخَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ السِّرَرُ بِهِ شَجَرَةٌ سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
966 -
950 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ حَلْحَلَةَ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ (الدِّيلِيِّ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، الْمَدَنِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ (عَنْ أَبِيهِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ عِمْرَانَ بْنَ حَيَّانَ الْأَنْصَارِيَّ أَوْ عِمْرَانَ بْنَ عَوَادَةَ، فَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ (أَنَّهُ قَالَ: عَدَلَ إِلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) ابْنِ الْخَطَّابِ (وَأَنَا نَازِلٌ تَحْتَ سَرْحَةٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ، شَجَرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا شِعْبٌ (بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ: مَا أَنْزَلَكَ تَحْتَ هَذِهِ السَّرْحَةِ؟ فَقُلْتُ: أَرَدْتُ ظِلَّهَا، فَقَالَ: هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: لَا، مَا أَنْزَلَنِي) تَحْتَهَا (إِلَّا ذَلِكَ) إِرَادَةُ ظِلِّهَا (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى) قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَرَادَ بِهِمَا الْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَحْتَ الْعَقَبَةِ بِمِنًى فَوْقَ الْمَسْجِدِ، وَالْأَخَاشِبُ: الْجِبَالُ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: الْأَخَاشِبُ يُقَالُ إِنَّهَا اسْمٌ لِجِبَالِ مَكَّةَ، وَمِنًى خَاصَّةً (وَنَفَخَ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، أَيْ أَشَارَ (بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ) قَالَ الْبَوْنِيُّ: أَحْسَبُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ ظَنَّ أَنَّ عِمْرَانَ يَعْلَمُ الْوَادِيَ الَّذِي فِيهِ الْمُزْدَلِفَةُ، لِذَلِكَ مَا كَرَّرَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ (فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: السُّرَرُ) بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا (بِهِ شَجَرَةٌ سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا) أَيْ وُلِدُوا تَحْتَهَا، فَقُطِعَ سُرَّهُمْ، بِالضَّمِّ، وَهُوَ مَا تَقْطَعُهُ الْقَابِلَةُ مِنْ سُرَّةِ الصَّبِيِّ، كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَوْلُ السُّيُوطِيِّ: أَيْ قَمَعَتْ سُرَّتَهُمْ إِذْ وُلِدُوا تَحْتَهَا، مَجَازٌ، سُمِّيَ السُّرُّ سُرَّةً لِعَلَاقَةِ الْمُجَاوَرَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: بُشِّرُوا تَحْتَهَا بِمَا يَسُرُّهُمْ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَهُوَ مِنَ السُّرُورِ، أَيْ تَنَبَّئُوا تَحْتَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَسُّرُوا بِذَلِكَ وَبِهِ أَقُولُ، وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِمَوَاضِعِ النَّبِيِّينَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ لَهَا يَا أَمَةَ اللَّهِ لَا تُؤْذِي النَّاسَ لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ فَجَلَسَتْ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا إِنَّ الَّذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ فَاخْرُجِي فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لِأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
967 -
951
(مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ) نَسَبُهُ إِلَى جَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ، وَإِلَّا فَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، بِضَمِّهَا، ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ، بِفَتْحِهَا، ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، بِضَمِّ الْمِيمِ، بِالتَّصْغِيرِ، يُقَالُ اسْمُهُ زُهَيْرٌ التَّيْمِيُّ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، أَدْرَكَ ثَلَاثِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ ثِقَةً فَقِيهًا مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ.
(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ) أَصَابَهَا دَاءُ الْجُذَامِ، يَقْطَعُ اللَّحْمَ وَيُسْقِطُهُ (وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ لَهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ لَا تُؤْذِي النَّاسَ) بِرِيحِ الْجُذَامِ (لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ) كَانَ خَيْرًا لَكِ، أَوْ لَوْ لِلتَّمَنِّي، فَلَا جَوَابَ لَهَا (فَجَلَسَتْ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ) لَمْ يُسَمَّ (بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الَّذِي قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ، فَاخْرُجِي) لَعَلَّهُ جَاهِلٌ أَوْ رَجُلُ سُوءٍ أَوْ يَكُونُ مُخْتَبِرًا لَهَا، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ.
(فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتًا) لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِحَقٍّ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ أَنَّهُ يُحَالُ بَيْنَ الْمَجْذُومِ، وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا مُنِعَ آكِلُ الثُّومِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رُبَّمَا أُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْجُذَامِ وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ يُعْدِي وَعِنْدَ جَمِيعِهِمْ يُؤْذِي؟ وَأَلَانَ عُمَرُ لِلْمَرْأَةِ الْقَوْلَ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهَا أَنَّهَا تُؤْذِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهَا، وَرَحِمَهَا لِلْبَلَاءِ الَّذِي بِهَا، وَقَدْ عُرِفَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ شَيْئًا لَا يُعْدِي، وَكَانَ يُجَالِسُ مُعَيْقِيبًا الدُّوسِيَّ، وَيُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، وَرُبَّمَا وَضَعَ فَمَهُ عَلَى مَوْضِعِ فَمِهِ، وَكَانَ عَلَى بَيْتِ مَالِهِ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ مِنْ عَقْلِهَا وَدِينِهَا أَنَّهَا تَكْتَفِي بِإِشَارَتِهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَهْيِهَا، أَلَمْ تَرَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ تُخْطِ فِرَاسَتُهُ فِيهَا فَأَطَاعَتْهُ حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ الْمُلْتَزَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
967 -
952 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ الْمُلْتَزَمُ) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَضَّاحٍ، عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ، وَالْمَقَامِ وَهُوَ خَطَأٌ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، فَالرِّوَايَةُ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ: وَالْبَابِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:
" «مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ مُلْتَزَمُ مَنْ دَعَا اللَّهَ عِنْدَهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ أَوْ ذِي كُرْبَةٍ، أَوْ ذِي غَمٍّ، فُرِّجَ عَنْهُ» "، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَفِي أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ:«أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي طَافَ، ثُمَّ قَالَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، وَكَفَّيْهِ هَكَذَا، وَبَسْطَهُمَا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ» .
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَهُ أَيْنَ تُرِيدُ فَقَالَ أَرَدْتُ الْحَجَّ فَقَالَ هَلْ نَزَعَكَ غَيْرُهُ فَقَالَ لَا قَالَ فَأْتَنِفْ الْعَمَلَ قَالَ الرَّجُلُ فَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ فَمَكَثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ إِذَا أَنَا بِالنَّاسِ مُنْقَصِفِينَ عَلَى رَجُلٍ فَضَاغَطْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ فَإِذَا أَنَا بِالشَّيْخِ الَّذِي وَجَدْتُ بِالرَّبَذَةِ يَعْنِي أَبَا ذَرٍّ قَالَ فَلَمَّا رَآنِي عَرَفَنِي فَقَالَ هُوَ الَّذِي حَدَّثْتُكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
969 -
953 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ (أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلًا) لَمْ يُسَمَّ (مَرَّ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ (وَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَهُ أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ الْحَجَّ، فَقَالَ: هَلْ نَزَعَكَ) بِزَايٍ وَمُهْمَلَةٍ أَيْ أَخْرَجَكَ (غَيْرُهُ) قَالَ تَعَالَى: (وَنَزَعَ يَدَهُ)(سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 108) أَيْ أَخْرَجَهَا (فَقَالَ: لَا، قَالَ: فَائْتَنِفِ الْعَمَلَ) : اسْتَقْبِلْهُ لِغُفْرِ ذَنْبِكَ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا لِلْحَجِّ وَحْدَهُ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ.
(قَالَ الرَّجُلُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَمَكَثْتُ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا، أَقَمْتُ (مَا شَاءَ اللَّهُ) أَنْ أَمْكُثَ (ثُمَّ إِذَا أَنَا بِالنَّاسِ مُنْقَصِفِينَ) أَيْ مُزْدَحِمِينَ (عَلَى رَجُلٍ) حَتَّى كَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَقْصِفُ بَعْضًا بِدَارًا إِلَيْهِ (فَضَاغَطْتُ) بِضَادٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَتَيْنِ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، زَاحَمْتُ، وَضَايَقْتُ (عَلَيْهِ النَّاسَ) لِأَنْ أَرَاهُ (فَإِذَا أَنَا بِالشَّيْخِ الَّذِي وَجَدْتُ بِالرَّبَذَةِ، يَعْنِي أَبَا ذَرٍّ، قَالَ: فَلَمَّا رَآنِي عَرَفَنِي، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي حَدَّثْتُكَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ رَأْيًا، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالتَّوْقِيفِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ رَضِيَ مِنْ عِبَادِهِ بِقَصْدِ بَيْتِهِ مَرَّةً فِي عُمْرِ الْعَبْدِ، لِيَحُطَّ أَوْزَارَهُ، وَيَغْفِرَ ذُنُوبَهُ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:" «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» "، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ حَجَّ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ، وَنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ مِنَ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ.
وَقَدْ سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْهُ، فَقَالَ: وِعَاءٌ مُلِئَ عِلْمًا عَجَزَ النَّاسُ عَنْهُ، وَأُوكِئَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا.
وَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى رَكْبٍ صَادِرِينَ مِنَ الْحَجِّ، فَقَالَ: لَوْ
يَعْلَمُ الرَّكْبُ مَا يَنْقَلِبُونَ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ لَاتَّكَلُوا، وَلَكِنْ لِيَسْتَأْنِفُوا الْعَمَلَ.
وَسُئِلَ الثَّوْرِيُّ حِينَ دَفَعَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ عَنْ أَخْسَرِ النَّاسِ صَفْقَةً، وَهُوَ يُعَرِّضُ بِالظَّلَمَةِ وَأَهْلِ الْفِسْقِ، فَقَالَ: أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِهَؤُلَاءِ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الْاسْتِثْنَاءِ فِي الْحَجِّ فَقَالَ أَوَ يَصْنَعُ ذَلِكَ أَحَدٌ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَحْتَشُّ الرَّجُلُ لِدَابَّتِهِ مِنْ الْحَرَمِ فَقَالَ لَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
970 -
954 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْحَجِّ) وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَتَحَلَّلَ حَيْثُ أَصَابَهُ مَانِعٌ (فَقَالَ: أَوَيَصْنَعُ ذَلِكَ أَحَدٌ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ) وَإِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ وَنَفْعِهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرُونَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، وَيَقُولُ: " أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؟
إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا، فَيَهْدِيَ أَوْ يَصُومَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ إِلَى جَوَازِهِ وَنَفْعِهِ، لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ:" «دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» " وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ ضُبَاعَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي، قَالَ: فَأَدْرَكَتْ» "، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ خَاصَّةٌ بِضُبَاعَةَ إِذْ لَا عُمُومَ فِيهَا، وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّحَلُّلُ بِعُمْرَةٍ، وَكَذَلِكَ جَاءَ مُفَسَّرًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ضُبَاعَةَ أَنْ تَشْتَرِطَ: اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ فَإِنْ تَيَسَّرَ وَإِلَّا فَعُمْرَةٌ» "، وَعَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ: " هَلْ تَشْتَرِطُ إِذَا حَجَجْتَ؟ قَالَ: مَاذَا أَقُولُ؟ قَالَتْ: قُلِ اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ، وَلَهُ عَمَدْتُ فَإِنْ يَسَّرْتَهُ فَهُوَ الْحَجُّ، وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَهُوَ عُمْرَةٌ "، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ.
(سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَحْتَشُّ الرَّجُلُ لِدَابَّتِهِ مِنَ الْحَرَمِ؟ فَقَالَ: لَا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ» "، وَالْخَلَا: مَا يَبُسَ مِنَ النَّبَاتِ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِلَّا الْإِذْخِرَ " وَقِيسَ عَلَيْهِ السَّنَا لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ إِلَيْهِ، فَإِنِ احْتَشَّ فَلَا جَزَاءَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَرْعَى الْإِبِلُ فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ مِنْهُ امْتَنَعَ السَّفَرُ فِي الْحَرَمِ وَالْمُقَامُ فِيهِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
[بَاب حَجِّ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ]
قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّرُورَةِ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تَحُجَّ قَطُّ إِنَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذُو مَحْرَمٍ يَخْرُجُ مَعَهَا أَوْ كَانَ لَهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي الْحَجِّ لِتَخْرُجْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
82 -
- بَابُ حَجِّ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ
(قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّرُورَةِ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ (مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تَحْجُجْ قَطُّ) تَفْسِيرٌ لِلصَّرُورَةِ لَصَرِّهَا النَّفَقَةَ وَإِمْسَاكِهَا، وَيُسَمَّى مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ صَرُورَةً أَيْضًا، لِأَنَّهُ صَرَّ الْمَاءَ فِي ظَهْرِهِ، وَتَبَتَّلَ عَلَى مَذْهَبِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَطِ رَاهِبٍ
…
عَبَدَ الْإِلَهَ صَرُورَةٍ مُتَلَبِّدِ
وَبِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ فُسِّرَ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا: " «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» " وَبِثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ يُقْتَلُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي صَرُورَةٌ مَا حَجَجْتُ وَلَا عَرَفْتُ حُرْمَةَ الْحَرَمِ خِلَافًا لِمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ لِوَلِيِّ الدَّمِ: هُوَ صَرُورَةٌ فَلَا تَهِجْهُ (إِنَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذُو مَحْرَمٍ يَخْرُجُ مَعَهَا، أَوْ كَانَ لَهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا) لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَرْضَ (أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي الْحَجِّ) بِقَوْلِهِ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97](سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 97) فَدَخَلَ فِيهِ النِّسَاءُ (وَلْتَخْرُجْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ) الْمَأْمُونَةِ لِلْفَرْضِ، أَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا تَخْرُجُ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ، فَلَيْسَ الْمَحْرَمُ أَوِ الزَّوْجُ شَرْطًا فِي وُجُوبِ حَجِّ الْفَرْضِ عَلَيْهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، أَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا تَخْرُجُ إِلَّا مَعَ أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ وَعَلَى السَّفَرِ الْمُبَاحِ حُمِلَ حَدِيثُ الْمُوَطَّأِ الْآتِي فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَامِعِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا» " زَادَ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " أَوْ زَوْجٍ " وَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ بِعَوْنِ اللَّهِ ثَمَّةَ، وَيَدُلُّ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ يَلْزَمُهَا الْخُرُوجُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، فَكَذَلِكَ تَحُجُّ الْفَرِيضَةَ قِيَاسًا عَلَى الْهِجْرَةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا الْحَدِيثُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا ابْنُ زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْهَا.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَجْهُهُ مَا ثَبَتَ لِلرَّبَائِبِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَقِلَّةِ الْمُرَاعَاةِ وَالْإِشْفَاقِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَيِّبِ الذِّكْرِ، قَالَ: وَهَذَا فِي حَالِ الِانْفِرَادِ وَالْعَدَدِ الْيَسِيرِ.
أَمَّا الْقَوَافِلُ الْعَظِيمَةُ، وَالطُّرُقُ الْعَامِرَةُ
الْمَأْمُونَةُ فَهِيَ مِثْلُ الْبِلَادِ، وَالْأَمْنُ يَحْصُلُ لَهَا دُونَ نِسَاءٍ وَذِي مَحْرَمٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ هَذَا الْقَيْدَ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ.
[بَاب صِيَامِ التَّمَتُّعِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا مَا بَيْنَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنْ لَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
83 -
بَابُ صِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ
972 -
955 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) أَيْ بِسَبَبِ فَرَاغِهِ مِنْهَا بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ (إِلَى الْحَجِّ) أَيِ الْإِحْرَامِ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِهِ (لِمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196](سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 196)(مَا بَيْنَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ) لِأَنَّهُ إِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ لَزِمَهُ الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ، وَقَبْلَ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَلَمْ يُجَزْ لَهُ الصَّوْمُ قَبْلَ الْوُجُوبِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ نَحْوُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ حِينَئِذٍ.
(فَإِنْ لَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى) الثَّلَاثَةَ الَّتِي تَلِي يَوْمَ النَّحْرِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُرِيدُ أَنَّ الصِّيَامَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ، وَذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ، أَوْ تَرَاهُ وَقْتَ أَدَاءٍ أَوْ أَيَّامَ مِنًى وَقْتَ قَضَاءٍ، وَأَنَّ صِيَامَ مَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ مُبَاحٌ لِكُلِّ مُرِيدِ الصَّوْمِ، وَصِيَامُ أَيَّامِ مِنًى مَمْنُوعَةٌ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ لِمَنْ لَمْ يَصُمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ صَوْمُهُ فِي حَجٍّ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَبَعْدَ مِنًى لَا يَكُونُ الصَّوْمُ فِي الْحَجِّ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهَا قَضَاءٌ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا أَدَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ قَبْلَهَا أَفْضَلَ، كَأَدَاءِ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
972 -
956 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ) أَبِيهِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَمَرَّ أَنَّ ثَانِيَ النَّحْرِ وَثَالِثَهُ لَا يَصُومُهُمَا إِلَّا
لِلتَّمَتُّعِ، وَرَابِعَهُ يَصُومُهُ مَنْ نَذَرَهُ، وَفَرَّقَ الْبَاجِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَجَّلُ قَبْلَهُ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ فِي الْيَوْمَيْنِ قَبْلَهُ.
وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ زُرْقُونَ بِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَمْنَعُ الصَّوْمَ، وَمُعْظَمُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَجُوزُ صَوْمُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهَا عِيدٌ وَلِحَدِيثِ:" «إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» " ثُمَّ عَقَّبَ الْحَجَّ بِالْجِهَادِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ فِي كُلٍّ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ، وَفِي كُلٍّ مَشَقَّةٌ وَثَوَابٌ عَظِيمٌ فَقَالَ: