المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[كِتَاب الْأَقْضِيَةِ] [باب التَّرْغِيبِ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - شرح الزرقاني على الموطأ - جـ ٤

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

فهرس الكتاب

[كِتَاب الْأَقْضِيَةِ]

[باب التَّرْغِيبِ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْأَقْضِيَةِ

‌بَاب التَّرْغِيبِ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ

حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

36 -

كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ

1 -

بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ

1424 -

1391 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيِّ الصَّحَابِيِّ (عَنْ) أُمِّهَا (أُمِّ سَلَمَةَ) هِنْدِ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي إِسْنَادِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ. وَفِي أُخْرَى: جَلَبَةَ خِصَامٍ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَالْمُوَحَّدَةِ، اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهَا قَالَتْ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوَارِيثَ لَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إِلَّا دَعْوَاهُمَا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) بِفَتْحَتَيْنِ، الْخَلْقُ، يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لَهُمْ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَوْ زَادَ عَلَيْهِمْ بِالْمَزَايَا الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا فِي ذَاتِهِ، وَالْحَصْرُ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ حَصْرٌ خَاصٌّ، أَيْ بِاعْتِبَارِ عِلْمِ الْبَوَاطِنِ وَيُسَمَّى عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ: قَصْرُ قَلْبٍ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ كَانَ رَسُولًا يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْوَضْعَ الْبَشَرِيَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُدْرِكَ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا ظَوَاهِرَهَا، فَإِنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَسْلَمُ مِنْ قَضَايَا تَحْجُبُهُ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا تُرِكَ عَلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَايَا الْبَشَرِيَّةِ وَلَمْ يُؤَيَّدْ بِالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يَطْرَأُ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: مِثْلُكُمْ (وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ)

ص: 3

فِيمَا بَيْنَكُمْ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا هُوَ أَوْ مَنْ قَدَّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 65) الْآيَةَ، وَقَالَ:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 49) الْآيَةَ. وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 105) الْآيَةَ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. ثُمَّ تَرُدُّونَهُ إِلَيَّ، وَلَا أَعْلَمُ بَاطِنَ الْأَمْرِ (فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ أَبْلَغَ وَأَعْلَمَ (بِحُجَّتِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " أَبْلَغَ " وَهُوَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مِنَ اللَّحَنِ، بِفَتْحِ الْحَاءِ، الْفِطْنَةِ، أَيْ أَبْلَغَ وَأَفْصَحَ، وَأَعْلَمَ بِتَقْرِيرِ مَقْصُودِهِ، وَأَعْلَمَ بِبَيَانِ دَلِيلِهِ، وَأَقْدَرَ عَلَى الْبَرْهَنَةِ عَلَى دَفْعِ دَعْوَى خَصْمِهِ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ. هَذَا مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّحْنِ، بِسُكُونِ الْحَاءِ، وَهُوَ الصَّرْفُ عَنِ الصَّوَابِ، أَيْ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنِ الْإِعْرَابِ بِالْحُجَّةِ، وَضَعْفُهُ لَا يَخْفَى، وَجُمْلَةُ " أَنْ يَكُونَ " خَبَرُ " لَعَلَّ " مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ، أَيْ كَائِنٍ، أَوْ " أَنْ " زَائِدَةٌ، أَوِ الْمُضَافُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَعَلَّ وَصْفَ بَعْضِكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ (مِنْ بَعْضٍ) فَيَغْلِبُ خَصْمَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَدَقَ (فَأَقْضِيَ) فَأَحْكُمُ (لَهُ) أَيْ لِلَّذِي غَلَبَ بِحُجَّتِهِ عَلَى خَصْمِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِهِ فِي الِاسْتِذْكَارِ " فَأَقْضِيَ لَهُ "، أَيْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ الْحَقَّ لِخَصْمِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْطِنْ لِحُجَّتِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ.

(وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ) لِبِنَاءِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الظَّاهِرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى نَحْوٍ، بِالتَّنْوِينِ، مِمَّا أَسْمَعُ (مِنْهُ) وَمِنْ فِي (مِمَّا) بِمَعْنَى لِأَجْلِ أَوْ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ أَقْضِي عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ كَلَامِهِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ لِإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِمَا سَمِعَ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى نَحْوِ مَا عَلِمْتُ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ:(وَفَصْلَ الْخِطَابِ) إِنَّهُ الْبَيِّنَةُ أَوِ الْإِقْرَارُ، وَالْعِلَّةُ فِي مَنْعِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ التُّهْمَةُ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ شِجَاجٌ، فَأَتَوْهُ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ فَأَعْطَاهُمُ الْأَرْشَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ وَمُخْبِرُهُمْ أَنَّكُمْ رَضِيتُمْ، أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: لَا، فَهَمَّ بِهِمُ الْمُهَاجِرُونَ، فَنَزَلَ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ صَعَدَ فَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ» ". فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِمَا عَلِمَ مِنْ رِضَاهُمُ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يَقْضِي بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ قَاطِعٌ بِصِحَّةِ مَا يَقْضِي بِهِ إِذَا حَقَّقَ عِلْمَهُ، وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ كَذَلِكَ ; إِذْ لَعَلَّهَا كَاذِبَةٌ أَوْ وَاهِمَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي الْمَالِ فَقَطْ دُونَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ

ص: 4

يُجَرِّحُ وَيُعَدِّلُ بِعِلْمِهِ.

(فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ) بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ. وَفِي رِوَايَةٍ: بِحَقِّ مُسْلِمٍ، وَذَكَرَهُ لِيَكُونَ أَهْوَلَ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ لِأَنَّ وَعِيدَ غَيْرِهِ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، فَذَكَرَ الْمُسْلِمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ فِي حَقِّهِ أَشَدُّ وَإِنْ كَانَ الذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ كَذَلِكَ. (فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) أَيْ مَآلُهُ إِلَى النَّارِ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ النَّارِ لَهُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 10) قَالَ السُّبْكِيُّ: هَذِهِ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ لَا تَسْتَدْعِي وُجُودَهَا، بَلْ مَعْنَاهَا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزُ الْوُقُوعِ، قَالَ: وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا قَطُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِحُكْمٍ ثُمَّ بَانَ خِلَافُهُ، لَا بِسَبَبِ تَبَيُّنِ حُجَّةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، وَقَدْ صَانَ اللَّهُ أَحْكَامَ نَبِيِّهِ عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحْذُورٌ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ لِلتَّخَيُّرِ بَلْ لِلتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29](سورة الْكَهْفِ: الْآيَةُ 29) وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ هَلْ هُوَ مُحِقٌّ أَوْ مُبْطِلٌ؟ فَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فَلْيَأْخُذْ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَلْيَتْرُكْ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَنْقُلُ الْأَصْلَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ لِمَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَالْجُمْهُورِ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَا بَاطِنُ الْأَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ وَلَا عَكْسُهُ، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَا زُورٍ لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ فَحَكَمَ بِهِ الْقَاضِي لِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ الْمَالُ، وَإِنْ شَهِدَا بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلَّ لِلْوَلِيِّ قَتْلُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَحِلَّ لِمَنْ عَلِمَ كَذِبَهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحِلُّ الْحَرَامَ فِي الْعُقُودِ كَنِكَاحٍ وَطَلَاقٍ وَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ، فَإِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَتْ شَاهِدَيْ زُورٍ، حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَادَّعَاهُ الرَّجُلُ وَهِيَ تَجْحَدُ أَوْ تَعَمَّدَ رَجُلَانِ شَهَادَةَ الزُّورِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَيَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ تَزَوُّجُهَا مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِ وَأَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُطَلِّقْهَا ; لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَمَّا أَحَلَّهَا لِلْأَزْوَاجِ إِجْمَاعًا كَانَ الشُّهُودُ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءً وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ، فَمِنْ حَقِّ الرَّجُلِ عِصْمَةُ زَوْجَتِهِ الَّتِي لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ مِنْ قَبْلِهِ، وَمُخَالِفٌ لِقَاعِدَةٍ اتَّفَقَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الْأَمْوَالِ. هَذَا وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله مُلَخِّصًا لِكَلَامِ مَنْ تَقَدَّمَهُ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَاجِيِّ وَعِيَاضٍ وَغَيْرِهِمْ: مَعْنَى الْحَدِيثِ التَّنْبِيهُ عَلَى حَالَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ وَبَوَاطِنِ الْأَمْرِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُطْلِعَهُمُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِ الْأَحْكَامِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ إِمْكَانِ أَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَطْلَعَهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ فَحَكَمَ فِيهِ بِيَقِينِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةٍ أَوْ يَمِينٍ، وَلَكِنْ لَمَّا

ص: 5

أَمَرَ اللَّهُ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَقْوَالِهِ وَأَحْكَامِهِ أَجْرَى لَهُ حُكْمَهُمْ فِي عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ لِيَكُونَ حُكْمُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ حُكْمَهُ، فَأَجْرَى اللَّهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ لِيَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَتَطِيبَ نُفُوسُ الْعِبَادِ لِلِانْقِيَادِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْبَاطِنِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم حُكْمٌ فِي الظَّاهِرِ مُخَالِفٌ لِلْبَاطِنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَأٍ فِي الْأَحْكَامِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَقَاعِدَةِ الْأُصُولِيِّينَ ; لِأَنَّ مُرَادَهُمْ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، أَمَّا إِذَا حَكَمَ فِيمَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى الْحُكْمُ خَطَأً، بَلِ الْحُكْمُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بِهِ التَّكْلِيفُ وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِشَاهِدَيْنِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ زُورٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالتَّقْصِيرُ مِنْهُمَا وَمِمَّنْ سَاعَدَهُمَا، وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا عَتْبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ حُكْمَ الشَّرْعِ. اهـ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ عَلَى بَوَاطِنِ كُلِّ مَنْ يَتَخَاصَمُ إِلَيْهِ فَيَحْكُمُ بِخَفِيِّ ذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ طَرِيقًا عَامًّا وَلَا قَاعِدَةً كُلِّيَّةً لِلْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ لِاسْتِمْرَارِ الْعَادَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ لَهُمْ وَإِنْ وَقَعَ فَنَادِرٌ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62] . فَمِنْ خَصَائِصِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَاطِنِ أَيْضًا وَأَنْ يَقْتُلَ بِعِلْمِهِ، وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَ بِعِلْمِهِ إِلَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَقَدْ شَاهَدْتُ بَعْضَ الْمُخَرِّفِينَ وَسَمِعْتُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَحْكُمُونَ بِالْخَوَاطِرِ الْقَلْبِيَّةِ وَيَقُولُونَ: الشَّاهِدُ الْمُتَّصِلُ بِي أَعْدَلُ مِنَ الشَّاهِدِ الْمُنْفَصِلِ عَنِّي، وَهَذِهِ مَخْرَقَةٌ أَبْرَزَتْهَا زَنْدَقَةٌ يُقْتَلُ صَاحِبُهَا قَطْعًا، وَهَذَا خَيْرُ الْبَشَرِ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ:" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " مُعْتَرِفًا بِالْقُصُورِ عَنْ إِدْرَاكِ الْمُغَيَّبَاتِ وَعَامِلًا بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنِ اعْتِبَارِ الْأَيْمَانِ وَالْبَيِّنَاتِ. اهـ.

وَقَدْ زَادَ فِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهَا: " «فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: حَقِّي لَكَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا إِذْ فَعَلْتُمَا فَاقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسَتَهِمَا ثُمَّ تَحَالَلَا وَتَوَخَّيَا» "، أَيِ اقْصِدَا الْحَقَّ فِي الْقِسْمَةِ ثُمَّ اسْتَهِمَا، أَيِ اقْتَرِعَا لِيَظْهَرَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا. وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا سَبَقَ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِي الْأَحْكَامِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَوَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ هِشَامٍ، وَتَابَعَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 6

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ فَضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ قَالَ وَمَا يُدْرِيكَ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ إِنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إِلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1425 -

1392 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ

ص: 6

الْمُسَيَّبِ) بْنِ حَزْنٍ الْقُرَشِيِّ الْمَخْزُومِيِّ التَّابِعِيِّ، ابْنِ الصَّحَابِيِّ، حَفِيدِ الصَّحَابِيِّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه (اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيُّ) لَمْ يُسَمَّيَا (فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ) لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ (فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) لِأَنَّهُ كَرِهَ مَدْحَهُ لَهُ فِي وَجْهِهِ (بِالدِّرَّةِ) بِكَسْرِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ، آلَةٌ يُضْرَبُ بِهَا (ثُمَّ قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّا نَجِدُ) فِي الْكُتُبِ (أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إِلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ) وَهُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ (يُسَدِّدَانِهِ) بِسِينٍ وَدَالَيْنِ مُهْمَلَاتٍ (وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا) إِلَى السَّمَاءِ (وَتَرَكَاهُ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِجَوَابٍ لِقَوْلِهِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ وَلَكِنْ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ مَدْحَهُ لَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَجِدُ فِي كُتُبِهِ مَا ذَكَرَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: " وَاللَّهِ إِنَّ الْمَلَكَيْنِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَيَتَكَلَّمَانِ بِلِسَانِكَ، وَإِنَّهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: لَا أُمَّ لَكَ وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمَا مَعَ كُلِّ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ إِلَّا أَبْعَدْتَ ". وَفِيهِ كَرَاهَةُ الْمَدْحِ فِي الْوَجْهِ وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي تَأْدِيبِ فَاعِلِهِ، وَأَنَّ الرَّاضِيَ بِهِ ضَعِيفُ الرَّأْيِ. " «وَسَمِعَ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَمْدَحُ رَجُلًا فَقَالَ: أَمَا لَوْ أَسْمَعْتَهُ لَقَطَعْتَ ظَهْرَهُ» ". وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "«الْمَدْحُ فِي الْوَجْهِ هُوَ الذَّبْحُ» ". وَصَحَّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "«احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ» ". وَهَذَا عِنْدَهُمْ فِي الْمُوَاجَهَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا: " مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ ".

ص: 7

[باب مَا جَاءَ فِي الشَّهَادَاتِ]

حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا أَوْ يُخْبِرُ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الشَّهَادَاتِ

جَمْعُ شَهَادَةٍ، وَهِيَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّهَادَةُ خَبَرٌ قَاطِعٌ، وَالْمُشَاهَدَةُ الْمُعَايَنَةُ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشُّهُودِ، أَيِ الْحُضُورِ ; لِأَنَّ الشَّاهِدَ مُشَاهِدٌ لِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِعْلَامِ.

ص: 7

1426 -

1393 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ حَزْمٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ سَاكِنَةٍ، الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرٍ، اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ وَاحِدٌ، وَقِيلَ كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، ثِقَةٌ عَابِدٌ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ عُثْمَانَ) الْأُمَوِيِّ، يُلَقَّبُ الْمِطْرَافَ، بِسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، ثِقَةٌ، شَرِيفٌ، تَابِعِيٌّ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ. (عَنْ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو مُصْعَبٍ وَمُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى وَيَحْيَى بْنُ بَكِيرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَالِكٍ وَسَمَّيَاهُ فَقَالَا: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، فَرَفَعَا الْإِشْكَالَ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ. اهـ. وَمَا صَوَّبَهُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ عَنْ مَالِكٍ كَمَا فِي الْإِصَابَةِ، وَلَيْسَ اسْمُ أَبِي عَمْرَةَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَمَا زَعَمَ بَعْضٌ، إِنَّمَا هُوَ اسْمُ ابْنِهِ، وَأَمَّا أَبُوهُ فَقِيلَ اسْمُهُ بِشْرٌ وَقِيلَ بَشِيرٌ وَقِيلَ عَمْرٌو وَقِيلَ ثَعْلَبَةُ، صَحَابِيٌّ شَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا، كَمَا بَسَطَهُ فِي الْإِصَابَةِ. فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ يَكُونُ فِي الْإِسْنَادِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْأَقَلِّ فَإِنَّمَا فِيهِ ثَلَاثَةٌ تَابِعِيُّونَ وَصَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ وَهُمَا أَبُو عَمْرَةَ (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، الْمَدَنِيِّ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ وَلَهُ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَخِفَّةِ اللَّامِ، حَرْفُ افْتِتَاحٍ مَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ، فَيَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ مَا بَعْدَهُ وَتَوْكِيدِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: صَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ طَلَائِعِ الْقَسَمِ إِيذَانًا بِعِظَمِ الْمُحَدَّثِ بِهِ (أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ) جَمْعُ شَهِيدٍ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا (الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (أَوْ: يُخْبِرُ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) شَكَّ الرَّاوِي، أَوْ لَيْسَ بِشَكٍّ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْوِيعٌ، أَيْ يَأْتِي الْحَاكِمَ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا فِي مَحْضِ حَقِّ اللَّهِ الْمُسْتَدَامِ تَحْرِيمُهُ كَطَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَوَقْفٍ، أَوْ يُخْبِرُ بِهَا رَجُلًا لَا يَعْلَمُهَا وَهَذَا يُومِي إِلَيْهِ كَلَامُ الْبَاجِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: تَفْسِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فِي الْحَقِّ لِرَجُلٍ لَا يَعْلَمُهَا فَيُخْبِرُهُ بِشَهَادَتِهِ وَيَرْفَعُهَا إِلَى السُّلْطَانِ. زَادَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا الَّذِي لَهُ الشَّهَادَةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا نَسِيَ شَاهِدَهُ فَظَلَّ مَغْمُومًا لَا يَدْرِي مَنْ هُوَ، فَإِذَا أَخْبَرَهُ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ فَرَّجَ كَرْبَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: " «مَنْ

ص: 8

نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ". وَلَا يُعَارِضُ هَذَا حَدِيثَ:" «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا» ". لِأَنَّ النَّخَعِيَّ قَالَ: مَعْنَى الشَّهَادَةِ هُنَا الْيَمِينُ، أَيْ يَحْلِفُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ، وَالْيَمِينُ قَدْ تُسَمَّى شَهَادَةً، قَالَ تَعَالَى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6](سورة النُّورِ: الْآيَةُ 6) . اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ تَأْوِيلَانِ أَصَحُّهُمَا حَمْلُهُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ شَاهَدٌ فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ وُجُوبًا لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ عِنْدَهُ. وَالثَّانِي: حَمْلُهُ عَلَى شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ فِي غَيْرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَفْعُهُ إِلَى الْقَاضِي وَإِعْلَامُهُ بِهِ وَالشَّهَادَةُ بِهِ وَالشَّهَادَةُ. وَحَكَى ثَالِثٌ أَنَّهُ مَجَازٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا لَا قَبْلَهُ كَمَا يُقَالُ: الْجَوَادُ يُعْطِي قَبْلَ السُّؤَالِ، أَيْ يُعْطِي سَرِيعًا عَقِبَ السُّؤَالِ بِلَا تَوَقُّفٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُنَاقَضَةٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي ذَمِّ مَنْ يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ ". لِحَمْلِهِ عَلَى مَنْ مَعَهُ شَهَادَةٌ لِآدَمِيٍّ عَالِمٍ بِهَا فَيَشْهَدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، أَوْ عَلَى مَنْ يَنْتَصِبُ شَاهِدًا وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، أَوْ عَلَى مَنْ يَشْهَدُ لِقَوْمٍ بِالْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ. اهـ. وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّ الذَّمَّ وَرَدَ فِي الشَّهَادَةِ بِدُونِ اسْتِشْهَادٍ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْمَغِيبِ مَذْمُومَةٌ هَبْهَا بِاسْتِشْهَادٍ أَوْ دُونِهِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 9

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ لَقَدْ جِئْتُكَ لِأَمْرٍ مَا لَهُ رَأْسٌ وَلَا ذَنَبٌ فَقَالَ عُمَرُ مَا هُوَ قَالَ شَهَادَاتُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا فَقَالَ عُمَرُ أَوَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1427 -

1394 - (مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخَ الْمَدَنِيِّ، مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْمَسْعُودِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ الْمَسْعُودِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ عَابِدٌ، رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ (قَالَ: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ) لَمْ يُسَمَّ (فَقَالَ: لَقَدْ جِئْتُكَ لِأَمْرٍ مَا لَهُ رَأْسٌ وَلَا ذَنَبٌ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ وَلَا آخِرٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَذَا جَيْشٌ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ. يُرِيدُونَ لِكَثْرَتِهِ، وَقَدْ تَقُولُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْمُبْهَمِ لَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ وَلَا يُهْتَدَى لِإِصْلَاحِهِ. (فَقَالَ عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ (مَا هُوَ؟) الْأَمْرُ (فَقَالَ: شَهَادَاتُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا) الْعِرَاقِ. (فَقَالَ عُمَرُ: أَوَقَدْ كَانَ ذَلِكَ؟) يَدُلُّ

ص: 9

عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ عُدُولٌ بِتَعْدِيلِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110](سورة آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 110)، وَقَوْلِهِ:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29](سورة الْفَتْحِ: الْآيَةُ 29) الْآيَةَ. (قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ) أَيْ لَا يُحْبَسُ، وَالْأَسْرُ الْحَبْسُ، أَوْ لَا يَمْلِكُ مَلِكٌ الْأَسِيرَ ; لِإِقَامَةِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إِلَّا بِالصَّحَابَةِ الَّذِينَ جَمِيعُهُمْ عُدُولٌ، وَبِالْعُدُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَحَابِيًّا وَلَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ حَتَّى تُعْرَفَ عَدَالَتُهُ مِنْ فِسْقِهِ. اهـ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَمَّا كَتَبَ بِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ عُمَّالِهِ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا خَصْمًا أَوْ ظَنِينًا مُتَّهَمًا. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.

ص: 10

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1427 -

1395 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَقَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحِجَازِيِّينَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ) فِي أَمْرٍ جَسِيمٍ، مِثْلُهُ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ عَلَى خَصْمِهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ وَفِي غَيْرِهِ، فَإِنْ خَاصَمَ فِي يَسِيرٍ كَثَوْبٍ قَلِيلِ الثَّمَنِ، وَمَا لَا يُوجِبُ عَدَاوَةً، جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ مَا خَاصَمَهُ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ وَهْبٍ: الْخَصْمُ هُنَا الْوَكِيلُ عَلَى خُصُومَتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا يُخَاصِمُ فِيهِ، وَالْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. وَلَا ظَنِينَ، بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ مُتَّهَمٍ.

ص: 10

[باب الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ]

قَالَ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ سُئِلُوا عَنْ رَجُلٍ جُلِدَ الْحَدَّ أَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَقَالُوا نَعَمْ إِذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ التَّوْبَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ

1427 -

1396 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) الْمَدَنِيِّ الْفَقِيهِ (وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ سُئِلُوا عَنْ

ص: 10

رَجُلٍ جُلِدَ) ضُرِبَ (الْحَدَّ: أَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ التَّوْبَةُ) فِي غَيْرِ مَا حُدَّ فِيهِ.

ص: 11

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ

قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4]

قَالَ مَالِكٌ فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي يُجْلَدُ الْحَدَّ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَهُوَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1427 -

1397 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ. وَعَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ وَابْنِ قُسَيْطٍ، وَرِوَايَةٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ: وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ. (وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْعَفِيفَاتِ بِالزِّنَى (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) عَلَى زِنَاهِنَّ بِرُؤْيَتِهِنَّ (فَاجْلِدُوهُمْ)، أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ (ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً) فِي شَيْءٍ (أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) لِإِتْيَانِهِمْ كَبِيرَةً {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [آل عمران: 89] عَمَلَهُمْ {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [البقرة: 192] لَهُمْ قَذْفَهُمْ (رَحِيمٌ) بِهِمْ بِإِلْهَامِهِمُ التَّوْبَةَ، فَبِهَا يَنْتَهِي فِسْقُهُمْ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالثَّوْرِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ أَبَدًا تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ:{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192](سورة النُّورِ: الْآيَةُ 5) قَالُوا: فَتَوْبَتُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. (قَالَ مَالِكٌ: فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي يُجْلَدُ الْحَدَّ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ) فِي غَيْرِ مَا حُدَّ فِيهِ (وَهُوَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَتَخْصِيصُ الِاسْتِثْنَاءِ بِصِلَةِ الْأَخِيرَةِ لَا يَنْهَضُ.

ص: 11

[باب الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ

1428 -

1398 - (مَالِكٌ، عَن جَعْفَرِ) الصَّادِقِ (ابْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ) مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مُرْسَلٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَوَصَلَهُ عَنْ مَالِكٍ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا: عَنْ جَابِرٍ. مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ الْعُثْمَانِيُّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْكُوفِيُّ، وَأَسْنَدَهُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ جَمَاعَةٌ حُفَّاظٌ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَكُلُّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، وَقَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: لَا يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُفْسَخُ الْقَضَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ، وَهَذَا جَهْلٌ وَعِنَادٌ وَكَيْفَ يَكُونُ خِلَافُهُ وَهُوَ زِيَادَةُ بَيَانٍ كَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَعَلَى خَالَتِهَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 24) وَكَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، مَعَ قَوْلِهِ:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145](سورة الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 145) الْآيَةَ، فَكَذَلِكَ مَا قَضَى بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْقَضَاءِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَضَوْا بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ، وَبِمَعَاقِدِ الْقَمْطِ وَنَصْبِ اللَّبِنِ وَالْجُذُوعِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْحِيطَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالسُّنَّةِ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا جُعِلَتْ لِلنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي عَلِمْنَا مِنْهُ أَنَّهَا لِلنَّفْيِ هُوَ الَّذِي عَلِمْنَا مِنْهُ الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. اهـ مُلَخَّصًا. وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 282) قَالَ الْحَافِظُ: وَإِنَّمَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا تَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، هَلْ يَكُونُ نَسْخًا وَالسُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، أَوْ لَا يَكُونُ نَسْخًا بَلْ زِيَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِحُكْمٍ مُسْتَقِلٍّ إِذَا ثَبَتَ سَنَدُهُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ لَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ بِالْآيَةِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُعَارِضَةً لِلنَّصِّ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِهِ،

ص: 12

وَأَجَابَ عَنْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّصِّ عَلَى الشَّيْءِ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ. وَقَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْقُرْآنِ نَسْخٌ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ لَا تَنْسَخُ الْمُتَوَاتِرَ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ زِيَادَةُ الْآحَادِ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِهَا مَشْهُورًا - رُدَّ بِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَلَا رَفْعَ هُنَا، وَبِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَهَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، غَايَتُهُ أَنَّ تَسْمِيَةَ الزِّيَادَةِ كَالتَّخْصِيصِ نَسْخًا، اصْطِلَاحٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، لَكِنَّ تَخْصِيصَهُ بِهَا جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ كَقَوْلِهِ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 24) وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّةِ مَعَ بِنْتِ أَخِيهَا، وَسَنَدُ الْإِجْمَاعِ السُّنَّةُ، وَكَذَا قَطْعُ رِجْلِ السَّارِقِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. قَدْ أَخَذَ مَنْ رَدَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ بِأَحَادِيثٍ كَثِيرَةٍ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، كُلُّهَا زِيَادَةٌ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ كَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَمِنَ الْقَهْقَهَةِ وَمِنَ الْقَيْءِ، وَكَذَا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ، وَاسْتِبْرَاءُ الْمَسْبِيَّةِ، وَتَرْكُ قَطْعِ سَارِقِ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْوِلَادَةِ، وَلَا قَوْدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ وَلَا جُمُعَةَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ، وَلَا تُقْطَعُ الْأَيْدِيَ فِي الْغَزْوِ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلَا يُؤْكَلُ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ، وَيَحْرُمُ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَلَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مِنَ الْقَتِيلِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ عَلَى عُمُومِ الْكِتَابِ.

وَأَجَابُوا بِأَنَّهَا أَحَادِيثُ شَهِيرَةٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا لِشُهْرَتِهَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: وَحَدِيثُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ جَاءَ مَنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ، بَلْ ثَبَتَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ» ". وَقَالَ فِي التَّمْيِيزِ، أَيْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ التَّمْيِيزِ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا يُرْتَابُ فِي صِحَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِي صِحَّتِهِ وَلَا إِسْنَادِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ لَا تُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ لِأَنَّهُمَا تَابِعِيَّانِ ثِقَتَانِ مَكِّيَّانِ، وَقَدْ سَمِعَ قَيْسٌ مِنْ أَقْدَمَ مِنْ عَمْرٍو، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا تُرَدُّ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» ". أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَرِجَالُهُ مَدَنِيُّونَ ثِقَاتٌ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو عُوَانَةَ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي الْبَابِ عَنْ نَحْوِ عِشْرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهَا الْحِسَانُ وَالضِّعَافُ، وَبِدُونِ ذَلِكَ تَثْبُتُ الشُّهْرَةُ، وَدَعْوَى نَسْخِهِ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ، يَعْنِي وَالْمُخَالِفُ لِذَلِكَ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فَضْلًا عَنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ. اهـ.

ص: 13

وَعَنْ مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَامِلٌ عَلَى الْكُوفَةِ أَنْ اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1429 -

1399

ص: 13

- (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الْإِمَامِ الْعَادِلِ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: كَانَ صَالِحًا فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ ازْدَادَ صَلَاحًا وَخَيْرًا (كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ) الْعَدَوِيِّ أَبِي عُمَرَ الْمَدَنِيِّ، تَابِعِيٍّ صَغِيرٍ ثِقَةٍ، مَاتَ بِحَرَّانَ فِي زَمَنِ هِشَامٍ (وَهُوَ عَامِلٌ) أَمِيرٌ (عَلَى الْكُوفَةِ) مِنْ جِهَتِهِ (أَنِ اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ) عَمَلًا بِالْحَدِيثِ.

ص: 14

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا هَلْ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَا نَعَمْ

قَالَ مَالِكٌ مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ يَحْلِفُ صَاحِبُ الْحَقِّ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ أُحْلِفَ الْمَطْلُوبُ فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَقُّ وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ

قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً وَلَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَلَا فِي نِكَاحٍ وَلَا فِي طَلَاقٍ وَلَا فِي عَتَاقَةٍ وَلَا فِي سَرِقَةٍ وَلَا فِي فِرْيَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنَّ الْعَتَاقَةَ مِنْ الْأَمْوَالِ فَقَدْ أَخْطَأَ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ لَحَلَفَ الْعَبْدُ مَعَ شَاهِدِهِ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى مَالٍ مِنْ الْأَمْوَالِ ادَّعَاهُ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتَحَقَّ حَقَّهُ كَمَا يَحْلِفُ الْحُرُّ

قَالَ مَالِكٌ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى عَتَاقَتِهِ اسْتُحْلِفَ سَيِّدُهُ مَا أَعْتَقَهُ وَبَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ

قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الطَّلَاقِ إِذَا جَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِشَاهِدٍ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أُحْلِفَ زَوْجُهَا مَا طَلَّقَهَا فَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ

قَالَ مَالِكٌ فَسُنَّةُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقَةِ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَاحِدَةٌ إِنَّمَا يَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَعَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْعَتَاقَةُ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ لَا تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ إِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ وَوَقَعَتْ لَهُ الْحُدُودُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ وَإِنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ رُجِمَ وَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ قُتِلَ بِهِ وَثَبَتَ لَهُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُوَارِثُهُ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فَقَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ سَيِّدَ الْعَبْدِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَشَهِدَ لَهُ عَلَى حَقِّهِ ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الْحَقَّ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ حَتَّى تُرَدَّ بِهِ عَتَاقَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ مَالٌ غَيْرُ الْعَبْدِ يُرِيدُ أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَ وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَأْتِي طَالِبُ الْحَقِّ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّ حَقَّهُ وَتُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ أَوْ يَأْتِي الرَّجُلُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِ الْعَبْدِ مُخَالَطَةٌ وَمُلَابَسَةٌ فَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ مَالًا فَيُقَالُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ احْلِفْ مَا عَلَيْكَ مَا ادَّعَى فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُلِّفَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ يَرُدُّ عَتَاقَةَ الْعَبْدِ إِذَا ثَبَتَ الْمَالُ عَلَى سَيِّدِهِ قَالَ وَكَذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ يَنْكِحُ الْأَمَةَ فَتَكُونُ امْرَأَتَهُ فَيَأْتِي سَيِّدُ الْأَمَةِ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فَيَقُولُ ابْتَعْتَ مِنِّي جَارِيَتِي فُلَانَةَ أَنْتَ وَفُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا فَيُنْكِرُ ذَلِكَ زَوْجُ الْأَمَةِ فَيَأْتِي سَيِّدُ الْأَمَةِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَيَشْهَدُونَ عَلَى مَا قَالَ فَيَثْبُتُ بَيْعُهُ وَيَحِقُّ حَقُّهُ وَتَحْرُمُ الْأَمَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ فِرَاقًا بَيْنَهُمَا وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ

قَالَ مَالِكٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ يَفْتَرِي عَلَى الرَّجُلِ الْحُرِّ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَأْتِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَيَشْهَدُونَ أَنَّ الَّذِي افْتُرِيَ عَلَيْهِ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ فَيَضَعُ ذَلِكَ الْحَدَّ عَنْ الْمُفْتَرِي بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ فِي الْفِرْيَةِ

قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَفْتَرِقُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَمَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَيَجِبُ بِذَلِكَ مِيرَاثُهُ حَتَّى يَرِثَ وَيَكُونُ مَالُهُ لِمَنْ يَرِثُهُ إِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ شَهِدَتَا رَجُلٌ وَلَا يَمِينٌ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ الْعِظَامِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالرِّبَاعِ وَالْحَوَائِطِ وَالرَّقِيقِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَلَوْ شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى دِرْهَمٍ وَاحِدٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَقْطَعْ شَهَادَتُهُمَا شَيْئًا وَلَمْ تَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا شَاهِدٌ أَوْ يَمِينٌ

قَالَ مَالِكٌ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا تَكُونُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى وَقَوْلُهُ الْحَقُّ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] يَقُولُ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَلَا يُحَلَّفُ مَعَ شَاهِدِهِ

قَالَ مَالِكٌ فَمِنْ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا أَلَيْسَ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ مَا ذَلِكَ الْحَقُّ عَلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حُلِّفَ صَاحِبُ الْحَقِّ إِنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا مَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ وَلَا بِبَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَخَذَ هَذَا أَوْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهُ فَإِنْ أَقَرَّ بِهَذَا فَلْيُقْرِرْ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَأَنَّهُ لَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ وَلَكِنْ الْمَرْءُ قَدْ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ وَجْهَ الصَّوَابِ وَمَوْقِعَ الْحُجَّةِ فَفِي هَذَا بَيَانُ مَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1429 -

1400 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ (وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا: هَلْ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ) وَالْقَصْدُ بِهَذَا وَسَابِقِهِ بَعْدَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ اتِّصَالُ الْعَمَلِ بِهِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ دَعْوَى النَّسْخِ. (قَالَ مَالِكٌ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ يَحْلِفُ صَاحِبُ الْحَقِّ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ، فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ أُحْلِفَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ (الْمَطْلُوبُ فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَقُّ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ) بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ. (وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً) بِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَجَزَمَ بِهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ رَاوِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. (وَلَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ) فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ. (وَلَا فِي نِكَاحٍ) فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ وَلَا يَحْلِفُ إِذَا قَامَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ بِهِ. (وَلَا فِي طَلَاقٍ، وَلَا فِي

ص: 14

عَتَاقَةٍ) وَإِنْ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ لِرَدِّ شَاهِدَيْهِمَا. (وَلَا فِي سَرِقَةٍ، وَلَا فِي فَرِيَّةٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَشَدِّ الْيَاءِ، كَذَا ضُبِطَ بِالْقَلَمِ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَالَّذِي فِي اللُّغَةِ: الْفِرْيَةُ، بِالْكَسْرِ وَالسُّكُونِ، الْكَذِبُ.

(فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الْعَتَاقَةَ مِنَ الْأَمْوَالِ) فَتَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ (فَقَدْ أَخْطَأَ) لِأَنَّهُ (لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ لَحَلَفَ الْعَبْدُ مَعَ شَاهِدِهِ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ أَنَّ سَيَّدَهُ أَعْتَقَهُ) مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ السَّيِّدُ كَمَا يَجِيءُ. (وَأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى مَالٍ مِنَ الْأَمْوَالِ ادَّعَاهُ، حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتَحَقَّ حَقَّهُ كَمَا يَحْلِفُ الْحُرُّ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَالِ تُخْرِجُهُ مِنْ مُتَمَوِّلٍ إِلَى مُتَمَوِّلٍ آخَرَ، وَالرَّقَبَةُ فِي الْعِتْقِ لَا تَخْرُجُ إِلَى مُتَمَوِّلٍ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. (فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى عَتَاقَتِهِ اسْتُحْلِفَ سَيِّدُهُ مَا أَعْتَقَهُ وَبَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيَسْتَمِرُّ مَمْلُوكًا لَهُ. (وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الطَّلَاقِ إِذَا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ) أَوْ غَيْرُهَا (بِشَاهِدٍ) وَاحِدٍ (أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، أُحْلِفَ زَوْجُهَا مَا طَلَّقَهَا، فَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، فَسُنَّةُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَاحِدَةٌ، إِنَّمَا يَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَعَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ) فَإِنْ نَكَلَا حُبِسَا كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْأَكْثَرُ، وَكَانَ يَقُولُ: تُطَلَّقُ الزَّوْجَةُ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ هُنَا: إِذَا حَلَفَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ فَقَالَ مَالِكٌ: يُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ، وَاخْتَارَهُ سَحْنُونٌ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ طَالَ حَبْسُهُ خُلِّيَ عَنْهُ، وَالطُّولُ سَنَةٌ. (وَإِنَّمَا الْعَتَاقَةُ حَدٌّ مِنَ الْحُدُودِ) لِأَنَّهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ عز وجل، وَلَوِ اتَّفَقَ السَّيِّدُ وَالْعَبْدُ عَلَى إِبْطَالِهَا لَمْ

ص: 15

يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ، وَذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ ثُمَّ قَالَ:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 229) فَجَعَلَهُ مِنَ الْحُدُودِ.

(لَا يَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ إِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ وَوَقَعَتْ لَهُ الْحُدُودُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ) الْحُدُودُ كَالْحُرِّ الْأَصْلِيِّ. (وَإِنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ رُجِمَ، وَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدُ) الَّذِي تَحَرَّرَ (قُتِلَ بِهِ) قَاتِلُهُ (وَثَبَتَ لَهُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُوَارِثُهُ) مِنْ عَصَبَتِهِ وَغَيْرِهِمْ (فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ سَيِّدَ الْعَبْدِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَشَهِدَ لَهُ عَلَى حَقِّهِ ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ) الرَّجُلُ الطَّالِبُ (الْحَقَّ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ حَتَّى تُرَدَّ عَتَاقَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ مَالٌ غَيْرُ الْعَبْدِ يُرِيدُ) هَذَا الْمُحْتَجُّ (أَنْ يُجْبِرَ بِذَلِكَ) الِاحْتِجَاجِ (شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَنَاوَلَتْ إِثْبَاتَ الدَّيْنِ، فَرُدَّ الْعِتْقُ لِأَجْلِهِ. (وَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَأْتِي طَالِبُ الْحَقِّ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّ حَقَّهُ وَتُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ) لِثُبُوتِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مَالٌ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. (أَوْ يَأْتِي الرَّجُلُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِ الْعَبْدِ مُخَالَطَةٌ وَمُلَابَسَةٌ) فِي الْأَمْوَالِ (فَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ مَالًا، فَيُقَالُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ: احْلِفْ مَا عَلَيْكَ مَا ادَّعَى، فَإِنْ) حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ (نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ) تَفْسِيرٌ لِنَكَلَ (حُلِّفَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ يَرُدُّ عَتَاقَةَ الْعَبْدِ إِذَا ثَبَتَ الْمَالُ عَلَى سَيِّدِهِ) وَلَيْسَ

ص: 16

لَهُ غَيْرُهُ، قَالَ الْبَاجِيُّ: مِثْلُهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيِّنٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا تُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ عَبْدٍ وَلَا بِإِقْرَارِهِ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا. (وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَنْكِحُ الْأَمَةَ) أَيْ يَتَزَوَّجُهَا (فَتَكُونُ امْرَأَتَهُ، فَيَأْتِي سَيِّدُ الْأَمَةِ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي يَتَزَوَّجُهَا فَيَقُولُ: ابْتَعْتَ مِنِّي جَارِيَتِي فُلَانَةَ أَنْتَ وَفُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا، فَيُنْكِرُ ذَلِكَ زَوْجُ الْأَمَةِ، فَيَأْتِي سَيِّدُ الْأَمَةِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَيَشْهَدُونَ عَلَى مَا قَالَ، فَيَثْبُتُ بَيْعُهُ وَيَحِقُّ حَقُّهُ) ثَمَنُهُ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ (وَتَحْرُمُ الْأَمَةُ عَلَى زَوْجِهَا) لِمِلْكِهِ نِصْفَهَا (وَيَكُونُ ذَلِكَ فِرَاقًا بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ يَفْسَخُ النِّكَاحَ (وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ) وَإِنَّمَا جَازَتْ هُنَا فِي الْمَالِ، وَجَرَّ إِلَى الْفِرَاقِ فَوَقَعَ تَبَعًا. (وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: الرَّجُلُ يَفْتَرِي عَلَى الرَّجُلِ الْحُرِّ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَيَأْتِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَيَشْهَدُونَ أَنَّ الَّذِي افْتَرَى عَلَيْهِ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ فَيَضَعُ) يُسْقِطُ (ذَلِكَ الْحَدَّ عَلَى الْمُفْتَرِي بَعْدَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ) أَيْ يَثْبُتُ لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُ عَبْدٍ (وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ فِي الْفِرْيَةِ) وَإِنَّمَا جَازَتْ هُنَا لِدَفْعِ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ (وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَفْتَرِقُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَشْهَدَانِ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ) أَيْ خُرُوجِهِ حَيًّا مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، فَيَجِبُ بِذَلِكَ مِيرَاثُهُ (حَتَّى يَرِثَ وَيَكُونُ مَالُهُ لِمَنْ يَرِثُهُ إِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ، وَلَيْسَ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ شَهِدَتَا رَجُلٌ وَلَا يَمِينٌ) وَكَذَا فِي كُلِّ مَا لَا يَظْهَرُ لِلرِّجَالِ (وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ الْعِظَامِ) الْكَثِيرَةِ (مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ

ص: 17

وَالرِّبَاعِ وَالْحَوَائِطِ) الْبَسَاتِينِ (وَالرَّقِيقِ وَمَا سِوَى) أَيْ غَيْرِ (ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ شَهِدَتِ امْرَأَتَانِ عَلَى دِرْهَمٍ وَاحِدٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَقْطَعْ شَهَادَتُهُمَا شَيْئًا) أَيْ لَا يُعْمَلُ بِهَا (وَلَمْ تَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا شَاهِدٌ أَوْ يَمِينٌ) فَيُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ: لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ دُونَ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا حَلَفَ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ لِلْحَدِيثِ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَمِنَ النَّاسِ) كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَعَطَاءٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ بِخُلْفٍ عَنْهُ (مَنْ يَقُولُ: لَا تَكُونُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ) أَيْ لَا يُقْضَى بِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ (وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ) الصِّدْقُ الْوَاقِعُ لَا مَحَالَةَ (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا) أَيِ الشَّاهِدَانِ (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) يَشْهَدُونَ (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) لِدِينِهِ وَعَدَالَتِهِ (يَقُولُ) ذَلِكَ الْمُحْتَجُّ بَيَانًا لِوَجْهِ احْتِجَاجِهِ مِنَ الْآيَةِ (فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَلَا يُحَلَّفُ مَعَ شَاهِدِهِ) لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَتَقَدَّمَ رَدُّهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ أَقَلُّ مِمَّا نُصَّ عَلَيْهِ، وَالْمُخَالِفُ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فَضْلًا عَنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ. (قَالَ مَالِكٌ: فَمِنَ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ) أَخْبِرْنِي (لَوْ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا أَلَيْسَ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ مَا ذَلِكَ الْحَقُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ) سَقَطَ (ذَلِكَ) الْحَقُّ (عَنْهُ) بِاتِّفَاقٍ (وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ صَاحِبُ الْحَقِّ إِنَّ حَقَّهُ) أَيْ مَا ادَّعَى بِهِ (لَحَقٌّ) أَيْ بَاقٍ لَمْ يَقْبِضْهُ (وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى

ص: 18

صَاحِبِهِ فَهَذَا مَا) أَيْ شَيْءٌ (لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا بِبَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ دُونَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَا يُظَنُّ بِمَالِكٍ مَعَ عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ مَنْ مَضَى أَنَّهُ جَهِلَ هَذَا، وَإِنَّمَا أَتَى بِمَا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَحْكُمُ بِالنُّكُولِ خَاصَّةً أَحْرَى أَنْ يَحْكُمَ بِالنُّكُولِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ، وَمَالِكٌ كَالْحِجَازِيِّينَ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ حَتَّى تُرَدَّ الْيَمِينُ وَيَحْلِفَ الطَّالِبُ، وَإِنْ لَمْ يُدْعَ الْمَطْلُوبُ إِلَى يَمِينِهِ لِحَدِيثِ الْقَسَامَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَدَّ فِيهَا الْيَمِينَ عَلَى الْيَهُودِ ; إِذْ أَبَى الْأَنْصَارُ مِنْهَا. اهـ. وَبِهِ سَقَطَ قَوْلُ فَتْحِ الْبَارِي: إِنَّ احْتِجَاجَ مَالِكٍ هَذَا مُتَعَقَّبٌ وَلَا يُرَدُّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِرَدِّ الْيَمِينِ.

(فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَخَذَ هَذَا؟) قِيلَ: أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ: " «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، فَقُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي» ". الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَزَادَ فِيهَا: لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، فَفِي الْحَصْرِ دَلِيلٌ عَلَى رَدِّ الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " شَاهِدَاكَ " بَيِّنَتُكَ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَيَمِينَ الطَّالِبِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّاهِدَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ، فَالْمَعْنَى شَاهِدَاكَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَلَوْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ رَدُّ الشَّاهِدَيْنِ وَالْيَمِينِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَرْ لَلَزِمَ رَدُّ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ، فَوَضَحَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ وَثَبَتَ الْخَبَرُ بِاعْتِبَارِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ مُرَادٍ، بَلِ الْمُرَادُ هُمَا أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا. (أَوْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهُ، فَإِذَا أَقَرَّ) اعْتَرَفَ (بِهَذَا) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ (فَلْيُقْرِرْ) بِفَكِّ الْإِدْغَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَلْيُقِرَّ، بِالْإِدْغَامِ (بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّصِّ عَلَى شَيْءٍ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُ لَا التَّعَرُّضُ لِعَدَمِهِ، وَالْحَدِيثُ قَدْ تَضَمَّنَ زِيَادَةً مُسْتَقِلَّةً عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ بِحُكْمٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَ الشَّاهِدَيْنِ وَلَا الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، بَلْ زَادَ عَلَيْهِمَا حُكْمًا آخَرَ، وَيَلْزَمُ الْمُخَالِفَ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَلَا قِيَاسٍ ; لِأَنَّهُ كُلُّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زِيَادَةً لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ فَكَذَا الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ. (وَإِنَّهُ لِيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ) فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُخَالِفِ (مَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ) أَنَّ

ص: 19

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَمُعَارَضَتُهُ بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ لَا تُعْتَبَرُ.

(وَلَكِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ وَجْهَ الصَّوَابِ وَمَوْقِعَ الْحُجَّةِ) فَلِذَا ذَكَرْتُهُ. (فَفِي هَذَا بَيَانُ مَا أَشْكَلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) لِلتَّبَرُّكِ، وَقَدْ تَعَسَّفُوا الْجَوَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَضَى بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ مَعَ الشَّاهِدِ الطَّالِبِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ، فَتَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَمْلِهِ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ آخَرَ عَبْدًا مَثَلًا فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ بِهِ عَيْبًا وَأَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَحَلَفَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَا اشْتَرَى بِالْبَرَاءَةِ: وَأَبْطَلَهُمَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ جَهْلٌ بِاللُّغَةِ لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ شَيْئَيْنِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الْمُتَضَادَّيْنِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بِأَنَّهَا صُورَةٌ نَادِرَةٌ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا الْخَبَرُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ. اهـ. وَأَجَابُوا أَيْضًا بِاحْتِمَالِ أَنَّ الشَّاهِدَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَتَيْنِ. وَأَبْطَلَهُ الْبَاجِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْيَمِينِ وَجْهٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِخُزَيْمَةَ خُصُوصًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَلَا تَرَى أَنَّ خُزَيْمَةَ لَمْ يَشْهَدْ بِأَمْرِ شَاهِدِهِ وَإِنَّمَا شَهِدَ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ لِعِلْمِهِ بِصِدْقِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 20

[باب الْقَضَاءِ فِيمَنْ هَلَكَ وَلَهُ دَيْنٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَهْلِكُ وَلَهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ لَهُمْ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَيَأْبَى وَرَثَتُهُ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى حُقُوقِهِمْ مَعَ شَاهِدِهِمْ قَالَ فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يَحْلِفُونَ وَيَأْخُذُونَ حُقُوقَهُمْ فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ مِنْهُ شَيْءٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَيْمَانَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ قَبْلُ فَتَرَكُوهَا إِلَّا أَنْ يَقُولُوا لَمْ نَعْلَمْ لِصَاحِبِنَا فَضْلًا وَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَرَكُوا الْأَيْمَانَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْلِفُوا وَيَأْخُذُوا مَا بَقِيَ بَعْدَ دَيْنِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِيمَنْ هَلَكَ وَلَهُ دَيْنٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ

- (مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَهْلَكُ وَلَهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ لَهُمْ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَتَأْبَى) تَمْتَنِعُ (وَرَثَتُهُ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى حُقُوقِهِمْ) مَعَ شَاهِدِهِمْ (قَالَ: فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ) أَصْحَابَ الدُّيُونِ (يَحْلِفُونَ وَيَأْخُذُونَ حُقُوقَهُمْ، فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ) عَنِ الدُّيُونِ (لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَيْمَانَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ قَبْلُ فَتَرَكُوهَا) قَالَ ابْنُ زَرْقُونَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ إِذَا كَانَ فِي الْحَقِّ فَضْلٌ أَنْ تَبْدَأَ الْوَرَثَةُ بِالْيَمِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ،

ص: 20

فَقَالَ مَالِكٌ: تَبْدَأُ الْوَرَثَةُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَسَحْنُونٌ: تَبْدَأُ الْغُرَمَاءُ. (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا لَمْ نَعْلَمْ لِصَاحِبِنَا) أَيْ مُوَرِّثِنَا (فَضْلًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَرَكُوا الْأَيْمَانَ) أَوَّلًا (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْلِفُوا وَيَأْخُذُوا مَا بَقِيَ بَعْدَ دَيْنِهِ) وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ مُطْلَقًا.

ص: 21

[باب الْقَضَاءِ فِي الدَّعْوَى]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ عَنْ جَمِيلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُؤَذِّنِ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَإِذَا جَاءَهُ الرَّجُلُ يَدَّعِي عَلَى الرَّجُلِ حَقًّا نَظَرَ فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ أَوْ مُلَابَسَةٌ أَحْلَفَ الَّذِي ادُّعِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحَلِّفْهُ

قَالَ مَالِكٌ وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِدَعْوَى نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ أَوْ مُلَابَسَةٌ أُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ الْحَقُّ عَنْهُ وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي فَحَلَفَ طَالِبُ الْحَقِّ أَخَذَ حَقَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الدَّعْوَى

1432 -

1401 - (مَالِكٌ، عَنْ جَمِيلِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُؤَذِّنِ) الْمَدَنِيِّ، أُمُّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَعْدٍ الْقُرَظِيِّ، وَكَانَ يُؤَذِّنُ مَعَهُمْ، وَيُقَالُ اسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُوَيْدٍ أَوْ سِوَادَةَ وَالصَّوَابُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَهُ ابْنُ الْحَذَّاءِ. (أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، فَإِذَا جَاءَهُ الرَّجُلُ يَدَّعِي عَلَى الرَّجُلِ حَقًّا، نَظَرَ فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ أَوْ مُلَابَسَةٌ أَحْلَفَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحَلِّفْهُ، قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا) وَقَالَ بِهِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ (أَنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (مَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِدَعْوَى، نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ) مِثْلُ التُّجَّارِ، وَمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ (أَوْ مُلَابَسَةٌ، أُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ الْحَقُّ عَنْهُ) أَيْ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ. (وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي فَحَلَفَ طَالِبُ الْحَقِّ أَخَذَ حَقَّهُ) وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَغَيْرُهُمْ إِلَى تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا خُلْطَةٌ أَمْ لَا ; لِعُمُومِ حَدِيثِ

ص: 21

ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» ". لَكِنْ حَمَلَهُ مَالِكٌ وَمُوَافِقُوهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ خُلْطَةٌ لِئَلَّا يَبْتَذِلَ أَهْلُ السَّفَهِ أَهْلَ الْفَضْلِ بِتَحْلِيفِهِمْ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، فَاشْتُرِطَتِ الْخُلْطَةُ لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26](سورة يُوسُفَ: الْآيَةُ 26) الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُتِيَ يَعْقُوبُ بِقَمِيصِ يُوسُفَ وَلَمْ يَرَ فِيهِ خَرْقًا كَذَّبَهُمْ وَقَالَ: لَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ لَخَرَقَ قَمِيصَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ فِي قَمِيصِ يُوسُفَ ثَلَاثُ آيَاتٍ، فَزَادَ: حِينَ أُلْقِيَ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا، وَهَذَا أَصْلٌ فِي ثُبُوتِ الْخُلْطَةِ.

ص: 22

[باب الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ تَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ وَلَا تَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ وَحْدَهَا لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا أَوْ يُخَبَّبُوا أَوْ يُعَلَّمُوا فَإِنْ افْتَرَقُوا فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَشْهَدُوا الْعُدُولَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقُوا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ

1433 -

1402 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ) عَمَّهُ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) الصَّحَابِيَّ، أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (كَانَ يَقْضِي فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: اخْتُلِفَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُهَا إِذَا جِيءَ بِهِ فِي حَالِ نُزُولِ النَّازِلَةِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ. (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ (أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ تَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ) أَيِ الْكِبَارِ. (وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ) أَيْ فِي (الْجِرَاحِ وَحْدَهَا، لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ) مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا (إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقُوا أَوْ يُخَبَّبُوا) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَمُوَحَّدَتَيْنِ، يُخْدَعُوا، مِنَ الْخِبِّ بِالْكَسْرِ الْخِدَاعِ (أَوْ يُعَلَّمُوا، فَإِنِ افْتَرَقُوا فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ) أَيْ لَا تُقْبَلُ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَشْهَدَ الْعُدُولَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقُوا) فَتُقْبَلُ بِبَاقِي الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفُرُوعِ وَبِإِجَازَتِهَا. قَالَ مُعَاوِيَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ

ص: 22

شِهَابٍ وَالنَّخَعِيُّ بِخُلْفٍ عَنْهُ، وَلَمْ يُجِزْهَا الْجُمْهُورُ وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَحَمَلَ مَالِكٌ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَدَمِ إِجَازَتِهَا عَلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْكِبَارِ.

ص: 23

[باب مَا جَاءَ فِي الْحِنْثِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

قَالَ يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِك عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِمًا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحِنْثِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1434 -

1403 - (مَالِكٌ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ) وَيُقَالُ فِيهِ هِشَامُ بْنُ هِشَامٍ (عَنْ عُتْبَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَوْقِيَّةِ فَمُوَحَّدَةٌ (ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) مَالِكٍ، الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ، وَعُمِّرَ طَوِيلًا، وَمَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَشُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ وَأَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ وَمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرُهُمْ، وَمَنْ رَوَى عَنْهُ رَجُلَانِ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ، لِمَالِكٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ) بِكَسْرِ النُّونِ وَمُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ، الْمَدَنِيِّ مَوْلَى كِنْدَةَ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ. كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَفِي الِاسْتِذْكَارِ أَنَّهُ ذُهْلِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، قَالَ مُصْعَبٌ: أَبُوهُ نِسْطَاسٌ مَوْلَى أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ. اهـ. وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ مَوْلَى قُرَيْشٍ. (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ) الْخَزْرَجِيِّ، الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي) قَالَ مَالِكٌ: يُرِيدُ عِنْدَ مِنْبَرِي، وَهُوَ الْآنَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ الْقِبْلَةِ وَالْمِحْرَابِ ; لِأَنَّهُ زِيدَ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَتِ الْيَمِينُ عِنْدَ مِنْبَرِهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مُصَلَّاهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الْقِبْلَةُ وَالْمِحْرَابُ فَشَيْءٌ بُنِيَ بَعْدَهُ (آثِمًا) بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ بَكِيرٍ، وَالْأَكْثَرُ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ بِلَفْظِ:" «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ» " وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَفِيهِ اشْتِرَاطُ الْإِثْمِ فَلَا يَقَعُ الْوَعِيدُ إِلَّا مَعَ تَعَمُّدِ الْإِثْمِ فِي الْيَمِينِ وَاقْتِطَاعِ حَقِّ الْمُسْلِمِ بِهَا، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ:" وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ "(تَبَوَّأَ) أَيِ اتَّخَذَ (مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وَعِيدٌ شَدِيدٌ يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْعَظِيمَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى الْقَصْدِ فِي الذَّنْبِ وَجَزَائِهِ، أَيْ كَمَا أَنَّهُ قَصَدَ الْإِثْمَ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فِي ذَا الْمَكَانِ الْعَظِيمِ

ص: 23

كَذَلِكَ يَقْصِدُ فِي جَزَائِهِ التَّبَوُّءَ قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَذْهَبُنَا، أَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فِي الْوَعِيدِ أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ بَلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 48) وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ

لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي.

فَمَدَحَ نَفْسَهُ بِإِخْلَافِ الْوَعِيدِ وَلَوْ كَانَ كَذِبًا مَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65](سورة هُودٍ: الْآيَةُ 65)، وَقَالَ:{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54](سورة مَرْيَمَ: الْآيَةُ 54) فَوَصَفَ الْوَعْدَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ بِوُجُوبِ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ، فَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَبِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَبِغَيْرِهِمَا بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا يُغَلَّظُ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ مَرْفُوعًا:" مَنْ «حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَسْتَحِلُّ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ". أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ.

ص: 24

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ السَّلَمِيِّ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ قَالُوا وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1435 -

1404 - (مَالِكٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ يَعْقُوبَ الْجُهَنِيِّ أَحَدِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ تَابِعِيٍّ صَغِيرٍ، رَأَى أَنَسًا، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ السَّلَمِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ، الْمَدَنِيِّ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَوْلُ بَعْضِ الرُّوَاةِ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ (عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ) الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ، وَيُقَالُ: لَهُ رُؤْيَةٌ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) لَيْسَ هُوَ الْبَاهِلِيَّ إِنَّمَا هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ، قِيلَ اسْمُهُ إِيَاسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَقِيلَ ثَعْلَبَةُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَفِي الْإِصَابَةِ: اسْمُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ إِيَاسٌ، وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ، وَبِهِ جَزَمَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقِيلَ ثَعْلَبَةُ، وَقِيلَ سَهْلٌ، وَلَا يَصِحُّ غَيْرُ إِيَاسٍ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ مِنْهَا فِي مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّهُ مِنْ أَجْلِ أُمِّهِ فَوَجَدَهَا مَاتَتْ فَصَلَّى عَلَيْهَا. أَخْرَجَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنِ اقْتَطَعَ)

ص: 24

افْتَعَلَ مِنَ الْقَطْعِ (حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ (بِيَمِينِهِ) بِحَلِفِهِ الْكَاذِبِ (حَرَّمَ) مَنَعَ (اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ) إِنِ اسْتَحَلَّ أَوْ إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ، أَوْ هُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَيَجُوزُ تَخَلُّفُهُ كَمَا مَرَّ (قَالُوا: وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا) فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ غُصْنًا مَقْطُوعًا (مِنْ أَرَاكٍ) شَجَرٍ يُسْتَاكُ بِقُضْبَانِهِ، الْوَاحِدَةُ أَرَاكَةٌ، وَيُقَالُ هِيَ شَجَرَةٌ طَوِيلَةٌ نَاعِمَةٌ كَثِيرَةُ الْوَرَقِ وَالْأَغْصَانِ وَلَهَا ثَمَرٌ فِي عَنَاقِيدَ يُسَمَّى الْبَرِيرُ، بِمُوَحَّدَةٍ، وِزَانَ أَمِيرٍ، يَمْلَأُ الْعُنْقُودُ الْكَفَّ (وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا) وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ كَانَ سِوَاكًا (مِنْ أَرَاكٍ، وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) زِيَادَةً فِي التَّنْفِيرِ لِئَلَّا يُتَهَاوَنَ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْحَقِّ وَكَثِيرِهِ فِي التَّحْرِيمِ، أَمَّا فِي الْإِثْمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ مَنِ اقْتَطَعَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَمَنِ اقْتَطَعَ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ وَتَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَتَهْوِيلِهِ، بِدَلِيلِ تَأْكِيدِ تَحْرِيمِ الْجَنَّةِ وَإِيجَابِ النَّارِ، وَأَحَدُهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ، وَالْحَالُ يَقْتَضِي هَذَا التَّأْكِيدَ لِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِاعْتِدَاءِ الْغَايَةَ حَيْثُ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ سَبِيلٌ، وَاسْتَخَفَّ بِحُرْمَةٍ وَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ وَهِيَ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ قَوْلُهُ " مُسْلِمٍ " قَيْدٌ فَلَوِ اقْتَطَعَ حَقَّ كَافِرٍ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ، أَوْ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ وَرَدَ لِبَيَانِ أَنَّ رِعَايَةَ حَقِّ الْمُسْلِمِ أَشَدُّ لِأَنَّ حُرْمَةَ حَقِّ الْمُسْلِمِ أَقْوَى؟ وَقِيلَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْكَافِرِ أَوْجَبُ رِعَايَةً، فَإِنَّ إِرْضَاءَ الْمُسْلِمِ بِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرْضِيَ اللَّهُ خَصْمَهُ فَيَعْفُوَ عَنْ ظَالِمِهِ، وَأَمَّا إِرْضَاءُ الْكَافِرِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ فَيَكُونُ الْأَمْرُ صَعْبًا، فَإِذَا كَانَ حَقُّ مَنْ يُتَصَوَّرُ الْخَلَاصُ مِنْ ظُلْمِهِ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ فَحَقُّ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ أَوْلَى.

وَقَالَ عِيَاضٌ: الْحَدِيثُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَالْمُسْلِمُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُمَا سَوَاءٌ فِي حُرْمَةِ الْقَطْعِ. فَأَمَّا فِي الْعُقُوبَةِ فَيَنْبَغِي أَنَّ حَقَّ الْكَافِرِ أَخَفُّ، قَالَ الْآبِيُّ: وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ، يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ، وَوَجْهُهُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ رَفْعِ دَرَجَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ - وَهِيَ الْيَمِينُ الصَّبْرُ الَّتِي يُقْتَطَعُ بِهَا مَالُ مُسْلِمٍ - مِنَ الْكَبَائِرِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَلَا كَفَارَّةَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا اقْتَطَعَهُ مِنَ الْمَالِ ثُمَّ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ، عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَعْمَرٌ وَطَائِفَةٌ: يُكَفِّرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِمَّا عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:" كُنَّا نَعُدُّ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى مَالِ أَخِيهِ كَاذِبًا ". . اهـ.

وَهَذَا

ص: 25

الْحَدِيثُ تَابَعَ مَالِكًا عَلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ عِنْدِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ.

ص: 26

[باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ يَقُولُ اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ وَابْنُ مُطِيعٍ فِي دَارٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي قَالَ فَقَالَ مَرْوَانُ لَا وَاللَّهِ إِلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ قَالَ فَجَعَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ فَجَعَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ

قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى أَنْ يُحَلَّفَ أَحَدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ

1436 -

1405 - (مَالِكٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ، مُصَغَّرًا (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ) بِمُعْجَمَةٍ فَمُهْمَلَةٍ فَفَاءٍ مَفْتُوحَاتٍ، قِيلَ اسْمُهُ سَعْدٌ (ابْنَ طَرِيفٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَقِيلَ ابْنُ مَالِكٍ (الْمُرِّيَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، الْمَدَنِيَّ التَّابِعِيَّ الثِّقَةَ (يَقُولُ: اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ) الصَّحَابِيُّ الشَّهِيرُ (وَ) عَبْدُ اللَّهِ (ابْنُ مُطِيعٍ) بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَدَوِيُّ الْمَدَنِيُّ، لَهُ رُؤْيَةٌ، وَكَانَ رَأْسَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَأَمَّرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ قُتِلَ مَعَهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ (فِي دَارٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ) مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ (فَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ) النَّبَوِيِّ، أَيْ عِنْدَهُ (فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي) أَيْ فِيهِ (قَالَ) أَبُو غَطَفَانَ (فَقَالَ مَرْوَانُ: لَا وَاللَّهِ) لَا تَحْلِفُ (إِلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ، قَالَ: فَجَعَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ) ، أَيْ بَاقٍ لَمْ يَقْبِضْهُ (وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: فَجَعَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنِ امْتِنَاعِ زَيْدٍ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا تَغْلُظُ بِالْمَكَانِ، قَالَ مَالِكٌ: كَرِهَ زِيدٌ صَبْرَ الْيَمِينِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ حَلَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ، وَأَنَّ عُثْمَانَ رُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَافْتَدَى مِنْهَا وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تُوَافِقَ قَدَرَ بَلَاءٍ فَيُقَالُ: بِيَمِينِهِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْيَمِينُ عَلَى الْمِنْبَرِ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا فِي قَدِيمٍ وَلَا حَدِيثٍ، فَعَابَ قَوْلَنَا هَذَا عَائِبٌ، تَرَكَ فِيهِ مَوْضِعَ حُجَّتِنَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْآثَارِ بَعْدَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَا يَرَى الْيَمِينَ عَلَى الْمِنْبَرِ

ص: 26

وَأَنَّا رَوَيْنَا عَنْهُ ذَلِكَ وَخَالَفْنَاهُ إِلَى قَوْلِ مَرْوَانَ، فَمَا مَنَعَ زِيدًا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمِنْبَرِ حَقٌّ أَنْ يَقُولَ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ مَجْلِسُ الْحُكْمِ، وَقَدْ قَالَ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا: أَتُحِلُّ الرِّبَا يَا مَرْوَانُ؟ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ، قَالَ: فَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ الصُّكُوكَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضُوهَا، فَبَعَثَ مَرْوَانُ الْحَرَسَ يَنْزِعُونَهَا مِنْ أَيْدِي النَّاسِ. فَإِذَا لَمْ يُنْكِرْ مَرْوَانُ عَلَى زَيْدٍ هَذَا فَكَيْفَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُنِي الْيَمِينُ عَلَى الْمِنْبَرِ، لَقَدْ كَانَ زَيْدٌ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ مَرْوَانَ وَأَرْفَعِهِمْ مَنْزِلَةً، وَلَكِنْ عَلِمَ زَيْدٌ أَنَّ مَا قَضَى بِهِ مَرْوَانُ حَقٌّ، وَكَرِهَ أَنْ تَصِيرَ يَمِينُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ.

قَالَ: وَقَدْ رَوَى الَّذِينَ خَالَفُونَا حَدِيثًا يُثْبِتُونَهُ عِنْدَهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ، وَعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عُمَرَ جَلَبَ قَوْمًا مِنَ الْيَمَنِ فَأَدْخَلَهُمُ الْحِجْرَ فَأَحْلَفَهُمْ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَنْ عُمَرَ فَكَيْفَ أَنْكَرُوا عَلَيْنَا أَنْ يَحْلِفَ مَنْ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَنَحْنُ لَا نَجْلِبُ أَحَدًا مِنْ بَلَدِهِ، وَلَوْ لَمْ نَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ وَبِمَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْنَا مِنْ زَيْدٍ لَكَانَتِ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ لَازِمَةً، فَكَيْفَ وَالْحُجَّةُ ثَابِتَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ؟ نَقَلَهُ فِي التَّمْهِيدِ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: وَجَدْتُ لِمَرْوَانَ سَلَفًا، فَأَخْرَجَ الْكَرَابِيسِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ غَصَبَ لَهُ بَعِيرًا، فَخَاصَمَهُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ حَيْثُ شَاءَ، فَأَبَى عَلَيْهِ عُثْمَانُ أَنْ يَحْلِفَ إِلَّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَغَرِمَ مِثْلَ بَعِيرِهِ وَلَمْ يَحْلِفْ. (قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ يُحَلَّفَ) بِالتَّثْقِيلِ (أَحَدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْلِفُ فِي أَقَلِّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجُمْهُورَ اتَّفَقُوا عَلَى التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَالِ الْكَثِيرِ لَا فِي الْقَلِيلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.

ص: 27

[باب مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَلَقِ الرَّهْنِ]

قَالَ يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ»

قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الرَّهْنَ عِنْدَ الرَّجُلِ بِالشَّيْءِ وَفِي الرَّهْنِ فَضْلٌ عَمَّا رُهِنَ بِهِ فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ إِنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ إِلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَكَ بِمَا رُهِنَ فِيهِ قَالَ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ وَلَا يَحِلُّ وَهَذَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ بِالَّذِي رَهَنَ بِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ فَهُوَ لَهُ وَأُرَى هَذَا الشَّرْطَ مُنْفَسِخًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَلَقِ الرَّهْنِ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: غَلِقَ الرَّهْنُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَلَامٍ مَكْسُورَةٍ وَقَافٍ، يَغْلَقُ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَاللَّامِ، غَلَقًا، بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَاللَّامِ، أَيِ اسْتَحَقَّهُ الْمُرْتَهِنُ إِذَا لَمْ يُفْتَكَّ فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوطِ.

1437 -

1406 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بِكَسْرِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، قَالَ

ص: 27

أَبُو عُمَرَ: أَرْسَلَهُ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ إِلَّا مَعْنَ بْنَ عِيسَى، فَوَصَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَغْلَقُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ (الرَّهْنُ) الرِّوَايَةُ بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ لَيْسَ يَغْلَقُ، أَيْ لَا يَذْهَبُ وَيَتْلَفُ بَاطِلًا، وَقَالَ النُّحَاةُ: لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُخَلِّصٌ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:

وَفَارَقْتُكِ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ

يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلَقَا.

وَقَالَ قُعْنُبُ بْنُ حَمْزَةَ الْغَطَفَانِيُّ:

بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى دُونَهَا عَدَنٌ

وَغَلَقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَلْبِكَ الرَّهْنُ.

قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: لَا يَجُوزُ لُغَةً غَلِقَ الرَّهْنُ: إِذَا ضَاعَ، إِنَّمَا يُقَالُ: غَلِقَ: إِذَا اسْتَحَقَّهُ الْمُرْتَهِنُ فَذَهَبَ بِهِ، قَالَ: وَهَذَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبْطَلَهُ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» .

(قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ، نَظُنُّ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) بِمُرَادِ نَبِيِّهِ (أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الرَّهْنَ عِنْدَ الرَّجُلِ بِالشَّيْءِ وَفِي الرَّهْنِ فَضْلٌ) زِيَادَةٌ (عَمَّا رُهِنَ بِهِ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: إِنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ إِلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ) أَخَذْتُ رَهْنِي (وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَكَ بِمَا رُهِنَ فِيهِ، قَالَ: فَهَذَا لَا يَصْلُحُ وَلَا يَحِلُّ. وَهَذَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ بِالَّذِي رَهَنَ بِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ فَهُوَ) أَيِ الرَّهْنُ (لَهُ) أَوْ يُبَاعُ فَيَأْخُذُ حَقَّهُ وَيَرُدُّ مَا فَضَلَ (وَأُرَى هَذَا الشَّرْطَ مُنْفَسِخًا) لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَبِنَحْوِهِ فَسَّرَهُ طَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالزَّهْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ هَذَا وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى الَّذِي وَصَلَهُ عَنْ مَالِكٍ ثِقَةٌ، لَكِنْ أَخْشَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ رَاوِيَهُ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ مُوسَى عَنْ مَعْنٍ أَخْطَأَ فِي وَصْلِهِ، لَكِنْ تَابَعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْأَصَحُّ إِرْسَالُهُ، وَإِنْ وُصِلَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ فَكُلُّهَا مُعَلَّلَةٌ، وَزَادَ فِيهِ بَعْضُ: الرُّوَاةِ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ. اهـ، كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مُلَخَّصًا.

وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُنَضَّدِ أَنَّ لَا نَافِيَةٌ أَوْ نَاهِيَةٌ، فَعَلَيْهِ تُكْسَرُ الْقَافُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُفْصِحْ بِأَنَّهُ رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ أَفْصَحَ أَبُو عُمَرَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِالرَّفْعِ خَبَرٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ.

ص: 28

[باب الْقَضَاءِ فِي رَهْنِ الثَّمَرِ وَالْحَيَوَانِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ رَهَنَ حَائِطًا لَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَيَكُونُ ثَمَرُ ذَلِكَ الْحَائِطِ قَبْلَ ذَلِكَ الْأَجَلِ إِنَّ الثَّمَرَ لَيْسَ بِرَهْنٍ مَعَ الْأَصْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فِي رَهْنِهِ وَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا ارْتَهَنَ جَارِيَةً وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ حَمَلَتْ بَعْدَ ارْتِهَانِهِ إِيَّاهَا إِنَّ وَلَدَهَا مَعَهَا

قَالَ مَالِكٌ وَفُرِقَ بَيْنَ الثَّمَرِ وَبَيْنَ وَلَدِ الْجَارِيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ

قَالَ وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ بَاعَ وَلِيدَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ أَنَّ ذَلِكَ الْجَنِينَ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فَلَيْسَتْ النَّخْلُ مِثْلَ الْحَيَوَانِ وَلَيْسَ الثَّمَرُ مِثْلَ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ

قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخْلِ وَلَا يَرْهَنُ النَّخْلَ وَلَيْسَ يَرْهَنُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ الرَّقِيقِ وَلَا مِنْ الدَّوَابِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

11 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي رَهْنِ الثَّمَرِ وَالْحَيَوَانِ

- (مَالِكٌ: فِيمَنْ رَهَنَ حَائِطًا) بُسْتَانًا (لَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَيَكُونُ) يُوجَدُ (ثَمَرُ ذَلِكَ الْحَائِطِ قَبْلَ ذَلِكَ الْأَجَلِ: أَنَّ الثَّمَرَ لَيْسَ بِرَهْنٍ مَعَ الْأَصْلِ) سَوَاءٌ حَدَثَتْ أَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً حِينَ الرَّهْنِ مُزْهِيَةً أَوْ غَيْرَ مُزْهِيَةٍ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فِي رَهْنِهِ) فَيَكُونُ رَهْنًا (وَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا ارْتَهَنَ الْجَارِيَةَ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ حَمَلَتْ بَعْدَ ارْتِهَانِهِ إِيَّاهَا أَنَّ وَلَدَهَا) يَكُونُ رَهْنًا (مَعَهَا. وَفَرَّقَ بَيْنَ الثَّمَرِ وَبَيْنَ وَلَدِ الْجَارِيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ خَفِيفَةٍ وَثَقِيلَةٍ (فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ) كَمَا مَرَّ مُسْنَدًا (وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ بَاعَ وَلِيدَةً) أَمَةً (أَوْ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ: أَنَّ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، فَلَيْسَتِ النَّخْلُ مِثْلَ الْحَيَوَانِ) لِافْتِرَاقِ حُكْمَيْهِمَا (وَلَيْسَ الثَّمَرُ مِثْلَ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) زَادَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: وَلَوْ شَرَطَ أَنَّ الْأَمَةَ رَهْنٌ دُونَ مَا تَلِدُهُ لَمْ يَجُزْ (وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخْلِ وَلَا يَرْهَنُ النَّخْلَ، وَلَيْسَ يَرْهَنُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنَ الرَّقِيقِ وَلَا مِنَ الدَّوَابِّ) لِقُوَّةِ الْغَرَرِ، وَإِنْ جَازَ أَصْلُهُ فِي الرَّهْنِ.

ص: 29

[باب الْقَضَاءِ فِي الرَّهْنِ مِنْ الْحَيَوَانِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا فِي الرَّهْنِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ يُعْرَفُ هَلَاكُهُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَعُلِمَ هَلَاكُهُ فَهُوَ مِنْ الرَّاهِنِ وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا وَمَا كَانَ مِنْ رَهْنٍ يَهْلِكُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يُعْلَمُ هَلَاكُهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ فَهُوَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ لِقِيمَتِهِ ضَامِنٌ يُقَالُ لَهُ صِفْهُ فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفَ عَلَى صِفَتِهِ وَتَسْمِيَةِ مَالِهِ فِيهِ ثُمَّ يُقَوِّمُهُ أَهْلُ الْبَصَرِ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَمَّا سَمَّى فِيهِ الْمُرْتَهِنُ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى أُحْلِفَ الرَّاهِنُ عَلَى مَا سَمَّى الْمُرْتَهِنُ وَبَطَلَ عَنْهُ الْفَضْلُ الَّذِي سَمَّى الْمُرْتَهِنُ فَوْقَ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يَحْلِفَ أُعْطِيَ الْمُرْتَهِنُ مَا فَضَلَ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ لَا عِلْمَ لِي بِقِيمَةِ الرَّهْنِ حُلِّفَ الرَّاهِنُ عَلَى صِفَةِ الرَّهْنِ وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ إِذَا جَاءَ بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْكَرُ

قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ وَلَمْ يَضَعْهُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

12 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الرَّهْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ يُعْرَفُ هَلَاكُهُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ) مِنْ كُلِّ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ (فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَعُلِمَ هَلَاكُهُ فَهُوَ مِنَ الرَّاهِنِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا) وَكَذَا إِذَا ادَّعَى إِبَاقَ الْعَبْدِ وَهُرُوبَ الْحَيَوَانِ، فَلَا ضَمَانَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُ، كَدَعْوَاهُ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُدُولٍ فَأَنْكَرُوهُ. (وَمَا كَانَ مِنْ رَهْنٍ يَهْلَكُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يُعْلَمُ هَلَاكُهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ) كَثِيَابٍ وَعُرُوضٍ وَعَيْنٍ وَحُلِيٍّ وَكُلِّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ (فَهُوَ مِنَ الْمُرْتَهِنِ) قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِهَلَاكِهِ فَلَا يُضَمَّنُ (وَهُوَ) حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ (لِقِيمَتِهِ ضَامِنٌ) فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَصْفِهِ، حُكِمَ بِقِيمَةِ تِلْكَ الصِّفَةِ (وَيُقَالُ) إِذَا اخْتَلَفَا (لَهُ صِفْهُ، فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفَ عَلَى صِفَتِهِ) أَنَّهَا كَمَا وَصَفَ (وَ) عَلَى (تَسْمِيَةِ مَا) أَيْ الدَّيْنِ الَّذِي (لَهُ فِيهِ) أَيْ فِي الرَّهْنِ، أَيْ فِي مُقَابَلَتِهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الدَّيْنِ (ثُمَّ يُقَوِّمُهُ أَهْلُ الْبَصَرِ) أَيِ الْخِبْرَةِ (بِذَلِكَ) الْوَصْفِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ (فَإِنْ كَانَ فِيهِ) أَيْ قِيمَةُ الرَّهْنِ (فَضْلٌ) زِيَادَةٌ (عَمَّا سَمَّى فِيهِ الْمُرْتَهِنُ أَخَذَهَ الرَّاهِنُ، وَإِنْ كَانَ) قِيمَةُ الرَّهْنِ (أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى) الْمُرْتَهِنُ مِنَ الدَّيْنِ (حَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى مَا سَمَّى الْمُرْتَهِنُ وَبَطَلَ عَنْهُ الْفَضْلُ) الزَّائِدُ (الَّذِي سَمَّى الْمُرْتَهِنُ فَوْقَ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يَحْلِفَ أُعْطِيَ) أَيْ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُرْتَهِنَ (مَا فَضَلَ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ، فَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا عِلْمَ لِي بِقِيمَةِ الرَّهْنِ، حَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى صِفَةِ الرَّهْنِ) لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُدَّعِيًا عَلَى الرَّاهِنِ

ص: 30

(وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ إِذَا جَاءَ بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْكَرُ) بِأَنْ أَشْبَهَ مَا قَالَ، فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَقُولُ: أَنَا إِنَّمَا ادَّعَيْتُ الْجَهْلَ بِتَحَقُّقِ الصِّفَةِ فَأَنَا أَصِفُهُ بِصِفَةٍ لَا أَشُكُّ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صِفَةِ الرَّهْنِ. وَهِيَ دُونَ صِفَةِ الرَّاهِنِ بِكَثِيرٍ، فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يُسْتَنْكَرُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

(وَذَلِكَ) كُلُّهُ (إِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ وَلَمْ يَضَعْهُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ) فَإِنْ كَانَ بِيَدَيْ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِذَا اخْتُلِفَ فِي مَبْلَغِ الدَّيْنِ فَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمُرْتَهِنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ الرَّهْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ لِلرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يُنْظَرُ إِلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ مُدَّعٍ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: وَالْحُجَّةُ قَوْلُهُ عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 283) فَجَعَلَ الرَّهْنَ بَدَلًا مِنَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَخَذَهُ وَثِيقَةً بِحَقِّهِ، فَكَأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ مَبْلَغِ الدَّيْنِ، وَمَا جَاوَزَ قِيمَتَهُ فَلَا وَثِيقَةَ فِيهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الرَّاهِنِ. قَالَ: وَوَافَقَ مَالِكًا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُهُ إِلَّا لِبَيِّنَةٍ، وَبَيْنَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ. الْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ مَضْمُونٌ مُطْلَقًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ: الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِقِيمَةِ الدَّيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ: الرَّهْنُ كُلُّهُ أَمَانَةٌ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِمَا تُضْمَنُ بِهِ الْوَدَائِعُ مِنَ التَّعَدِّي وَالتَّضْيِيعِ، سَوَاءٌ كَانَ حُلِيًّا أَوْ حَيَوَانًا مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ لِلْحَدِيثِ:" لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ ". قَالُوا: " لَهُ غُنْمُهُ " أَيْ غَلَّتُهُ وَخَرَاجُهُ، " وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " أَيْ فِكَاكُهُ وَمِنْهُ مُصِيبَتُهُ. وَالْمُرْتَهِنُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِي حَبْسِهِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَنْ تَعَدَّى. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: غُنْمُهُ مَا فَضَلَ مِنَ الدَّيْنِ وَغُرْمُهُ مَا نَقَصَ مِنْهُ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: غُرْمُهُ نَفَقَتُهُ لَا فِكَاكُهُ وَمُصِيبَتُهُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ الْخَرَاجُ وَالْغَلَّةُ وَهُوَ غُنْمُهُ كَانَ الْغُرْمُ مَا قَابَلَ ذَلِكَ مِنَ النَّفَقَةِ.

ص: 31

[باب الْقَضَاءِ فِي الرَّهْنِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلَيْنِ يَكُونُ لَهُمَا رَهْنٌ بَيْنَهُمَا فَيَقُومُ أَحَدُهُمَا بِبَيْعِ رَهْنِهِ وَقَدْ كَانَ الْآخَرُ أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ سَنَةً قَالَ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُقْسَمَ الرَّهْنُ وَلَا يَنْقُصَ حَقُّ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ بِيعَ لَهُ نِصْفُ الرَّهْنِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا فَأُوفِيَ حَقَّهُ وَإِنْ خِيفَ أَنْ يَنْقُصَ حَقُّهُ بِيعَ الرَّهْنُ كُلُّهُ فَأُعْطِيَ الَّذِي قَامَ بِبَيْعِ رَهْنِهِ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ وَإِلَّا حُلِّفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ مَا أَنْظَرَهُ إِلَّا لِيُوقِفَ لِي رَهْنِي عَلَى هَيْئَتِهِ ثُمَّ أُعْطِيَ حَقَّهُ عَاجِلًا

قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي الْعَبْدِ يَرْهَنُهُ سَيِّدُهُ وَلِلْعَبْدِ مَالٌ إِنَّ مَالَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِرَهْنٍ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُرْتَهِنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

13 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الرَّهْنِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ

- (مَالِكٌ: فِي الرَّجُلَيْنِ يَكُونُ لَهُمَا رَهْنٌ بَيْنَهُمَا، فَيَقُومُ أَحَدُهُمَا بِبَيْعِ رَهْنِهِ وَقَدْ كَانَ الْآخَرُ

ص: 31

أَنْظَرَهُ) أَخَّرَهُ (بِحَقِّهِ سَنَةً، قَالَ: إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَقْسِمَ الرَّهْنَ) بِأَنْ لَا يُنْقِصَ قِيمَتَهُ بِالْقِسْمَةِ (وَلَا يُنْقِصَ حَقَّ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ - بِيعَ لَهُ نِصْفُ الرَّهْنِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا فَأَوفَى حَقَّهُ) فَإِنْ قَصَرَ عَنْهُ طَلَبَهُ بِبَقِيَّةِ حَقِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي بَقِيَّةِ الرَّهْنِ شَيْءٌ. (وَإِنْ خِيفَ أَنْ يَنْقُصَ حَقُّهُ بِيعَ الرَّهْنُ كُلُّهُ، فَأُعْطِيَ الَّذِي قَامَ بِبَيْعِ رَهْنِهِ حَقُّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ) فَعَلَ (وَإِلَّا حُلِّفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ مَا أَنْظَرَهُ إِلَّا لِيُوقِفَ لِي رَهْنِي عَلَى هَيْئَتِهِ) صِفَتِهِ (ثُمَّ أُعْطِيَ حَقَّهُ عَاجِلًا) لِحَلِفِهِ

. (مَالِكٌ: فِي الْعَبْدِ يَرْهَنُهُ سَيِّدُهُ وَلِلْعَبْدِ مَالٌ: أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِرَهْنٍ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُرْتَهِنُ) اتِّفَاقًا، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ فَالرَّهْنُ أَحْرَى، وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَسْتَفِيدُهُ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: لَا يَكُونُ مَا وُهِبَ لَهُ وَلَا خَرَاجُهُ رَهْنًا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: ذَلِكَ كُلُّهُ رَهْنٌ مَعَهُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.

ص: 32

[باب الْقَضَاءِ فِي جَامِعِ الرُّهُونِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ ارْتَهَنَ مَتَاعًا فَهَلَكَ الْمَتَاعُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَأَقَرَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِتَسْمِيَةِ الْحَقِّ وَاجْتَمَعَا عَلَى التَّسْمِيَةِ وَتَدَاعَيَا فِي الرَّهْنِ فَقَالَ الرَّاهِنُ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَالْحَقُّ الَّذِي لِلرَّجُلِ فِيهِ عِشْرُونَ دِينَارًا قَالَ مَالِكٌ يُقَالُ لِلَّذِي بِيَدِهِ الرَّهْنُ صِفْهُ فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ تِلْكَ الصِّفَةَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِمَّا رُهِنَ بِهِ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ ارْدُدْ إِلَى الرَّاهِنِ بَقِيَّةَ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا رُهِنَ بِهِ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ بَقِيَّةَ حَقِّهِ مِنْ الرَّاهِنِ وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ فَالرَّهْنُ بِمَا فِيهِ

قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي الرَّهْنِ يَرْهَنُهُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيَقُولُ الرَّاهِنُ أَرْهَنْتُكَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ ارْتَهَنْتُهُ مِنْكَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَالرَّهْنُ ظَاهِرٌ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ قَالَ يُحَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ حَتَّى يُحِيطَ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ عَمَّا حُلِّفَ أَنَّ لَهُ فِيهِ أَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ وَكَانَ أَوْلَى بِالتَّبْدِئَةِ بِالْيَمِينِ لِقَبْضِهِ الرَّهْنَ وَحِيَازَتِهِ إِيَّاهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الرَّهْنِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ الَّذِي حُلِّفَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ رَهْنَهُ

قَالَ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ أَقَلَّ مِنْ الْعِشْرِينَ الَّتِي سَمَّى أُحْلِفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعِشْرِينَ الَّتِي سَمَّى ثُمَّ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ إِمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَتَأْخُذَ رَهْنَكَ وَإِمَّا أَنْ تَحْلِفَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ أَنَّكَ رَهَنْتَهُ بِهِ وَيَبْطُلُ عَنْكَ مَا زَادَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَزِمَهُ غُرْمُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ

قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ وَتَنَاكَرَا الْحَقَّ فَقَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ كَانَتْ لِي فِيهِ عِشْرُونَ دِينَارًا وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِيهِ إِلَّا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ قِيمَةُ الرَّهْنِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا قِيلَ لِلَّذِي لَهُ الْحَقُّ صِفْهُ فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفَ عَلَى صِفَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ تِلْكَ الصِّفَةَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى فِيهِ الْمُرْتَهِنُ أُحْلِفَ عَلَى مَا ادَّعَى ثُمَّ يُعْطَى الرَّاهِنُ مَا فَضَلَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِمَّا يَدَّعِي فِيهِ الْمُرْتَهِنُ أُحْلِفَ عَلَى الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ قَاصَّهُ بِمَا بَلَغَ الرَّهْنُ ثُمَّ أُحْلِفَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ عَلَى الْفَضْلِ الَّذِي بَقِيَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَبْلَغِ ثَمَنِ الرَّهْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ الرَّهْنُ صَارَ مُدَّعِيًا عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ عَنْهُ بَقِيَّةُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ مِمَّا ادَّعَى فَوْقَ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

14 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي جَامِعِ الرُّهُونِ

- (مَالِكٌ: فِيمَنِ ارْتَهَنَ مَتَاعًا فَهَلَكَ الْمَتَاعُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَأَقَرَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِتَسْمِيَةِ الْحَقِّ وَاجْتَمَعَا) تَوَافَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ (عَلَى التَّسْمِيَةِ وَتَدَاعَيَا) تَحَالَفَا (فِي الرَّهْنِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَالْحَقُّ الَّذِي لِلرَّجُلِ) الْمُرْتَهِنِ

ص: 32

(فِيهِ عِشْرُونَ دِينَارًا، قَالَ مَالِكٌ: يُقَالُ لِلَّذِي بِيَدِهِ الرَّهْنُ: صِفْهُ، فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الرَّاهِنَ خَالَفَهُ فِي الْوَصْفِ وَادَّعَى أَفْضَلَ مِنْهُ (ثُمَّ أَقَامَ) قَوَّمَ (تِلْكَ الصِّفَةَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِمَّا رُهِنَ بِهِ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ: ارْدُدْ إِلَى الرَّاهِنِ بَقِيَّةَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا رُهِنَ بِهِ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ بَقِيَّةَ حَقِّهِ مِنَ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ فَالرَّهْنُ بِمَا فِيهِ) لِأَنَّ الرَّهْنَ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي الرَّهْنِ يَرْهَنُهُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: ارْتَهَنْتُهُ مِنْكَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَالرَّهْنُ ظَاهِرٌ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ) أَوْ بِيَدِ أَمِينٍ لِأَنَّهُ حَائِزٌ لِلْمُرْتَهِنِ (قَالَ: يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ حَتَّى يُحِيطَ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ عَمَّا حَلَفَ أَنَّ لَهُ فِيهِ، أَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ وَكَانَ أَوْلَى بِالتَّبْدِيَةِ بِالْيَمِينِ) عَلَى الرَّاهِنِ (لِقَبْضِهِ الرَّهْنَ وَحِيَازَتِهِ إِيَّاهُ) وَلِأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الرَّهْنِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ رَهْنَهُ) فَلَهُ ذَلِكَ. (وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ أَقَلَّ مَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي سَمَّى، أُحْلِفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعِشْرِينَ الَّتِي سَمَّى ثُمَّ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ: إِمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَتَأْخُذَ رَهْنَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَحْلِفَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ أَنَّكَ رَهَنْتَهُ بِهِ

ص: 33

وَيَبْطُلَ عَنْكَ مَا زَادَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ، فَإِذَا حَلَفَ الرَّاهِنُ بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَزِمَهُ غُرْمُ) أَيْ دَفْعُ (مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ وَتَنَاكَرَ الْحَقَّ فَقَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ:) أَيِ الْمُرْتَهِنُ (كَانَتْ لِي فِيهِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَقَالَ) الرَّاهِنُ (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ: لَمْ يَكُنْ لَكَ فِيهِ إِلَّا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ:) أَيْ الْمُرْتَهِنُ (قِيمَةُ الرَّهْنِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أَيِ (الرَّاهِنِ: قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا) فَتَنَاكَرَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ وَفِي قِيمَةِ الرَّهْنِ (قِيلَ لِلَّذِي لَهُ الْحَقُّ:) وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ (صِفْهُ) لِأَنَّهُ الْغَارِمُ (فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفَ) أَنَّهُ (عَلَى صِفَتِهِ) الَّتِي وَصَفَهَا (ثُمَّ أَقَامَ تِلْكَ الصِّفَةَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرُ مِمَّا ادَّعَى فِيهِ الْمُرْتَهِنُ) وَهُوَ الْعِشْرُونَ دِينَارًا (أُحْلِفَ عَلَى مَا ادَّعَى ثُمَّ يُعْطَى الرَّاهِنُ مَا فَضَلَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِمَّا يَدَّعِي فِيهِ الْمُرْتَهِنُ، أُحْلِفَ عَلَى الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَهُ فِيهِ) وَهُوَ الْعِشْرُونَ (ثُمَّ قَاصَّهُ بِمَا بَلَغَ الرَّهْنُ) مِنَ الْقِيمَةِ (ثُمَّ أُحْلِفَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ عَلَى الْفَضْلِ الَّذِي بَقِيَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَبْلَغِ ثَمَنِ الرَّهْنِ، وَذَلِكَ) أَيْ وَجْهُ حَلِفِ الرَّاهِنِ (أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ الرَّهْنُ) وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ (صَارَ مُدَّعِيًا عَلَى الرَّاهِنِ) بِمَا بَقِيَ لَهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ (فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ عَنْهُ بَقِيَّةُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ مِمَّا ادَّعَى فَوْقَ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ لَزِمَهُ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: ذَكَرَ الْمُوَطَّأُ يَمِينَيْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ: إِحْدَاهُمَا

ص: 34

عَلَى صِفَةِ الرَّهْنِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى إِثْبَاتِ دَيْنِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا يَلْزَمَانِهِ مُنْفَصِلَيْنِ ; لِأَنَّ الْأُولَى تَجِبُ قَبْلَ وُجُوبِ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّ قِيمَةَ الرَّهْنِ إِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الرَّاهِنُ فَلَا مَعْنًى لِيَمِينِ الْمُرْتَهِنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ ذِكْرَ مَا تَنَاوَلَهُ الْيَمِينُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُفَرِّقَهُمَا بَلْ يَجْمَعُهُمَا فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ عِنْدِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 35

[باب الْقَضَاءِ فِي كِرَاءِ الدَّابَّةِ وَالتَّعَدِّي بِهَا]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَسْتَكْرِي الدَّابَّةَ إِلَى الْمَكَانِ الْمُسَمَّى ثُمَّ يَتَعَدَّى ذَلِكَ الْمَكَانَ وَيَتَقَدَّمُ إِنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يُخَيَّرُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ كِرَاءَ دَابَّتِهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تُعُدِّيَ بِهَا إِلَيْهِ أُعْطِيَ ذَلِكَ وَيَقْبِضُ دَابَّتَهُ وَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ وَإِنْ أَحَبَّ رَبُّ الدَّابَّةِ فَلَهُ قِيمَةُ دَابَّتِهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي تَعَدَّى مِنْهُ الْمُسْتَكْرِي وَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ إِنْ كَانَ اسْتَكْرَى الدَّابَّةَ الْبَدْأَةَ فَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَاهَا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا ثُمَّ تَعَدَّى حِينَ بَلَغَ الْبَلَدَ الَّذِي اسْتَكْرَى إِلَيْهِ فَإِنَّمَا لِرَبِّ الدَّابَّةِ نِصْفُ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ أَنَّ الْكِرَاءَ نِصْفُهُ فِي الْبَدْأَةِ وَنِصْفُهُ فِي الرَّجْعَةِ فَتَعَدَّى الْمُتَعَدِّي بِالدَّابَّةِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ وَلَوْ أَنَّ الدَّابَّةَ هَلَكَتْ حِينَ بَلَغَ بِهَا الْبَلَدَ الَّذِي اسْتَكْرَى إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُسْتَكْرِي ضَمَانٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُكْرِي إِلَّا نِصْفُ الْكِرَاءِ

قَالَ وَعَلَى ذَلِكَ أَمْرُ أَهْلِ التَّعَدِّي وَالْخِلَافِ لِمَا أَخَذُوا الدَّابَّةَ عَلَيْهِ

قَالَ وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ أَخَذَ مَالًا قِرَاضًا مِنْ صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ لَا تَشْتَرِ بِهِ حَيَوَانًا وَلَا سِلَعًا كَذَا وَكَذَا لِسِلَعٍ يُسَمِّيهَا وَيَنْهَاهُ عَنْهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ مَالَهُ فِيهَا فَيَشْتَرِي الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ وَيَذْهَبَ بِرِبْحِ صَاحِبِهِ فَإِذَا صَنَعَ ذَلِكَ فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِي السِّلْعَةِ عَلَى مَا شَرَطَا بَيْنَهُمَا مِنْ الرِّبْحِ فَعَلَ وَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ رَأْسُ مَالِهِ ضَامِنًا عَلَى الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ وَتَعَدَّى

قَالَ وَكَذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ يُبْضِعُ مَعَهُ الرَّجُلُ بِضَاعَةً فَيَأْمُرُهُ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً بِاسْمِهَا فَيُخَالِفُ فَيَشْتَرِي بِبِضَاعَتِهِ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِضَاعَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ مَا اشْتُرِيَ بِمَالِهِ أَخَذَهُ وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الْمُبْضِعُ مَعَهُ ضَامِنًا لِرَأْسِ مَالِهِ فَذَلِكَ لَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

15 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي كِرَاءِ الدَّابَّةِ وَالتَّعَدِّي بِهَا

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَسْتَكْرِي الدَّابَّةَ إِلَى الْمَكَانِ الْمُسَمَّى ثُمَّ يَتَعَدَّى) يَتَجَاوَزُ (ذَلِكَ الْمَكَانَ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يُخَيَّرُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ كِرَاءَ دَابَّتِهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تُعُدِّيَ بِهَا إِلَيْهِ أُعْطِيَ ذَلِكَ) أَيْ كِرَاءَ الْمِثْلِ فِيمَا تَعَدَّى لَا عَلَى قَدْرِ مَا تَكَارَى، قَالَهُ الْإِمَامُ فِي الْمُدَوَّنَةِ (وَيَقْبِضُ دَابَّتَهُ وَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ) أَيْضًا. (وَإِنْ أَحَبَّ رَبُّ الدَّابَّةِ فَلَهُ قِيمَةُ دَابَّتِهِ) يَوْمَ التَّعَدِّي (مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي تَعَدَّى مِنْهُ الْمُسْتَكْرِي) وَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ فَقَطْ دُونَ مَا زَادَ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ إِذَا تَغَيَّرَتْ بِالزَّائِدِ أَوْ حَبَسَهَا حَتَّى تَغَيَّرَ سُوقُهَا، أَمَّا لَوْ رَدَّهَا بِحَالِهَا فَإِنَّمَا لِرَبِّهَا كِرَاءُ مَا تَعَدَّى فِيهِ الْأَوَّلُ، وَمَحَلُّ كَوْنِهِ الْأَوَّلَ بِتَمَامِهِ (إِنْ كَانَ اسْتَكْرَى الدَّابَّةَ الْبَدَاءَةَ) أَيْ الذَّهَابَ (فَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَاهَا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا ثُمَّ تَعَدَّى حِينَ بَلَغَ الْبَلَدَ الَّذِي اسْتَكْرَى إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا لِرَبِّ الدَّابَّةِ نِصْفُ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ) ثُمَّ يُخَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَذَلِكَ أَنَّ الْكِرَاءَ نِصْفُهُ فِي الْبَدْأَةِ وَنِصْفُهُ فِي الرَّجْعَةِ، فَتَعَدَّى الْمُتَعَدِّي بِالدَّابَّةِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ الْكِرَاءِ) هَذَا إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ سَوَاءٌ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ لِرَغْبَةِ النَّاسِ فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَ التَّقْوِيمُ (وَلَوْ أَنَّ الدَّابَّةَ هَلَكَتْ حِينَ بَلَغَ بِهَا الْبَلَدَ الَّذِي اسْتَكْرَى) الدَّابَّةَ (إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ

ص: 35

عَلَى الْمُسْتَكْرِي ضَمَانٌ) لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَكْرَاهَا عَلَيْهِ (وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُكْرِي إِلَّا نِصْفُ الْكِرَاءِ) إِذَا اكْتَرَى ذَهَابًا وَإِيَابًا. (قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ أَمْرُ أَهْلِ التَّعَدِّي وَالْخِلَافِ) أَيِ الْمُخَالَفَةِ (لِمَا أَخَذُوا الدَّابَّةَ عَلَيْهِ) كَأَنْ يُحَمِّلُوهَا غَيْرَ مَا أَكْرُوهَا عَلَيْهِ، أَوْ يَزِيدُوا عَلَى قَدْرِ مَا أَكْرُوهَا مِمَّا بُيِّنَ فِي الْفُرُوعِ وَبَسَطَهُ الْبَاجِيُّ. (وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ أَخَذَ مَالًا قِرَاضًا مِنْ صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: لَا تَشْتَرِ بِهِ حَيَوَانًا وَلَا سِلَعًا كَذَا وَكَذَا. لِسِلَعٍ يُسَمِّيهَا وَيَنْهَاهُ عَنْهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ مَالَهُ فِيهَا، فَيَشْتَرِي الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ) أَيْ عَامِلُ الْقِرَاضِ (الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ وَيَذْهَبَ بِرِبْحِ صَاحِبِهِ، فَإِذَا صَنَعَ ذَلِكَ فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِي السِّلْعَةِ عَلَى مَا شَرَطَا بَيْنَهُمَا مِنَ الرِّبْحِ فَعَلَ، وَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ رَأْسُ مَالِهِ) حَالَ كَوْنِهِ (ضَامِنًا) أَيْ مَضْمُونًا (عَلَى الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ وَتَعَدَّى) فَخَيَّرَهُ فِي أَمْرَيْنِ، وَزَادَ الْإِمَامُ فِي الْوَاضِحَةِ ثَالِثًا: بَيْعَ السِّلْعَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْلٌ فَعَلَى الْقِرَاضِ، وَإِنْ كَانَ نَقْصٌ ضَمِنَ، أَيْ لِتَعَدِّيهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى بَاعَ السِّلْعَةَ ضَمِنَ إِنْ بِيعَتْ بِنَقْصٍ وَبِرِبْحٍ فَعَلَى الْقِرَاضِ (وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُبْضِعُ مَعَهُ الرَّجُلُ بِضَاعَةً فَيَأْمُرُهُ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً بِاسْمِهَا، فَيُخَالِفُ فَيَشْتَرِي بِضَاعَتَهُ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِضَاعَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ مَا اشْتَرَى بِمَالِهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الْمُبْضِعُ مَعَهُ ضَامِنًا لِرَأْسِ مَالِهِ فَذَلِكَ لَهُ) فَإِنْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ بَيْعِ السِّلْعَةِ، فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ إِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَلِصَاحِبِ الْبِضَاعَةِ، وَنَقْصٌ فَعَلَى الْمُبْضِعِ مَعَهُ.

ص: 36

[باب الْقَضَاءِ فِي الْمُسْتَكْرَهَةِ مِنْ النِّسَاءِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَضَى فِي امْرَأَةٍ أُصِيبَتْ مُسْتَكْرَهَةً بِصَدَاقِهَا عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَغْتَصِبُ الْمَرْأَةَ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَعَلَيْهِ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا وَالْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُغْتَصِبِ وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمُغْتَصَبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ الْمُغْتَصِبُ عَبْدًا فَذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُسَلِّمَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

16 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْمُسْتَكْرَهَةِ مِنَ النِّسَاءِ

1443 -

1407 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ (أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ) الْأُمَوِيَّ (قَضَى فِي امْرَأَةٍ أُصِيبَتْ) جُومِعَتْ (مُسْتَكْرَهَةً بِصَدَاقِهَا) مُتَعَلِّقٌ بِقَضَى (عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا) وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَغْتَصِبُ الْمَرْأَةَ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَعَلَيْهِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَالْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُغْتَصِبِ) رَوَاهُ يَحْيَى وَالْقَعْنَبِيُّ، وَلَمْ يَرْوِهِ ابْنُ بُكَيْرٍ وَلَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَا مُطَرِّفٌ، وَرَوَوْا كُلُّهُمْ (وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمُغْتَصَبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) فَلَمْ يَرْوُوهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَا عُقُوبَةَ، وَإِذَا صَحَّ إِكْرَاهُهَا وَاسْتِغَاثَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ دَمِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ أَمْرُهَا. خَرَّجَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْخُلَفَاءِ وَفُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُغْتَصِبَ الْمُسْتَكْرِهَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُهُ أَوْ أَقَرَّ، وَإِلَّا فَالْعُقُوبَةُ وَالصَّدَاقُ عِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا صَدَاقَ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الصَّدَاقِ وَالْغُرْمِ، وَحَدُّ اللَّهِ لَا يُسْقِطُ حَدَّ الْآدَمِيِّ، وَهُمَا حَقَّانِ أَوْجَبَهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.

(وَإِنْ كَانَ الْمُغْتَصِبُ عَبْدًا، فَذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ) يَعْنِي أَنَّهَا جِنَايَةٌ فِي رَقَبَتِهِ فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَفْتَكَّهُ بِالْجِنَايَةِ مَا بَلَغَتْ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُسْلِمَهُ) فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِمَنْ جَنَى عَلَيْهَا. قَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: مَا لَزِمَهُ مِنْ صَدَاقِ الْحُرَّةِ وَنَقْصِ الْأَمَةِ فَفِي رَقَبَتِهِ وَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِفَوْرِ

ص: 37

فِعْلِهِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ تُدْمِي، فَأَمَّا بَعْدُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَلْحَقُ بِرَقَبَتِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ تَسْتَحِقُّ فِيهِ الصَّدَاقَ بِيَمِينِهَا فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ. اهـ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عَبْدًا اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا فَاخْتَصَمَا إِلَى الْحَسَنِ وَهُوَ قَاضٍ يَوْمَئِذٍ، فَضَرَبَهُ الْحَدَّ وَقَضَى بِالْعَبْدِ لِلْمَرْأَةِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَسْلَمَهُ بِجِنَايَتِهِ.

ص: 38

[باب الْقَضَاءِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْحَيَوَانِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْخَذَ بِمِثْلِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَهُ فِيمَا اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ وَلَكِنْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ الْقِيمَةُ أَعْدَلُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ

قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ بِمَكِيلَتِهِ مِنْ صِنْفِهِ وَإِنَّمَا الطَّعَامُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يَرُدُّ مِنْ الذَّهَبِ الذَّهَبَ وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ وَلَيْسَ الْحَيَوَانُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ فِي ذَلِكَ فَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ الْمَعْمُولُ بِهِ

قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ إِذَا اسْتُوْدِعَ الرَّجُلُ مَالًا فَابْتَاعَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَرَبِحَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الرِّبْحَ لَهُ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

17 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْحَيَوَانِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنِ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ إِذَنِ صَاحِبِهِ، أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْخَدَ بِمِثْلِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَهُ فِيمَا اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ الْقِيمَةُ أَعْدَلُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيمَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ بِقِيمَةِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ دُونَ حِصَّةٍ مِنْ عَبْدٍ مِثْلِهِ، وَقِيمَةُ الْعَدْلِ فِي الْحَقِيقَةِ مِثْلٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَدَاوُدَ: لَا يُقْضَى بِالْقِيمَةِ فِي شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ ; لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126](سورة النَّحْلِ: الْآيَةُ 126) وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ: " مَا رَأَيْتُ صَانِعًا مِثْلَ صَفِيَّةَ، صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَبَعَثَتْ بِهِ، فَغِرْتُ فَكَسَرْتُ الْإِنَاءَ، فَقَالَ: إِنَاءٌ مِثْلُ إِنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ ". وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: غَارَتْ أُمُّكُمْ، كُلُوا وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ. وَأَجَابَ أَبُو عُمَرَ بِأَنَّ حَدِيثَ الشِّقْصِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْقَصْعَةِ فَهُوَ أَوْلَى. وَالْبَاجِيُّ بِأَنَّ بُيُوتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا فِيهَا مِنْ إِنَاءٍ وَطَعَامٍ لَهُ صلى الله عليه وسلم فَيَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مَا شَاءَ، وَيَرْضَى مِنْ ذَلِكَ بِمَا شَاءَ.

(وَمَنِ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ بِغَيْرِ إِذَنِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ بِمَكِيلَتِهِ مِنْ صِنْفِهِ) إِنْ عُلِمَتْ مَكِيلَتُهُ وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مِثْلَ حِرْزِهَا لَمْ يَأْمَنْ مِنَ التَّفَاضُلِ مِنَ

ص: 38

الطَّعَامِ (وَإِنَّمَا الطَّعَامُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِثْلُهُ اتِّفَاقًا. (وَلَيْسَ الْحَيَوَانُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ فِي ذَلِكَ، فَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ الْمَعْمُولُ بِهِ، وَإِذَا اسْتُودِعَ الرَّجُلُ مَالًا فَابْتَاعَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَرَبِحَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الرِّبْحَ لَهُ ; لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ) هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ: يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَلَا يَطِيبُ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا اشْتَرَى بِمَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَفَقَدَ الْمَغْصُوبَ أَوِ الْوَدِيعَةَ فَالرِّبْحُ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِالْمَالِ بِعَيْنِهِ خُيِّرَ رَبُّهُ بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ وَالسِّلْعَةِ وَالرِّبْحِ لَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الرِّبْحُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِرَبِّ الْمَالِ.

ص: 39

[باب الْقَضَاءِ فِيمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ]

حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ»

وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ مِثْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ فَإِنَّ أُولَئِكَ إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قُتِلُوا وَلَمْ يُسْتَتَابُوا لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الْإِسْلَامَ فَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلَاءِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا وَلَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ فَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي عُنِيَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

18 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ

1444 -

1408 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) مُرْسَلًا عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ. " مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ ") أَيِ انْتَقَلَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ (فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ) أَيْ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وُجُوبًا كَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ، أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكِنْ فِي الزَّنَادِقَةِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ. (وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ، نَظُنُّ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) بِمَا أَرَادَ نَبِيُّهُ (مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ ; أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِسْلَامِ) إِذْ هُوَ الدِّينُ الْمُعْتَبَرُ (إِلَى غَيْرِهِ مِثْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ) مِنْ كُلِّ مَنْ أَسَرَّ مِنَ الْكُفْرِ دِينًا غَيْرَ الْإِسْلَامِ مِنْ

ص: 39

يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ صَابِئَةٍ أَوْ عِبَادَةِ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ نَجْمٍ (فَإِنَّ أُولَئِكَ إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قُتِلُوا وَلَمْ يُسْتَتَابُوا ; لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ وَ) ذَلِكَ (أَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ) يُظْهِرُونَ (الْإِسْلَامَ، فَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلَاءِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ) أَيْ تَلَفُّظُهُمْ بِالْإِسْلَامِ إِذْ كَانُوا يَقُولُونَهُ قَبْلَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَهُ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَانِ.

(وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا جُوعٍ وَلَا عَطَشٍ (فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ) بِضَرْبِ عُنُقِهِ (وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُسْتَتَابُوا، فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ) بِمُوَحَّدَةٍ (ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا) لَمْ يُسْلِمُوا (قُتِلُوا، وَلَمْ يَعْنِ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ لَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَنْ خَرَجَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا) إِلَى غَيْرِهِ (إِلَّا الْإِسْلَامَ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي عُنِيَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلِ (بِهِ) أَيِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: أَنَّ لِلْإِمَامِ قَتْلَ الذِّمِّيِّ إِذَا غَيَّرَ دِينَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الذِّمَّةَ إِنَّمَا انْعَقَدَتْ لَهُ عَلَى أَنْ يَبْقَى عَلَى ذَلِكَ الدِّينِ، فَلَمَّا خَرَجَ عَنْهُ عَادَ كَالْحَرْبِيِّ. وَرَوَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ يُخْرِجُهُ مِنْ بَلَدِهِ لِدَارِ الْحَرْبِ، وَعَلَّلَهُ بِمَا ذَكَرَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ ظَاهِرًا لَكِنْ مَعَ الْإِكْرَاهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106](سورة النَّحْلِ: الْآيَةُ 106) وَشَمِلَ عُمُومُهُ الرَّجُلَ وَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَالْمَرْأَةَ وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْجُمْهُورُ، وَخَصَّهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالذَّكَرِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، فَكَمَا لَا تُقْتَلُ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لَا تُقْتَلُ فِي الْكُفْرِ الطَّارِئِ، وَلِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَعُمُّ الْمُؤَنَّثَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى الْقِصَّةَ، قَالَ: تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ.

ص: 40

وَقَتَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي خِلَافَتِهِ امْرَأَةً ارْتَدَّتْ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.

وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " «وَأَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ فَإِنْ عَادَ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٌ ارْتَدَّتْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا فَإِنْ عَادَتْ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهَا» ". وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ قِصَّةٍ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:" أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ. وَلَقَتَلْتُهُمْ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ". زَادَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ: " فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: وَيْحَ أُمِّ ابْنِ عَبَّاسٍ ". وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ اعْتِرَاضَهُ عَلَيْهِ وَرَأَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ ; لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَرَى جَوَازَ التَّحْرِيقِ، وَكَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُمَا تَشْدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ وَمُبَالَغَةً فِي النِّكَايَةِ وَالنَّكَالِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ. لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ مِنْ حَيْثُ التَّنْزِيهُ، لَكِنْ قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ رُوِّينَا مِنْ وُجُوهٍ أَنَّ عَلِيًّا إِنَّمَا أَحْرَقَهُمْ بَعْدَ قَتْلِهِمْ. رَوَى الْعَقِيلِيُّ عَنْ عُثْمَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الشِّيعَةِ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ هُوَ؟ قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ هُوَ؟ قَالَ: وَيْلَكُمْ مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَبُّنَا، قَالَ: وَيَلْكُمُ ارْجِعُوا وَتُوبُوا، فَأَبَوْا فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ ثُمَّ قَالَ: يَا قُنْبُرُ ائْتِنِي بِحِزَمِ الْحَطَبِ، فَحَفَرَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أُخْدُودًا فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ ثُمَّ قَالَ:

لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا

أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قُنْبُرًا.

ص: 41

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ فَقَالَ نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ قَالَ فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ عُمَرُ أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1445 -

1409 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ) بِالتَّنْوِينِ بِلَا إِضَافَةٍ (الْقَارِيِّ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، نِسْبَةً إِلَى الْقَارَةِ، بَطْنٌ مِنْ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ (عَنْ أَبِيهِ) مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ (أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيِ جِهَةِ (أَبِي مُوسَى) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ (الْأَشْعَرِيِّ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ مِنْ مُغَرِّبَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، مُثَقَّلَةً فِيهِمَا ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ فَتَاءِ تَأْنِيثٍ، مُضَافٍ إِلَى (خَبَرٍ) أَيْ: هَلْ مِنْ حَالَةٍ حَامِلَةٍ لِخَبَرٍ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ؟ (فَقَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، قَالَ: فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ) بِلَا اسْتِتَابَةٍ أَخْذًا

ص: 41

بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَ بِقَتْلِ قَوْمٍ ارْتَدُّوا كَابْنِ خَطَلٍ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْتِتَابَةً. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا مُقَيَّدًا فِي الْحَدِيدِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَقَالَ مُعَاذٌ: لَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ؛ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَدِ اسْتَتَابَهُ شَهْرَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْفَتْحِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِتَابَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِهَا (فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا) مِنَ الْأَيَّامِ، كَذَا قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: يُسْتَتَابُ مَرَّةً، وَقِيلَ شَهْرًا، وَقِيلَ ثَلَاثَةً جَمْعٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَ الثَّلَاثَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65](سورة هُودٍ: الْآيَةُ 65) وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ جُعِلَتْ أَصْلًا فِي مَعَانٍ كَالْمُصَرَّاةِ وَاسْتِظْهَارِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

(وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا) يُرِيدُ أَنْ لَا يُوَسَّعَ عَلَيْهِ تَوْسِعَةَ إِحْسَانٍ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، وَلَكِنْ يُطْعَمُ مَا يَقُوتُهُ وَيَكْفِيهِ وَلَا يُجَوَّعُ وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مِنْ مَالِهِ. قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ: يَعْنِي تُوَسِّعُ وَلَا تَفُكُّهُ، قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: يُقَوَّتُ مِنَ الطَّعَامِ مَا لَا يَضُرُّهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ لَا يُجْعَلَ الرَّغِيفُ حَدًّا، وَإِنَّمَا أَشَارَ عُمَرُ إِلَى قِلَّةِ مُؤْنَتِهِ وَرَزِيَّتِهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ، وَبَيْتِ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَدَّ (وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ) يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِقَوْلِ عُمَرَ هَذَا، وَأَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لَهُ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَا يَصِحُّ إِلَّا إِنْ ثَبَتَ رُجُوعُ أَبِي مُوسَى وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى قَوْلِ عُمَرَ (ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ) قَتْلَهُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ (وَلَمْ آمُرْ بِهِ وَلَمْ أَرْضَ) بِهِ (إِذْ بَلَغَنِي) فِيهِ تَصْرِيحٌ بِخَطَأِ فَاعِلِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَتَابَ أَهْلَ الرِّدَّةِ. وَرَوَى عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَتَابَ أُمَّ قِرْفَةَ لَمَّا ارْتَدَّتْ فَلَمْ تَتُبْ فَقَتَلَهَا، فَلَعَلَّ عُمَرَ عَلِمَ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي مُوسَى تَغْيِيرَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَأَبُو مُوسَى مُجْتَهِدٌ، فَإِذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إِجْمَاعَ لَمْ يَبْلُغْ عُمَرُ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدَّ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَبِي مُوسَى ذَلِكَ مَا جَازَ لِعُمْرَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْحُكْمَ حَتَّى يُطَالِعَهُ عَلَى قَضِيَّتِهِ، وَفِي هَذَا مِنْ فَسَادِ الْأَحْوَالِ وَتَوَقُّفِ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَخْفَى، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

ص: 42

[باب الْقَضَاءِ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا]

حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

19 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا

1446 -

1410 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، مُصَغَّرًا (ابْنِ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ) بَائِعِ السَّمْنِ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ الْمَدَنِيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ، أَوْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، سَيِّدَ الْخَزْرَجِ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ) ، أَيْ أَخْبِرْنِي (إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْأَوْلَى وَضَمِّ الثَّانِيَةِ (حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ) زَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ: " قَالَ - أَيْ سَعْدٌ -: كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ إِنَّهُ لَغَيُورٌ وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي ". زَادَ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: " «مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةَ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَتْ ": {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] (سورة النُّورِ: الْآيَةُ 4) قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - وَهُوَ سَيِّدُ الْأَنْصَارِ -: أَهَكَذَا نَزَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَلُمْهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنْ تَعَجَّبْتُ أَنِّي لَوْ وَجَدْتُ لُكَاعًا قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهَيِّجَهُ وَلَا أُحَرِّكَهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَوَاللَّهِ لَا آتِي بِهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ» ". الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ النَّهْيُ عَنْ إِقَامَةِ حَدٍّ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا شُهُودٍ وَقَطْعُ الذَّرِيعَةِ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ بِهِ بِزِيَادَةٍ، رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَبِهِ شَنَّعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى الْبَزَّارِ فِي زَعْمِهِ تَفَرُّدَ مَالِكٍ بِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ وَلَا تَابَعَهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، قَالَ:

ص: 43

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحَامُلِ الْبَزَّارِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عَلِمٌ وَكِتَابُهُ مَمْلُوءٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا، وَلَوْ سُلِّمَ تَفَرُّدُ مَالِكٍ بِهِ كَمَا زَعَمَ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأَكْثَرُ السُّنَنِ وَالْأَحَادِيثِ قَدِ انْفَرَدَ بِهَا الثِّقَاتُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَارٍّ لِشَيْءٍ مِنْهَا، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَنَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَأَيُّ انْفِرَادٍ فِي هَذَا؟ وَلَيْتَ كُلَّ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْمُحَدِّثُونَ كَانَ مِثْلَ هَذَا.

ص: 44

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ خَيْبَرِيٍّ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُمَا مَعًا فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْقَضَاءُ فِيهِ فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُ لَهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ إِنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا هُوَ بِأَرْضِي عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتُخْبِرَنِّي فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى كَتَبَ إِلَيَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَبُو حَسَنٍ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1447 -

1411 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ خَيْبَرِيٍّ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فَرَاءٍ فَتَحْتِيَّةٍ آخِرَهُ (وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُمَا مَعًا) شَكَّ الرَّاوِي، وَفِي نُسْخَةٍ " قَتَلَهَا " بِالْإِفْرَادِ (فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ) صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ (الْقَضَاءُ فِيهِ فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُ لَهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذَلِكَ) وَلَمْ يَكْتُبْ إِلَى عَلِيٍّ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ طَاعَتِهِ (فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا هُوَ بِأَرْضِي) أَيِ الْعِرَاقِ (عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتُخْبِرَنِّي، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَتَبَ إِلَيَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَبُو حَسَنٍ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: الْقَرْمُ (إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) يَشْهَدُونَ عَلَى مُعَايَنَةِ الْوَطْءِ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ (فَلْيُعْطَ) يُسَلَّمْ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ يَقْتُلُونَهُ قِصَاصًا (بِرُمَّتِهِ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَتُكْسَرُ، قِطْعَةٌ مِنْ حَبْلٍ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُودُونَ الْقَاتِلَ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ بِحَبْلٍ، وَلِذَا قِيلَ الْقَوْدُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، فَمَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ قَتْلُ مُسْلِمٍ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ قَتْلُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى يُثْبِتَ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ الْقِصَاصَ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْمَخْرَجِ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: " «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: الرَّجُلُ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا

ص: 44

أَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ» ". وَرَوَى أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ عُمَرَ أَهْدَرَ دَمَهُ وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، إِنَّمَا أَهْدَرَ دَمَ الَّذِي أَرَادَ اغْتِصَابَ الْجَارِيَةِ الْهُذَلِيَّةِ، فَعَصَبَ كَبِدَهُ فَمَاتَ. ذَكَرَهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَابَعَ مَالِكًا ابْنُ جُرَيْجٍ وَالثَّوْرِيُّ وَمَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

ص: 45

[باب الْقَضَاءِ فِي الْمَنْبُوذِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ فَجِئْتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ فَقَالَ وَجَدْتُهَا ضَائِعَةً فَأَخَذْتُهَا فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَكَذَلِكَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ وَلَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمَنْبُوذِ أَنَّهُ حُرٌّ وَأَنَّ وَلَاءَهُ لِلْمُسْلِمِينَ هُمْ يَرِثُونَهُ وَيَعْقِلُونَ عَنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

20 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْمَنْبُوذِ

1448 -

1412 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ سُنَيْنٍ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَنُونٍ (أَبِي جَمِيلَةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ (رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) بِضَمِّ السِّينِ، قِيلَ اسْمُ أَبِيهِ فَرْقَدٌ، حَكَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ، لِذَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُمَرَ فِي الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَالَ: لَهُ أَحَادِيثٌ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ. (أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ، أَيْ لَقِيطًا. قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ يُسَمَّ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ: أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ وَأَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا (فِي زَمَانِ) خِلَافَةِ (عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ) بِفَتْحَتَيْنِ، رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ اتَّهَمَهُ أَنْ يَكُونَ وَلَدَهُ أَتَى بِهِ لِيَفْرِضَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. الْبَاجِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَافَ التَّسَارُعَ إِلَى أَخْذِ الْأَطْفَالِ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ حِرْصًا عَلَى أَخْذِ النَّفَقَةِ لَهُمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَهُ لِئَلَّا يَلْتَقِطَهُ مُدَّعِيًا لَهُ. أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَيْهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَلِيَ أَمْرَهُ وَيَأْخُذَ مَا يُفْرَضُ لَهُ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ. اهـ.

وَقِيلَ: اتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ بَعِيدٌ وَمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى (فَقَالَ: وَجَدْتُهَا ضَائِعَةً وَأَخَذْتُهَا) لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيَّ (فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ جَمْعُهُ عُرَفَاءُ، أَيْ مَنْ يَعْرِفُ أُمُورَ النَّاسِ حَتَّى يُعَرِّفَ بِهَا مَنْ فَوْقَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ

ص: 45

لِذَلِكَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَاسْمُ عَرِيفِ عُمَرَ سِنَانٌ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ) لَا يُتَّهَمُ (فَقَالَ عُمَرُ: أَكَذَلِكَ) هُوَ (قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ وَلَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ) مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: حُكْمُهُ بِأَنَّهُ حُرٌّ يَقْتَضِي أَنْ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ ; إِذْ لَا وَلَاءَ عَلَى حُرٍّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ". فَنَفَى الْوَلَاءَ عَنْ غَيْرِ الْمُعْتِقِ، وَلِذَا (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمَنْبُوذِ أَنَّهُ حُرٌّ وَأَنَّ وَلَاءَهُ لِلْمُسْلِمِينَ هُمْ يَرِثُونَهُ وَيَعْقِلُونَ عَنْهُ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ مَالِكٌ: لَوْ عُلِمَ أَنَّ عُمَرَ قَالَهُ مَا خُولِفَ. قَالَ الْبَاجِيُّ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ إِذْ لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ وَالْقِيَامَ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ مُلْتَقِطَهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ نَزَعَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ رُدَّ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى مُؤْنَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ خِيفَ أَنْ يَضِيعَ عِنْدَ الْأَوَّلِ فَالثَّانِي أَوْلَى، إِلَّا لِطُولِ مُكْثِهِ عِنْدَ الْأَوَّلِ وَلَا ضَرَرَ فَهُوَ أَحَقُّ، قَالَهُ أَشْهَبُ.

وَخَرَّجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ وَالْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ سُنَيْنٍ بِأَتَمِّ أَلْفَاظٍ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، قَالَ:" وَجَدْتُ مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ عَرِيفِي لِعُمَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَجِئْتُ وَالْعَرِيفُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلًا قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، كَأَنَّهُ اتَّهَمَهُ، فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَقَالَ عُمَرُ: عَلَامَ أَخَذْتَ هَذِهِ النَّسَمَةَ؟ قُلْتُ: وَجَدْتُ نَفْسًا بِمَضْيَعَةٍ فَخِفْتُ أَنْ يُؤَاخِذَنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ حُرٌّ وَلَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: " قَوْلُهُ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " مَثَلٌ لِلْعَرَبِ إِذَا تَوَقَّعَتْ شَرًّا، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الْغُوَيْرُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ فِيهِ مَاءٌ لَبَنِي كَلْبٍ كَانَ فِيهِ نَاسٌ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ وَكَانَ مَنْ مَرَّ يَتَوَاصَوْنَ بِالْحِرَاسَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْمَثَلِ الزَّبَّاءُ، بِفَتْحِ الزَّايِ وَشَدِّ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ، إِذْ بَعَثَتْ قَصِيرًا اللَّخْمِيَّ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَانَ يَطْلُبُهَا بِدَمِ جَذِيمَةَ بْنِ الْأَبْرَشِ، فَتَوَاطَأَ هُوَ وَعَمْرُو ابْنُ أُخْتِ جَذِيمَةَ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ أَنْفَ قَصِيرٍ، فَأَظْهَرَ أَنَّهُ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى الزَّبَّاءِ، فَأَمِنَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْهُ تَاجِرًا فَرَجَعَ إِلَيْهَا بِرِبْحٍ كَثِيرٍ مِرَارًا، ثُمَّ رَجَعَ الْمَرَّةَ الْأَخِيرَةَ وَمَعَهُ الرِّجَالُ فِي الْأَعْدَالِ، فَنَظَرَتْ إِلَى الْجِمَالِ تَمْشِي رُوَيْدًا لِثِقَلِ مَنْ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، أَيْ لَعَلَّ الشَّرَّ يَأْتِيكُمْ مِنْ قِبَلِ الْغُوَيْرِ، وَكَانَ قَصِيرٌ أَعْلَمَهَا أَنَّهُ يَسْلُكُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ طَرِيقَ الْغُوَيْرِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْأَحْمَالُ قَصْرَهَا خَرَجَ الرِّجَالُ مَنِ الْأَعْدَالِ فَهَلَكَتْ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْغُوَيْرُ تَصْغِيرُ

ص: 46

غَارٍ دَخَلَهُ قَوْمٌ يَبِيتُونَ فِيهِ فَانْهَارَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: وَجَدُوا فِيهِ عَدُوًّا لَهُمْ فَقَتَلَهُمْ فِيهِ، وَالْأَبْؤُسُ الْبَائِسُ. قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: وَقَوْلُ الْكَلْبِيِّ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. اهـ.

وَنُصِبَ أَبْؤُسًا بِتَقْدِيرِ: يَكُونُ أَبْؤُسًا، جَمْعُ بُؤْسٍ وَهُوَ الشِّدَّةُ، وَفِيهِ تَثَبُّتُ عُمَرَ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا تَوَقَّفَ فِي أَمْرِ أَحَدٍ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيهِ، وَرُجُوعُ الْحَاكِمِ إِلَى قَوْلِ أَمِينِهِ، وَأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا يُكْرَهُ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْإِطْنَابُ، وَالِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ فِي التَّزْكِيَةِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْحُكْمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ. وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ اشْتِرَاطُ اثْنَيْنِ كَالشَّهَادَةِ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ ; إِذْ لَيْسَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ إِلَّا عَرِيفُهُ وَحْدُهُ. وَفِي الْمَظَالِمِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اتَّهَمَ أَبَا جَمِيلَةَ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ بِالسَّتْرِ، وَاسْتَثْنَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِطَانَةَ الْحَاكِمِ ; لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ، وَالْحَاكِمُ لَا يُشْتَرَطُ تَعَدُّدُهُ، وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ فِيمَنْ تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا يَشْهَدُونَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْحَاجَةِ فَغَيْرُهَا أَوْلَى، وَتَابَعَ مَالِكًا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّهَادَاتِ.

ص: 47

[باب الْقَضَاءِ بِإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِأَبِيهِ]

قَالَ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ قَالَتْ فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ وَقَالَ ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ احْتَجِبِي مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَتْ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عز وجل»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

21 -

بَابُ الْقَضَاءِ بِإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِأَبِيهِ

1449 -

1413 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَوْقِيَّةِ (ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مَالِكٍ الزُّهْرِيِّ، مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الدُّمْيَاطِيُّ وَالسَّفَاقِسِيُّ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ إِلَّا ابْنَ مَنْدَهْ، وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ أَبِي نُعَيْمٍ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي كَسَرَ رُبَاعِيَّةَ النَّبِيِّ يَوْمَ أُحُدٍ مَا عَلِمْتُ لَهُ إِسْلَامًا. بَلْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمِقْسَمِ بْنِ عُتْبَةَ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَى عُتْبَةَ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا، فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا إِلَى النَّارِ» ". وَرَوَى الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَجَاهِيلُ عَنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: " «أَنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا فَعَلَ عُتْبَةُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا؟ قَالَ عُتْبَةُ. قُلْتُ: أَيْنَ تَوَجَّهَ؟ فَأَشَارَ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَ، فَمَضَيْتُ حَتَّى ظَفِرْتُ بِهِ فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ فَطَرَحْتُ رَأْسَهُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ وَسَيْفَهُ وَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَنَظَرَ إِلَى ذَلِكَ وَدَعَا لِي فَقَالَ: رَضِيَ اللَّهُ

ص: 47

عَنْكَ، مَرَّتَيْنِ» ". وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَوْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ كَيْفَ كَانَ يُوصِي أَخَاهُ سَعْدًا؟ وَقَدْ يُقَالُ: لَعَلَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَرْبِ احْتِيَاطًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ، بَلْ فِيهَا مَا يُصَرِّحُ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَلَا مَعْنًى لِإِيرَادِهِ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ مَنْدَهْ بِمَا لَا دِلَالَةَ فِيهِ عَلَى إِسْلَامِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ (عَهِدَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، أَيْ أَوْصَى (إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) أَحَدِ الْعَشَرَةِ وَأَوَّلِ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَحَدِ مَنْ فَدَاهُ صلى الله عليه وسلم بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ: مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَطُّ حِرْصِي عَلَى قَتْلِ أَخِي عُتْبَةَ ; لِمَا صَنَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَقَدْ كَفَانِي مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِهِ» .

(أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ جَارِيَةَ (زَمْعَةَ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَقَدْ تُفْتَحُ، وَصَوَّبَهُ الْوَقَشِيُّ. وَزَمْعَةُ بْنُ قَيْسٍ الْعَامِرِيُّ وَالِدُ سَوْدَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ تُسَمَّ الْوَلِيدَةُ، نَعَمْ، ذَكَرَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ وَابْنُ أَخِيهِ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي نَسَبِ قُرَيْشٍ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً يَمَانِيَّةً وَأَمَّا ابْنُهَا فَصَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفِ النَّسَّابُونَ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: وَخَلَطَ ابْنُ مَنْدَهْ وَتَبِعَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي نَسَبِهِ فَجَعَلَاهُ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَوَهِمَ ابْنُ قَانِعٍ فَجَعَلَهُ الْمُخَاصِمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَكَأَنَّهُ انْقَلَبَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ الْمُخَاصَمُ فِيهِ لَا الْمُخَاصِمُ فَإِنَّهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ بِلَا نِزَاعٍ (مِنِّي) أَيِ ابْنِي (فَاقْبِضْهُ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (إِلَيْكَ) وَأَصْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِمَاءٌ يَزْنِينَ وَكَانَتْ سَادَاتُهُنَّ تَأْتِيهِنَّ فِي خِلَالِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَتَتْ إِحْدَاهُنَّ بِوَلَدٍ فَرُبَّمَا يَدَّعِيهِ السَّيِّدُ وَرُبَّمَا يَدَّعِيهِ الزَّانِي، فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ وَلَمْ يَكُنِ ادَّعَاهُ وَلَا أَنْكَرَهُ فَادَّعَاهُ وَرَثَتُهُ لَحِقَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُشَارِكُ مُسْتَلْحِقَهُ فِي مِيرَاثِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَلْحِقَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَنْكَرَهُ السَّيِّدُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، وَكَانَ لِزَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ أَمَةٌ عَلَى مَا وُصِفَ وَعَلَيْهَا ضَرِيبَةٌ وَهُوَ يُلِمُّ بِهَا فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ عُتْبَةَ أَخِي سَعْدٍ، فَعَهِدَ عُتْبَةُ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يَسْتَلْحِقَ الْحَمْلَ الَّذِي بِأَمَةِ زَمْعَةَ. (قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ) لِمَكَّةَ، بِرَفْعِ عَامٍ، اسْمُ كَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ بِنَصْبِهِ بِتَقْدِيرِ فِي (أَخَذَهُ سَعْدٌ وَقَالَ) هُوَ (ابْنُ أَخِي) عُتْبَةَ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَأَى سَعْدٌ الْغُلَامَ فَعَرَفَهُ بِالشَّبَهِ فَاحْتَضَنَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: ابْنُ أَخِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ (قَدْ كَانَ عَهِدَ) أَوْصَى (إِلَيَّ فِيهِ) فَاحْتَجَّ بِاسْتِلْحَاقِ عُتْبَةَ عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ (فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ) بِلَا إِضَافَةٍ (ابْنُ زَمْعَةَ) بْنِ قَيْسٍ الْقُرَشِيِّ الْعَامِرِيِّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، رَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ: " «تَزَوَّجَ صلى الله عليه وسلم سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، فَجَاءَ أَخُوهَا عَبْدُ

ص: 48

بْنُ زَمْعَةَ مِنَ الْحِجْرِ فَجَعَلَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِي أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوْدَةَ أُخْتِي» ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم (فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي) أَيْ جَارِيَتِهِ (وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ) مِنْ أَمَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، كَأَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ حُكْمَ الْفِرَاشِ فَاحْتَجَّ بِهِ، وَقَدْ كَانَتْ عَادَةُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلْحَاقَ النَّسَبِ بِالزِّنَى وَكَانُوا يَسْتَأْجِرُونَ الْإِمَاءَ لِلزِّنَى، فَمَنِ اعْتَرَفَتِ الْأُمُّ أَنَّهُ لَهُ لُحِقَ، وَلَمْ يَقَعْ إِلْحَاقُ ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; إِمَّا لِعَدَمِ الدَّعْوَى، وَإِمَّا لِأَنَّ الْأَمَةَ لَمْ تَعْتَرِفْ لِعُتْبَةَ، وَقِيلَ: كَانَتْ مَوَالِي الْوَلَائِدِ يُخْرِجُوهُنَّ لِلزِّنَى وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِنَّ الضَّرَائِبَ، وَكَانَتْ وَلِيدَةُ زَمْعَةَ كَذَلِكَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً مُسْتَفْرَشَةً لِزِمْعَةَ فَزَنَى بِهَا عُتْبَةُ، وَكَانَتْ عَادَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَهُ وَإِنْ نَفَاهُ انْتَفَى عَنْهُ وَإِنِ ادَّعَاهُ غَيْرُهُ رُدَّ ذَلِكَ إِلَى السَّيِّدِ أَوِ الْقَافَةِ، فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ ظُنَّ أَنَّهُ مِنْ عُتْبَةَ فَاخْتَصَمَ فِيهَا (فَتَسَاوَقَا) أَيْ تَدَافَعَا بَعْدَ تَخَاصُمِهِمَا وَتَنَازُعِهِمَا فِي الْوَلَدِ، أَيْ سَاقَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) هَذَا (ابْنُ أَخِي) عُتْبَةَ (قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ) بِشَدِّ الْيَاءِ (فِيهِ) وَلِلْقَعْنَبِيِّ: عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ. زَادَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ (وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هُوَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ) وَلِلْقَعْنَبِيِّ: «فَنَظَرَ صلى الله عليه وسلم إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ) » زَادَ الْقَعْنَبِيُّ: هُوَ أَخُوكَ (يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ) بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْأَصْلِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا وَنَصْبِ نُونِ ابْنِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَسَقَطَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَدَاةُ النِّدَاءِ فَبَنَى عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: إِنَّمَا مَلَّكَهُ إِيَّاهُ لِأَنَّهُ ابْنُ أَمَةِ أَبِيهِ لَا أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ فَالرِّوَايَةُ إِنَّمَا هِيَ بِالْيَاءِ، وَعَلَى تَسْلِيمِ إِسْقَاطِهَا فَعَبْدٌ هَنَا عَلَمٌ وَالْعَلَمُ يُحْذَفُ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَمِنْهُ:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29](سورة يُوسُفَ: الْآيَةُ 29) اهـ.

وَرِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ صَرِيحَةٌ فِي رَدِّ هَذَا الزَّعْمِ، وَلِذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ لَكَ، أَيْ هُوَ أَخُوكَ كَمَا ادَّعَيْتَ. قَضَى فِي ذَلِكَ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ زَمْعَةَ كَانَ صِهْرَهُ فَفِرَاشُهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم لَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَى عَبْدٍ عَلَى أَبِيهِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ إِقْرَارُهُ بِهِ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا لِاسْتِلْحَاقِ عَبْدٍ لَهُ ; لِأَنَّ الْأَخَ لَا يَصْلُحُ اسْتِلْحَاقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ خِلَافٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَلَى أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ بِعِلْمِهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مَعْنَى هُوَ لَكَ، أَيْ بِيَدِكَ تَمْنَعُ مِنْهُ مِنْ سِوَاكَ

ص: 49

كَمَا قَالَ فِي اللُّقَطَةِ: هِيَ لَكَ، أَيْ بِيَدِكَ تَدْفَعُ غَيْرَكَ عَنْهَا حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا لَا عَلَى أَنَّهَا مِلْكٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ لَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلَهُ ابْنًا لِزَمْعَةَ ثُمَّ يَأْمُرَ أُخْتَهُ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ لِعَبْدٍ شَرِيكٌ فِيمَا ادَّعَاهُ وَهُوَ أُخْتُهُ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْهَا تَصْدِيقَهُ أَلْزَمَ عَبْدًا مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ أُخْتِهِ ; إِذْ لَمْ تُصَدِّقْهُ فَلَمْ يَجْعَلْهُ أَخًا لَهَا وَأَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ. اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَبَادِرِ، وَنَصُّ زِيَادَةِ الْقَعْنَبِيِّ: هُوَ أَخُوكَ، وَقِيَاسُهَا عَلَى اللُّقَطَةِ فَاسِدٌ ; لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَيْرِ بِخِلَافِ هَذَا، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ. . . إِلَخْ، مَمْنُوعٌ وَسَنَدُهُ أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنْ رُؤْيَةِ أَخِيهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَمْ يُصَدِّقْهُ، فَإِنَّهُ أَقَرَّ قَوْلَهُ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وَقَالَ: هُوَ لَكَ هُوَ أَخُوكَ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ هُوَ لَكَ عَبْدٌ ابْنُ أَمَةِ أَبِيكَ، فَكُلُّ أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا فَوَلَدُهَا عَبْدٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُرِيدُ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي الْحَدِيثِ اعْتِرَافُ سَيِّدِهَا بِأَنَّهُ كَانَ يُلِمُّ بِهَا وَلَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَالْأُصُولُ تَدْفَعُ قَوْلَ ابْنِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَضَاءُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ، لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي. اهـ. وَأَيْضًا فَيَرُدُّهُ زِيَادَةُ الْقَعْنَبِيِّ فَإِنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَةٍ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ فَتُقْبَلُ، وَقَدْ خَرَّجَهَا الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَا يَصِحُّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْأُخُوَّةِ إِرَادَةُ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَوْلُهُ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِزَمْعَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى عَبْدٍ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ وَأُخُوَّتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا تَدَّعِيهِ فِيمَا يَخُصُّكَ، وَعَبْدٌ انْفَرَدَ بِمِيرَاثِ زَمْعَةَ لِأَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ وَسَوْدَةُ أُخْتُهُ مَسْلِمَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لِعَبْدٍ بَيْعُهُ وَلَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ بُنُوَّتُهُ لِزَمْعَةَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى صَاحِبُ فِرَاشٍ وَصَاحِبُ زِنًى ; لِأَنَّهُ مَا قَبِلَ عَلَى عُتْبَةَ قَوْلَ أَخِيهِ سَعْدٍ وَلَا عَلَى زَمْعَةَ أَنَّهُ أَوْلَدَهَا هَذَا الْوَلَدَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَالْمَلَائِكَةِ:{إِذْ دَخَلُوا عَلَى} [ص: 22](سورة ص: الْآيَةُ 22) الْآيَةَ، وَلَمْ يَكُونُوا خَصْمَيْنِ وَلَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، وَلَكِنَّهُمْ كَلَّمُوهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ لِيَعْرِفَ بِهَا مَا أَرَادُوا تَعْرِيفَهُ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ فِيمَا دَنَا فِيهِ التَّنَازُعُ بَيْنَ يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم. وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: بِأَنَّهُ كَيْفَ يُقَالُ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ وَقَدْ مَكَّنَ عَبْدًا مِنْ أُخُوَةِ الْغُلَامِ؟ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» )(الْ) لِلْعَهْدِ، أَيِ الْوَلَدُ لِلْحَالَةِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الِافْتِرَاشُ، أَيْ تَأَتِّي الْوَطْءِ، فَالْحُرَّةُ فِرَاشٌ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا مَعَ إِمْكَانِ الْوَطْءِ وَالْحَمْلِ فَلَا يَنْتَفِي عَنْ زَوْجِهَا سَوَاءٌ أَشْبَهَهُ أَمْ لَا، وَتَجْرِي بَيْنَهُمَا الْأَحْكَامُ مِنْ إِرْثٍ وَغَيْرِهِ، إِلَّا بِلِعَانٍ، وَالْأَمَةُ إِنْ أَقَرَّ سَيِّدُهَا بِوَطْئِهَا أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنْ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ. وَقَدَّرُوا مُضَافًا، أَيْ صَاحِبُ الْفِرَاشِ وَهُوَ الزَّوْجُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ جَرِيرٍ:

ص: 50

بَاتَتْ تُعَانِقُهُ وَبَاتَ فِرَاشُهَا

خَلِقَ الْعَبَاءَةِ فِي الدِّمَاءِ قَتِيلَا.

أَيْ صَاحِبُ فِرَاشِهَا يَعْنِي زَوْجَهَا.

قَالَ عِيَاضٌ: وَالْفِرَاشُ وَإِنْ صَحَّ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْفِرَاشُ الْمَعْهُودُ كَمَا مَرَّ، وَقَدْ قِيلَ أَيْ وَجَزَمَ بِهِ الْبَاجِيُّ أَنَّ إِطْلَاقَ الْفِرَاشِ عَلَى الزَّوْجِ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ. الْمَازِرِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحُرَّةَ لَمَّا كَانَتْ لَا تُرَادُ إِلَّا لِلْوَطْءِ جُعِلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ، وَالْأَمَةُ تُشْتَرَى لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَلَا تَكُونُ فِرَاشًا حَتَّى يَثْبُتَ الْوَطْءُ، قَالَ: وَشَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَمَةِ فَقَالَ: لَا تَكُونُ فِرَاشًا إِلَّا بِوَلَدٍ اسْتَلْحَقَهُ فَمَا تَلِدُهُ بَعْدَهُ فَهُوَ لَهُ إِنْ لَمْ يَنْفِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْأَمَةَ لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ لَصَارَتْ فِرَاشًا بِالْمِلْكِ، وَتَعَلَّقَ بِهَا أَحْكَامُ الْحُرَّةِ عَلَى صَاحِبِ الْفِرَاشِ. وَمَا قَالَهُ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الْحُرَّةَ لَمَّا لَمْ تُرَدْ لِلْوَطْءِ جَعَلَ الشَّرْعُ الْعَقْدَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ، وَتَنَازَعَ الْفَرِيقَانِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ: هُوَ رَدٌّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِزِمْعَةَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ يَرُدُّ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِزَمْعَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا. وَالْجَوَابُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ زَمْعَةَ عُرِفَ وَطْؤُهُ لَهَا بِاعْتِرَافِهِ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ اضْطَرَّنَا إِلَيْهِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنِ اتِّفَاقِنَا جَمِيعًا عَلَى مَنْعِ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِأَبِيهِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ سَبَبُهُ، وَاخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ فَقُلْنَا: ثُبُوتُ الْوَطْءِ. وَقُلْتُمْ: اسْتِلْحَاقُ وَلَدٍ سَابِقٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ سَابِقٌ، وَثُبُوتُ الْوَطْءِ لَا يُعْلَمُ عَدَمُهُ فَامْتَنَعَ تَأْوِيلُكُمْ وَأَمْكَنَ تَأْوِيلُنَا فَوَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ. اهـ. ثُمَّ اللَّفْظُ عَامٌّ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَالْمُعْتَبَرُ عُمُومُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ نَظَرًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقِيلَ: يُقْصَرُ عَلَى السَّبَبِ لِوُرُودِهِ فِيهِ وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَصُورَةُ السَّبَبِ الَّتِي وَرَدَ عَلَيْهَا الْعَامُّ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ فِيهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ لِوُرُودِهِ فِيهَا فَلَا تُخَصُّ مِنْهُ بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ: وَهَذَا يَنْبَغِي عِنْدِي أَنْ يَكُونَ إِذَا دَلَّتْ قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَشْمَلُهُ بِطَرِيقٍ لَا مَحَالَةَ وَإِلَّا فَقَدَ يُنَازِعُ الْخَصْمُ فِي دُخُولِهِ وَضْعًا تَحْتَ اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَامِّ إِخْرَاجَ السَّبَبِ وَبَيَانَ أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الْقَائِلِينَ أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ الْمُسْتَفْرَشَةِ لَا يَلْحَقُ سَيِّدَهَا مَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِلْحَاقِ الْإِقْرَارُ، لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ". وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي أَمَةٍ فَهُوَ وَارِدٌ لِبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ الْوَلَدِ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إِمَّا بِالثُّبُوتِ أَوْ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفِرَاشَ هِيَ الزَّوْجَةُ لِأَنَّهَا الَّتِي يُتَّخَذُ لَهَا الْفِرَاشُ غَالِبًا، وَقَالَ:" «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» " كَانَ فِيهِ حَصْرُ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْحُرَّةِ، وَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ، فَكَانَ فِيهِ بَيَانُ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا، نَفْيِ النَّسَبِ عَنِ السَّبَبِ وَإِثْبَاتِهُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَلِيقُ دَعْوَى الْقَطْعِ هُنَا وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ اسْمَ الْفِرَاشِ هَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ، أَوْ لِلْحُرَّةِ فَقَطْ؟ فَالْحَنَفِيَّةُ يَدَّعُونَ

ص: 51

الثَّانِيَ فَلَا عُمُومَ عِنْدَهُمْ لَهُ فِي الْأَمَةِ، فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ. نَعَمْ، تَرْكِيبُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِ عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ قَوْلِهِ لِلْفِرَاشِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْبَحْثِ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ جِدًّا. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا أَصْلٌ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ. اهـ. (وَلِلْعَاهِرِ) الزَّانِي، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَهِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ: إِذَا أَتَاهَا لِلْفُجُورِ، وَعَهِرَتْ هِيَ وَتَعَهَّرَتْ: إِذَا زَنَتْ، وَالْعُهْرُ: الزِّنَى، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:" «اللَّهُمَّ أَبْدِلِ الْعُهْرَ بِالْعِفَّةِ» ". قَالَهُ عِيَاضٌ (الْحَجَرُ) أَيْ الْخَيْبَةُ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي حِرْمَانِ الشَّخْصِ: لَهُ الْحَجَرُ وَبِفِيهِ التُّرَابُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيُرِيدُونَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخَيْبَةُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَيْ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ زَانٍ يُرْجَمُ بَلِ الْمُحْصَنُ، وَأَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رَجْمِهِ نَفْيُ الْوَلَدِ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ فِي نَفْيِهِ عَنْهُ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ الرَّجْمَ وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُمُ زَانِيَ الْمُشْرِكِينَ، لَكِنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَمَّا قَصَدَ عَيْبَ الزِّنَى أَخْبَرَ بِأَشَدِّ أَحْكَامِهِ.

لَطِيفَةٌ: كَانَ أَبُو الْعَيْنَا الشَّاعِرُ الْأَعْمَى كَثِيرَ الدُّعَابَةِ وَشَدِيدَ الِانْتِزَاعِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَتَى بَعْضُ مَنْ يُرِيدُ دُعَابَتَهُ فَهَنَّأَهُ بِالْوَلَدِ وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَجَرًا وَذَهَبَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَ أَبُو الْعَيْنَا وَجَدَ الْحَجَرَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَقِيلَ: فُلَانٌ، فَقَالَ: عَرَّضَ بِي وَاللَّهِ ابْنُ الْفَاعِلَةِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ".

وَلَهُ سَبَبٌ غَيْرُ قِصَّةِ ابْنِ زَمْعَةَ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:" «لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا ابْنِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا دَعْوَةَ فِي الْإِسْلَامِ، ذَهَبَ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْأَثْلَبُ، قِيلَ: وَمَا الْأَثْلَبُ؟ قَالَ: الْحَجَرُ» ". وَسَقَطَ قَوْلُهُ: وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ. هَذَا الْحَدِيثُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَالِكٍ وَقَدْ أَتْقَنَهُ وَجَوَّدَهُ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (احْتَجِبِي مِنْهُ) أَيْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (لِمَا) بِكَسْرِ اللَّامِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ، أَيْ لِأَجْلِ مَا (رَأَى) وَلِلتُّنِيسِيِّ: رَآهُ (مِنْ شَبَهِهِ) الْبَيِّنِ (بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَمَا رَآهَا) عَبْدُ الرَّحْمَنِ (حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عز وجل أَيْ مَاتَ. قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: قِيلَ هُوَ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَغْلِيظِ أَمْرِ الْحِجَابِ عَلَيْهِنَّ وَزِيَادَتِهِنَّ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِنَّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ لِأُمِّ سَلَمَةَ وَمَيْمُونَةَ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِمَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: " «احْتَجِبَا مِنْهُ، فَقَالَتَا: إِنَّهُ

ص: 52

أَعْمَى، فَقَالَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ» ؟ ". وَقَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: «انْتَقِلِي إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تَضَعِينَ ثِيَابَكَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَرَاكِ» . فَأَبَاحَ لَهَا مَا مَنَعَهُ لِأَزْوَاجِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَخُوهَا مَا أَمَرَهَا أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ بُعِثَ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ. وَقَدْ قَالَ لِعَائِشَةَ فِي عَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ: "«إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ» ". وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ أَخُوهَا لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَإِقْرَارِ مَنْ يَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ، وَزَادَهُ بُعْدًا فِي الْقُلُوبِ شَبَهُهُ بِعُتْبَةَ، أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ. قَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ: وَجَوَابُ الْمُزَنِيِّ هَذَا أَصَحُّ فِي النَّظَرِ وَأَجْرَى عَلَى الْقَوَاعِدِ مِنْ قَوْلِ سَائِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَخُوهَا لِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِفِرَاشِ زَمْعَةَ وَقَضَى بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ، وَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ بِأَمْرِهَا بِالِاحْتِجَابِ حُكْمًا آخَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ رُؤْيَةِ أَخِيهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: جَعَلَ لِلزِّنَى حُكْمَ التَّحْرِيمِ فَمَنَعَهَا مِنْ رُؤْيَةِ أَخِيهَا فِي الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَخِيهَا فِي غَيْرِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ مِنْ زِنًى فِي الْبَاطِنِ. وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُمْ نَسَبُوا لَهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ أَخَاهَا مَنْ وَجْهٍ وَغَيْرَ أَخِيهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَيْفَ يُحْكَمُ بِشَبَهِ عُتْبَةَ فِي الْبَاطِنِ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُلَاعِنَةِ: إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى شَبَهِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ فَهُوَ لَهُ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَأَمْضَى حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ. وَفِي التَّمْهِيدِ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لِقَطْعِ الذَّرِيعَةِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالظَّاهِرِ فَكَأَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمَيْنِ: حُكْمٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَحُكْمٍ بَاطِنٍ وَهُوَ الِاحْتِجَابُ لِأَجْلِ الشَّبَهِ، كَأَنَّهُ قَالَ لِسَوْدَةَ: لَيْسَ لَكِ بِأَخٍ إِلَّا فِي حُكْمِ اللَّهِ بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ لِشَبَهِهِ بِعُتْبَةَ. وَقَالَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَضَارَعَ فِيهِ قَوْلَ الْعِرَاقِيِّينَ. اهـ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَيْسَ هَذَا مِنْ مَعْنَى الذَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا هُوَ لَوْ صَحَّ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ تَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَهُوَ وَجْهٌ قَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْأَمَةِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ تَحْرُمُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِسَوْدَةَ: لَيْسَ لَكِ بِأَخٍ» . وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ لَمْ تَثْبُتْ، وَأَعَلَّهَا الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ "«لَيْسَ لَكِ بِأَخٍ» " أَيْ شَبَهًا، فَلَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ لِعَبْدٍ " هُوَ أَخُوكَ ". قَالَ فِي الْفَتْحِ: أَوْ مَعْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمِيرَاثِ مِنْ زَمْعَةَ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَخَلَّفَ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ وَالْوَلَدَ الْمَذْكُورَ وَسَوْدَةَ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي إِرْثِهِ، بَلْ حَازَهُ عَبْدٌ قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ، فَإِذَا اسْتَلْحَقَ الِابْنَ الْمَذْكُورَ شَارَكَهُ فِي الْإِرْثِ دُونَ سَوْدَةَ، فَلِذَا قَالَ: لِعَبْدٍ هُوَ أَخُوكَ، وَقَالَ لِسَوْدَةَ: لَيْسَ لَكِ بِأَخٍ. اهـ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافَقُوهُ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّةِ اسْتِلْحَاقِ الْأَخِ لِأَخِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ غَيْرُهُ ; لِأَنَّ زَمْعَةَ لَمْ يَسْتَلْحِقْ وَلَا اعْتَرَفَ بِالْوَطْءِ فَلَيْسَ إِلَّا اسْتِلْحَاقُ أَخِيهِ، وَأَبَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ حُقُوقٍ عَلَى الْأَبِ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] (سورة فَاطِرٍ: الْآيَةُ 18) وَقَالَ لِأَبِي رَمْثَةَ فِي ابْنِهِ: " «إِنَّكَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا

ص: 53

يَجْنِي عَلَيْكَ» ". قَالَ عِيَاضٌ: وَالْجَوَابُ أَنَّهُ بَقِيَ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ثَبَتَ عِنْدَهُ وَطْءُ زَمَعَةَ بِاسْتِفَاضَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اعْتِرَافٍ، وَإِنَّمَا يَصْعُبُ هَذَا عَلَى الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ: لَا يَثْبُتُ الْفِرَاشُ إِلَّا بِوَلَدٍ سَابِقٍ وَلَا وَلَدٌ سَابِقٌ هُنَا وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثٌ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ فَحَتَّى يُوَافِقَهُ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ وَعَبْدٌ ثَمَّ وَارِثٌ غَيْرُهُ وَهِيَ سَوْدَةُ وَلَمْ تُسْتَلْحَقْ مَعَهُ فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُ بِالْحَدِيثِ.

وَأَجَابَ أَصْحَابُهُ بِأَنَّ زَمْعَةَ مَاتَ كَافِرًا وَسَوْدَةُ مَسْلِمَةٌ لَا تَرِثُ مِنْهُ، فَصَارَتْ كَالْعَدَمِ وَعَبْدٌ كَأَنَّهُ كُلُّ الْوَرَثَةِ، وَرَدَّهُ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا وَإِنْ مُنِعَتِ الْمِيرَاثَ فَهِيَ ابْنَتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا إِذْ لَا يُلْحِقُ أَخُوهَا عَلَيْهَا مَنْ لَمْ تَرْضَهُ. قَالَ: وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ أَنَّ الزِّنَى يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَجَعَلُوا الْأَمْرَ بِالِاحْتِجَابِ وَاجِبًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ، وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الزِّنَى لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا إِلَّا مَا جَرَى مِنْ قَوْلِهِمْ لَا يَحِلُّ لِلزَّانِي نِكَاحُ مَنْ خُلِقَتْ مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ، وَأَحَلَّهَا ابْنُ الْمَاجِشُونَ طَرْدًا لِلْأَصْلِ وَإِبْطَالًا لِحُكْمِ الْحَرَامِ. اهـ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ احْتِجَابِهَا لَا يَلِيقُ بِمَرَاتِبِهِمْ لَا سِيَّمَا الْمُزَنِيُّ فِي جَعْلِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ مَكَّنَ عَبْدًا مِنْ أُخُوَّةِ الْغُلَامِ وَحَجَبَ سَوْدَةَ عَنِ الْخُلْطَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأُخُوَّةِ وَلَمْ يُرَاعِ شَبَهًا وَلَوْ رَاعَاهُ لَرَاعَاهُ فِي الْإِلْحَاقِ. وَاحْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّ الْفَرْعَ إِذَا أَشْبَهَ أَصْلَيْنِ وَدَارَ بَيْنَهُمَا يُعْطَى حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ ; إِذْ لَوْ أُعْطِيَ حُكْمَ أَحَدِهِمَا لَزِمَ إِلْغَاءُ شَبَهِهِ بِالْآخَرِ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ أَشْبَهُهُ، وَبَيَانُهُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أُعْطِيَ حُكْمَ الْفِرَاشِ فَأُلْحِقَ النَّسَبُ وَلَمْ يُمَحِّضْهُ فَأَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ لِلشَّبَهِ، وَلَمْ يُمَحِّضْهُ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ فِي الْقَاعِدَةِ إِنَّمَا هِيَ إِذَا دَارَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ يَقْتَضِي الشَّرْعُ إِلْحَاقَهُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالشَّبَهُ هُنَا لَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ إِلْحَاقَهُ بِعُتْبَةَ فَأَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ احْتِيَاطًا وَإِرْشَادًا إِلَى مَصْلَحَةٍ وُجُودِيَّةٍ لَا عَلَى الْوُجُوبِ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. اهـ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَيْعِ عَنْ يَحْيَىَ بْنِ قَزْعَةَ، وَفِي الْوَصَايَا وَفَتْحِ مَكَّةَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي الْفَرَائِضِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْأَحْكَامِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثُ «الْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ» مِنْ أَصَحِّ مَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ عَنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ الصَّحَابَةِ.

ص: 54

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ أَنَّ امْرَأَةً هَلَكَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَاعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ حِينَ حَلَّتْ فَمَكَثَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفَ شَهْرٍ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا تَامًّا فَجَاءَ زَوْجُهَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَدَعَا عُمَرُ نِسْوَةً مِنْ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ قُدَمَاءَ فَسَأَلَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ أَنَا أُخْبِرُكَ عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ هَلَكَ عَنْهَا زَوْجُهَا حِينَ حَمَلَتْ مِنْهُ فَأُهْرِيقَتْ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ فَحَشَّ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَلَمَّا أَصَابَهَا زَوْجُهَا الَّذِي نَكَحَهَا وَأَصَابَ الْوَلَدَ الْمَاءُ تَحَرَّكَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا وَكَبِرَ فَصَدَّقَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ عُمَرُ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْكُمَا إِلَّا خَيْرٌ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1450 -

1414 - (مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ) بِتَحْتِيَّةٍ فَزَايٍ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ) بِلَا يَاءٍ عِنْدَ كَثِيرِينَ وَبِالْيَاءِ، وَصُحِّحَ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) تَيْمِ قُرَيْشٍ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ)

ص: 54

بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ) وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ، وَقِيلَ: سَهْلُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، أخِي أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ ثَمَانِ سِنِينَ، قَالَ الْخَطِيبُ فِي الْمُتَّفَقِ: ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الَّذِي اسْتُشْهِدَ بِالطَّائِفِ ; لِأَنَّ هَذَا قَدْ رَوَى عَنْهُ عُرْوَةُ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ:" «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُلْتَحِفًا بِهِ» ". أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، وَعُرْوَةُ وَكَذَا سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وُلِدَا بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ عُرْوَةُ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ الْأَكْبَرُ، وَلَا أَنَّ سُلَيْمَانَ يَحْكِي عَنْهُ مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَإِنْكَارُ بَعْضِهِمْ أَنْ يَكُونَ لِأُمِّ سَلَمَةَ أَخٌ غَيْرُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ بِالطَّائِفِ، وَتَرْجِيحُ الْخَطِيبِ لَهُ بِأَنَّ أَهْلَ النَّسَبِ لَمْ يَذْكُرُوهُ - لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي لَوْ كَانَ، وَإِلَّا فَعَدَمُ الذِّكْرِ لَا يَقْتَضِي النَّفْيَ، وَيَلْزَمُ عَلَى الْإِنْكَارِ رَدُّ الْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ بِلَا مُسْتَنَدٍ، وَتَجْوِيزُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَمْنُوعٌ فَالْأَصْلُ خِلَافُهُ.

(أَنَّ امْرَأَةً هَلَكَ) مَاتَ (عَنْهَا زَوْجُهَا فَاعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ حِينَ حَلَّتْ) بِحَسَبِ الظَّاهِرِ (فَمَكَثَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفَ شَهْرٍ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا تَامًّا، فَجَاءَ زَوْجُهَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ) لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ (فَدَعَا عُمَرُ نِسْوَةً مِنْ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ قُدَمَاءَ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ وَالْمَدِّ، جَمْعُ قَدِيمَةٍ، أَيْ مُسِنَّاتٍ لَهُنَّ مَعْرِفَةٌ (فَسَأَلَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ) لِيَعْلَمَ هَلْ يَصِحُّ خَفَاءُ الْحَمْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ تَيَقُّنِهَا انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَنَا أُخْبِرُكَ عَنْ) حَالِ (هَذِهِ الْمَرْأَةِ: هَلَكَ عَنْهَا زَوْجُهَا حِينَ حَمَلَتْ مِنْهُ فَأُهْرِيقَتْ) صَبَّتْ بِكَثْرَةٍ (عَلَيْهِ) أَيِ الْحَمْلِ (الدِّمَاءُ) بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ (فَحَشَّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، قَالَ أَبُو عَبِيدٍ الْهَرَوِيُّ: أَيْ يَبِسَ (وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا) فَلَمْ يَتَحَرَّكْ لِضَعْفِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ ضَمُرَ وَنَقَصَ (فَلَمَّا أَصَابَهَا) وَطِئَهَا (زَوْجُهَا الَّذِي نَكَحَهَا) عَقَدَ عَلَيْهَا (وَأَصَابَ الْوَلَدَ) مَفْعُولٌ، فَاعِلُهُ (الْمَاءُ تَحَرَّكَ الْوَلَدُ)(وَكَبِرَ) بِكَسْرِ الْبَاءِ لِانْتِعَاشِهِ بِالْمَاءِ (فَصَدَّقَهَا عُمَرُ بْنُ

ص: 55

الْخِطَابِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ (وَقَالَ عُمَرُ: أَمَا) بِخِفَّةِ الْمِيمِ (إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْكُمَا إِلَّا خَيْرٌ) لِلْعُذْرِ الْمَذْكُورِ (وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ) الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ وَلَدُهُ إِذِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ.

ص: 56

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنْ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَتَى رَجُلَانِ كِلَاهُمَا يَدَّعِي وَلَدَ امْرَأَةٍ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَائِفًا فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ الْقَائِفُ لَقَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ فَضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ دَعَا الْمَرْأَةَ فَقَالَ أَخْبِرِينِي خَبَرَكِ فَقَالَتْ كَانَ هَذَا لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ يَأْتِينِي وَهِيَ فِي إِبِلٍ لِأَهْلِهَا فَلَا يُفَارِقُهَا حَتَّى يَظُنَّ وَتَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَمَرَّ بِهَا حَبَلٌ ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا فَأُهْرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاءٌ ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا هَذَا تَعْنِي الْآخَرَ فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ قَالَ فَكَبَّرَ الْقَائِفُ فَقَالَ عُمَرُ لِلْغُلَامِ وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1451 -

1415 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) الْمَدَنِيِّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُلِيطُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، يُلْصِقُ، أَيْ يُلْحِقُ (أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ) إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فِرَاشٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا كَذَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ أَحْكَمَ اللَّهُ شَرِيعَتَهُ فَلَا يَلْحَقُ وَلَدُ الزِّنَى بِمُدَّعِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَانَ هُنَاكَ فِرَاشٌ أَمْ لَا، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. (فَأَتَى رَجُلَانِ كِلَاهُمَا يَدَّعِي وَلَدَ امْرَأَةٍ، فَدَعَا عُمَرُ قَائِفًا) بِقَافٍ ثُمَّ فَاءٍ (فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ الْقَائِفُ: لَقَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ فَضَرَبَهُ) أَيِ الْقَائِفَ (عُمَرُ بِالدِّرَّةِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الرَّاءِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ مَاءَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَاءٍ وَاحِدٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13](سورة الْحُجُرَاتِ: الْآيَةُ 13) وَلَمْ يَقُلْ مِنْ ذَكَرَيْنِ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ قَوْلَهُ شَيْئًا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَرَى الْقَافَةَ، فَإِنَّ قَضَاءَ عُمَرَ بِالْقَافَةِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى شَاهِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ حَكَمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فَقَالَ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ. قَالَهُ الْبَاجِيُّ (ثُمَّ دَعَا الْمَرْأَةَ فَقَالَ: أَخْبِرِينِي خَبَرَكِ، فَقَالَتْ: كَانَ هَذَا) تُشِيرُ (لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ يَأْتِينِي وَهِيَ) الْتِفَاتٌ وَالْأَصْلُ وَأَنَا (فِي إِبِلٍ لِأَهْلِهَا فَلَا يُفَارِقُهَا حَتَّى يَظُنَّ) هُوَ (وَتَظُنَّ) هِيَ (أَنَّهُ قَدِ اسْتَمَرَّ) أَيْ دَامَ وَثَبَتَ (بِهَا حَبَلٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، أَيْ حَمَلَتْ بِالْوَلَدِ (ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا فَأُهْرِيقَتْ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ هِيَ (عَلَيْهِ دَمًا ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا هَذَا - تَعْنِي الْآخَرَ - فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ) أَيِ

ص: 56

الْوَلَدُ (قَالَ) سُلَيْمَانُ (فَكَبَّرَ الْقَائِفُ) سُرُورًا بِمُوَافَقَةِ قَوْلِهِ (فَقَالَ عُمَرُ لِلْغُلَامِ: وَالِ أَيَّهُمَا) أَيِ الرَّجُلَيْنِ (شِئْتَ) وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُوَالِي إِذَا بَلَغَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَلَهُ مُوَالَاتُهُمَا جَمِيعًا، وَيَكُونُ ابْنًا لَهُمَا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ.

ص: 57

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَضَى أَحَدُهُمَا فِي امْرَأَةٍ غَرَّتْ رَجُلًا بِنَفْسِهَا وَذَكَرَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَقَضَى أَنْ يَفْدِيَ وَلَدَهُ بِمِثْلِهِمْ

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ وَالْقِيمَةُ أَعْدَلُ فِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1451 -

1416 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) شَكَّ الرَّاوِي (قَضَى أَحَدُهُمَا فِي امْرَأَةٍ غَرَّتْ رَجُلًا بِنَفْسِهَا وَذَكَرَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ) وَهِيَ أَمَةٌ (فَتَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا، فَقَضَى أَنْ يَفْدِيَ وَلَدَهُ بِمِثْلِهِمْ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ جَمِيعًا، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ: رَقِيقٌ وَلَا قِيمَةَ فِيهِمْ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ الْقِيَاسُ لَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ، وَعَلَى الْأَبِ قِيمَتُهُمْ. أَبُو عُمَرَ: لَا دَخْلَ لِلْقِيَاسِ فِيمَا يُخَالِفُ السَّلَفَ فَاتِّبَاعُهُمْ خَيْرٌ مِنَ الِابْتِدَاعِ. (قَالَ مَالِكٌ: وَالْقِيمَةُ أَعْدَلُ) مِنَ الْمِثْلِ (فِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَهْلُ مَذْهَبِهِ، وَقَالَ مَرَّةً: عَلَيْهِ الْمِثْلُ. ثُمَّ رَجَعَ.

ص: 57

[باب الْقَضَاءِ فِي مِيرَاثِ الْوَلَدِ الْمُسْتَلْحَقِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَهْلِكُ وَلَهُ بَنُونَ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ قَدْ أَقَرَّ أَبِي أَنَّ فُلَانًا ابْنُهُ إِنَّ ذَلِكَ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الَّذِي أَقَرَّ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ يُعْطَى الَّذِي شَهِدَ لَهُ قَدْرَ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَهْلِكَ الرَّجُلُ وَيَتْرُكَ ابْنَيْنِ لَهُ وَيَتْرُكَ سِتَّ مِائَةِ دِينَارٍ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَ مِائَةِ دِينَارٍ ثُمَّ يَشْهَدُ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَاهُ الْهَالِكَ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا ابْنُهُ فَيَكُونُ عَلَى الَّذِي شَهِدَ لِلَّذِي اسْتُلْحِقَ مِائَةُ دِينَارٍ وَذَلِكَ نِصْفُ مِيرَاثِ الْمُسْتَلْحَقِ لَوْ لَحِقَ وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ الْآخَرُ أَخَذَ الْمِائَةَ الْأُخْرَى فَاسْتَكْمَلَ حَقَّهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ وَهُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ تُقِرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى أَبِيهَا أَوْ عَلَى زَوْجِهَا وَيُنْكِرُ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ إِلَى الَّذِي أَقَرَّتْ لَهُ بِالدَّيْنِ قَدْرَ الَّذِي يُصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ لَوْ ثَبَتَ عَلَى الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ إِنْ كَانَتْ امْرَأَةً وَرِثَتْ الثُّمُنَ دَفَعَتْ إِلَى الْغَرِيمِ ثُمُنَ دَيْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ ابْنَةً وَرِثَتْ النِّصْفَ دَفَعَتْ إِلَى الْغَرِيمِ نِصْفَ دَيْنِهِ عَلَى حِسَابِ هَذَا يَدْفَعُ إِلَيْهِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ قَالَ مَالِكٌ وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى مِثْلِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى أَبِيهِ دَيْنًا أُحْلِفَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ وَأُعْطِيَ الْغَرِيمُ حَقَّهُ كُلَّهُ وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَيَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ أَنْ يَحْلِفَ وَيَأْخُذَ حَقَّهُ كُلَّهُ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَخَذَ مِنْ مِيرَاثِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ قَدْرَ مَا يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقِّهِ وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ وَجَازَ عَلَيْهِ إِقْرَارُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

22 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي مِيرَاثِ الْوَلَدِ الْمُسْتَلْحَقِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَهْلِكُ) بِكَسْرِ اللَّامِ، يَمُوتُ (وَلَهُ بَنُونَ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: قَدْ أَقَرَّ) اعْتَرَفَ (أَبِي أَنَّ فُلَانًا ابْنُهُ، إِنَّ ذَلِكَ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ) بَلْ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ. (وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الَّذِي أَقَرَّ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ يُعْطَى الَّذِي

ص: 57

شَهِدَ) أَيْ أَقَرَّ لَهُ بِالْأُخُوَّةِ (قَدْرَ مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُهُ وَإِيضَاحُهُ بِالْمِثَالِ (أَنْ يَهْلِكَ الرَّجُلُ وَيَتْرُكَ ابْنَيْنِ لَهُ وَيَتْرُكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ فَيَأْخُذُ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ ثُمَّ يَشْهَدُ) يُقِرُّ (أَحَدُهُمَا بِأَنَّ أَبَاهُ الْهَالِكَ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا ابْنُهُ، فَيَكُونُ عَلَى الَّذِي شَهِدَ) أَيْ أَقَرَّ (لِلَّذِي اسْتُلْحِقَ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَوْ لِلْمَفْعُولِ، أَيِ الْمُقَرِّ بِهِ (مِائَةُ دِينَارٍ وَذَلِكَ نِصْفُ مِيرَاثِ الْمُسْتَلْحَقِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ (لَوْ لَحِقَ) وَفِي إِطْلَاقِ الِاسْتِلْحَاقِ عَلَيْهِ تَجَوُّزٌ عَنِ الْمُقَرِّ بِهِ ; لِأَنَّ الِاسْتِلْحَاقَ مَخْصُوصٌ بِالْأَبِ. (وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ الْآخَرُ أَخَذَ الْمِائَةَ الْأُخْرَى فَاسْتَكْمَلَ حَقَّهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ) إِذَا كَانَ الْآخَرَانِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا ابْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ وَالْكُوفِيُّونَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ شَرِيكُهُ فَلَا يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ إِذَا كَانَ ثَمَّ مِنَ الْوَرَثَةِ مَنْ يَدْفَعُهُ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَعْطَاهُ.

(وَهُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ تُقِرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى أَبِيهَا أَوْ عَلَى زَوْجِهَا وَيُنْكِرُ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ إِلَى الَّذِي أَقَرَّتْ لَهُ بِالدَّيْنِ قَدْرَ الَّذِي يُصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ لَوْ ثَبَتَ عَلَى الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ إِنْ كَانَتْ) الْمُقِرَّةُ (امْرَأَةً وَرِثَتِ الثُّمُنُ دَفَعَتْ إِلَى الْغَرِيمِ ثُمُنَ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَتِ ابْنَةً وَرِثَتِ النِّصْفَ دَفَعَتْ إِلَى الْغَرِيمِ نِصْفَ دَيْنِهِ، عَلَى حِسَابِ هَذَا يَدْفَعُ إِلَيْهِ مَنْ أَقَرَّ مِنَ النِّسَاءِ) وَعَلَى هَذَا أَصْحَابُهُ بِالْحِجَازِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ. وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّ أَصْحَابَهُ كُلَّهُمْ يَرَوْنَهُ وَهْمًا مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: بَلْ أَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ عَلَى مَا قَالَ، وَأَنْكَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ، وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَحْمَدُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ إِقْرَارَ الْمُقِرِّ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِالدَّيْنِ

ص: 58

لَمْ يَلْزَمِ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إِلَّا مِقْدَارُ حِصَّتِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ بِالدَّيْنِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَكَانَ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ قَدْرُ إِرْثِهِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَوْ كَانَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ لَزِمَهُمَا الدَّيْنُ كُلُّهُ فِي حِصَّتِهِمَا وَلَمْ يَلْزَمْ سَائِرَ الْوَرَثَةِ شَيْءٌ، فَكَيْفَ تَقْبَلُونَ شَهَادَةً جَرَّ بِهَا إِلَى نَفْسِهِ أَوْ دَفَعَ عَنْهَا؟ (فَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ) مِنَ الْوَرَثَةِ وَهُوَ عَدْلٌ (عَلَى مِثْلِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى أَبِيهِ دَيْنًا، أُحْلِفَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ وَأُعْطِيَ الْغَرِيمُ حَقَّهُ كُلَّهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَيَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ أَنْ يَحْلِفَ وَيَأْخُذَ حَقَّهُ كُلَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَخَذَ مِنْ مِيرَاثِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ قَدْرَ مَا يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقِّهِ وَأَنْكَرَ) بَاقِي (الْوَرَثَةُ وَجَازَ عَلَيْهِ إِقْرَارُهُ) لَا عَلَيْهِمْ، وَكَذَا لَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ مِنَ الْوَرَثَةِ مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ عِلْمَ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ: يَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِالدَّيْنِ أَدَاؤُهُ كُلَّهُ مِنْ حِصَّتِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِرْثُ وَعَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ، وَجَعَلُوا الْجَاحِدَ كَالْغَاصِبِ لِبَعْضِ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ.

ص: 59

[باب الْقَضَاءِ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْزِلُوهُنَّ لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنْ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلَّا أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا فَاعْزِلُوا بَعْدُ أَوْ اتْرُكُوا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

23 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ

1454 -

1417 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ عُمَرَ (عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا بَالُ) ، أَيْ حَالُ وَشَأْنُ (رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ) إِمَاءَهُمْ، جَمْعُ وَلِيدَةٍ (ثُمَّ يَعْزِلُوهُنَّ) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْعَزْلَ الْمَعْرُوفَ، أَيْ عَزْلَ الْمَاءِ مَعَ الْجِمَاعِ بِصَبِّهِ خَارِجَ

ص: 59

الْفَرْجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ اعْتِزَالَهُنَّ فِي الْوَطْءِ وَإِزَالَتَهُنَّ عَنْ حُكْمِ التَّسَرِّي انْتِفَاءً مِنَ الْوَلَدِ (لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنْ قَدْ أَلَمَّ بِهَا) أَيْ وَطِئَهَا (إِلَّا أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا) عَمَلًا بِحَدِيثِ:" «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» "(فَاعْزِلُوا بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ (أَوِ اتْرُكُوا) لَا يَنْفَعُكُمُ الْعَزْلُ لِأَنَّ الْمَاءَ سَبَّاقٌ قَدْ يَنْزِلُ مِنْهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، وَبِهَذَا أَخَذَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ مَا لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ بَعْدَ الْعَزْلِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا أَمْ لَا، كَانَتْ مِمَّنْ تُخْرِجُ أَمْ لَا.

ص: 60

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَدَعُوهُنَّ يَخْرُجْنَ لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنْ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلَّا قَدْ أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا فَأَرْسِلُوهُنَّ بَعْدُ أَوْ أَمْسِكُوهُنَّ

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا جَنَتْ جِنَايَةً ضَمِنَ سَيِّدُهَا مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ قِيمَتِهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ جِنَايَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1455 -

1418 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، الثَّقَفِيَّةِ، زَوْجِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ) أَيْ نَافِعًا (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائَدَهُمْ ثُمَّ يَدَعُونَهُنَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالدَّالِ، يَتْرُكُونَهُنَّ (يَخْرُجْنَ) أَيْ ثُمَّ يَتَوَقَّفُونَ فِيمَا وَلَدْنَ (لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنْ قَدْ أَلَمَّ بِهَا) جَامَعَهَا، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ (وَلِيدَةٌ) (إِلَّا أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا) عَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ". فَإِنَّ عُمَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ (فَأَرْسِلُوهُنَّ بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ سَمَاعِكُمْ قَوْلِي (أَوْ أَمْسِكُوهُنَّ) عَنِ الْإِرْسَالِ، فَلَا يَنْفَعُكُمْ ذَلِكَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِالْوَطْءِ. (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا جَنَتْ جِنَايَةً ضَمِنَ سَيِّدُهَا مِمَّا بَيْنَهَا) أَيِ الْجِنَايَةِ (وَبَيْنَ قِيمَتِهَا) أَيْ أُمِّ الْوَلَدِ، أَيْ يَلْزَمُهُ فِدَاؤُهَا بِالْأَقَلِّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ قِيمَتِهَا جَبْرًا عَلَيْهِ. (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا) فِي الْجِنَايَةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنْعِ بَيْعِهِنَّ فِي غَيْرِ الدَّيْنِ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ (وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ جِنَايَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا) لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لَهُ.

ص: 60

[باب الْقَضَاءِ فِي عِمَارَةِ الْمَوَاتِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» قَالَ مَالِكٌ وَالْعِرْقُ الظَّالِمُ كُلُّ مَا احْتُفِرَ أَوْ أُخِذَ أَوْ غُرِسَ بِغَيْرِ حَقٍّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

24 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي عِمَارَةِ الْمَوَاتِ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَوَاتُ بِالضَّمِّ الْمَوْتُ، وَبِالْفَتْحِ مَا لَا رُوحَ فِيهِ، وَالْأَرْضُ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ، وَالْمَوَتَانُ بِالتَّحْرِيكِ خِلَافُ الْحَيَوَانِ، يُقَالُ: اشْتَرِ الْمَوَتَانِ وَلَا تَشْتَرِ الْحَيَوَانَ، أَيِ اشْتَرِ الْأَرَضِينَ وَالدُّورَ وَلَا تَشْتَرِ الرَّقِيقَ وَالدَّوَابَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَوَتَانُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي لَمْ تَحْيَ بَعْدُ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَمَنْ أَحْيَا مِنْهَا شَيْئًا فَهُوَ لَهُ» ".

1456 -

1419 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) مُرْسَلٌ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هِشَامٍ: فَرَوَتْهُ طَائِفَةٌ مُرْسَلًا كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَهُوَ أَصَحُّ، وَطَائِفَةٌ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَطَائِفَةٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَطَائِفَةٌ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ جَابِرٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ جَابِرٍ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى عُرْوَةَ، فَرَوَاهُ ابْنُهُ يَحْيَى عَنْهُ عَنْ صَحَابِيٍّ لَمْ يُسَمِّهِ، وَرَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْهُ فَقَالَ: وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ. فَهَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى عُرْوَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ الْإِرْسَالُ، وَهُوَ أَيْضًا صَحِيحٌ مُسْنَدٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَصَحَّحَهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الضِّيَاءُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً» ) بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: وَلَا يُقَالُ بِالتَّخْفِيفِ ; لِأَنَّهُ إِذَا خُفِّفَ تُحْذَفُ مِنْهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ، وَالْمَيِّتَةُ وَالْمَوَاتُ وَالْمَوَتَانُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ: الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا لَهَا بِالْمَيْتَةِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِزَرْعٍ أَوْ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهَا. (فَهِيَ لَهُ) بِمُجَرَّدِ الْإِحْيَاءِ وَلَا يَحْتَاجُ لِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي الْبَعِيدَةِ عَنِ الْعِمَارَةِ اتِّفَاقًا. قَالَ مَالِكٌ: مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي فَيَافِي الْأَرْضِ وَمَا بَعُدَ مِنَ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ قَرُبَ فَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَقَالَ أَشْهَبُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ: يُحْيِيهَا مَنْ شَاءَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، قَالَهُ سَحْنُونٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَدَاوُدَ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ، قَائِلًا: عَطِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا

ص: 61

أَثْبَتُ مِنْ عَطِيَّةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ سُلْطَانٍ وَغَيْرِهِ. وَاسْتَحَبَّ أَشْهَبُ إِذْنَهُ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَحَدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحْيِيهَا إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ، وَصَارَ الْخِلَافُ هَلِ الْحَدِيثُ حُكْمٌ أَوْ فَتْوَى؟ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي قَالَ: لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَهَذَا نَظِيرُ حَدِيثِ:" «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: " «أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ". جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَاةِ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْجَارُودِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ وَالْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ، فَمَنْ أَحْيَا مِنْ مَوَاتِ الْأَرْضِ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ» ".

(وَلَيْسَ لِعِرْقٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ (ظَالِمٍ) صِفَةٌ لِلْعِرْقِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، كَأَنَّ الْعِرْقَ بِغَرْسِهِ صَارَ ظَالِمًا حَتَّى كَانَ الْفِعْلُ لَهُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَجَعَلَ الْعِرْقَ نَفْسَهُ ظَالِمًا وَالْحَقُّ لِصَاحِبِهِ، أَوْ يَكُونُ الظَّالِمُ مِنْ صِفَةِ الْعِرْقِ اهـ، أَيْ لِذِي عِرْقٍ ظَالِمٍ. وَرُوِيَ بِالْإِضَافَةِ فَالظَّالِمُ صَاحِبُ الْعِرْقِ وَهُوَ الْغَارِسُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَيْسَ لَهُ (حَقٌّ) فِي الْإِبْقَاءِ فِيهَا. (قَالَ مَالِكٌ: وَالْعِرْقُ الظَّالِمُ كُلُّ مَا احْتُفِرَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ حُفِرَ (أَوْ أُخِذَ أَوْ غُرِسَ بِغَيْرِ حَقٍّ) وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالتَّنْوِينِ، وَبِهِ جَزَمَ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ فَقَالَ: وَاخْتَارَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ تَنْوِينَ عِرْقٍ وَذَكَرَ نَصَّهُ هَذَا، وَنَصَّ الشَّافِعِيِّ بِنَحْوِهِ، وَبِالتَّنْوِينِ جَزَمَ الْأَزْهَرِيُّ وَابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُمَا، وَبَالَغَ الْخَطَّابِيُّ فَغَلَّطَ مَنْ رَوَاهُ بِالْإِضَافَةِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ ثَبَتَتْ وَوَجْهُهَا ظَاهِرٌ فَلَا يَكُونُ غَلَطًا فَالْحَدِيثُ يُرْوَى بِالْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَصْلُ الْعِرْقِ الظَّالِمِ فِي الْغَرْسِ يَغْرِسُهُ فِي الْأَرْضِ غَيْرُ رَبِّهَا لِيَسْتَوْجِبَهَا بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ بِنَاءٍ وَاسْتِنْبَاطِ مَاءٍ أَوِ اسْتِخْرَاجِ مَعْدِنٍ، سُمِّيَتْ عِرْقًا لِشَبَهِهَا فِي الْإِحْيَاءِ بِعِرْقِ الْغَرْسِ. وَفِي الْمُنْتَقَى قَالَ عُرْوَةُ وَرَبِيعَةُ: الْعُرُوقُ أَرْبَعَةٌ عِرْقَانِ ظَاهِرَانِ: الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ وَعِرْقَانِ بَاطِنَانِ: الْمِيَاهُ وَالْمَعَادِنُ، فَلَيْسَ لِلظَّالِمِ فِي ذَلِكَ حَقٌّ فِي بَقَاءٍ أَوِ انْتِفَاعٍ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ظُلْمًا فَلِرَبِّهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ أَوْ يُخْرِجَهُ مِنْهُ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِ قِيمَتَهُ مَقْلُوعًا، وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ بَقِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى حَالِهِ بِلَا عِوَضٍ. اهـ. وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:" سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مِنَ الْأَرْضِ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهُوَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» ". وَكَثِيرٌ ضَعِيفٌ لَكِنَّ شَاهِدَهُ حَدِيثُ الْبَابِ.

ص: 62

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ قَالَ مَالِكٌ وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1457 -

1420

ص: 62

- (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ عُمَرَ (عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ) وَالْمَيِّتَةُ الْخَرَابُ الَّتِي لَا عِمَارَةَ بِهَا، وَإِحْيَاؤُهَا عِمَارَتُهَا، شُبِّهَتْ عِمَارَةُ الْأَرْضِ بِحَيَاةِ الْأَبْدَانِ وَتَعَطُّلُهَا وَخُلُوُّهَا عَنِ الْعِمَارَةِ بِفَقْدِ الْحَيَاةِ وَزَوَالِهَا عَنْهَا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْمَوْقُوفِ عَقِبَ الْمَرْفُوعِ مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ بِهِ ; الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ تَطَرُّقِ نَسْخِهِ وَلِذَا أَكَّدَهُ حَيْثُ قَالَ (مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ.

ص: 63

[باب الْقَضَاءِ فِي الْمِيَاهِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِبٍ يُمْسَكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

25 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْمِيَاهِ

1458 -

1421 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ: قَضَى (فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الْوَاوِ آخِرُهُ رَاءٌ (وَمُذَيْنِبٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَنُونٍ مَكْسُورَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَادِيَانِ يَسِيلَانِ بِالْمَطَرِ بِالْمَدِينَةِ، يَتَنَافَسُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي سَيْلِهِمَا (يُمْسَكُ) سَيْلُهُمَا، فَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ يُمْسِكُهُ الْأَعْلَى أَيِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمَاءِ فَيَسْقِي زَرْعَهُ أَوْ حَدِيقَتَهُ (حَتَّى الْكَعْبَيْنِ) هَكَذَا ضُبِطَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، فَإِنْ كَانَ رِوَايَةً وَإِلَّا فَيَصِحُّ ضَبْطُهُ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ:(ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى) الْمَاءَ (عَلَى الْأَسْفَلِ) الْأَبْعَدِ مِنْهُ عَنِ الْمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُهُ يَتَّصِلُ مِنْ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ مَعَ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ مَعْرُوفٌ مَعْمُولٌ بِهِ. وَسُئِلَ الْبَزَّارُ عَنْهُ فَقَالَ: لَسْتُ أَحْفَظُ فِيهِ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا يَثْبُتُ. اهـ. وَهُوَ تَقْصِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ مِثْلِهِمَا فَلَهُ إِسْنَادٌ مَوْصُولٌ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَاهُ

ص: 63

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيِّ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّهُ مُرْسَلُ ثَعْلَبَةَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ فَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ: " يُرْسِلُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْأَعْلَى جَمِيعَ الْمَاءِ فِي حَائِطِهِ وَيَسْقِي حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ فِي الْحَائِطِ إِلَى كَعْبَيْ مَنْ يَقُومُ فِيهِ أَغْلَقَ مَدْخَلَ الْمَاءِ ". وَرَوَى عِيسَى فِي الْمَدَنِيَّةِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: " يَسْقِي الْأَوَّلُ حَتَّى يَرْوِيَ حَائِطَهُ ثُمَّ يُمْسِكُ بَعْدَ رَيِّهِ مَا كَانَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ إِلَى أَسْفَلَ ثُمَّ يُرْسِلُ ". وَرَوَى زِيَادٌ عَنْ مَالِكٍ: " يُجْرِي الْأَوَّلُ مِنَ الْمَاءِ فِي سَاقِيَتِهِ إِلَى حَائِطِهِ قَدْرَ مَا يَكُونُ الْمَاءُ فِي السَّاقِيَةِ حَتَّى يَرْوِيَ حَائِطَهُ أَوْ يَفْنَى الْمَاءُ، فَإِذَا رَوَى أَرْسَلَهُ كُلَّهُ ". قَالَ ابْنُ مُزَيَّنٍ: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ إِذَا سَقَى بِالسَّيْلِ الزَّرْعَ أَمْسَكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ شِرَاكَ النَّعْلِ، وَإِذَا سَقَى النَّخْلَ وَالشَّجَرَ وَمَا لَهُ أَصْلٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ، وَأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يُمْسِكَ فِي الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الرَّيِّ.

ص: 64

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1459 -

1422 - (مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَخِفَّةِ النُّونِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُمْنَعُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ (فَضْلُ الْمَاءِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: بَعْدَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ (لِيُمْنَعَ) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا (بِهِ الْكَلَأُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَاللَّامِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَقْصُورَةٌ، اسْمٌ لِجَمِيعِ النَّبَاتِ ثُمَّ الْأَخْضَرَ مِنْهُ يُسَمَّى الرَّطْبُ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَالْكَلَأُ الْيَابِسُ يُسَمَّى حَشِيشًا، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلنَّاقَةِ أَحْشَتْ وَلَدَهَا: إِذَا أَلْقَتْهُ يَابِسًا، وَحَشَتْ يَدُ فُلَانٍ: إِذَا يَبِسَتْ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ سَبَقَ الْمَاءَ بِفَلَاةٍ وَكَانَ حَوْلَ ذَلِكَ الْمَاءِ كَلَأٌ لَا يُوصَلُ إِلَى رَعْيِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْمَوَاشِي تَرِدُ ذَلِكَ الْمَاءَ، فَنَهَى صَاحِبَ الْمَاءِ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَهُ لِأَنَّهُ إِذَا مُنِعَتْ مِنْهُ مُنِعَتْ مِنْ رَعْيِ ذَلِكَ الْكَلَأِ، وَالْكَلَأُ لَا يُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، قَالَهُ عِيَاضٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8](سورة الْقَصَصِ: الْآيَةُ 8) الْآيَةَ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا فِي الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الْكَلَأِ. اهـ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الْبَاجِيُّ. وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِالنَّهْيِ عَنْ مَنْعِ الْكَلَأِ، فَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي غِفَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

ص: 64

مَرْفُوعًا: " «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ وَلَا تَمْنَعُوا الْكَلَأَ، فَيَهْزِلُ الْمَالُ وَتَجُوعُ الْعِيَالُ» ". وَهُوَ مَحْمُولُ الْمَمْلُوكِ وَهُوَ الْكَلَأُ النَّابِتُ فِي أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ بِالْإِحْيَاءِ، فَفِيهِ خِلَافٌ: صَحَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ الْجَوَازَ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَمُطَرِّفٍ عَنْهُ فِي الْوَاضِحَةِ، وَأَنْكَرَهَا أَشْهَبُ فَلَمْ يُجِزْ بَيْعَ الْكَلَأِ بِمَالٍ وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِهِ وَمَرْجِهِ وَحِمَاهُ.

قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْوَاضِحَةِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي آبَارِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي فِي الْفَلَوَاتِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ: ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ يَنْزِلُهَا لِلرَّعْيِ لَا لِلْعِمَارَةِ فَهُوَ وَالنَّاسُ فِي الرَّعْيِ سَوَاءٌ وَلَكِنْ يَبْدُونَ بِمَالِهِمْ. الْبَاجِيُّ: بِئْرُ الْمَاشِيَةِ مَا حَفَرَهَا الرَّجُلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فِي الْبَرَارِيِّ وَالْقِفَارِ لِشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَيُبِيحُ فَضْلَهَا لِلنَّاسِ، فَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُهَا. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا يُبَاعُ بِئْرُ الْمَاشِيَةِ مَا حُفِرَ مِنْهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنْ حُفِرَتْ فِي قُرْبٍ. ابْنُ الْقَاسِمِ: يُرِيدُ قُرْبَ الْمَنَازِلِ إِذَا حَفَرَهَا لِلصَّدَقَةِ فَمَا فُضِّلَ مِنْهَا فَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ، أَمَّا مَنْ حَفَرَهَا لِبَيْعِ مَائِهَا أَوْ سَقْيِ مَاشِيَتِهِ لَا لِلصَّدَقَةِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا اهـ. وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُوَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشُّرْبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي تَرْكِ الْحِيَلِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْبَيْعِ عَنْ يَحْيَى، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 65

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يُمْنَعُ نَقْعُ بِئْرٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1460 -

1423 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ) بِالْجِيمِ (مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ) مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يُمْنَعُ» ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ( «نَقْعُ بِئْرٍ» ) بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَمُهْمَلَةٍ، زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ: يَعْنِي فَضْلَ مَائِهَا. قَالَ الْهَرَوِيُّ: قِيلَ لَهُ " نَقْعٌ " لِأَنَّهُ يُنْقَعُ بِهِ، أَيْ يُرْوَى بِهِ، يُقَالُ: نَقَعَ بِالرَّيِّ وَشَرِبَ حَتَّى نَقَعَ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَيُرْوَى وَهُوَ مَاءٌ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهَا: مَعْنَاهُ فَضْلُ مَاءٍ. قَالَ أَبُو الرِّجَالِ: النَّقْعُ وَالرَّهْوُ هُوَ الْمَاءُ الْوَاقِفُ الَّذِي لَا يُسْقَى عَلَيْهِ أَوْ يُسْقَى وَفِيهِ فَضْلٌ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ: مَعْنَاهُ الْبِئْرُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ يَسْقِي هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، وَيَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا يَوْمَهُ أَوْ بَعْضَهُ عَنِ السَّقْيِ، فَيُرِيدُ صَاحِبُهُ السَّقْيَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِمَّا لَا يَنْفَعُهُ حَبْسُهُ وَلَا يَضُرُّهُ تَرْكُهُ، فَإِنِ احْتَاجَ مَنْ لَا شِرْكَ لَهُ إِلَى فَضْلِ مَائِهَا فَلَا، إِلَّا أَنْ تَنْهَارَ بِئْرُهُ فَيَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ وَيَسْقِي

ص: 65

بِفَضْلِ مَاءِ جَارِهِ إِنْ زَرَعَ أَوْ غَرَسَ عَلَى أَصْلِ مَاءٍ فَانْهَارَ وَخِيفَ عَلَى زَرْعِهِ أَوْ غَرْسِهِ وَشَرَعَ فِي إِصْلَاحِ مَا انْهَارَ وَفَضَلَ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِ الْمَاءِ.

ص: 66

[باب الْقَضَاءِ فِي الْمَرْفِقِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

26 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْمِرْفَقِ

بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَبِفَتْحِهَا وَكَسْرِ الْمِيمِ، مَا ارْتَفَقَ بِهِ، وَبِهِمَا قُرِئَ:{وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16](سورة الْكَهْفِ: الْآيَةُ 16) وَمِنْهُ مِرْفَقُ الْإِنْسَانِ.

1461 -

1424 - (مَالِكٌ، عَنْ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ) بِكَسْرِ الزَّايِ، مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ الْأَنْصَارِيِّ الثِّقَةِ الْمُتَوَفَّى بَعْدَ الثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ، وَاسْمُهُ تَمِيمُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ التَّابِعِيُّ الثِّقَةُ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا ضَرَرَ» ) خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا يَضُرُّ الْإِنْسَانُ أَخَاهُ فَيُنْقِصُهُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ (وَلَا ضِرَارَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ " فِعَالَ "، أَيْ لَا يُجَازِي مَنْ ضَرَّهُ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ بَلْ يَعْفُو، فَالضَّرَرُ فِعْلُ وَاحِدٍ، وَالضِّرَارُ فِعْلُ اثْنَيْنِ، فَالْأَوَّلُ إِلْحَاقُ مَفْسَدَةٍ بِالْغَيْرِ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي إِلْحَاقُهَا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ، أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْصِدُ ضَرَرَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ جِهَةِ الِاعْتِدَاءِ بِالْمِثْلِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، أَيْ لَا يَضُرُّهُ ابْتِدَاءً وَلَا يُضَارُّهُ إِنْ ضَرَّهُ وَلْيَصْبِرْ، فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ وَإِنِ انْتَصَرَ فَلَا يَعْتَدِي كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» ". يُرِيدُ بِأَكْثَرِ مِنَ انْتِصَافِكَ مِنْهُ {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43](سورة الشُّورَى: الْآيَةُ 43) وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: الضَّرَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ الِاسْمُ، وَالضِّرَارُ الْفِعْلُ، أَيْ لَا تُدْخِلْ عَلَى أَحَدٍ ضِرَارًا بِحَالٍ. وَقَالَ الْخُشَنِيُّ: الضَّرَرُ الَّذِي لَكَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَعَلَى جَارِكَ فِيهِ مَضَرَّةٌ، وَالضِّرَارُ مَا لَيْسَ لَكَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَعَلَى جَارِكَ فِيهِ مَضَرَّةٌ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ يَنْصَرِفُ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ، وَالْفُقَهَاءُ يَنْزِعُونَ بِهِ فِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: اخْتَارَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُمَا لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ، أَيْ لَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِضْرَارُهُ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ فِي الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ; لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِيفَاءٌ لِحَقٍّ أَوْ رَدْعٍ عَنِ اسْتِدَامَةِ ظُلْمٍ، فَمَا أَحْدَثَهُ الرَّجُلُ بِعَرْصَتِهِ مِمَّا

ص: 66

يَضُرُّ بِجِيرَانِهِ مِنْ بِنَاءِ حَمَّامٍ أَوْ فُرْنٍ لِخُبْزٍ أَوْ سَبْكِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ عَمَلِ حَدِيدٍ أَوْ رَحًى فَلَهُمْ مَنْعُهُ، قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ اهـ.

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ حَذْفًا، أَيْ لَا لُحُوقَ أَوْ إِلْحَاقَ، أَوْ لَا فَعَلَ ضَرَرًا وَضِرَارًا بِأَحَدٍ، أَيْ لَا يَجُوزُ شَرْعًا إِلَّا لِمُوجِبٍ خَاصٍّ، فَقَيَّدَ النَّفْيَ بِالشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ الْقَدَرِ لَا يُنْتَفَى، وَخَصَّ مِنْهُ مَا وَرَدَ لُحُوقُهُ بِأَهْلِهِ كَحَدٍّ وَعُقُوبَةِ جَانٍ وَذَبْحِ مَأْكُولٍ، فَإِنَّهَا ضَرَرٌ وَلَاحِقٌ بِأَهْلِهِ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ إِجْمَاعًا، وَفِيهِ تَحْرِيمُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، ثُمَّ لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا فِي التَّمْهِيدِ. وَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْصُولًا بِزِيَادَةِ:" «وَمَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَقْوَى مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ الْعَلَائِيُّ: لَهُ شَوَاهِدُ وَطُرُقٌ يَرْتَقِي بِمَجْمُوعِهَا إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ. وَذَكَرَ أَبُو الْفُتُوحِ الطَّائِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ لَهُ أَنَّ الْفِقْهَ يَدُورُ عَلَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ هَذَا أَحَدُهَا، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ حَدِيثُ:" «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ أَوْ مَاكَرَهُ» ". أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الصِّدِّيقِ مَرْفُوعًا وَضَعَّفَ إِسْنَادَهُ، وَقَالَ: لَكِنَّهُ مِمَّا يَخَافُ عُقُوبَةَ مَا جَاءَ فِيهِ. قَالَ: وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِ أَخِيهِ» ". وَجَابِرٌ ضَعِيفٌ اهـ، أَيْ فَلَا يُعْتَبَرُ بِزِيَادَتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَلِلرَّجُلِ. . . إِلَخْ، فَالزِّيَادَةُ إِنَّمَا تُقْبَلُ مِنَ الثِّقَةِ إِنْ لَمْ يُخَالِفْ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ كَمَا تَقَرَّرَ، ثُمَّ الْإِنْكَارُ إِنَّمَا هُوَ وُرُودُهَا فِي حَدِيثِ:«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ; إِذْ هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ التَّالِي.

ص: 67

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ خَشَبَةً يَغْرِزُهَا فِي جِدَارِهِ» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1462 -

1425 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بَدَلَ الزُّهْرِيِّ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، وَهِشَامُ بْنُ يُوسُفَ: عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بَدَلَ الْأَعْرَجِ، وَكَذَا قَالَ مَعْمَرٌ، رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ وَقَالَ: الْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ الْأَوَّلُ، أَيْ مَا فِي الْمُوَطَّأِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْجَمِيعِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمْنَعُ) بِالرَّفْعِ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ " لَا " نَاهِيَةٌ، وَلِأَحْمَدَ: " لَا

ص: 67

يَمْنَعَنَّ " بِزِيَادَةِ نُونِ التَّوْكِيدِ وَهِيَ تُؤَكِّدُ رِوَايَةَ الْجَزْمِ (أَحَدُكُمْ جَارَهُ) الْمُلَاصِقَ لَهُ (خَشَبَةً) بِالتَّنْوِينِ مُفْرَدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْهَاءِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ: " خَشَبَةَ " بِلَا تَنْوِينٍ، وَقَالَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ " خَشَبَةً " بِالتَّنْوِينِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَاحِدَةِ الْجِنْسُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِلَّا فَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى لِأَنَّ أَمْرَ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ أَخَفُّ فِي مُسَامَحَةِ الْجَارِ بِخِلَافِ الْخَشَبِ الْكَثِيرِ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَأَنْكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالَ: كُلُّ النَّاسِ يَقُولُونَهُ بِالْجَمْعِ إِلَّا الطَّحَاوِيَّ فَقَالَ: " خَشَبَةً " بِالتَّوْحِيدِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا إِنْ أَرَادَ خَاصًّا مِنَ النَّاسِ كَالَّذِينَ رَوَى عَنْهُمُ الطَّحَاوِيُّ فَلَهُ اتِّجَاهٌ اهـ. وَفِي الْمُفْهِمِ: إِنَّمَا اعْتَنَى الْأَئِمَّةُ بِضَبْطِ هَذَا الْحَرْفِ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تَخِفٌّ عَلَى الْجَارِ أَنْ يَسْمَحَ بِهَا بِخِلَافِ الْخَشَبِ الْكَثِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِهِ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رِوَايَةَ الْإِفْرَادِ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مِرْفَقٌ وَهِيَ الَّتِي يُحْتَاجُ لِلسُّؤَالِ عَنْهَا، وَأَمَّا الْخَشَبُ فَكَثِيرٌ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْحَائِطِ عَلَى الْجَارِ وَيَشْهَدُ لَهُ وَضْعُ الْخَشَبِ، يَعْنِي فَلَا يَنْدُبُهُ الشَّرْعُ إِلَى ذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌ.

(يَغْرِزُهَا) ، أَيِ الْخَشَبَةَ أَوِ الْخَشَبَ، وَلِلْقَعْنَبِيِّ: أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً (فِي جِدَارِهِ) أَيِ الْأَحَدُ الْمَنْهِيُّ تَنْزِيهًا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُمْنَعَ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ. الْقُرْطُبِيُّ: وَإِذَا لَمْ يُجْبَرِ الْمَالِكُ عَلَى إِخْرَاجِ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ فَأَحْرَى بِغَيْرِ عِوَضٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلنَّدْبِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ جَاءَ لِلنَّدْبِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا» ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ حَبِيبٍ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: يُجْبَرُ إِنِ امْتَنَعَ لِأَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صِيغَةَ " لَا تَفْعَلْ " لِلتَّحْرِيمِ، فَالْإِذْنُ لَازِمٌ بِشَرْطِ احْتِيَاجِ الْجَارِ، وَأَنْ لَا يَضَعَ عَلَيْهِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَالِكُ، وَأَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى حَاجَةِ الْمَالِكِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْتَاجَ فِي وَضْعِ الْجِذْعِ إِلَى ثَقْبِ الْجِدَارِ أَوْ لَا; لِأَنَّ رَأْسَ الْجِذْعِ يَسُدُّ الْمُنْفَتِحَ وَيُقَوِّي الْجِدَارَ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ تَقَدُّمَ اسْتِئْذَانِ الْجَارِ فِي ذَلِكَ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ:" «مَنْ سَأَلَهُ جَارُهُ» ". وَكَذَا لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ مَالِكٍ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَعُقَيْلٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَزِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، الثَّلَاثَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَجَزَمَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِالْقَوْلِ الْقَدِيمِ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ نَجِدْ فِي السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذَا الْحُكْمَ إِلَّا عُمُومَاتٍ لَا يُنْكَرُ أَنْ يَخُصَّهَا، وَقَدْ حَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ بِمَا حَدَّثَ بِهِ، يُشِيرُ إِلَى

ص: 68

قَوْلِهِ: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ) بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَافَظَةً عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَحَضًّا عَلَيْهِ لَمَّا رَآهُمْ تَوَقَّفُوا عَنْهُ، فَفِي التِّرْمِذِيِّ: أَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَهُمْ بِذَلِكَ لَمَّا طَاطَوْا رُءُوسَهُمْ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ: فَنَكَّسُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَالَ:(مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ أَوِ الْمَقَالَةِ (مُعْرِضِينَ) إِنْكَارًا لِمَا رَأَى مِنْ إِعْرَاضِهِمْ وَاسْتِثْقَالِهِمْ مَا سَمِعُوا مِنْهُ وَعَدَمِ إِقْبَالِهِمْ عَلَيْهَا بَلْ طَاطَوْا رُءُوسَهُمْ (وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا) أَيْ لَأَصْرُخَنَّ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ (بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) رَوَيْنَاهُ بِالْفَوْقِيَّةِ، جَمْعُ كَتِفٍ، وَبِالنُّونِ جَمْعُ كَنَفٍ بِفَتْحِهَا وَهُوَ الْجَانِبُ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَيْ لَأَشِيعَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِيكُمْ وَلَأَقْرَعَنَّكُمْ بِهَا كَمَا يُضْرَبُ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَيَسْتَيْقِظُ مِنْ غَفْلَتِهِ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْخَشَبَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا هَذَا الْحُكْمَ وَتَعْمَلُوا بِهِ رَاضِينَ لَأَجْعَلَنَّ الْخَشَبَةَ بَيْنَ رِقَابِكُمْ كَارِهِينَ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ.

وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ جَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ كَانَ يَلِي إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ، لَكِنَّ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ:" «لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ وَإِنْ كَرِهْتُمْ» ". وَهَذَا يُرَجِّحُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِلْزَامِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، أَيْ لَا أَقُولُ الْخَشَبَةَ تُرْمَى عَلَى الْجِدَارِ بَلْ بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ لِمَا وَصَّى بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بِرِّ الْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَحَمْلِ أَثْقَالِهِ، وَهَذَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يَرَى الْوُجُوبَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ الظَّاهِرُ، وَقَوْلُ الْبَاجِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنَّ مَذْهَبَهُ النَّدْبُ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِلْوُجُوبِ لَوَبَّخَ الْحُكَّامَ عَلَى تَرْكِهِ وَلَحَكَمَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَخْلَفًا بِالْمَدِينَةِ، فِيهِ نَظَرٌ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَلِي إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ نِيَابَةً عَنْ مَرْوَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَتَرَافَعْ إِلَيْهِ حِينَ تَوْلِيَتِهِ وَلَمْ يُوَبِّخِ الْحُكَّامَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا بِهِ، وَاسْتَدَلَّ الْمُهَلَّبُ وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا جَهِلَ الصَّحَابَةُ تَأْوِيلَهُ وَلَا أَعْرَضُوا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْرِضُونَ عَنْ وَاجِبٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَتَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ الْمُعْرِضِينَ صَحَابَةٌ وَأَنَّهُمْ عَدَدٌ لَا يَجْهَلُ مِثْلُهُمُ الْحُكْمَ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُونُوا فُقَهَاءَ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ; إِذْ لَوْ كَانُوا صَحَابَةً أَوْ فُقَهَاءَ مَا وَاجَهَهُمْ بِذَلِكَ اهـ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَظَالِمِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْقَضَاءِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ فِي الْبُيُوعِ عَنْ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 69

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيجًا لَهُ مِنْ الْعُرَيْضِ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَبَى مُحَمَّدٌ فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ لِمَ تَمْنَعُنِي وَهُوَ لَكَ مَنْفَعَةٌ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَلَا يَضُرُّكَ فَأَبَى مُحَمَّدٌ فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا فَقَالَ عُمَرُ لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ تَسْقِي بِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَهُوَ لَا يَضُرُّكَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا وَاللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1463 -

1426 - (مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ أَبِيهِ) عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ

ص: 69

بِضَمِّ الْعَيْنِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ (أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ) بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيَّ الْأَشْهَلِيَّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: شَهِدَ غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ وَلَهُ فِيهَا ذِكْرٌ، وَلَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ. وَقَالَ ابْنُ شَاهِينَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي دَاوُدَ يَقُولُ: هُوَ الَّذِي قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيهِ: " «يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ذُو مَسْحَةٍ مِنْ جَمَالٍ، زِنَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زِنَةَ أُحُدٍ» ". فَطَلَعَ الضَّحَّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ، وَكَانَ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ كَمَا فِي الْإِصَابَةِ. (سَاقَ خَلِيجًا لَهُ) قَالَ الْمَجْدُ: الْخَلِيجُ النَّهْرُ وَشَرْمٌ مِنَ الْبَحْرِ وَالْجَفْنَةُ وَالْحَبْلُ (مِنَ الْعُرَيْضِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَادٍ بِالْمَدِينَةِ بِهِ أَمْوَالٌ لِأَهْلِهَا (فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ) الْأَنْصَارِيِّ، أَكْبَرُ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ، مَاتَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ (فَأَبَى) امْتَنَعَ (مُحَمَّدٌ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: لِمَ) لِأَيِّ شَيْءٍ (تَمْنَعُنِي وَهُوَ لَكَ مَنْفَعَةٌ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَلَا يَضُرُّكَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَجُوزُ لِجَهْلِ قَدْرِ شُرْبِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْمَاءِ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ الْأَعْلَى أَوْلَى حَتَّى يُرْوَى (فَأَبَى مُحَمَّدٌ، فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا) أَفْعَلُ ذَلِكَ (فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ) فِي الْإِسْلَامِ وَالصُّحْبَةِ (مَا يَنْفَعُهُ، وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ) لِأَنَّكَ (تَسْقِي بِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَهُوَ لَا يَضُرُّكَ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا) أَرْضَى بِهَذَا (وَاللَّهِ) أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ (فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ) الْبَاجِيُّ: فِيهِ اعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ لَا الْأَلْفَاظِ إِنْ كَانَتْ يَمِينُ عُمَرَ عَلَى مَعْنَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ; إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّ عُمَرَ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ عَلَى بَطْنِ مُحَمَّدٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: إِنْ خَالَفْتَ حُكْمِي عَلَيْكَ وَحَارَبْتَ وَأَدَّتِ الْمُحَارَبَةُ إِلَى قَتْلِكَ وَإِجْرَائِهِ عَلَى بَطْنِكَ لَفَعَلْتُ ذَلِكَ نُصْرَةً لِلْحُكْمِ بِالْحَقِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

(فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ) أَيْ يُجْرِيهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدٍ (فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ) ذَلِكَ، أَيْ أَجْرَاهُ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلُ عُمَرَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِمَالِكٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: الْمُخَالَفَةُ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ لِحَدِيثِ: " «لَا يَحْلُبَنَّ

ص: 70

أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ» ". وَاللَّبَنُ مُتَجَدِّدٌ وَيَخْلُفُهُ غَيْرُهُ وَالْأَرْضُ الَّتِي يَمُرُّ فِيهَا بِالسَّاقِيَةِ لَا يُعْتَاضُ مِنْهَا. وَالثَّانِي: الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ مُطْلَقًا، وَهِيَ رِوَايَةُ زِيَادٍ عَنْهُ فِي النَّوَادِرِ. وَالثَّالِثُ: الْمُوَافَقَةُ لَهُ عَلَى وَجْهِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُخَالَفَةُ أَهْلِ زَمَنِ مَالِكٍ لِزَمَنِ عُمَرَ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ، كَأَنْ يُقَالُ: تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا يُحْدِثُونَ مِنَ الْفُجُورِ، وَأَخَذَ بِهِ مَنْ يُوثَقُ بِرَأْيِهِ، فَلَوْ كَانَ الشَّأْنُ مُعْتَدِلًا فِي زَمَانِنَا كَاعْتِدَالِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَأَيْتُ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِي أَرْضِكَ لِأَنَّكَ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَلَا يَضُرُّكَ، وَلَكِنْ فَسَدَ النَّاسُ وَاسْتَحَقُّوا التُّهْمَةَ، فَأَخَافُ أَنْ يَطُولَ وَيَنْسَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَرْيُ هَذَا الْمَاءِ، وَقَدْ يَدَّعِي بِهِ جَارُكَ دَعْوَى فِي أَرْضِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا صَارَتْ لَهُ أَرْضُهُ بِإِحْيَائِهِ لَهَا بَعْدَ أَنْ أَحْيَا الضَّحَّاكُ أَرْضَهُ عَلَى مَا قَالَ أَشْهَبُ: إِنْ أَحْيَيْتَ أَرْضَكَ بَعْدَ إِحْيَاءِ عَيْنِهِ وَأَرْضِهِ قَضَى عَلَيْكَ بِمَمَرِّهِ فِي أَرْضِكَ وَإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهَا إِلَى أَرْضِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْضُكَ قَبْلَ عَيْنِهِ وَأَرْضِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْضِ عَلَى مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ إِلَى الْأَفْضَلِ ثِقَةً أَنَّهُ لَا يُحَنِّثُهُ اهـ مُلَخَّصًا.

ص: 71

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ كَانَ فِي حَائِطِ جَدِّهِ رَبِيعٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْحَائِطِ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى أَرْضِهِ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ فَقَضَى لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِتَحْوِيلِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1464 -

1427 - (مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ) يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ (أَنَّهُ) أَيْ يَحْيَى (قَالَ: كَانَ جَدُّهُ) جَدُّ يَحْيَى وَهُوَ أَبُو حَسَنٍ وَاسْمُهُ تَمِيمُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الصَّحَابِيُّ (رَبِيعٌ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ جَدْوَلٌ وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ (لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزُّهْرِيِّ أَحَدِ الْعَشَرَةِ (فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ) جِهَةٍ (مِنَ الْحَائِطِ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى أَرْضِهِ) أَيْ أَرْضِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ فِي سَقْيِهَا مِنَ الْبَعِيدِ (فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ) أَبُو الْحَسَنِ (فَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَضَى لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِتَحْوِيلِهِ) لِأَنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ:" «لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ» ". عَلَى ظَاهِرِهِ وَعَدَّاهُ إِلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ الْجَارُ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ دَارِ جَارِهِ وَأَرْضِهِ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ، وَرَوَى زِيَادٌ عَنْهُ: إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ قَضَى عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ: لَمْ يَرُدَّ مَالِكٌ عَنِ الصَّحَابَةِ خِلَافَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ رَدَّ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَالْأَنْصَارِيَّ صَاحِبَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ رَأْيُهُمَا خِلَافَ رَأْيِ عُمَرَ

ص: 71

وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَجَعَ إِلَى النَّظَرِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حَرَامٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنَ الْمَالِ خَاصَّةً، وَحَدِيثُ «أَنَّ غُلَامًا اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلَتْ أُمُّهُ تَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَتَقُولُ: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" وَمَا يُدْرِيكِ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ» "، ضَعِيفٌ وَمَشْهُورٌ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنْ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ مِمَّا فِي هَذَا الْبَابِ لِحَدِيثِ:" «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» ". وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَى أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا يُؤْخَذُ بِقَضَاءِ عُمَرَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْخَلِيجِ، وَأَمَّا تَحْوِيلُ الرَّبِيعِ فَيُؤْخَذُ بِهِ لِأَنَّ مَجْرَاهُ ثَابِتٌ لِابْنِ عَوْفٍ فِي الْحَائِطِ، وَإِنَّمَا حَوَّلَهُ لِنَاحِيَةٍ أُخْرَى أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَرْفَقُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ اهـ. وَمَرَّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَمَشْهُورٌ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: أَنْ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 72

[باب الْقَضَاءِ فِي قَسْمِ الْأَمْوَالِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ قُسِمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَدْرَكَهَا الْإِسْلَامُ وَلَمْ تُقْسَمْ فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ»

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ أَمْوَالًا بِالْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ إِنَّ الْبَعْلَ لَا يُقْسَمُ مَعَ النَّضْحِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَهْلُهُ بِذَلِكَ وَإِنَّ الْبَعْلَ يُقْسَمُ مَعَ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ يُشْبِهُهَا وَأَنَّ الْأَمْوَالَ إِذَا كَانَتْ بِأَرْضٍ وَاحِدَةٍ الَّذِي بَيْنَهُمَا مُتَقَارِبٌ أَنَّهُ يُقَامُ كُلُّ مَالٍ مِنْهَا ثُمَّ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ وَالْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

27 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي قَسْمِ الْأَمْوَالِ

1465 -

1428 - (مَالِكٌ عَنْ ثَوْرٍ) بِمُثَلَّثَةٍ (بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ (أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي) قَالَ أَبُو عُمَرَ: تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ وَهُوَ ثِقَةٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا) أَيُّ مُبْتَدَأٌ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَزِيدَتْ " مَا " لِتَوْكِيدِهِ وَزِيَادَةِ التَّعْمِيمِ. (دَارٍ أَوْ أَرْضٍ قُسِمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) هِيَ مَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقِيلَ مَا قَبْلَ الْفَتْحِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: اسْقِنِي كَأْسًا دِهَاقًا. وَابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا وُلِدَ فِي الشِّعْبِ (فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: تَقَدَّمَ قَسْمُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَأْوِيلِ ابْنِ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ اسْتَحَقَّتْ سِهَامُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَنْ مَاتَ مَيِّتٌ فَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ رَدِّ مَا سَلَفَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَأَمْضَاهَا عَلَى مَا وَقَعَتْ، وَلِذَا لَا يُرَدُّ تَبَرُّعَاتُهُمْ وَأَنْكِحَتُهُمُ الْفَاسِدَةُ بَلْ يُصَحِّحُ الْإِسْلَامُ الْمِلْكَ الْوَاقِعَ بِهَا، قَالَ: وَقَوْلُهُ (وَأَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَدْرَكَهَا الْإِسْلَامُ فَلَمْ تُقْسَمْ) الْفَاءُ لِلْحَالِ عَلَى مَا أَفَادَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْفَاءَ تَجِيءُ لَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَمْ تُقَسَّمْ (فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ) يَحْتَمِلُ

ص: 72

التَّأْوِيلَيْنِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَا كَانَ مُشْتَرِكًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ قَبْلَ الْقَسَمِ فَهُوَ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ، مِثْلُ أَنْ يَرِثُوا دَارًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ يُسْلِمُوا قَبْلَ قَسْمِهَا فَيَقْتَسِمُونَهَا عَلَى مَوَارِيثِ الْإِسْلَامِ، قَالَ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّ هَذَا فِي الْمَجُوسِ وَالْفُرْسِ وَالْفَرَازِنَةِ وَكُلِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يُقْسِمُونَهَا عَلَى مُقْتَضَى شَرْعِهِمْ يَوْمَ وَرِثُوهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ ذِكْرُهُ الْجَاهِلِيَّةَ. وَرَوَى مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ فِي الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ: أَهْلِ كِتَابٍ أَمْ لَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَوَاهُ أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَوْلَى لِاسْتِعْمَالِ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ لَا تَفْتَرِقُ أَحْكَامُهُ فِيمَنْ أَسْلَمَ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهِ، وَفِي الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ، فَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ إِلَّا مَا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ مِنْ أَكْلِ ذَبَائِحِ الْكِتَابِيِّينَ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، وَمُحَالٌ أَنْ يُقْسِمَ الْمُؤْمِنُونَ مِيرَاثَهُمْ عَلَى شَرِيعَةِ الْكُفْرِ.

- (مَالِكٌ: فِيمَنْ هَلَكَ) مَاتَ (وَتَرَكَ أَمْوَالًا) أَرَضِينَ وَمَا فِيهَا مِنْ شَجَرٍ (بِالْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ) جِهَتَانِ بِالْمَدِينَةِ (إِنَّ الْبَعْلَ) مَا يُشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ وَلَا سَمَاءٍ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ، أَيِ الْمَطَرُ (لَا يُقْسَمُ مَعَ النَّضْحِ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، أَيِ الْمَاءُ الَّذِي يَحْمِلُهُ النَّاضِحُ وَهُوَ الْبَعِيرُ; لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يُجْمَعَانِ فِي الْقَسْمِ، يُرِيدُ بِالْقُرْعَةِ الَّتِي تَكُونُ بِالْجَبْرِ (إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَهْلُهُ بِذَلِكَ) ، أَيْ قَسْمَهَا بَيْنَهُمْ بِالْقَرْعَةِ أَوْ يَقْسِمُهَا مُرَاضَاةً دُونَ قُرْعَةٍ (وَإِنَّ الْبَعْلَ يُقْسَمُ مَعَ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ يُشْبِهُهَا) لِأَنَّهُمَا يُزَكَّيَانِ بِالْعُشْرِ، بِخِلَافِ النَّضْحِ الَّذِي يُزَكَّى بِنِصْفِهِ وَهَذَا مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ. (وَأَنَّ الْأَمْوَالَ إِذَا كَانَتْ بِأَرْضٍ وَاحِدَةٍ الَّذِي بَيْنَهُمَا مُتَقَارِبٌ فَإِنَّهُ يُقَامُ كُلُّ مَالٍ مِنْهَا ثُمَّ يُقْسَمُ) وَفِي نُسْخَةٍ: يُسْهَمُ (بَيْنَهُمْ وَالْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ) لِأَنَّ جَمْعَهَا لِلْقَسْمِ أَقَلُّ ضَرَرًا، وَإِذَا قُسِمَتْ كُلُّ دَارٍ فَسَدَ كَثِيرٌ مِنْ مَنَافِعِهَا وَلِذَا ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي الْأَمْلَاكِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يُقْسَمُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ نَصِيبُهُ مِنْ كُلِّ دَارٍ وَمِنْ كُلِّ أَرْضٍ; لِأَنَّ كُلَّ بُقْعَةٍ وَدَارٍ تُعْتَبَرُ بِنَفْسِهَا، وَلِتَعَلُّقِ الشُّفْعَةِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا.

ص: 73

[باب الْقَضَاءِ فِي الضَّوَارِي وَالْحَرِيسَةِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ «أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

28 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الضَّوَارِي وَالْحَرِيسَةِ

الضَّوَارِي بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ الْعَوَادِيَ، وَهِيَ الْبَهَائِمُ الَّتِي ضَرَبَتْ أَكْلَ زُرُوعِ النَّاسِ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالرُّمُكِ الَّتِي تَعْدُو فِي زُرُوعِ النَّاسِ قَدْ ضَرَبَتْ ذَلِكَ تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ فِي بَلَدٍ لَا زَرْعَ فِيهِ. ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَذَا الْغَنَمُ وَالدَّوَابُّ إِلَّا أَنْ يَحْبِسَهَا أَهْلُهَا عَنِ النَّاسِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: الْحَرِيسَةُ الْمَحْرُوسَةُ فِي الْمَرْعَى.

1467 -

1429 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (عَنْ حَرَامِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (بْنِ سَعْدِ) بِسُكُونِ الْعَيْنِ، وَيُقَالُ: بْنُ سَاعِدَةَ (بْنُ مُحَيِّصَةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَقَدْ تُسَكَّنُ، بْنِ مَسْعُودِ بْنِ كَعْبٍ الْخَزْرَجِيِّ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ، جَدُّهُ صَحَابِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَبُوهُ قِيلَ لَهُ صُحْبَةٌ أَوْ رُؤْيَةٌ، وَرِوَايَتُهُ مُرْسَلَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَلَى ذَلِكَ، وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: لَمْ يُتَابَعْ مَعْمَرٌ عَلَى ذَلِكَ فَجَعَلَ الْخَطَأَ مِنْ مَعْمَرٍ. وَالْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الثِّقَاتِ، وَتَلَقَّاهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعِرَاقِ بِالْقَبُولِ، وَجَرَى عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ. (أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ الْأَوْسِيِّ صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَاسْتُصْغِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ (دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى) حَكَمَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ) الْبَسَاتِينِ (حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ) فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَهْلِهَا فِيمَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ إِنْ سَرَحَتْ بَعْدَ الْمَزَارِعِ وَلَا رَاعِيَ مَعَهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِهَا ضَمِنَ. (وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ مَضْمُونٌ (عَلَى أَهْلِهَا) زَادَ الرَّافِعِيُّ: كَقَوْلِهِمْ سِرٌّ كَاتِمٌ أَيْ مَكْتُومٌ، وَعِيشَةٌ رَاضِيَةٌ أَيْ مَرْضِيَّةٌ اهـ. فَيَضْمَنُونَ قِيمَةَ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَاشِيَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ فِيهِمَا لِحَدِيثِ: " «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» ". وَقَالَ اللَّيْثُ وَعَطَاءٌ: يَضْمَنُ فِيهِمَا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: الْحَدِيثُ

ص: 74

مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78](سورة الْأَنْبِيَاءِ: الْآيَةُ 78) وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا فِيمَنْ أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90](سورة الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 90) وَلَا خِلَافَ بَيْنِ عُلَمَاءِ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ أَنَّ النَّفْشَ لَا يَكُونُ إِلَّا لَيْلًا، وَالْهَمْلُ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنَا أَنَّ حَرْثَهُمْ كَانَ عِنَبًا، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا بِبَيِّنٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الْآيَةِ بِالْحُكْمِ، وَلَوْ صَرَّحَ أَنَّهُ ضَمِنَ أَهْلَ الْمَاشِيَةِ الَّتِي نَفَشَتْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنِ الرَّاعِيَةِ نَهَارًا إِلَّا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ، أَيِ الْمَفْهُومِ، فَكَيْفَ وَالْآيَةُ لَمْ تَتَضَمَّنْ تَفْسِيرًا وَلَا بَيَانًا وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ.

ص: 75

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَانْتَحَرُوهَا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمَرَ عُمَرُ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ أَرَاكَ تُجِيعُهُمْ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لَأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْكَ ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ فَقَالَ الْمُزَنِيُّ قَدْ كُنْتُ وَاللَّهِ أَمْنَعُهَا مِنْ أَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ عُمَرُ أَعْطِهِ ثَمَانَ مِائَةِ دِرْهَمٍ

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ وَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَنَا فِي تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ وَلَكِنْ مَضَى أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَغْرَمُ الرَّجُلُ قِيمَةَ الْبَعِيرِ أَوْ الدَّابَّةِ يَوْمَ يَأْخُذُهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1468 -

1430 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبِ) بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ الْمَدَنِيِّ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَأَبُوهُ لَهُ رُؤْيَةٌ، وَعَدُّوهُ فِي كِبَارِ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَجَدُّهُ بَدْرِيٌّ شَهِيرٌ

(أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ، قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ يُنْسَبُونَ إِلَى جَدَّتِهِمُ الْعُلْيَا مُزَيْنَةَ بِنْتِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ (فَانْتَحَرُوهَا) أَيْ نَحَرُوهَا (فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: فَاعْتَرَفَ الْعَبِيدُ، أَيْ بِالسَّرِقَةِ (فَأَمَرَ عُمَرُ كَثِيرَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ (بْنَ الصَّلْتِ) بْنِ مَعْدِ يكَرِبٍ الْكِنْدِيَّ الْمَدَنِيَّ التَّابِعِيَّ الْكَبِيرَ الثِّقَةَ، وَوَهَمَ مَنْ جَعَلَهُ صَحَابِيًّا (أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ) زَادَ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ: ثُمَّ أَرْسَلَ وَرَاءَهُ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بِهِمْ (ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: أَرَاكَ) أَظُنُّكَ (تُجِيعُهُمْ) وَلِابْنِ وَهْبٍ: وَقَالَ وَاللَّهِ لَوْلَا أَظُنُّ أَنَّكُمْ تَسْتَعْمِلُونَهُمْ وَتُجِيعُونَهُمْ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ وَجَدَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَكَلَهُ حَلَّ لَهُ لَقَطَعْتُ أَيْدِيَهُمْ. (ثُمَّ قَالَ عُمَرُ) لِحَاطِبٍ (وَاللَّهِ لَأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْكَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ لِإِجَاعَتِهِ رَقِيقَهُ وَإِحْوَاجِهِ لَهُمْ إِلَى السَّرِقَةِ، وَلَعَلَّهُ قَدْ كَرَّرَ نَهْيَهُ إِيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَدَّ لَهُ فِي قُوَّتِهِمْ حَدًّا لَمْ يَمْتَثِلْهُ، وَلَعَلَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِدَعْوَى الْمُزَنِيِّ مَعْرِفَةَ حَاطِبٍ ذَلِكَ، وَطَلَبَ يَمِينَهُ فَنَكَلَ، وَحَلَفَ الْمُزَنِيُّ، فَغَرَّمَ حَاطِبًا وَتَرَكَ قَطْعَ الْعَبِيدِ لِلْجُوعِ، وَقَوْلُ أَصْبَغَ جَمَعَ بَيْنَ الْقَطْعِ. وَالْغُرْمُ غَلَّطَهُ الدَّاوُدِيُّ وَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ عَذَرَهُمْ بِالْجُوعِ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ سَارِقًا عَامَ الرَّمَادَةِ (ثُمَّ قَالَ)

ص: 75

عُمَرُ (لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟ فَقَالَ الْمُزَنِيُّ: قَدْ كُنْتُ وَاللَّهِ أَمْنَعُهَا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ عُمَرُ) لِحَاطِبٍ (أَعْطِهِ ثَمَانِمِائَةَ دِرْهَمٍ) اجْتِهَادًا مِنْهُ خُولِفَ فِيهِ، وَلِذَا قَالَ (مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا فِي تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ، وَلَكِنْ مَضَى أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَغْرَمُ الرَّجُلُ قِيمَةَ الْبَعِيرِ أَوِ الدَّابَّةِ يَوْمَ يَأْخُذُهَا) فَلَا يَعْمَلُ بِفِعْلِ عُمَرَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَوْ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِحَدِيثٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم لَتُرِكَ وَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوهُ إِلَّا لِأَمْرٍ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ مَنِ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا إِلَّا مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ وَأَنَّهُ لَا يُعْطَى أَحَدٌ بِدَعْوَاهُ لِحَدِيثِ: " «لَوْ أُعْطِيَ قَوْمٌ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ ". وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي» ، وَهُنَا صَدَقَ الْمُزَنِيُّ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ ثَمَنِ نَاقَتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ فِي مَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ، وَهُنَا أَغْرَمَهُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ عَبِيدُهُ، وَهُوَ خَبَرٌ تَدْفَعُهُ الْأُصُولُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ اهـ. وَمَرَّ عَنِ الْبَاجِيِّ جَوَابُ بَعْضِ هَذَا تَرْجِيحًا. وَقَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ: سَأَلْتُ أَصْبَغَ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ، أَكَانَ مَالِكٌ يَرَى الْغُرْمَ عَلَى السَّيِّدِ بِلَا تَضْعِيفٍ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ فِي مَالِهِ وَلَا فِي رِقَابِ الْعَبِيدِ الَّذِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَطْعُ، وَإِنَّمَا غُرْمُهَا فِي مَالِ الْعَبِيدِ إِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي رِقَابِهِمْ سَرِقَةٌ لَا قَطْعَ فِيهَا فَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُمْ بَيْنَ إِسْلَامِهِمْ وَافْتِكَاكِهِمْ.

ص: 76

[باب الْقَضَاءِ فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ الْبَهَائِمِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ الْبَهَائِمِ إِنَّ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي الْجَمَلِ يَصُولُ عَلَى الرَّجُلِ فَيَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَعْقِرُهُ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهُ وَصَالَ عَلَيْهِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ إِلَّا مَقَالَتُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْجَمَلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

29 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنَ الْبَهَائِمِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنَ الْبَهَائِمِ أَنَّ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا) إِنْ لَمْ تُتْلَفْ مَنْفَعَتُهَا الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا مِنْ عَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا عَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ وَالْبَقَرَةِ رُبْعُ

ص: 76

ثَمَنِهَا، وَفِي شَاةِ الْقَصَّابِ مَا نَقَصَهَا، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ إِيجَابُ النُّقْصَانِ، لَكِنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِقَضَاءِ عُمَرَ فِي عَيْنِ دَابَّةٍ بِرُبْعِ قِيمَتِهَا بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرَ خِلَافٍ (مَالِكٌ فِي الْجَمَلِ يَصُولُ) يَثِبُ (عَلَى الرَّجُلِ فَيَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَعْقِرُهُ) بِكَسْرِ قَوَائِمِهِ (فَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهُ وَصَالَ عَلَيْهِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ) كَمَا لَوْ قَصَدَهُ رَجُلٌ لِيَقْتُلَهُ فَعَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ إِلَّا بِضَرْبِهِ فَقَتَلَهُ كَانَ هَدَرًا، وَإِذَا سَقَطَ الْأَكْثَرُ فَالْأَقَلُّ أَوْلَى. (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ إِلَّا مَقَالَتُهُ) أَيْ دَعْوَاهُ (فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْجَمَلِ) لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِدَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ.

ص: 77

[باب الْقَضَاءِ فِيمَا يُعْطَى الْعُمَّالُ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى الْغَسَّالِ ثَوْبًا يَصْبُغُهُ فَصَبَغَهُ فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ لَمْ آمُرْكَ بِهَذَا الصِّبْغِ وَقَالَ الْغَسَّالُ بَلْ أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ فَإِنَّ الْغَسَّالَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ وَالْخَيَّاطُ مِثْلُ ذَلِكَ وَالصَّائِغُ مِثْلُ ذَلِكَ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتُوا بِأَمْرٍ لَا يُسْتَعْمَلُونَ فِي مِثْلِهِ فَلَا يَجُوزُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلْيَحْلِفْ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَإِنْ رَدَّهَا وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُلِّفَ الصَّبَّاغُ قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي الصَّبَّاغِ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الثَّوْبُ فَيُخْطِئُ بِهِ فَيَدْفَعُهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ حَتَّى يَلْبَسَهُ الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ إِنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَى الَّذِي لَبِسَهُ وَيَغْرَمُ الْغَسَّالُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ وَذَلِكَ إِذَا لَبِسَ الثَّوْبَ الَّذِي دُفِعَ إِلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَإِنْ لَبِسَهُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ ثَوْبَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

30 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِيمَا يُعْطَى الْعُمَّالُ

بِضَمِّ الْعَيْنِ جَمْعُ عَامِلٍ، أَيِ الصُّنَّاعُ، وَفِي نُسْخَةٍ: الْغَسَّالُ. (مَالِكٌ فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى الْغَسَّالِ ثَوْبًا يَصْبُغُهُ) مُثَلَّثَ الْبَاءِ (فَصَبَغَهُ، فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: لَمْ آمُرْكَ بِهَذَا الصِّبْغِ) الْأَحْمَرِ مَثَلًا بَلْ أَسْوَدُ (وَقَالَ الْغَسَّالُ: بَلْ أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَسَّالَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ) حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لِأَنَّ رَبَّهُ مُقِرٌّ بِإِذْنِهِ لِلصَّبَّاغِ فِي الْعَمَلِ وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَا أَمَرَهُ بِهِ لِيَمْضِيَ عَمَلُهُ بَاطِلًا. وَقَالَ الْحَنَفِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِاعْتِرَافِ الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُ لِرَبِّهِ وَأَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهِ حَدَثًا ادَّعَى إِذْنَهُ وَإِجَازَتَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً وَإِلَّا حَلَفَ صَاحِبُهُ وَضَمِنَهُ مَا أَحْدَثَ فِيهِ. (وَالْخَيَّاطُ مِثْلُ ذَلِكَ) يُصَدَّقُ إِذَا قَطَعَ الثَّوْبَ قَمِيصًا وَقَالَ لِرَبِّهِ: أَمَرْتَنِي بِهِ، وَقَالَ صَاحِبُهُ: أَمَرْتُكَ بِقَبَاءٍ مَثَلًا. (وَالصَّائِغُ مِثْلُ ذَلِكَ) إِذَا صَاغَ الْفِضَّةَ أَسَاوِرَ وَقَالَ صَاحِبُهَا: بَلْ خَلَاخِلَ (وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتُوا بِأَمْرٍ لَا يُسْتَعْمَلُونَ فِي مِثْلِهِ، فَلَا يَجُوزُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلْيَحْلِفْ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَإِنْ رَدَّهَا) أَيِ الْيَمِينُ (وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُلِّفَ الصَّبَّاغُ) وَكَانَ الْقَوْلُ

ص: 77

قَوْلَهُ. (مَالِكٌ فِي الصَّبَّاغِ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الثَّوْبُ فَيُخْطِئُ بِهِ) أَيْ يَدْفَعُهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ الَّذِي فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ وَلَمْ يَفْهَمْهُ مَنْ زَادَ فِي الْمَتْنِ: فَيَدْفَعُهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ لِأَنَّهُ عَيْنُ قَوْلِهِ فَيُخْطِئُ بِهِ (حَتَّى يَلْبَسَهُ الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ: إِنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَى الَّذِي لَبِسَهُ) لِأَنَّ الْخَطَأَ لَيْسَ مِنْهُ. (وَيَغْرَمُ الْغَسَّالُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَذَلِكَ إِذَا لَبِسَ الثَّوْبَ الَّذِي دُفِعَ إِلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ) بَلْ ظَنَّ أَنَّهُ ثَوْبُهُ (فَإِنْ لَبِسَهُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ ثَوْبَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ) لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ.

ص: 78

[باب الْقَضَاءِ فِي الْحَمَالَةِ وَالْحِوَلِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يُحِيلُ الرَّجُلَ عَلَى الرَّجُلِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ أَفْلَسَ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ فَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً فَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الَّذِي أَحَالَهُ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا الرَّجُلُ يَتَحَمَّلُ لَهُ الرَّجُلُ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ ثُمَّ يَهْلِكُ الْمُتَحَمِّلُ أَوْ يُفْلِسُ فَإِنَّ الَّذِي تُحُمِّلَ لَهُ يَرْجِعُ عَلَى غَرِيمِهِ الْأَوَّلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

31 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْحَمَالَةِ وَالْحِوَلِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يُحِيلُ الرَّجُلَ عَلَى الرَّجُلِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ أَفْلَسَ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ فَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً، فَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الَّذِي أَحَالَهُ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ) أَيِ الْمُحِيلِ (وَهَذَا الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي جَامِعِ الدَّيْنِ وَالْبُيُوعِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى حَدِيثُ:" «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» ". وَ " «إِذَا اتَّبَعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» ". وَهُوَ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ هُنَا، وَمَرَّ شَرْحُهُ هُنَاكَ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. (فَأَمَّا الرَّجُلُ يَتَحَمَّلُ لَهُ الرَّجُلُ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ ثُمَّ يَهْلِكُ الْمُتَحَمِّلُ أَوْ يُفْلِسُ، فَإِنَّ الَّذِي تُحُمِّلَ لَهُ) بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (يَرْجِعُ عَلَى غَرِيمِهِ الْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ حَقُّهُ عَنْ ذِمَّةِ الْمُتَحَمَّلِ

ص: 78

عَنْهُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُتَحَمِّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَثِيقَةٌ، فَإِنْ أَفْلَسَ الْحَمِيلُ أَوْ مَاتَ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ عَلَى الْغَرِيمِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

ص: 79

[باب الْقَضَاءِ فِيمَنْ ابْتَاعَ ثَوْبًا وَبِهِ عَيْبٌ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ ثَوْبًا وَبِهِ عَيْبٌ مِنْ حَرْقٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ عَلِمَهُ الْبَائِعُ فَشُهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ بِهِ فَأَحْدَثَ فِيهِ الَّذِي ابْتَاعَهُ حَدَثًا مِنْ تَقْطِيعٍ يُنَقِّصُ ثَمَنَ الثَّوْبِ ثُمَّ عَلِمَ الْمُبْتَاعُ بِالْعَيْبِ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْبَائِعِ وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي ابْتَاعَهُ غُرْمٌ فِي تَقْطِيعِهِ إِيَّاهُ قَالَ وَإِنْ ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَوْبًا وَبِهِ عَيْبٌ مِنْ حَرْقٍ أَوْ عَوَارٍ فَزَعَمَ الَّذِي بَاعَهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَقَدْ قَطَعَ الثَّوْبَ الَّذِي ابْتَاعَهُ أَوْ صَبَغَهُ فَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ قَدْرُ مَا نَقَصَ الْحَرْقُ أَوْ الْعَوَارُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَيُمْسِكُ الثَّوْبَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَغْرَمَ مَا نَقَصَ التَّقْطِيعُ أَوْ الصِّبْغُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَيَرُدُّهُ فَعَلَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَاعُ قَدْ صَبَغَ الثَّوْبَ صِبْغًا يَزِيدُ فِي ثَمَنِهِ فَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ قَدْرُ مَا نَقَصَ الْعَيْبُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِلَّذِي بَاعَهُ الثَّوْبَ فَعَلَ وَيُنْظَرُ كَمْ ثَمَنُ الثَّوْبِ وَفِيهِ الْحَرْقُ أَوْ الْعَوَارُ فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَثَمَنُ مَا زَادَ فِيهِ الصِّبْغُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فَعَلَى حِسَابِ هَذَا يَكُونُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

32 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِيمَنِ ابْتَاعَ ثَوْبًا وَبِهِ عَيْبٌ

- (مَالِكٌ: إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ ثَوْبًا وَبِهِ عَيْبٌ مِنْ حَرْقٍ أَوْ غَيْرِهِ) حَالَ كَوْنِهِ (قَدْ عَلِمَهُ الْبَائِعُ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ فَأَحْدَثَ فِيهِ الَّذِي ابْتَاعَهُ حَدَثًا مِنْ تَقْطِيعٍ يُنَقِّصُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُبْتَاعُ بِالْعَيْبِ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْبَائِعِ) لِأَنَّهُ مُدَلِّسٌ إِنْ شَاءَ الْمُبْتَاعُ (وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي ابْتَاعَهُ غُرْمٌ فِي تَقْطِيعِهِ إِيَّاهُ) وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، وَإِذَا رُدَّ رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، وَلَا يَرُدُّ مَا نَقَصَهُ فِعْلُهُ فِيهِ إِنْ كَانَ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ، وَيَشْتَرِي لَهُ غَالِبًا، وَإِلَّا كَثَوْبٍ رَفِيعٍ قَطَّعَهُ جَوَارِبَ أَوْ رَقَاعٍ فَاتٍّ رَدَّهُ عَلَى الْمُدَلِّسِ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ. (وَإِنِ ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَوْبًا وَبِهِ عَيْبٌ مِنْ حَرْقٍ بِنَارٍ أَوْ عَوَارٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ بِزِنَةِ كَلَامٍ، وَفِي لُغَةٍ بِضَمِّهَا: الْعَيْبُ مِنْ شَقٍّ وَخَرْقٍ، بِمُعْجَمَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (فَزَعَمَ الَّذِي بَاعَهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ قَطَعَ الثَّوْبَ) بِالنَّصْبِ، فَاعِلُهُ (الَّذِي ابْتَاعَهُ أَوْ صَبَغَهُ، فَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ قَدْرُ مَا نَقَصَ الْحَرْقُ أَوِ الْعَوَارُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَيُمْسِكَ الثَّوْبَ) يُبْقِيَهُ عِنْدَهُ (فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَغْرَمَ) يَدْفَعُ (مَا نَقَصَ التَّقْطِيعُ أَوِ الصِّبْغُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَيَرُدُّهُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ) تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. (فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَاعُ قَدْ صَبَغَ الثَّوْبَ صِبْغًا يَزِيدُ فِي ثَمَنِهِ فَالْمُبْتَاعُ

ص: 79

بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ قَدْرُ مَا نَقَصَ الْعَيْبُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ) وَيَتَمَسَّكَ بِهِ لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنُ مَالِهِ (وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِلَّذِي بَاعَهُ الثَّوْبَ فَعَلَ) بِأَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ وَيُقَوِّمَهُ مَعِيبًا غَيْرَ مَصْبُوغٍ ثُمَّ يُقَوِّمَهُ مَصْبُوغًا، فَيَكُونُ الْمُبْتَاعُ شَرِيكًا بِمَا زَادَهُ الصِّبْغُ كَمَا قَالَ. (وَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُ الثَّوْبِ وَفِيهِ الْخَرْقُ أَوِ الْعَوَارُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَثَمَنُ مَا زَادَ فِيهِ الصِّبْغُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ) فَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ ثُلُثَاهُ وَلِلْمُبْتَاعِ الَّذِي رَدَّهُ ثُلُثُهُ (فَعَلَى حِسَابِ هَذَا يَكُونُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ) أَيْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْحُكْمِ.

ص: 80

[باب مَا لَا يَجُوزُ مِنْ النُّحْلِ]

حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ أَبَاهُ بَشِيرًا أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَارْتَجِعْهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

33 -

بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ النُّحْلِ

بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، مَصْدَرُ نَحَلَهُ إِذَا أَعْطَاهُ بِلَا عِوَضٍ، وَبِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الْحَاءِ جَمْعُ نِحْلَةٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 4) أَيْ هِبَةً مِنَ اللَّهِ لَهُنَّ وَفَرِيضَةً عَلَيْكُمْ.

1473 -

1431 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ (عَنْ حُمَيْدِ) بِضَمِّ الْحَاءِ (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الْقُرَشِيِّ الزُّهْرِيِّ، أَحَدِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ. (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) الْأَنْصَارِيِّ أَبِي سَعِيدٍ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ (أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ) أَيِ ابْنَ شِهَابٍ (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) الْخَزْرَجِيِّ، سَكَنَ الشَّامَ ثُمَّ وَلِيَ إِمْرَةَ الْكُوفَةِ ثُمَّ قُتِلَ بِحِمْصٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، صَحَابِيٌّ وَأَبَوَاهُ صَحَابِيَّانِ، هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ النُّعْمَانِ وَحُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَاهُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ بَشِيرٍ، فَشَذَّ بِذَلِكَ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النُّعْمَانِ

ص: 80

(أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ بَشِيرًا) بْنَ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْجُلَاسِ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَخِفَّةِ اللَّامِ آخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، الْخَزْرَجِيَّ الْبَدْرِيَّ وَشَهِدَ غَيْرَهَا، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ أَبَا بَكْرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقِيلَ: عَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النُّعْمَانِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبُو الضُّحَى عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَأَحْمَدَ وَالطَّحَاوِيِّ، وَالْمُفَضَّلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ. (أَتَى بِهِ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ: انْطَلَقَ أَبِي يَحْمِلُنِي (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِابْنِ حِبَّانَ: فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ. وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِهِ فَمَشَى مَعَهُ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَحَمَلَهُ فِي بَعْضِهَا لِضَعْفِ سِنِّهِ، أَوْ عَبَّرَ عَنِ اسْتِتْبَاعِهِ إِيَّاهُ بِالْحَمْلِ (فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، أَيْ أَعْطَيْتُ (ابْنِي هَذَا) النُّعْمَانَ (غُلَامًا) لَمْ يُسَمِّ (كَانَ لِي) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ «عَنِ النُّعْمَانِ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ عَطِيَّةً» . وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ: «سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً» ، أَيْ مَطَلَهَا. وَلِابْنِ حِبَّانَ: حَوْلَيْنِ، وَجُمِعَ بِأَنَّ الْمُدَّةَ أَزْيَدُ مِنْ سَنَةٍ فَجَبَرَ الْكَسْرَةَ تَارَةً وَأَلْغَى أُخْرَى، قَالَ: بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ لَهُ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ فَقَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (أَكُلَّ وَلَدِكَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْتِخْبَارِيِّ وَالنَّصْبِ بِقَوْلِهِ: (نَحَلْتَهُ) أَعْطَيْتَهُ (مِثْلَ هَذَا؟) وَلِمُسْلِمٍ: أَكُّلُّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ (قَالَ: لَا) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُوَطَّأِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَالَ مُسْلِمٌ لَمَّا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ: أَمَّا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ فَقَالَا: أَكُلَّ بَنِيكَ؟ وَأَمَّا اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَالَا: أَكُلَّ وَلَدِكَ؟ قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ لَفْظَ وَلَدٍ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ. وَأَمَّا لَفْظُ بَنِينَ فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانُوا إِنَاثًا وَذُكُورًا فَعَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ سَعْدٍ لِبَشِيرٍ وَلَدًا غَيْرَ النُّعْمَانِ، وَذَكَرَ لَهُ بِنْتًا اسْمَهَا أُبَيَّةُ بِمُوَحَّدَةٍ تَصْغِيرُ أُبَيٍّ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَارْتَجِعْهُ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَجْزُومٍ أَمْرًا، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ، أَيِ الْغُلَامُ. وَهُوَ مَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ النُّعْمَانِ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي السَّلْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيِّ

ص: 81

عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ النُّعْمَانَ خَطَبَ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: «إِنَّ وَالِدِي أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ رَوَاحَةَ نُفِسَتْ بِغُلَامٍ وَإِنِّي سَمَّيْتُهُ النُّعْمَانَ، وَإِنَّهَا أَبَتْ أَنْ تُرَبِّيَهُ حَتَّى جَعَلْتُ لَهُ حَدِيقَةً مِنْ أَفْضَلِ مَا هُوَ لِي وَأَنَّهَا قَالَتْ: أَشْهِدْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ قَوْلُهُ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» . وَجَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ بِالْحَمْلِ عَلَى وَاقِعَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا عِنْدَ وِلَادَةِ النُّعْمَانِ وَكَانَتِ الْعَطِيَّةُ حَدِيقَةً، وَالْأُخْرَى بَعْدَ أَنْ كَبِرَ النُّعْمَانُ وَكَانَتْ عَبْدًا. قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا بَأْسَ بِجَمْعِهِ، لَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ يَنْسَى بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ مَعَ جَلَالَتِهِ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُشْهِدُهُ عَلَى الْعَطِيَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْأُولَى لَهُ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ. وَجَوَّزَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ بَشِيرًا ظَنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِامْتِنَاعِ فِي الْحَدِيقَةِ الِامْتِنَاعُ فِي الْعَبْدِ; لِأَنَّ ثَمَنَ الْحَدِيقَةِ غَالِبًا أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ، قَالَ: وَظَهَرَ لِي وَجْهٌ فِي الْجَمْعِ سَلِيمٌ مِنْ هَذَا الْخَدْشِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابِهِ، وَهُوَ أَنَّ عَمْرَةَ لَمَّا امْتَنَعَتْ مِنْ تَرْبِيَتِهِ إِلَّا أَنْ يَهَبَ لَهُ شَيْئًا، وَهَبَهُ الْحَدِيقَةَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَارْتَجَعَهَا; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَعَاوَدَتْهُ عَمْرَةُ فِي ذَلِكَ فَمَطَلَهَا سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ طَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ بَدَلَ الْحَدِيقَةِ غُلَامًا، وَرَضِيَتْ عَمْرَةُ بِهِ لَكِنْ خَشِيَتْ أَنْ يَرْتَجِعَهُ أَيْضًا فَقَالَتْ: أَشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. تُرِيدُ تَثْبِيتَ الْعَطِيَّةِ وَأَمْنَ رُجُوعِهِ فِيهَا، وَيَكُونُ مَجِيئُهُ لِإِشْهَادِهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْأَخِيرَةُ، وَغَايَةُ مَا فِيهَا أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْ بَعْضٌ، أَوْ كَانَ النُّعْمَانُ يَقُصُّ تَارَةً بَعْضَ الْقِصَّةِ وَيَقُصُّ بَعْضَهَا أُخْرَى، فَسَمِعَ كُلٌّ مَا رَوَاهُ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ قَالَ:«لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» ، وَفِي أُخْرَى:«لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» . وَلِمُسْلِمٍ فَقَالَ: «فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» . وَلَهُ أَيْضًا: «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» . وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا، وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ» . وَلِلنَّسَائِيِّ: وَكَرِهَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ. وَلِمُسْلِمٍ: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي النُّحْلِ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ» . وَلِأَحْمَدَ: «إِنَّ لِبَنِيكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ، فَلَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ، أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا إِذًا» . وَلِأَبِي دَاوُدَ: «إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَبَرُّوكَ» . وَلِلنَّسَائِيِّ: «أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ» . وَلَهُ وَلِابْنِ حِبَّانَ: سَوِّ بَيْنَهُمْ. وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ كَطَاوُسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَعَنْ أَحْمَدَ تَصِحُّ، وَعَنْهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ لِسَبَبٍ كَأَنْ يَحْتَاجُ الْوَلَدُ لِزَمَانَتِهِ أَوْ دَيْنِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دُونَ الْبَاقِينَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ التَّسْوِيَةُ إِنْ قَصَدَ بِالتَّفْضِيلِ الْإِضْرَارَ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهَا مُقَدِّمَةٌ لِوَاجِبٍ ; لِأَنَّ قَطْعَ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقَ

ص: 82

مُحَرَّمَانِ فَالْمُؤَدِّي إِلَيْهِمَا حَرَامٌ وَالتَّفْضِيلُ يُؤَدِّي إِلَيْهِمَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ التَّسْوِيَةِ: فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: الْعَدْلُ أَنْ يُعْطَى الذَّكَرُ حَظَّيْنِ كَالْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ حَظُّ الْأُنْثَى لَوْ أَبْقَاهُ الْوَاهِبُ حَتَّى مَاتَ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَفَارَقَ الْإِرْثُ بِأَنَّ الْوَارِثَ رَاضٍ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ بِخِلَافِ هَذَا، وَبِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْعُصُوبَةِ، أَمَّا بِالرَّحِمِ الْمُحَدَّدَةِ فَهُمَا فِيهَا سَوَاءٌ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْهِبَةُ لِلْأَوْلَادِ أَمَرَ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالتَّسْوِيَةِ يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَاسْتَأْنَسُوا لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ:" «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ» ". أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ: التَّسْوِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ فَضَّلَ بَعْضًا صَحَّ وَكُرِهَ، وَنُدِبَتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّسْوِيَةِ أَوِ الرُّجُوعُ حَمْلًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ وَالنَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْمَوْهُوبَ لِلنُّعْمَانِ كَانَ جَمِيعَ مَالِ وَالِدِهِ، وَلِذَا مَنَعَهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَنْعِ التَّفْضِيلِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ النُّعْمَانِ صَرِيحٌ بِالْبَعْضِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ وَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ لِبَعْضِ وَلَدِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ كَانَ غُلَامًا وَأَنَّهُ وَهَبَ لَهُ لَمَّا سَأَلَتْهُ أُمُّهُ الْهِبَةَ مِنْ بَعْضِ مَالِهِ، وَهَذَا يُعْلَمُ مِنْهُ بِالْقَطْعِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالُ غَيْرِهِ. ثَانِيهَا: أَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَتَنَجَّزْ، وَإِنَّمَا جَاءَ بَشِيرٌ يَسْتَشِيرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ فَتَرَكَ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَأَكْثَرُ طُرُقِ الْحَدِيثِ يُنَابِذُهُ. ثَالِثُهَا: أَنَّ النُّعْمَانَ كَانَ كَبِيرًا وَلَمْ يَقْبِضِ الْمَوْهُوبَ، فَجَازَ لِأَبِيهِ الرُّجُوعُ، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ خُصُوصًا قَوْلَهُ " ارْتَجِعْهُ " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ وُقُوعِ الْقَبْضِ، وَالَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا وَكَانَ أَبُوهُ قَابِضًا لَهُ لِصِغَرِهِ، فَأُمِرَ بِرَدِّ الْعَطِيَّةِ بَعْدَمَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ. رَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: " فَارْتَجِعْهُ " دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ; إِذْ لَوْ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ مَا صَحَّ الرُّجُوعُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِهِ لَأَنَّ الْوَالِدَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافَ ذَلِكَ، لَكِنَّ اسْتِحْبَابَ التَّسْوِيَةِ رَجَحَ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى " ارْتَجِعْهُ "، أَيْ لَا تُمْضِ الْهِبَةَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقَدُّمُ صِحَّتِهَا. خَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ " «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» " إِذْنٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَشْهَدُ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُ الْحُكْمُ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَارْتَضَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الشَّهَادَةُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَحَمُّلِهَا وَلَا مِنْ أَدَائِهَا إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحْتَجُّ بِهَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا شَهِدَ عِنْدَ بَعْضِ نُوَّابِهِ جَازَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ " أَشْهِدْ " صِيغَةَ إِذْنٍ فَلَيْسَ

ص: 83

كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لِلتَّوْبِيخِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجُمْهُورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: قَوْلُهُ " أَشْهِدْ " صِيغَةُ أَمْرٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْجَوَازِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ لِعَائِشَةَ:" «اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» ". سَادِسُهَا: دَلَّ قَوْلُهُ " «أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ» " عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ وَالنَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ، وَهَذَا جَيِّدٌ لَوْلَا وُرُودُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَلَا سِيَّمَا وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ وَرَدَتْ بِعَيْنِهَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَيْثُ قَالَ: سَوِّ بَيْنَهُمْ. سَابِعُهَا: فِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحْفُوظَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ: قَارِبُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، لَا: سَوُّوا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَا يُوجِبُونَ الْمُقَارَبَةَ كَمَا لَا يُوجِبُونَ التَّسْوِيَةَ. ثَامِنُهَا: التَّشْبِيهُ الْوَاقِعُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ مِنْهُمْ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْجَوْرِ عَلَى عَدَمِ التَّسْوِيَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ، يَدُلُّ لِلْوُجُوبِ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا التَّشْبِيهُ: فَلَا إِذًا، لَكِنَّ فِي التَّمْهِيدِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلَى حَقٍّ، الْحَقَّ الَّذِي لَا تَقْصِيرَ فِيهِ عَنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ حَقًّا. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْجَوْرُ الْمَيْلُ عَنِ الِاعْتِدَالِ فَالْمَكْرُوهُ أَيْضًا جَوْرٌ اهـ. تَاسِعُهَا: عَمَلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَدَمِ التَّسْوِيَةِ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، فَأَبُو بَكْرٍ نَحَلَ عَائِشَةَ دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ كَمَا يَأْتِي، وَعُمَرُ نَحَلَ ابْنَهُ عَاصِمًا دُونَ سَائِرِ أَوْلَادِهِ. ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَجَابَ عُرْوَةُ عَنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ بِأَنَّ إِخْوَتَهَا كَانُوا رَاضِينَ بِذَلِكَ، وَيُجَابُ بِمِثْلِهِ عَنْ قِصَّةِ عُمَرَ. عَاشِرُهَا: انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ عَطِيَّةِ الرَّجُلِ مَالَهُ لِغَيْرِ وَلَدِهِ، فَمَنْ جَازَ أَنْ يُخْرِجَ جَمِيعَ وَلَدِهِ عَنْ مَالِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضَهُمْ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَيْ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى " «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» " أَيْ لَا أَشْهَدُ عَلَى مَيْلِ الْأَبِ لِبَعْضِ أَوْلَادِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ:«لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ» ، وَفِيهِ أَنَّ لِلْأَبِ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَكَذَا لِلْأُمِّ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا تَرْجِعُ الْأُمُّ إِذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا، وَمَحَلُّ رُجُوعِ الْأَبِ مَا لَمْ يُدَايَنِ الِابْنُ أَوْ يَنْكِحْ لِلْهِبَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا، وَفِيهِ نَدْبُ التَّأَلُّفِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَتَرْكُ مَا يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الشَّحْنَاءَ وَيُورِثُ الْعُقُوقَ لِلْآبَاءِ، وَأَنَّ عَطِيَّةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي حِجْرِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهَا مُغْنٍ عَنِ الْقَبْضِ، وَكَرَاهَةُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمُبَاحٍ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الْهِبَةِ مَشْرُوعٌ لَا وَاجِبٌ، وَجَوَازُ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ لِيَحْكُمَ بِعِلْمِهِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ أَوْ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ بَعْضِ نُوَّابِهِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ اسْتِفْصَالِ الْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي عَمَّا يَحْتَمِلُ الِاسْتِفْصَالَ; لِقَوْلِهِ:" «أَلَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لَا أَشْهَدُ» ". فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ نَعَمْ، لَشَهِدَ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ التَّكَلُّمَ فِي

ص: 84

مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَمْرُ الْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي بِتَقْوَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سُوءِ عَاقِبَةِ الْحِرْصِ وَالتَّنَطُّعِ; لِأَنَّ عَمْرَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِمَا وَهَبَهُ زَوْجُهَا لِوَلَدِهِ لَمَّا رَجَعَ فِيهِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ حِرْصُهَا فِي تَثْبِيتِ ذَلِكَ أَفْضَى إِلَى بُطْلَانِهِ، وَتَعَقَّبَهُ فِي الْمَصَابِيحِ بِأَنَّ إِبْطَالَهَا ارْتَفَعَ بِهِ جَوْرٌ وَقَعَ فِي الْقِصَّةِ، فَلَيْسَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي شَيْءٍ، وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْهِبَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْوَصَايَا عَنْ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 85

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا أَبَتِ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنْ الْأُخْرَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارِيَةً

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1474 -

1432 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ) خَالَتِهِ (عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ (كَانَ نَحَلَهَا) بِفَتْحَتَيْنِ (جَادَّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ (عِشْرِينَ وَسْقًا) مِنْ نَخْلَةٍ إِذَا جُدَّ، أَيْ قُطِعَ، قَالَهُ عِيسَى فَهُوَ صِفَةٌ لِلثَّمَرَةِ، وَقَالَ ثَابِتٌ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ يُجَدُّ مِنْهَا، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هَذِهِ أَرْضٌ جَادٌّ مِائَةُ وَسْقٍ، أَيْ يُجَدُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَهُوَ صِفَةٌ لِلنَّخْلِ الَّتِي وَهَبَهَا ثَمَرَتَهَا، يُرِيدُ نَخْلًا يُجَدُّ مِنْهَا عِشْرُونَ (مِنْ مَالِهِ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَأَوَّلَ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ (بِالْغَابَةِ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَصَحَّفَ مَنْ قَالَهَا بِتَحْتِيَّةٍ، مَوْضِعُ عَلَى بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي طَرِيقِ الشَّامِ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، كَانَ بِهَا أَمْلَاكٌ لِأَهْلِهَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْخَرَابُ، وَغَلِطَ الْقَائِلُ أَنَّهَا شَجَرٌ لَا مَالِكَ لَهُ بَلْ لِاحْتِطَابِ النَّاسِ وَمَنَافِعِهِمْ. (فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ)، أَيْ أَسْبَابُهَا (قَالَ: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ) بِتَصْغِيرِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ (مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ (وَلَا أَعَزُّ) أَشَقُّ وَأَصْعَبُ (عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ) وَفِيهِ: أَنَّ الْغِنَى أَحَبُّ إِلَى الْفُضَلَاءِ مِنَ الْفَقْرِ (وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ الْأُولَى وَإِسْكَانِ الثَّانِيَةِ، قَطَعْتِيهِ (وَاحْتَزْتِيهِ) بِإِسْكَانِ الْحَاءِ وَالزَّايِ بَيْنَهُمَا فَوْقِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ، أَيْ حُزْتِيهِ (كَانَ لَكِ) لِأَنَّ الْحِيَازَةَ وَالْقَبْضَ شَرْطٌ فِي تَمَامِ الْهِبَةِ، فَإِنْ وَهَبَ الثَّمَرَةَ عَلَى الْكَيْلِ فَلَا تَكُونُ الْحِيَازَةُ إِلَّا بِالْكَيْلِ بَعْدَ الْجَدِّ، وَلِذَا قَالَ: جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ:

ص: 85

اتَّفَقَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعُ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَقْبُوضَةً، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ بِلَا قَبْضٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهٍ لَا يَصِحُّ. (وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ) عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٌ (وَأُخْتَاكِ) يُرِيدُ مَنْ يَرِثُهُ بِالْبُنُوَّةِ لِأَنَّهُ وَرِثَهُ مَعَهُمْ زَوْجَتَاهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَحَبِيبَةُ بِنْتُ خَارِجَةَ وَأَبُوهُ أَبُو قُحَافَةَ، وَإِنْ رُوِيَ أَنَّهُ رُدَّ سُدُسُهُ عَلَى وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ (فَاقْتَسَمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا) كِنَايَةً عَنْ شَيْءٍ كَثِيرٍ أَزْيَدَ مِمَّا وَهَبَهُ لَهَا (لَتَرَكْتُهُ) اتِّبَاعًا لِلشَّرْعِ وَطَلَبًا لِرِضَاكَ (إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنِ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذُو) أَيْ صَاحِبَةُ (بَطْنِ) بِمَعْنَى الْكَائِنَةِ فِي بَطْنِ حَبِيبَةَ (بِنْتِ خَارِجَةَ) بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجِيِّ، صَحَابِيَّةٌ بِنْتُ صَحَابِيٍّ شَهِدَ بَدْرًا وَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ (أُرَاهَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَظُنُّهَا (جَارِيَةً) أُنْثَى فَلِذَا قُلْتُ: أُخْتَاكِ، فَكَانَ كَمَا ظَنَّ رضي الله عنه سُمِّيَتْ أُمَّ كُلْثُومٍ، قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ: قَالَ بَعْضُ فُقَهَائِنَا وَذَلِكَ لِرُؤْيَا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ.

ص: 86

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْحَلُونَ أَبْنَاءَهُمْ نُحْلًا ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا فَإِنْ مَاتَ ابْنُ أَحَدِهِمْ قَالَ مَا لِي بِيَدِي لَمْ أُعْطِهِ أَحَدًا وَإِنْ مَاتَ هُوَ قَالَ هُوَ لِابْنِي قَدْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ مَنْ نَحَلَ نِحْلَةً فَلَمْ يَحُزْهَا الَّذِي نُحِلَهَا حَتَّى يَكُونَ إِنْ مَاتَ لِوَرَثَتِهِ فَهِيَ بَاطِلٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1475 -

1433 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) بِدُونِ إِضَافَةٍ (الْقَارِيِّ) بِشَدِّ الْيَاءِ، نِسْبَةً إِلَى الْقَارَةِ بَطْنٍ مِنْ خُزَيْمَةَ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْحَلُونَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ، يُعْطُونَ (أَبْنَاءَهُمْ نُحْلًا) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، عَطِيَّةً بِلَا عِوَضٍ (ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا، فَإِنْ مَاتَ ابْنُ أَحَدِهِمْ قَالَ: مَالِي بِيَدِي لَمْ أُعْطِهِ أَحَدًا، وَإِنْ مَاتَ هُوَ) أَيِ الْأَبُ (قَالَ) قُرْبَ مَوْتِهِ (هُوَ لِابْنِي قَدْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ) لِيَحْرِمَ بَاقِيَ وَرَثَتِهِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَوْزِ فِي حَيَاتِهِ (مَنْ نَحَلَ نِحْلَةً فَلَمْ يَحُزْهَا الَّذِي نُحِلَهَا حَتَّى يَكُونَ) بِالتَّاءِ أَيِ النِّحْلَةُ، وَبِالْيَاءِ الَّذِي نُحِلَ (إِنْ مَاتَ لِوَرَثَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْحِيَازَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْمِلْكِ لِلْهِبَةِ.

ص: 86

[باب مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْعَطِيَّةِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أَعْطَى أَحَدًا عَطِيَّةً لَا يُرِيدُ ثَوَابَهَا فَأَشْهَدَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلَّذِي أُعْطِيَهَا إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُعْطِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الَّذِي أُعْطِيَهَا قَالَ وَإِنْ أَرَادَ الْمُعْطِي إِمْسَاكَهَا بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ إِذَا قَامَ عَلَيْهِ بِهَا صَاحِبُهَا أَخَذَهَا قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً ثُمَّ نَكَلَ الَّذِي أَعْطَاهَا فَجَاءَ الَّذِي أُعْطِيَهَا بِشَاهِدٍ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ عَرْضًا كَانَ أَوْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا أَوْ حَيَوَانًا أُحْلِفَ الَّذِي أُعْطِيَ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ فَإِنْ أَبَى الَّذِي أُعْطِيَ أَنْ يَحْلِفَ حُلِّفَ الْمُعْطِي وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ أَيْضًا أَدَّى إِلَى الْمُعْطَى مَا ادَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالَ مَالِكٌ مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً لَا يُرِيدُ ثَوَابَهَا ثُمَّ مَاتَ الْمُعْطَى فَوَرَثَتُهُ بِمَنْزِلَتِهِ وَإِنْ مَاتَ الْمُعْطِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُعْطَى عَطِيَّتَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ أُعْطِيَ عَطَاءً لَمْ يَقْبِضْهُ فَإِنْ أَرَادَ الْمُعْطِي أَنْ يُمْسِكَهَا وَقَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا حِينَ أَعْطَاهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ إِذَا قَامَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

34 -

بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَطِيَّةِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أَعْطَى أَحَدًا عَطِيَّةً لَا يُرِيدُ ثَوَابَهَا) مِمَّنْ أَعْطَاهَا لَهُ بَلْ أَرَادَ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى (فَأَشْهَدَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلَّذِي أُعْطِيَهَا) لِلُزُومِهَا بِالْقَوْلِ، لَكِنْ إِنَّمَا تَتِمُّ بِالْحِيَازَةِ كَمَا قَالَ (إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُعْطِي) بِكَسْرِ الطَّاءِ (قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الَّذِي أُعْطِيَهَا) فَتَبْطُلُ كَالْهِبَةِ (قَالَ: وَإِنْ أَرَادَ الْمُعْطِي إِمْسَاكَهَا بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ إِذَا قَامَ عَلَيْهِ بِهَا صَاحِبُهَا أَخَذَهَا) جَبْرًا عَلَيْهِ (وَمَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً ثُمَّ نَكَلَ الَّذِي أَعْطَى) قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنْكَرَ ذَلِكَ (فَجَاءَ الَّذِي أُعْطِيَهَا بِشَاهِدٍ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ عَرَضًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا أَوْ حَيَوَانًا، أُحْلِفَ الَّذِي أُعْطِيَ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ، فَإِنْ أَبَى الَّذِي أُعْطِيَ أَنْ يَحْلِفَ حُلِّفَ الْمُعْطِي) بِالْكَسْرِ، وَبُرِّئَ (وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ أَيْضًا أَدَّى إِلَى الْمُعْطَى) بِفَتْحِ الطَّاءِ (مَا ادَّعَى عَلَيْهِ) لِأَنَّ نُكُولَهُ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ ثَانٍ (إِذَا كَانَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ) لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ دَعْوَى. (وَمَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً لَا يُرِيدُ ثَوَابَهَا) مِمَّنْ أَعْطَاهَا لَهُ (ثُمَّ مَاتَ الْمُعْطَى) بِفَتْحِ الطَّاءِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا (فَوَرَثَتُهُ بِمَنْزِلَتِهِ) فَلَهُمْ طَلَبُهَا مِنَ الْمُعْطِي; لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِمُورِثِهِمْ (وَإِنْ

ص: 87

مَاتَ الْمُعْطِي) بِالْكَسْرِ (قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُعْطَى) بِالْفَتْحِ (عَطِيَّتَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ أُعْطِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (عَطَاءً لَمْ يَقْبِضْهُ) قَبْلَ مَوْتِ مَنْ أَعْطَاهُ، فَبَطَلَتْ لِعَدَمِ الْحَوْزِ (فَإِنْ أَرَادَ الْمُعْطِي أَنْ يُمْسِكَهَا وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا حِينَ أَعْطَاهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ إِذَا قَامَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا) جَبْرًا عَلَيْهِ وَسَمَّاهُ صَاحِبُهَا لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْحَوْزُ.

ص: 88

[باب الْقَضَاءِ فِي الْهِبَةِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ الْمُرِّيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إِذَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْهِبَةَ إِذَا تَغَيَّرَتْ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لِلثَّوَابِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَإِنَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَهَا قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

35 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْهِبَةِ

1477 -

1434 - (مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٍ (عَنْ أَبِي غَطَفَانَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ، يُقَالُ: اسْمُهُ سَعْدُ (ابْنُ طَرِيفٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ (الْمُرِّيِّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَشَدِّ الرَّاءِ بِلَا نُقَطٍ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا) ، أَيْ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُعْمَلُ بِرُجُوعِهِ (وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ) أَيِ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا مِمَّنْ وَهَبَهَا لَهُ (فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إِذَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا) مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَمَحِلُّ رُجُوعِهِ مَا لَمْ تَفُتْ كَمَا قَالَ. (مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْهِبَةَ إِذَا تَغَيَّرَتْ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لِلثَّوَابِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَهَا قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا) لِفَوَاتِهَا.

ص: 88

[باب الْاعْتِصَارِ فِي الصَّدَقَةِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ بِصَدَقَةٍ قَبَضَهَا الِابْنُ أَوْ كَانَ فِي حَجْرِ أَبِيهِ فَأَشْهَدَ لَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِيمَنْ نَحَلَ وَلَدَهُ نُحْلًا أَوْ أَعْطَاهُ عَطَاءً لَيْسَ بِصَدَقَةٍ إِنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْتَحْدِثْ الْوَلَدُ دَيْنًا يُدَايِنُهُ النَّاسُ بِهِ وَيَأْمَنُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ فَلَيْسَ لِأَبِيهِ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدُّيُونُ أَوْ يُعْطِي الرَّجُلُ ابْنَهُ أَوْ ابْنَتَهُ فَتَنْكِحُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ وَإِنَّمَا تَنْكِحُهُ لِغِنَاهُ وَلِلْمَالِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ فَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَصِرَ ذَلِكَ الْأَبُ أَوْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ قَدْ نَحَلَهَا أَبُوهَا النُّحْلَ إِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا وَيَرْفَعُ فِي صِدَاقِهَا لِغِنَاهَا وَمَالِهَا وَمَا أَعْطَاهَا أَبُوهَا ثُمَّ يَقُولُ الْأَبُ أَنَا أَعْتَصِرُ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنْ ابْنِهِ وَلَا مِنْ ابْنَتِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ لَكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

36 -

بَابُ الِاعْتِصَارِ فِي الصَّدَقَةِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ بِصَدَقَةٍ قَبَضَهَا الِابْنُ) الْكَبِيرُ الرَّشِيدُ (أَوْ كَانَ فِي حِجْرِ أَبِيهِ) لِصِغَرٍ أَوْ غَيْرِهِ (فَأَشْهَدَ) الْأَبُ (لَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ) أَنْ يَرْتَجِعَ (شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَةِ) وَلَوْ عَلَى وَلَدِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْعَائِدُ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ". وَقَوْلِهِ: " «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ» ". رَوَاهُمَا الْإِمَامُ فِي الزَّكَاةِ. (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ نَحَلَ وَلَدَهُ نُحْلًا) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (أَوْ أَعْطَاهُ عَطَاءً لَيْسَ بِصَدَقَةٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ ذَلِكَ) أَيْ يَرْجِعُ فِي هِبَتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: " «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إِلَّا الْوَالِدَ» ". (مَا لَمْ يَسْتَحْدِثْ) أَيْ يُحْدِثِ (الْوَلَدُ دَيْنًا يُدَايِنُهُ النَّاسُ بِهِ وَيَأْمَنُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ، وَلَيْسَ لِأَبِيهِ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدُّيُونُ) لِأَنَّهُ وَرَّطَهُ بِالْهِبَةِ حَتَّى أَدَانَ (أَوْ يُعْطِي الرَّجُلُ ابْنَهُ) الذَّكَرَ (أَوِ ابْنَتَهُ) الْأُنْثَى (فَتَنْكِحُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ، وَإِنَّمَا تَنْكِحُهُ لِغِنَاهُ وَلِلْمَالِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ) عَطْفُ عِلَّةٍ عَلَى مَعْلُولٍ، أَيْ لِغِنَاهُ (بِالْمَالِ، فَيُرِيدُ الْأَبُ أَنْ يَعْتَصِرَ ذَلِكَ، أَوْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ قَدْ نَحَلَهَا أَبُوهَا النُّحْلَ إِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا وَيَرْفَعُ) يَزِيدُ (فِي صَدَاقِهَا لِغِنَاهَا وَمَالِهَا وَمَا أَعْطَاهَا أَبُوهَا،

ص: 89

ثُمَّ يَقُولُ الْأَبُ: أَنَا أَعْتَصِرُ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنِ ابْنِهِ وَلَا مِنِ ابْنَتِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ لَكَ) مِنْ أَنَّهُ هِبَةٌ لَيْسَ بِصَدَقَةٍ، فَلَهُ الِاعْتِصَارُ مَا لَمْ يُدَايَنْ أَوْ يَنْكِحْ لِأَجْلِهَا، أَمَّا الصَّدَقَةُ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُدَايَنْ وَلَا نَكَحَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 90

[باب الْقَضَاءِ فِي الْعُمْرَى]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَبَدًا» لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

37 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْعُمْرَى

بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مَعَ الْقَصْرِ، وَحُكِيَ ضَمُّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، يُقَالُ: أَعْمَرْتُهُ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ إِبِلًا إِذَا أَعْطَيْتَهُ إِيَّاهَا، وَقُلْتُ لَهُ: هِيَ لَكَ عُمْرَى أَوْ عُمْرَكَ فَإِذَا مِتَّ رَجَعَتْ إِلَيَّ. قَالَ لَبِيدٌ:

وَمَا الْمَالُ إِلَّا مُعْمَرَاتٌ وَدَائِعُ

وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ.

وَاصْطِلَاحًا، قَالَ الْبَاجِيُّ: هِيَ هِبَةُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ عُمْرَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ مُدَّةَ عُمْرِهِ وَعُمْرِ عَقِبِهِ لَا هِبَةَ الرَّقَبَةِ. ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَسَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ذِكْرُ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْعُمْرَى، أَيْ كَقَوْلِهِ أَعْمَرْتُكَ دَارِي أَوِ الِاعْتِمَارِ أَوِ السُّكْنَى أَوِ الِاغْتِلَالِ أَوِ الْإِرْفَاقِ أَوِ الْإِنْحَالِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَطَايَا.

1479 -

1435 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) إِسْمَاعِيلَ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ أَوِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) الْأَنْصَارِيِّ الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا) مُرَكَّبَةٌ مِنْ " أَيِّ " اسْمٌ يَنُوبُ مَنَابَ حَرْفِ الشَّرْطِ، وَمِنْ " مَا " الزَّائِدَةِ لِلتَّعْمِيمِ (رَجُلٍ) بِجَرِّهِ بِإِضَافَةِ " أَيِّ " إِلَيْهِ وَرَفْعِهِ بَدَلٌ مِنْ " أَيِّ وَمَا زَائِدَةٌ " وَذِكْرُهُ غَالِبِيٌّ، وَالْمُرَادُ إِنْسَانٌ (أُعْمِرَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (عُمْرَى) كَأَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ مَثَلًا (لَهُ وَلِعَقِبِهِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا مَعَ فَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا، أَوْلَادُ الْإِنْسَانِ مَا تَنَاسَلُوا

ص: 90

(فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا) وَفِي رِوَايَةٍ: أُعْطِيَهَا (لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَبَدًا) هَذَا آخَرُ الْمَرْفُوعِ، وَقَوْلُهُ:(لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ) مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَلَمَةَ، بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «أَنَّهُ قَضَى فِيمَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَهِيَ لَهُ بَتْلَةٌ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْطِي فِيهَا شَرْطٌ وَلَا مَثْنَوِيَّةٌ» ". قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ فَقَطَعَتِ الْمَوَارِيثُ شَرْطَهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جَوَّدَهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فَبَيَّنَ فِيهِ مَوْضِعَ الرَّفْعِ وَجَعَلَ سَائِرَهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَلَمَةَ خِلَافَ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا:" «مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ فِيهَا، وَهِيَ لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَلِعَقِبِهِ» ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَذْكُرِ التَّعْلِيلَ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْهُ إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتِي بِهِ.

وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " «جَعَلَ الْأَنْصَارُ يُعَمِّرُونَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ» ". وَفِيهِ صِحَّةُ الْعُمْرَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ وَطَائِفَةٍ، لَكِنَّ ابْنَ حَزْمٍ قَالَ بِصِحَّتِهَا وَهُوَ شَيْخُ الظَّاهِرِيَّةِ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا تَتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ كَسَائِرِ الْهِبَاتِ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَفِي رُجُوعِهَا إِلَيْهِ مُعْقِبَةً أَمْ لَا قَوْلُ مَالِكٍ أَوَّلًا مُطْلَقًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: وَرُجُوعُهَا إِنْ لَمْ تُعْقَبْ لَا إِنْ عُقِبَتْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ، قِيلَ: وَهُوَ أَسْعَدُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا أَعْطَى الْمَنَافِعَ لِرَجُلٍ وَلِعَقِبِهِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ عَقِبِهِ بِمَوْتِهِ بَلْ حَتَّى يَنْقَرِضَ الْعَقِبُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا احْتَجُّوا بِهِ أَنَّ مِلْكَ الْمُعْطِي الْمُعَمِّرَ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعٍ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ الْعُمْرَى، فَلَمَّا أَحْدَثَهَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ أَزَالَ لَفْظُهُ ذَلِكَ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَةِ مَا أَعْمَرَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلْ مِلْكُهُ عَنْ رَقَبَةِ مَالِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ. فَالْوَاجِبُ بِحَقِّ النَّظَرِ أَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ. وَهُوَ الْإِجْمَاعُ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ لَا يَثْبُتُ بِهِ يَقِينٌ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَمْ يَنْوِ بِلَفْظِهِ ذَلِكَ إِخْرَاجَ شَيْئِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ فِيهِ شَرْطًا فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ لِحَدِيثِ:" «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» ". اهـ

وَحَاصِلُ مَا اجْتَمَعَ مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ مُسَابَقَةُ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا لَهُ وَلِعَقِبِهِ لَا تَرْجِعُ إِلَى الْمُعَمَّرِ حَتَّى

ص: 91

يَنْقَرِضَ الْعَقِبُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا تَرْجِعُ أَبَدًا. ثَانِيهَا: أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِذَا مِتَّ رَجَعَتْ إِلَيَّ، فَهَذِهِ عَارِيَةٌ مُؤَقَّتَةٌ وَهِيَ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ إِلَى الْمُعْطِي، وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ وَالَّتِي قَبْلَهَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا تَرْجِعُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُلْغًى وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقُولَ أَعْمَرْتُكَهَا وَيُطْلِقُ، فَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ حُكْمَهَا كَالْأُولَى ثُمَّ فِي رُجُوعِهَا لِلْمُعَمِّرِ الْخِلَافُ فَمَالِكٌ تَرْجِعُ وَغَيْرُهُ لَا تَرْجِعُ. وَأَمَّا الرُّقْبَى فَمَنَعَهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ وَأَجَازَهَا الْأَكْثَرُ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءٍ:" «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى، قُلْتُ: وَمَا الرُّقْبَى؟ قَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: هِيَ لَكَ حَيَاتَكَ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَهُوَ جَائِزٌ» ". وَلِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «لَا عُمْرَى وَلَا رُقْبَى، وَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ» ". رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنْ فِي سَمَاعِ حَبِيبٍ لَهُ مِنَ ابْنِ عُمَرَ خِلَافٌ، فَأَثْبَتَهُ النَّسَائِيُّ فِي طَرِيقٍ وَنَفَاهُ فِي أُخْرَى، وَجَمَعَ بَيْنَ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِأَنَّ النَّهْيَ إِرْشَادِيٌّ لِإِمْسَاكِ الْمَالِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ السَّابِقِ، فَالرُّقْبَى بِهَذَا التَّفْسِيرِ هِيَ بِمَعْنَى الْعُمْرَى، وَهَذِهِ لَمْ يَمْنَعْهَا مَالِكٌ بَلْ تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا مَنَعَ الرُّقْبَى بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ لِشَخْصَيْنِ دَارَانِ لِكُلٍّ دَارٌ فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ مِتَّ قَبْلِي فَهُمَا لِي وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهُمَا لَكَ، مِنَ الْمُرَاقَبَةِ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الْوَصَايَا تِلْوَ الْفَرَائِضِ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا بِنَحْوِهِ.

ص: 92

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا الدِّمَشْقِيَّ يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعُمْرَى وَمَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَفِيمَا أُعْطُوا

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعُمْرَى تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْمَرَهَا إِذَا لَمْ يَقُلْ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1480 -

1436 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصِّدِّيقِ، شَيْخِ الْإِمَامِ، رَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ (أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا) أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الثِّقَةَ الْفَقِيهَ الْمَشْهُورَ (الدِّمَشْقِيَّ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُقَالُ بِكَسْرِهِمَا، نِسْبَةً إِلَى دِمَشْقَ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفَةِ بِالشَّامِ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ بِضْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ (يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْعُمْرَى: وَمَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا؟ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ) مُجِيبًا لَهُ (مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ) وَالْقَاسِمُ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ (إِلَّا وَهُمْ عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَفِيمَا أُعْطُوا) فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ لَا الذَّاتِ خِلَافًا لِمَنْ فَهِمَهُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَبَدًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى يَنْقَرِضَ الْعَقِبُ.

ص: 92

(قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا) بِدَارِ الْهِجْرَةِ، مَعَ رِوَايَتِهِمْ لِلْحَدِيثِ فَهُمْ أَدْرَى، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِالتَّعْلِيلِ الظَّاهِرِ فِي مِلْكِ الذَّاتِ; لِأَنَّهُ مُدْرَجٌ لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 93

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَرِثَ مِنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ دَارَهَا قَالَ وَكَانَتْ حَفْصَةُ قَدْ أَسْكَنَتْ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ مَا عَاشَتْ فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ زَيْدٍ قَبَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْمَسْكَنَ وَرَأَى أَنَّهُ لَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1481 -

1437 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَرِثَ مِنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (دَارَهَا قَالَ: وَكَانَتْ حَفْصَةُ قَدْ أَسْكَنَتْ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ) دَارَهَا الْمَذْكُورَةَ (مَا عَاشَتْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ قَبَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْمَسْكَنَ وَرَأَى أَنَّهُ لَهُ) لِأَنَّ الْإِسْكَانَ بِمَعْنَى الْعُمْرَى، وَهِيَ تَرْجِعُ لِوَارِثِ الْمُعَمِّرِ أَوِ الْمُسَكِّنِ، لَكِنْ فِي التَّمْهِيدِ هَذَا مَعَ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ وَسَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ أَعْطَى ابْنَهُ نَاقَةً لَهُ حَيَاتَهُ فَأَنْتَجَهَا فَكَانَتْ لَهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْعُمْرَى خِلَافُ السُّكْنَى وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.

ص: 93

[باب الْقَضَاءِ فِي اللُّقَطَةِ]

1528 -

1482 حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

38 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي اللُّقَطَةِ

اللُّقَطَةُ: الشَّيْءُ الَّذِي يُلْتَقَطُ، وَهِيَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْعَامَّةُ تُسَكِّنُهَا اهـ. لَكِنْ جَزْمَ الْخَلِيلُ بِالسُّكُونِ، قَالَ: وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَهُوَ اللَّاقِطُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَا قَالَهُ هُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنَّ الَّذِي سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ الْفَتْحُ، وَفِيهَا لُغَةٌ ثَالِثَةٌ لُقَاطَةٌ بِضَمِّ اللَّامِ، وَرَابِعَةٌ لَقَطَةٌ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَوَجَّهَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَتْحَ الْقَافِ فِي الْمَأْخُوذِ بِأَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا اخْتَصَّتْ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَاهَا يَمِيلُ لِأَخْذِهَا فَسُمِّيَتْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِذَلِكَ.

1482 -

1438

ص: 93

- (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخَ، الْمَعْرُوفِ بِرَبِيعَةِ الرَّأْيِ، بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ (عَنْ يَزِيدَ) بِتَحْتِيَّةٍ فَزَايٍ، الْمَدَنِيِّ الصَّدُوقِ (مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ نَزَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حِصَارِ الطَّائِفِ، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُضْطَجِعَ فَسَمَّاهُ الْمُنْبَعِثَ، وَكَانَ مِنْ مَوَالِي آلِ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُعْتِبٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْحَافِظُ: زَعَمَ ابْنُ بَشْكُوالٍ وَعَزَاهُ لِأَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ أَبِي دَاوُدَ، وَيُبْعِدُهُ رِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، وَبِلَالٌ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ، وَقِيلَ هُوَ الرَّاوِي; لِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ بُعْدٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَلَى الشَّكِّ، وَأَيْضًا فَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: أَتَى رَجُلٌ وَأَنَا مَعَهُ، فَدَلَّ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُ نَسَبَ السُّؤَالَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ السَّائِلِ ثُمَّ ظَهَرَتْ لِي تَسْمِيَةُ السَّائِلِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ السَّكَنِ وَالْبَاوَرْدِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سُوَيْدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، الْحَدِيثَ، وَهُوَ أَوْلَى مَا فُسِّرَ بِهِ هَذَا الْمُبْهَمُ لِكَوْنِهِ مِنْ رَهْطِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ:«قُلْتُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ الْوَرِقُ تُوجَدُ عِنْدَ الْقَرْيَةِ، قَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا» ". الْحَدِيثَ، وَفِيهِ سُؤَالُهُ عَنِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَجَوَابُهُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.

وَرَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتَ مَنْ يَعْرِفُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ» ". الْحَدِيثَ، وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ جِدًّا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْجَارُودِ الْعَبْدِيِّ قَالَ:" «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اللُّقَطَةُ نَجِدُهَا، قَالَ: أَنْشِدْهَا وَلَا تَكْتُمْ وَلَا تُغَيِّبْ» ". الْحَدِيثَ اهـ. يَعْنِي فَيَحْتَمِلُ تَفْسِيرُ الْمُبْهَمِ أَيْضًا بِأَبِي ثَعْلَبَةَ أَوْ عُمَيْرٍ وَالْجَارُودِ، لَكِنْ يُرَجِّحُ أَنَّهُ سُوِيدٌ كَوْنُهُ مِنْ رَهْطِ زَيْدٍ الرَّاوِي كَمَا قَالَ، وَإِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ سُوِيدٍ مِنْ رَهْطِ زِيدٍ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُمَا وَاحِدًا بِحَسَبِ الصُّورَةِ، وَإِنْ كَانَا فِي الْمَعْنَى مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ هَذَا جُمُودٌ، فَالْحَافِظُ لَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّهُ هُوَ بِدَلِيلِ ذِكْرِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا رَجَّحَهُ بِقَوْلِهِ أَوْلَى لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ عِنْدَهُمْ (فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ:

ص: 94

فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَزِيدَ: الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَهُوَ كَالْمِثَالِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْجَوْهَرِ وَاللُّؤْلُؤِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَمْتَعُ بِهِ غَيْرَ الْحَيَوَانِ فِي تَسْمِيَتِهِ لُقَطَةً، وَإِعْطَائِهِ حُكْمَهَا وَهُوَ:(فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَفَاءٍ خَفِيفَةٍ فَأَلِفٍ فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ وِعَائِهَا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهَا، مِنَ الْعَفْصِ وَهُوَ الْمُثَنَّى، أَيْ لِأَنَّ الْوِعَاءَ يُثَنَّى عَلَى مَا فِيهِ (وَوِكَاءَهَا) بِكَسْرِ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ وَبِالْهَمْزَةِ مَمْدُودُ الْخَيْطِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الصُّرَّةُ وَالْكِيسُ وَنَحْوُهُمَا، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَيْدٍ: وَعَدَدُهَا، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: لِيُعْرَفَ صِدْقُ مُدَّعِيهَا عِنْدَ طَلَبِهَا، وَفِي وُجُوبِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَنَدْبِهَا قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا الْأَمْرُ، وَقِيلَ: يَجِبُ عِنْدَ الِالْتِقَاطِ وَيُسْتَحَبُّ بَعْدَهُ، فَعَلَى الْوُجُوبِ إِذَا عَرَّفَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ جَمِيعِهَا، وَكَذَا قَالَ أَصْبَغُ لَكِنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَدَدِ، قِيلَ: وَقَوْلُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَقْوَى لِثُبُوتِ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَزِيَادَةُ الْحَافِظِ حُجَّةٌ. (ثُمَّ عَرِّفْهَا) بِكَسْرِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ، أَيِ اذْكُرْهَا لِلنَّاسِ (سَنَةً) بِمَظَانِّ طَلَبِهَا كَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهِمَا، يَقُولُ: مَنْ ضَاعَتْ لَهُ نَفَقَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، وَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا مِنَ الصِّفَاتِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُعَرِّفُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَرَّةً ثُمَّ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ ثُمَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُعَرِّفَهَا بِنَفْسِهِ بَلْ يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ. قَالَ الْحَافِظُ: هَكَذَا رَوَى مَالِكٌ، وَالْأَكْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّ التَّعْرِيفَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعَلَامَاتِ. وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ رَبِيعَةَ: عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا. فَجَعَلَ التَّعْرِيفَ يَسْبِقُ الْمَعْرِفَةَ، وَوَافَقَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَجَمَعَ النَّوَوِيُّ بِأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالْمَعْرِفَةِ فِي حَالَتَيْنِ فَيُعَرِّفُ الْعَلَامَاتِ أَوَّلَ مَا يَلْتَقِطُ حَتَّى يَعْلَمَ صِدْقَ وَاصِفِهَا إِذَا وَصَفَهَا، ثُمَّ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا سَنَةً إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَيُعَرِّفُهَا مَرَّةً أُخْرَى تَعَرُّفًا وَافِيًا مُحَقَّقًا لِيُعْلَمَ قَدْرُهَا وَصِفَتُهَا فَيَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ " ثُمَّ " فِي الرِّوَايَتَيْنِ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَلَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا وَلَا تَقْتَضِي تَخَالُفًا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْمَخْرَجَ وَاحِدٌ وَالْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ مَا تَقَدَّمَ لَوِ اخْتَلَفَ الْمَخْرَجُ فَيُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ إِلَّا أَنْ يَقَعَ التَّعَرُّفُ وَالتَّعْرِيفُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَيِّهِمَا أَسْبَقُ، ثُمَّ أَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي حَدِيثِ زَيْدٍ أَنَّ التَّعْرِيفَ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ. وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" «وَجَدْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اعْرِفْ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا» ". وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ حَدِيثِ أُبَيٍّ عَلَى مَزِيدِ التَّوَرُّعِ عَنِ التَّعَرُّفِ فِي اللُّقَطَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي

ص: 95

التَّعَفُّفِ عَنْهَا. وَحَدِيثُ زَيْدٍ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ لِاحْتِيَاجِ الْأَعْرَابِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ أُبَيٍّ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّ تَعْرِيفَهَا لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فَأَمَرَ ثَانِيًا بِإِعَادَةِ التَّعْرِيفِ كَمَا قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا عَلَى مِثْلِ أُبَيٍّ مَعَ أَنَّهُ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ. وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَةً عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ مُفَوَّضٌ لِلْمُلْتَقِطِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ.

(فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا) فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، فَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعَةَ بِلَفْظِ:" «فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ» ". وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ رَبِيعَةَ: " «فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا» ". فَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ أَنَّهَا تُدْفَعُ لِمَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لِمَنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ أَعْرِفْ عِفَاصَهَا. . . إِلَخْ، وَقَدْ صَحَّتْ هَذِهِ اللُّقَطَةُ، أَيِ الْأَمْرُ بِدَفْعِهَا لِمَنْ عَرَّفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْدٍ، وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ، عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طُرُقٍ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا، وَيُخَصُّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ ( «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» ) ، وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ - إِنَّهَا غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ حَاوَلَ تَضْعِيفَهَا - غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَتْ بِشَاذَّةٍ، وَمَا اعْتَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ وَصَفَهَا فَأَصَابَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَجَاءَ آخَرُ فَوَصَفَهَا فَأَصَابَ، لَا يَقْتَضِي الطَّعْنَ فِي الثَّانِي; لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، فَجَاءَ آخَرُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً أُخْرَى أَنَّهَا لَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفَاصِيلُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

(وَإِلَّا) يَجِيءُ صَاحِبُهَا (فَشَأْنَكَ) أَيِ الْزَمْ شَأْنَكَ، أَيْ حَالَكَ (بِهَا) أَيْ تَصَرَّفْ فِيهَا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ بِهَا، أَيْ شَأْنُكَ مُتَعَلِّقٌ بِهَا، وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ عَنْ رَبِيعَةَ: " «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ لَهَا طَالِبٌ فَاسْتَنْفِقْهَا» ". وَفِيهِ أَنَّ اللَّاقِطَ يَمْلِكُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: شَأْنَكَ بِهَا، تَفْوِيضٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فَاسْتَنْفِقْهَا لِلْإِبَاحَةِ، وَفِي اشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بِالتَّمَلُّكِ وَكِفَايَةِ النِّيَّةِ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ دَلِيلًا، وَدُخُولُهَا فِي مِلْكِهِ بِمُجَرَّدِ الِالْتِقَاطِ أَقْوَالٌ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بِلَفْظِ:" «وَإِلَّا فَتَصْنَعُ بِهَا مَا تَصْنَعُ بِمَالِكٍ» ". وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهَا بَعْدَ تَعْرِيفِهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا ضَمِنَهَا لَهُ فَيَرُدُّهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَبَدَلَهَا إِنِ اسْتُهْلِكَتْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

فَفِي مُسْلِمٍ: " «وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ» ". وَلَهُ أَيْضًا: " «فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ كُلْهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ» ". فَظَاهِرُهُ وُجُوبُ رَدِّهَا بَعْدَ أَكْلِهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى رَدِّ الْبَدَلِ، أَوْ فِيهِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ كُلْهَا إِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا فَإِنْ

ص: 96

جَاءَ. . . إِلَخْ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: " «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ كُلْهَا، فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ» ". فَأَمَرَ بِأَدَائِهَا قَبْلَ الْإِذْنِ فِي أَكْلِهَا وَبَعْدَهُ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدٍ: " «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَاعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اقْبِضْهَا فِي مَالِكَ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ» ".

(قَالَ) السَّائِلُ (فَضَالَّةُ الْغَنَمِ) أَيْ مَا حُكْمُهَا، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الضَّالَّةُ لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى الْحَيَوَانِ، وَمَا سِوَاهُ يُقَالُ لَهُ لُقَطَةٌ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هِيَ لَكَ) إِنْ أَخَذْتَهَا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى إِبَاحَةِ أَخْذِهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: هِيَ ضَعِيفَةٌ لِعَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ مُعَرَّضَةٌ لِلْهَلَاكِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ فَتَكُونَ لَكَ (أَوْ لِأَخِيكَ) فِي الدِّينِ إِنْ لَمْ تَأْخُذْهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ مِنْ مُلْتَقِطٍ آخَرَ، كَذَا قِيلَ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْبَلَاغَةَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْتَرِنَ صَاحِبُهَا بِالدَّيْنِ الْعَادِيِّ، فَالْمُرَادُ مُلْتَقِطٌ آخَرُ. (أَوْ لِلذِّئْبِ) وَالْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ مَا يَأْكُلُ الشَّاةَ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى أَخْذِهَا; لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْخُذْهَا تَعَيَّنَتْ لِلذِّئْبِ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى أَخْذِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ. . . إِلَخْ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ، فَيَدُلُّ عَلَى رَدِّ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِتَرْكِ الْتِقَاطِ الشَّاةِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَهَا فِي فَلَاةٍ مَلَكَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا وَلَا تَعْرِيفُهَا; لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمِلْكِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي غَيْرِهَا: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ; إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى التَّمَتُّعِ، وَلِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنِ الذِّئْبِ وَالْمُلْتَقِطِ، وَالذِّئْبُ لَا غَرَامَةَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْمُلْتَقِطُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: يَجِبُ تَعْرِيفُهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ أَكَلَهَا إِنْ شَاءَ وَغَرِمَ لِصَاحِبِهَا، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِلتَّمْلِيكِ لِأَنَّهُ قَالَ: أَوْ لِلذِّئْبِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ بِاتِّفَاقٍ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَالِكَهَا لَوْ جَاءَ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهَا الْوَاجِدُ لِأَخْذِهَا، وَيُرَدُّ بِأَنَّ اللَّامَ لِلْمِلْكِ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى الذِّئْبِ لِلْمُشَاكَلَةِ أَوِ التَّغْلِيبِ فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُهَا لِلتَّمْلِيكِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَيْسَ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا يَرُدُّ نَقْضًا، فَإِنِ الْتَقَطَهَا فِي الْفَلَاةِ وَدَخَلَ بِهَا الْعُمْرَانَ أَوِ الْتَقَطَهَا فِي الْعُمْرَانِ وَجَبَ التَّعْرِيفُ وَصَارَتْ لُقَطَةً، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي ضَالَّةِ الشَّاةِ:" «فَاجْمَعْهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ» ". وَأَجَابُوا عَنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْغَرَامَةَ وَلَا نَفَاهَا فَثَبَتَ حُكْمُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، فَتَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى مِنْ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ فِيهَا ذِكْرُ حُكْمِ الشَّاةِ إِذَا أَكَلَهَا الْمُلْتَقِطُ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ.

(قَالَ) السَّائِلُ (فَضَالَّةُ الْإِبِلِ) مَا حُكْمُهَا؟ (قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟)

ص: 97

اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، وَفِي رِوَايَةٍ:" «فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجَنَتَاهُ أَوْ وَجْهُهُ» ". وَفِي أُخْرَى: " «فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ". بِشَدِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ تَغَيَّرَ مِنَ الْغَضَبِ. وَفِي أُخْرَى:" «فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» ". (مَعَهَا سِقَاؤُهَا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، جَوْفُهَا، أَيْ حَيْثُ وَرَدَتِ الْمَاءَ شَرِبَتْ مَا يَكْفِيهَا حَتَّى تَرِدَ مَاءً آخَرَ، وَقِيلَ: عُنُقُهَا فَتَشْرَبُ مِنْ غَيْرِ سَاقٍ يَسْقِيهَا لِطُولِهِ. (وَحِذَاؤُهَا) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ، أَخْفَافُهَا فَتَقْوَى بِهَا عَلَى السَّيْرِ وَقَطْعِ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لِمَّا كَانَتْ مُسْتَغْنِيَةً عَنِ الْحَافِظِ وَالْمُتَعَهِّدِ وَعَنِ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا بِمَا رُكِّبَ فِي طَبْعِهَا مِنَ الْجَلَدِ عَلَى الْعَطَشِ وَالْجَفَاءِ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالسِّقَاءِ وَالْحِذَاءِ مَجَازًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهَا لِأَنَّ الْأَخْذَ إِنَّمَا هُوَ لِلْحِفْظِ عَلَى صَاحِبِهَا إِمَّا بِحِفْظِ الْعَيْنِ أَوْ بِحِفْظِ الْقِيمَةِ، وَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ لِأَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَمَا يُسِّرَ لَهَا مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا قَالَ. (تَرِدُ الْمَاءَ) فَتَشْرَبُ مِنْهُ بِلَا تَعَبٍ (وَتَأْكُلُ مِنَ الشَّجَرِ) بِسُهُولَةٍ لِطُولِهَا وَطُولِ عُنُقِهَا (حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) أَيْ مَالِكُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ:" فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا ". وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَا تُلْتَقَطُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَحِكْمَتُهُ أَنَّ بَقَاءَهَا حَيْثُ ضَلَّتْ أَقْرَبُ إِلَى وِجْدَانِ مَالِكِهَا لَهَا مِنْ تَطَلُّبِهِ لَهَا فِي رِحَالِ النَّاسِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْأَوْلَى أَنْ تُلْتَقَطَ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى مَنِ الْتَقَطَهَا لِلتَّمَلُّكِ لَا لِيَحْفَظَهَا فَيَجُوزُ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِيهِ جَوَازُ الِالْتِقَاطِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا عَنِ الْخَوَنَةِ وَتَعْرِيفِهَا لِتَصِلَ إِلَى صَاحِبِهَا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْأَرْجَحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَمَتَى رَجَحَ أَخْذُهَا وَجَبَ أَوِ اسْتُحِبَّ، وَمَتَى رَجَحَ تَرْكُهَا حَرُمَ أَوْ كُرِهَ وَإِلَّا فَهُوَ جَائِزٌ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي اللُّقَطَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْمُسَاقَاةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْقَضَاءِ عَنْ يَحْيَى، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ السُّفْيَانَانِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَهُمْ.

ص: 98

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَزَلَ مَنْزِلَ قَوْمٍ بِطَرِيقِ الشَّامِ فَوَجَدَ صُرَّةً فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَارًا فَذَكَرَهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ عَرِّفْهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَاذْكُرْهَا لِكُلِّ مَنْ يَأْتِي مِنْ الشَّأْمِ سَنَةً فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ فَشَأْنَكَ بِهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1483 -

1439 - (مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى) بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي الْمَكِّيِّ الْأُمَوِيِّ الثِّقَةِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، نِسْبَةً إِلَى جُهَيْنَةَ قَبِيلَةٍ مِنْ قُضَاعَةَ (أَنَّ أَبَاهُ) الصَّحَابِيَّ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى فَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ حَامِلَ

ص: 98

لِوَاءِ جُهَيْنَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَذَكَرَ ابْنُ شَاهِينَ أَنَّهُ شَهِدَ أُحُدًا وَخَطَّ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ مَسْجِدًا بِالْمَدِينَةِ. (أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَزَلَ مَنْزِلَ) أَيْ مَوْضِعَ نُزُولٍ (قَوْمٍ بِطَرِيقِ الشَّامِ) نَزَلُوا فِيهِ ثُمَّ ارْتَحَلُوا (فَوَجَدَ صُرَّةً) بِضَمِّ الصَّادِ وَشَدِّ الرَّاءِ، جَمْعُهَا صُرَرٌ (فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَارًا فَذَكَرَهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: عَرِّفْهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ) لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ طَلَبِهَا (وَاذْكُرْهَا لِكُلِّ مَنْ يَأْتِي مِنَ الشَّامِ) كَأَنْ يَقُولَ: مَنْ ضَاعَ لَهُ مِنْكُمْ نَفَقَةٌ (سَنَةً فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَشَأْنَكَ بِهَا) وَالرَّفْعُ كَمَا مَرَّ، أَيْ تَصَرَّفْ فِيهَا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ بَعْدَ الْمَرْفُوعِ الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْعَمَلِ بِأَنَّ التَّعْرِيفَ سُنَّةٌ لَا أَزْيَدَ وَأَنَّهُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ.

ص: 99

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ لُقَطَةً فَجَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ إِنِّي وَجَدْتُ لُقَطَةً فَمَاذَا تَرَى فِيهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَرِّفْهَا قَالَ قَدْ فَعَلْتُ قَالَ زِدْ قَالَ قَدْ فَعَلْتُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَا آمُرُكَ أَنْ تَأْكُلَهَا وَلَوْ شِئْتَ لَمْ تَأْخُذْهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1484 -

1440 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا) لَمْ يُسَمَّ (وَجَدَ لُقَطَةً فَجَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ لُقَطَةً فَمَاذَا تَرَى فِيهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: عَرِّفْهَا قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ) أَيْ عَرَّفْتُهَا (قَالَ: زِدْ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَا آمُرُكَ أَنْ تَأْكُلَهَا) أَيْ تَمْلِكُهَا بِلَا ضَمَانٍ (وَلَوْ شِئْتَ لَمْ تَأْخُذْهَا) وَكَانَ يَرَى كَرَاهَةَ الِالْتِقَاطِ مُطْلَقًا.

ص: 99

[باب الْقَضَاءِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْعَبْدِ اللُّقَطَةَ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يَجِدُ اللُّقَطَةَ فَيَسْتَهْلِكُهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الْأَجَلَ الَّذِي أُجِّلَ فِي اللُّقَطَةِ وَذَلِكَ سَنَةٌ أَنَّهَا فِي رَقَبَتِهِ إِمَّا أَنْ يُعْطِيَ سَيِّدُهُ ثَمَنَ مَا اسْتَهْلَكَ غُلَامُهُ وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ غُلَامَهُ وَإِنْ أَمْسَكَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الْأَجَلُ الَّذِي أُجِّلَ فِي اللُّقَطَةِ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ يُتْبَعُ بِهِ وَلَمْ تَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ فِيهَا شَيْءٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

39 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي اسْتِهْلَاكِ اللُّقَطَةِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يَجِدُ اللُّقَطَةَ فَيَسْتَهْلِكُهَا) أَيْ يُهْلِكُهَا بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا (قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الْأَجَلَ الَّذِي أُجِّلَ فِي اللُّقَطَةِ، وَذَلِكَ سَنَةٌ إِنَّهَا) جِنَايَةٌ (فِي رَقَبَتِهِ) فَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُ (إِمَّا أَنْ

ص: 99

يُعْطِيَ سَيِّدَهُ ثَمَنَ مَا اسْتَهْلَكَ غُلَامُهُ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ غُلَامَهُ وَإِنْ أَمْسَكَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الْأَجَلُ الَّذِي أُجِّلَ فِي اللُّقَطَةِ) فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ سَنَةٌ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ يُتْبَعُ بِهِ إِذَا عُتِقَ (وَلَمْ يَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ فِيهَا شَيْءٌ) وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُسْقِطَهَا عَنْهُ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يُسَلِّطْ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَلَوْلَا الشُّبْهَةُ لَكَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ لِسَيِّدِهِ فَيُعَرِّفُهَا حِينَ تَصَرُّفِهِ لَهُ.

ص: 100

[باب الْقَضَاءِ فِي الضَّوَالِّ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَجَدَ بَعِيرًا بِالْحَرَّةِ فَعَقَلَهُ ثُمَّ ذَكَرَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ إِنَّهُ قَدْ شَغَلَنِي عَنْ ضَيْعَتِي فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

40 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الضَّوَالِّ

جَمْعُ ضَالَّةٍ مِثْلُ دَابَّةٍ وَدَوَابَّ، وَالْأَصْلُ فِي الضَّلَالِ الْغَيْبَةُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَيَوَانِ الضَّائِعِ ضَالَّةٌ بِالْهَاءِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْجَمْعُ الضَّوَالُّ، وَيُقَالُ لِغَيْرِ الْحَيَوَانِ ضَائِعٌ وَلُقَطَةٌ، وَضَلَّ الْبَعِيرُ غَابَ وَخَفِيَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَأَضْلَلْتُهُ بِالْأَلِفِ فَقَدْتُهُ، قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ.

1486 -

1441 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالسِّينِ الْخَفِيفَةِ، الْفَقِيهِ (أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ) بْنِ خَلِيفَةَ (الْأَنْصَارِيَّ) الْأَشْهَلِيَّ الصَّحَابِيَّ الشَّهِيرَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ عَلَى الصَّوَابِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ (أَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَجَدَ بَعِيرًا بِالْحَرَّةِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الثَّقِيلَةِ، أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ (فَعَقَلَهُ) شَدَّهُ بِالْعِقَالِ، وَهُوَ الْحَبْلُ (ثُمَّ ذَكَرَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: إِنَّهُ قَدْ شَغَلَنِي) مَنَعَنِي (عَنْ ضَيْعَتِي) بِفَتْحِ الضَّادِ، عَقَارِي (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ) أَيْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدْتَهُ فِيهِ.

ص: 100

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1487 -

1442

ص: 100

- (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بِكَسْرِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ: مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ) عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ، أَوْ آثِمٌ، أَوْ ضَامِنٌ إِنْ هَلَكَتْ عِنْدَهُ. عَبَّرَ بِهِ عَنِ الضَّمَانِ لِلْمُشَاكَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا الْتَقَطَهَا فَلَمْ يُعَرِّفْهَا فَقَدْ أَضَرَّ بِصَاحِبِهَا وَصَارَ سَبَبًا فِي تَضْلِيلِهِ عَنْهَا فَكَانَ مُخْطِئًا ضَالًّا عَنِ الْحَقِّ، وَأَصْلُ هَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا» ". فَقَيَّدَ الضَّلَالَ بِعَدَمِ التَّعْرِيفِ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ كَرِهَ اللُّقَطَةَ مُطْلَقًا فِي أَثَرِ عُمَرَ هَذَا، وَلَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرَقُ النَّارِ» ". أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْجَارُودِ الْعَبْدِيِّ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ حَمَلُوهُمَا عَلَى مَنْ لَمْ يُعَرِّفْهَا جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. وَحَرَقُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ وَقَدْ تُسَكَّنُ، أَيْ يُؤَدِّي أَخْذُهَا لِلتَّمْلِيكِ إِلَى النَّارِ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ بِحَذْفِ الْأَدَاةِ لِلْمُبَالَغَةِ.

ص: 101

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ كَانَتْ ضَوَالُّ الْإِبِلِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِبِلًا مُؤَبَّلَةً تَنَاتَجُ لَا يَمَسُّهَا أَحَدٌ حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا ثُمَّ تُبَاعُ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِيَ ثَمَنَهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1488 -

1443 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: كَانَتْ ضَوَالُّ الْإِبِلِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِبِلًا مُؤَبَّلَةً) كَمُعَظَّمَةٍ هِيَ فِي الْأَصْلِ الْمَجْعُولَةُ لِلْقِنْيَةِ كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ بِحَذْفِ الْأَدَاةِ، أَيْ كَالْمُؤَبَّلَةِ الْمُقْتَنَاةِ فِي عَدَمِ تَعَرُّضِ أَحَدٍ إِلَيْهَا وَاجْتِزَائِهَا بِالْكَلَأِ كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ:(تَنَاتَجُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ، أَيْ تَتَنَاتَجُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْمُقْتَنَاةِ (لَا يُمْسِكُهَا أَحَدٌ) لِلنَّهْيِ عَنِ الْتِقَاطِهَا (حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا) بَعْدَ الْتِقَاطِهَا خَوْفًا مِنَ الْخَوَنَةِ (ثُمَّ تُبَاعُ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِيَ ثَمَنَهَا) لِأَنَّ هَذَا أَضْبَطُ لَهُ.

ص: 101

[باب صَدَقَةِ الْحَيِّ عَنْ الْمَيِّتِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ «خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَحَضَرَتْ أُمَّهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ فَقِيلَ لَهَا أَوْصِي فَقَالَتْ فِيمَ أُوصِي إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ سَعْدٌ فَلَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ فَقَالَ سَعْدٌ حَائِطُ كَذَا وَكَذَا صَدَقَةٌ عَنْهَا لِحَائِطٍ سَمَّاهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

41 -

بَابُ صَدَقَةِ الْحَيِّ عَنِ الْمَيِّتِ

وَفِي نُسْخَةٍ " عَلَى " بَدَلُ " عَنْ "، وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ.

1489 -

1444 - (مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ بَعْدَهُمَا تَحْتِيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا قَالَ يَحْيَى وَابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ بُكَيْرٍ وَالْأَكْثَرُ: سَعْدٌ، أَيْ بِسُكُونِ الْعَيْنِ بِلَا يَاءٍ، قَالَ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ (ابْنِ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ شُرَحْبِيلَ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَلَامٍ (ابْنِ سَعِيدِ) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ الصَّوَابُ وَصَحَّفَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: عَنْ سَعِيدِ (ابْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ عَدْلٌ، مِنْ شُيُوخِ الْإِمَامِ، لَهُ عَنْهُ فِي مَرْفُوعِ الْمُوَطَّأِ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ (عَنْ أَبِيهِ) عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجِيِّ الثِّقَةِ (عَنْ جَدِّهِ) ثِقَةٌ، أَوْ أَرَادَ جَدَّهُ الْأَعْلَى سَعِيدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، أَوْ ضَمِيرُ جَدِّهِ لِعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُسْنَدٌ لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَهُ صُحْبَةٌ رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَغَيْرُهُ، وَشُرَحْبِيلُ ابْنُهُ غَيْرُ نَكِيرٍ أَنْ يَلْقَى جَدَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ خَرَّجَ الْحَدِيثَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاتِّصَالِ وَهُوَ الْأَغْلَبُ مِنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ، الْحَدِيثَ. أَخْرَجَ الطَّرِيقَيْنِ فِي التَّمْهِيدِ، وَإِنَّمَا يُتِمُّ لَهُ أَنَّ مَا فِي الْمُوَطَّأِ مَوْصُولٌ بِجَعْلِ ضَمِيرِ جَدِّهِ عَائِدًا عَلَى عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ فَيَكُونُ جَدُّهُ سَعِيدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ، أَمَّا إِذَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو شَيْخِ مَالِكٍ فَمُرْسَلٌ; لِأَنَّ جَدَّهُ شُرَحْبِيلَ تَابِعِيٌّ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ جَدَّهُ الْأَعْلَى فَيَكُونُ مَوْصُولًا. وَلَوَّحَ لِهَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي بِقَوْلِهِ: الرَّاوِي فِي الْمُوَطَّأِ سَعِيدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَوْ وَلَدُهُ شُرَحْبِيلُ مُرْسَلًا (أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، أَحَدُ النُّقَبَاءِ وَالْأَجْوَادِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ بِالشَّامِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ) هِيَ غَزْوَةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ وَكَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ

ص: 102

سَنَةَ خَمْسٍ، كَمَا فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ (فَحَضَرَتْ أُمَّهُ) مَفْعُولٌ فَاعِلُهُ (الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ) وَهِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْخَزْرَجِيَّةُ، أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ (فَقِيلَ لَهَا: أَوْصِي) بِشَيْءٍ (فَقَالَتْ: فِيمَ) أَيْ فِي أَيِّ شَيْءٍ (أُوصِي) وَلَا مَالَ لِي (إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ) ابْنِي (فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ سَعْدٌ) مِنَ الْغَزْوِ (فَلَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ذُكِرَ) بِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِ الْكَافِ (ذَلِكَ) الَّذِي قَالَتْ أُمُّهُ (لَهُ) لِسَعْدٍ (فَقَالَ سَعْدٌ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا» ) بِشَيْءٍ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ) يَنْفَعُهَا ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُدْرِكَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَمَلُ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُمْ وَلَا يَلْحَقُهُمْ وِزْرٌ يَعْمَلُهُ غَيْرُهُمْ وَلَا شَرٌّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ سَبَبٌ يَسُنُّونَهُ أَوْ يَبْتَدِعُونَهُ فَيُعْمَلُ بِهِ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِصَدَقَةِ الْحَيِّ عَنْهُ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ. زَادَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنَ الْوَلَدِ وَهُوَ مُخَصَّصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39](سورة النَّجْمِ: الْآيَةُ 39) وَيَلْتَحِقُ بِالصَّدَقَةِ الْعِتْقُ عَنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ: هَلْ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ؟ اهـ. لَكِنْ مَا قَالَ إِنَّهُ الْمَشْهُورُ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، فَنَصُّ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ يَتَطَوَّعُ عَنْهُ بِالْعِتْقِ. (فَقَالَ سَعْدٌ: حَائِطُ) أَيْ بُسْتَانُ (كَذَا وَكَذَا صَدَقَةٌ عَنْهَا) يُشِيرُ بِكَذَا وَكَذَا (لِحَائِطٍ سَمَّاهُ) وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِي الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا. وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ آخِرُهُ فَاءٌ، اسْمٌ لِلْحَائِطِ أَوْ وَصْفٌ لَهُ بِالثَّمَرِ سُمِّي بِذَلِكَ لِمَا يُخْتَرَفُ مِنْهُ، أَيْ يُجْنَى مِنَ الثَّمَرِ، وَفِيهِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى عَمَلِ الْبِرِّ وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى بِرِّ الْوَالِدَةِ، وَأَنَّ إِظْهَارَ الصَّدَقَةِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ إِخْفَائِهَا إِذَا صَدَقَتِ النِّيَّةُ وَالْجِهَادُ فِي حَيَاةِ الْأُمِّ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهَا، وَفِيهِ مَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِشَارَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَأَسْنَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:" قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ» ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ سَعْدًا أَنْ يَسْقِيَ عَنْهَا الْمَاءَ» ". وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " «أَيَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَعْتِقْ عَنْ أُمِّكَ» ". وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَنْهَا بِالْحَائِطِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَالْمَاءُ وَالْعِتْقُ

ص: 103

بِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْهُمَا. فَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا: " «إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ» ". وَمَرَّ فِي النُّذُورِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا.

ص: 104

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1490 -

1445 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) بْنِ الزُّبَيْرِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا) هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ وَبِهِ جَزَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي) عَمْرَةَ الصَّحَابِيَّةَ (افْتُلِتَتْ) بِفَاءٍ سَاكِنَةٍ فَفَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ فَلَامٍ مَكْسُورَةٍ فَفَوْقِيَّتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أُخِذَتْ فَلْتَةً، أَيْ بَغْتَةً (نَفْسُهَا) بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ: نَائِبُ الْفَاعِلِ وَرُوِيَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ أَفْلَتَهَا اللَّهُ نَفْسَهَا أَيْ رُوحَهَا، قَالَ الْحَافِظُ: أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِالْقَافِ وَتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ، وَقَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ قَتَلَهُ الْحُبُّ وَلِمَنْ مَاتَ فَجْأَةً، وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ بِالْفَاءِ اهـ. زَادَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ وَأَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ: وَلَمْ تُوصِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الْبَاقُونَ، قَالَهُ مُسْلِمٌ، أَيْ بَاقِي الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامٍ.

(وَأُرَاهَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَظُنُّهَا، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَخَمْسَةِ رِجَالٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ " أَظُنُّهَا " وَهُوَ يُشْعِرُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ بِأَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ " وَأَنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ " تَصْحِيفٌ (لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَمْ تَتَكَلَّمْ فَلَمْ تَتَصَدَّقْ. وَفِي السَّابِقِ أَنَّهَا قَالَتْ فِيمَا أُوصِي إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ، فَالْمُرَادُ هُنَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِالصَّدَقَةِ وَلَوْ تَكَلَّمَتْ بِهَا تَصَدَّقَتْ أَوْ أَنَّ سَعْدًا مَا عَرَفَ مَا وَقَعَ مِنْهَا، فَإِنَّ رَاوِيَ السَّابِقِ سَعِيدُ بْنُ سَعْدٍ أَوْ وَلَدُهُ شُرَحْبِيلُ مُرْسَلًا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَمْ يَتَّحِدْ رَاوِي الْإِثْبَاتِ وَرَاوِي النَّفْيِ فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي النَّذْرِ أَنَّ سَعْدًا قَالَ:«إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ وَلَمْ تَقْضِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اقْضِهِ عَنْهَا» لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ النَّذْرِ وَعَنِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ:(أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟) وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: " فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ " وَبَعْضُهُمْ: " «أَتَصَدَّقُ عَلَيْهَا وَأَصْرِفُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهَا؟» "(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ) زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: " تَصَدَّقْ عَنْهَا " بِالْجَزْمِ عَلَى الْأَمْرِ. وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: " «قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ» ". وَمَرَّ قَرِيبًا أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَنْهَا بِحَائِطٍ وَبِالْعِتْقِ أَيْضًا، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ وَالسُّؤَالُ عَنِ الْمُحْتَمَلِ وَفَضْلُ الصَّدَقَةِ وَأَنَّهَا تَنْفَعُ عَنِ الْمَيِّتِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ

ص: 104

كَمَا مَرَّ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِيهِ جَوَازُ تَرْكِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذُمَّ أُمَّ سَعْدٍ عَلَى تَرْكِهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهَا تَعَذَّرَ بِمَوْتِهَا وَسَقَطَ التَّكْلِيفُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَةَ إِنْكَارِهِ لَوْ كَانَ مُنْكِرًا إِيقَاظُ غَيْرِهَا مِمَّنْ سَمِعَهُ، فَلَمَّا قَرَّ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ كَذَا فِي الْفَتْحِ، وَفِي أَصْلِ الدَّلَالَةِ لِذَلِكَ نَظَرٌ لِقَوْلِهَا: إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فَهِيَ لَا مَالَ لَهَا، فَلَا يَتَأَتَّى ذَمُّهَا عَلَى تَرْكِ الْوَصِيَّةِ وَلَا عَدَمُ الذَّمِّ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْوَصَايَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْجَنَائِزِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو أُسَامَةَ وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الزَّكَاةِ.

ص: 105

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ تَصَدَّقَ عَلَى أَبَوَيْهِ بِصَدَقَةٍ فَهَلَكَا فَوَرِثَ ابْنُهُمَا الْمَالَ وَهُوَ نَخْلٌ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ قَدْ أُجِرْتَ فِي صَدَقَتِكَ وَخُذْهَا بِمِيرَاثِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1490 -

1446 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) بِخَاءٍ وَزَايٍ مَنْقُوطَتَيْنِ وَرَاءٍ وَجِيمٍ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ الَّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَأَبَوَاهُ صَحَابِيَّانِ (تَصَدَّقَ عَلَى أَبَوَيْهِ بِصَدَقَةٍ فَهَلَكَا) مَاتَا (فَوَرِثَ ابْنُهُمَا الْمَالَ) الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ (وَهُوَ نَخْلٌ) بِالْمُعْجَمَةِ (فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَدْ أُجِرْتَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ أَعْطَاكَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَجْرَ (فِي صَدَقَتِكَ وَخُذْهَا بِمِيرَاثِكَ) فَفِيهِ جَوَازُ تَمَلُّكِ الصَّدَقَةِ بِالْمِيرَاثِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ ثَوَابَهَا إِذْ هُوَ قَدْ وَقَعَ مِنَ الْجَوَّادِ الْكَرِيمِ.

ص: 105

[كِتَابُ الْوَصِيَّةِ]

[باب الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ]

‌بَاب الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ»

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا أَوْصَى فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ بِوَصِيَّةٍ فِيهَا عَتَاقَةُ رَقِيقٍ مِنْ رَقِيقِهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُغَيِّرُ مِنْ ذَلِكَ مَا بَدَا لَهُ وَيَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ حَتَّى يَمُوتَ وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَطْرَحَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ وَيُبْدِلَهَا فَعَلَ إِلَّا أَنْ يُدَبِّرَ مَمْلُوكًا فَإِنْ دَبَّرَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَغْيِيرِ مَا دَبَّرَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ قَالَ مَالِكٌ فَلَوْ كَانَ الْمُوصِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ وَصِيَّتِهِ وَلَا مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ الْعَتَاقَةِ كَانَ كُلُّ مُوصٍ قَدْ حَبَسَ مَالَهُ الَّذِي أَوْصَى فِيهِ مِنْ الْعَتَاقَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ يُوصِي الرَّجُلُ فِي صِحَّتِهِ وَعِنْدَ سَفَرِهِ قَالَ مَالِكٌ فَالْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ يُغَيِّرُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ غَيْرَ التَّدْبِيرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

37 -

كِتَابُ الْوَصِيَّةِ

1 -

بَابُ الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ

1492 -

1447 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ) الثِّقَةِ الثَّبْتِ الْفَقِيهِ الْمَشْهُورِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا) نَافِيَةٌ، أَيْ لَيْسَ (حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَسَقَطَ لَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ، وَالْوَصْفُ بِهِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ ذُكِرَ لِلتَّهْيِيجِ لِتَقَعَ الْمُبَادَرَةُ لِامْتِثَالِهِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ مِنْ نَفْيِ الْإِسْلَامِ عَنْ تَارِكِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي يَمْتَثِلُ لِأَمْرٍ وَيَجْتَنِبُ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ لِمُسْلِمٍ، وَوَصِيَّةُ الْكَافِرِ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ إِجْمَاعًا، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبَحَثَ فِيهِ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهَا شُرِعَتْ زِيَادَةً فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْكَافِرُ لَا عَمَلَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَالْإِعْتَاقِ وَهُوَ يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ (لَهُ شَيْءٌ) صِفَةٌ لِامْرِئٍ (يُوصَى فِيهِ) صِفَةٌ لِشَيْءٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ أَيُّوبُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ:" «لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ» ". وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: " «مَا حَقُّ امْرِئٍ يُؤْمِنُ بِالْوَصِيَّةِ» ". قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَسَّرَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، أَيْ يُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ:" «لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ» ". . . إِلَخْ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ عَوْنٍ جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: " «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ» ". وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طُرُقِ ابْنِ عَوْنٍ بِلَفْظِ: " «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ» ". قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ يُتَابِعِ ابْنَ عَوْنٍ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، قَالَ الْحَافِظُ: إِنْ عَنَى عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِهِمَا فَمُسْلِمٌ، لَكِنَّ الْمَعْنَى يُمْكِنُ أَنْ يَتَّحِدَ كَمَا

ص: 106

يَأْتِي، وَإِنْ عَنَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَمَرْدُودٌ، فَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رِوَايَةُ " لَهُ مَالٌ " أَوْلَى عِنْدِي مِنْ رِوَايَةِ " لَهُ شَيْءٌ " لِأَنَّ الشَّيْءَ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِخِلَافِ الْمَالِ، كَذَا قَالَ وَهِيَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَعَلَى تَسْلِيمِهَا فَرِوَايَةُ " شَيْءٌ " أَشْمَلُ لِأَنَّهَا تَعُمُّ الْمُتَمَوِّلَ وَغَيْرَهُ كَالْمُخْتَصَّاتِ اهـ.

(يَبِيتُ) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِمُسْلِمٍ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ " آمَنَّا " أَوْ " ذَاكِرًا " أَوْ " مَوْعُوكًا " كَمَا جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ، وَالْخَبَرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ (يَبِيتُ) خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ: مَا حَقُّهُ بَيْتُوتَةُ لَيْلَتَيْنِ وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ بَعْدَ حَذْفِ (أَنْ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24](سورة الرُّومِ: الْآيَةُ 24) قَالَ فِي الْمَصَابِيحِ وَالْفَتْحِ وَغَيْرِهِمَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ وَفِيهِ تَغَيُّرُ الْمَعْنَى أَيْضًا، وَإِنَّمَا قَدْ رَأَتْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمِنْ آيَاتِهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ مُبْتَدَأٌ فَيُقَدَّرَانِ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ وُقُوعُهُ مُبْتَدَأً، فَمَنْ لَهُ ذَوْقٌ يَعْلَمُ هَذَا وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَرَدَ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ " أَنْ يَبِيتَ " فَصَرَّحَ بِأَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ فَسَادٌ وَلَا تَغَيُّرُ مَعْنًى إِذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ ظَرْفٌ وَالْآيَةُ مُبْتَدَأٌ، فَاخْتِلَافُ الْإِعْرَابِ فِيهِمَا لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْقِيَاسِ; إِذِ التَّنْظِيرُ مِنْ حَيْثُ تَقْدِيرِ أَنَّ وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِعْرَابِ، وَالْفِعْلُ مَرْفُوعٌ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ (لَيْلَتَيْنِ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ. وَلِأَبِي عَوَانَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ. وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَكَأَنَّ ذِكْرَ اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ لِتَزَاحُمِ أَشْغَالِ الْمَرْءِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهَا، فَفُسِحَ لَهُ هَذَا الْقَدْرُ لِيَتَذَكَّرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِيهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّقْرِيبِ لَا لِلتَّحْدِيدِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَمْضِي عَلَيْهِ زَمَانٌ وَلَوْ قَلَّ (إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ) الْوَاوُ لِلْحَالِ (عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ) بِخَطِّهِ أَوْ بِغَيْرِ خَطِّهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اغْتِفَارِ الزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ غَايَةٌ لِلتَّأْخِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي تَخْصِيصِ اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ بِالذِّكْرِ تَسَامُحٌ فِي إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيتَ زَمَنًا مَا وَقَدْ سَامَحْنَاهُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ تَجَاوُزُ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ يَنْبَغِي أَنْ تُضْبَطَ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا أَثْبَتُ مِنَ الضَّبْطِ بِالْحِفْظِ لِأَنَّهُ يَخُونُ غَالِبًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ. وَخَصَّ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ ذُكِرَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ ضَبْطِ الْمَشْهُودِ بِهِ، قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ " «وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ» " أَيْ بِشَرْطِهَا مَشْهُودٌ عَلَيْهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِضْمَارَ الْإِشْهَادِ فِيهِ بَعْدُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمُ احْتَجُّوا لَهُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة: 106](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 106)

ص: 107

فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِشْهَادِ فِي الْوَصِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْكِتَابَةَ مُبَالَغَةً فِي زِيَادَةِ التَّوَثُّقِ وَإِلَّا فَالْوَصِيَّةُ الْمَشْهُودُ بِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً اهـ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ: إِذَا وُجِدَتْ وَصِيَّةٌ بِخَطِّ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ وَعُلِمَ أَنَّهَا خَطُّهُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ وَلَا يَعْزِمُ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ ظَاهِرِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَدَاوُدُ وَآخَرُونَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اسْتِحْبَابِهَا حَتَّى نَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى الْإِجْمَاعِ سِوَى مَنْ شَذَّ، وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا حَقُّ الْجَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْجَأُهُ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَغْفَلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَبِهَذَا أَجَابَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَقُّ لُغَةً الشَّيْءُ الثَّابِتُ، وَيُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ أَيْضًا لَكِنْ بِقِلَّةٍ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ عَلَى أَوْ نَحْوُهَا كَانَ ظَاهِرًا فِي الْوُجُوبِ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ لِلْوُجُوبِ، بَلِ اقْتَرَنَ هَذَا الْحَقُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ وَهُوَ تَفْوِيضُهُ الْوَصِيَّةَ إِلَى إِرَادَةِ الْمُوصِي فِي رِوَايَةِ " لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ "، فَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا عَلَّقَهَا بِإِرَادَتِهِ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ " لَا يَحِلُّ " فَيَحْتَمِلُ أَنَّ رَاوِيهَا ذَكَرَهَا بِالْمَعْنَى، وَأَرَادَ بِنَفْيِ الْحِلِّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ، وَأَجَابَ أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ يُخْشَى ضَيَاعُهُ عَلَى صَاحِبِهِ إِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ كَوَدِيعَةٍ وَدَيْنٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِآدَمِيٍّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ " لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ " ; لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى قُدْرَتِهِ عَلَى تَنْجِيزِهِ وَلَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ سَاغَ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ بِهِ سَاغَ لَهُ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجِبُ لِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا تَجِبُ لِعَيْنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلْغَيْرِ بِتَنْجِيزٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَمَحِلُّ وُجُوبِهَا إِذَا عَجَزَ عَنْ تَنْجِيزِ مَا عَلَيْهِ وَكَانَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَثْبُتُ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِ، فَإِنْ قَدَرَ أَوْ عَلِمَ غَيْرُهُ فَلَا وُجُوبَ، فَعُلِمَ أَنَّهَا قَدْ تَجِبُ وَقَدْ تُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَجَا مِنْهَا كَثْرَةَ الْأَجْرِ، وَقَدْ تُكْرَهُ فِي عَكْسِهِ وَتُبَاحُ فِيمَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ، فَتُحَرَّمُ كَمَا إِذَا كَانَ فِيهَا إِضْرَارٌ لِحَدِيثِ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، رَفَعَهُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَاحْتَجَّ ابْنُ بَطَّالٍ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُوصِ فَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا تَرَكَهَا، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا رَوَى لَا بِمَا رَأَى. عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ عَنْهُ فِي مُسْلِمٍ: لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا وَوَصِيَّتِي مَكْتُوبَةٌ عِنْدِي. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يُوصِ

ص: 108

بِمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: أَلَا تُوصِي؟ قَالَ: أَمَّا مَالِي فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِهِ، وَأَمَا رِبَاعِي فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَ وَلَدِي فِيهَا أَحَدٌ. وَجَمَعَ الْحَافِظُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِالْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَصِيَّتَهُ وَيَتَعَاهَدُهَا ثُمَّ صَارَ يُنْجِزُ مَا كَانَ يُوصِي بِهِ مُعَلَّقًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا كُنْتُ أَصْنَعُ، وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُهُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، الْحَدِيثَ. وَفِي قَوْلِهِ " لَهُ شَيْءٌ " صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَمَنَعَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَمُطْلَقُهَا يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ، لَكِنْ خَصَّهَا السَّلَفُ بِالْمَرِيضِ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِهِ فِي الْخَبَرِ لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ بِهِ، وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى التَّأَهُّبِ لِلْمَوْتِ وَالِاحْتِرَازِ قَبْلَ الْفَوْتِ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي مَتَى يَفْجَأُهُ الْمَوْتُ لِأَنَّهُ مَا مِنْ سِنٍّ يُفْرَضُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِيهِ جَمْعٌ جَمٌّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ جَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَأَهِّبًا لِذَلِكَ فَيَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ وَيَجْمَعَ فِيهِ مَا يَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ وَيَحُطُّ عَنْهُ الْوِزْرَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَيُّوبُ وَأُسَامَةُ اللَّيْثِيُّ وَيُونُسُ وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا أَوْصَى فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ بِوَصِيَّةٍ فِيهَا عَتَاقَةُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، مَصْدَرٌ كَالْعِتْقِ (رَقِيقٍ مِنْ رَقِيقِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ) كَوَصِيَّةٍ بِمَالٍ (فَإِنَّهُ يُغَيِّرُ) يُبَدِّلُ (مِنْ ذَلِكَ مَا بَدَا لَهُ) لِأَنَّ عَقْدَهَا مُنْحَلٌّ (وَيَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ حَتَّى يَمُوتَ) فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُبَدِّلْ لَزِمَتْ فِي ثُلُثِهِ. (وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَطْرَحَ) يُلْقِيَ، أَيْ يُبْطِلَ (تِلْكَ الْوَصِيَّةَ وَيُبْدِلَهَا) بِغَيْرِهَا (فَعَلَ) بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا بِلَا إِبْدَالٍ (إِلَّا أَنْ يُدَبِّرَ مَمْلُوكًا) لَهُ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٌ بِنَحْوِ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ (فَإِنْ دَبَّرَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَغْيِيرِ مَا دَبَّرَ) لِأَنَّهُ صَارَ فِيهِ عَقْدُ حُرِّيَّةٍ (وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ» ") قَالَ الطِّيبِيُّ وَالْكِرْمَانِيُّ: " مَا " نَافِيَةٌ " وَلَهُ شَيْءٌ " صِفَةُ امْرِئٍ " وَيُوصَى فِيهِ " صِفَةٌ لِشَيْءٍ " وَيَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ " صِفَةٌ ثَالِثَةٌ، وَالْمُسْتَثْنَى خَبَرٌ، وَمَفْعُولُ (يَبِيتُ) مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ذَاكِرًا أَوْ آمِنًا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: تَقْدِيرُهُ " مَوْعُوكًا " وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ الْوَصِيَّةِ لَا يَخْتَصُّ

ص: 109

بِالْمَرِيضِ، نَعَمْ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يُنْدَبُ أَنْ يَكْتُبَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمُحَقَّرَةِ وَلَا مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ وَالْوَفَاءِ لَهُ عَنْ قُرْبٍ. (قَالَ مَالِكٌ: فَلَوْ كَانَ الْمُوصِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ وَصِيتِهِ وَلَا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنَ الْعَتَاقَةِ كَانَ كُلُّ مُوصٍ قَدْ حَبَسَ) مَنَعَ (مَالَهُ الَّذِي أَوْصَى فِيهِ مِنَ الْعَتَاقَةِ وَغَيْرِهَا) فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ (وَقَدْ يُوصِي الرَّجُلُ فِي صِحَّتِهِ وَعِنْدَ سَفَرِهِ) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رُجُوعٌ لَزِمَ الْحَجْرُ (وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ يُغَيِّرُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ غَيْرَ التَّدْبِيرِ) لِأَنَّهُ عَقْدُ حُرِّيَّةٍ.

ص: 110

[باب جَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمُصَابِ وَالسَّفِيهِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِنَّ هَاهُنَا غُلَامًا يَفَاعًا لَمْ يَحْتَلِمْ مِنْ غَسَّانَ وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ وَهُوَ ذُو مَالٍ وَلَيْسَ لَهُ هَاهُنَا إِلَّا ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلْيُوصِ لَهَا قَالَ فَأَوْصَى لَهَا بِمَالٍ يُقَالُ لَهُ بِئْرُ جُشَمٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ فَبِيعَ ذَلِكَ الْمَالُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَابْنَةُ عَمِّهِ الَّتِي أَوْصَى لَهَا هِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ جَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمُصَابِ وَالسَّفِيهِ

1493 -

1448 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو (بْنِ حَزْمٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرٍ اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ وَاحِدٌ (أَنَّ عَمْرَو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (بْنَ سُلَيْمٍ) بِضَمِّ السِّينِ (الزُّرَقِيَّ) بِضَمِّ الزَّايِ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي زُرَيْقٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَيُقَالُ لَهُ رُؤْيَةُ وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ (أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ هَاهُنَا) بِالْمَدِينَةِ (غُلَامًا يَفَاعًا) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالْفَاءِ بِزِنَةِ كَلَامٍ، مُرْتَفِعًا (لَمْ يَحْتَلِمْ مِنْ غَسَّانَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَشَدِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَزْدِ (وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ، وَهُوَ ذُو مَالٍ وَلَيْسَ لَهُ هَاهُنَا إِلَّا ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ) فَهَلْ يُوصِي لَهَا؟ (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَلْيُوصِ لَهَا، قَالَ) عَمْرٌو (: فَأَوْصَى لَهَا بِمَالٍ يُقَالُ لَهُ بِئْرُ جُشَمَ) بِضَمِّ الْجِيمِ

ص: 110

وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ (قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ: فَبِيعَ ذَلِكَ الْمَالُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَابْنَةُ عَمِّهِ) أَيِ الْغُلَامِ (الَّتِي أَوْصَى لَهَا هِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ) رَاوِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ.

ص: 111

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ غُلَامًا مِنْ غَسَّانَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ فُلَانًا يَمُوتُ أَفَيُوصِي قَالَ فَلْيُوصِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ الْغُلَامُ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً قَالَ فَأَوْصَى بِبِئْرِ جُشَمٍ فَبَاعَهَا أَهْلُهَا بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الضَّعِيفَ فِي عَقْلِهِ وَالسَّفِيهَ وَالْمُصَابَ الَّذِي يُفِيقُ أَحْيَانًا تَجُوزُ وَصَايَاهُمْ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ مَا يُوصُونَ بِهِ فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ عَقْلِهِ مَا يَعْرِفُ بِذَلِكَ مَا يُوصِي بِهِ وَكَانَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1493 -

1449 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ غُلَامًا مِنْ غَسَّانَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ، فَذُكِرَ) بِضَمِّ الذَّالِ (ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فَلَانًا يَمُوتُ أَفَيُوصِي؟ قَالَ: فَلْيُوصِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ الْغُلَامُ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ أَوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ: فَأَوْصَى بِبِئْرِ جُشَمَ) لِابْنَةِ عَمِّهِ أُمِّ عَمْرٍو كَمَا فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى (فَبَاعَهَا أَهْلُهَا) أَيِ الَّتِي أَوْصَى إِلَيْهَا بِهَا (بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ) فِضَّةٍ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ هَذِهِ الطَّرِيقَ الثَّانِيَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ سِنِّ الْغُلَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا مَنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ فَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَفِيهِ صِحَّةُ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَيَّدَهُ بِمَا إِذَا عَقَلَ وَلَمْ يُخَلِّطْ، وَأَحْمَدُ، وَقَيَّدَهُ بِابْنِ سَبْعٍ وَعَنْهُ بِعَشْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ رَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ وَمَالَ إِلَيْهِ السُّبْكِيُّ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّ الْوَارِثَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الثُّلُثِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَمَنَعَهُمَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَظْهَرِ عَنْهُ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ أَثَرِ عُمَرَ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ وَلَهُ شَاهِدٌ.

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الضَّعِيفَ فِي عَقْلِهِ وَالسَّفِيهَ) الْمُبَذِّرَ لِلْمَالِ (وَالْمُصَابَ) الْمَجْنُونَ (الَّذِي يُفِيقُ أَحْيَانًا تَجُوزُ وَصَايَاهُمْ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا) أَيْ تَمْيِيزٌ (يَعْرِفُونَ مَا يُوصُونَ بِهِ، فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مَعَهُ

ص: 111

مِنْ عَقْلِهِ مَا يَعْرِفُ بِذَلِكَ مَا يُوصِي بِهِ، وَكَانَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ) صَحِيحَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى التَّمْيِيزِ.

ص: 112

[باب الْوَصِيَّةِ فِي الثُّلُثِ لَا تَتَعَدَّى]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ «جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا فَقُلْتُ فَالشَّطْرُ قَالَ لَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ»

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ وَيَقُولُ غُلَامِي يَخْدُمُ فُلَانًا مَا عَاشَ ثُمَّ هُوَ حُرٌّ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ فَيُوجَدُ الْعَبْدُ ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ قَالَ فَإِنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ تُقَوَّمُ ثُمَّ يَتَحَاصَّانِ يُحَاصُّ الَّذِي أُوصِيَ لَهُ بِالثُّلُثِ بِثُلُثِهِ وَيُحَاصُّ الَّذِي أُوصِيَ لَهُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ بِمَا قُوِّمَ لَهُ مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ إِجَارَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ إِجَارَةٌ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فَإِذَا مَاتَ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ خِدْمَةُ الْعَبْدِ مَا عَاشَ عَتَقَ الْعَبْدُ قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي الَّذِي يُوصِي فِي ثُلُثِهِ فَيَقُولُ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا يُسَمِّي مَالًا مِنْ مَالِهِ فَيَقُولُ وَرَثَتُهُ قَدْ زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا أَهْلَ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ وَيَأْخُذُوا جَمِيعَ مَالِ الْمَيِّتِ وَبَيْنَ أَنْ يَقْسِمُوا لِأَهْلِ الْوَصَايَا ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ فَيُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ ثُلُثَهُ فَتَكُونُ حُقُوقُهُمْ فِيهِ إِنْ أَرَادُوا بَالِغًا مَا بَلَغَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ الْوَصِيَّةِ فِي الثُّلُثِ لَا تَتَعَدَّى

1495 -

1450 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ (عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ (أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي) بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ، يَزُورُنِي (عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) سَنَةَ عَشْرٍ، هَكَذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ إِلَّا ابْنَ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: فِي فَتْحِ مَكَّةَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ وَهْمٌ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْفَرَائِضِ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ: بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَتْحَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ وَجَدْتُ لِابْنِ عُيَيْنَةَ مُسْتَنَدًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْبُخَارِيِّ فِي التَّارِيخِ وَابْنِ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْقَارِيِّ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ فَخَلَفَ سَعْدًا مَرِيضًا حَيْثُ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ، فَلَمَّا قَدِمَ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ مُعْتَمِرًا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَغْلُوبٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَإِنِّي أُورَثُ كَلَالَةً أَفَأُوصِي بِمَالِي؟ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَيِّتٌ أَنَا بِالدَّارِ الَّتِي خَرَجْتُ مِنْهَا مُهَاجِرًا؟ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْفَعَكَ اللَّهُ حَتَّى يَنْفَعَ بِكَ أَقْوَامًا» ". الْحَدِيثَ، فَلَعَلَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عَامَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنَ الْأَوْلَادِ أَصْلًا، وَمَرَّةً عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَتْ لَهُ بِنْتٌ فَقَطْ (مِنْ وَجَعٍ) اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ (اشْتَدَّ بِي) أَيْ قَوِيَ عَلَيَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ ( «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْوَجَعِ مَا تَرَى» ) أَيِ الْغَايَةَ (وَأَنَا ذُو مَالٍ) كَثِيرٍ ; لِأَنَّ التَّنْوِينَ لِلْكَثْرَةِ، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: ذُو مَالٍ كَثِيرٍ (وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي) قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ أَوْ مِنْ خَوَاصِّ الْوَرَثَةِ أَوْ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِلَّا فَقَدَ كَانَ لِسَعْدٍ عَصَبَاتٌ لِأَنَّهُ مِنْ زُهْرَةَ وَكَانُوا كَثِيرًا،

ص: 112

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ أَوْ خَصَّهَا بِذِكْرٍ عَلَى تَقْدِيرِ: لَا يَرِثُنِي مِمَّنْ أَخَافُ عَلَيْهِ الضَّيَاعَ وَالْعَجْزَ إِلَّا ابْنَةٌ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا تَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ أَوِ اسْتَكْثَرَ لَهَا التَّرِكَةَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذِهِ الْبِنْتُ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَاهُ أَنَّ اسْمَهَا عَائِشَةُ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهِيَ غَيْرُ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ الَّتِي رَوَتْ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْوَصَايَا وَالطِّبِّ، وَهِيَ تَابِعِيَّةٌ عَمَّرَتْ حَتَّى أَدْرَكَهَا مَالِكٌ وَرَوَى عَنْهَا، وَمَاتَتْ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ النَّسَّابِينَ لِسَعْدٍ ابْنَةً تُسَمَّى عَائِشَةَ غَيْرَ هَذِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَكْبَرَ بَنَاتِهِ أُمُّ الْحَكَمِ الْكُبْرَى وَأُمُّهَا بِنْتُ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَذَكَرُوا لَهُ بَنَاتٍ أُخْرَى أُمَّهَاتُهُنَّ مُتَأَخِّرَاتُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبِنْتَ هِيَ أُمُّ الْحَكَمِ الْمَذْكُورَةُ لِتَقَدُّمِ تَزْوِيجِ سَعْدٍ بِأُمِّهَا وَلَمْ أَرَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي مُقَدِّمَةِ الْفَتْحِ: وَهَمَ مَنْ قَالَ عَائِشَةَ لِأَنَّهَا أَصْغَرُ أَوْلَادِهِ. ( «أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي» ؟) بِالتَّثْنِيَةِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِخْبَارِ، هَكَذَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ:" «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ» ؟ " وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ سَأَلَ أَوَّلًا عَنِ الْكُلِّ ثُمَّ عَنِ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ عَنِ النِّصْفِ ثُمَّ عَنِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَحْمَدَ وَبِكِيرِ بْنِ مِسْمَارٍ عَنِ النَّسَائِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَذَا لَهُمَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَدُّقِ الْوَصِيَّةُ، وَإِنِ احْتَمَلَ التَّنْجِيزَ لِأَنَّ الْمَخْرَجَ مُتَّحِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيقِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا، قَالَ) سَعْدٌ (فَقُلْتُ: فَالشَّطْرِ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى " ثُلُثَيْ مَالِي "، أَيْ: فَأَتَصَدَّقُ بِالنِّصْفِ؟ وَقَيَّدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ بِالنَّصْبِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: أُسَمِّي أَوْ أُعَيِّنُ الشَّطْرَ، وَرَجَّحَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ الْجَرَّ، قَالَ: لِأَنَّ النِّصْفَ بِإِضْمَارِ أَفْعَلُ وَالْخَفْضُ مَرْدُودٌ، أَيْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ " ثُلُثَيْ مَالِي " وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ تَقْدِيرُهُ " أَتَصْدَّقُ بِهِ ".

(قَالَ: لَا) وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: النِّصْفُ كَثِيرٌ، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ. (ثُمَّ قَالَ) بَعْدَ أَنْ سَأَلَ عَنِ الثُّلُثِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثُّلُثَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ نَحْوَ: عَيِّنِ الثُّلُثَ، وَبِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَشْرُوعٌ الثُّلُثُ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيِ: الثُّلُثُ كَافٍ، أَوْ فَاعِلُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يَكْفِيكَ الثُّلُثُ. (وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) بِمُثَلَّثَةٍ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دُونَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَسُوقٌ بِالنِّسْبَةِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ بِالثُّلُثِ، وَأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْهُ وَهُوَ مَا يَبْتَدِرُهُ الْفَهْمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالثُّلُثِ هُوَ الْأَكْمَلُ، أَيْ كَثِيرٌ أَجْرُهُ وَأَنَّ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ غَيْرُ قَلِيلٍ،

ص: 113

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى مَعَانِيهِ، يَعْنِي أَنَّ الْكَثْرَةَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ عَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ:" لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبُعِ لَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَغَضَّ بِغَيْنٍ وَضَادٍ مُعْجَمَتَيْنِ، أَيْ نَقَصَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ: كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ قَالَ: " «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» "، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ سَعْدٍ:" أَوْصَيْتُ بِمَالِي كُلِّهِ، قَالَ: فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ، أَوْصِ بِالْعُشُرِ، فَمَا زَالَ يَقُولُ وَأَقُولُ حَتَّى قَالَ: «أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ» ". يَعْنِي بِالْمُثَلَّثَةِ أَوْ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي مُوَطَّأِ التِّنِّيسِيِّ بِالشَّكِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْمَحْفُوظُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالْمُثَلَّثَةِ اهـ. وَبِهِ يُعْلَمُ تَسَمُّحُ مَنْ قَالَ رُوِيَ بِمُثَلَّثَةٍ وَبِمُوَحَّدَةٍ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ عِنْدَ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِالشَّكِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلُ الْعُلَمَاءِ فِي قَصْرِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ لَا أَصْلَ لَهُمْ غَيْرَهُ. (إِنَّكَ) بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَبِالْفَتْحِ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ لِأَنَّكَ (أَنْ تَذَرَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، تَتْرُكَ (وَرَثَتَكَ) بِنْتَكَ الْمَذْكُورَةَ وَأَوْلَادَ أَخِيكَ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الصَّحَابِيِّ وَإِخْوَتِهِ، فَعَبَّرَ بِوَرَثَةٍ لِيُدْخِلَ الْبِنْتَ وَغَيْرَهَا مِمَّنْ يَرِثُ لَوْ مَاتَ إِذْ ذَاكَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ (أَغْنِيَاءَ) بِمَا تَتْرُكُ لَهُمْ (خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً) فُقَرَاءَ، جَمْعُ عَائِلٍ وَفِعْلُهُ يُعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ (يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) أَيْ يَسْأَلُونَهُمْ بِأَكُفِّهِمْ، يُقَالُ: تَكَفَّفَ النَّاسَ وَاسْتَكَفَّ إِذَا بَسَطَ كَفَّهُ لِلسُّؤَالِ، أَوْ سَأَلَ مَا يَكُفُّ عَنْهُ الْجُوعَ، أَوْ سَأَلَ كَفَافًا مِنْ طَعَامِ، أَوِ الْمَعْنَى يَطْلُبُونَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَكُفِّ النَّاسِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ:" وَأَنَا ذُو مَالٍ " يُؤْذِنُ بِكَثْرَتِهِ، فَإِذَا تَصَدَّقَ بِثُلُثَيْهِ أَوْ شَطْرِهِ وَأَبْقَى ثُلُثَهُ بَيْنَ بِنْتِهِ وَغَيْرِهَا لَا يَصِيرُونَ عَالَةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى التَّقْدِيرِ لِأَنَّ بَقَاءَ الْمَالِ الْكَثِيرِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، إِذْ لَوْ تَصَدَّقَ الْمَرِيضُ بِثُلُثَيْهِ مَثَلًا ثُمَّ طَالَتْ حَيَاتُهُ وَنَقَصَ وَفَنِيَ الْمَالُ فَقَدْ تَحْجُفُ الْوَصِيَّةُ بِالْوَرَثَةِ، فَرَدَّ الشَّارِعُ الْأَمْرَ إِلَى شَيْءٍ مُعْتَدِلٍ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَقَدْ رُوِيَ: أَنْ تَذَرَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى التَّعْلِيلِ وَبِكَسْرِهَا عَلَى الشَّرْطِيَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا مَعْنَى لِلشَّرْطِ هُنَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ لَا جَوَابَ لَهُ وَيَبْقَى خَيْرٌ لَا رَافِعَ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْنَاهُ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ بِالْكَسْرِ، وَأَنْكَرَهُ شَيْخُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ يَعْنِي ابْنَ الْخَشَّابِ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْكَسْرُ لِأَنَّهُ لَا جَوَابَ لَهُ لِخُلُوِّ لِفْظَةِ (خَيْرٌ) مِنَ الْفَاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا اشْتُرِطَ فِي الْجَوَابِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَقْدِيرِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: جَزَاءُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ " خَيْرٌ " وَحَذْفُ الْفَاءِ جَائِزٌ كَقِرَاءَةِ طَاوُسٍ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةَ 220) أَيْ فَهُوَ خَيْرٌ، وَمِنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ كَقَوْلِهِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرْهَا. فَقَدْ بَعُدَ عَنِ التَّحْقِيقِ وَضَيَّقَ حَيْثُ لَا ضِيقَ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ فِي

ص: 114

الشِّعْرِ قَلِيلٌ فِي غَيْرِهِ، قَالَ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ اللُّقَطَةِ، أَيْ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا بِحَذْفِ الْفَاءِ، وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ اللِّعَانِ: الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ مَا هُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَقَالَ:« (وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا) تَطْلُبُ (وَجْهَ اللَّهِ) ذَاتَهُ عز وجل (إِلَّا أُجِرْتَ) » بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَهُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَفْعَلْ لِأَنَّكَ إِنْ مِتَّ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ وَإِنْ عِشْتَ تَصَدَّقْتَ وَأَنْفَقْتَ، فَالْأَجْرُ حَاصِلٌ لَكَ فِي الْحَالَيْنِ وَنَبَّهَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ (حَتَّى مَا تَجْعَلُ) أَيِ الَّذِي تَجْعَلُهُ (فِي فِي) أَيْ فَمِ (امْرَأَتِكَ) وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ:" «اللُّقْمَةُ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» ". وَقَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ " تَجْعَلُ " بِالرَّفْعِ وَ " مَا " كَافَّةٌ كَفَّتْ حَتَّى عَمَلَهَا تَعَقَبَّهُ فِي الْمَصَابِيحِ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّرْكِيبِ حِينَئِذٍ إِنْ تَأَمَّلْتَ، بَلْ هِيَ اسْمٌ مَوْصُولٌ وَحَتَّى عَاطِفَةٌ، أَيْ إِلَّا أُجِرْتَ بِتِلْكَ النَّفَقَةِ حَتَّى بِالشَّيْءِ الَّذِي تَجْعَلُهُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ، وَلَا يُرَدُّ أَنَّ شَرْطَ حَتَّى الْعَاطِفَةِ عَلَى الْمَجْرُورِ وَإِعَادَةِ الْخَافِضِ ; لِأَنَّ ابْنَ مَالِكٍ قَيَّدَهُ بِأَنْ لَا تَتَعَيَّنَ لِلْعَطْفِ نَحْوَ: عَجِبْتُ مِنَ الْقَوْمِ حَتَّى بَنِيهِمْ، وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ بِغَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ لِكَثْرَةِ شَوَاهِدِهِ نَثْرًا وَنَظْمًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْعَطْفَ عَلَى الْمَنْصُوبِ الْمُتَقَدِّمِ، أَيْ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً حَتَّى الشَّيْءَ الَّذِي تَجْعَلُهُ فِي فِي امْرَأَتِكَ، لَاسْتَقَامَ وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ اهـ. وَوَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا بِالْوَصِيَّةِ أَنَّ سُؤَالَ سَعْدٍ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَغِبَ فِي كَثْرَةِ الْأَجْرِ، فَلَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ سَلَّاهُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ فِي مَالِهِ مِنْ صَدَقَةٍ نَاجِزَةٍ وَمِنْ نَفَقَةٍ وَلَوْ وَاجِبَةٍ يُؤْجَرُ بِهَا إِذَا ابْتَغَى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، وَلَعَلَّهُ خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ لِاسْتِمْرَارِ نَفَقَتِهَا دُونَ غَيْرِهَا.

قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَجْرَ الْوَاجِبِ يَزْدَادُ بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَاجِبٌ وَفِيهِ الْأَجْرُ، فَإِذَا نَوَى بِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ازْدَادَ أَجْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ أَنَّ الثَّوَابَ فِي الْإِنْفَاقِ مَشْرُوطٌ بِصِحَّةِ النِّيَّةِ وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا عَسِرٌ إِذَا عَارَضَهُ مُقْتَضَى الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحَصِّلُ الْغَرَضَ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى يَبْتَغِيَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَيَشُقَّ تَخْلِيصُ هَذَا الْقَصْدِ مِمَّا يَشُوبُهُ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ إِذَا أُدِّيَتْ عَلَى قَصْدِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أُثِيبَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى مَا تَجْعَلُ لَا تَخْصِيصَ لَهُ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَلَفْظَةُ حَتَّى هُنَا تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي تَحْصِيلِ الْأَجْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى، كَمَا يُقَالُ: جَاءَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ. هَذَا وَقَوْلُ الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ عَبَّرَ بِوَرَثَتِكَ وَلَمْ يَقُلْ " بَنِيكَ " مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ ; لِأَنَّ الْوَارِثَ حِينَئِذٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِأَنَّ سَعْدًا إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَوْتِهِ مِنَ الْمَرَضِ وَبَقَائِهَا بَعْدَهُ حَتَّى تَرِثَهُ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَمُوتَ قَبْلَهُ فَأَجَابَهُ صلى الله عليه وسلم بِكَلَامٍ كُلِّيٍّ مُطَابِقٍ لِكُلِّ حَالَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ " وَرَثَتَكَ " وَلَمْ يَخُصَّ بِنْتًا مِنْ غَيْرِهَا. تَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ

ص: 115

بِأَنَّ قَوْلَهُ " «أَنْ تَذَرَ بِنْتَكَ» " لَيْسَ مُتَعَيَّنًا لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِيهَا، فَقَدْ كَانَ لِأَخِيهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَوْلَادٌ إِذْ ذَاكَ مِنْهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الصَّحَابِيُّ، قُتِلَ بِصِفِّينَ، فَعَبَّرَ بِوَرَثَتِكَ لِتَدْخُلَ الْبِنْتُ وَغَيْرُهَا مِمَّنْ يَرِثُ لَوْ مَاتَ إِذْ ذَاكَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَوْلُ الْفَاكِهَانِيِّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ عَبَّرَ بِوَرَثَتِكَ لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ سَعْدًا يَعِيشُ وَيَأْتِيهِ أَوْلَادٌ غَيْرُ الْبِنْتِ، فَكَانَ كَذَلِكَ وَوُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ بَنِينَ لَا أَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ، قُصُورٌ شَدِيدٌ فَإِنَّ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ وَمُصْعَبٍ وَمُحَمَّدٍ ثَلَاثَتِهِمْ عَنْ أَبِيهِمْ سَعِدٍ، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَمَّا ذَكَرْتُ الثَّلَاثَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ اقْتَصَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَلَيْهِمْ فَتَعَقَّبَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا بِأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ ذُكُورٍ غَيْرَهُمْ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَحْيَى وَإِسْحَاقَ ذَكَرَهُمُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ، وَفَاتَهُ أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ ذَكَرَ لَهُ مِنَ الذُّكُورِ غَيْرِ السَّبْعَةِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَمْرٌو وَعِمْرَانُ وَصَالِحٌ وَعُثْمَانُ وَإِسْحَاقُ الْأَصْغَرُ وَعُمَرُ الْأَصْغَرُ وَعُمَيْرٌ مُصَغَّرٌ وَغَيْرُهُمْ وَذَكَرَ لَهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ بِنْتًا وَكَأَنَّ ابْنَ الْمَدِينِيِّ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ مِنْهُمْ. (قَالَ) سَعْدٌ: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأُخَلَّفُ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (بَعْدَ أَصْحَابِي) الْمُنْصَرِفِينَ مَعَكَ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ مَرَضِي، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْإِقَامَةَ بِهَا لِكَوْنِهِمْ هَاجَرُوا مِنْهَا وَتَرَكُوهَا لِلَّهِ

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ) بَعْدَ أَصْحَابِكَ (فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ) أَيْ بِالْعَمَلِ (دَرَجَةً وَرِفْعَةً) عِنْدَ اللَّهِ (وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ) بِأَنْ يَطُولَ عُمُرُكَ فَلَا تَمُوتَ بِمَكَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ:" وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ "، أَيْ يُطِيلَ عُمُرَكَ (حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ) أَيِ الْمُسْلِمُونَ بِالْغَنَائِمِ بِمَا سَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ. (وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْهَالِكُونَ عَلَى يَدَيْكَ وَجُنْدِكَ. وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ النَّفْعَ مَا وَقَعَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْفُتُوحِ كَالْقَادِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَبِالضُّرِّ مَا وَقَعَ مِنْ تَأْمِيرِ ابْنِهِ عُمَرَ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ وَمَنْ مَعَهُ. وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِأَنَّهُ تَكَلُّفٌ بِلَا ضَرُورَةٍ تُحْمَلُ عَلَى إِرَادَةِ الضُّرِّ الْحَاصِلِ مِنْ وَلَدِهِ لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ هُوَ الضَّرَرُ لِلْكُفَّارِ. وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَمَّا أُمِّرَ سَعْدٌ عَلَى الْعِرَاقِ أُتِيَ بِقَوْمٍ ارْتَدُّوا فَاسْتَتَابَهُمْ، فَتَابَ بَعْضُهُمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ فَقَتَلَهُمْ، فَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ تَابَ وَحَصَلَ الضَّرَرُ لِلْآخَرِينَ، وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِخْبَارِهِ بِالْغَيْبِ

ص: 116

فَإِنَّهُ عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ وَحَصَلَ نَفْعُ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَضُرُّ الْكُفَّارِ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَيَكُونُ عَاشَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.

(اللَّهُمَّ أَمْضِ) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مِنَ الْإِمْضَاءِ وَهُوَ الْإِنْفَاذُ، أَيْ أَتْمِمْ (لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ) الَّتِي هَاجَرُوهَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ (وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) بِتَرْكِ هِجْرَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ مُسْتَقِيمِ حَالِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِالْمَرَضِ أَحَدٌ لِأَجْلِ حُبِّ الْوَطَنِ. (لَكِنِ الْبَائِسُ) بِمُوَحَّدَةٍ وَهَمْزَةٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ، أَيْ شِدَّةُ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ (سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَلَامٍ وَتَاءِ تَأْنِيثٍ، الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ، وَقِيلَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، وَقِيلَ مِنْ مَوَالِيهِمْ، وَقِيلَ هُوَ فَارِسِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ حَالَفَ بَنِي عَامِرٍ وَشَهِدَ بَدْرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي اسْمِهِ " خَوْلِيٌّ " بِكَسْرِ اللَّامِ وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَأَغْرَبَ الْقَابِسِيُّ فَقَالَ بِفَتْحِهَا. وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ. وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ: يَرْحَمُ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عَفْرَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَقَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: هُوَ وَهْمٌ، وَالْمَعْرُوفُ ابْنُ خَوْلَةَ، قَالَ: وَلَعَلَّ الْوَهْمَ مِنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَالزُّهْرِيُّ أَحْفَظُ مِنْهُ اهـ. وَقَدْ وَافَقَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ التَّيْمِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ لِأُمِّهِ اسْمَيْنِ خَوْلَةَ وَعَفْرَاءَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْمٌ وَالْآخَرُ لَقَبٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا اسْمُ أُمِّهِ وَالْآخَرُ اسْمُ أَبِيهِ أَوِ الْآخَرُ اسْمُ جَدَّةٍ لَهُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ عَفْرَاءَ اسْمُ أُمِّهِ وَالْآخَرُ اسْمُ أَبِيهِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّهُ خَوْلَةُ أَوْ خَوْلِيٌّ (يَرْثِي) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ، يَتَوَجَّعُ وَيَتَحَزَّنُ (لَهُ) لِأَجْلِهِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَا يَصِحُّ كَسْرُهَا ; لِأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ وَهُوَ كَانَ قَدْ (مَاتَ بِمَكَّةَ) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبِهِ جَزَمَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: مَاتَ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ مَعَ قُرَيْشٍ سَنَةَ سَبْعٍ، فَتَوَجَّعَ صلى الله عليه وسلم لِمَوْتِهِ فِي أَرْضٍ هَاجَرَ مِنْهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَمْ يُهَاجِرْ، فَسَبَبُ بُؤْسِهِ عَدَمُ هِجْرَتِهِ، فَإِنَّمَا بُؤْسُهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْإِقَامَةَ فِي أَرْضٍ هَاجَرُوا مِنْهَا وَتَرَكُوهَا مَعَ حُبِّهِمْ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى ; فَلِذَا خَشِيَ سَعْدٌ أَنْ يَمُوتَ بِهَا، وَتَوَجَّعَ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ خَوْلَةَ أَنْ مَاتَ بِهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ خَلَّفَ مَعَ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَجُلًا وَقَالَ: إِنْ تُوفِّيَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا. وَالرِّثَاءُ يُطْلَقُ عَلَى التَّوَجُّعِ وَالتَّحَزُّنِ وَهَذَا هُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُصْطَفَى، وَيُطْلَقُ عَلَى ذِكْرِ أَوْصَافِ الْمَيِّتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى تَهْيِيجِ الْحُزْنِ وَاللَّوْعَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ

ص: 117

الْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: " «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَرَاثِي» " وَهُوَ عِنْدَ «ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ» بِلَفْظِ: نَهَانَا أَنْ نَتَرَاثَى.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: زَعَمَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ: يَرْثِي. . . إِلَخْ، مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ الْحَافِظُ: وَكَأَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا إِلَى مَا رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ فَصَّلَ ذَلِكَ، لَكِنْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الدَّعَوَاتِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ، قَالَ سَعْدٌ يَرْثِي لَهُ. . . إِلَخْ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي وَصْلِهِ فَلَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِإِدْرَاجِهِ. وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي الطِّبِّ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا:" ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي ثُمَّ مَسَحَ وَجْهِي وَبَطْنِي ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهَا» ". وَلِمُسْلِمٍ: " قُلْتُ: «فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَشْفِيَنِي، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» ". وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ زِيَارَةِ الْمَرِيضِ لِلْإِمَامِ فَمَنْ دُونَهُ، وَيَتَأَكَّدُ بِاشْتِدَادِ الْمَرَضِ وَوَضْعِ الْيَدِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَمَسْحِ وَجْهِهِ وَالْعُضْوِ الَّذِي يَأْلَمُهُ وَالْفَسْحِ لَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ، وَجَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرِيضِ بِشِدَّةِ مَرَضِهِ وَقُوَّةِ أَلَمِهِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يُمْنَعُ أَوْ يُكْرَهُ مِنَ التَّبَرُّمِ وَعَدَمِ الرِّضَا بَلْ لِطَلَبِ دُعَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ وَرُبَّمَا اسْتُحِبَّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الِاتِّصَافَ بِالصَّبْرِ الْمَحْمُودِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ أَثْنَاءَ الْمَرَضِ كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ بَعْدَ الْبُرْءِ أَجْوَزَ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ إِذَا كَانَ مِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ قَامَ غَيْرُهُ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ مَقَامَهُ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا خَافَ أَنْ يَمُوتَ فِي الدَّارِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا فَيَفُوتَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَجْرِ هِجْرَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْ دَارِ هِجْرَتِهِ فَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ بِهِ أَجْرٌ يُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى، وَالْحَثُّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَأَنَّ صِلَتَهُمْ أَفْضَلُ، وَالْإِنْفَاقُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ ; لِأَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ صَارَ طَاعَةً، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِأَقَلِّ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْعَادِيَّةِ، وَهِيَ وَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فَمِ الزَّوْجَةِ ; إِذْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ غَالِبًا إِلَّا عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُمَازَحَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيُؤْجَرُ فَاعِلُهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ قَصْدًا صَحِيحًا، فَكَيْفَ بِمَا فَوْقَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: وَجَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ ; لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ لَا يُبَالِي بِالْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ لِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مَنْ يَخْشَى عَلَيْهِ الْفَقْرَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ تَعْلِيلًا مَحْضًا وَإِنَّمَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْأَحَظِّ الْأَنْفَعِ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيلًا مَحْضًا لَاقْتَضَى جَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءُ، وَلَنَفَّذَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِجَازَتِهِمْ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ مَحْضٌ فَهُوَ لِلنَّقْصِ عَنِ الثُّلُثِ لَا لِلزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ الْإِيصَاءَ بِالثُّلُثِ، وَأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ فِيهِ عَلَى الْمُوصِي قَالَ: إِلَّا أَنَّ الِانْحِطَاطَ عَنْهُ أَوْلَى وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ تَرَكَ وَرَثَتَهُ فُقَرَاءَ، وَفِيهِ الِاسْتِفْسَارُ عَنِ الْمُجْمَلِ إِذَا احْتَمَلَ وُجُوهًا ; لِأَنَّ سَعْدًا لَمَّا مُنِعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ احْتَمَلَ عِنْدَهُ الْمَنْعُ

ص: 118

فِيمَا دُونَهُ وَالْجَوَازُ فَاسْتَفْسَرَ عَنْهُ، وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْوَرَثَةِ، وَأَنَّ خِطَابَ الشَّارِعِ الْوَاحِدِ يَعُمُّ مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ لِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ إِنَّمَا وَقَعَ لَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِالرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ لِلْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ كَمَا مَرَّ، وَمَنْ قَالَ بِالرَّدِّ لَا يَقُولُ بِظَاهِرِهِ لِأَنَّهُمْ يُعْطُونَهَا فَرْضَهَا ثُمَّ يَرُدُّونَ عَلَيْهَا الْبَاقِيَ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تَرِثُ الْجَمِيعَ ابْتِدَاءً، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجَنَائِزِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَتَابَعَ شَيْخَهُ الزُّهْرِيَّ جَمَاعَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ. (مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ وَيَقُولُ: غُلَامِي يَخْدُمُ فُلَانًا مَا عَاشَ ثُمَّ هُوَ حُرٌّ) بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ (فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، فَيُوجَدُ الْعَبْدُ ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ، قَالَ: فَإِنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ) وَفِي نُسْخَةٍ الْغُلَامِ (تُقَوَّمُ ثُمَّ يَتَحَاصَّانِ، يُحَاصُّ الَّذِي أُوصِيَ لَهُ بِالثُّلُثِ بِثُلُثِهِ وَيُحَاصُّ الَّذِي أُوصِيَ لَهُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ بِمَا قُوِّمَ لَهُ مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ إِجَارَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ إِجَارَةٌ بِقِدْرِ حِصَّتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ خِدْمَةُ الْعَبْدِ مَا عَاشَ عَتَقَ الْعَبْدُ) عَمَلًا بِالْوَصِيَّةِ.

(مَالِكٌ: فِي الَّذِي يُوصِي فِي ثُلُثِهِ فَيَقُولُ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا يُسَمِّي مَالًا مِنْ مَالِهِ، فَيَقُولُ وَرَثَتُهُ: قَدْ زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا أَهْلَ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ وَيَأْخُذُوا جَمِيعَ مَالِ الْمَيِّتِ) الْبَاقِيَ بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ (وَبَيْنَ أَنْ يَقْسِمُوا لِأَهْلِ الْوَصَايَا ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ فَيُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ ثُلُثَهُ فَتَكُونَ حُقُوقُهُمْ فِيهِ إِنْ أَرَادُوا بَالِغًا مَا بَلَغَ) لِأَنَّ الْوَرَثَةَ

ص: 119

كَمَا لَمْ يُمَكِّنُوا الْمَيِّتَ مِنْ بَخْسِ حُقُوقِهِمْ فَلَا يَبْخَسُونَ حَقَّهُ، فَإِمَّا أَجَازُوا فِعْلَهُ وَإِلَّا دَفَعُوا جَمِيعَ مَالِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَتُلَقَّبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِخَلْعِ الثُّلُثِ وَلَهَا صُوَرٌ فِي الْفُرُوعِ.

ص: 120

[باب أَمْرِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ وَالَّذِي يَحْضُرُ الْقِتَالَ فِي أَمْوَالِهِمْ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي وَصِيَّةِ الْحَامِلِ وَفِي قَضَايَاهَا فِي مَالِهَا وَمَا يَجُوزُ لَهَا أَنَّ الْحَامِلَ كَالْمَرِيضِ فَإِذَا كَانَ الْمَرَضُ الْخَفِيفُ غَيْرُ الْمَخُوفِ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَصْنَعُ فِي مَالِهِ مَا يَشَاءُ وَإِذَا كَانَ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِصَاحِبِهِ شَيْءٌ إِلَّا فِي ثُلُثِهِ قَالَ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ أَوَّلُ حَمْلِهَا بِشْرٌ وَسُرُورٌ وَلَيْسَ بِمَرَضٍ وَلَا خَوْفٍ لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] وَقَالَ {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] فَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ إِذَا أَثْقَلَتْ لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ إِلَّا فِي ثُلُثِهَا فَأَوَّلُ الْإِتْمَامِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وَقَالَ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَإِذَا مَضَتْ لِلْحَامِلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمَ حَمَلَتْ لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ فِي مَالِهَا إِلَّا فِي الثُّلُثِ قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحْضُرُ الْقِتَالَ إِنَّهُ إِذَا زَحَفَ فِي الصَّفِّ لِلْقِتَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَالِهِ شَيْئًا إِلَّا فِي الثُّلُثِ وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ الْمَخُوفِ عَلَيْهِ مَا كَانَ بِتِلْكَ الْحَالِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ أَمْرِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ وَالَّذِي يَحْضُرُ الْقِتَالَ فِي أَمْوَالِهِمْ

- (مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي وَصِيَّةِ الْحَامِلِ وَفِي قَضَايَاهَا فِي مَالِهَا وَمَا يَجُوزُ لَهَا: أَنَّ الْحَامِلَ كَالْمَرِيضِ فَإِذَا كَانَ) وُجِدَ (الْمَرَضُ الْخَفِيفُ غَيْرُ الْمَخُوفِ) مِنْهُ الْمَوْتُ (عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَصْنَعُ فِي مَالِهِ مَا يَشَاءُ) كَالصَّحِيحِ (وَإِذَا كَانَ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ) الْمَوْتُ مِنْهُ (لَمْ يَجُزْ لِصَاحِبِهِ) شَيْءٌ (إِلَّا فِي ثُلُثِهِ) لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ إِنَّمَا هِيَ فِيهِ (قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ أَوَّلُ حَمْلِهَا بِشْرٌ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، فَرَحٌ (وَسُرُورٌ وَلَيْسَ بِمَرَضٍ وَلَا خَوْفٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: فَبَشَّرْنَاهَا) أَيِ امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام (بِإِسْحَاقَ) تَحْمِلُ بِهِ بَعْدَ الْكِبَرِ، وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَلِذَا قَالَتْ:{يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72] ؟ (وَمِنْ وَرَاءِ) بَعْدِ (إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) بْنَ إِسْحَاقَ، تَعِيشُ إِلَى أَنْ تَرَاهُ، فَجَعَلَ أَوَّلَ الْحَمْلِ بِشَارَةً وَفَرَحًا فَلَيْسَ بِمَرَضٍ. (وَقَالَ) فَلَمَّا تَغَشَّاهَا (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) هُوَ النُّطْفَةُ (فَمَرَّتْ بِهِ) ذَهَبَتْ وَجَاءَتْ لِخِفَّتِهِ (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) بِكِبَرِ الْوَلَدِ فِي بَطْنِهَا، وَإِشْفَاقًا أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً (دَعَوُا) أَيْ آدَمُ وَحَوَّاءُ {اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا} [الأعراف: 189] وَلَدًا (صَالِحًا) سَوِيًّا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63] لَكَ عَلَيْهِ، فَسَمَّى أَوَّلَ الْحَمْلِ خَفِيفًا وَآخِرَهُ ثَقِيلًا. (قَالَ: وَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ إِذَا أَثْقَلَتْ لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ إِلَّا فِي ثُلُثِهَا، فَأَوَّلُ الْإِتْمَامِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ)

ص: 120

وَهِيَ مَبْدَأُ الثِّقَلِ الَّذِي يُصَيِّرُهَا كَالْمَرِيضِ (قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] أَيْ لِيُرْضِعْنَ {أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233] عَامَيْنِ (كَامِلَيْنِ) صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ. (وَقَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15] مِنَ الرَّضَاعِ {ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] سِتَّةٌ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَالْبَاقِي أَكْثَرُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ. (فَإِذَا مَضَتْ لِلْحَامِلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمَ حَمَلَتْ لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ) حُكْمٌ (فِي مَالِهَا إِلَّا فِي الثُّلُثِ) إِلَى أَنْ تَضَعَ (وَالرَّجُلِ يَحْضُرُ الْقِتَالَ إِذَا زَحَفَ فِي الصَّفِّ لِلْقِتَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَالِهِ شَيْئًا إِلَّا فِي الثُّلُثِ وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ) لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ (وَالْمَرِيضِ الْمَخُوِفِ عَلَيْهِ) الْمَوْتُ (مَا كَانَ بِتِلْكَ الْحَالِ) أَيْ مُدَّةَ كَوْنِهِ بِهَا.

ص: 121

[باب الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالْحِيَازَةِ]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] نَسَخَهَا مَا نَزَلَ مِنْ قِسْمَةِ الْفَرَائِضِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عِنْدَنَا الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يُجِيزَ لَهُ ذَلِكَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ وَأَنَّهُ إِنْ أَجَازَ لَهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضٌ جَازَ لَهُ حَقُّ مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ وَمَنْ أَبَى أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي يُوصِي فَيَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ فِي وَصِيَّتِهِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا ثُلُثُهُ فَيَأْذَنُونَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي ذَلِكَ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَهُمْ صَنَعَ كُلُّ وَارِثٍ ذَلِكَ فَإِذَا هَلَكَ الْمُوصِي أَخَذُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ وَمَنَعُوهُ الْوَصِيَّةَ فِي ثُلُثِهِ وَمَا أُذِنَ لَهُ بِهِ فِي مَالِهِ قَالَ فَأَمَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ وَرَثَتَهُ فِي وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا لِوَارِثٍ فِي صِحَّتِهِ فَيَأْذَنُونَ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُمْ وَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرُدُّوا ذَلِكَ إِنْ شَاءُوا وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ صَحِيحًا كَانَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ إِنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِهِ خَرَجَ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يُعْطِيهِ مَنْ شَاءَ وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِئْذَانُهُ وَرَثَتَهُ جَائِزًا عَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا أَذِنُوا لَهُ حِينَ يُحْجَبُ عَنْهُ مَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ إِلَّا فِي ثُلُثِهِ وَحِينَ هُمْ أَحَقُّ بِثُلُثَيْ مَالِهِ مِنْهُ فَذَلِكَ حِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ وَمَا أَذِنُوا لَهُ بِهِ فَإِنْ سَأَلَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ أَنْ يَهَبَ لَهُ مِيرَاثَهُ حِينَ تَحْضُرُهُ الْوَفَاةُ فَيَفْعَلُ ثُمَّ لَا يَقْضِي فِيهِ الْهَالِكُ شَيْئًا فَإِنَّهُ رَدٌّ عَلَى مَنْ وَهَبَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ الْمَيِّتُ فُلَانٌ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ ضَعِيفٌ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَهَبَ لَهُ مِيرَاثَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا سَمَّاهُ الْمَيِّتُ لَهُ قَالَ وَإِنْ وَهَبَ لَهُ مِيرَاثَهُ ثُمَّ أَنْفَذَ الْهَالِكُ بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضٌ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الَّذِي وَهَبَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاةِ الَّذِي أُعْطِيَهُ قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِيمَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْطَى بَعْضَ وَرَثَتِهِ شَيْئًا لَمْ يَقْبِضْهُ فَأَبَى الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ مِيرَاثًا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ وَلَا يُحَاصُّ أَهْلُ الْوَصَايَا فِي ثُلُثِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالْحِيَازَةِ

(سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَوْلُ) بِالْجَرِّ بَدَلٌ وَالرَّفْعُ أَيْ وَهِيَ قَوْلُ (اللَّهِ تبارك وتعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أَيْ مَالًا (الْوَصِيَّةُ) مَرْفُوعٌ نَائِبُ فَاعِلٍ بِكُتِبَ، وَمُتَعَلِّقُ إِذَا إِنْ كَانَتْ ظَرْفِيَّةً وَدَالًّا عَلَى جَوَابِهَا إِنْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً، وَجَوَابُ إِنْ فَلْيُوصِ (لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (نَسَخَهَا مَا نَزَلَ مِنْ قِسْمَةِ الْفَرَائِضِ) لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ (فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ

ص: 121

مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَفْظًا لَا أَنَّهُ فِي تَفْسِيرٍ وَأَخْبَارٍ كَمَا كَانَ مِنَ الْحُكْمِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ بِهَذَا التَّقْدِيرِ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْمُوصِي مِنَ الْمُسَاوَاةِ وَالتَّفْضِيلِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ بِحَدِيثِ:" لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ". وَقِيلَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ دَلِيلُهُ، وَزَعَمَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مُكَلَّفِينَ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَدْرِ الْفَرِيضَةِ الَّتِي فِي عِلْمِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَهَا، وَشَدَّدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ: لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً بَلْ مَخْصُوصَةً لِأَنَّ الْأَقْرَبِينَ أَعَمُّ مِنَ الْوَارِثِ، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لِجَمِيعِهِمْ فَخَصَّ مِنْهَا مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ لِآيَةِ الْفَرَائِضِ وَالْحَدِيثِ، وَبَقِيَ حَقُّ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ عَلَى حَالِهِ.

- (مَالِكٌ: السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عِنْدَنَا الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ) لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ". وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَقَدْ قَوَّى حَدِيثَهُ عَنِ الشَّامِيِّينَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ، وَصَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ بِالتَّحْدِيثِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَعَلِيٍّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَعَنْ جَابِرٍ كِلَاهُمَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ: الصَّوَابُ إِرْسَالُهُ وَلَا يَخْلُو إِسْنَادٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ، لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يَقْتَضِي أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا، بَلْ جَنَحَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ إِلَى أَنَّ الْمَتْنَ مُتَوَاتِرٌ فَقَالَ: وَجَدْنَا أَهْلَ الْفُتْيَا وَمَنْ حَفِظْنَا عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَامَ الْفَتْحِ:" «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ". وَيَأْثُرُونَهُ عَمَّنْ حَفِظُوهُ عَنْهُ مِمَّنْ لَقَوْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَكَانَ نَقْلَ كَافَّةٍ عَنْ كَافَّةٍ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ نَقْلِ وَاحِدٍ، وَنَازَعَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ مُتَوَاتِرًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي هَذَا إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مُقْتَضَاهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَضِيَّةُ نَصِّ الْمُوَطَّأِ، وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ صِحَّتِهَا لِلْوَارِثِ عَدَمُ اللُّزُومِ ; لِأَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَارِثِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ.

(إِلَّا أَنْ يُجِيزَ لَهُ ذَلِكَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ، وَإِنَّهُ إِنْ أَجَازَ لَهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضٌ جَازَ لَهُ حَقُّ مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ وَمَنْ أَبَى أَخَذَ حَقَّهُ) لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي الْأَصْلِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوهُ لَمْ يَمْتَنِعْ، وَقَدْ

ص: 122

رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ الْوَرَثَةُ» ". وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَإِنْ أُعِلَّ بِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ عَطَاءً هُوَ الْخُرَاسَانِيُّ، فَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى دَاوُدَ وَالْمُزَنِيِّ فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ لِلْوَارِثِ وَلِغَيْرِهِ بِأَزْيَدَ مِنَ الثُّلُثِ، لَوْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ.

(وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي يُوصِي فَيَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا ثُلُثَهُ) يَتَصَرَّفُ فِيهِ فَيَأْذَنُونَ لَهُ (أَنْ يُوصِيَ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ أَوْ) لِغَيْرِ وَارِثٍ (بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي ذَلِكَ) إِذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ فِي عَائِلَتِهِ وَيَخْشَى مِنَ امْتِنَاعِهِ قَطْعَ مَعْرُوفِهِ عَنْهُ لَوْ عَاشَ فَلَهُ الرُّجُوعُ (وَلَوْ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ) أَيِ الرُّجُوعُ (صَنَعَ كُلُّ وَارِثٍ ذَلِكَ، فَإِذَا هَلَكَ الْمُوصِي أَخَذُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمَنَعُوهُ الْوَصِيَّةَ فِي ثُلُثِهِ وَ) مَنَعُوهُ (مَا أُذِنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (لَهُ بِهِ فِي مَالِهِ، قَالَ: فَأَمَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ وَرَثَتَهُ فِي وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا لِوَارِثٍ فِي صِحَّتِهِ فَيَأْذَنُونَ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُمْ) لِأَنَّهُمْ أَسْقَطُوا قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ جَرَيَانِ سَبَبِهِ (وَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرُدُّوا ذَلِكَ إِنْ شَاءُوا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ صَحِيحًا كَانَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، إِنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِهِ خَرَجَ) وَبَيَّنَ الْخُرُوجَ بِقَوْلِهِ: (يَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يُعْطِيهِ مَنْ شَاءَ) فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَحْجُوبًا عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ إِذْنُهُمْ ; إِذْ لَوْ شَاءَ لَمَلَّكَ مَنْ أَوْصَى لَهُ فِي الْحَالِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ (وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِئْذَانُهُ وَرَثَتَهُ جَائِزًا عَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا أَذِنُوا لَهُ حِينَ يُحْجَبُ عَنْهُ مَالُهُ) بِسَبَبِ الْمَرَضِ الْقَوِيِّ (وَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ إِلَّا فِي ثُلُثِهِ، وَحِينَ هُمْ أَحَقُّ بِثُلُثَيْ مَالِهِ مِنْهُ فَذَلِكَ حِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ وَمَا أَذِنُوا لَهُ بِهِ) لِكَوْنِهِ بَعْدَ جَرَيَانِ السَّبَبِ فَلَيْسَ مِنْ إِسْقَاطِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ

ص: 123

بِلَا سَبَبٍ. (فَإِنْ سَأَلَ) الْمَرِيضُ (بَعْضَ وَرَثَتِهِ أَنْ يَهَبَ لَهُ مِيرَاثَهُ حِينَ تَحْضُرُهُ الْوَفَاةُ) أَيْ أَسْبَابُهَا (فَيَفْعَلُ ثُمَّ لَا يَقْضِي فِيهِ الْهَالِكُ شَيْئًا فَإِنَّهُ رَدٌّ) مَرْدُودٌ (عَلَى مَنْ وَهَبَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ الْمَيِّتُ فُلَانٌ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ ضَعِيفٌ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَهَبَ لَهُ مِيرَاثَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا سَمَّاهُ الْمَيِّتُ لَهُ) لِأَنَّهَا هِبَةٌ لِمُعَيَّنٍ (وَإِنْ وَهَبَ لَهُ مِيرَاثَهُ ثُمَّ أَنْفَذَ الْهَالِكُ بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضٌ فَهُوَ) أَيِ الْبَعْضُ الْبَاقِي (رَدٌّ عَلَى الَّذِي وَهَبَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاةِ الَّذِي أُعْطِيَهُ، مَالِكٌ: فِيمَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَعْطَى بَعْضَ وَرَثَتِهِ شَيْئًا لَمْ يَقْبِضْهُ) الْمُعْطَى، بِالْفَتْحِ (فَأَبَى الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ مِيرَاثًا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ وَ) لِذَلِكَ (لَا يُحَاصُّ أَهْلُ الْوَصَايَا فِي ثُلُثِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) .

ص: 124

[باب مَا جَاءَ فِي الْمُؤَنَّثِ مِنْ الرِّجَالِ وَمَنْ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الطَّائِفَ غَدًا فَأَنَا أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُؤَنَّثِ مِنَ الرِّجَالِ وَمَنْ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ

نُبِّهَ بِالتَّعْبِيرِ بِالْمُؤَنَّثِ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْمُخَنَّثِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ كَمَا فِي التَّمْهِيدِ مَنْ لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِنَّ فَيَجُوزُ دُخُولُهُ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ فَهِمَ مَعَانِيَهُنَّ مُنِعَ دُخُولُهُ، كَمَا مُنِعَ الْمُخَنَّثُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:{غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31](سورة النُّورِ: الْآيَةَ 31) وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ

ص: 124

اخْتِلَافًا مُتَقَارِبًا مَعْنَاهُ يَجْمَعُهُ أَنَّهُ مَنْ لَا فَهْمَ لَهُ وَلَا هِمَّةَ يَتَنَبَّهُ بِهَا إِلَى أَمْرِ النِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهِيهِنَّ وَلَا يَسْتَطِيعُ غِشْيَانَهُنَّ، وَلَيْسَ الْمُخَنَّثُ الَّذِي يُعْرَفُ فِيهِ الْفَاحِشَةُ خَاصَّةً وَإِنَّمَا هُوَ شِدَّةُ التَّأْنِيثِ فِي الْخِلْقَةِ حَتَّى يُشْبِهَ الْمَرْأَةَ فِي اللِّينِ وَالْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالنَّغْمَةِ وَالْفِعْلِ وَالْعَقْلِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ عَاهَةُ الْفَاحِشَةِ أَمْ لَا.

1498 -

1451 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) هَكَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ: الصَّوَابُ مَا فِي الْمُوَطَّأِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ عُرْوَةُ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ بِنْتِهَا زَيْنَبَ عَنْهَا. كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْمَغَازِي، وَرِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَلَهُ طُرُقٌ عَدِيدَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كُلُّهَا عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (أَنَّ مُخَنَّثًا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَكَسْرُهَا أَفْصَحُ آخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ، وَهُوَ مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ، أَيْ تَكَسُّرٌ وَلِينٌ كَالنِّسَاءِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا الْيَوْمَ بِالْمُؤَنَّثِ، وَاسْمُهُ هِيتٌ كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ ثُمَّ فَوْقِيَّةٍ، وَقِيلَ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَمُوَحَّدَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّ مَا سِوَاهُ تَصْحِيفٌ، قَالَ: وَالْهِنْبُ الْأَحْمَقُ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ اسْمَهُ مَاتِعٌ بِفَوْقِيَّةٍ، وَقِيلَ بِنُونٍ، وَفِي أَنَّ مَاتِعًا لَقَبُ هِيتٍ أَوْ عَكْسُهُ أَوْ هُمَا اثْنَانِ خِلَافٌ، وَقِيلَ اسْمُهُ أَنَّةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَشَدِّ النُّونِ، وَرَجَّحَ فِي الْفَتْحِ أَنَّ اسْمَهُ هِيتٌ. (كَانَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ) هِنْدِ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِيتًا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ (فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ) الْمَخْزُومِيِّ أُخَيْ أُمِّ سَلَمَةَ لِأَبِيهَا وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ عَمَّتُهُ صلى الله عليه وسلم وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاهِبٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ فَشَهِدَهُ وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ فَاسْتُشْهِدَ بِهَا بِسَهْمٍ أَصَابَهُ، وَكَانَ هِيتٌ مَوْلًى فَقَالَ لَهُ (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا) زَادَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: وَهُوَ مُحَاصِرٌ الطَّائِفَ يَوْمَئِذٍ (فَأَنَا أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، ابْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعْتِبِ بْنِ مَالِكٍ الثَّقَفِيِّ، أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ الطَّائِفِ عَلَى عَشْرِ

ص: 125

نِسْوَةٍ، فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا، وَاسْمُهَا بَادِيَةُ، بِمُوَحَّدَةٍ فَأَلِفٍ فَمُهْمَلَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ، عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ بِالنُّونِ، وَصَوَّبَ أَبُو عُمَرَ التَّحْتِيَّةَ، أَسْلَمَتْ وَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَوَلَدَتْ لَهُ بُرَيْهَةَ فِي قَوْلِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ (فَإِنَّهَا تُقْبِلُ فِي أَرْبَعٍ) مِنَ الْعُكَنِ، بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، جَمْعُ عُكْنَةٍ، وَهِيَ مَا انْطَوَى وَتَثَنَّى مِنْ لَحْمِ الْبَطْنِ سِمَنًا (وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ) مِنْهَا قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ أَنَّ فِي بَطْنِهَا أَرْبَعَ عُكَنٍ يَنْعَطِفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ رُؤِيَتْ مَوَاضِعُهَا بَارِزَةً مُتَكَسِّرًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ كَأَنَّ أَطْرَافَهَا عِنْدَ مُنْقَطَعِ جَنْبَيْهَا ثَمَانِيَةٌ وَلَمْ يَقُلْ بِثَمَانِيَةٍ مَعَ أَنَّ وَاحِدَ الْأَطْرَافِ مُذَكَّرٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ثَمَانِيَةَ أَطْرَافٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الثَّوْبُ سَبْعٌ فِي ثَمَانٍ، أَيْ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْبَارٍ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرِ الْأَشْبَارَ أَنَّثَ لِتَأْنِيثِ الْأَذْرُعِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ لِأَنَّهُ جَعَلَ كُلًّا مِنَ الْأَطْرَافِ عُكْنَةً تَسْمِيَةً لِلْجُزْءِ بِاسْمِ الْكُلِّ، قِيلَ: وَهَذَا أَحْسَنُ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: إِذَا أَقْبَلَتْ قُلْتَ تَمْشِي عَلَى سِتَّةٍ وَإِذَا أَدْبَرَتْ قُلْتَ عَلَى أَرْبَعٍ، فَكَأَنَّهُ يَعْنِي ثَدْيَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَطَرَفَيْ ذَلِكَ مِنْهَا مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً، وَإِنَّمَا نَقَصَ إِذَا أَدْبَرَتْ لِأَنَّ الثَّدْيَيْنِ يَحْتَجِبَانِ حِينَئِذٍ، وَزَادَ الْكَلْبِيُّ وَالْوَاقِدِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَالْأُقْحُوَانِ إِنْ جَلَسَتْ تَثَنَّتْ وَإِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ بَيْنَ رِجْلَيْهَا مِثْلُ الْإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ حَلَّقْتَ النَّظَرَ فِيهَا يَا عَدُوَّ اللَّهِ، ثُمَّ أَجْلَاهُ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْحِمَى» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالُوا: قَوْلُهُ تَغَنَّتْ مِنَ الْغُنَّةِ لَا مِنَ الْغِنَاءِ، أَيْ تَتَغَنَّنُ فِي كَلَامِهَا مِنْ لِينِهَا وَرَخَامَةِ صَوْتِهَا، يُقَالُ: تَغَنَّنَ وَتَغَنَّى مِثْلُ تَظَنَّنَ وَتَظَنَّى ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ» ) الْمُخَنَّثُونَ (عَلَيْكُمْ) بِالْمِيمِ فِي جَمِيعِ النِّسْوَةِ لِلتَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ:

وَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُو

وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أُطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدَا.

وَقَوْلِهِ:

وَكَمْ ذَكَرْتُكِ لَوْ أُجْزَى بِذِكْرِكُمُو

يَا أَشْبَهَ النَّاسِ كُلِّ النَّاسِ بِالْقَمَرِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْكُنَّ، بِالنُّونِ. وَفِي شَرْحِ أَمَالِي الْقَالِي لِأَبِي عُبَيْدٍ الْبَكْرِيِّ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُخَنَّثِينَ يَدْخُلُونَ عَلَى النِّسَاءِ فَلَا يَحْجُبُهُمْ: هِيتٌ وَهَرَمٌ وَمَانِعٌ اهـ. فَكَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِهَؤُلَاءِ إِلَيْهِمْ. وَذَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ حَبِيبٍ، كَاتِبُ مَالِكٍ، قُلْتُ لِمَالِكٍ: إِنَّ سُفْيَانَ زَادَ فِي حَدِيثِ ابْنَةِ غَيْلَانَ: أَنَّ مُخَنَّثًا يُقَالُ لَهُ هِيتٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: صَدَقَ وَغَرَّبَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحِمَى، وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ذَاتُ الشِّمَالِ مِنْ مَسْجِدِهَا، قَالَ حَبِيبٌ: وَقُلْتُ لِمَالِكٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ فِي الْحَدِيثِ: إِذَا قَعَدَتْ تَثَنَّتْ وَإِذَا تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ. فَقَالَ: صَدَقَ كَذَلِكَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ عَنْ مَالِكٍ وَلَا سُفْيَانَ، وَلَمْ يَقُلْ فِي نَسَقِ الْحَدِيثِ إِنَّ مُخَنَّثًا يُدْعَى

ص: 126

هَيْتًا، إِنَّمَا قَالَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بَعْدَ تَمَامِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا إِذَا قَعَدَتْ. . . إِلَخْ، فَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ فِي حَدِيثِ هِشَامٍ وَلَا يُحْفَظُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ وَابْنِ الْكَلْبِيِّ، فَعَجَبٌ مِنْ حَبِيبٍ يَحْكِيهِ عَنْ سُفْيَانَ وَأَنَّ مَالِكًا صَدَّقَهُ فَصَارَ رِوَايَةً عَنْهُمَا وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ عَنْهُمَا غَيْرَ حَبِيبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ بِاتِّفَاقٍ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ «عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً وَهُوَ بِمَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَيْتَ عِنْدِي مَنْ رَآهَا وَمَنْ يُخْبِرُنِي عَنْهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مُخَنَّثٌ يُدْعَى هِيتًا: أَنَا أَنْعَتُهَا لَكَ إِذَا أَقْبَلَتْ قُلْتَ تَمْشِي عَلَى سِتَّةٍ وَإِذَا أَدْبَرَتْ قُلْتَ تَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا أَرَى هَذَا إِلَّا مُنْكَرًا، وَمَا أُرَاهُ إِلَّا يَعْرِفُ أَمْرَ النِّسَاءِ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى سَوْدَةَ فَنَهَاهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَفَاهُ» ، فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى أُمِّرَ عُمَرُ فَجُهِدَ فَكَانَ يُرَخِّصُ لَهُ، يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: يَعْنِي يَسْأَلُ النَّاسَ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَطَبَهَا سَعْدٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا ابْنَةُ غَيْلَانَ وَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَوْفٍ كَمَا مَرَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا غَيْرُهَا وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِلَافِ السِّيَاقِ. وَأَخْرَجَ الْمُسْتَغْفِرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَى هِيتًا فِي كَلِمَتَيْنِ تَكَلَّمَ بِهِمَا، قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: إِذَا فَتَحْتُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكُمْ بِابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَا تُدْخِلُوهُمْ بُيُوتَكُمْ» ". وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. " «إِذَا فَتَحْتَ الطَّائِفَ فَلَا تُفْلِتَنَّ مِنْكَ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَمِعَ هَذَا مِنْهُ: أَلَا أُرَى هَذَا الْخَبِيثَ يَفْطِنُ لِمَا أَسْمَعُ، ثُمَّ قَالَ لِنِسَائِهِ: لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ، فَحُجِبَ عَنْ بَيْتِهِ صلى الله عليه وسلم» ". وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّهُ حَضَّ كُلًّا مِنْ سَيِّدِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَخَالِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الصِّدِّيقِ عَلَيْهَا وَوَصَفَهَا لَهُمْ بِتِلْكَ الْمَحَاسِنِ فَسَمِعَهُ الْمُصْطَفَى لَمَّا أَخْبَرَ سَيِّدَهُ وَابْنَ الصِّدِّيقِ، وَبَلَغَهُ لَمَّا أَخْبَرَ خَالِدًا، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وَلَمْ يَزَلْ هِيتٌ بِالْمَكَانِ الَّذِي نُفِيَ إِلَيْهِ حَتَّى وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ فَكُلِّمَ فِيهِ فَأَبَى رَدَّهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ كُلِّمَ فِيهِ فَأَبَى ثُمَّ كُلِّمَ فِيهِ بَعْدُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَبِرَ وَضَعُفَ وَاحْتَاجَ فَأَذِنَ لَهُ يَدْخُلُ كُلَّ جُمُعَةٍ يَسْأَلُ وَيَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهِ، وَنَحْوُ هَذَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ.

وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا مَعْشَرٍ قَالَ: أَمَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم فَغُرِّبَ إِلَى عَيْرِ جَبَلٍ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَشَفَعَ لَهُ نَاسٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ يَمُوتُ جُوعًا فَأُذِنَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ كُلَّ جُمُعَةٍ يَسْتَطْعِمُ ثُمَّ يَلْحَقُ بِمَكَانِهِ، فَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى مَاتَ. وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَصْلَ الْإِذْنِ فِي دُخُولِهِ كُلَّ جُمُعَةٍ وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِشَفَاعَةِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَ كُلِّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ فِي رَدِّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ رَأْسًا نَظَرًا لِمَنْ تَكَلَّمَ إِلَى أَنَّ تَعْزِيرَهُ بِالنَّفْيِ قَدِ اسْتَوْفَى الْمُدَّةَ فَامْتَنَعَ الْعُمَرَانُ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا نَقْضَ فِعْلِ الْمُصْطَفَى، وَلَعَلَّ عُمَرَ زَادَ فِي مَنْعِهِ حَتَّى عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِقَطْعِ طَمَعِ مَنْ أَرَادَ إِدْخَالَهُ رَأْسًا

ص: 127

إِلَى أَنْ وَصَفَ لَهُ حَالَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ يَوْمَهَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.

ص: 128

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ ثُمَّ إِنَّهُ فَارَقَهَا فَجَاءَ عُمَرُ قُبَاءً فَوَجَدَ ابْنَهُ عَاصِمًا يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلَامِ فَنَازَعَتْهُ إِيَّاهُ حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقَالَ عُمَرُ ابْنِي وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ ابْنِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ قَالَ فَمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ الْكَلَامَ قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ وَهَذَا الْأَمْرُ الَّذِي آخُذُ بِهِ فِي ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1498 -

1452 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ) بْنِ أَبِي بَكْرٍ (يَقُولُ: كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) هِيَ جَمِيلَةُ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ بِالْقَافِ وَاللَّامِ وَالْمُهْمَلَةِ، الْأَنْصَارِيَّةُ أُخْتُ عَاصِمٍ، كَانَ اسْمُهَا عَاصِيَةَ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمِيلَةَ، تَزَوَّجَهَا عُمَرُ سَنَةَ سَبْعٍ (فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) وُلِدَ فِي الْحَيَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَمَاتَ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ سَنَتَانِ، قَالَهُ كُلَّهُ فِي الِاسْتِيعَابِ. وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ: وُلِدَ فِي السَّادِسَةِ فَعَلَيْهِ يَكُونُ عُمَرُ تَزَوَّجَ أُمَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ عُمَرَ زَوَّجَهُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ شَهْرًا ثُمَّ قَالَ: حَسْبُكَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِبَعْضِ مَا لَا يُرِيدُ إِلَّا عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ، وَقَالَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ:(أَنَا وَأَخِي عَاصِمٌ لَا نَغْتَابُ النَّاسَ، وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا حَتَّى أَنَّ ذِرَاعَهُ يَزِيدُ عَلَى نَحْوِ شِبْرَيْنِ، وَهُوَ جَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأُمِّهِ ثُمَّ إِنَّهُ فَارَقَهَا) فَتَزَوَّجَهَا يَزِيدُ بْنُ جَارِيَةَ، بِالْجِيمِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (فَجَاءَ عُمَرُ قُبَاءً) بِضَمِّ الْقَافِ وَالْمَدِّ، مُذَكَّرٌ (فَوَجَدَ ابْنَهُ عَاصِمًا يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ) أَيْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ كَمَا عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ: ابْنُ سِتِّ سِنِينَ (فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلَامِ) لِأُمِّهِ الشَّمُوسُ، بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، بِنْتُ أَبِي عَامِرِ بْنِ صَيْفِيٍّ الْأَنْصَارِيَّةُ، مَنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنْ أَوَّلِ مَنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ هِيَ وَبِنْتُهَا (فَنَازَعَتْهُ إِيَّاهُ) طَلَبَتْ أَخْذَهُ مِنْهُ فَامْتَنَعَ (حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) وَهُوَ خَلِيفَةٌ (فَقَالَ عُمَرُ: ابْنِي) فَأَنَا أَحَقُّ بِهِ (وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: ابْنِي) فَأَنَا أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ النِّسَاءَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الصِّبْيَانِ مِنَ الرِّجَالِ. (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ الْكَلَامَ) وَخَلَّى بَيْنَهُمَا انْقِيَادًا لِلْحَقِّ، وَمَاتَ عَاصِمٌ بِالرَّبَذَةِ سَنَةَ سَبْعِينَ عِنْدَ

ص: 128

الْوَاقِدِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَقَبْلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. (مَالِكٌ: وَهَذَا الْأَمْرُ الَّذِي آخُذُ بِهِ فِي ذَلِكَ) وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّةَ لِلْأُمِّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْحَضَانَةِ عَلَى الْأَبِ.

ص: 129

[باب الْعَيْبِ فِي السِّلْعَةِ وَضَمَانِهَا]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَبْتَاعُ السِّلْعَةَ مِنْ الْحَيَوَانِ أَوْ الثِّيَابِ أَوْ الْعُرُوضِ فَيُوجَدُ ذَلِكَ الْبَيْعُ غَيْرَ جَائِزٍ فَيُرَدُّ وَيُؤْمَرُ الَّذِي قَبَضَ السِّلْعَةَ أَنْ يَرُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ سِلْعَتَهُ قَالَ مَالِكٌ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ إِلَّا قِيمَتُهَا يَوْمَ قُبِضَتْ مِنْهُ وَلَيْسَ يَوْمَ يَرُدُّ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَمِنَهَا مِنْ يَوْمَ قَبَضَهَا فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ نُقْصَانٍ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ فَبِذَلِكَ كَانَ نِمَاؤُهَا وَزِيَادَتُهَا لَهُ وَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْبِضُ السِّلْعَةَ فِي زَمَانٍ هِيَ فِيهِ نَافِقَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فِي زَمَانٍ هِيَ فِيهِ سَاقِطَةٌ لَا يُرِيدُهَا أَحَدٌ فَيَقْبِضُ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ مِنْ الرَّجُلِ فَيَبِيعُهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَيُمْسِكُهَا وَثَمَنُهَا ذَلِكَ ثُمَّ يَرُدُّهَا وَإِنَّمَا ثَمَنُهَا دِينَارٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ يَقْبِضُهَا مِنْهُ الرَّجُلُ فَيَبِيعُهَا بِدِينَارٍ أَوْ يُمْسِكُهَا وَإِنَّمَا ثَمَنُهَا دِينَارٌ ثُمَّ يَرُدُّهَا وَقِيمَتُهَا يَوْمَ يَرُدُّهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ عَلَى الَّذِي قَبَضَهَا أَنْ يَغْرَمَ لِصَاحِبِهَا مِنْ مَالِهِ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ إِنَّمَا عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا قَبَضَ يَوْمَ قَبْضِهِ قَالَ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ السَّارِقَ إِذَا سَرَقَ السِّلْعَةَ فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى ثَمَنِهَا يَوْمَ يَسْرِقُهَا فَإِنْ كَانَ يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ اسْتَأْخَرَ قَطْعُهُ إِمَّا فِي سِجْنٍ يُحْبَسُ فِيهِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي شَأْنِهِ وَإِمَّا أَنْ يَهْرُبَ السَّارِقُ ثُمَّ يُؤْخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ اسْتِئْخَارُ قَطْعِهِ بِالَّذِي يَضَعُ عَنْهُ حَدًّا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ يَوْمَ سَرَقَ وَإِنْ رَخُصَتْ تِلْكَ السِّلْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا بِالَّذِي يُوجِبُ عَلَيْهِ قَطْعًا لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ يَوْمَ أَخَذَهَا إِنْ غَلَتْ تِلْكَ السِّلْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ الْعَيْبِ فِي السِّلْعَةِ وَضَمَانِهَا

- (مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يَبْتَاعُ السِّلْعَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوِ الثِّيَابِ أَوِ الْعُرُوضِ فَيُوجَدُ ذَلِكَ الْبَيْعُ غَيْرَ جَائِزٍ فَيُرَدُّ وَيُؤْمَرُ الَّذِي قَبَضَ السِّلْعَةَ أَنْ يَرُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ سِلْعَتَهُ، قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ دَخَلَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ) لِتَغَيُّرِ سُوقِهَا وَنَحْوِهِ (فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ إِلَّا قِيمَتُهَا يَوْمَ قُبِضَتْ مِنْهُ وَلَيْسَ يَوْمَ يَرُدُّ ذَلِكَ إِلَيْهِ) لِأَنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ يَوْمَ الْقَبْضِ (وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَمِنَهَا مِنْ يَوْمَ قَبَضَهَا) لِأَنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِالْقَبْضِ (فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ نُقْصَانٍ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ فَبِذَلِكَ) أَيْ بِسَبَبِهِ (كَانَ نَمَاؤُهَا وَزِيَادَتُهَا) عُطْلُ تَفْسِيرٍ (لَهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْبِضُ السِّلْعَةَ فِي زَمَانٍ هِيَ فِيهِ نَافِقَةٌ) بِالْقَافِ، رَابِحَةٌ (مَرْغُوبٌ فِيهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فِي زَمَانٍ هِيَ فِيهِ سَاقِطَةٌ) بَائِرَةٌ كَاسِدَةٌ (لَا يُرِيدُهَا أَحَدٌ، فَيَقْبِضُ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ مِنَ الرَّجُلِ فَيَبِيعُهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَيُمْسِكُهَا وَثَمَنُهَا ذَلِكَ) أَيِ الْعَشَرَةُ (ثُمَّ يَرُدُّهَا وَإِنَّمَا ثَمَنُهَا دِينَارٌ) لِكَسَادِهَا (فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ يَقْبِضُهَا مِنْهُ الرَّجُلُ فَيَبِيعُهَا بِدِينَارٍ، أَوْ يُمْسِكُهَا وَإِنَّمَا ثَمَنُهَا دِينَارٌ ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَقِيمَتُهَا يَوْمَ يَرُدُّهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ،

ص: 129

فَلَيْسَ عَلَى الَّذِي قَبَضَهَا أَنْ يَغْرَمَ لِصَاحِبِهَا مِنْ مَالِهِ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ، إِنَّمَا عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا قَبَضَ يَوْمَ قَبْضِهِ) وَذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ.

(وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ السَّارِقَ إِذَا سَرَقَ السِّلْعَةَ فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى ثَمَنِهَا يَوْمَ يَسْرِقُهَا، فَإِنْ كَانَ يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ) بِأَنْ بَلَغَ النِّصَابَ (كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَأْخَرَ قَطْعُهُ إِمَّا فِي) أَيْ بِسَبَبِ (سِجْنٍ يُحْبَسُ فِيهِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي شَأْنِهِ) أَيَلْزَمُهُ الْقَطْعُ أَمْ لَا؟ (وَإِمَّا أَنْ يَهْرُبَ) بِضَمِّ الرَّاءِ (السَّارِقُ ثُمَّ يُؤْخَذُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ اسْتِئْخَارُ) أَيْ تَأْخِيرُ (قَطْعِهِ) لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ (بِالَّذِي يَضَعُ) يُسْقِطُ (عَنْهُ حَدًّا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ يَوْمَ سَرَقَ، وَإِنْ رَخُصَتْ تِلْكَ السِّلْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ) مُبَالَغَةً (وَلَا بِالَّذِي يُوجِبُ عَلَيْهِ قَطْعًا لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ يَوْمَ أَخْذِهَا) لِنَقْصِ ثَمَنِهَا عَنِ النِّصَابِ (إِنْ غَلَتْ تِلْكَ السِّلْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ) فَالْعِبْرَةُ بِيَوْمِ السَّرِقَةِ.

ص: 130

[باب جَامِعِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهِيَتِهِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ جُعِلْتَ طَبِيبًا تُدَاوِي فَإِنْ كُنْتَ تُبْرِئُ فَنَعِمَّا لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مُتَطَبِّبًا فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ إِنْسَانًا فَتَدْخُلَ النَّارَ فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ أَدْبَرَا عَنْهُ نَظَرَ إِلَيْهِمَا وَقَالَ ارْجِعَا إِلَيَّ أَعِيدَا عَلَيَّ قِصَّتَكُمَا مُتَطَبِّبٌ وَاللَّهِ

قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ مَنْ اسْتَعَانَ عَبْدًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ بَالٌ وَلِمِثْلِهِ إِجَارَةٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ الْعَبْدَ إِنْ أُصِيبَ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ وَإِنْ سَلِمَ الْعَبْدُ فَطَلَبَ سَيِّدُهُ إِجَارَتَهُ لِمَا عَمِلَ فَذَلِكَ لِسَيِّدِهِ وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَعْضُهُ حُرًّا وَبَعْضُهُ مُسْتَرَقًّا إِنَّهُ يُوقَفُ مَالُهُ بِيَدِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يَأْكُلُ فِيهِ وَيَكْتَسِي بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا هَلَكَ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَقِيَ لَهُ فِيهِ الرِّقُّ قَالَ وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْوَالِدَ يُحَاسِبُ وَلَدَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِ يَكُونُ لِلْوَلَدِ مَالٌ نَاضًّا كَانَ أَوْ عَرْضًا إِنْ أَرَادَ الْوَالِدُ ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ جَامِعِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهَتِهِ

1500 -

1453 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ) عُوَيْمِرًا، بِالتَّصْغِيرِ، وَقِيلَ عَامِرٌ، الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ لَكِنْ أَخْرَجَهُ الدِّينَوَرِيُّ فِي الْمُجَالَسَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ:(كَتَبَ) أَبُو الدَّرْدَاءِ (إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّامَهُرْمُزِيِّ، وَقِيلَ الْأَصْبِهَانِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ سَلْمَانُ الْخَيْرِ، أَوَّلُ

ص: 130

مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ (أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ) زَادَ الدِّينَوَرِيُّ: وَأَرْضِ الْجِهَادِ (فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا) لَا تُطَهِّرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَلَا تَرْفَعُهُ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ (وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ) الصَّالِحُ فِي أَيِّ مَكَانٍ (وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ جُعِلْتَ طَبِيبًا) أَيْ قَاضِيًا، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ جُعِلَ قَاضِيًا بِالشَّامِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا، كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبْرِئُ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَمَا يُبْرِئُ الْمُدَاوِي مِنَ الْحِسِّيَّةِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ:(تُدَاوِي، فَإِنْ كُنْتَ تُبْرِئُ فَنِعِمَّا لَكَ) بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَالْعَيْنُ مَكْسُورَةٌ، وَبِهِمَا قُرِئَ، أَيْ نِعْمَ شَيْئًا الْإِبْرَاءُ (وَإِنْ كُنْتَ مُتَطَبِّبًا) بِمُوَحَّدَتَيْنِ، مُتَعَاطِيًا لِعِلْمِ الطِّبِّ بِدُونِ إِبْرَاءٍ (فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ إِنْسَانًا فَتَدْخُلَ النَّارَ) أَيْ تَسْتَحِقُّ دُخُولَهَا إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْكَ (فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ أَدْبَرَا) وَلَّيَا (عَنْهُ نَظَرَ إِلَيْهِمَا وَقَالَ: ارْجِعَا إِلَيَّ أَعِيدَا عَلَيَّ قِصَّتَكُمَا) لِكَيْ أَتَثَبَّتَ فِي الْأَمْرِ (مُتَطَبِّبٌ وَاللَّهِ) مُتَعَاطٍ لِلطِّبِّ بِلَا إِبْرَاءٍ.

(مَالِكٌ: مَنِ اسْتَعَانَ عَبْدًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ بَالٌ، وَلِمِثْلِهِ إِجَارَةٌ فَهُوَ) أَيِ الْمُسْتَعِينُ (ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ الْعَبْدَ إِنْ أُصِيبَ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ، وَإِنْ سَلِمَ الْعَبْدُ فَطَلَبَ سَيِّدُهُ إِجَارَتَهُ لِمَا عَمِلَ فَذَلِكَ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا) بِدَارِ الْهِجْرَةِ.

(مَالِكٌ: فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَعْضُهُ حُرًّا وَبَعْضُهُ مُسْتَرَقًّا) أَيْ رَقِيقًا (أَنَّهُ يُوقَفُ مَالُهُ بِيَدِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يَأْكُلُ فِيهِ) وَلِابْنِ وَضَّاحٍ مِنْهُ (وَيَكْتَسِي بِالْمَعْرُوفِ) بِلَا سَرَفٍ (فَإِذَا هَلَكَ) مَاتَ (فَمَالُهُ لِلَّذِي بَقِيَ لَهُ فِيهِ الرِّقُّ) وَلَوْ قَلَّ جُزْءُ رِقِّهِ (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْوَالِدَ يُحَاسِبُ وَلَدَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ

ص: 131

مِنْ يَوْمِ يَكُونُ لِلْوَلَدِ مَالٌ) إِذْ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى وَلَدِهِ الْغَنِيِّ بِمَالٍ (نَاضًّا) أَيْ نَقْدًا (كَانَ) الْمَالُ (أَوْ عَرْضًا إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ) لَا إِنْ لَمْ يُرِدْهُ.

ص: 132

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ دَلَافٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَ يَسْبِقُ الْحَاجَّ فَيَشْتَرِي الرَّوَاحِلَ فَيُغْلِي بِهَا ثُمَّ يُسْرِعُ السَّيْرَ فَيَسْبِقُ الْحَاجَّ فَأَفْلَسَ فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ الْأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ سَبَقَ الْحَاجَّ أَلَا وَإِنَّهُ قَدْ دَانَ مُعْرِضًا فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَهُمْ وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1501 -

1454 - (مَالِكٌ، عَنْ عُمَرَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَطِيَّةَ (بْنِ دَلَافٍ) بِفَتْحِ الدَّالِ، مَضْبُوطٌ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا وَآخِرُهُ فَاءٌ (الْمُزَنِيِّ) نِسْبَةً إِلَى مُزَيْنَةَ الْمَدَنِيِّ، وَقَدْ يَسْقُطُ عَطِيَّةُ مِنْ نَسَبِهِ كَمَا هُنَا، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ فِي خُرُوجِ الدَّابَّةِ. وَعَنْهُ مَالِكٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَقُرَيْشُ بْنُ حَيَّانَ وَغَيْرُهُمْ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا، وَكَفَى بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ تَوْثِيقًا (عَنْ أَبِيهِ) هَكَذَا لِبَعْضِ الرُّوَاةِ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَقُلْ عَنْ أَبِيهِ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ، قَالَهُ ابْنُ الْحَذَّاءِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ دَلَافٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَرَ (أَنَّ رَجُلًا) هُوَ الْأُسَيْفِعُ (مِنْ جُهَيْنَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، قَبِيلَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ (كَانَ يَسْبِقُ الْحَاجَّ فَيَشْتَرِي الرَّوَاحِلَ) جَمْعُ رَاحِلَةٍ، النَّاقَةُ الصَّالِحَةُ لِلرَّحْلِ (يُغْلِي) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ، يَزِيدُ (بِهَا ثُمَّ يُسْرِعُ السَّيْرَ فَيَسْبِقُ الْحَاجَّ، فَأَفْلَسَ) افْتَقَرَ وَقَلَّ مَالُهُ (فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ) وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَدَارَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى أَفْلَسَ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ صِيَامُ رَجُلٍ وَلَا صَلَاتُهُ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِهِ إِذَا حَدَّثَ وَإِلَى أَمَانَتِهِ إِذَا اؤْتُمِنَ، وَإِلَى وَرَعِهِ إِذَا اسْتَغْنَى ثُمَّ قَالَ:(أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ الْأُسَيْفِعَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ، مُصَغَّرٌ، الْجُهَنِيَّ، أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَهُ (أُسَيْفِعُ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ سَبَقَ الْحَاجَّ) وَذَلِكَ لَيْسَ بِدِينٍ وَلَا أَمَانَةٍ، وَالْمَعْنَى بِذَلِكَ ذَمُّهُ تَحْذِيرًا لِغَيْرِهِ وَزَجْرًا لَهُ. (أَلَا) بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ (وَإِنَّهُ قَدْ دَانَ) اشْتَرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (مُعْرِضًا) عَنْ قَضَائِهِ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: أَيِ اشْتَرَى بِدَيْنٍ وَلَمْ يَهْتَمَّ بِقَضَائِهِ (فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَنُونٍ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: يَعْنِي أَحَاطَ بِمَالِهِ الدَّيْنُ (فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَهُمْ) أَيْ بَيْنِ غُرَمَائِهِ (وَإِيَّاكُمْ

ص: 132

وَالدَّيْنَ) أَيِ احْذَرُوهُ (فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ) أَيْ حُزْنٌ (وَآخِرَهُ حَرَبٌ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا، أَخْذُ مَالِ الْإِنْسَانِ وَتَرْكُهُ لَا شَيْءَ لَهُ.

فَائِدَةٌ: أَخْرَجَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ تَالِي التَّلْخِيصِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ جَبَلِ جِيَادٍ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالنَّاسُ بِمِنًى قَالَ: فَلِذَلِكَ جَاءَ سَابِقُ الْحَاجِّ يُخْبِرُ بِسَلَامَةِ النَّاسِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا أَصْلٌ لِقُدُومِ الْمُبَشِّرِ عَنِ الْحَاجِّ، وَفِيهِ بَيَانُ سَبَبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَّا أَنَّ الْمُبَشِّرَ الْآنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الْعِيدِ، وَحَقُّهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَّا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَكِنْ خَرَّجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ، أَرَاهُ رَفَعَهُ قَالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً، فَبَيْنَمَا هُمْ قُعُودٌ تَرْبُو الْأَرْضُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتْ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: تَخْرُجُ حِينَ يَسِيرُ الْإِمَامُ مِنْ جَمْعٍ، وَإِنَّمَا جُعِلَ سَابِقَ الْحَاجِّ لِيُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ تَخْرُجْ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ خُرُوجَ الْمُبَشِّرِ يَوْمَ الْعِيدِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ.

ص: 133

[باب مَا جَاءَ فِيمَا أَفْسَدَ الْعَبِيدُ أَوْ جَرَحُوا]

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ السُّنَّةُ عِنْدَنَا فِي جِنَايَةِ الْعَبِيدِ أَنَّ كُلَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدُ مِنْ جُرْحٍ جَرَحَ بِهِ إِنْسَانًا أَوْ شَيْءٍ اخْتَلَسَهُ أَوْ حَرِيسَةٍ احْتَرَسَهَا أَوْ ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ جَذَّهُ أَوْ أَفْسَدَهُ أَوْ سَرِقَةٍ سَرَقَهَا لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِيهَا إِنَّ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا يَعْدُو ذَلِكَ الرَّقَبَةَ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَنْ يُعْطِيَ قِيمَةَ مَا أَخَذَ غُلَامُهُ أَوْ أَفْسَدَ أَوْ عَقْلَ مَا جَرَحَ أَعْطَاهُ وَأَمْسَكَ غُلَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُسْلِمَهُ أَسْلَمَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ فَسَيِّدُهُ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ مَا جَاءَ فِيمَا أَفْسَدَ الْعَبِيدُ أَوْ جَرَحُوا

- (مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا فِي جِنَايَةِ الْعَبِيدِ أَنَّ كُلَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ مِنْ جُرْحٍ) بِالضَّمِّ مَصْدَرٌ (جَرَحَ) بِالْفَتْحِ، فَعَلَ (بِهِ إِنْسَانًا أَوْ شَيْءٍ اخْتَلَسَهُ) أَخَذَهُ بِخُفْيَةٍ (أَوْ حَرِيسَةٍ) فَعِيلَةٍ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ، أَيْ مَحْرُوسَةٍ (احْتَرَسَهَا) سَرَقَهَا، وَحَرِيسَةُ الْجَبَلِ الشَّاةُ يُدْرِكُهَا اللَّيْلُ قَبْلَ رُجُوعِهَا إِلَى مَأْوَاهَا فَتُسْرَقُ مِنَ الْجَبَلِ فَلَا قَطْعَ فِيهَا لِأَنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ بِحِرْزٍ (أَوْ ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ جَذَّهُ) قَطَعَهُ (أَوْ أَفْسَدَهُ) وَإِنْ لَمْ يَجُذَّهُ (أَوْ سَرِقَةٍ سَرَقَهَا لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِيهَا) لِفَقْدِ شَرْطِهِ (إِنَّ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا تَعْدُو ذَلِكَ الرَّقَبَةَ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ) عَنْ قِيمَةِ رَقَبَتهِ. (فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَنْ يُعْطِيَ قِيمَةَ مَا أَخَذَ غُلَامُهُ أَوْ أَفْسَدَ أَوْ عَقَلَ) أَيْ دِيَةَ (مَا جَرَحَ أَعْطَاهُ وَأَمْسَكَ غُلَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُسَلِّمَهُ أَسْلَمَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ، فَسَيِّدُهُ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ) بَيْنَ فِدَائِهِ وَإِسْلَامِهِ.

ص: 133

[باب مَا يَجُوزُ مِنْ النُّحْلِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَحُوزَ نُحْلَهُ فَأَعْلَنَ ذَلِكَ لَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ وَإِنْ وَلِيَهَا أَبُوهُ

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ نَحَلَ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا ثُمَّ هَلَكَ وَهُوَ يَلِيهِ إِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْابْنِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ عَزَلَهَا بِعَيْنِهَا أَوْ دَفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ وَضَعَهَا لِابْنِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْابْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ النَّحْلِ

1503 -

1455 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ: مَنْ نَحَلَ) أَعْطَى (وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَحُوزَ نِحْلَهُ) بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا (فَأَعْلَنَ ذَلِكَ لَهُ) أَظْهَرَهُ (وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا) أَيِ النَّحْلَةِ (فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَإِنْ وَلِيَهَا أَبُوهُ) لَهُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ نَقْدًا لَكِنْ (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ نَحَلَ ابْنًا لَهُ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا) فِضَّةً (ثُمَّ هَلَكَ) مَاتَ الِابْنُ (وَهُوَ يَلِيهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلِابْنِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ) الْأَبُ (عَزَلَهَا بِعَيْنِهَا أَوْ دَفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ وَضَعَهَا لِابْنِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ لِلِابْنِ) لِتَمَامِ مِلْكِهِ.

ص: 134

[كِتَاب الْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ]

[باب مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ]

بسم الله الرحمن الرحيم

38 -

كِتَابُ الْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ

‌بَاب مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»

قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يُعْتِقُ سَيِّدُهُ مِنْهُ شِقْصًا ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ سَهْمًا مِنْ الْأَسْهُمِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْتَقَ سَيِّدُهُ وَسَمَّى مِنْ ذَلِكَ الشِّقْصِ وَذَلِكَ أَنَّ عَتَاقَةَ ذَلِكَ الشِّقْصِ إِنَّمَا وَجَبَتْ وَكَانَتْ بَعْدَ وَفَاةِ الْمَيِّتِ وَأَنَّ سَيِّدَهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي ذَلِكَ مَا عَاشَ فَلَمَّا وَقَعَ الْعِتْقُ لِلْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ الْمُوصِي لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي إِلَّا مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَعْتِقْ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَالَهُ قَدْ صَارَ لِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَعْتِقُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ لَيْسُوا هُمْ ابْتَدَءُوا الْعَتَاقَةَ وَلَا أَثْبَتُوهَا وَلَا لَهُمْ الْوَلَاءُ وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ الْمَيِّتُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ وَأُثْبِتَ لَهُ الْوَلَاءُ فَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ فِي مَالِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَعْتِقَ مَا بَقِيَ مِنْهُ فِي مَالِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِشُرَكَائِهِ وَوَرَثَتِهِ وَلَيْسَ لِشُرَكَائِهِ أَنْ يَأْبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَرَثَتِهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ قَالَ مَالِكٌ وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ ثُلُثَ عَبْدِهِ وَهُوَ مَرِيضٌ فَبَتَّ عِتْقَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّهُ فِي ثُلُثِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يُعْتِقُ ثُلُثَ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الَّذِي يُعْتِقُ ثُلُثَ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَوْ عَاشَ رَجَعَ فِيهِ وَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَبِتُّ سَيِّدُهُ عِتْقَ ثُلُثِهِ فِي مَرَضِهِ يَعْتِقُ عَلَيْهِ كُلُّهُ إِنْ عَاشَ وَإِنْ مَاتَ عَتَقَ عَلَيْهِ فِي ثُلُثِهِ وَذَلِكَ أَنَّ أَمْرَ الْمَيِّتِ جَائِزٌ فِي ثُلُثِهِ كَمَا أَنَّ أَمْرَ الصَّحِيحِ جَائِزٌ فِي مَالِهِ كُلِّهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْعِتْقُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ إِزَالَةُ الْمِلْكِ، يُقَالُ: عَتَقَ يَعْتِقُ عِتْقًا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَتُفْتَحُ وَعَتَاقًا وَعَتَاقَةً، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَتَقَ الْفَرَسُ إِذَا سَبَقَ، وَعَتَقَ الْفَرْخُ إِذَا طَارَ ; لِأَنَّ الرَّقِيقَ يَتَخَلَّصُ بِالْعِتْقِ وَيَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ.

1 -

بَابُ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ

إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَفْظَ عَبْدٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الْمُرَادُ بِهِ الْمَمْلُوكُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ تَنْبِيهٌ لَطِيفٌ تَرْجَمَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ مَمْلُوكٍ، وَقَدْ أَسْلَفْتُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ تَارَةً يُقَدِّمُ التَّرْجَمَةَ بِكِتَابٍ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا كَالْعُنْوَانِ فَيَجْعَلُ الْبَسْمَلَةَ مَبْدَأَ الْمَقْصُودِ، وَتَارَةً يُقَدِّمُ الْبَسْمَلَةَ عَلَى كِتَابٍ تَفَنُّنًا.

1504 -

1456 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ) يُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَلْزَمُهُ عِتْقُهُ، وَهُوَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ لَا صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَعَبْدٌ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ، فَإِنْ أَذِنَ أَوْ أَمْضَاهُ لَزِمَهُ وَقُوِّمَ عَلَيْهِ، وَلَا كَافِرٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ قُرْبَةٌ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِالْفُرُوعِ عَلَى الصَّحِيحِ، كَذَا قَالَهُ الْأُبِّيُّ (شِرْكًا) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ " شِقْصًا " بِمُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَقَافٍ سَاكِنَةٍ وَمُهْمَلَةٍ، وَفِي أُخْرَى عَنْ أَيُّوبَ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ " نَصِيبَا " وَالْكُلُّ بِمَعْنًى، وَالشِّرْكُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ " جُزْءًا مُشْتَرَكًا " وَمَا أَشْبَهَهُ لِأَنَّ

ص: 135

الْمُشْتَرَكَ هُوَ الْجُمْلَةُ (لَهُ فِي عَبْدٍ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْعَبْدُ لُغَةً الْمَمْلُوكُ الذَّكَرُ وَمُؤَنَّثُهُ أَمَةٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَسُمِعَ: عَبْدَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجِنْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93](سورة مَرْيَمَ: الْآيَةُ 93) فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى قَطْعًا أَوْ إِلْحَاقًا لِلْأُنْثَى بِهِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَغَلِطَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فَقَالَ: لَا تَقْوِيمَ فِي عِتْقِ الْإِنَاثِ وُقُوفًا مَعَ لَفْظِ عَبْدٍ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ حُذَّاقُ أَهْلِ الْأُصُولِ ; لِأَنَّ الْأَمَةَ فِي مَعْنَى الْعَبْدِ فَهُوَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ:" «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ» ". وَهُوَ يَشْمَلُ الْأُنْثَى نَصًّا، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» ". (فَكَانَ لَهُ مَالٌ) هُوَ مَا يُتَمَوَّلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَسَعُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ، قَالَهُ عِيَاضٌ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا بَلَا لَامٍ، أَيْ شَيْءٌ (يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ) أَيْ ثَمَنَ بَقِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُوسِرٌ بِحِصَّتِهِ وَالْمُرَادُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا اشْتُرِيَ بِهِ وَاللَّازِمَ هُنَا الْقِيمَةُ لَا الثَّمَنُ، وَقَدْ بُيِّنَ الْمُرَادُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ:" «وَلَهُ مَالٌ يَبْلُغُ قِيمَةَ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِشُرَكَائِهِ أَنْصِبَاءَهُمْ وَيَعْتِقُ الْعَبْدَ» ". (قُوِّمَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْوَاوِ ثَقِيلَةٍ (عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْلِ) بِأَنْ لَا يُزَادَ عَلَى قِيمَتِهِ وَلَا يُنْقَصَ عَنْهَا، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ:" «لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ» ". بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَمُهْمَلَةٍ، أَيْ نَقْصٍ، وَشَطَطٌ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَتَيْنِ وَالْفَتْحِ، أَيْ جَوْرٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقِيمَةِ أَوْ قِيمَةِ عَدْلٍ، وَهُوَ شَكٌّ مِنْ سُفْيَانَ، وَقَدْ رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ بِلَفْظِ: قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَدْلٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ " يَبْلُغُ " يُخْرِجُ مَا إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ لَا يَبْلُغُ قِيمَةَ النَّصَبِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، لَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَسْرِي إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ مُوسِرٌ بِهِ تَنْفِيذًا لِلْعِتْقِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، قَالَهُ الْحَافِظُ.

(فَأَعْطَى) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ (شُرَكَاءَهُ) بِالنَّصْبِ هَكَذَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُ، وَلِبَعْضِهِمْ بِبِنَاءِ أَعْطَى لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ شُرَكَائِهِ (حِصَصَهُمْ) أَيْ قِيمَةُ حِصَصِهِمْ فَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ وَاحِدًا أَعْطَاهُ جَمِيعَ الْبَاقِي اتِّفَاقًا، فَلَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ ثَلَاثَةٍ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ وَهِيَ الثُّلْثُ وَالثَّانِي حِصَّتَهُ وَهِيَ السُّدُسُ فَفِي تَقْوِيمِ نَصِيبِ صَاحِبِ النِّصْفِ بِالسَّوِيَّةِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْإِتْلَافِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ لَقُوِّمَ عَلَيْهِ قَلَّ نَصِيبُهُ أَوْ كَثُرَ، أَوْ يُقَوَّمُ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ، قَوْلَانِ: الْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَوَّمُ كَامِلًا لَا عِتْقَ فِيهِ، وَهُوَ

ص: 136

مَعْرُوفُ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ يُقَوَّمُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ حُرٌّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ سَبَبَ التَّقْوِيمِ جِنَايَةُ الْمُعْتِقِ بِتَفْوِيتِهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ فَيَقُومُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجِنَايَةِ كَالْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ الْمُقَوَّمَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَلِأَنَّ الْمُعْتِقَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَدْعُوَ شَرِيكَهُ لِيَبِيعَ جَمِيعَهُ فَيَحْصُلَ لَهُ نِصْفُ جَمِيعِ الثَّمَنِ، فَلَمَّا مَنَعَهُ هَذَا ضَمِنَهُ مَا مَنَعَهُ مِنْهُ (وَعَتَقَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (عَلَيْهِ الْعَبْدُ) بَعْدَ إِعْطَاءِ الْقِيمَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ (فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ فِي الثَّانِي، كَذَا قَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ: وَرَدَّدَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ عَتَقَ بِالْفَتْحِ، وَأُعْتِقَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَلَا يُعْرَفُ عُتْقٌ - بِضَمِّ أَوَّلِهِ - لِأَنَّ الْفِعْلَ لَازِمٌ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. ثُمَّ هَذَا مِنْ لَفْظِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ مَالِكٍ فِي وَصْلِهَا، وَكَذَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَإِنِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِهَا وَحَذْفِهَا، وَزَعَمَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ تَعَلُّقًا بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ نَافِعٌ: وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ. قَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي أَشَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ أَوْ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ؟ قَالَ الْحَافِظُ: هَذَا شَكٌّ مِنْ أَيُّوبَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْمُعْسِرِ هَلْ هِيَ مَوْصُولَةٌ مَرْفُوعَةٌ أَوْ مُدْرَجَةٌ مَقْطُوعَةٌ؟ وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ، فَقَالَ: وَرُبَّمَا قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْهُ، وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ شَيْءٌ يَقُولُهُ نَافِعٌ مِنْ قِبَلِهِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَوَافَقَ أَيُّوبَ عَلَى الشَّكِّ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ، وَرَوَاهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى فَجَزَمَ أَنَّهَا عَنْ نَافِعٍ أَدْرَجَهَا، وَجَزَمَ مُسْلِمٌ بِأَنَّ أَيُّوبَ وَيَحْيَى شَكَّا، وَالَّذِينَ أَثْبَتُوهَا حُفَّاظٌ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ مَالِكٍ فِي وَصْلِهَا وَلَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَإِنِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِهَا وَحَذْفِهَا فَأَثْبَتَهَا عَنْهُ كَثِيرُونَ وَلَمْ يَذْكُرْهَا آخَرُونَ، أَيْ وَالْحُجَّةُ فِيمَنْ ذَكَرَ لَا فِيمَنْ تَرَكَ، وَأَثْبَتَهَا أَيْضًا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَرَجَّحَ الْأَئِمَّةُ رِوَايَةَ مَنْ أَثْبَتَهَا مَرْفُوعَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَحْسَبُ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ يَشُكُّ فِي أَنَّ مَالِكًا أَحْفَظُ لِحَدِيثِ نَافِعٍ مِنْ أَيُّوبَ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَ لَهُ مِنْهُ حَتَّى لَوِ اسْتَوَيَا فَشَكَّ أَحَدُهُمَا فِي شَيْءٍ لَمْ يَشُكَّ فِيهِ صَاحِبُهُ كَانَتِ الْحُجَّةُ مَعَ مَنْ لَمْ يَشُكَّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُثْمَانَ الدَّارَمِيِّ: قُلْتُ لِابْنِ مَعِينٍ: مَالِكٌ فِي نَافِعٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ أَيُّوبُ؟ قَالَ: مَالِكٌ.

وَتَضَمَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِ عِتْقِ نَصِيبٍ لِلْمُعَتَقِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ رَبِيعَةَ مِنْ إِبْطَالِهِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَهُوَ قَوْلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَأَنَّهُ رَاعَى حَقَّ الشَّرِيكِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِحُرِّيَّةِ الشِّقْصِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الْوَضْعِ ; لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ أَنْ يُبْطِلَ حُكْمَ الْحَدِيثِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ مِلْكِ الْإِنْسَانِ جَبْرًا عَلَيْهِ، وَقَالَ

ص: 137

الْحَافِظُ: كَأَنَّ رَبِيعَةَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ، قَالَ: وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ: يُعْتَقُ كُلُّهُ وَيَكُونُ نَصِيبُ مَنْ لَمْ يُعْتِقْ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِتَصْرِيحِهِ بِالتَّقْوِيمِ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يُخَيَّرُ الشَّرِيكُ بَيْنَ أَنْ يُقَوَّمَ نَصِيبُهُ أَوْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ حَتَّى وَلَا صَاحِبَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ أَنَّ التَّقْوِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمُوسِرِ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْعِتْقِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَالشَّافِعِيُّ - فِي الْأَصَحِّ - وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُعْتَقُ فِي الْحَالِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ كَانَ لَغْوًا، وَيُغَرَّمُ الْمُعْتِقُ حِصَّةَ نَصِيبِهِ بِالتَّقْوِيمِ لِرِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ:" «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ فَهُوَ عَتِيقٌ» ". وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَلَهُ فِيهِ وَفَاءٌ فَهُوَ حُرٌّ، وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِقِيمَتِهِ» ".

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَثُرَتْ أَلْفَاظُهَا فَالْحَدِيثُ وَاحِدٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِرَدِّ الْمُطْلَقِ إِلَى الْمُقَيَّدِ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ فَيُقَيَّدُ قَوْلُهُ فَهُوَ عَتِيقٌ أَوْ فَهُوَ حُرٌّ بِمَا إِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ لِشَرِيكِهِ لِحَدِيثِ الْبَابِ الظَّاهِرِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا لَكِنَّهَا فِي سِيَاقِ الْإِخْبَارِ بِالْأَحْكَامِ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ بِالْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا بِالْوَاوِ، وَيُؤَيِّدُهُ هُنَا رِوَايَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ: قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ عُتِقَ، وَإِنْ أَجَازَ الْمُخَالِفُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْعِتْقِ عَلَى التَّقْوِيمِ تَرْتِيبُهُ عَلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ ; لِأَنَّ التَّقْوِيمَ يُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْقِيمَةِ، وَأَمَّا الدَّفْعُ فَقَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ جَعْلَ الْعِتْقِ مُتَرَاخِيًا عَنِ التَّقْوِيمِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِي الْحَالِ كَمَا قَالُوا، فَلَوْ بَادَرَ الشَّرِيكُ بِعِتْقِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ نَفَّذَ كَمَا قُلْنَا، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّكْمِيلِ وَجَبْرِ مَالِكِ الْبَعْضِ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ إِنَّمَا هُوَ تَتْمِيمُ الْعِتْقِ، فَإِذَا طَلَعَ بِهِ نَفَذَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّخْصِ فِي مِلْكِهِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَرَى اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ، وَإِكْمَالَ عِتْقِهِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ عِتْقَ مَا عَتَقَ وَرَدَّ مَا سِوَاهُ. وَأَمَّا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» ". فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ. . . إِلَخْ، مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ، وَبِهِ جَزَمَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ. بَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، فَقَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَأَبَى ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فَصَحَّحَا كَوْنَ الْجَمِيعِ مَرْفُوعًا، وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ. وَحَدِيثُ الْبَابِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَأَيُّوبُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ

ص: 138

أُمَيَّةَ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ كُلُّهُمْ عَنْ مُسْلِمٍ قَائِلًا: كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْن عُمَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، انْتَهَى. وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا وَغَيْرِهِ وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ، وَتَابَعَ نَافِعًا عَلَيْهِ سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

(قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يَعْتِقُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (سَيِّدُهُ مِنْهُ شِقْصًا) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ (ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ سَهْمًا مِنَ الْأَسْهُمِ) وَلَوْ قُلْتَ: (بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مِنْهُ إِلَّا مَا عَتَقَ سَيِّدُهُ، وَيُسَمَّى مِنْ ذَلِكَ الشِّقْصُ) الَّذِي أَوْصَى بِعِتْقِهِ (وَذَلِكَ أَنَّ عَتَاقَةَ ذَلِكَ الشِّقْصِ إِنَّمَا وَجَبَتْ) أَيْ ثَبَتَتْ (وَكَانَتْ) أَيْ وُجِدَتْ (بَعْدَ وَفَاةِ الْمَيِّتِ) لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ (وَأَنَّ سَيِّدَهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي ذَلِكَ مَا عَاشَ) أَيْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ (فَلَمَّا وَقَعَ الْعِتْقُ لِلْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ) الْمُوصِي (لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي إِلَّا مَا أُخِذَ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَعْتِقْ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ قَدْ صَارَ لِغَيْرِهِ) وَهُوَ وَرَثَتُهُ، وَصَارَ الْمَيِّتُ مُعْسِرًا (فَكَيْفَ يَعْتِقُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ لَيْسَ هُمُ ابْتَدَءُوا الْعِتْقَ وَلَا أَثْبَتُوهَا) أَيِ الْعَتَاقَةَ الَّتِي عَبَّرَ بِهَا أَوَّلًا، فَلِذَا أَنَّثَ (وَلَا لَهُمُ الْوَلَاءُ وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ الْمَيِّتُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ وَأُثْبِتَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (الْوَلَاءُ لَهُ) بِالسُّنَّةِ (فَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ فِي مَالِ غَيْرِهِ) وَوَافَقَهُ الْجُمْهُورُ، وَحُجَّتُهُمْ مَعَ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ السِّرَايَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَخْتَصُّ بِمُورِدِ النَّصِّ، وَلِأَنَّ التَّقْوِيمَ سَبِيلُهُ سَبِيلُ غَرَامَةِ الْمَتْلَفَاتِ فَيَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِصُدُورِ أَمْرٍ يَجْعَلُ إِتْلَافًا (إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَعْتِقَ مَا بَقِيَ مِنْهُ فِي مَالِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِشُرَكَائِهِ وَوَرَثَتِهِ، وَلَيْسَ لِشُرَكَائِهِ أَنْ يَأْبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَرَثَتِهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ) لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ حَقَّهُ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَحَاصِلُهُ تَخْصِيصُ التَّكْمِيلِ فِي الْحَدِيثِ بِحَيَاةِ الْمُعْتِقِ

ص: 139

لِلْبَعْضِ أَوْ إِيصَائِهِ بِذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَمَّا إِنْ أَوْصَى بِعِتْقِ الْبَعْضِ فَلَا يَكْمُلُ لِلتَّوْجِيهِ الْوَجِيهِ الَّذِي قَالَهُ. (وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ ثُلُثَ عَبْدِهِ وَهُوَ مَرِيضٌ فَبَتَّ عِتْقَهُ أَعْتَقَ عَلَيْهِ كُلُّهُ فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يُعْتِقُ ثُلُثَ عَبْدِهِ) أَيْ يُوصِي بِعِتْقِهِ (بَعْدَ مَوْتِهِ ; لِأَنَّ الَّذِي يُعْتِقُ ثُلُثَ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَوْ عَاشَ رَجَعَ فِيهِ) لَأَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِي الْوَصِيَّةِ (وَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَبُتُّ سَيِّدُهُ عِتْقَ ثُلُثِهِ فِي مَرَضِهِ يُعْتَقُ عَلَيْهِ كُلُّهُ إِنْ عَاشَ) أَيْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ دُونَ نَظَرٍ لِثُلُثٍ. (وَإِنْ مَاتَ أُعْتِقَ عَلَيْهِ فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَمْرَ الْمَيِّتِ جَائِزٌ فِي ثُلُثِهِ كَمَا أَنَّ أَمْرَ الصَّحِيحِ جَائِزٌ فِي مَالِهِ كُلِّهِ) لِعَدَمِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.

ص: 140

[باب الشَّرْطِ فِي الْعِتْقِ]

قَالَ مَالِكٌ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ فَبَتَّ عِتْقَهُ حَتَّى تَجُوزَ شَهَادَتُهُ وَتَتِمَّ حُرِّيَّتُهُ وَيَثْبُتَ مِيرَاثُهُ فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَشْتَرِطُ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ خِدْمَةٍ وَلَا يَحْمِلَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الرِّقِّ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ قَالَ مَالِكٌ فَهُوَ إِذَا كَانَ لَهُ الْعَبْدُ خَالِصًا أَحَقُّ بِاسْتِكْمَالِ عَتَاقَتِهِ وَلَا يَخْلِطُهَا بِشَيْءٍ مِنْ الرِّقِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ الشَّرْطِ فِي الْعِتْقِ

- (مَالِكٌ: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ فَبَتَّ عِتْقَهُ) أَيْ نَجَّزَهُ (حَتَّى تَجُوزَ شَهَادَتُهُ وَتَتِمَّ حُرِّيَّتُهُ وَيَثْبُتَ مِيرَاثُهُ، فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَشْتَرِطُ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ خِدْمَةٍ وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الرِّقِّ) أَيْ لَا يُجْرِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ (لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ) نَاجِزًا أَوْ مُعَلِّقًا عَلَى شَيْءٍ وُجِدَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (شِرْكًا) أَيْ شِقْصًا، أَيْ نَصِيبًا لَهُ (فِي عَبْدٍ) أَيْ رَقِيقٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (قُوِّمَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (قِيمَةَ الْعَدْلِ) فَلَا يُزَادُ عَلَى قِيمَتِهِ وَلَا يُنْقَصُ (فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ) أَيْ قِيمَتَهَا (وَعَتَقَ عَلَيْهِ) الْعَبْدُ بَعْدَ الْإِعْطَاءِ بِالْحُكْمِ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ قُوِّمَ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَنْ أَعْتَقَ لَكِنَّهُ

ص: 140

مَخْصُوصٌ بِاتِّفَاقٍ فَلَا يَصِحُّ مِنْ مَجْنُونٍ وَلَا مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَفِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ وَالْكَافِرِ تَفَاصِيلُ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: أَعْتَقَ مَا إِذَا أَعْتَقَ عَلَيْهِ بِأَنْ وَرِثَ بَعْضَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِقَرَابَةٍ فَلَا سِرَايَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِالسِّرَايَةِ. (قَالَ مَالِكٌ: فَهُوَ إِذَا كَانَ لَهُ الْعَبْدُ خَالِصًا) أَيْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ (أَحَقُّ بِاسْتِكْمَالِ عَتَاقَتِهِ) إِذَا أَعْتَقَ بَعْضَهُ (وَلَا يَخْلِطُهَا بِشَيْءٍ مِنَ الرِّقِّ) لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهُ تَكْمِيلُهُ بِدَفْعِ قِيمَتِهِ لِشُرَكَائِهِ فَأَوْلَى إِذَا كَانَ لَهُ كُلُّهُ وَأَعْتَقَ بَعْضَهُ.

ص: 141

[باب مَنْ أَعْتَقَ رَقِيقًا لَا يَمْلِكُ مَالًا غَيْرَهُمْ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ «أَنَّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ سِتَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ ثُلُثَ تِلْكَ الْعَبِيدِ» قَالَ مَالِكٌ وَبَلَغَنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ مَالٌ غَيْرُهُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَنْ أَعْتَقَ رَقِيقًا لَا يَمْلِكُ مَالًا غَيْرَهُمْ

1506 -

1457 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ) كُلُّهُمْ (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ) وَاسْمُ أَبِيهِ يَسَارٌ، بِتَحْتِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ، الْأَنْصَارِيِّ مَوْلَاهُمُ الثِّقَةُ الْفَقِيهُ الْفَاضِلُ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ يُرْسِلُ كَثِيرًا وَيُدَلِّسُ، قَالَ الْبَزَّارُ: كَانَ يَرْوِي عَنْ جَمَاعَةٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَيَتَجَوَّزُ وَيَقُولُ: حَدَّثَنَا وَخَطَبَنَا، يَعْنِي قَوْمَهُ الَّذِينَ حَدَّثُوا أَوْ خَطَبُوا بِالْبَصْرَةِ، مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ وَقَدْ قَارَبَ التِسْعِينَ. (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) الْأَنْصَارِيِّ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْبَصْرِيِّ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ عَابِدٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، كَانَ لَا يَرَى الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى، وَمَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ عَامَ مَوْتِ الْحَسَنِ وَهُمَا تَابِعِيَّانِ، فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ وَسِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ وَيَحْيَى بْنَ عَتِيقٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (أَنَّ رَجُلًا) مِنَ الْأَنْصَارِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ (فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ سِتَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 141

قَوْلًا شَدِيدًا ". وَفُسِّرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: لَوْ عَلِمْتُ ذَلِكَ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ فَدَعَاهُمْ (فَأَسْهَمَ) أَيْ أَقْرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ ثُلُثَ تِلْكَ الْعَبِيدِ) وَلِمُسْلِمٍ: "«فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» ، وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ أَبْطَلَ الِاسْتِسْعَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَنَجَّزَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِتْقَ ثُلُثِهِ وَأَمْرَهُ بِالِاسْتِسْعَاءِ فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَأَجَابَ مَنْ أَثْبَتَهُ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا قَبْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِسْعَاءِ، وَبِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ إِلَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهِيَ مَا إِذَا أَعْتَقَ جَمِيعَ مَا لَيْسَ لَهُ عِتْقُهُ ". (قَالَ مَالِكٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ مَالٌ غَيْرُهُمْ) وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَلَاغَهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ كَمَا رَأَيْتَ.

ص: 142

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلًا فِي إِمَارَةِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ أَعْتَقَ رَقِيقًا لَهُ كُلَّهُمْ جَمِيعًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَأَمَرَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بِتِلْكَ الرَّقِيقِ فَقُسِمَتْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَسْهَمَ عَلَى أَيِّهِمْ يَخْرُجُ سَهْمُ الْمَيِّتِ فَيَعْتِقُونَ فَوَقَعَ السَّهْمُ عَلَى أَحَدِ الْأَثْلَاثِ فَعَتَقَ الثُّلُثُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ السَّهْمُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1507 -

1458 - (مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلًا فِي إِمَارَةِ أَبَانِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ فَأَلِفٍ فَنُونٍ (ابْنِ عُثْمَانَ) بْنِ عَفَّانَ عَلَى الْمَدِينَةِ (أَعْتَقَ رَقِيقًا لَهُ كُلَّهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَأَمَرَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بِتِلْكَ الرَّقِيقِ فَقُسِّمَتْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَسْهَمَ) أَيْ أَقْرَعَ (عَلَى أَيِّهِمْ يَخْرُجُ سَهْمُ الْمَيِّتِ فَيَعْتِقُونَ، فَوَقَعَ السَّهْمُ عَلَى أَحَدِ الْأَثْلَاثِ فَعَتَقَ الثُّلُثُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ السَّهْمُ) وَرَقَّ الثُّلُثَانِ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا عَقِبَهُ مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ بِهِ بَيَانُ اتِّصَالِ الْعَمَلِ بِهِ فَلَا يَتَطَرَّقُ احْتِمَالُ نَسْخِهِ.

ص: 142

[باب الْقَضَاءِ فِي مَالِ الْعَبْدِ إِذَا عَتَقَ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أُعْتِقَ تَبِعَهُ مَالُهُ

قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أُعْتِقَ تَبِعَهُ مَالُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كُوتِبَ تَبِعَهُ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ الْمُكَاتِبُ وَذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ هُوَ عَقْدُ الْوَلَاءِ إِذَا تَمَّ ذَلِكَ وَلَيْسَ مَالُ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ لَهُمَا مِنْ وَلَدٍ إِنَّمَا أَوْلَادُهُمَا بِمَنْزِلَةِ رِقَابِهِمَا لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِهِمَا لِأَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كُوتِبَ تَبِعَهُ مَالُهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمُكَاتَبَ إِذَا أَفْلَسَا أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمَا وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِمَا وَلَمْ تُؤْخَذْ أَوْلَادُهُمَا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَمْوَالٍ لَهُمَا قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا بِيعَ وَاشْتَرَطَ الَّذِي ابْتَاعَهُ مَالَهُ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُهُ فِي مَالِهِ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَرَحَ أُخِذَ هُوَ وَمَالُهُ وَلَمْ يُؤْخَذْ وَلَدُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ مَالِ الْعَبْدِ إِذَا عَتَقَ

1508 -

1459 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْتَقَ) بِفَتْحِ

ص: 142

الْهَمْزَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ لِأَنَّهُ يُبْنَى لِلْمَفْعُولِ إِذَا كَانَ فِيهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ (تَبِعَهُ مَالُهُ) إِلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ السَّيِّدُ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالُوا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِسُنَّةٍ مَاضِيَةٍ مِنَ الزُّهْرِيِّ. (قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ) وَأَبْدَلَ مِنْ هَذِهِ الْإِشَارَةِ قَوْلَهُ: (أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ) كَمَا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ. (وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كُوتِبَ تَبِعَهُ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ) ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ بِالْكِتَابَةِ (وَذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ هُوَ عَقْدُ الْوَلَاءِ إِذَا تَمَّ ذَلِكَ) بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ (وَلَيْسَ مَالُ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ لَهُمَا مِنْ وَلَدٍ إِنَّمَا أَوْلَادُهُمَا بِمَنْزِلَةِ رِقَابِهِمَا) أَيْ ذَوَاتِهِمَا (لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِهِمَا ; لِأَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ، وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كُوتِبَ تَبِعَهُ مَالُهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ) لِأَنَّ الْأَوْلَادَ ذَوَاتٌ كَالْآبَاءِ فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ وَلَا الْعِتْقِ لِلْآبَاءِ (وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمُكَاتَبَ إِذَا أَفْلَسَا أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمَا وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِمَا وَلَمْ تُؤْخَذْ أَوْلَادُهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَمْوَالٍ لَهُمَا) بَلْ لِسَادَتِهِمَا. (وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا بِيعَ وَاشْتَرَطَ الَّذِي ابْتَاعَهُ مَالَهُ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُهُ فِي مَالِهِ) بَلْ هُوَ لِسَيِّدِهِ (وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَرَحَ) إِنْسَانًا (أُخِذَ هُوَ وَمَالُهُ) فِي جِنَايَتِهِ (وَلَمْ يُؤْخَذْ وَلَدُهُ) وَلَوْ كَانَ كَمَالِهِ لَأُخِذَ، وَأَصْلُ الْبَابِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ إِلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ سَيِّدُهُ» ". وَسَبَقَ فِي

ص: 143

الْبَيْعِ حَدِيثُ أَنَّ مَالَهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِلْكًا تَامًّا لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعِتْقُ صُورَةَ إِحْسَانٍ إِلَيْهِ نَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُنْزَعَ مِنْهُ مَا بِيَدِهِ تَكْمِيلًا لِلْإِحْسَانِ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَتِ الْمُكَاتَبَةُ وَسَاغَ لَهُ أَنْ يَكْتَسِبَ وَيُؤَدِّيَ إِلَى سَيِّدِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ تَسَلُّطًا عَلَى مَا بِيَدِهِ فِي الْعِتْقِ مَا أَغْنَى عَنْهُ ذَلِكَ شَيْئًا.

ص: 144

[باب عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَجَامِعِ الْقَضَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ أَيُّمَا وَلِيدَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهَا وَلَا يَهَبُهَا وَلَا يُوَرِّثُهَا وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَجَامِعِ الْقَضَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ

1509 -

1460 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ) أَبَاهُ (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (قَالَ: أَيُّمَا وَلِيدَةٍ) أَيْ أَمَةٍ (وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهَا وَلَا يَهَبُهَا وَلَا يُوَرِّثُهَا) ، أَيْ أَنَّهَا لَا تُورَثُ بَعْدَ مَوْتِهِ (وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا) بِالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَالْخِدْمَةِ الْقَلِيلَةِ (فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ) وَالْحُرَّةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَبِهَذَا قَالَ عُثْمَانُ وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَهَى عَنْهُ فَانْتَهَوْا صَارَ إِجْمَاعًا، فَلَا عِبْرَةَ بِنُدُورِ الْمُخَالِفِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَعَيَّنُ مَعْرِفَةُ سَنَدِ الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ الْأَئِمَّةُ بِأَحَادِيثَ أَصَحُّهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا نُصِيبُ سَبَايَانَا فَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي الْبَيْعِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَلَوْلَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَمْنَعُ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ لِعَزْلِهِمْ لِأَجْلِ مَحَبَّةِ الْأَثْمَانِ فَائِدَةٌ. وَحَدِيثُ: " «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدًا وَلَا أَمَةً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ عَاشَتْ مَارِيَةُ أُمُّ وَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ بَعْدَهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ وَصْفِ الرِّقِّ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: لَمْ يَتْرُكْ أَمَةً، وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ نَجَّزَ عِتْقَهَا خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.

وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ وَلَا يُعَارِضُهَا حَدِيثُ جَابِرٍ: " «كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَّنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ لَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا» ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَفِي لَفْظٍ: " «بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا فَانْتَهَيْنَا» ". لِأَنَّهُمْ لَمَّا انْتَهَوْا صَارَ إِجْمَاعًا فَلَا عِبْرَةَ بِنُدُورِ الْمُخَالِفِ بَعْدَهُ كَمَا مَرَّ مَعَ عِلْمِ سَنَدِ الْإِجْمَاعِ.

ص: 144

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَتْهُ وَلِيدَةٌ قَدْ ضَرَبَهَا سَيِّدُهَا بِنَارٍ أَوْ أَصَابَهَا بِهَا فَأَعْتَقَهَا

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَتَاقَةُ رَجُلٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَتَاقَةُ الْغُلَامِ حَتَّى يَحْتَلِمَ أَوْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْمُحْتَلِمِ وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَتَاقَةُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَإِنْ بَلَغَ الْحُلُمَ حَتَّى يَلِيَ مَالَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1509 -

1461 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) مِمَّا أَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَغَيْرُهُ مِنْ وُجُوهٍ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَتْهُ وَلِيدَةٌ) أَمَةٌ (قَدْ ضَرَبَهَا سَيِّدُهَا بِنَارٍ وَأَصَابَهَا) أَيْ بِالنَّارِ، شَكَّ الرَّاوِي، وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: قَالَ: أَقْعَدَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَمَةً لَهُ عَلَى مِقْلَاةٍ لَهُ فَاحْتَرَقَ عَجُزُهَا، فَأَتَتْ عُمُرَ (فَأَعْتَقَهَا) أَيْ حَكَمَ عُمَرُ بِعِتْقِهَا لِوُقُوعِ الْحُكْمِ بِالْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ سَنْدَرَ مَعَ سَيِّدِهِ زِنْبَاعِ بْنِ سَلَامَةَ الْجُذَامِيِّ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ:" أَنَّ زِنْبَاعَ أَبَا رَوْحٍ وَجَدَ غُلَامًا مَعَ جَارِيَةٍ لَهُ فَجَدَعَ أَنْفَهُ وَجَبَّهُ، فَأَتَى الْعَبْدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، «فَقَالَ لِزِنْبَاعٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَذَكَرَهُ، فَقَالَ لِلْعَبْدِ: انْطَلِقْ فَأَنْتَ حُرٌّ» ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَسَمَّى الْعَبْدَ سَنْدَرَ، وَإِنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِ بِي، قَالَ: أُوصِي بِكَ كُلَّ مُسْلِمٍ. وَرَوَى الْبَغَوِيُّ عَنْ سَنَدٍ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لِزِنْبَاعِ بْنِ سَلَامَةَ الْجُذَامِيِّ فَذَكَرَهُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْقِصَّةَ عَنْ زِنْبَاعٍ نَفْسِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَتَاقَةُ رَجُلٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ) أَيْ يَسْتَغْرِقُهُ (وَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ عَتَاقَةُ الْغُلَامِ) الصَّبِيِّ وَلَوْ رَاهَقَ (حَتَّى يَحْتَلِمَ) أَيْ يُنْزِلَ فِي الْمَنَامِ (أَوْ حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْمُحْتَلِمِ) بِأَنْ يَبْلُغَ بِغَيْرِ الِاحْتِلَامِ كَالسِّنِّ ; لِأَنَّ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ لَا يَحْتَلِمُ (وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَتَاقَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي مَالِهِ) وَإِنْ بَلَغَ الْحُلُمَ (حَتَّى يَلِيَ مَالَهُ) بِرُشْدِهِ وَفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ.

ص: 145

[باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْعِتْقِ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ جَارِيَةً لِي كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لِي فَجِئْتُهَا وَقَدْ فُقِدَتْ شَاةٌ مِنْ الْغَنَمِ فَسَأَلْتُهَا عَنْهَا فَقَالَتْ أَكَلَهَا الذِّئْبُ فَأَسِفْتُ عَلَيْهَا وَكُنْتُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلَطَمْتُ وَجْهَهَا وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ مَنْ أَنَا فَقَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتِقْهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْعِتْقِ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ

1511 -

1462 - (مَالِكٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ) نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَهُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أُسَامَةَ، وَهُوَ هِلَالُ

ص: 145

بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، يُعْرَفُ أَبُوهُ بِكُنْيَتِهِ وَهُوَ بِهَا أَشْهَرُ الْعَامِرِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيُّ، مَاتَ سَنَةَ بِضْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بِتَحْتِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ وَهْمٌ عِنْدَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ وَإِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ هِلَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ مَعْرُوفٌ فِي الصَّحَابَةِ وَحَدِيثُهُ هَذَا مَعْرُوفٌ، وَأَمَّا عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ فَتَابِعِيٌّ أَنْصَارِيٌّ مَدَنِيٌّ مَعْرُوفٌ يَعْنِي فَلَا يَصِحُّ (أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارِيَةً) لَمْ تُسَمَّ (كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لِي) زَادَ فِي رِوَايَةٍ فِي نَاحِيَةِ أُحُدٍ (فَجِئْتُهَا وَقَدْ فُقِدَتْ) فِعْلٌ مَاضٍ تَاؤُهُ مَضْمُومَةٌ أَوْ سَاكِنَةٌ كَمَا ضَبَطَهُ فِي نُسَخٍ صَحِيحَةٍ (شَاةٌ مِنَ الْغَنَمِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَدْ فُقِدَتْ مِنْهَا شَاةٌ (فَسَأَلْتُهَا عَنْهَا، فَقَالَتْ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ فَأَسِفْتُ عَلَيْهَا) أَيْ غَضِبْتُ (وَكُنْتُ مِنْ بَنِي آدَمَ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، تَقْدِيمٌ لِعُذْرِهِ فِي قَوْلِهِ:(فَلَطَمْتُ وَجْهَهَا) ضَرَبْتُهَا عَلَيْهِ بِبَيَاضِ كَفِّي (وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُهَا؟) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَفَاءٍ فَهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَبِي عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ:" «فَصَكَكْتُهَا صَكَّةً ثُمَّ انْصَرَفَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ، فَعَظُمَ عَلَيَّ فَقُلْتُ: هَلَّا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: ائْتِنِي بِهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَيْهِ» "(فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ اللَّهُ؟ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16](سورة الْمُلْكِ: الْآيَةَ: 16)، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] (سورة فَاطِرٍ: الْآيَةَ: 10) وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهَا تُرِيدُ وَصْفَهُ بِالْعُلُوِّ، وَبِذَلِكَ يُوصَفُ مَنْ كَانَ شَأْنُهُ الْعُلُوَّ، يُقَالُ مَكَانُ فُلَانٍ فِي السَّمَاءِ، يَعْنِي عُلُوَّ حَالِهِ وَرِفْعَتَهُ وَشَرَفَهُ. ( «فَقَالَ: مَنْ أَنَا؟ فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْتِقْهَا» ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَابْنُ بُكَيْرٍ، وَقُتَيْبَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ فَزَادُوا:" «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْيَاءُ كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ، قُلْتُ: وَكُنَّا نَتَطَيَّرُ، قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ» ". وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ

ص: 146

بْنِ الْحَكَمِ: " «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُمُورٌ كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَأْتِي الْكُهَّانَ، قَالَ: فَلَا تَأْتُوهَا، قُلْتُ: كُنَّا نَتَطَيَّرُ، قَالَ: ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ» ". فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ كَمَا قَالَ النَّاسُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عُمَرُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ هِلَالٍ فَرُبَّمَا كَانَ الْوَهْمُ مِنْ هِلَالٍ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ عَنْهُ فَقَالُوا مُعَاوِيَةُ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا

وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ تَجْوِيزَ أَنَّ الْوَهْمَ مِنْهُ لَمَّا حَدَّثَ مَالِكًا وَتَنَبَّهَ لَمَّا حَدَّثَ غَيْرَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا مَرَّ فِي الْفَرَائِضِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ عِيسَى قَالَ لِمَالِكٍ: النَّاسُ يَقُولُونَ إِنَّك تُخْطِئُ أَسَامِيَ الرِّجَالِ، تَقُولُ: عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ وَإِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا حِفْظُنَا وَهَكَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِي، أَخْرَجَهُ أَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ.

ص: 147

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَارِيَةٍ لَهُ سَوْدَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَإِنْ كُنْتَ تَرَاهَا مُؤْمِنَةً أُعْتِقُهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ أَتُوقِنِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتِقْهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1512 -

1463 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْفَوْقِيَّةِ (ابْنِ مَسْعُودٍ) أَحَدِ الْفُقَهَاءِ (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) ظَاهِرُهُ الْإِرْسَالُ لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتِّصَالِ لِلِقَاءِ عُبَيْدِ اللَّهِ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا وُجِدَ مُرْسَلٌ قَطُّ ; إِذْ وَالْجَوَابُ مَا رَفَعَهُ التَّابِعِيُّ وَهُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى ابْنِ عُمَرَ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ لِلِقَاءِ عُبَيْدِ اللَّهِ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ جَاءَ بِأَمَةٍ لَهُ، وَهَذَا مَوْصُولٌ، وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ (جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَارِيَةٍ لَهُ سَوْدَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً) نَذَرَ عِتْقَهَا أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِكَفَّارَةِ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ (فَإِنْ كُنْتَ تَرَاهَا مُؤْمِنَةً أُعْتِقُهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ) أَيْ أَشْهَدُ بِذَلِكَ (قَالَ: أَتُوقِنِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ) أُوقِنُ بِهِ» ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. ( «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْتِقْهَا» ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ " قَالَ ابْنُ

ص: 147

عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ جَوَّدَ يَحْيَى لَفْظَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ فَلَمْ يَذْكُرَا " فَإِنْ كُنْتَ تَرَاهَا مُؤْمِنَةً، وَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَفَأَعْتِقُ هَذِهِ؟ وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ بِلَفْظِ: "«أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَارِيَةٍ لَهُ سَوْدَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُعْتِقُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ» ". الْحَدِيثَ، فَحَذَفَ مِنْهُ " أَنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً " مَعَ أَنَّهُ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ.

وَرَوَاهُ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَارِيَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَفَأَعْتِقُ هَذِهِ؟ فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ لَهَا: فَمَنْ أَنَا؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ وَإِلَى السَّمَاءِ، أَيْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» ". أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ: إِنَّهُ خَالَفَ حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَجَعَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ شِهَابٍ يَقُولُ: رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّهُ جَاءَ بِأَمَةٍ لَهُ سَوْدَاءَ، وَهُوَ أَحْفَظُ مِنْ عَوْنٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، انْتَهَى. فَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ تَعَدَّدَتْ فَلَا خُلْفَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّحِدَةً فَيُمْكِنُ أَنَّ لِعُبَيْدِ اللَّهِ فِيهِ شَيْخَيْنِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَوَاهَا لَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَوَاهَا عَنْ قِصَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ قَالَتْ: نَعَمْ، عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ بِالْإِشَارَةِ أَوْ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهَا الْأَمْرَانِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، بِاللَّفْظِ حِينَ قَوْلِهِ أَتَشْهَدِينَ. . . إِلَخْ، فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ حِينَ قَوْلِهِ " أَيْنَ اللَّهُ؟ وَمَنْ أَنَا؟ " فَذَكَرَ كُلٌّ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَعَوْنٍ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.

ص: 148

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ الرَّجُلِ تَكُونُ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ هَلْ يُعْتِقُ فِيهَا ابْنَ زِنًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1512 -

1464 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِهَا، كَيْسَانَ أَوِ ابْنِهِ سَعِيدٍ (أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ هَلْ يُعْتَقُ فِيهَا ابْنُ زِنًى؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ، يُجْزِئُهُ ذَلِكَ) لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِنَسَبٍ.

ص: 148

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ تَكُونُ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ وَلَدَ زِنًا قَالَ نَعَمْ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1512 -

1465 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (ابْنِ عُبَيْدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، بِغَيْرِ إِضَافَةٍ (الْأَنْصَارِيِّ) الْأَوْسِيِّ (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ ثُمَّ نَزَلَ دِمَشْقَ وَوَلِيَ قَضَاءَهَا، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ قَبْلَهَا (أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ

ص: 148

عَلَيْهِ رَقَبَةٌ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتِقَ وَلَدَ زِنًى؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ) إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فِي الْقَتْلِ وَإِجْمَاعًا وَفِي الظِّهَارِ خِلَافٌ.

ص: 149

[باب مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْعِتْقِ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ هَلْ تُشْتَرَى بِشَرْطٍ فَقَالَ لَا قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِيهَا الَّذِي يُعْتِقُهَا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِشَرْطٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِرَقَبَةٍ تَامَّةٍ لِأَنَّهُ يَضَعُ مِنْ ثَمَنِهَا لِلَّذِي يَشْتَرِطُ مِنْ عِتْقِهَا قَالَ مَالِكٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّقَبَةَ فِي التَّطَوُّعِ وَيَشْتَرِطَ أَنْ يُعْتِقَهَا قَالَ مَالِكٌ إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ فِيهَا نَصْرَانِيٌّ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا يُعْتَقُ فِيهَا مُكَاتَبٌ وَلَا مُدَبَّرٌ وَلَا أُمُّ وَلَدٍ وَلَا مُعْتَقٌ إِلَى سِنِينَ وَلَا أَعْمَى وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْتَقَ النَّصْرَانِيُّ وَالْيَهُودِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ تَطَوُّعًا لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فَالْمَنُّ الْعَتَاقَةُ قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا الرِّقَابُ الْوَاجِبَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهَا إِلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ فِي إِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْعَمَ فِيهَا إِلَّا الْمُسْلِمُونَ وَلَا يُطْعَمُ فِيهَا أَحَدٌ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعِتْقِ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ

1466 -

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنِ الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ، هَلْ تُشْتَرَى بِشَرْطٍ؟ فَقَالَ: لَا) تُشْتَرَى بِشَرْطِ الْعِتْقِ (قَالَ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِيهَا الَّذِي يُعْتِقُهَا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا ; لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِرَقَبَةٍ تَامَّةٍ لِأَنَّهُ) أَيْ بَائِعُهَا (يَضَعُ) يُسْقِطُ (مِنْ ثَمَنِهَا) أَيْ بَعْضِهِ (لِلَّذِي يَشْتَرِطُ مِنْ عِتْقِهَا) تَحْصِيلًا لِبَعْضِ الثَّوَابِ

(وَلَا بَأْسَ) أَيْ يَجُوزُ (أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّقَبَةَ فِي التَّطَوُّعِ وَيَشْتَرِطَ أَنْ يُعْتِقَهَا) إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ فِي شِرَاءِ رَقَبَةٍ وَيُعْتِقُوهَا تَطَوُّعًا فَوَاحِدٌ بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَوْلَى. (قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ فِيهَا نَصْرَانِيٌّ وَلَا يَهُودِيٌّ) وَلَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْكُفَّارِ بِالْأَوْلَى. (وَلَا يُعْتَقُ فِيهَا مُكَاتَبٌ وَلَا مُدَبَّرٌ وَلَا أُمُّ وَلَدٍ وَلَا مُعْتَقٌ إِلَى سِنِينَ) أَيْ بَعْدَهَا لِمَا فِيهِمْ مِنْ عَقْدِ الْحُرِّيَّةِ فَلَمْ تَكُنْ مُحَرَّرَةً لَمَا وَجَبَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةَ: 92)(وَلَا أَعْمَى) وَلَا نَحْوُهُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْفُرُوعِ.

ص: 149

(وَلَا بَأْسَ) أَيْ يَجُوزُ (أَنْ يُعْتَقَ النَّصْرَانِيُّ وَالْيَهُودِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ تَطَوُّعًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ:){فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4](سورة مُحَمَّدٍ: الْآيَةَ: 4)(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ شَدِّ الْوَثَاقِ (وَإِمَّا فِدَاءً) بِمَالٍ أَوْ أَسْرَى مُسْلِمِينَ (فَالْمَنُّ الْعَتَاقَةُ) أَيِ الْإِطْلَاقُ بِلَا شَيْءٍ (وَأَمَّا الرِّقَابُ الْوَاجِبَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ) فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ (فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهَا إِلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ) لِأَنَّهُ قَيَّدَ بِهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَحَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ. (وَكَذَلِكَ فِي إِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْعِمَ فِيهَا إِلَّا الْمُسْلِمُونَ وَلَا يُطْعِمَ فِيهَا أَحَدٌ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ) مِنْ أَيِّ دِينٍ كَانَ.

ص: 150

[باب عِتْقِ الْحَيِّ عَنْ الْمَيِّتِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أُمَّهُ أَرَادَتْ أَنْ تُوصِيَ ثُمَّ أَخَّرَتْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُصْبِحَ فَهَلَكَتْ وَقَدْ كَانَتْ هَمَّتْ بِأَنْ تُعْتِقَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ «أَيَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا فَقَالَ الْقَاسِمُ إِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أُمِّي هَلَكَتْ فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ عِتْقِ الْحَيِّ عَنِ الْمَيِّتِ

1516 -

1467 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ) عَمْرِو بْنِ (أَبِي عَمْرَةَ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، الثِّقَةِ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ، رَوَى عَنِ الْقَاسِمِ وَعَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ، وَلَهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَمَا أَظُنُّهُ سَمِعَ مِنْهُ وَلَا أَدْرَكَهُ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ عَمِّهِ عَنْهُ، وَيَرْوِي عَنْهُ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ، وَابْنُ أَبِي الْمَوَالِي وَغَيْرُهُمْ، وَجَدُّهُ أَبُو عَمْرَةَ صَحَابِيٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (أَنَّ أُمَّهُ أَرَادَتْ أَنْ تُوصِيَ ثُمَّ أَخَّرَتْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُصْبِحَ فَهَلَكَتْ) مَاتَتْ (وَقَدْ كَانَتْ هَمَّتْ بِأَنْ تَعْتِقَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) ابْنُهَا (فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) ابْنِ

ص: 150

الصِّدِّيقِ (أَيَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ:) يَنْفَعُهَا (إِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) سَيِّدَ الْخَزْرَجِ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي) عَمْرَةَ بِنْتَ مَسْعُودٍ الْخَزْرَجِيَّةَ الصَّحَابِيَّةَ (هَلَكَتْ) مَاتَتْ وَأَنَا غَائِبٌ مَعَكَ فِي غَزْوَةِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ سَنَةَ خَمْسٍ (فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ) زَادَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرُّوَاةِ " أَعْتِقْ عَنْهَا " وَهَذَا مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْقَاسِمَ لَمْ يَلْقَ سَعْدًا، لَكِنَّ قِصَّةَ سَعْدٍ جَاءَتْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مُتَّصِلَةٍ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، فَلَعَلَّ الْقَاسِمَ رَوَاهُ عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ، فَقَدْ رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْهَا كَمَا مَرَّ قَرِيبًا لَكِنْ بِلَفْظِ " أَنْ تَصَدَّقْ عَنْهَا " نَعَمْ، فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: أَفَيُجْزِئُ عَنْهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟ قَالَ: أَعْتِقْ عَنْ أُمِّكَ. فَقَدْ وُجِدَ الْعِتْقُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي قِصَّةِ سَعْدٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مَالِكٍ أَيْضًا لَا كَمَا يُوهِمُهُ قَوْلُ أَبِي عُمَرَ: لَا يَكَادُ يُوجَدُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ هَذَا، وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ فِي قِصَّةِ سَعْدٍ إِنَّمَا هِيَ فِي الصَّدَقَةِ، قَالَ: وَكُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزٌ عَنِ الْمَيِّتِ إِجْمَاعًا وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ عَنْهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَلِمَنْ أَعْتَقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ فَالْوَلَاءُ لَهُ وَإِلَّا فَلِلْمُعْتِقِ، قَالَ - أَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ -: وَجَدْتُ فِي أَصْلِ سَمَاعِ أَبِي بِخَطِّهِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ قَاسِمٍ حَدَّثَهُمْ إِلَى أَنْ قَالَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: " «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالِدَتِي كَانَتْ تَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِي وَتَعْتِقُ مِنْ مَالِي حَيَاتَهَا، فَقَدْ مَاتَتْ أَرَأَيْتَ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا أَوْ عَتَقْتُ عَنْهَا أَتَرْجُو لَهَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى صَدَقَةٍ، قَالَ: اسْقِ الْمَاءَ، قَالَ: فَمَا زَالَتْ جِرَارُ سَعِدٍ بِالْمَدِينَةِ» ".

ص: 151

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نَوْمٍ نَامَهُ فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِقَابًا كَثِيرَةً قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1517 -

1468 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) أَسْلَم قُبَيْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَشَهِدَ الْيَمَامَةَ وَالْفُتُوحَ، وَمَاتَ (فِي نَوْمٍ نَامَهُ) فَجْأَةً فِي طَرِيقِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ بَعْدَهَا (فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ) شَقِيقَتُهُ (عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِقَابًا كَثِيرَةً) لِأَنَّهَا دُونَ قَوْلِ سَعْدٍ:«أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ» ، مَرَّ.

وَالْعِتْقُ مِنْ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ، وَمَرَّتْ رِوَايَةُ: أَعْتِقْ عَنْ أُمِّكَ فَلَعَلَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ. (قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُرْوَى فِي الْعِتْقِ عَنِ الْمَيِّتِ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ وَائِلَةَ

ص: 151

بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: " «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقُلْنَا: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ مَاتَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَعْتِقُوا عَنْهُ يَعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» ". ذَكَرَهُ فِي التَّمْهِيدِ.

ص: 152

[باب فَضْلِ عِتْقِ الرِّقَابِ وَعِتْقِ الزَّانِيَةِ وَابْنِ الزِّنَا]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الرِّقَابِ أَيُّهَا أَفْضَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ فَضْلِ عِتْقِ الرِّقَابِ وَعِتْقِ الزَّانِيَةِ وَابْنِ الزِّنَى

1518 -

1469 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا لِيَحْيَى، وَأَبِي مُصْعَبٍ، وَمُطَرِّفٍ، وَابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَرَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَأَرْسَلَهُ الْأَكْثَرُ، وَكَذَا حَدَّثَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ مُرْسَلًا، وَهُوَ عِنْدَنَا فِي مُوَطَّأِ أَبِي مُصْعَبٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ أَصْحَابُ هِشَامٍ عَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ ابْنُ الْجَارُودِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ عَنْ عَائِشَةَ غَيْرُ مَالِكٍ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ هِشَامٍ يُخَالِفُونَهُ فِي إِسْنَادِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْفَتْحِ، ذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ نَحْوَ عِشْرِينَ نَفْسًا رَوَوْهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَخَالَفَ مَالِكٌ فَأَرْسَلَهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَرَوَاهُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ وَطَائِفَةٌ " فَقَالَتْ عَائِشَةُ "، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الرِّوَايَةُ الْمُرْسَلَةُ عَنْ مَالِكٍ أَصَحُّ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ هِشَامٍ كَمَا قَالَ الْجَمَاعَةُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الرِّقَابِ أَيُّهَا أَفْضَلُ) فِي الْعِتْقِ، وَالسَّائِلُ أَبُو ذَرٍّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي حَدِيثٍ فِيهِ قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَغْلَاهَا ثَمَنًا) بِالْعَيْنِ مُعْجَمَةٌ وَمُهْمَلَةٌ رِوَايَتَانِ، قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ: أَكْثَرُهَا ثَمَنًا، وَهُوَ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ (وَأَنْفَسُهَا) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ أَكْثَرُهَا رَغْبَةً (عِنْدَ أَهْلِهَا) لِمَحَبَّتِهِمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ عِتْقَ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إِلَّا خَالِصًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92](سورة آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةَ: 92) قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَ الشَّخْصِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا رَقَبَةً فَيَعْتِقَهَا فَوَجَدَ رَقَبَةً نَفِيسَةً وَرَقَبَتَيْنِ مَفْضُولَتَيْنِ فَالرَّقَبَتَانِ أَفْضَلُ، قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ الضَّحِيَّةِ، فَالْوَاحِدَةُ السَّمِينَةُ فِيهَا أَفْضَلُ ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا فَكُّ الرَّقَبَةِ وَهُنَاكَ طِيبُ اللَّحْمِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ

ص: 152

الْأَشْخَاصِ، فَرُبَّ شَخْصٍ وَاحِدٍ إِذَا عَتَقَ انْتَفَعَ بِالْعِتْقِ وَانْتَفَعَ بِهِ أَضْعَافَ مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّفْعِ بِعِتْقٍ أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْهُ، وَرُبَّ مُحْتَاجٍ إِلَى كَثْرَةِ اللَّحْمِ لِتَفْرِقَتِهِ عَلَى الْمَحَاوِيجِ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَفِعُ هُوَ بِطِيبِ اللَّحْمِ، فَالضَّابِطُ أَنَّ مَهْمَا كَانَ أَكْثَرَ نَفْعًا كَانَ أَفْضَلَ سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَاحْتُجَّ بِهِ لِمَالِكٍ فِي أَنَّ عِتْقَ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ إِذَا كَانَتْ أَغْلَى ثَمَنًا فَمِنَ الْمُسْلِمَةِ أَفْضَلُ، وَخَالَفَهُ أَصْبَغُ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: الْمُرَادُ أَغْلَى ثَمَنًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، انْتَهَى. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ عِتْقِ الْكَافِرِ، لَكِنَّ الْفَضْلَ التَّامَّ إِنَّمَا هُوَ فِي عِتْقِ الْمُؤْمِنِ. وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ عِتْقَ الْأَغْلَى ثَمَنًا أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، يَعْنِي لِظَاهِرِ حَدِيثِهِ هَذَا، قَالَ: وَخَالَفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَلِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ كَالشَّهَادَةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ الْمُرَجَّحُ أَنَّ عِتْقَ الذَّكَرِ أَفْضَلُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيِّ مَرْفُوعًا:" «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا بِعَظْمٍ مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ» ". فَجُعِلَ عِتْقُ الذَّكَرِ كَامْرَأَتَيْنِ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ مَنَافِعَ الذَّكَرِ أَفْضَلُ كَالْجِهَادِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ الطَّاعَةَ مِنْهُمْ أَوْجَهُ، وَالرِّقَّ فِيهِمْ أَكْثَرُ حَتَّى إِنَّ الْجَوَارِيَ مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْعِتْقِ وَتَضِيعُ مَعَهُ، وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِسِرَايَةِ الْحُرِّيَّةِ فِيمَنْ تَلِدُ الْأُنْثَى كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ مَا ذُكِرَ أَنَّ عِتْقَ الْأُنْثَى غَالِبًا يَسْتَلْزِمُ ضَيَاعَهَا، وَأَنَّ فِي عِتْقِ الذَّكَرِ مِنَ الْمَعَانِي الْعَامَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِنَاثِ.

ص: 153

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ وَلَدَ زِنًا وَأُمَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1518 -

1470 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ وَلَدَ زِنًى وَأُمَّهُ) أَيْ وَالِدَتَهُ الَّتِي زَنَتْ بِهِ.

ص: 153

[باب مَصِيرِ الْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَنْكِ عَدَدْتُهَا وَيَكُونَ لِي وَلَاؤُكِ فَعَلْتُ فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهَا فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَيَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ مَصِيرِ الْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ

1519 -

1471 - (مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ (عَنْ) خَالَتِهِ (عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَرَاءَيْنَ بِلَا نَقْطٍ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٍ

ص: 153

بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَرِيرِ وَهُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ، وَقِيلَ كَأَنَّهَا فَعِيلَةٌ مِنَ الْبُرِّ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَمَبْرُورَةٍ أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ كَرَحِيمَةٍ، هَكَذَا وَجَّهَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَيَّرَ اسْمَ جُوَيْرِيَةَ، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، وَقَالَ: " لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» ". فَلَوْ كَانَتْ بَرِيرَةُ مِنَ الْبِرِّ لَشَارَكَتْهَا فِي ذَلِكَ، وَكَانَتْ بَرِيرَةُ لِنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَمَا عِنْد أَبِي نُعَيْمٍ، وَقِيلَ لِنَاسٍ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ، وَقِيلَ لِآلِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ زَوْجَهَا مُغِيثٌ هُوَ الَّذِي كَانَ مَوْلَى أَبِي أَحْمَدَ، وَقِيلَ لِآلِ عُقْبَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا لِأَنَّ مَوْلَى عُقْبَةَ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَكَرَتْ لَهُ قِصَّةَ بَرِيرَةَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَكَانَتْ بَرِيرَةُ تَخْدِمُ عَائِشَةَ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَعَاشَتْ إِلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَتَفَرَّسَتْ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ يَلِي الْخِلَافَةَ فَبَشَّرَتْهُ بِذَلِكَ، وَرَوَاهُ هُوَ عَنْهَا كَمَا قَدَّمْتُهُ. (فَقَالَتْ: إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي) يَعْنِي سَادَاتَهَا، وَالْأَهْلُ فِي الْأَصْلِ الْآلُ (عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ) بِوَزْنِ جَوَارٍ، وَالْأَصْلُ أَوَاقِيُّ بِشَدِّ الْيَاءِ فَحُذِفَتْ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ تَخْفِيفًا وَالثَّانِيَةُ عَلَى طَرِيقَةِ قَاضٍ (فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنْ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَعَلَيْهَا خَمْسُ أَوَاقٍ نَجَمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ، وَجَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهَا غَلَطٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ التِّسْعَ أَصْلٌ وَالْخَمْسَ كَانَتْ بَقِيَتْ عَلَيْهَا، وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُعَكَّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: وَلَمْ تَكُنْ أَدَّتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، وَأُجِيبُ بِأَنَّهَا كَانَتْ حَصَّلَتِ الْأَرْبَعَ أَوَاقٍ قَبْلَ أَنْ تَسْتَعِينَ بِعَائِشَةَ ثُمَّ جَاءَتْهَا وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهَا خَمْسَةٌ، وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْخَمْسَ هِيَ الَّتِي كَانَتِ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهَا بِحُلُولِ نُجُومِهَا مِنْ جُمْلَةِ التِّسْعِ الْأَوَاقِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: فَقَالَ أَهْلُهَا: إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ مَا تَبَقَّى (فَأَعِينِينِي) بِصِيغَةِ أَمْرِ الْمُؤَنَّثِ مِنَ الْإِعَانَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ " فَأَعْيَتْنِي " بِصِيغَةِ الْخَبَرِ الْمَاضِي مِنَ الْإِعْيَاءِ، أَيْ أَعْجَزَتْنِي الْأَوَاقِيُّ عَنْ تَحْصِيلِهَا وَهُوَ مُتَّجِهُ الْمَعْنَى، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ: فَأَعْتِقِينِي، مِنَ الْعِتْقِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ هِشَامٍ الْأَوَّلُ. (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ، مَوَالِيكِ (أَنْ أَعُدَّهَا) أَيِ التِّسْعَ أَوَاقٍ (لَهُمْ) ثَمَنًا (عَنْكِ عَدَدْتُهَا) فِيهِ أَنَّ الْعَدَّ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَعْلُومَةِ الْوَزْنِ يَكْفِي عَنِ الْوَزْنِ، وَأَنَّ الْمُعَامَلَةَ حِينَئِذٍ كَانَتْ بِالْأَوَاقِيِّ، وَزَعَمَ

ص: 154

بَعْضُهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالْعَدِّ حَتَّى قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ بِالْوَزْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قِصَّةً بَرِيرَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ ثَمَانِ سِنِينَ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ أَنْ أَعُدَّهَا أَيْ أَدْفَعَهَا لَا حَقِيقَةَ الْعَدِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهَا فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ الْآتِيَةِ: أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً (وَيَكُونَ) عَطْفًا عَلَى " أَعُدَّهَا "(وَلَاؤُكِ لِي) بَعْدَ أَنْ أُعْتِقَكِ (فَعَلْتُ) جَوَابُ الشَّرْطِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهَا إِذَا بَذَلَتْ جَمِيعَ مَالِ الْمُكَاتَبَةِ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ ; إِذْ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ اللَّوْمُ عَلَى عَائِشَةَ بِطَلَبِهَا وَلَاءَ مَنْ أَعْتَقَهُ غَيْرُهَا، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ وَوُهَيْبٌ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً، وَأُعْتِقَكِ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَهَا شِرَاءً صَحِيحًا ثُمَّ تَعْتِقَهَا ; إِذِ الْعِتْقُ فَرْعُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي (فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ) الَّذِي قَالَتْهُ عَائِشَةُ (فَأَبَوْا عَلَيْهَا) أَيِ امْتَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِعَائِشَةَ (فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا) إِلَى عَائِشَةَ (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ) عِنْدَهَا (فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ الَّذِي قُلْتِيهِ (فَأَبَوْا عَلَيَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ) اسْتِثْنَاءٌ مُفْرَّغٌ ; لِأَنَّ فِي أَبَى مَعْنَى النَّفْيِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَبَى اللَّهُ إِلَّا كَذَا وَلَا يُقَالُ كَرِهْتُ وَأَبْغَضْتُ إِلَّا زَيْدًا؟ قُلْتُ: قَدْ أَجْرَى أَبَى مَجْرَى لَمْ يُرِدْ، أَلَا تَرَى كَيْفَ قُوبِلَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَيَأْبَى اللَّهُ، وَكَيْفَ أُوقِعَ مَوْقِعَ وَلَا يُرِيدُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. (فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَرِيرَةَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ (فَسَأَلَهَا) أَيْ عَائِشَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَقَالَ: «مَا شَأْنُ بَرِيرَةَ» ؟ (فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ) بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ: فَجَاءَتْنِي بَرِيرَةُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ لِي: فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهَا مَا رَدُّ أَهْلِهَا، فَقُلْتُ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا وَرَفَعْتُ صَوْتِي وَانْتَهَرْتُهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِيهَا) أَيِ اشْتَرِيهَا مِنْهُمْ، لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، فَقَالَ: ابْتَاعِي وَأَعْتِقِي، فَهَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ خُذِيهَا، وَكَذَا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ قَالَتْ: اشْتَرِينِي وَأَعْتِقِينِي، قُلْتُ: نَعَمْ

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ التَّالِي: لِهَذَا أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ

ص: 155

تَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَتُعْتِقَهَا (فَاشْتَرِطِي) بِصِيغَةِ أَمْرِ الْمُؤَنَّثِ مِنَ الشَّرْطِ (لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) فَعَبَّرَ بِإِنَّمَا الَّتِي لِلْحَصْرِ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ نَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ (فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ) الشِّرَاءَ وَالْعِتْقَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: كَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ هِشَامٍ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ، وَاسْتُشْكِلَ صُدُورُ إِذْنهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْعِ عَلَى شَرْطٍ يُفْسِدُ الْبَيْعَ، وَخِدَاعِ الْبَائِعِينَ، وَشَرْطِ مَا لَا يَصِحُّ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ، وَلِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ إِلَى تَضْعِيفِ رِوَايَةِ هِشَامٍ الْمُصَرِّحَةِ بِالِاشْتِرَاطِ لِانْفِرَادِهِ بِهَا دُونَ أَصْحَابِ أَبِيهِ، وَرِوَايَاتُ غَيْرِهِ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ هِشَامًا رَوَى بِالْمَعْنَى مَا سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، وَأَثْبَتَ الرِّوَايَةَ آخَرُونَ، وَقَالُوا: هِشَامٌ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: وَكَلَامُ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ غَلَطٌ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي التَّوْجِيهِ فَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ بِلَفْظِ:" وَأَشْرِطِي " بِهَمْزَةِ قَطْعٍ بِغَيْرِ فَوْقِيَّةٍ، وَمَعْنَاهُ أَظْهِرِي لَهُمْ حُكْمَ الْوَلَاءِ، وَالِاشْتِرَاطُ الْإِظْهَارُ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ يَذْكُرُ رَجُلًا نَزَلَ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ إِلَى نَبْقَةٍ يَقْطَعُهَا لِيَتَّخِذَ مِنْهَا قَوْسًا:

فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْصِمٌ

وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا

أَيْ أَظْهَرَ نَفْسَهُ لَمَّا حَاوَلَ أَنْ يَفْعَلَ، انْتَهَى. فَأَنْكَرَ غَيْرُهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ الَّذِي فِي الْأُمِّ وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ كَرِوَايَةِ الْجُمْهُورِ " وَاشْتَرِطِي " بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7](سورة الْإِسْرَاءِ: الْآيَةَ 7) قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَنْكَرَ الِاشْتِرَاطَ وَلَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى عَلَى لَمْ يُنْكِرْهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَنْكَرَ إِرَادَةَ الِاشْتِرَاطِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَأْبَى ذَلِكَ. وَضَعَّفَهُ أَيْضًا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ اللَّامَ لَا تَدُلُّ بِوَضْعِهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ النَّافِعِ بَلْ عَلَى مُطْلَقِ الِاخْتِصَاصِ، فَلَا بُدَّ فِي حَمْلِهَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَرِينَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَمْرُ فِي اشْتَرِطِي لِلْإِبَاحَةِ عَلَى جِهَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ، فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ كَأَنَّهُ قَالَ: اشْتَرِطِي أَوْ لَا تَشْتَرِطِي. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: اشْتَرِيهَا وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا. وَقِيلَ: كَانَ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَائِعِ الْوَلَاءَ بَاطِلٌ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ بَرِيرَةَ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَشْتَرِطُوا مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ، أَطْلَقَ الْأَمْرَ مُرِيدًا التَّهْدِيدَ عَلَى مَآلِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105](سورة التَّوْبَةِ: الْآيَةَ: 105) وَكَقَوْلِ مُوسَى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80](سورة يُونُسَ: الْآيَةَ: 80) فَلَيْسَ بِنَافِعِكُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اشْتَرِطِي لَهُمْ

ص: 156

فَسَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ بِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ بَيَانُ حُكْمِ اللَّهِ بِإِبْطَالِهِ ; إِذْ لَوْ لَمْ يُقَدِّمْ بَيَانَ ذَلِكَ لَبَدَأَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ فِي الْخُطْبَةِ لَا بِتَوْبِيخِ الْفَاعِلِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْأَمْرُ وَبَاطِنُهُ النَّهْيُ كَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40](سورة فُصِّلَتْ: الْآيَةَ: 40) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا كَانَ مَنِ اشْتَرَطَ خِلَافَ مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَاصِيًا وَكَانَ فِي الْمَعَاصِي حُدُودٌ وَأَدَبٌ، كَانَ مِنْ أَدَبِ الْعَاصِينَ أَنْ تُعَطَّلَ عَلَيْهِمْ شُرُوطُهُمْ لِيَرْتَدِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَرْتَدِعَ غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَيْسَرِ الْأَدَبِ، وَقِيلَ: مَعْنَى " اشْتَرِطِي " اتْرُكِي مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا شَرَطُوهُ وَلَا تُظْهِرِي نِزَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوهُ مُرَاعَاةً لِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ التَّرْكِ بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةَ: 102) أَيْ بِتَرْكِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ إِبَاحَةَ الْإِضْرَارِ بِالسِّحْرِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِعَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَأَنَّ سَبَبَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الرُّجُوعِ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ لِمُخَالَفَتِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ، وَهُوَ كَفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ الْحَجَّةِ مُبَالَغَةً فِي إِزَالَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ إِذَا اسْتَلْزَمَ إِزَالَةَ أَشَدِّهِمَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَبِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَلَاءِ وَالْعِتْقِ كَانَ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَابِقًا عَلَيْهِ، فَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ " اشْتَرِطِي " مُجَرَّدُ وَعْدٍ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ شَخْصًا أَنْ يَعِدَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفِي بِذَلِكَ الْوَعْدِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: كَانَ الْحُكْمُ بِجَوَازِ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الْأَمْرُ بِاشْتِرَاطِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ جَائِزًا فِيهِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْخُطْبَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى بَعْدَهُ وَسِيَاقُ طُرُقِ الْحَدِيثِ تَدْفَعُ فِي وَجْهِ هَذَا الْجَوَابِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلَاءَ لَمَّا كَانَ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ، وَلَوْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا ثَبَتَ لَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَوْ أَرَادَ نَقْلَ وَلَائِهِ عَنْهُ أَوْ أَذِنَ فِي نَقْلِهِ عَنْهُ لَمْ يَنْتَقِلْ لَمْ يَعْبَأْ بِاشْتِرَاطِهِمُ الْوَلَاءَ، وَقِيلَ: اشْتَرِطِي وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَقْدِ، بَلْ بِمَنْزِلَةِ لَغْوِ الْكَلَامِ وَأَخَّرَ إِعْلَامَهُمْ لِيَكُونَ رَدُّهُ وَإِبْطَالُهُمْ قَوْلًا شَهِيرًا يُخْطَبُ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ظَاهِرًا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّكِيرِ وَآكَدُ فِي التَّغْيِيرِ، انْتَهَى. وَهُوَ يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

(ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ) خَطِيبًا (فَحَمِدَ اللَّهَ

ص: 157

وَأَثْنَى عَلَيْهِ) بِمَا هُوَ أَهْلُهُ (ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَفِيهِ الْقِيَامُ فِي الْخُطْبَةِ وَابْتِدَاؤُهَا بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَأَمَّا بَعْدُ (فَمَا) بِالْفَاءِ فِي جَوَابِ أَمَّا، وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ بِلَا فَاءٍ عَلَى الْقَلِيلِ (بَالُ) أَيْ حَالُ (رِجَالٍ) وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ وَالْعِشْرَةِ فَلَمْ يُوَاجِهْهُمْ بِالْخِطَابِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَسْمَائِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ تَقْرِيرُ شَرْعٍ عَامٍّ لِلْمَذْكُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَلِلصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ قِصَّةِ عَلِيٍّ فِي خِطْبَتِهِ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ فَكَانَتْ خَاصَّةً بِفَاطِمَةَ فَلِذَا عَيَّنَهَا ( «يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» ) أَيْ لَيْسَتْ فِي حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ مِنْ كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ: لِمَا حَكَمَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ وَقَضَاؤُهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي نَصِّ الْكِتَابِ وَلَا دَلَالَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. زَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَوْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: أَيْ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ جَوَازُهُ أَوْ وُجُوبُهُ ; لِأَنَّ كُلَّ شَرْطِ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الْقُرْآنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُشْتَرَطُ الْكَفِيلُ فَلَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ شَرْطٌ مِنْ أَوْصَافِهِ أَوْ نُجُومِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَبْطُلُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ لَيْسَ مَشْرُوعًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَأْصِيلًا وَلَا تَفْصِيلًا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُوجَدُ تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَالْوُضُوءِ، وَمِنْهَا مَا يُوجَدُ تَأْصِيلُهُ دُونَ تَفْصِيلِهِ كَالصَّلَاةِ، وَمِنْهَا مَا أُصِّلَ أَصْلُهُ لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ عَلَى أَصْلِيَّةِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ فَكُلُّ مَا يُقْتَبَسُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ تَفْصِيلًا فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَأْصِيلًا. ( «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» ) جَوَابُ مَا الْمَوْصُولَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَعْنَى الشَّرْطِ ( «وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: خَرَجَ مَخْرَجَ التَّكْثِيرِ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ فِي قَوْلِهِ: مَا كَانَ. . . إِلَخْ، دَالٌّ عَلَى بُطْلَانِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ وَلَوْ زَادَتْ عَلَى مِائَةِ شَرْطٍ، يَعْنِي أَنَّ الشُّرُوطَ الْغَيْرَ مَشْرُوعَةٍ بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَشْرُوعَةَ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ الْمَازَرِيُّ: الشُّرُوطُ ثَلَاثَةٌ: شَرْطُ الْعَقْدِ كَالتَّسْلِيمِ وَالتَّصَرُّفِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَلُزُومِهِ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ. وَشَرْطٌ لَا يَقْتَضِهِ بَلْ هُوَ مُصْلِحٌ لَهُ كَرَهْنٍ وَحَمِيلٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يَلْزَمُ إِلَّا بِشَرْطٍ. وَشَرْطٌ مُنَاقِضٌ لِلْعَقْدِ، فَهَذَا اضْطَرَبَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ بُطْلَانُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ مَعًا لِحَدِيثِ:" «مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» " وَلِمَا فِي الْعَقْدِ مِنَ الْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُضِعَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ فَلَهُ حِصَّةٌ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ، فَيَجِبُ بُطْلَانُ مَا قَابَلَهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ تُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ مَا سِوَاهُ فَيَجِبُ فَسْخُ الْجَمِيعِ، وَقِيلَ: يَبْطُلُ الشَّرْطُ خَاصَّةً (قَضَاءُ اللَّهِ) أَيْ حُكْمُهُ (أَحَقُّ) بِالِاتِّبَاعِ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُخَالِفَةِ.

(وَشَرْطُ اللَّهِ) أَيْ قَوْلُهُ: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5](سورة الْأَحْزَابِ: الْآيَةَ: 5)

ص: 158

وَقَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7](سورة الْحَشْرِ: الْآيَةُ 7) لِآيَةٍ قَالَهَا الدَّاوُدِيُّ. قَالَ عِيَاضٌ: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ". وَقَوْلُهُ: " «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ". وَقَوْلُهُ: " «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ". (أَوْثَقُ) أَقْوَى بِاتِّبَاعِ حُدُودِهِ الَّتِي حَدَّهَا وَأَفْعَلُ فِيهِمَا لَيْسَ عَلَى بَابِهِ إِذْ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَدْ جَاءَ أَفْعَلُ لِغَيْرِ التَّفْضِيلِ كَثِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ الْجَوَازِ. ( «وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ) ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثًى وَاحِدًا أَوْ جَمْعًا ; لِأَنَّ " مَنْ " لِلْعُمُومِ لَا لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَا يَحْلِفُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَلَا لِلْمُلْتَقَطِ خِلَافًا لِإِسْحَاقَ، وَفِيهِ جَوَازُ السَّجْعِ غَيْرِ الْمُتَكَلَّفِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ سَجْعِ الْكُهَّانِ وَشَبَّهَهُ لِتَكَلُّفِهِ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى مَطْوِيِّ الْغَيْبِ، وَجَوَازُ كِتَابَةِ الْأَمَةِ كَالْعَبْدِ، وَكِتَابَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الزَّوْجُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهَا لَوْ كَانَتْ تُؤَدِّي إِلَى فِرَاقِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ الْمُتَزَوِّجِ مَنْعُ السَّيِّدِ مِنْ عِتْقِ أَمَتِهِ الَّتِي تَحْتَهُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى بُطْلَانِ نِكَاحِهَا، وَجَوَازُ سَعْيِ الْمُكَاتَبَةِ وَسُؤَالِهَا وَاكْتِسَابِهَا وَتَمْكِينِ السَّيِّدِ لَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَمَحَلُّهُ إِذَا عَلِمَ حِلَّ كَسْبِهَا، وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ كَسْبِ الْأَمَةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حِلَّهُ أَوْ غَيْرِ الْمُكَاتَبَةِ، وَأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ حِينِ الْكِتَابَةِ وَلَا يُشْتَرَطَ عَجْزُهُ خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَهُ، وَجَوَازُ السُّؤَالِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ غُرْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَالْمُسَاوَمَةِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَتَشْدِيدِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ فِيهَا، وَتَصَرُّفِ الْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ لِنَفْسِهَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ مُتَزَوِّجَةً خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهِ لَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مُقَامَهُ، وَأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ جَازَ تَصَرُّفُهُ، وَجَوَازُ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْعِتْقِ إِظْهَارُ ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الرَّقَبَةِ لِيُسَاهِلُوهُ فِي الثَّمَنِ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ وَإِنْكَارِ الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ وَانْتِهَارِ الرَّسُولِ فِيهِ، وَأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا بِيعَ بِالنَّقْدِ فَالرَّغْبَةُ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا إِذَا بِيعَ بِالنَّسِيئَةِ، وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَجَّلَ بَعْضَ كِتَابَتِهِ قَبْلَ الْمَحَلِّ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَنْهُ سَيِّدُهُ الْبَاقِيَ يُجْبَرُ، وَجَوَازُ الْكِتَابَةِ عَلَى قِيمَةِ الرَّقِيقِ وَأَقَلَّ مِنْهَا وَأَكْثَرَ ; لِأَنَّ مِنَ الثَّمَنِ الْمَنَجَّزِ وَالْمُؤَجَّلِ فَرْقًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَذَلَتْ عَائِشَةُ الْمُؤَجَّلَ نَاجِزًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا بِالتَّأْجِيلِ أَكْثَرُ مِمَّا كُوتِبَتْ بِهِ وَكَانَ أَهْلُهَا بَاعُوهَا بِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33](سورة النُّورِ: الْآيَةَ: 33) الْقُدْرَةُ عَلَى الْكَسْبِ وَالْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَتِ الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَالَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْمَالُ مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنِ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ، فَنُسِبَ إِلَى التَّنَاقُضِ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ فَكَيْفَ يُكَاتِبُهُ بِمَالِهِ؟ وَمَنْ يَقُولُ: الْعَبْدُ يَمْلِكُ، لَا يُرَدُّ هَذَا عَلَيْهِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ. وَفِيهِ جَوَازُ مَنْ لَا حِرْفَةَ لَهُ وَقَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَلَفَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَذَلِكَ أَنْ بَرِيرَةَ اسْتَعَانَتْ عَلَى

ص: 159

كِتَابَتِهَا، فَلَوْ كَانَ لَهَا حِرْفَةٌ أَوْ مَالٌ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ؛ لِأَنَّ كِتَابَتَهَا لَمْ تَكُنْ حَالَّةً. وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ ابْتَاعَتْ بَرِيرَةَ مُكَاتَبَةً، وَهِيَ لَمْ تَقْبِضْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا. وَجَوَازُ أَخْذِ الْكِتَابَةِ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ. وَمَشْرُوعِيَّةُ إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ بِالصَّدَقَةِ، وَجَوَازُ التَّأْقِيتِ فِي الدُّيُونِ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِانْقِضَاءِ الشَّهْرِ الْحُلُولُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَنَظَرَ فِيهِ بِاحْتِمَالِ أَنَّ قَوْلَ بَرِيرَةَ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، أَيْ فِي غُرَّتِهِ مَثَلًا، وَعَلَى تَسْلِيمِهِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالدُّيُونِ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا عَجَزَ حَلَّ لِسَيِّدِهِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الدُّيُونِ وَغَيْرِهَا، وَقِصَّةُ بَرِيرَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ قَصَّرَ فِي بَيَانِ تَعْيِينِ الْوَقْتِ وَإِلَّا يَصِيرُ الْأَجَلُ مَجْهُولًا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْعِ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّ النَّاسَ أَكْثَرُوا فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَادَ وَمِنْهُمْ مَنْ خَلَطَ وَأَتَى بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: فِيهِ إِبَاحَةُ الْبُكَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ لِبُكَاءِ زَوْجِ بَرِيرَةَ، وَذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي النِّكَاحِ أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ، وَابْنَ جَرِيرٍ أَلَّفَ كُلٌّ مِنْهُمَا كِتَابًا فِي ذَلِكَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَبَلَّغَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَوَائِدَهُ أَرْبَعَمِائَةٍ أَكْثَرُهَا مُسْتَبْعَدٌ مُتَكَلَّفٌ، كَمَا وَقَعَ نَظِيرُ ذَلِكَ لِلَّذِي صَنَّفَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ فَبَلَغَ بِهِ أَلْفَ فَائِدَةٍ وَوَاحِدَةً. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبُيُوعِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الشُّرُوطِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَجَمَاعَةٌ بِكَثْرَةٍ عَنْ هِشَامٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ عِنْدَهُمْ.

ص: 160

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا فَقَالَ أَهْلُهَا نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا يَمْنَعَنَّكِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1520 -

1472 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) وَلِيَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهَا، وَأَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَفَرُّدِهِ عَنْ مَالِكٍ بِذَلِكَ، وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِعْنَ هُنَا الرِّوَايَةَ عَنْهَا نَفْسِهَا بَلْ فِي السِّيَاقِ شَيْءٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ فِي أَنَّهَا (أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً) هِيَ بَرِيرَةُ (تُعْتِقُهَا) بِالرَّفْعِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِتُعْتِقَهَا بِلَامٍ، وَفِي أُخْرَى فَتُعْتِقَهَا بِالْفَاءِ بَدَلَ اللَّامِ، فَهُوَ بِالنَّصْبِ (فَقَالَ أَهْلُهَا) مَوَالِيهَا (نَبِيعُكِهَا) بِكَسْرِ الْكَافِ (عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا فَذَكَرَتْ) عَائِشَةُ (ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا سَأَلَهَا حِينَ سَمِعَ إِخْبَارَ بَرِيرَةَ لَهَا

ص: 160

كَمَا مَرَّ (فَقَالَ: لَا يَمْنَعَنَّكِ) بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، وَلِيَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ بِدُونِهَا (ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ: ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي، وَلَيْسَ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنَ الْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ السَّابِقَةِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَعَلَّ هِشَامًا أَوْ عُرْوَةَ حِينَ سَمِعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمْنَعَنَّكِ ذَلِكَ، رَأَى أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَشْتَرِطَ لَهُمُ الْوَلَاءَ فَلَمْ يَقِفْ مِنْ حَفِظَهُ عَلَى مَا وَقَفَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ، وَرُدَّ بِأَنَّ هِشَامًا ثِقَةٌ، حَافِظٌ، حَدِيثُهُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِ، فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ بِمَا مَرَّ.

(فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنَّ الْوَلَاءَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَعْتَقَ، قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1](سورة الْمُطَفِّفِينَ: الْآيَةَ: 1) أَوْ لِلصَّيْرُورَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِغَيْرِ مَنْ أَعْتَقَ، قَالَ الْمَازَرِيُّ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِمُلْتَقِطِ اللَّقِيطِ خِلَافًا لِإِسْحَاقَ، وَلَا لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْوَلَاءُ فِي جَمِيعِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ وَارِثٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ فَيَرِثَهُ. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ الْحُكْمَ لِلْمَذْكُورِ وَتَنْفِيهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِتَحْقِيقِ الْمُتَّصِلِ وَتَمْحِيقِ الْمُنْفَصِلِ، قَالَ الْأُبِّيُّ:" إِنَّمَا " مُرَكَّبَةٌ مِنْ " إِنَّ " الَّتِي هِيَ حَرْفُ نَفْيٍ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْحُرُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا، ثُمَّ الضَّمِّ، وَلَمَّا اسْتَحَالَ رَدُّ النَّفْيِ إِلَى نَفْسِ الْمُثْبَتِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى إِثْبَاتِهِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَبِهِ عُرِفَ الْمُتَّصِلُ وَتَمْحِيقُ الْمُنْفَصِلِ، انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْعِتْقِ وَالْبَيْعِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْفَرَائِضِ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 161

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا فَقَالُوا لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَنَا وَلَاؤُكِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أَنَّ عَائِشَةَ «ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1521 -

1473 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَنْصَارِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ، الْمُكْثِرَةِ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) تَطْلُبُ مِنْهَا الْإِعَانَةَ عَلَى مَا كُوتِبَتْ بِهِ، قَالَ الْحَافِظُ: صُورَةُ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالُ وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنِ الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ يَحْيَى: سَمِعْتُ عَمْرَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، فَظَهَرَ أَنَّهُ مَوْصُولٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: عَنْ عَائِشَةَ أَنْ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ) سَادَاتُكِ (أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً) أَيْ أَدْفَعَهُ عَاجِلًا فِي مَرَّةٍ، تَشْبِيهًا بِصَبِّ الْمَاءِ وَهُوَ انْسِكَابُهُ (وَأُعْتِقَكِ)

ص: 161

بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالنُّصْبِ عَطْفًا عَلَى " أَصُبَّ "(فَعَلْتُ) ذَلِكَ (فَذَكَرَتْ) بِإِسْكَانِ التَّاءِ (ذَلِكَ بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا) لِمَوَالِيهَا (فَقَالُوا: لَا) نَبِيعُكِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَنَا وَلَاؤُكِ، قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى بْن سَعِيدٍ) شَيْخُهُ (فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ) الزَّعْمُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ أَيْ قَالَتْ (أَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ) لَا لِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ جَوَازُ بِيعِ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يُعَجِّزْ نَفْسَهُ، قَوْلُ أَحْمَدَ وَرَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَلَى تَفَاصِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ، وَأَجَابُوا عَنْ قِصَّةِ بَرِيرَةَ بِأَنَّهَا عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِعَانَةِ بَرِيرَةَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي اسْتِعَانَتِهَا مَا يَسْتَلْزِمُ الْعَجْزَ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ مَنْ لَا مَالَ عِنْدَهُ وَلَا حِرْفَةَ لَهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ النَّجْمِ وَلَا أَخْبَرَتْ بِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ اسْتِفْصَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَشْبَهُ مَا قِيلَ إِنَّهَا عَجَزَتْ، كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى مِنَ الْحُقُوقِ إِلَّا مَا وَجَبَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ قَوْلَهَا " كَاتَبْتُ أَهْلِي " فَقَالَ: مَعْنَاهُ رَاوَضْتُهُمْ وَاتَّفَقْتُ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ وَلَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ فَبَعْدَ رَدِّ ذَلِكَ بِيعَتْ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى بَيْعِ الْمُكَاتَبِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: الَّذِي اشْتَرَتْهُ عَائِشَةُ كِتَابَةُ بَرِيرَةَ لَا رَقَبَتُهَا، وَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ وَقَالَ: يُؤَدَّى إِلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ عَجَزَ رَقَّ لَهُ. وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَرَأَيَاهُ غَرَرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَحْصُلُ لَهُ النُّجُومُ أَوِ الرَّقَبَةُ، وَاسْتَبْعَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ بَاعُوهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ صَحَّ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَبْطُلُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَيَحْيَى الْقَطَّانُ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِنَحْوِهِ.

ص: 162

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ» قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَبْتَاعُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ عَلَى أَنَّهُ يُوَالِي مَنْ شَاءَ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ مَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ فَإِذَا جَازَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لَهُ وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ فَتِلْكَ الْهِبَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1522 -

1474 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ

ص: 162

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ مَمْدُودٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَلِيِّ؛ وَأَمَّا مِنَ الْإِمَارَةِ فَالْوِلَاءُ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَقِيلَ فِيهِمَا بِالْوَجْهَيْنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ وَالْمُرَادُ بِهِ هَنَا وَلَاءُ الْإِنْعَامِ بِالْعِتْقِ.

(وَعَنْ هِبَتِهِ) أَيِ الْوَلَاءِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْقُلُونَ الْوَلَاءَ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِ ابْنِ دِينَارٍ، وَاحْتَاجَ النَّاسُ فِيهِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ حَتَّى قَالَ مُسْلِمٌ: النَّاسُ كُلُّهُمْ عِيَالٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ سَبْعَةٍ فِي صَحِيحِهِ، وَأَوْرَدَهُ غَيْرُهُ عَنْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدَّثُوا بِهِ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَوَاهُ ابْنُ المَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ خَطَأٌ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ، وَجَمِيعُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَذْكُرُوا عُمَرَ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» ". قَالَ الْأُبِّيُّ: هَذَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم تَعْرِيفٌ لِحَقِيقَةِ الْوَلَاءِ شَرْعًا، وَلَا تَجِدُ تَعْرِيفًا أَتَمَّ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْعَتِيقِ نِسْبَةً تُشْبِهُ نِسْبَةَ النَّسَبِ وَلَيْسَتْ بِهِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْعَبْدَ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ كَالْمَعْدُومِ فِي نَفْسِهِ وَالْمُعْتِقُ صَيَّرَهُ مَوْجُودًا، كَمَا أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَعْدُومًا فَتَسَبَّبَ الْأَبُ فِي وُجُودِهِ، انْتَهَى. وَأَصْلُهُ قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَى " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَهُ بِالْحُرِّيَّةِ إِلَى النَّسَبِ حُكْمًا كَمَا أَنَّ الْأَبَ أَخْرَجَهُ بِالنُّطْفَةِ إِلَى الْوُجُودِ حِسًّا ; لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لَا يَقْضِي وَلَا يَلِي وَلَا يَشْهَدُ، فَأَخْرَجَهُ سَيِّدُهُ بِالْحُرِّيَّةِ إِلَى وُجُودِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ عَدَمِهَا، فَلَمَّا شَابَهَ حُكْمَ النِّسَبِ أُنِيطَ بِالْعِتْقِ فَلِذَا جَاءَ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَأُلْحِقَ بِرُتْبَةِ النَّسَبِ، فَنَهَى عَنْ بَيْعِهِ وَعَنْ هِبَتِهِ، وَأَجَازَ بَعْضُ السَّلَفِ نَقْلَهُ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْحَدِيثُ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَبْتَاعُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ عَلَى أَنَّهُ يُوَالِي مَنْ شَاءَ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ) لَا يَصِحُّ (وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَكْثَرُ، وَقِيلَ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. (وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِمَوْلَاهُ) عَتِيقَهُ (أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ مَا جَازَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ) هَكَذَا وَرَدَ أَيْضًا بِدُونِ إِنَّمَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْخَطِيبِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ( «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ» ) بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، حَقُّ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ مِنَ

ص: 163

الْعَتِيقِ (وَعَنْ هِبَتِهِ، فَإِذَا جَازَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ) أَيِ الْوَلَاءَ (لَهُ) أَيْ لِلْعَبْدِ (أَوْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ فَتِلْكَ الْهِبَةُ) الْمَنْهِيُّ عَنْهَا، فَلِذَا لَا يَجُوزُ.

ص: 164

[باب جَرِّ الْعَبْدِ الْوَلَاءَ إِذَا أُعْتِقَ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ وَلِذَلِكَ الْعَبْدِ بَنُونَ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ فَلَمَّا أَعْتَقَهُ الزُّبَيْرُ قَالَ هُمْ مَوَالِيَّ وَقَالَ مَوَالِي أُمِّهِمْ بَلْ هُمْ مَوَالِينَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَضَى عُثْمَانُ لِلزُّبَيْرِ بِوَلَائِهِمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

11 -

بَابُ جَرِّ الْعَبْدِ الْوَلَاءَ إِذَا أُعْتِقَ

1523 -

1475 - (مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخَ الْمَدَنِيِّ (أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ) الْحَوَارِيِّ (اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، وَلِذَلِكَ الْعَبْدِ بَنُونَ) جَمْعُ ابْنٍ (مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، فَلَمَّا أَعْتَقَهُ الزُّبَيْرُ قَالَ: هُمْ) أَيْ بَنُوهُ (مَوَالِيَّ) بِيَاءِ الْإِضَافَةِ (وَقَالَ: مَوَالِي أُمِّهِمْ بَلْ هُمْ مَوَالِينَا) لِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ (فَاخْتَصَمُوا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (فَقَضَى عُثْمَانُ لِلزُّبَيْرِ بِوَلَائِهِمْ) دُونَ مَوَالِي أُمِّهِمْ.

ص: 164

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سُئِلَ عَنْ عَبْدٍ لَهُ وَلَدٌ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ لِمَنْ وَلَاؤُهُمْ فَقَالَ سَعِيدٌ إِنْ مَاتَ أَبُوهُمْ وَهُوَ عَبْدٌ لَمْ يُعْتَقْ فَوَلَاؤُهُمْ لِمَوَالِي أُمِّهِمْ قَالَ مَالِكٌ وَمَثَلُ ذَلِكَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ الْمَوَالِي يُنْسَبُ إِلَى مَوَالِي أُمِّهِ فَيَكُونُونَ هُمْ مَوَالِيَهُ إِنْ مَاتَ وَرِثُوهُ وَإِنْ جَرَّ جَرِيرَةً عَقَلُوا عَنْهُ فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ أَبُوهُ أُلْحِقَ بِهِ وَصَارَ وَلَاؤُهُ إِلَى مَوَالِي أَبِيهِ وَكَانَ مِيرَاثُهُ لَهُمْ وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ وَيُجْلَدُ أَبُوهُ الْحَدَّ قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُلَاعِنَةُ مِنْ الْعَرَبِ إِذَا اعْتَرَفَ زَوْجُهَا الَّذِي لَاعَنَهَا بِوَلَدِهَا صَارَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ إِلَّا أَنَّ بَقِيَّةَ مِيرَاثِهِ بَعْدَ مِيرَاثِ أُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ لِأُمِّهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يُلْحَقْ بِأَبِيهِ وَإِنَّمَا وَرَّثَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ الْمُوَالَاةَ مَوَالِيَ أُمِّهِ قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ أَبُوهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ وَلَا عَصَبَةٌ فَلَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ صَارَ إِلَى عَصَبَتِهِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي وَلَدِ الْعَبْدِ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَأَبُو الْعَبْدِ حُرٌّ أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْعَبْدِ يَجُرُّ وَلَاءَ وَلَدِ ابْنِهِ الْأَحْرَارِ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ يَرِثُهُمْ مَا دَامَ أَبُوهُمْ عَبْدًا فَإِنْ عَتَقَ أَبُوهُمْ رَجَعَ الْوَلَاءُ إِلَى مَوَالِيهِ وَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَبْدٌ كَانَ الْمِيرَاثُ وَالْوَلَاءُ لِلْجَدِّ وَإِنْ الْعَبْدُ كَانَ لَهُ ابْنَانِ حُرَّانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَأَبُوهُ عَبْدٌ جَرَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ الْوَلَاءَ وَالْمِيرَاثَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْأَمَةِ تُعْتَقُ وَهِيَ حَامِلٌ وَزَوْجُهَا مَمْلُوكٌ ثُمَّ يَعْتِقُ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَوْ بَعْدَمَا تَضَعُ إِنَّ وَلَاءَ مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا لِلَّذِي أَعْتَقَ أُمَّهُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ قَدْ كَانَ أَصَابَهُ الرِّقُّ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ أُمُّهُ وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي تَحْمِلُ بِهِ أُمُّهُ بَعْدَ الْعَتَاقَةِ لِأَنَّ الَّذِي تَحْمِلُ بِهِ أُمُّهُ بَعْدَ الْعَتَاقَةِ إِذَا عَتَقَ أَبُوهُ جَرَّ وَلَاءَهُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَسْتَأْذِنُ سَيِّدَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا لَهُ فَيَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ إِنَّ وَلَاءَ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ لَا يَرْجِعُ وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَإِنْ عَتَقَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1523 -

1476 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سُئِلَ عَنْ عَبْدٍ لَهُ وَلَدٌ مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، لِمَنْ وَلَاؤُهُمْ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنْ مَاتَ أَبُوهُمْ وَهُوَ عَبْدٌ لَمْ يُعْتَقْ) صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِ " عَبْدٍ " لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ (فَوَلَاؤُهُمْ لِمَوَالِي أُمِّهِمْ) وَإِنْ عُتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْوَلَاءُ (قَالَ مَالِكٌ: وَمَثَلُ) بِفُتْحَتَيْنِ (ذَلِكَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ مِنَ الْمَوَالِي) صِفَةٌ لَهَا (يُنْسَبُ إِلَى مَوَالِي أُمِّهِ

ص: 164

فَيَكُونُونَ هُمْ مَوَالِيَهُ إِنْ مَاتَ وَرِثُوهُ وَإِنَّ جَرَّ جَرِيرَةً) فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ، مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَنْبٍ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً (عَقَلُوا عَنْهُ) لِأَنَّهُمْ مَوَالِيهِ (فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهِ أَبُوهُ أُلْحِقَ بِهِ وَصَارَ وَلَاؤُهُ إِلَى مَوَالِي أَبِيهِ وَكَانَ مِيرَاثُهُ لَهُمْ وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ وَيُجْلَدُ أَبُوهُ الْحَدَّ) أَيْ حَدَّ الْقَذْفِ. (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُلَاعَنَةُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا (مِنَ الْعَرَبِ) أَيِ الْأَحْرَارِ أَصَالَةً (إِذَا اعْتَرَفَ زَوْجُهَا الَّذِي لَاعَنَهَا بِوَلَدِهَا صَارَ بِمِثْلِ) أَيْ صِفَةِ (هَذِهِ الْمَنْزِلَة إِلَّا أَنَّ بَقِيَّةَ مِيرَاثِهِ بَعْدَ مِيرَاثِ أُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ لِأُمِّهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَلْحَقْ بِأَبِيهِ) فَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ بِهِ (وَإِنَّمَا وَرَّثَ) بِشَدِّ الرَّاءِ (وَلَدُ) فَاعِلٌ (الْمُلَاعَنَةِ الْمُوَالَاةَ) بِالْجَرِّ صِفَةٌ (مَوَالِيَ أُمِّهِ) مَفْعُولٌ (قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ أَبُوهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ وَلَا عَصَبَةٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ) بِاعْتِرَافِ أَبِيهِ (صَارَ إِلَى عَصَبَتِهِ) أَيْ عَادَ إِلَيْهِمْ (وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي وَلَدِ الْعَبْدِ مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَأَبُو الْعَبْدِ حُرٌّ: أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْعَبْدِ يَجُرُّ وَلَاءَ وَلَدِ ابْنِهِ الْأَحْرَارِ مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ تَرِثُهُمْ مَا دَامَ أَبُوهُمْ عَبْدًا، فَإِنْ عَتَقَ أَبُوهُمْ رَجَعَ الْوَلَاءُ إِلَى مَوَالِيهِ، وَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَبْدٌ كَانَ) أَيِ اسْتَمَرَّ (الْمِيرَاثُ وَالْوَلَاءُ لِلْجَدِّ، وَإِنِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (الْعَبْدُ كَانَ لَهُ ابْنَانِ حُرَّانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَأَبُوهُ عَبْدٌ حُرٌّ) سَحَبَ (الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ الْوَلَاءَ وَالْمِيرَاثَ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ.

ص: 165

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْأَمَةِ تُعْتَقُ وَهِيَ حَامِلٌ وَزَوْجُهَا مَمْلُوكٌ، ثُمَّ يُعْتَقُ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَوْ بَعْدَمَا تَضَعُ: إِنَّ وَلَاءَ مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا لِلَّذِي أَعْتَقَ أُمَّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ قَدْ كَانَ أَصَابَهُ الرِّقُّ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ أُمُّهُ) فَثَبَتَ لِمُعْتِقِهَا فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ (وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي تَحْمِلُ بِهِ أُمُّهُ بَعْدَ الْعَتَاقَةِ ; لِأَنَّ الَّذِي تَحْمِلُ بِهِ أُمُّهُ بَعْدَ الْعَتَاقَةِ إِذَا أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ وَلَاءَهُ) أَيْ سَحَبَهُ. (قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَسْتَأْذِنُ سَيِّدَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا لَهُ فَيَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ) فِي عِتْقِهِ (إِنَّ وَلَاءَ الْمُعْتَقِ) بِالْفَتْحِ (لِسَيِّدِ الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ الْمُعَتِقُ حَقِيقَةً (لَا يَرْجِعُ وَلَاؤُهُ إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَإِنْ عَتَقَ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِسَيِّدِهِ وَهُوَ لَا يَنْتَقِلُ.

ص: 166

[باب مِيرَاثِ الْوَلَاءِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْعَاصِيَ بْنَ هِشَامٍ هَلَكَ وَتَرَكَ بَنِينَ لَهُ ثَلَاثَةً اثْنَانِ لِأُمٍّ وَرَجُلٌ لِعَلَّةٍ فَهَلَكَ أَحَدُ اللَّذَيْنِ لِأُمٍّ وَتَرَكَ مَالًا وَمَوَالِيَ فَوَرِثَهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَالَهُ وَوَلَاءَهُ مَوَالِيهِ ثُمَّ هَلَكَ الَّذِي وَرِثَ الْمَالَ وَوَلَاءَ الْمَوَالِي وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ لِأَبِيهِ فَقَالَ ابْنُهُ قَدْ أَحْرَزْتُ مَا كَانَ أَبِي أَحْرَزَ مِنْ الْمَالِ وَوَلَاءِ الْمَوَالِي وَقَالَ أَخُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا أَحْرَزْتَ الْمَالَ وَأَمَّا وَلَاءُ الْمَوَالِي فَلَا أَرَأَيْتَ لَوْ هَلَكَ أَخِي الْيَوْمَ أَلَسْتُ أَرِثُهُ أَنَا فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَضَى لِأَخِيهِ بِوَلَاءِ الْمَوَالِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

12 -

بَابُ مِيرَاثِ الْوَلَاءِ

1524 -

1477 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) الْقُرَشِيِّ الْمَخْزُومِيِّ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرٍ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ (أَنَّ الْعَاصِي بْنَ هِشَامٍ) أَخَا الْحَارِثِ (هَلَكَ) قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا (وَتَرَكَ بَنِينَ لَهُ ثَلَاثَةً اثْنَانِ لِأُمٍّ) أَيْ شَقِيقَانِ (وَرَجُلٌ لِعَلَّةٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ الثَّقِيلَةِ، أَيِ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَالْجَمْعُ عَلَّاتٌ إِذَا كَانَ الْأَبُ وَاحِدًا وَالْأُمَّهَاتُ شَتَّى، قِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِلَلِ وَهُوَ الشُّرْبُ بَعْدَ الشُّرْبِ ; لِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ أُخْرَى صَارَ

ص: 166

كَأَنَّهُ شَرِبَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَفِي الْوَلَائِمِ أَوْلَادٌ لِوَاحِدَةٍ

وَفِي الْعِيَادَةِ أَوْلَادٌ لِعَلَّاتٍ

(فَهَلَكَ أَحَدُ اللَّذَيْنِ لِأُمٍّ وَتَرَكَ مَالًا وَمَوَالِيَ فَوَرِثَهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَالَهُ وَوَلَاءَ مَوَالِيهِ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ وَرِثَهُ (ثُمَّ هَلَكَ الَّذِي وَرِثَ الْمَالَ وَوَلَاءَ الْمُوَالِي وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ) لِأَبِيهِ (فَقَالَ: ابْنُهُ قَدْ أَحْرَزْتُ) ضَمَمْتُ وَمَلَكْتُ (مَا كَانَ أَبِي أَحْرَزَ مِنَ الْمَالِ وَوَلَاءِ الْمَوَالِي، فَقَالَ أَخُوهُ) أَخُو الْمَيِّتِ، وَهُوَ عَمُّ الْمُنَازِعِ (لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا أَحْرَزْتَ الْمَالَ، وَأَمَّا وَلَاءُ الْمَوَالِي فَلَا، أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (لَوْ هَلَكَ أَخِي) الْأَوَّلُ الَّذِي وَرِثَ أَبُوكَ مِنْهُ الْمَالَ وَالْوَلَاءَ (الْيَوْمَ بَعْدَ مَوْتِ شَقِيقِهِ) الَّذِي هُوَ أَبُوكَ (أَلَسْتُ أَرِثُهُ أَنَا؟) دُونَكَ ; لِأَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى ابْنِ الْأَخِ الشَّقِيقِ (فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَضَى عُثْمَانُ لِأَخِيهِ بِوَلَاءِ الْمُوَالِي) دُونَ ابْنِهِ، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْعَاصِيَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا فَكَيْفَ يَمُوتُ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ وَيَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ فِي إِرْثِهِ؟ وَالَّذِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ أَنْ يَكُونَ التَّحَاكُمُ فِي الْإِرْثِ تَأَخَّرَ إِلَى زَمَنِ عُثْمَانَ، لَكِنَّ مَنْ يُقْتَلُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا لَا يُتَحَاكَمُ فِي إِرْثِهِ إِلَى عُثْمَانَ فِي خِلَافَتِهِ، ثُمَّ وَجَدْتُ أَنَّ الَّذِي تَحَاكَمَ إِلَى عُثْمَانَ وَلَدُ الْعَاصِي بْنِ هِشَامٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَعِيدٌ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، كَذَا قَالَ الْحَافِظُ: تَعْجِيلُ الْمَنْفَعَةِ وَسَهْوُهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَخَاصَمْ فِي إِرْثِ الْعَاصِي، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي صَدْرِ الْخَبَرِ لِبَيَانِ أَنَّهُ خَلَّفَ شَقِيقَيْنِ وَوَاحِدًا لِأُمٍّ أُخْرَى، وَالَّذِي تَخَاصَمَ إِلَى عُثْمَانَ إِنَّمَا هُوَ ابْنُ الْعَاصِي وَابْنُ ابْنِهِ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ وَرِثَ شَقِيقُهُ مَالَهُ وَوَلَاءَ مَوَالِيهِ لِمَوْتِهِ بِلَا وَلَدٍ فَاخْتَصَمَا فِي وَلَاءِ مَوَالِيهِ دُونَ إِرْثِهِ لَا ذِكْرَ لِمِيرَاثِ الْعَاصِي أَصْلًا فَلَا إِشْكَالَ.

ص: 167

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَبُوهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ فَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ جُهَيْنَةَ وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ كُلَيْبٍ فَمَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَتَرَكَتْ مَالًا وَمَوَالِيَ فَوَرِثَهَا ابْنُهَا وَزَوْجُهَا ثُمَّ مَاتَ ابْنُهَا فَقَالَ وَرَثَتُهُ لَنَا وَلَاءُ الْمَوَالِي قَدْ كَانَ ابْنُهَا أَحْرَزَهُ فَقَالَ الْجُهَنِيُّونَ لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُمْ مَوَالِي صَاحِبَتِنَا فَإِذَا مَاتَ وَلَدُهَا فَلَنَا وَلَاؤُهُمْ وَنَحْنُ نَرِثُهُمْ فَقَضَى أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ لِلْجُهَنِيِّينَ بِوَلَاءِ الْمَوَالِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1525 -

1478 - (مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَبُوهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْد أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ) بْنِ عَفَّانَ (فَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ جُهَيْنَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ

ص: 167

الْهَاءِ (وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ (وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ كُلَيْبٍ) بِضَمِّ الْكَافِ، مُصَغَّرٌ (فَمَاتَتِ الْمَرْأَةُ وَتَرَكَتْ مَالًا وَمَوَالِيَ) عُتَقَاءً لَهَا (فَوَرِثَهَا ابْنُهَا) لَمْ يُسَمَّ (وَزَوْجُهَا) إِبْرَاهِيمُ (ثُمَّ مَاتَ ابْنُهَا، فَقَالَتْ وَرَثَتُهُ: لَنَا وَلَاءُ الْمَوَالِي) لِأَنَّهُ (قَدْ كَانَ ابْنُهَا أَحْرَزَهُ) ضَمَّهُ وَحَازَهُ (فَقَالَ الْجُهَنِيُّونَ: لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُمْ مَوَالِي صَاحِبَتِنَا فَإِذَا مَاتَ وَلَدُهَا فَلَنَا وَلَاؤُهُمْ وَنَحْنُ نَرِثُهُمْ، فَقَضَى أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ لِلْجُهَنِيِّينَ بِوَلَاءِ الْمَوَالِي) دُونَ وَرَثَةِ الِابْنِ.

ص: 168

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فِي رَجُلٍ هَلَكَ وَتَرَكَ بَنِينَ لَهُ ثَلَاثَةً وَتَرَكَ مَوَالِيَ أَعْتَقَهُمْ هُوَ عَتَاقَةً ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَيْنِ مِنْ بَنِيهِ هَلَكَا وَتَرَكَا أَوْلَادًا فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَرِثُ الْمَوَالِيَ الْبَاقِي مِنْ الثَّلَاثَةِ فَإِذَا هَلَكَ هُوَ فَوَلَدُهُ وَوَلَدُ إِخْوَتِهِ فِي وَلَاءِ الْمَوَالِي شَرَعٌ سَوَاءٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1525 -

1479 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فِي رَجُلٍ هَلَكَ وَتَرَكَ بَنِينَ لَهُ ثَلَاثَةً وَتَرَكَ مَوَالِيَ أَعْتَقَهُمْ هُوَ عَتَاقَةً) بِفَتْحِ السِّينِ وَوَهِمَ مَنْ كَسَرَهَا (ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَيْنِ مِنْ بَنِيهِ هَلَكَا) مَاتَا (وَتَرَكَ أَوْلَادًا، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: يَرِثُ الْمَوَالِي) كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى وَهُوَ خَطَأٌ وَصَوَابُهُ الْوَلَاءُ كَذَا قِيلَ، وَالرِّوَايَةُ صَوَابٌ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَاءُ الْمَوَالِي وَهُوَ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ وَالْفَاعِلُ الِابْنُ (الْبَاقِي مِنْ) بَنِيهِ (الثَّلَاثَةِ فَإِذَا هَلَكَ هُوَ) أَيِ الثَّالِثُ (فَوَلَدُهُ وَوُلَدُ إِخْوَتِهِ فِي وَلَاءِ الْمَوَالِي شَرْعٌ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَتُسَكَّنُ لِلتَّخْفِيفِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ (سَوَاءٌ) فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ.

ص: 168

[باب مِيرَاثِ السَّائِبَةِ وَوَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ]

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبَةِ قَالَ يُوَالِي مَنْ شَاءَ فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوَالِي أَحَدًا فَمِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ

قَالَ مَالِكٌ إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي السَّائِبَةِ أَنَّهُ لَا يُوَالِي أَحَدًا وَأَنَّ مِيرَاثَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَقْلَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ يُسْلِمُ عَبْدُ أَحَدِهِمَا فَيُعْتِقُهُ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ عَلَيْهِ إِنَّ وَلَاءَ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ أَبَدًا قَالَ وَلَكِنْ إِذَا أَعْتَقَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ عَبْدًا عَلَى دِينِهِمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ الَّذِي أَعْتَقَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ الَّذِي أَعْتَقَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ يَوْمَ أَعْتَقَهُ قَالَ مَالِكٌ وَإِنْ كَانَ لِلْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ وَلَدٌ مُسْلِمٌ وَرِثَ مَوَالِيَ أَبِيهِ الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ إِذَا أَسْلَمَ الْمَوْلَى الْمُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ حِينَ أُعْتِقَ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ النَّصْرَانِيِّ أَوْ الْيَهُودِيِّ الْمُسْلِمَيْنِ مِنْ وَلَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْيَهُودِيِّ وَلَا لِلنَّصْرَانِيِّ وَلَاءٌ فَوَلَاءُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

13 -

بَابُ مِيرَاثِ السَّائِبَةِ وَوَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ

هِيَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ سَائِبَةٌ، يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَلُزُومِهِ وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ الْعِتْقَ بِلَفْظِ سَائِبَةٍ لِاسْتِعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ لَهَا فِي الْأَنْعَامِ، وَلِقَوْلِهِ إِنَّهُ أَمْرٌ تَرَكَهُ النَّاسُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ.

1527 -

1480 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ السَّائِبَةِ، فَقَالَ: يُوَالِي مَنْ شَاءَ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَمِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ) وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ (مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي السَّائِبَةِ أَنَّهُ لَا يُوَالِي أَحَدًا وَأَنَّ مِيرَاثَهُ لِلْمُسْلِمِينَ) وَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَنْهُمْ (وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ ابْنُ المَاجِشُونِ وَابْنُ نَافِعٍ، وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِهِ، وَقِيلَ: يَشْتَرِي بِتَرِكَتِهِ رِقَابًا فَتُعْتَقُ.

(مَالِكٌ: فِي الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ يُسْلِمُ عَبْدُ أَحَدِهِمَا فَيُعْتِقُهُ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ عَلَيْهِ) فَيَمْضِي عِتْقُهُ نَظَرًا لِتَشَوُّفِ الشَّرْعِ لِلْعِتْقِ (أَنَّ وَلَاءَ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ) بِفَتْحِ التَّاءِ (لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ أَبَدًا) لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُمْ (وَلَكِنْ إِذَا أَعْتَقَ الْيَهُودِيُّ عَبْدًا عَلَى دِينِهِمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُعْتَقُ) بِالْفَتْحِ (قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الْيَهُودِيُّ أَوِ

ص: 169

النَّصْرَانِيُّ الَّذِي أَعْتَقَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ الَّذِي أَعْتَقَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ يَوْمَ أَعْتَقَهُ) وَهُوَ لَا يَنْتَقِلُ وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ رَجَعَ لَهُ الْوَلَاءُ (وَإِنْ كَانَ لِلْيَهُودِيِّ وَلَدٌ مُسْلِمٌ وَرِثَ مَوَالِيَ أَبِيهِ الْيَهُودِيِّ إِذَا أَسْلَمَ الْمَوْلَى الْمُعْتَقُ) بِفَتْحِ التَّاءِ (قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الَّذِي أَعْتَقَهُ) وَهُمَا كَافِرَانِ (وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ) بِالْفَتْحِ (حِينَ أُعْتِقَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ النَّصْرَانِيِّ أَوِ الْيَهُودِيِّ الْمُسْلِمَيْنِ) بِالتَّثْنِيَةِ صِفَةٌ لِلْوَلَدَيْنِ (مِنْ وَلَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْيَهُودِيِّ وَلَا لِلنَّصْرَانِيِّ وَلَاءٌ، فَوَلَاءُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ) لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُ ابْنُ الْمُعْتِقِ الْكَافِرِ.

ص: 170

[كِتَاب الْمُكَاتَبِ]

[باب الْقَضَاءِ فِي الْمُكَاتَبِ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْمُكَاتَبِ باب الْقَضَاءِ فِي الْمُكَاتَبِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْمُكَاتَبِ بِالْفَتْحِ مَنْ تَقَعُ عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ، وَبِالْكَسْرِ مَنْ تَقَعُ مِنْهُ، وَكَافُ الْكِتَابَةِ تُفْتَحُ وَتُكْسَرُ، قَالَ الرَّاغِبُ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ كَتَبَ بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةَ: 183)، {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] (سورة النِّسَاءِ: الْآيَةَ: 103) أَوْ بِمَعْنَى جَمَعَ وَضَمَّ، وَمِنْهُ كَتَبَ عَلَى الْخَطِّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنْ مَعْنَى الِالْتِزَامِ، وَعَلَى الثَّانِي مَأْخُوذَةً مِنَ الْخَطِّ لِوُجُودِهِ عِنْدَ عَقْدِهَا غَالِبًا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَتِ الْكِتَابَةُ مُتَعَارَفَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلُ مَنْ كُوتِبَ فِي الْإِسْلَامِ أَبُو الْمُؤَمِّلِ، «فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَعِينُوا أَبَا الْمُؤَمِّلِ فَأُعِينَ فَقَضَى كِتَابَتَهُ وَفَضَلَتْ عِنْدَهُ فَضْلَةٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: كَانُوا يَتَكَاتَبُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ كُوتِبَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ سَلْمَانُ ثُمَّ بَرِيرَةُ، فَقَوْلُ الرُّويَانِيُّ لِلْكِتَابَةِ إِسْلَامِيَّةٌ، وَلَمْ تُعْرَفْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِلَافُ الصَّحِيحِ.

1 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْمُكَاتَبِ

1528 -

1481 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ) وَلَوْ قَلَّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ". وَقَدْ وَرَدَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ» ". وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ.

ص: 171

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَانَا يَقُولَانِ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ رَأْيِي قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ هَلَكَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَلَهُ وَلَدٌ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ أَوْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ وَرِثُوا مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ قَضَاءِ كِتَابَتِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1528 -

1482

ص: 171

- (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ؛ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَانَا يَقُولَانِ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ) وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ سَعْدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ:" اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَعَرَفَتْ صَوْتِي فَقَالَتْ: سُلَيْمَانُ؟ فَقُلْتُ: سُلَيْمَانُ، فَقَالَتْ: أَدَّيْتَ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ كِتَابَتِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا، قَالَتْ: ادْخُلْ فَإِنَّكَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: " الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ".

(قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ رَأْيِي) وَقَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَكَانَ فِيهِ خِلَافٌ عَنِ السَّلَفِ فَعَنْ عَلِيٍّ إِذَا أَدَّى الشَّطْرَ فَهُوَ غَرِيمٌ، وَعَنْهُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى مِائَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ فَأَدَّى الْمِائَةَ عُتِقَ. وَعَنْ عَطَاءٍ: إِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ كِتَابَتِهِ عَتَقَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «الْمُكَاتَبُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى» ". وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي إِرْسَالِهِ وَوَصْلِهِ، حُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَهُوَ أَقْوَى، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنْ بَرِيرَةَ بِيعَتْ بَعْدَ أَنْ كُوتِبَتْ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَصِيرُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ حُرًّا لَمُنِعَ بَيْعُهَا، وَقَدْ نَاظَرَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَيْهَا فَقَالَ: أَتَرْجُمُهُ وَلَوْ زَنَى أَوْ تُجِيزُ شَهَادَتَهُ إِنْ شَهِدَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا، فَقَالَ زَيْدٌ: فَهُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

(قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ هَلَكَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَلَهُ وَلَدٌ وُلِدُوا فِي) زَمَنِ (كِتَابَتِهِ) أَيْ بَعْدَ عَقْدِهَا (أَوْ) كَانُوا مَوْجُودِينَ قَبْلَهَا وَ (كَاتَبَ عَلَيْهِمْ وَرِثُوا مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ قَضَاءِ كِتَابَتِهِ) إِلَى سَيِّدِهِ.

ص: 172

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ مُكَاتَبًا كَانَ لِابْنِ الْمُتَوَكِّلِ هَلَكَ بِمَكَّةَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ بَقِيَّةً مِنْ كِتَابَتِهِ وَدُيُونًا لِلنَّاسِ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ فَأَشْكَلَ عَلَى عَامِلِ مَكَّةَ الْقَضَاءُ فِيهِ فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ ابْدَأْ بِدُيُونِ النَّاسِ ثُمَّ اقْضِ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ ثُمَّ اقْسِمْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَمَوْلَاهُ

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] يَتْلُو هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا - فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 2 - 10] قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ أَذِنَ اللَّهُ عز وجل فِيهِ لِلنَّاسِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكٌ وَسَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] إِنَّ ذَلِكَ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ غُلَامَهُ ثُمَّ يَضَعُ عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ شَيْئًا مُسَمًّى قَالَ مَالِكٌ فَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدْرَكْتُ عَمَلَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَاتَبَ غُلَامًا لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ وَضَعَ عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ تَبِعَهُ مَالُهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُمْ فِي كِتَابَتِهِ قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي الْمُكَاتَبِ يُكَاتِبُهُ سَيِّدُهُ وَلَهُ جَارِيَةٌ بِهَا حَبَلٌ مِنْهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ هُوَ وَلَا سَيِّدُهُ يَوْمَ كِتَابَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ وَهُوَ لِسَيِّدِهِ فَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَإِنَّهَا لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّهَا مِنْ مَالِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَرِثَ مُكَاتَبًا مِنْ امْرَأَتِهِ هُوَ وَابْنُهَا إِنَّ الْمُكَاتَبَ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ كِتَابَتَهُ اقْتَسَمَا مِيرَاثَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِنْ أَدَّى كِتَابَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمَرْأَةِ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ قَالَ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَرَادَ الْمُحَابَاةَ لِعَبْدِهِ وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا كَاتَبَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ وَطَلَبِ الْمَالِ وَابْتِغَاءِ الْفَضْلِ وَالْعَوْنِ عَلَى كِتَابَتِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَطِئَ مُكَاتَبَةً لَهُ إِنَّهَا إِنْ حَمَلَتْ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ وَإِنْ شَاءَتْ قَرَّتْ عَلَى كِتَابَتِهَا فَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ فَهِيَ عَلَى كِتَابَتِهَا قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ إِنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُكَاتِبُ نَصِيبَهُ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ إِلَّا أَنْ يُكَاتِبَاهُ جَمِيعًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَعْقِدُ لَهُ عِتْقًا وَيَصِيرُ إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ نِصْفُهُ وَلَا يَكُونُ عَلَى الَّذِي كَاتَبَ بَعْضَهُ أَنْ يَسْتَتِمَّ عِتْقَهُ فَذَلِكَ خِلَافُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمُكَاتَبُ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ رَدَّ إِلَيْهِ الَّذِي كَاتَبَهُ مَا قَبَضَ مِنْ الْمُكَاتَبِ فَاقْتَسَمَهُ هُوَ وَشَرِيكُهُ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا وَبَطَلَتْ كِتَابَتُهُ وَكَانَ عَبْدًا لَهُمَا عَلَى حَالِهِ الْأُولَى قَالَ مَالِكٌ فِي مُكَاتَبٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَنْظَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَقِّهِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يُنْظِرَهُ فَاقْتَضَى الَّذِي أَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ بَعْضَ حَقِّهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ مِنْ كِتَابَتِهِ قَالَ مَالِكٌ يَتَحَاصَّانِ مَا تَرَكَ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ لَهُمَا عَلَيْهِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فَإِنْ تَرَكَ الْمُكَاتَبُ فَضْلًا عَنْ كِتَابَتِهِ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ وَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوَاءِ فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَقَدْ اقْتَضَى الَّذِي لَمْ يُنْظِرْهُ أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَضَى صَاحِبُهُ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يَرُدُّ عَلَى صَاحِبِهِ فَضْلَ مَا اقْتَضَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَى الَّذِي لَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَإِنْ وَضَعَ عَنْهُ أَحَدُهُمَا الَّذِي لَهُ ثُمَّ اقْتَضَى صَاحِبُهُ بَعْضَ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَرُدُّ الَّذِي اقْتَضَى عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَى الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ لِلرَّجُلَيْنِ بِكِتَابٍ وَاحِدٍ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيُنْظِرُهُ أَحَدُهُمَا وَيَشِحُّ الْآخَرُ فَيَقْتَضِي بَعْضَ حَقِّهِ ثُمَّ يُفْلِسُ الْغَرِيمُ فَلَيْسَ عَلَى الَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَرُدَّ شَيْئًا مِمَّا أَخَذَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1530 -

1483 - (مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ) الْأَعْرَجِ الْقَارِي (أَنَّ مُكَاتَبًا) اسْمُهُ عَبَّادٌ (كَانَ لِابْنِ الْمُتَوَكِّلِ، هَلَكَ بِمَكَّةَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ بَقِيَّةً مِنْ كِتَابَتِهِ وَدُيُونًا لِلنَّاسِ) عَلَيْهِ (وَتَرَكَ ابْنَتَهُ فَأَشْكَلَ

ص: 172

عَلَى عَامِلِ) أَيْ أَمِيرِ (مَكَّةَ) يَوْمَئِذٍ (الْقَضَاءُ فِيهِ) لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ (فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ) الْخَلِيفَةِ إِذْ ذَاكَ (يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ) وَأَرْسَلَهُ إِلَى الشَّامِ (فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنِ ابْدَأْ بِدُيُونِ النَّاسِ) فَاقْضِهَا لَهُمْ (ثُمَّ اقْضِ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ) لِسَيِّدِهِ (ثُمَّ اقْسِمْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَمَوْلَاهُ) مُعْتِقِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ نِصْفَيْنِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَضَى بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ قَبْلَهُ، ذَكَرَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: سَأَلَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ عَنِ الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ، فَقُلْتُ: قَضَى عُمَرُ أَنَّ مَالَهُ كُلَّهُ لِسَيِّدِهِ. وَقَضَى مُعَاوِيَةُ أَنَّ سَيِّدَهُ يُعْطِي بَقِيَّةَ كِتَابَتِهِ ثُمَّ مَا بَقِيَ لِوَلَدِهِ الْأَحْرَارِ. وَمَالِكٌ لَا يَقُولُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّ بِنْتَهُ كَانَتْ حُرَّةً أُمُّهَا حُرَّةٌ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَرِثُهُ وَارِثُهُ الْحُرُّ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ فِي كِتَابَتِهِ وَإِلَّا فَكُلُّهُ لِسَيِّدِهِ كَمَا قَضَى بِهِ عَمْرٌو، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا.

(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ) يَجِبُ (عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ) وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ (وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ) وَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا، وَأَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ سِيرِينَ وَالِدَ مُحَمَّدٍ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ فَاسْتَعْدَاهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ لِأَنَسٍ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَتَلَا عُمَرُ:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33](سورة النُّورِ: الْآيَةَ: 33) فَكَاتَبَهُ أَنَسٌ.

وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَاتَبَ أَنَسٌ أَبِي عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَاتَبَنِي أَنَسٌ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. قَالَ الْحَافِظُ: فَإِنْ كَانَا مَحْفُوظَيْنِ جُمِعَ بَيْنِهِمَا بِحَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْوَزْنِ وَالْآخَرِ عَلَى الْعَدَدِ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: هَذِهِ مُكَاتَبَةُ أَنَسٍ عِنْدَنَا، هَذَا مَا كَاتَبَ أَنَسٌ غُلَامَهُ سِيرِينَ عَلَى كَذَا وَكَذَا أَلْفًا، وَعَلَى غُلَامَيْنِ يَعْمَلَانِ مِثْلَ عَمَلِهِ. فَظَاهِرُ ضَرْبِ عُمَرَ لِأَنَسٍ حِينَ امْتَنَعَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى وُجُوبَ الْكِتَابَةِ إِذَا سَأَلَهَا الْعَبْدُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَدَّبَهُ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ الْمُؤَكَّدِ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ الْكِتَابَةَ: لَوْلَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا فَعَلْتُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى الْوُجُوبَ، قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: إِنَّمَا عَلَا عُمَرُ أَنَسًا بِالدِّرَّةِ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ لِأَنَسٍ وَلَوْ لَزِمَتْهُ مَا أَبَى، وَإِنَّمَا نَدَبَهُ

ص: 173

عُمَرُ إِلَى الْأَفْضَلِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ عُمَرَ بِأَنَسٍ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْسَانِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ. (وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ:){وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 33](سورة النُّورِ: الْآيَةَ: 33){فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قِيلَ مَالًا، وَقِيلَ صَلَاحًا، وَقِيلَ هَنَاءً وَأَدَاءً، وَقِيلَ صِدْقًا وَوَفَاءً وَقُوَّةً. قَالَ أَبُو عُمَرَ: دَلَّ حَدِيثُ بَرِيرَةَ أَنَّهُ الْكَسْبُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْأَلْهَا أَمَعَكِ مَالٌ أَمْ لَا؟ وَلَمْ يَنْهَهَا عَنِ السُّؤَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْكَسْبُ بِالْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ قِيلَ الْمَسْأَلَةُ آخِرُ كَسْبِ الْمُؤْمِنِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ: لَا يُحْتَمَلُ أَنَّ الْخَيْرَ فِي الْآيَةِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُغَةً أَنْ يُقَالَ فِي الْعَبْدِ مَالٌ أَوْ فِي الْأَمَةِ مَالٌ ; لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَكُونُ فِي الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَكُونُ لَهُ وَعِنْدَهُ وَفِي يَدِهِ لَا فِيهِ، قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ يَعْنِي دِينًا وَأَمَانَةً وَصِدْقًا وَوَفَاءً أَوْلَى، فَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ كَمَا قَالَ بِهِ مَسْرُوقٌ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَمْرُوبْنُ دِينَارٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إِمَّا بَيْعٌ أَوْ عِتْقٌ وَكِلَاهُمَا لَا يَجِبُ، وَالْأَمْرُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ، وَلِذَا كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (يَتْلُو هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَالصَّيْدُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ لَا يَجُبْ إِجْمَاعًا فَهُوَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وَالِانْتِشَارُ وَالِابْتِغَاءُ لَا يَجِبَانِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ فَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ.

وَلِذَا (قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِلنَّاسِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ غَرَرٍ، فَالْأَصْلُ أَنْ لَا تَجُوزَ فَلَمَّا أَذِنَ فِيهَا كَانَ أَمْرًا بَعْدَ مَنْعٍ، وَالْأَمْرُ بَعْدَ الْمَنْعِ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِأَنَّ اسْتِحْبَابَهَا ثَبَتَ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمَّا لَمْ يُجِبْ عَلَى السَّيِّدِ بَيْعُهُ بِإِجْمَاعٍ، وَفِي الْكِتَابَةِ إِخْرَاجُ مَلْكِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ رِضًى وَلَا طِيبِ نَفْسٍ كَانَتِ الْكِتَابَةُ أَحْرَى أَنْ لَا تَجِبَ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ لَهُ عَنِ الْوُجُوبِ الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33](سورة النُّورِ: الْآيَةَ: 33) فَإِنَّهُ وَكَّلَ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَوَالِي، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا رَأَى عَدَمَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا ثَبَتَ

ص: 174

أَنَّ الْعَبْدَ وَكَسْبَهُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِكِتَابَتِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: خُذْ كَسْبِي وَأَعْتِقْنِي، بِمَنْزِلَةِ أَعْتِقْنِي بِلَا شَيْءٍ وَذَلِكَ لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا. (قَالَ مَالِكٌ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] أَمْرٌ لِلْمَوَالِي أَنْ يَبْذُلُوا لَهُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَالنَّدْبِ عِنْدَ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ الْإِعَانَةُ عَلَى الْعِتْقِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَجِبُ، وَفِي مَعْنَى الْإِيتَاءِ حَطُّ جُزْءٍ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ كَمَا قَالَ (إِنَّ ذَاكَ أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ غُلَامَهُ ثُمَّ يَضَعَ) يَحُطَّ (عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ شَيْئًا مُسَمًّى) وَهُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ؛ لِأَنَّ بِهِ يَخْرُجُ حُرًّا فَتَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ. (قَالَ: فَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ) أَيْ بَعْضِهِمْ كَمَا عَبَّرَ بِهِ أَوَّلًا (وَأَدْرَكْتُ عَمَلَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَدْ بَلَغَنِي) لَعَلَّهُ مِنْ نَافِعٍ أَوِ ابْنِ دِينَارٍ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَاتَبَ غُلَامًا لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ) فِضَّةٍ (ثُمَّ وَضَعَ عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ) فَخَرَجَ حُرًّا (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ تَبِعَهُ مَالُهُ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعِتْقِ وَهُوَ يَتْبَعُهُ إِذَا أَعْتَقَهُ وَلَمْ يَسْتَثْنِهِ (وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ) لِأَنَّهُمْ ذَوَاتٌ أُخَرُ (إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُمْ فِي كِتَابَتِهِ) فَيَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّهُ بِالشَّرْطِ كَأَنَّ الْكِتَابَةَ وَقَعَتْ عَلَى الْجَمِيعِ.

(مَالِكٌ: فِي الْمُكَاتَبِ يُكَاتِبُهُ سَيِّدُهُ وَلَهُ جَارِيَةٌ بِهَا حَبَلٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ، أَيْ حَمْلٌ (مِنْهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ هُوَ وَلَا سَيِّدُهُ يَوْمَ كِتَابَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ

ص: 175

لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ وَهُوَ لِسَيِّدِهِ، فَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَإِنَّهَا لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَالِهِ) وَهُوَ يَتْبَعُهُ مَالُهُ.

(مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ وَرِثَ مُكَاتَبًا مِنَ امْرَأَتِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِوَرِثَ (هُوَ) أَيِ الرَّجُلُ (وَابْنُهَا) أَيِ الْمَرْأَةِ (أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ كِتَابَتِهِ) اقْتَسَمَا مِيرَاثَهُ (عَلَى كِتَابِ اللَّهِ) لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ وَلِلِابْنِ الْبَاقِي ; لِأَنَّهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْكِتَابَةِ بَانَ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ عَنِ الْمَرْأَةِ (وَإِنْ أَدَّى كِتَابَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَرِثَ بِالْوَلَاءِ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ فِيهِ دَخْلٌ (وَالْمُكَاتَبُ) بِفَتْحِ التَّاءِ (يُكَاتِبُ عَبْدَهُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَرَادَ الْمُحَابَاةَ) الْمُسَامَحَةَ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَبَوْتُهُ إِذَا أَعْطَيْتُهُ (لِعَبْدِهِ وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُ) فِي قَدْرِ الْكِتَابَةِ، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ (فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا كَاتَبَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ وَابْتِغَاءِ) طَلَبِ (الْفَضْلِ) الزِّيَادَةِ (وَالْعَوْنِ عَلَى كِتَابَتِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ) لِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ بِالْكِتَابَةِ، فَصَارَ كَالْحُرِّ فِي تَصَرُّفِهِ إِلَّا فِي التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُحَابَاةِ الْمُودِيَةِ إِلَى عَجْزِهِ. (مَالِكٌ فِي رَجُلٍ) وَلِغَيْرِ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ مُكَاتَبَتَهُ، فَإِنْ جَهِلَ وَ (وَطِئَ مُكَاتَبَةً لَهُ أَنَّهَا إِنْ حَمَلَتْ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدِ) وَإِنْ كَانَ لَهَا مَالٌ كَثِيرٌ ظَاهِرٌ وَقُوَّةٌ عَلَى السَّعْيِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا حَمَلَتْ بَطَلَتْ كِتَابَتُهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ (وَإِنْ شَاءَتْ قَرَّتْ عَلَى كِتَابَتِهَا) وَنَفَقَتُهَا عَلَى السَّيِّدِ مُدَّةَ حَمْلِهَا كَالْمَبْتُوتَةِ (فَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ فَهِيَ عَلَى كِتَابَتِهَا) بَاقِيَةٌ، وَيُؤَدَّبُ السَّيِّدُ فِي وَطْءِ مُكَاتَبَتِهِ إِلَّا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ.

ص: 176

(وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُكَاتِبُ نَصِيبَهُ) أَيْ حِصَّتَهُ (مِنْهُ أَذِنَ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ) أَيْ شَرِيكُهُ (أَوْ لَمْ يَأْذَنْ إِلَّا أَنْ يُكَاتِبَا جَمِيعًا) فَيَجُوزُ، وَعَلَّلَ مَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّ ذَلِكَ يَعْقِدُ لَهُ عِتْقًا وَيَصْبِرُ إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُعْتَقَ نِصْفُهُ وَلَا يَكُونُ عَلَى الَّذِي كَاتَبَ بَعْضَهُ أَنْ يَسْتَتِمَّ عِتْقَهُ) لِأَنَّ السِّرَايَةَ بِالتَّكْمِيلِ أَوِ التَّقْوِيمِ إِنَّمَا هِيَ بِالْعِتْقِ النَّاجِزِ لَا بِالْكِتَابَةِ (فَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا» ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ نَصِيبًا ( «لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ» ) أَيْ يَلْزَمُ، لَوْ قِيلَ بِالْجَوَازِ مُخَالَفَتُهُ الْحَدِيثَ (فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ) أَيْ لَمْ يَعْلَمْ بِكِتَابَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ (حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمُكَاتَبُ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ رَدَّ عَلَيْهِ الَّذِي كَاتَبَهُ مَا قَبَضَ مِنَ الْمُكَاتَبِ فَاقْتَسَمَهُ هُوَ وَشَرِيكُهُ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا) لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُمَا (وَبَطَلَتْ كِتَابَتُهُ وَكَانَ عَبْدًا لَهُمَا عَلَى حَالَتِهِ الْأُولَى) الَّتِي قَبْلَ الْكِتَابَةِ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي مُكَاتَبٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَنْظَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَقِّهِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يُنْظِرَهُ) يُؤَخِّرَهُ (فَاقْتَضَى الَّذِي أَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ بَعْضَ حَقِّهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ مِنْ كِتَابَتِهِ، قَالَ مَالِكٌ: يَتَحَاصَّانِ) أَيْ يَقْتَسِمَانِ (مَا تَرَكَهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ لَهُمَا عَلَيْهِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ) بَيَانٌ لِلْتَحَاصُصِ (فَإِنْ تَرَكَ الْمُكَاتَبُ فَضْلًا) زِيَادَةً (عَنْ كِتَابَتِهِ

ص: 177

أَخَذَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَقِيَ مِنَ الْكِتَابَةِ وَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوَاءِ) أَيْ بِقَدْرِ حِصَصِهِمَا (فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَقَدِ اقْتَضَى الَّذِي لَمْ يُنْظِرْهُ أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَضَى صَاحِبُهُ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) إِذَا كَانَ مِلْكُهُمَا لَهُ كَذَلِكَ (وَلَا يَرُدُّ عَلَى صَاحِبِهِ فَضْلَ مَا اقْتَضَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَى الَّذِي لَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ) فَكَانَ تَرْكُهُ لَهُ (وَإِنْ وَضَعَ عَنْهُ أَحَدُهُمَا الَّذِي لَهُ ثُمَّ اقْتَضَى صَاحِبُهُ بَعْضَ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ عَجَزَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَرُدُّ الَّذِي اقْتَضَى عَلَى صَاحِبِهِ) أَيْ لَهُ (شَيْئًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَى الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ) وَذَلِكَ أَسَقَطَ مَالَهُ (وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَكُونُ لِلرَّجُلَيْنِ بِكِتَابٍ وَاحِدٍ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيُنْظِرُهُ أَحَدُهُمَا وَيَشِحُّ) أَيْ يَأْبَى (الْآخَرُ فَيَقْضِي بَعْضَ حَقِّهِ ثُمَّ يُفْلِسُ الْغَرِيمُ، فَلَيْسَ عَلَى الَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَرُدَّ شَيْئًا مِمَّا أَخَذَ) لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ مَالَهُ.

ص: 178

[باب الْحَمَالَةِ فِي الْكِتَابَةِ]

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبِيدَ إِذَا كُوتِبُوا جَمِيعًا كِتَابَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ بَعْضَهُمْ حُمَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ وَإِنَّهُ لَا يُوضَعُ عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَحَدِهِمْ شَيْءٌ وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ قَدْ عَجَزْتُ وَأَلْقَى بِيَدَيْهِ فَإِنَّ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ فِيمَا يُطِيقُ مِنْ الْعَمَلِ وَيَتَعَاوَنُونَ بِذَلِكَ فِي كِتَابَتِهِمْ حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِهِمْ إِنْ عَتَقُوا وَيَرِقَّ بِرِقِّهِمْ إِنْ رَقُّوا قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يَنْبَغِ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ لَهُ بِكِتَابَةِ عَبْدِهِ أَحَدٌ إِنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ عَجَزَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ تَحَمَّلَ رَجُلٌ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ ثُمَّ اتَّبَعَ ذَلِكَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ قِبَلَ الَّذِي تَحَمَّلَ لَهُ أَخَذَ مَالَهُ بَاطِلًا لَا هُوَ ابْتَاعَ الْمُكَاتَبَ فَيَكُونَ مَا أُخِذَ مِنْهُ مِنْ ثَمَنِ شَيْءٍ هُوَ لَهُ وَلَا الْمُكَاتَبُ عَتَقَ فَيَكُونَ فِي ثَمَنِ حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ لَهُ فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ رَجَعَ إِلَى سَيِّدِهِ وَكَانَ عَبْدًا مَمْلُوكًا لَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ يُتَحَمَّلُ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ بِهَا إِنَّمَا هِيَ شَيْءٌ إِنْ أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ عَتَقَ وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ سَيِّدُهُ بِكِتَابَتِهِ وَكَانَ الْغُرَمَاءُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ سَيِّدِهِ وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ رُدَّ عَبْدًا مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهِ وَكَانَتْ دُيُونُ النَّاسِ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ لَا يَدْخُلُونَ مَعَ سَيِّدِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ثَمَنِ رَقَبَتِهِ قَالَ مَالِكٌ إِذَا كَاتَبَ الْقَوْمُ جَمِيعًا كِتَابَةً وَاحِدَةً وَلَا رَحِمَ بَيْنَهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِهَا فَإِنَّ بَعْضَهُمْ حُمَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ وَلَا يَعْتِقُ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ حَتَّى يُؤَدُّوا الْكِتَابَةَ كُلَّهَا فَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَتَرَكَ مَالًا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ مَا عَلَيْهِمْ أُدِّيَ عَنْهُمْ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِمْ وَكَانَ فَضْلُ الْمَالِ لِسَيِّدِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ كَاتَبَ مَعَهُ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ شَيْءٌ وَيَتْبَعُهُمْ السَّيِّدُ بِحِصَصِهِمْ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكِتَابَةِ الَّتِي قُضِيَتْ مِنْ مَالِ الْهَالِكِ لِأَنَّ الْهَالِكَ إِنَّمَا كَانَ تَحَمَّلَ عَنْهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا مَا عَتَقُوا بِهِ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ الْهَالِكِ وَلَدٌ حُرٌّ لَمْ يُولَدْ فِي الْكِتَابَةِ وَلَمْ يُكَاتَبْ عَلَيْهِ لَمْ يَرِثْهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى مَاتَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ الْحَمَالَةِ فِي الْكِتَابَةِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبِيدَ إِذَا كُوتِبُوا جَمِيعًا كِتَابَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ بَعْضَهُمْ حُمَلَاءُ) ضَامِنُونَ (عَنْ بَعْضٍ، وَإِنَّهُ لَا يُوضَعُ عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَحَدِهِمْ شَيْءٌ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ: قَدْ عَجَزْتُ، وَأَلْقَى بِيَدَيْهِ) لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ (فَإِنَّ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ مَا يُطِيقُ مِنَ الْعَمَلِ) لَا مَا لَا يُطِيقُهُ (وَيَتَعَاوَنُونَ بِذَلِكَ فِي كِتَابَتِهِمْ حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِهِمْ إِنْ عَتَقُوا أَوْ يَرِقَّ بِرِقِّهِمْ إِنْ رَقُّوا)

ص: 178

وَهَذَا مِنْ ثَمَرَةِ كَوْنِهِمْ حُمَلَاءَ. (وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يَنْبَغِ) لَمْ يَجُزْ (لِسَيِّدِهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ لَهُ بِكِتَابَةِ عَبْدِهِ أَحَدٌ) فَاعِلُ يَتَحَمَّلُ (إِنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ عَجَزَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ حَمَلَ) ضَمِنَ (رَجُلٌ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ قِبَلَ) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ، جِهَةَ (الَّذِي تَحَمَّلَ لَهُ أَخَذَ مَالَهُ بَاطِلًا) بَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ الْبُطْلَانِ بِقَوْلِهِ:(لَا هُوَ) أَيِ الْمُتَحَمِّلُ (ابْتَاعَ) اشْتَرَى (الْمُكَاتَبَ فَيَكُونُ مَا أُخِذَ مِنْهُ مِنْ ثَمَنِ شَيْءٍ هُوَ لَهُ، وَلَا لِمُكَاتَبٍ عُتِقَ فَيَكُونُ فِي ثَمَنِ حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ لَهُ) وَهِيَ حُرْمَةُ الْعِتْقِ لَوْ كَانَ (فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ رَجَعَ إِلَى سَيِّدِهِ، وَكَانَ عَبْدًا مَمْلُوكًا لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ يُتَحَمَّلُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ (لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ بِهَا إِنَّمَا هِيَ شَيْءٌ إِنْ أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ عَتَقَ) وَإِلَّا رَقَّ، وَالْحَمَالَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الدُّيُونِ السَّابِقَةِ.

(وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يُحَاصَّ) بِالْإِدْغَامِ (الْغُرَمَاءَ) مَفْعُولُ فَاعِلِهِ (سَيِّدُهُ بِكِتَابَتِهِ) أَيْ بِمَا بَقِيَ مِنْهَا أَوْ بِمَا حَلَّ مِنْ نُجُومِهِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ (وَكَانَ الْغُرَمَاءُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ سَيِّدِهِ) أَيْ أَحَقُّ، أَيْ أَنَّهُ حَقُّهُمْ دُونَهُ وَلَوْ كَانَتْ دَيْنًا ثَابِتًا لَحَاصَصَهُمْ (وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ، رُدَّ عَبْدًا مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهِ، وَكَانَتْ دُيُونُ النَّاسِ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ) وَيَتْبَعُونَهُ إِذَا عَتَقَ (لَا يَدْخُلُونَ مَعَ سَيِّدِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ثَمَنِ رَقَبَتِهِ) لِأَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ لَهُ إِنَّمَا هِيَ فِي ذِمَّتِهِ لَا فِي رَقَبَتِهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ: " إِنَّ الْحَمَالَةَ لَا تَصِحُّ عَنِ الْمُكَاتَبِ " الْجُمْهُورُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَأَحْسَنَ مَالِكٌ فِي احْتِجَاجِهِ لِذَلِكَ.

ص: 179

(وَإِذَا كَاتَبَ الْقَوْمُ جَمِيعًا كِتَابَةً وَاحِدَةً وَلَا رَحِمَ بَيْنَهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِهَا، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ حُمَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَعْتِقُ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ حَتَّى يُؤَدُّوا الْكِتَابَةَ كُلَّهَا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَتَرَكَ مَالًا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ مَا عَلَيْهِمْ أَدَّى عَنْهُمْ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فَضْلُ الْمَالِ) أَيْ مَا بَقِيَ مِنْهُ (لِسَيِّدِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ كَاتَبَ مَعَهُ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ) أَيْ بَاقِيهِ (شَيْءٌ وَيُتْبِعُهُمُ السَّيِّدُ بِحِصَصِهِمُ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكِتَابَةِ الَّتِي قُضِيَتْ مِنْ مَالِ الْهَالِكِ) الْمَيِّتِ (لِأَنَّ الْهَالِكَ إِنَّمَا كَانَ يَحْمِلُ عَنْهُمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا مَا عَتَقُوا بِهِ مِنْ مَالِهِ) لِأَجْلِ الْحَمَالَةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِسَيِّدِهِ مِلْكًا (وَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَدٌ حُرٌّ لَمْ يُولَدْ فِي الْكِتَابَةِ وَلَمْ يُكَاتَبْ عَلَيْهِ لَمْ يَرِثْهُ ; لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى مَاتَ) وَهُوَ عَبْدٌ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ.

ص: 180

[باب الْقِطَاعَةِ فِي الْكِتَابَةِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تُقَاطِعُ مُكَاتَبِيهَا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَاطِعَهُ عَلَى حِصَّتِهِ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَلَوْ قَاطَعَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ ثُمَّ حَازَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ مَالٌ أَوْ عَجَزَ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ قَاطَعَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا قَاطَعَهُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعَ حَقَّهُ فِي رَقَبَتِهِ وَلَكِنْ مَنْ قَاطَعَ مُكَاتَبًا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَإِنْ أَحَبَّ الَّذِي قَاطَعَهُ أَنْ يَرُدَّ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ مِنْ الْقِطَاعَةِ وَيَكُونُ عَلَى نَصِيبِهِ مِنْ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا اسْتَوْفَى الَّذِي بَقِيَتْ لَهُ الْكِتَابَةُ حَقَّهُ الَّذِي بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ بَيْنَ الَّذِي قَاطَعَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَاطَعَهُ وَتَمَاسَكَ صَاحِبُهُ بِالْكِتَابَةِ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قِيلَ لِلَّذِي قَاطَعَهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرُدَّ عَلَى صَاحِبِكَ نِصْفَ الَّذِي أَخَذْتَ وَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَكُمَا شَطْرَيْنِ وَإِنْ أَبَيْتَ فَجَمِيعُ الْعَبْدِ لِلَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ خَالِصًا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيُقَاطِعُهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَقْتَضِي الَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ مِثْلَ مَا قَاطَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَعْجِزُ الْمُكَاتَبُ قَالَ مَالِكٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَى الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ اقْتَضَى أَقَلَّ مِمَّا أَخَذَ الَّذِي قَاطَعَهُ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَأَحَبَّ الَّذِي قَاطَعَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا تَفَضَّلَهُ بِهِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ وَإِنْ أَبَى فَجَمِيعُ الْعَبْدِ لِلَّذِي لَمْ يُقَاطِعْهُ وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا فَأَحَبَّ الَّذِي قَاطَعَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا تَفَضَّلَهُ بِهِ وَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ لَهُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِالْكِتَابَةِ قَدْ أَخَذَ مِثْلَ مَا قَاطَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ أَوْ أَفْضَلَ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ حَقَّهُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيُقَاطِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى نِصْفِ حَقِّهِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَقْبِضُ الَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ أَقَلَّ مِمَّا قَاطَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ثُمَّ يَعْجِزُ الْمُكَاتَبُ قَالَ مَالِكٌ إِنْ أَحَبَّ الَّذِي قَاطَعَ الْعَبْدَ أَنْ يُرَدَّ عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا تَفَضَّلَهُ بِهِ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا شَطْرَيْنِ وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّ فَلِلَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ حِصَّةُ صَاحِبِهِ الَّذِي كَانَ قَاطَعَ عَلَيْهِ الْمُكَاتَبَ قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا شَطْرَيْنِ فَيُكَاتِبَانِهِ جَمِيعًا ثُمَّ يُقَاطِعُ أَحَدُهُمَا الْمُكَاتَبَ عَلَى نِصْفِ حَقِّهِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ الرُّبُعُ مِنْ جَمِيعِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَعْجِزُ الْمُكَاتَبُ فَيُقَالُ لِلَّذِي قَاطَعَهُ إِنْ شِئْتَ فَارْدُدْ عَلَى صَاحِبِكَ نِصْفَ مَا فَضَلْتَهُ بِهِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَكُمَا شَطْرَيْنِ وَإِنْ أَبَى كَانَ لِلَّذِي تَمَسَّكَ بِالْكِتَابَةِ رُبُعُ صَاحِبِهِ الَّذِي قَاطَعَ الْمُكَاتَبَ عَلَيْهِ خَالِصًا وَكَانَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَكَانَ لِلَّذِي قَاطَعَ رُبُعُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ أَبَى أَنْ يَرُدَّ ثَمَنَ رُبُعِهِ الَّذِي قَاطَعَ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يُقَاطِعُهُ سَيِّدُهُ فَيَعْتِقُ وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ قَطَاعَتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ قَالَ مَالِكٌ فَإِنَّ سَيِّدَهُ لَا يُحَاصُّ غُرَمَاءَهُ بِالَّذِي عَلَيْهِ مِنْ قَطَاعَتِهِ وَلِغُرَمَائِهِ أَنْ يُبَدَّءُوا عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُقَاطِعَ سَيِّدَهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ فَيَعْتِقُ وَيَصِيرُ لَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّ أَهْلَ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ سَيِّدِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَائِزٍ لَهُ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ ثُمَّ يُقَاطِعُهُ بِالذَّهَبِ فَيَضَعُ عَنْهُ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ مَا قَاطَعَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَنْ كَرِهَهُ لِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ إِلَى أَجَلٍ فَيَضَعُ عَنْهُ وَيَنْقُدُهُ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ الدَّيْنِ إِنَّمَا كَانَتْ قَطَاعَةُ الْمُكَاتَبِ سَيِّدَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مَالًا فِي أَنْ يَتَعَجَّلَ الْعِتْقَ فَيَجِبُ لَهُ الْمِيرَاثُ وَالشَّهَادَةُ وَالْحُدُودُ وَتَثْبُتُ لَهُ حُرْمَةُ الْعَتَاقَةِ وَلَمْ يَشْتَرِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَلَا ذَهَبًا بِذَهَبٍ وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ قَالَ لِغُلَامِهِ ائْتِنِي بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا وَأَنْتَ حُرٌّ فَوَضَعَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنْ جِئْتَنِي بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَلَيْسَ هَذَا دَيْنًا ثَابِتًا وَلَوْ كَانَ دَيْنًا ثَابِتًا لَحَاصَّ بِهِ السَّيِّدُ غُرَمَاءَ الْمُكَاتَبِ إِذَا مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي مَالِ مُكَاتَبِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ الْقَطَاعَةِ فِي الْكِتَابَةِ

بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، اسْمُ مَصْدَرِ قَاطَعَ وَالْمَصْدَرُ الْمُقَاطَعَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَطَعَ طَلَبَ سَيِّدِهِ عَنْهُ بِمَا أَعْطَاهُ، أَوْ قَطَعَ لَهُ بِتَمَامِ حُرِّيَّتِهِ بِذَلِكَ، أَوْ قَطَعَ بَعْضَ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُ، قَالَهُ عِيَاضٌ.

1484 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ) هِنْدَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ الْقُرَشِيَّةَ الْمَخْزُومِيَّةَ (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهَا (كَانَتْ تُقَاطِعُ مُكَاتَبِيهَا) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، جَمْعُ مُكَاتَبٍ، وَكَاتَبَتْ عِدَّةً مِنْهُمْ

ص: 180

سُلَيْمَانُ، وَعَطَاءٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ الْأَرْبَعَةُ أَوْلَادُ يَسَارٍ، وَكُلُّهُمْ أُخِذَ عَنْهُ الْعِلْمُ، وَعَطَاءٌ أَكْثَرُهُمْ حَدِيثًا، وَسُلَيْمَانُ أَفْقَهُهُمْ، وَالْآخَرَانِ قَلِيلَا الْحَدِيثِ، وَكُلُّهُمْ ثِقَةٌ رِضًا كَمَا فِي التَّمْهِيدِ، وَكَاتَبَتْ أَيْضًا نَبْهَانَ وَنُفَيْعًا (بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ) أَيْ تَأْخُذُهُ مِنْهُمْ عَاجِلًا فِي نَظِيرِ مَا كَاتَبَتْهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: ذَكَرَ مَالِكٌ هَذَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْقَطَاعَةِ إِلَّا بِالْعُرُوضِ، وَيَرَاهُ مِنْ بَابِ ضَعْ وَتَعَجَّلْ. (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَاطِعَهُ عَلَى حِصَّتِهِ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ بَيْنَهُمَا) مُنَاصَفَةً أَوْ غَيْرَهَا (فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ) أَيْ يَحْرُمُ (وَلَوْ) وَقَعَ ذَلِكَ وَ (قَاطَعَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ ثُمَّ حَازَ) بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ (ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ مَالٌ، أَوْ عَجَزَ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ قَاطَعَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ) لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الْمُقَاطَعَةِ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا قَاطَعَهُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعَ حَقُّهُ فِي رَقَبَتِهِ) إِذْ لَا حَقَّ لَهُ حَتَّى يَرْجِعَ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ (وَلَكِنْ مَنْ قَاطَعَ مُكَاتَبًا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، فَإِنْ أَحَبَّ الَّذِي قَاطَعَهُ أَنْ يَرُدَّ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ مِنَ الْقَطَاعَةِ وَيَكُونُ عَلَى نَصِيبِهِ مِنْ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ) وَإِنْ أَحَبَّ لَمْ يَرُدَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْمُكَاتَبِ.

(وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا اسْتَوْفَى الَّذِي بَقِيَتْ لَهُ الْكِتَابَةُ حَقَّهُ الَّذِي بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ) رَأْسِ (مَالِهِ ثُمَّ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ بَيْنَ الَّذِي قَاطَعَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا فِي الْمُكَاتَبِ) نِصْفًا أَوْ ثُلْثًا وَغَيْرَهُمَا

ص: 181

(وَإِنْ أَحَدُهُمَا قَاطَعَهُ وَتَمَاسَكَ صَاحِبُهُ بِالْكِتَابَةِ) أَيْ لَمْ يُقَاطِعْهُ (ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، قِيلَ لِلَّذِي قَاطَعَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرُدَّ عَلَى صَاحِبِكَ نِصْفَ الَّذِي أَخَذْتَ وَيَكُونَ الْعَبْدُ بَيْنَكُمَا شَطْرَيْنِ) فَلَكَ ذَلِكَ. (وَإِنْ أَبَيْتَ فَجَمِيعُ الْعَبْدِ لِلَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ خَالِصًا) لَا شَيْءَ لَكَ فِيهِ. (قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيُقَاطِعُهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُ الَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ) مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ (مِثْلَ مَا قَاطَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، قَالَ مَالِكٌ: فَهُوَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَى الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ) فَلَا يَرْجِعُ الْمُقَاطَعُ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِمَا زَادَ. (وَإِنِ اقْتَضَى أَقَلَّ مِمَّا أَخَذَ الَّذِي قَاطَعَهُ، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَأَحَبَّ الَّذِي قَاطَعَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا تَفَضَّلَهُ) أَيْ زَادَ عَلَيْهِ (بِهِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ أَبَى فَجَمِيعُ الْعَبْدِ لِلَّذِي لَمْ يُقَاطِعْهُ) لِبَقَاءِ حَقِّهِ.

(وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا فَأَحَبَّ الَّذِي قَاطَعَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا تَفَضَّلَهُ بِهِ وَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِالْكِتَابَةِ قَدْ أَخَذَ مِثْلَ مَا قَاطَعَ عَلَيْهِ شَرِيكَهُ أَوْ أَفْضَلَ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مَلْكِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ حَقَّهُ) فَلَا كَلَامَ عَلَيْهِ لِمَنْ قَاطَعَ. (وَفِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيُقَاطِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى نِصْفِ حَقِّهِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَقْبِضُ الَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ) وَلَمْ يُقَاطِعْ

ص: 182

(أَقَلَّ مِمَّا قَاطَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ثُمَّ يَعْجِزُ الْمُكَاتَبُ، قَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَحَبَّ الَّذِي قَاطَعَ الْعَبْدَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا تَفَضَّلَهُ بِهِ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا شَطْرَيْنِ) نِصْفَيْنِ إِنْ كَانَا مَلَكَاهُ كَذَلِكَ (وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّ فَلِلَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ حِصَّةُ صَاحِبِهِ الَّذِي كَانَ قَاطَعَ عَلَيْهِ الْمُكَاتَبَ) أَيْ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا لِسُقُوطِ حَقِّ الْمُقَاطِعِ بِالْمُقَاطَعَةِ، وَأَعَادَ هَذَا لِقَوْلِهِ:(وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُ وَجْهِهِ (أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا شَطْرَيْنِ فَيُكَاتِبَانِهِ جَمِيعًا ثُمَّ يُقَاطِعُ أَحَدُهُمَا الْمُكَاتَبُ عَلَى نِصْفِ حَقِّهِ) بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مِائَةٌ فَيَأْخُذَ خَمْسِينَ (بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ الرُّبْعُ مِنْ جَمِيعِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَعْجِزُ الْمُكَاتَبُ فَيُقَالُ لِلَّذِي قَاطَعَهُ: إِنْ شِئْتَ فَارْدُدْ عَلَى صَاحِبِكَ) شَرِيكَكَ (نِصْفَ مَا فَضَلْتَهُ بِهِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَكُمَا شَطْرَيْنِ، وَإِنْ أَبَى كَانَ لِلَّذِي تَمَسَّكَ بِالْكِتَابَةِ رُبُعُ صَاحِبِهِ الَّذِي قَاطَعَ عَلَيْهِ الْمُكَاتَبَ خَالِصًا) لَا شِرْكَ لَهُ فِيهِ (وَكَانَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ) أَصَالَةً (فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، وَكَانَ لِلَّذِي قَاطَعَ رُبُعُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ أَبَى أَنْ يَرُدَّ ثَمَنَ رُبُعِهِ الَّذِي قَاطَعَ عَلَيْهِ) وَهَذَا تَوْجِيهٌ وَجِيهٌ (وَفِي الْمُكَاتَبِ يُقَاطِعُهُ سَيِّدُهُ فَيَعْتِقُ وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ قَطَاعَتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ، قَالَ مَالِكٌ: فَإِنَّ سَيِّدَهُ لَا يُحَاصُّ غُرَمَاءَهُ بِالَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَطَاعَتِهِ وَلِغُرَمَائِهِ أَنْ يَبْدُوا عَلَيْهِ) أَيْ أَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ (وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُقَاطِعَ سَيِّدَهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ

ص: 183

لِلنَّاسِ فَيَعْتِقُ وَيَصِيرُ لَا شَيْءَ لَهُ ; لِأَنَّ أَهْلَ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ سَيِّدِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَائِزٍ لَهُ) لِأَنَّهُ يُقَاطِعُ بِأَمْوَالِ النَّاسِ.

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ ثُمَّ يُقَاطِعُهُ بِالذَّهَبِ فَيَضَعُ عَنْهُ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ مَا قَاطَعَهُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ) أَيْ يَجُوزُ (وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَنْ كَرِهَهُ لِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ إِلَى أَجَلٍ فَيَضَعُ عَنْهُ) بَعْضَهُ (وَيُنْقِدُهُ) الْبَاقِي يُعَجِّلُهُ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ لِضَعْ وَتَعَجَّلْ، فَقَالَ: عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْمُكَاتَبِ (وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ الدَّيْنِ إِنَّمَا كَانَتْ قَطَاعَةُ الْمُكَاتَبِ سَيِّدَهُ عَلَى أَنَّهُ فِي أَنْ يَتَعَجَّلَ الْعِتْقَ فَيَجِبُ) يَثْبُتُ (لَهُ الْمِيرَاثُ وَالشَّهَادَةُ وَالْحُدُودُ وَتَثْبُتُ لَهُ حُرْمَةُ الْعَتَاقَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَلَا ذَهَبًا بِذَهَبٍ) حَتَّى يَكُونَ فِيهِ وَضْعٌ وَتَعَجُّلٌ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ ; إِذِ الْعِتْقُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ ثَابِتٍ إِنَّمَا هِيَ عِتْقٌ عَلَى مَالٍ.

(وَإِنَّمَا مَثَلُ) أَيْ صِفَةُ (ذَلِكَ) مَثَلُ (رَجُلٌ قَالَ لِغُلَامِهِ: ائْتِنِي بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا) كِنَايَةً عَنْ عَدَدٍ سَمَّاهُ (وَأَنْتَ حُرٌّ فَوَضَعَ) حَطَّ (عَنْهُ مِنْ) أَيْ بَعْضِ (ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ جِئْتَنِي بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَلَيْسَ هَذَا دَيْنًا وَلَوْ كَانَ دَيْنًا لَحَاصَّ بِهِ السَّيِّدُ غُرَمَاءَ الْمَكَاتَبِ إِذَا مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي مَالِ مُكَاتَبَتِهِ) مَعَ أَنَّهُ لَا يُحَاصِصُ وَلَا يَدْخُلُ.

ص: 184

[باب جِرَاحِ الْمُكَاتَبِ]

قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ يَجْرَحُ الرَّجُلَ جَرْحًا يَقَعُ فِيهِ الْعَقْلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِنْ قَوِيَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ مَعَ كِتَابَتِهِ أَدَّاهُ وَكَانَ عَلَى كِتَابَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ كِتَابَتِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّيَ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَإِنْ هُوَ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ عَقْلِ ذَلِكَ الْجَرْحِ خُيِّرَ سَيِّدُهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُؤَدِّيَ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ فَعَلَ وَأَمْسَكَ غُلَامَهُ وَصَارَ عَبْدًا مَمْلُوكًا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَبْدَ إِلَى الْمَجْرُوحِ أَسْلَمَهُ وَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ عَبْدَهُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يُكَاتَبُونَ جَمِيعًا فَيَجْرَحُ أَحَدُهُمْ جَرْحًا فِيهِ عَقْلٌ قَالَ مَالِكٌ مَنْ جَرَحَ مِنْهُمْ جَرْحًا فِيهِ عَقْلٌ قِيلَ لَهُ وَلِلَّذِينَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ أَدُّوا جَمِيعًا عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ فَإِنْ أَدَّوْا ثَبَتُوا عَلَى كِتَابَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُؤَدُّوا فَقَدْ عَجَزُوا وَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُمْ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ وَرَجَعُوا عَبِيدًا لَهُ جَمِيعًا وَإِنْ شَاءَ أَسْلَمَ الْجَارِحَ وَحْدَهُ وَرَجَعَ الْآخَرُونَ عَبِيدًا لَهُ جَمِيعًا بِعَجْزِهِمْ عَنْ أَدَاءِ عَقْلِ ذَلِكَ الْجَرْحِ الَّذِي جَرَحَ صَاحِبُهُمْ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أُصِيبَ بِجَرْحٍ يَكُونُ لَهُ فِيهِ عَقْلٌ أَوْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْمُكَاتَبِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ فَإِنَّ عَقْلَهُمْ عَقْلُ الْعَبِيدِ فِي قِيمَتِهِمْ وَأَنَّ مَا أُخِذَ لَهُمْ مِنْ عَقْلِهِمْ يُدْفَعُ إِلَى سَيِّدِهِمْ الَّذِي لَهُ الْكِتَابَةُ وَيُحْسَبُ ذَلِكَ لِلْمُكَاتَبِ فِي آخِرِ كِتَابَتِهِ فَيُوضَعُ عَنْهُ مَا أَخَذَ سَيِّدُهُ مِنْ دِيَةِ جَرْحِهِ قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَكَانَ دِيَةُ جَرْحِهِ الَّذِي أَخَذَهَا سَيِّدُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ إِلَى سَيِّدِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ مِنْ دِيَةِ جَرْحِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَدْ عَتَقَ وَإِنْ كَانَ عَقْلُ جَرْحِهِ أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَخَذَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ وَعَتَقَ وَكَانَ مَا فَضَلَ بَعْدَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ لِلْمُكَاتَبِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ إِلَى الْمُكَاتَبِ شَيْءٌ مِنْ دِيَةِ جَرْحِهِ فَيَأْكُلَهُ وَيَسْتَهْلِكَهُ فَإِنْ عَجَزَ رَجَعَ إِلَى سَيِّدِهِ أَعْوَرَ أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدِ أَوْ مَعْضُوبَ الْجَسَدِ وَإِنَّمَا كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ عَلَى مَالِهِ وَكَسْبِهِ وَلَمْ يُكَاتِبْهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ ثَمَنَ وَلَدِهِ وَلَا مَا أُصِيبَ مِنْ عَقْلِ جَسَدِهِ فَيَأْكُلَهُ وَيَسْتَهْلِكَهُ وَلَكِنْ عَقْلُ جِرَاحَاتِ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ أَوْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ يُدْفَعُ إِلَى سَيِّدِهِ وَيُحْسَبُ ذَلِكَ لَهُ فِي آخِرِ كِتَابَتِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ جِرَاحِ الْمُكَاتَبِ

- (مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ يَجْرَحُ الرَّجُلَ جَرْحًا يَقَعُ فِيهِ الْعَقْلُ عَلَيْهِ) أَيْ يَلْزَمُهُ عَقْلُ مَا جَرَحَ (أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِنْ قَوِيَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ مَعَ كِتَابَتِهِ، أَدَّاهُ وَكَانَ عَلَى كِتَابَتِهِ) بَقِيَ عَلَيْهَا (وَإِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ كِتَابَتِهِ) فَعَادَ قِنًّا (وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي) يَجِبُ (أَنْ يُؤَدِّيَ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ هُوَ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ عَقْلِ ذَلِكَ الْجُرْحِ، فَعَلَ وَأَمْسَكَ غُلَامَهُ وَصَارَ عَبْدًا مَمْلُوكًا) لِعَجْزِهِ عَنِ الْكِتَابَةِ (وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَبْدَ إِلَى الْمَجْرُوحِ أَسْلَمَهُ، وَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ عَبْدَهُ) وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَمَّا فِي الْجُرْحِ. (وَفِي الْقَوْمِ يَتَكَاتَبُونَ جَمِيعًا فَيُجْرَحُ أَحَدُهُمْ جُرْحًا فِيهِ عَقْلٌ، قَالَ مَالِكٌ: مَنْ جَرَحَ مِنْهُمْ جُرْحًا فِيهِ عَقْلٌ قِيلَ لَهُ وَلِلَّذِينِ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ: أَدُّوا جَمِيعًا عَقْلَ ذَلِكَ الْجُرْحِ) لِأَنَّكُمْ حُمَلَاءُ (فَإِنْ أَدَّوْا ثَبَتُوا عَلَى كِتَابَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُؤَدُّوهُ فَقَدْ عَجَزُوا، وَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُمْ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى عَقْلَ ذَلِكَ الْجُرْحِ وَرَجَعُوا عَبِيدًا لَهُ جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءَ أَسْلَمَ الْجَارِحَ وَحْدَهُ) لِأَنَّهُ الْجَانِي (وَرَجَعَ الْآخَرُونَ عَبِيدًا لَهُ جَمِيعًا بِعَجْزِهِمْ) الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ (عَنْ أَدَاءِ عَقْلِ ذَلِكَ الْجُرْحِ الَّذِي جَرَحَ صَاحِبُهُمْ) الَّذِي

ص: 185

مَعَهُمْ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ حُمَلَاءُ.

(مَالِكٌ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أُصِيبَ بِجُرْحٍ يَكُونُ لَهُ فِيهِ عَقْلٌ، أَوْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْمُكَاتَبِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ، فَإِنَّ عَقْلَهُمْ عَقْلُ الْعَبِيدِ فِي قِيمَتِهِمْ) لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ (وَأَنَّ مَا أُخِذَ لَهُمْ مِنْ عَقْلِهِمْ يُدْفَعُ إِلَى سَيِّدِهِمُ الَّذِي لَهُ الْكِتَابَةُ، وَيُحْسَبُ ذَلِكَ لِلْمُكَاتَبِ فِي آخِرِ كِتَابَتِهِ فَيُوضَعُ عَنْهُ مَا أَخَذَ سَيِّدُهُ مِنْ دِيَةِ جُرْحِهِ) لِإِحْرَازِهِ مَالَهُ وَهُوَ مَالُهُ. (وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُهُ وَإِيضَاحُ عِلَّةِ حُكْمِهِ (أَنَّهُ كَانَ كَاتَبَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ) مَثَلًا (وَكَانَ دِيَةُ جُرْحِهِ الَّذِي أَخَذَهَا سَيِّدُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ إِلَى سَيِّدِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ مِنْ دِيَةِ جَرْحِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَدْ عَتَقَ) لِأَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ. (وَإِنْ كَانَ عَقْلُ جُرْحِهِ أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَى الْمُكَاتَبِ، أَخَذَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ وَعَتَقَ) الْمُكَاتَبُ (وَكَانَ مَا فَضَلَ بَعْدَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ لِلْمُكَاتَبِ، وَلَا يَنْبَغِي) لَا يَجُوزُ (أَنْ يُدْفَعَ إِلَى الْمُكَاتَبِ شَيْءٌ مِنْ دِيَةِ جُرْحِهِ فَيَأْكُلَهُ وَيَسْتَهْلِكَهُ، فَإِنْ عَجَزَ رَجَعَ إِلَى سَيِّدِهِ أَعْوَرَ أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدِ أَوْ مَعْضُوبَ) بِمُهْمَلَةِ فَمُعْجَمَةٍ، أَيْ مَقْطُوعَ (الْجَسَدِ) وَالْمَعْنَى يَرْجِعُ بِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْجُرْحِ (وَإِنَّمَا كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ عَلَى مَالِهِ وَكَسْبِهِ وَلَمْ يُكَاتِبْهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ ثَمَنَ وَلَدِهِ وَلَا مَا أُصِيبَ مِنْ عَقْلِ جَسَدِهِ فَيَأْكُلَهُ وَيَسْتَهْلِكَهُ) فَلِذَا كَانَ لِلْمُكَاتَبِ عَقْلُ جِرَاحِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ

ص: 186

(وَلَكِنْ عَقْلُ جِرَاحَاتِ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ أَوْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ، يُدْفَعُ إِلَى سَيِّدِهِ وَيُحْسَبُ ذَلِكَ لَهُ فِي آخِرِ كِتَابَتِهِ) لِيَخْرُجَ حُرًّا.

ص: 187

[باب بَيْعِ الْمُكَاتَبِ]

قَالَ مَالِكٌ إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي مُكَاتَبَ الرَّجُلِ أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ إِذَا كَانَ كَاتَبَهُ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ إِلَّا بِعَرْضٍ مِنْ الْعُرُوضِ يُعَجِّلُهُ وَلَا يُؤَخِّرُهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَخَّرَهُ كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ قَالَ وَإِنْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبَ سَيِّدُهُ بِعَرْضٍ مِنْ الْعُرُوضِ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ أَوْ الرَّقِيقِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ عَرْضٍ مُخَالِفٍ لِلْعُرُوضِ الَّتِي كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ عَلَيْهَا يُعَجِّلُ ذَلِكَ وَلَا يُؤَخِّرُهُ قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ إِذَا بِيعَ كَانَ أَحَقَّ بِاشْتِرَاءِ كِتَابَتِهِ مِمَّنْ اشْتَرَاهَا إِذَا قَوِيَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى سَيِّدِهِ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ نَقْدًا وَذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ نَفْسَهُ عَتَاقَةٌ وَالْعَتَاقَةُ تُبَدَّأُ عَلَى مَا كَانَ مَعَهَا مِنْ الْوَصَايَا وَإِنْ بَاعَ بَعْضُ مَنْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبَ نَصِيبَهُ مِنْهُ فَبَاعَ نِصْفَ الْمُكَاتَبِ أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ أَوْ سَهْمًا مِنْ أَسْهُمِ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ فِيمَا بِيعَ مِنْهُ شُفْعَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْقَطَاعَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاطِعَ بَعْضَ مَنْ كَاتَبَهُ إِلَّا بِإِذْنِ شُرَكَائِهِ وَأَنَّ مَا بِيعَ مِنْهُ لَيْسَتْ لَهُ بِهِ حُرْمَةٌ تَامَّةٌ وَأَنَّ مَالَهُ مَحْجُورٌ عَنْهُ وَأَنَّ اشْتِرَاءَهُ بَعْضَهُ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهُ الْعَجْزُ لِمَا يَذْهَبُ مِنْ مَالِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاءِ الْمُكَاتَبِ نَفْسَهُ كَامِلًا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَنْ بَقِيَ لَهُ فِيهِ كِتَابَةٌ فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ كَانَ أَحَقَّ بِمَا بِيعَ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ لَا يَحِلُّ بَيْعُ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِ الْمُكَاتَبِ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَرَرٌ إِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ بَطَلَ مَا عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِلنَّاسِ لَمْ يَأْخُذْ الَّذِي اشْتَرَى نَجْمَهُ بِحِصَّتِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَرِي نَجْمًا مِنْ نُجُومِ الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ فَسَيِّدُ الْمُكَاتَبِ لَا يُحَاصُّ بِكِتَابَةِ غُلَامِهِ غُرَمَاءَ الْمُكَاتَبِ وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ أَيْضًا يَجْتَمِعُ لَهُ عَلَى غُلَامِهِ فَلَا يُحَاصُّ بِمَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ الْخَرَاجِ غُرَمَاءَ غُلَامِهِ قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْمُكَاتَبُ كِتَابَتَهُ بِعَيْنٍ أَوْ عَرْضٍ مُخَالِفٍ لِمَا كُوتِبَ بِهِ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ الْعَرْضِ أَوْ غَيْرِ مُخَالِفٍ مُعَجَّلٍ أَوْ مُؤَخَّرٍ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَهْلِكُ وَيَتْرُكُ أُمَّ وَلَدٍ وَأَوْلَادًا لَهُ صِغَارًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَقْوَوْنَ عَلَى السَّعْيِ وَيُخَافُ عَلَيْهِمْ الْعَجْزُ عَنْ كِتَابَتِهِمْ قَالَ تُبَاعُ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ إِذَا كَانَ فِي ثَمَنِهَا مَا يُؤَدَّى بِهِ عَنْهُمْ جَمِيعُ كِتَابَتِهِمْ أُمَّهُمْ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ أُمِّهِمْ يُؤَدَّى عَنْهُمْ وَيَعْتِقُونَ لِأَنَّ أَبَاهُمْ كَانَ لَا يَمْنَعُ بَيْعَهَا إِذَا خَافَ الْعَجْزَ عَنْ كِتَابَتِهِ فَهَؤُلَاءِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِمْ الْعَجْزُ بِيعَتْ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ فَيُؤَدَّى عَنْهُمْ ثَمَنُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِهَا مَا يُؤَدَّى عَنْهُمْ وَلَمْ تَقْوَ هِيَ وَلَا هُمْ عَلَى السَّعْيِ رَجَعُوا جَمِيعًا رَقِيقًا لِسَيِّدِهِمْ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَبْتَاعُ كِتَابَةَ الْمُكَاتَبِ ثُمَّ يَهْلِكُ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كِتَابَتَهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ الَّذِي اشْتَرَى كِتَابَتَهُ وَإِنْ عَجَزَ فَلَهُ رَقَبَتُهُ وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ كِتَابَتَهُ إِلَى الَّذِي اشْتَرَاهَا وَعَتَقَ فَوَلَاؤُهُ لِلَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ لَيْسَ لِلَّذِي اشْتَرَى كِتَابَتَهُ مِنْ وَلَائِهِ شَيْءٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ

هُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَيْ كِتَابَتَهُ الْمُكَاتَبَ بِدَلِيلِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي التَّرْجَمَةِ ; إِذْ كُلُّهَا فِي كِتَابَتِهِ لَا رَقَبَتِهِ؛ وَلِأَنَّ أَشْهَرَ قَوْلَيْهِ مَنْعُ بَيْعِ رَقَبَتِهِ، وَمَرَّ الْجَوَابُ عَمَّا يَقْتَضِيهِ حَدِيثُ بَرِيرَةَ.

- (مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ) وَفِي نُسْخَةٍ: سَمِعْتُ (فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي مُكَاتَبَ الرَّجُلِ) أَيْ كِتَابَتَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (إِذَا كَانَ كَاتَبَهُ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ إِلَّا بِعَرْضٍ مِنَ الْعُرُوضِ) لَا بِنَقْدٍ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ صَرْفٌ مُؤَخَّرٌ (وَيُعَجِّلُهُ وَلَا يُؤَخِّرُهُ) أَتَى بِهِ ; لِأَنَّ التَّعْجِيلَ يَصْدُقُ بِمَا إِذَا كَانَ مَعَهُ تَأْخِيرٌ قَلِيلٌ (لِأَنَّهُ إِذَا أَخَّرَهُ كَانَ دَيْنًا) أَيْ يَبِيعُهُ (بَدَيْنٍ، وَقَدْ نُهِيَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ صلى الله عليه وسلم (عَنِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ) بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ. (وَإِنْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ بِعَرْضٍ مِنَ الْعُرُوضِ مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ أَوِ الرَّقِيقِ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ) يَجُوزُ (لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ عَرْضٍ مُخَالِفٍ لِلْعُرُوضِ الَّتِي كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ عَلَيْهَا يُعَجِّلُ ذَلِكَ وَلَا يُؤَخِّرُهُ) لِئَلَّا يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ. (مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ إِذَا بِيعَ) أَيْ بِيعَتْ كِتَابَتُهُ لِقَوْلِهِ: (كَانَ أَحَقَّ بِاشْتِرَاءِ كِتَابَتِهِ مِمَّنِ اشْتَرَاهَا إِذَا قَوِيَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى سَيِّدِهِ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ

ص: 187

نَقْدًا، وَذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ نَفْسَهُ عَتَاقَةٌ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَوَهِمَ مَنْ كَسَرَهَا (وَالْعَتَاقَةُ تُبَدَّى عَلَى مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الْوَصَايَا) لِتَشَوُّفِ الشَّرْعِ لِلْحُرِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ مُطْلَقِ الْوَصِيَّةِ. (وَإِنْ بَاعَ بَعْضُ مَنْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ نَصِيبَهُ مِنْهُ فَبَاعَ نِصْفَ الْمُكَاتَبِ أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ أَوْ سَهْمًا مِنْ أَسْهُمِ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ فِيمَا بِيعَ مِنْهُ شُفْعَةٌ وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْقَطَاعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاطِعَ بَعْضَ مَنْ كَاتَبَهُ إِلَّا بِإِذْنِ شُرَكَائِهِ، وَأَنَّ مَا بِيعَ مِنْهُ لَيْسَتْ لَهُ بِهِ حُرْمَةٌ تَامَّةٌ) لِعَدَمِ خُرُوجِهِ حُرًّا (وَأَنَّ مَالَهُ مَحْجُورٌ عَنْهُ، وَأَنَّ اشْتِرَاءَ بَعْضِهِ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهُ الْعَجْزُ لِمَا يَذْهَبُ مِنْ مَالِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاءِ الْمُكَاتَبِ نَفْسَهُ كَامِلًا) لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِهِ. (إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَنْ بَقِيَ لَهُ فِيهِ كِتَابَةٌ) بِاشْتِرَاءِ الْبَعْضِ الْمَبِيعِ مِنْ كِتَابَتِهِ (وَإِنْ أَذِنُوا لَهُ كَانَ أَحَقَّ بِمَا بِيعَ مِنْهُ) مِنْ غَيْرِهِ. (قَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ بَيْعُ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِ الْمُكَاتَبِ) وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الْمُكَاتَبُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَبْنُونَ أُمُورَهُمْ فِي الْمُعَامَلَةِ عَلَى طُلُوعِ النَّجْمِ وَالْمَنَازِلِ، لِكَوْنِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ يَقُولُونَ: إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ الْفُلَانِيُّ أَدَّيْتَ حَقَّكَ فَسُمِّيَتِ الْأَوْقَاتُ نُجُومًا بِذَلِكَ ثُمَّ سُمِّيَ الْمُؤَدَّى فِي الْوَقْتِ نَجْمًا (وَذَلِكَ أَنَّهُ غَرَرٌ) لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلْ يَكُونُ لَهُ أَوْ لَا لِأَنَّهُ (إِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبِ بَطَلَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِلنَّاسِ لَمْ يَأْخُذِ الَّذِي اشْتَرَى نَجْمَهُ بِحِصَّتِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ شَيْئًا) بَلْ يَخْتَصُّونَ دُونَهُ (وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَرِي نَجْمًا مِنْ نُجُومِ الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ، فَسَيِّدُ الْمُكَاتَبِ لَا يُحَاصُّ بِكِتَابَةِ غُلَامِهِ غُرَمَاءَ الْمُكَاتَبِ)

ص: 188

فَكَذَا الْمُشْتَرِي مِنْهُ (وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ أَيْضًا) الْمَجْعُولُ مِنَ السَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ كُلَّ يَوْمٍ مَثَلًا (يَجْتَمِعُ لَهُ عَلَى غُلَامِهِ فَلَا يُحَاصُّ بِمَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْخَرَاجِ غُرَمَاءَ غُلَامِهِ) بَلْ يَكُونُ لَهُمْ دُونَهُ. (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْمُكَاتَبُ كِتَابَتَهُ بِعَيْنٍ أَوْ عَرْضٍ مُخَالِفٍ لِمَا كُوتِبَ بِهِ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ الْعَرْضِ أَوْ غَيْرِ مُخَالِفٍ) بَلْ مُوَافِقٌ كَذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَوْ فَرَسٍ بِفَرَسٍ (مُعَجَّلٍ أَوْ مُؤَخَّرٍ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ كَالدُّيُونِ الثَّابِتَةِ وَلَا كَالْمُعَارَضَةِ الْمَحْضَةِ، فَيَجُوزُ فِيهَا مَا مُنِعَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ فَسْخُ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي شَيْءٍ مُؤَخَّرٍ عَلَيْهِ، وَفَسْخُ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَهَبٍ فِي وَرِقٍ وَعَكْسِهِ، وَمِثْلُهُ التَّعْجِيلُ عَلَى إِسْقَاطِ بَعْضِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعْ وَتَعَجَّلْ وَسَلَفٌ يَجُرُّ مَنْفَعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ عَجَّلَ الْعِتْقَ أَمْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ وَمَنَعَهُ سُحْنُونٌ إِلَّا بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْعِتْقِ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَهْلِكُ) بِكَسْرِ اللَّامِ، يَمُوتُ (وَيَتْرُكُ أُمَّ وُلَدٍ وَأَوْلَادًا لَهُ صِغَارًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَا يَقْوَوْنَ) يَقْدِرُونَ (عَلَى السَّعْيِ، وَيُخَافُ عَلَيْهِمُ الْعَجْزُ عَنْ كِتَابَتِهِمْ، قَالَ: تُبَاعُ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ إِذَا كَانَ فِي ثَمَنِهَا مَا يُؤَدَّى بِهِ عَنْهُمْ جَمِيعُ كِتَابَتِهِمْ أُمَّهُمْ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ أُمِّهِمْ يُؤَدَّى عَنْهُمْ) ثَمَنُهَا لِلسَّيِّدِ (وَيَعْتِقُونَ؛ لِأَنَّ أَبَاهُمْ كَانَ لَا يَمْنَعُ بَيْعَهَا إِذَا خَافَ الْعَجْزَ عَنْ كِتَابَتِهِ فَهَؤُلَاءُ) بِمَنْزِلَتِهِ (إِذَا خِيفَ عَلَيْهِمُ الْعَجْزُ، بِيعَتْ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ فَيُؤَدَّى عَنْهُمْ) ثَمَنُهَا (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِهَا مَا يُؤَدَّى عَنْهُمْ، وَلَمْ تَقْوَ هِيَ وَلَا هُمْ عَلَى السَّعْيِ رَجَعُوا جَمِيعًا رَقِيقًا لِسَيِّدِهِمْ) وَبَطَلَتِ الْكِتَابَةُ. (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَبْتَاعُ كِتَابَةَ الْمُكَاتَبِ ثُمَّ يَهْلِكُ

ص: 189

الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كِتَابَتَهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ) أَيْ يَأْخُذُ مَالَهُ (الَّذِي اشْتَرَى كِتَابَتَهُ، وَإِنْ عَجَزَ فَلَهُ رَقَبَتُهُ) مِلْكًا (وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ كِتَابَتَهُ إِلَى الَّذِي اشْتَرَاهَا وَعَتَقَ فَوَلَاؤُهُ لِلَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ) وَهُوَ بَائِعُهَا (لَيْسَ لِلَّذِي اشْتَرَى كِتَابَتَهُ مِنْ وَلَائِهِ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْعَاقِدِ وَهُوَ لَا يَنْتَقِلُ.

ص: 190

[باب سَعْيِ الْمُكَاتَبِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا عَنْ رَجُلٍ كَاتَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى بَنِيهِ ثُمَّ مَاتَ هَلْ يَسْعَى بَنُو الْمُكَاتَبِ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ أَمْ هُمْ عَبِيدٌ فَقَالَا بَلْ يَسْعَوْنَ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ وَلَا يُوضَعُ عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَبِيهِمْ شَيْءٌ قَالَ مَالِكٌ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا لَا يُطِيقُونَ السَّعْيَ لَمْ يُنْتَظَرْ بِهِمْ أَنْ يَكْبَرُوا وَكَانُوا رَقِيقًا لِسَيِّدِ أَبِيهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُكَاتَبُ تَرَكَ مَا يُؤَدَّى بِهِ عَنْهُمْ نُجُومُهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّفُوا السَّعْيَ فَإِنْ كَانَ فِيمَا تَرَكَ مَا يُؤَدَّى عَنْهُمْ أُدِّيَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَتُرِكُوا عَلَى حَالِهِمْ حَتَّى يَبْلُغُوا السَّعْيَ فَإِنْ أَدَّوْا عَتَقُوا وَإِنْ عَجَزُوا رَقُّوا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ مَالًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءُ الْكِتَابَةِ وَيَتْرُكُ وَلَدًا مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَأُمَّ وَلَدٍ فَأَرَادَتْ أُمُّ وَلَدِهِ أَنْ تَسْعَى عَلَيْهِمْ إِنَّهُ يُدْفَعُ إِلَيْهَا الْمَالُ إِذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً عَلَى ذَلِكَ قَوِيَّةً عَلَى السَّعْيِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَوِيَّةً عَلَى السَّعْيِ وَلَا مَأْمُونَةً عَلَى الْمَالِ لَمْ تُعْطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَرَجَعَتْ هِيَ وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ رَقِيقًا لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ قَالَ مَالِكٌ إِذَا كَاتَبَ الْقَوْمُ جَمِيعًا كِتَابَةً وَاحِدَةً وَلَا رَحِمَ بَيْنَهُمْ فَعَجَزَ بَعْضُهُمْ وَسَعَى بَعْضُهُمْ حَتَّى عَتَقُوا جَمِيعًا فَإِنَّ الَّذِينَ سَعَوْا يَرْجِعُونَ عَلَى الَّذِينَ عَجَزُوا بِحِصَّةِ مَا أَدَّوْا عَنْهُمْ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ حُمَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ سَعْيِ الْمُكَاتَبِ

1485 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا عَنْ رَجُلٍ كَاتَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى بَنِيهِ ثُمَّ مَاتَ، هَلْ يَسْعَى بَنُو الْمُكَاتَبِ فِي أَبِيهِمْ أَمْ هُمْ عَبِيدٌ؟) فَلَا يَسْعَوْا (فَقَالَا: بَلْ يَسْعَوْنَ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ وَلَا يُوضَعُ) يُحَطُّ (عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَبِيهِمْ شَيْءٌ) وَلَوْ قَلَّ هَذَا إِنْ قَدَرُوا عَلَى السَّعْيِ. (قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا لَا يُطِيقُونَ السَّعْيَ، لَمْ يُنْتَظَرْ بِهِمْ أَنْ يَكْبَرُوا) بِفَتْحِ الْبَاءِ (وَكَانُوا رَقِيقًا لِسَيِّدِ أَبِيهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْمُكَاتَبِ مَا يُؤَدَّى بِهِ عَنْهُمْ نُجُومُهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّفُوا السَّعْيَ) أَيْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. (فَإِنْ كَانَ فِيمَا تَرَكَ مَا يُؤَدَّى عَنْهُمْ أُدِّيَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَتُرِكُوا عَلَى حَالِهِمْ حَتَّى يَبْلُغُوا السَّعْيَ، فَإِنْ أَدَّوْا) مَا بَقِيَ (عَتَقُوا وَإِنْ عَجَزُوا رَقُّوا) .

ص: 190

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ مَالًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءُ الْكِتَابَةِ وَيَتْرُكُ وَلَدًا مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَأُمَّ وَلَدٍ، فَأَرَادَتْ أُمُّ وَلَدِهِ أَنْ تَسْعَى عَلَيْهِمْ: إِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (يُدْفَعُ إِلَيْهَا الْمَالُ) الْمَتْرُوكُ عَنْهُ (إِذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً عَلَى ذَلِكَ) الْمَالِ بِأَنْ لَا تُضَيِّعَهُ (قَوِيَّةً عَلَى السَّعْيِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَوِيَّةً عَلَى السَّعْيِ وَلَا مَأْمُونَةً عَلَى الْمَالِ لَمْ تُعْطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِعْطَاءِ حِينَئِذٍ. (وَرَجَعَتْ هِيَ وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ رَقِيقًا لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ) لِلْعَجْزِ. (وَإِذَا كَاتَبَ الْقَوْمُ كِتَابَةً وَاحِدَةً وَلَا رَحِمَ) أَيْ قَرَابَةَ (بَيْنَهُمْ فَعَجَزَ بَعْضُهُمْ وَسَعَى بَعْضُهُمْ حَتَّى عَتَقُوا جَمِيعًا، فَإِنَّ الَّذِينَ سَعَوْا يَرْجِعُونَ عَلَى الَّذِينَ عَجَزُوا بِحِصَّةِ مَا أَدَّوْا عَنْهُمْ ; لِأَنَّ بَعْضَهُمْ حُمَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ) أَيْ ضَامِنُونَ حُكْمًا.

ص: 191

[باب عِتْقِ الْمُكَاتَبِ إِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرَهُ يَذْكُرُونَ أَنَّ مُكَاتَبًا كَانَ لِلْفُرَافِصَةِ بْنِ عُمَيْرٍ الْحَنَفِيِّ وَأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ فَأَبَى الْفُرَافِصَةُ فَأَتَى الْمُكَاتَبُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَدَعَا مَرْوَانُ الْفُرَافِصَةَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَأَبَى فَأَمَرَ مَرْوَانُ بِذَلِكَ الْمَالِ أَنْ يُقْبَضَ مِنْ الْمُكَاتَبِ فَيُوضَعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَقَالَ لِلْمُكَاتَبِ اذْهَبْ فَقَدْ يُقْرَآنِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْفُرَافِصَةُ قَبَضَ الْمَالَ

قَالَ مَالِكٌ فَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أَدَّى جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ نُجُومِهِ قَبْلَ مَحِلِّهَا جَازَ ذَلِكَ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَضَعُ عَنْ الْمُكَاتَبِ بِذَلِكَ كُلَّ شَرْطٍ أَوْ خِدْمَةٍ أَوْ سَفَرٍ لِأَنَّهُ لَا تَتِمُّ عَتَاقَةُ رَجُلٍ وَعَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ رِقٍّ وَلَا تَتِمُّ حُرْمَتُهُ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَلَا يَجِبُ مِيرَاثُهُ وَلَا أَشْبَاهُ هَذَا مِنْ أَمْرِهِ وَلَا يَنْبَغِي لِسَيِّدِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ خِدْمَةً بَعْدَ عَتَاقَتِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي مُكَاتَبٍ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ نُجُومَهُ كُلَّهَا إِلَى سَيِّدِهِ لِأَنْ يَرِثَهُ وَرَثَةٌ لَهُ أَحْرَارٌ وَلَيْسَ مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَلَدٌ لَهُ قَالَ مَالِكٌ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ لِأَنَّهُ تَتِمُّ بِذَلِكَ حُرْمَتُهُ وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَيَجُوزُ اعْتِرَافُهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ دُيُونِ النَّاسِ وَتَجُوزُ وَصِيَّتُهُ وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ فَرَّ مِنِّي بِمَالِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ إِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ

1536 -

1486 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْمَعْرُوفَ بِالرَّأْيِ (وَ) سَمِعَ (غَيْرَهُ يَذْكُرُونَ أَنَّ مُكَاتَبًا كَانَ لِلْفُرَافِصَةِ) بِضَمِّ الْفَاءِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ فَأَلِفٍ، وَكَسْرِ الْفَاءِ الثَّانِيَةِ فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ (ابْنِ عُمَيْرٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، مُصَغَّرٌ (الْحَنَفِيِّ) نِسْبَةً إِلَى بَنِي حَنِيفَةَ الْيَمَامِيِّ بِالْمِيمِ، الْمَدَنِيِّ، الثِّقَةِ (وَأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، فَأَبَى الْفُرَافِصَةُ) امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ

ص: 191

ذَلِكَ (فَأَتَى الْمُكَاتَبُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ الْأُمَوِيَّ (وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ) مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ (فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَدَعَا مَرْوَانُ الْفُرَافِصَةَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ تَعَجَّلْ مِنْهُ مَا كَاتَبْتَهُ عَلَيْهِ (فَأَبَى، فَأَمَرَ مَرْوَانُ بِذَلِكَ الْمَالِ أَنْ يُقْبَضَ مِنَ الْمُكَاتَبِ فَيُوضَعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ لِلْمُكَاتَبِ: اذْهَبْ فَقَدْ عَتَقْتَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْفُرَافِصَةُ قَبَضَ الْمَالَ) وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْحُكْمِ بِذَلِكَ عُمَرُ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:" كَاتَبَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَتَيْتُهُ بِكِتَابَتِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا مِنِّي إِلَّا نُجُومًا، فَأَتَيْتُ عُمَرَبْنَ الْخَطَّابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَرَادَ أَنَسٌ الْمِيرَاثَ، وَكَتَبَ إِلَى أَنَسٍ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنَ الرَّجُلِ، فَقَبِلَهَا ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ مُكَاتَبًا لِأَنَسٍ جَاءَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُ بِمُكَاتَبَتِي إِلَى أَنَسٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَقَالَ: أَنَسٌ يُرِيدُ الْمِيرَاثَ، ثُمَّ أَمَرَ أَنَسًا أَنْ يَقْبَلَهَا أَحْسَبُهُ قَالَ: فَأَبَى، فَقَالَ: آخُذُهَا فَأَصُبُّهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَبِلَهَا أَنَسٌ.

وَسَبَقَهُ أَيْضًا عُثْمَانُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَظُنُّ مَرْوَانَ بَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَضَى بِهِ. رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قُلَابَةَ قَالَ:" كَاتَبَ عَبْدٌ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ أَوْ خَمْسَةٍ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى سَيِّدِهِ فَأَبَى سَيِّدُهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إِلَّا فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْمًا رَجَاءَ أَنْ يَرِثَهُ، فَأَتَى عُثْمَانَ فَدَعَاهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهَا، فَأَبَى فَقَالَ لِلْعَبْدِ: ائْتِنِي بِمَا عَلَيْكَ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَكَتَبَ لَهُ عِتْقًا، وَقَالَ لِلْمَوْلَى: ائْتِنِي كُلَّ سَنَةٍ فَخُذْ نَجْمًا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَخَذَ مَالَهُ وَكَتَبَ لَهُ عِتْقَهُ ".

(قَالَ مَالِكٌ: فَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا دَفَعَ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ نُجُومِهِ قَبْلَ مَحِلِّهَا) أَيْ حُلُولِهَا (جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنْ يَضَعَ) يَحُطَّ (عَنِ الْمُكَاتَبِ بِذَلِكَ كُلَّ شَرْطٍ أَوْ خِدْمَةٍ أَوْ سَفَرٍ ; لِأَنَّهُ لَا تَتِمُّ عَتَاقَةُ رَجُلٍ وَعَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ رِقٍّ وَلَا تَتِمُّ حُرْمَتُهُ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَلَا يَجِبُ مِيرَاثُهُ وَلَا أَشْبَاهُ هَذَا مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي) لَا يَجُوزُ (لِسَيِّدِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ خِدْمَةً بَعْدَ عَتَاقَتِهِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ.

ص: 192

(وَفِي مَكَاتَبٍ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا) قَوِيًّا يَخَافُ مِنْهُ الْمَوْتَ (فَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ نُجُومَهَا كُلَّهَا إِلَى سَيِّدِهِ لِأَنْ يَرِثَهُ وَرَثَةٌ لَهُ أَحْرَارٌ وَلَيْسَ مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَلَدٌ لَهُ، قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَتِمُّ بِذَلِكَ حُرْمَتُهُ وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَيَجُوزُ اعْتِرَافُهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ دُيُونِ النَّاسِ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ: فَرَّ مِنِّي بِمَالِهِ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ثَمَرَاتِ كِتَابَتِهِ لَهُ.

ص: 193

[باب مِيرَاثِ الْمُكَاتَبِ إِذَا عَتَقَ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنََّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سُئِلَ عَنْ مُكَاتَبٍ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَمَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا كَثِيرًا فَقَالَ يُؤَدَّى إِلَى الَّذِي تَمَاسَكَ بِكِتَابَتِهِ الَّذِي بَقِيَ لَهُ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ بِالسَّوِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ إِذَا كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ فَعَتَقَ فَإِنَّمَا يَرِثُهُ أَوْلَى النَّاسِ بِمَنْ كَاتَبَهُ مِنْ الرِّجَالِ يَوْمَ تُوُفِّيَ الْمُكَاتَبُ مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَصَبَةٍ قَالَ وَهَذَا أَيْضًا فِي كُلِّ مَنْ أُعْتِقَ فَإِنَّمَا مِيرَاثُهُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِمَّنْ أَعْتَقَهُ مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَصَبَةٍ مِنْ الرِّجَالِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُعْتَقُ بَعْدَ أَنْ يَعْتِقَ وَيَصِيرَ مَوْرُوثًا بِالْوَلَاءِ قَالَ مَالِكٌ الْإِخْوَةُ فِي الْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ إِذَا كُوتِبُوا جَمِيعًا كِتَابَةً وَاحِدَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَدٌ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ أَوْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمْ وَتَرَكَ مَالًا أُدِّيَ عَنْهُمْ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ كِتَابَتِهِمْ وَعَتَقُوا وَكَانَ فَضْلُ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ لِوَلَدِهِ دُونَ إِخْوَتِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ مِيرَاثِ الْمُكَاتَبِ إِذَا عَتَقَ

1487 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سُئِلَ عَنْ مُكَاتَبٍ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَمَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ: يُؤَدَّى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، يُعْطَى (إِلَى الَّذِي تَمَاسَكَ بِكِتَابَتِهِ) فَلَمْ يَعْتِقْ (الَّذِي بَقِيَ لَهُ) نَائِبُ فَاعِلِ يُؤَدَّى (ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ بِالسَّوِيَّةِ) عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِمَا فِيهِ. (قَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ، فَعَتَقَ فَإِنَّمَا يَرِثُهُ أَوْلَى النَّاسِ مِمَّنْ كَاتَبَهُ مِنَ الرِّجَالِ يَوْمَ تُوُفِّيَ الْمُكَاتَبُ مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَصَبَةٍ) بَيَانٌ لِأَوْلَى.

(قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا فِي كُلِّ مَنْ) أَيْ رَقِيقٍ (أُعْتِقَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (فَإِنَّمَا مِيرَاثُهُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِمَّنْ أَعْتَقَهُ مِنْ وَلَدٍ أَوْ مِنْ عَصَبَةٍ مِنَ الرِّجَالِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُعْتَقُ) بِالْفَتْحِ (بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ وَيَصِيرَ) بِالنَّصْبِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ

ص: 193

(مَوْرُوثًا بِالْوَلَاءِ) لِلْعِتْقِ. (وَالْإِخْوَةُ فِي الْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ إِذَا كُوتِبُوا جَمِيعًا كِتَابَةً وَاحِدَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَدٌ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ أَوْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمْ وَتَرَكَ مَالًا أُدِّيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الدَّالِ (عَنْهُمْ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ كِتَابَتِهِمْ وَعَتَقُوا) لِأَنَّهُمْ حُمَلَاءُ بِجَمْعِهِمْ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ (وَكَانَ فَضْلُ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ لِوَلَدِهِ) إِرْثًا (دُونَ إِخْوَتِهِ) لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ.

ص: 194

[باب الشَّرْطِ فِي الْمُكَاتَبِ]

حَدَّثَنِي مَالِك فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ سَفَرًا أَوْ خِدْمَةً أَوْ ضَحِيَّةً إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَمَّى بِاسْمِهِ ثُمَّ قَوِيَ الْمُكَاتَبُ عَلَى أَدَاءِ نُجُومِهِ كُلِّهَا قَبْلَ مَحِلِّهَا قَالَ إِذَا أَدَّى نُجُومَهُ كُلَّهَا وَعَلَيْهِ هَذَا الشَّرْطُ عَتَقَ فَتَمَّتْ حُرْمَتُهُ وَنُظِرَ إِلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَالِجُهُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ عَنْهُ لَيْسَ لِسَيِّدِهِ فِيهِ شَيْءٌ وَمَا كَانَ مِنْ ضَحِيَّةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ شَيْءٍ يُؤَدِّيهِ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ يُقَوَّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُهُ مَعَ نُجُومِهِ وَلَا يَعْتِقُ حَتَّى يَدْفَعَ ذَلِكَ مَعَ نُجُومِهِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَ خِدْمَةِ عَشْرِ سِنِينَ فَإِذَا هَلَكَ سَيِّدُهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ فَإِنَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَتِهِ لِوَرَثَتِهِ وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي عَقَدَ عِتْقَهُ وَلِوَلَدِهِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الْعَصَبَةِ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِطُ عَلَى مُكَاتَبِهِ أَنَّكَ لَا تُسَافِرُ وَلَا تَنْكِحُ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِي إِلَّا بِإِذْنِي فَإِنْ فَعَلْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِي فَمَحْوُ كِتَابَتِكَ بِيَدِي قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ مَحْوُ كِتَابَتِهِ بِيَدِهِ إِنْ فَعَلَ الْمُكَاتَبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلْيَرْفَعْ سَيِّدُهُ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَنْكِحَ وَلَا يُسَافِرَ وَلَا يَخْرُجَ مِنْ أَرْضِ سَيِّدِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيَنْطَلِقُ فَيَنْكِحُ الْمَرْأَةَ فَيُصْدِقُهَا الصَّدَاقَ الَّذِي يُجْحِفُ بِمَالِهِ وَيَكُونُ فِيهِ عَجْزُهُ فَيَرْجِعُ إِلَى سَيِّدِهِ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ أَوْ يُسَافِرُ فَتَحِلُّ نُجُومُهُ وَهُوَ غَائِبٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ وَلَا عَلَى ذَلِكَ كَاتَبَهُ وَذَلِكَ بِيَدِ سَيِّدِهِ إِنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ الشَّرْطِ فِي الْمُكَاتَبِ

(قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ سَفَرًا أَوْ خِدْمَةً أَوْ أُضْحِيَةً) يَأْتِيهِ بِهَا (إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سُمِّي بِاسْمِهِ ثُمَّ قَوِيَ الْمُكَاتَبُ عَلَى أَدَاءِ نُجُومِهِ كُلِّهَا قَبْلَ مَحِلِّهَا) أَيْ حُلُولِهَا (قَالَ: إِذَا أَدَّى نُجُومَهُ كُلَّهَا وَعَلَيْهِ هَذَا الشَّرْطُ عَتَقَ فَتَمَّتْ حُرْمَتُهُ) بِسَبَبِ عِتْقِهِ (وَنُظِرَ إِلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَالِجُهُ هُوَ بِنَفْسِهِ، فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ) مَحْطُوطٌ سَاقِطٌ (عَنْهُ لَيْسَ لِسَيِّدِهِ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا كَانَ مِنْ ضَحِيَّةٍ أَوْ كِسْوَةٍ، أَوْ شَيْءٍ يُؤَدِّيهِ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ يُقَوَّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُهُ مَعَ نُجُومِهِ

ص: 194

وَلَا يَعْتِقُ حَتَّى يَدْفَعَ ذَلِكَ مَعَ نُجُومِهِ) لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ وَقَعَ عَلَيْهِ أَيْضًا. (وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ) تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، حَسَّنَهُ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ (أَنَّ الْمُكَاتَبَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَ خِدْمَةِ عَشْرِ سِنِينَ) مَثَلًا (فَإِذَا هَلَكَ سَيِّدُهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ فَإِنَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَتِهِ لِوَرَثَتِهِ) فَيَخْدِمُهُمْ إِلَى تَمَامِهَا ثُمَّ يُعْتَقُ (وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي عَقَدَ عِتْقَهُ وَلِوَلَدِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الْعَصَبَةِ) لَا الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ أُنْثَى.

(وَفِي الرَّجُلِ يَشْتَرِطُ عَلَى مُكَاتَبِهِ أَنَّكَ لَا تُسَافِرُ، وَلَا تَنْكِحُ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِي إِلَّا بِإِذْنِي، فَإِنْ فَعَلْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِي فَمَحْوُ) إِبْطَالُ (كِتَابَتِكَ بِيَدِي، قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ مَحْوُ كِتَابَتِهِ بِيَدِهِ إِنْ فَعَلَ الْمُكَاتَبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلْيَرْفَعِ) الْمُكَاتَبُ (سَيِّدَهُ ذَلِكَ) الْأَمْرَ (إِلَى السُّلْطَانِ) فَيَحْكُمُ بِعَدَمِ بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ. (وَ) إِنْ كَانَ (لَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَنْكِحَ وَلَا يُسَافِرَ وَلَا يَخْرُجَ مِنْ أَرْضِ سَيِّدِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) سَوَاءٌ (اشْتَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ) مَثَلًا (وَلَهُ) أَيِ الْعَبْدُ (أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ أَكَثُرُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَنْطَلِقُ فَيَنْكِحُ الْمَرْأَةَ فَيُصْدِقُهَا الصَّدَاقَ الَّذِي يُجْحِفُ بِمَالِهِ) أَيْ يَنْقُصُهُ نَقْصًا فَاحِشًا (وَيَكُونُ فِيهِ عَجْزُهُ فَيَرْجِعُ إِلَى سَيِّدِهِ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ) وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكِتَابَةِ (أَوْ يُسَافِرُ) السَّفَرَ الْبَعِيدَ (فَتَحِلُّ نُجُومُهُ وَهُوَ غَائِبٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ

ص: 195

لَهُ) أَيِ الْعَبْدِ (وَلَا عَلَى ذَلِكَ كَاتَبَهُ) سَيِّدُهُ (وَذَلِكَ بِيَدِ سَيِّدِهِ إِنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ) لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ.

ص: 196

[باب وَلَاءِ الْمُكَاتَبِ إِذَا أَعْتَقَ]

قَالَ مَالِكٌ إِنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ سَيِّدُهُ لَهُ ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُكَاتَبِ وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ كَانَ وَلَاءُ الْمُعْتَقِ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ مَاتَ الْمُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ الْمُكَاتَبُ وَرِثَهُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا فَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ الْآخَرُ قَبْلَ سَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ فَإِنَّ وَلَاءَهُ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ مَا لَمْ يَعْتِقْ الْمُكَاتَبُ الْأَوَّلُ الَّذِي كَاتَبَهُ فَإِنْ عَتَقَ الَّذِي كَاتَبَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ وَلَاءُ مُكَاتَبِهِ الَّذِي كَانَ عَتَقَ قَبْلَهُ وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ أَوْ عَجَزَ عَنْ كِتَابَتِهِ وَلَهُ وَلَدٌ أَحْرَارٌ لَمْ يَرِثُوا وَلَاءَ مُكَاتَبِ أَبِيهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَبِيهِمْ الْوَلَاءُ وَلَا يَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ حَتَّى يَعْتِقَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَتْرُكُ أَحَدُهُمَا لِلْمُكَاتَبِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَيَشِحُّ الْآخَرُ ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ مَالًا قَالَ مَالِكٌ يَقْضِي الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ لَهُ شَيْئًا مَا بَقِيَ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْمَالَ كَهَيْئَتِهِ لَوْ مَاتَ عَبْدًا لِأَنَّ الَّذِي صَنَعَ لَيْسَ بِعَتَاقَةٍ وَإِنَّمَا تَرَكَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ مُكَاتَبًا وَتَرَكَ بَنِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُ الْبَنِينَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يُثْبِتُ لَهُ مِنْ الْوَلَاءِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَتْ عَتَاقَةً لَثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ مِنْهُمْ مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ إِذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَى الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَلَوْ كَانَتْ عَتَاقَةً قُوِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ فِي مَالِهِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ قَالَ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مُكَاتَبٍ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَلَوْ عَتَقَ عَلَيْهِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ دُونَ شُرَكَائِهِ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ عَقَدَ الْكِتَابَةَ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ وَرِثَ سَيِّدَ الْمُكَاتَبِ مِنْ النِّسَاءِ مِنْ وَلَاءِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ أَعْتَقْنَ نَصِيبَهُنَّ شَيْءٌ إِنَّمَا وَلَاؤُهُ لِوَلَدِ سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ الذُّكُورِ أَوْ عَصَبَتِهِ مِنْ الرِّجَالِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ وَلَاءِ الْمُكَاتَبِ إِذَا أَعْتَقَ

(قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ) لِأَنَّهُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَلِسَيِّدِهِ رَدُّهُ (إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ) فَيَجُوزُ (فَإِنْ) أَعْتَقَ بِلَا إِذْنِهِ وَ (أَجَازَ ذَلِكَ سَيِّدُهُ لَهُ ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُكَاتَبِ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ فِي وَقْتٍ أَحْرَزَ فِيهِ مَالَهُ وَتَمَّ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ. (وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ كَانَ وَلَاءُ الْمُعْتَقِ) بِفَتْحِ التَّاءِ (لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ) لِمَوْتِهِ وَهُوَ عَبْدٌ. (وَإِنْ مَاتَ الْمُعْتَقُ) بِالْفَتْحِ (قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ الْمُكَاتَبُ وَرِثَهُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ) لَا هُوَ لِرِقِّهِ (وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا فَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ الْآخِرُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ (قَبْلَ سَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ، فَإِنَّ وَلَاءَهُ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ) لَا لَهُ لِرِقِّهِ (مَا) أَيْ مُدَّةَ كَوْنِهِ (لَمْ يَعْتِقِ الْمُكَاتَبُ الْأَوَّلُ الَّذِي كَاتَبَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ وَلَاءُ مُكَاتَبِهِ الَّذِي كَانَ عَتَقَ قَبْلَهُ) لِأَنَّهُ الَّذِي عَقَدَهُ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِلرِّقِّ فَلَمَّا زَالَ عَادَ لَهُ. (وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ أَوْ عَجَزَ عَنْ كِتَابَتِهِ وَلَهُ وَلَدٌ أَحْرَارٌ) صِفَةُ وَلَدٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا (لَمْ يَرِثُوا وَلَاءَ مُكَاتَبِ أَبِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَبِيهِمُ الْوَلَاءُ) لِرِقِّهِ (وَلَا يَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ حَتَّى يَعْتِقَ) لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِرَقِيقٍ.

ص: 196

(وَفِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَتْرُكُ أَحَدُهُمَا لِلْمُكَاتَبِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَيَشِحُّ الْآخَرُ) بِمَعْنَى يَمْتَنِعُ مِنَ التَّرْكِ لَا حَقِيقَةَ الشُّحِّ (ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ مَالًا، قَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ لَهُ شَيْئًا مَا بَقِيَ لَهُ عَلَيْهِ) مِنْ رَأْسِ الْمَالِ (ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْمَالَ كَهَيْئَتِهِ) أَيْ صِفَتِهِ (لَوْ مَاتَ عَبْدًا لَأَنَّ الَّذِي فَعَلَ) التَّارِكُ (لَيْسَ بِعَتَاقَةٍ، وَإِنَّمَا تَرَكَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ) وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِتْقَ. (وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ) يُوَضِّحُهُ (أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ مُكَاتَبًا وَتَرَكَ بَنِينَ رِجَالًا وَ) تَرَكَ (نِسَاءً ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُ الْبَنِينَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُكَاتَبِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يُثْبِتُ لَهُ مِنَ الْوَلَاءِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَتْ عَتَاقَةً لَثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ مِنْهُمْ مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ) لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ مِنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَرْكٌ فَقَطْ. (وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ إِذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، لَمْ يُقَوَّمْ عَلَى الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مَا بَقِيَ) نَائِبُ فَاعِلِ " يُقَوَّمْ "(مِنَ الْمُكَاتَبِ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَرْكٌ.

(وَلَوْ كَانَ عَتَاقَةً قُوِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ فِي مَالِهِ) إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ (كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا) نَصِيبًا (لَهُ فِي عَبْدٍ) أَيْ رَقِيقٍ (قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ) بِلَا زَيْدٍ وَلَا نَقْصٍ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) وَبَقِيَ بَاقِيهِ رَقِيقًا. (وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ سُنَّةِ

ص: 197

الْمُسْلِمِينَ) طَرِيقَتِهِمْ (الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مُكَاتَبٍ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَيْهِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ دُونَ شُرَكَائِهِ) عَمَلًا بِالْحَدِيثِ. (وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ) طَرِيقَتِهِمْ (أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ عَقَدَ الْكِتَابَةَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ وَرِثَ سَيِّدَ الْمُكَاتَبِ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ وَلَاءِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ أَعْتَقْنَ نِصِيبَهُنَّ شَيْءٌ) وَلَوْ كَانَ عِتْقًا حَقِيقَةً لَكَانَ لَهُنَّ وَلَاءُ نَصِيبِهِنَّ إِذَا أَعْتَقْنَ ; لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقَةِ (إِنَّمَا وَلَاؤُهُ لِوَلَدِ سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ الذُّكُورِ) إِنْ كَانُوا (أَوْ عَصَبَتِهِ مِنَ الرِّجَالِ) إِنْ لَمْ يَكُونُوا ; لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَرِثُهُ أُنْثًى.

ص: 198

[باب مَا لَا يَجُوزُ مِنْ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ]

قَالَ مَالِكٌ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ جَمِيعًا فِي كِتَابَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُعْتِقْ سَيِّدُهُمْ أَحَدًا مِنْهُمْ دُونَ مُؤَامَرَةِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَرِضًا مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فَلَيْسَ مُؤَامَرَتُهُمْ بِشَيْءٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَالَ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا كَانَ يَسْعَى عَلَى جَمِيعِ الْقَوْمِ وَيُؤَدِّي عَنْهُمْ كِتَابَتَهُمْ لِتَتِمَّ بِهِ عَتَاقَتُهُمْ فَيَعْمِدُ السَّيِّدُ إِلَى الَّذِي يُؤَدِّي عَنْهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ مِنْ الرِّقِّ فَيُعْتِقُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَجْزًا لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْفَضْلَ وَالزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ وَهَذَا أَشَدُّ الضَّرَرِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبِيدِ يُكَاتَبُونَ جَمِيعًا إِنَّ لِسَيِّدِهِمْ أَنْ يُعْتِقَ مِنْهُمْ الْكَبِيرَ الْفَانِيَ وَالصَّغِيرَ الَّذِي لَا يُؤَدِّي وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا وَلَيْسَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوْنٌ وَلَا قُوَّةٌ فِي كِتَابَتِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

11 -

بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ

- (مَالِكٌ: إِذَا كَانَ الْقَوْمُ جَمِيعًا فِي وَاحِدَةٍ لَمْ يُعْتِقْ سَيِّدُهُمْ أَحَدًا مِنْهُمْ دُونَ مُؤَامَرَةِ) أَيْ مُشَاوَرَةِ (أَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَرِضًا مِنْهُمْ) فَإِنْ رَضُوا فَعَلَ وَإِلَّا فَلَا. (وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فَلَيْسَ مُؤَامَرَتُهُمْ) مُشَاوَرَتُهُمْ (بِشَيْءٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ) أَيْ رِضَاهُمْ (عَلَيْهِمْ) لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ. (وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ) مِنَ الْعَبِيدِ (رُبَّمَا كَانَ يَسْعَى عَلَى جَمِيعِ الْقَوْمِ وَيُؤَدِّي عَنْهُمْ كِتَابَتَهُمْ لِيَتِمَّ بِهِ عَتَاقَتُهُمْ فَيَعْمِدَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، يَقْصِدُ (السَّيِّدُ إِلَى الَّذِي يُؤَدِّي عَنْهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ مِنَ الرِّقِّ فَيُعْتِقُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَجْزًا لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْفَضْلَ وَالزِّيَادَةَ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ (لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ) بَلْ يُرَدُّ. (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

ص: 198

«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ) جَمَعَهُمَا تَأْكِيدًا أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَعْنًى، فَهُوَ تَأْسِيسٌ وَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ (وَهَذَا أَشَدُّ الضَّرَرِ) أَقْوَاهُ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُ، فَإِنْ تَحَقَّقَ نَفْيُ الضَّرَرِ جَازَ، وَلِذَا (قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبِيدِ يُكَاتَبُونَ جَمِيعًا: أَنَّ لِسَيِّدِهِمْ أَنْ يُعْتِقَ مِنْهُمُ الْكَبِيرَ الْفَانِيَ وَالصَّغِيرَ الَّذِي لَا يُؤَدِّي وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا وَلَيْسَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوْنٌ وَلَا قُوَّةٌ فِي كِتَابَتِهِمْ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ) بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ.

ص: 199

[باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي عِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَأُمِّ وَلَدِهِ]

قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ أُمَّ وَلَدِهِ وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ بَقِيَّةٌ وَيَتْرُكُ وَفَاءً بِمَا عَلَيْهِ إِنَّ أُمَّ وَلَدِهِ أَمَةٌ مَمْلُوكَةٌ حِينَ لَمْ يُعْتَقْ الْمُكَاتَبُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا فَيُعْتَقُونَ بِأَدَاءِ مَا بَقِيَ فَتُعْتَقُ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ بِعِتْقِهِمْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُ عَبْدًا لَهُ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِبَعْضِ مَالِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ سَيِّدُهُ حَتَّى عَتَقَ الْمُكَاتَبُ قَالَ مَالِكٌ يَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ فَإِنْ عَلِمَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتَبُ فَرَدَّ ذَلِكَ وَلَمْ يُجِزْهُ فَإِنَّهُ إِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ وَذَلِكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ وَلَا أَنْ يُخْرِجَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ طَائِعًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

12 -

بَابٌ جَامِعٌ مَا جَاءَ فِي عِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَأُمِّ وَلَدِهِ

- (مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ أُمَّ وَلَدِهِ وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ بَقِيَّةٌ، وَيَتْرُكُ وَفَاءً بِمَا عَلَيْهِ: أَنَّ أُمَّ وَلَدِهِ أَمَةٌ مَمْلُوكَةٌ حِينَ لَمْ يُعْتَقِ الْمُكَاتَبُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا، فَيُعْتَقُونَ بِأَدَاءِ مَا بَقِيَ، فَتُعْتَقُ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ بِعِتْقِهِمْ) مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ مُسَبَّبٌ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى انْتَفَى عِتْقُهَا لِعَدَمِ وَلَدٍ تُعْتَقُ تَبَعًا لِعِتْقِهِ. (وَفِي الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُ عَبْدًا لَهُ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِبَعْضِ مَالِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ سَيِّدُهُ حَتَّى عَتَقَ الْمُكَاتَبُ) بِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ (قَالَ مَالِكٌ: يَنْفُذُ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ، يَمْضِي (ذَلِكَ عَلَيْهِ) أَيِ الْمُكَاتَبِ (وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، فَإِنَّ عَلِمَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتَبُ فَرَدَّ ذَلِكَ وَلَمْ يُجِزْهُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوْ مُسَاوٍ، حَسَّنَهُ

ص: 199

اخْتِلَافُ اللَّفْظِ (فَإِنَّهُ إِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ وَذَلِكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، وَلَا أَنْ يُخْرِجَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ) لِأَنَّ رَدَّ السَّيِّدِ إِبْطَالٌ لِفِعْلِهِ (إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ طَائِعًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ) فَيَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٌ.

ص: 200

[باب الْوَصِيَّةِ فِي الْمُكَاتَبِ]

قَالَ مَالِكٌ إِنَّ أَحْسَنَ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُهُ سَيِّدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُقَامُ عَلَى هَيْئَتِهِ تِلْكَ الَّتِي لَوْ بِيعَ كَانَ ذَلِكَ الثَّمَنَ الَّذِي يَبْلُغُ فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَةِ وُضِعَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُنْظَرْ إِلَى عَدَدِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ لَمْ يَغْرَمْ قَاتِلُهُ إِلَّا قِيمَتَهُ يَوْمَ قَتْلِهِ وَلَوْ جُرِحَ لَمْ يَغْرَمْ جَارِحُهُ إِلَّا دِيَةَ جَرْحِهِ يَوْمَ جَرَحَهُ وَلَا يُنْظَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يُحْسَبْ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ إِلَّا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ لَهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ فَصَارَتْ وَصِيَّةً أَوْصَى بِهَا قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ كِتَابَتِهِ إِلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى سَيِّدُهُ لَهُ بِالْمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ حُسِبَتْ لَهُ فِي ثُلُثِ سَيِّدِهِ فَصَارَ حُرًّا بِهَا قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ إِنَّهُ يُقَوَّمُ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِهِ سَعَةٌ لِثَمَنِ الْعَبْدِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِينَارٍ فَيُكَاتِبُهُ سَيِّدُهُ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ عِنْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ ثُلُثُ مَالِ سَيِّدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَإِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ أَوْصَى لَهُ بِهَا فِي ثُلُثِهِ فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَوْصَى لِقَوْمٍ بِوَصَايَا وَلَيْسَ فِي الثُّلُثِ فَضْلٌ عَنْ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ بُدِئَ بِالْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَتَاقَةٌ وَالْعَتَاقَةُ تُبَدَّأُ عَلَى الْوَصَايَا ثُمَّ تُجْعَلُ تِلْكَ الْوَصَايَا فِي كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ يَتْبَعُونَهُ بِهَا وَيُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمُوصِي فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يُعْطُوا أَهْلَ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ كَامِلَةً وَتَكُونُ كِتَابَةُ الْمُكَاتَبِ لَهُمْ فَذَلِكَ لَهُمْ وَإِنْ أَبَوْا وَأَسْلَمُوا الْمُكَاتَبَ وَمَا عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا فَذَلِكَ لَهُمْ لِأَنَّ الثُّلُثَ صَارَ فِي الْمُكَاتَبِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا أَحَدٌ فَقَالَ الْوَرَثَةُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ صَاحِبُنَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ وَقَدْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ قَالَ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يُخَيَّرُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ قَدْ أَوْصَى صَاحِبُكُمْ بِمَا قَدْ عَلِمْتُمْ فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تُنَفِّذُوا ذَلِكَ لِأَهْلِهِ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَإِلَّا فَأَسْلِمُوا لِأَهْلِ الْوَصَايَا ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ كُلِّهِ قَالَ فَإِنْ أَسْلَمَ الْوَرَثَةُ الْمُكَاتَبَ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا كَانَ لِأَهْلِ الْوَصَايَا مَا عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَةِ أَخَذُوا ذَلِكَ فِي وَصَايَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ كَانَ عَبْدًا لِأَهْلِ الْوَصَايَا لَا يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ حِينَ خُيِّرُوا وَلِأَنَّ أَهْلَ الْوَصَايَا حِينَ أُسْلِمَ إِلَيْهِمْ ضَمِنُوهُ فَلَوْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى الْوَرَثَةِ شَيْءٌ وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كِتَابَتَهُ وَتَرَكَ مَالًا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ فَمَالُهُ لِأَهْلِ الْوَصَايَا وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ مَا عَلَيْهِ عَتَقَ وَرَجَعَ وَلَاؤُهُ إِلَى عَصَبَةِ الَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَضَعُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَالَ مَالِكٌ يُقَوَّمُ الْمُكَاتَبُ فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَالَّذِي وُضِعَ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ فِي الْقِيمَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَهُوَ عُشْرُ الْقِيمَةِ فَيُوضَعُ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ إِلَى عُشْرِ الْقِيمَةِ نَقْدًا وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَهَيْئَتِهِ لَوْ وُضِعَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُحْسَبْ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَّا قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَإِنْ كَانَ الَّذِي وُضِعَ عَنْهُ نِصْفُ الْكِتَابَةِ حُسِبَ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ قَالَ مَالِكٌ إِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَنْ مُكَاتَبِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ كِتَابَتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا وُضِعَ عَنْهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ عُشْرُهُ قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَنْ مُكَاتَبِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ أَوَّلِ كِتَابَتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا وَكَانَ أَصْلُ الْكِتَابَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قُوِّمَ الْمُكَاتَبُ قِيمَةَ النَّقْدِ ثُمَّ قُسِمَتْ تِلْكَ الْقِيمَةُ فَجُعِلَ لِتِلْكَ الْأَلْفِ الَّتِي مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابَةِ حِصَّتُهَا مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ بِقَدْرِ قُرْبِهَا مِنْ الْأَجَلِ وَفَضْلِهَا ثُمَّ الْأَلْفُ الَّتِي تَلِي الْأَلْفَ الْأُولَى بِقَدْرِ فَضْلِهَا أَيْضًا ثُمَّ الْأَلْفُ الَّتِي تَلِيهَا بِقَدْرِ فَضْلِهَا أَيْضًا حَتَّى يُؤْتَى عَلَى آخِرِهَا تَفْضُلُ كُلُّ أَلْفٍ بِقَدْرِ مَوْضِعِهَا فِي تَعْجِيلِ الْأَجَلِ وَتَأْخِيرِهِ لِأَنَّ مَا اسْتَأْخَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَقَلَّ فِي الْقِيمَةِ ثُمَّ يُوضَعُ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ قَدْرُ مَا أَصَابَ تِلْكَ الْأَلْفَ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى تَفَاضُلِ ذَلِكَ إِنْ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبُعِ مُكَاتَبٍ أَوْ أَعْتَقَ رُبُعَهُ فَهَلَكَ الرَّجُلُ ثُمَّ هَلَكَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا كَثِيرًا أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ يُعْطَى وَرَثَةُ السَّيِّدِ وَالَّذِي أَوْصَى لَهُ بِرُبُعِ الْمُكَاتَبِ مَا بَقِيَ لَهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبِ ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ مَا فَضَلَ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ الْمُكَاتَبِ ثُلُثُ مَا فَضَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَلِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ الثُّلُثَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ فَإِنَّمَا يُورَثُ بِالرِّقِّ قَالَ مَالِكٌ فِي مُكَاتَبٍ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ قَالَ إِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ ثُلُثُ الْمَيِّتِ عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ مَا حَمَلَ الثُّلُثُ وَيُوضَعُ عَنْهُ مِنْ الْكِتَابَةِ قَدْرُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ نَقْدًا وَيَكُونُ ثُلُثُ الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَتَقَ نِصْفُهُ وَيُوضَعُ عَنْهُ شَطْرُ الْكِتَابَةِ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ غُلَامِي فُلَانٌ حُرٌّ وَكَاتِبُوا فُلَانًا تُبَدَّأُ الْعَتَاقَةُ عَلَى الْكِتَابَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

13 -

بَابُ الْوَصِيَّةِ فِي الْمُكَاتَبِ

- (مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ) وَفِي نُسْخَةٍ: سَمِعْتُ (فِي الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُهُ سَيِّدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُقَامُ) أَيْ يَقُومُ (عَلَى هَيْئَتِهِ) صِفَتِهِ (تِلْكَ الَّتِي لَوْ بِيعَ كَانَ ذَلِكَ الثَّمَنَ الَّذِي يَبْلُغُ، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ وُضِعَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُنْظَرْ إِلَى عِدَّةِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ لَمْ يَغْرَمْ قَاتِلُهُ إِلَّا قِيمَتَهُ يَوْمَ قَتَلَهُ، وَلَوْ جَرَحَهُ لَمْ يَغْرَمْ جَارِحُهُ إِلَّا دِيَةَ جُرْحِهِ يَوْمَ جَرَحَهُ، وَلَا يُنْظَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يُحْسَبْ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ إِلَّا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ لَهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ فَصَارَتْ وَصِيَّةً) أَيْ كَوَصِيَّةٍ (أَوْصَى بِهَا) فَهُوَ تَشْبِيهٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ إِذْ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يُوصِ، وَإِنَّمَا نَجَّزَ عِتْقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَحُكْمُهُ كَالْوَصِيَّةِ.

ص: 200

(وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ) إِيضَاحُهُ بِالْمِثَالِ (أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ كِتَابَتِهِ إِلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَأَوْصَى سَيِّدُهُ لَهُ بِالْمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ حُسِبَتْ لَهُ فِي ثُلُثِ سَيِّدِهِ فَصَارَ حُرًّا بِهَا) وَلَا يُعْطَاهَا وَيَبْقَى بَعْضُهُ رَقِيقًا. (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَنَّهُ يُقَوَّمُ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِهِ سَعَةٌ لِثَمَنِ الْعَبْدِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ) وَعَتَقَ (وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِينَارٍ فَيُكَاتِبُهُ سَيِّدُهُ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَكُونُ ثُلُثُ مَالِ سَيِّدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ) لِحَمْلِ الثُّلُثِ لَهُ (وَإِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ أَوْصَى بِهَا فِي ثُلُثِهِ) لَا كِتَابَةً حَقِيقَةً.

(فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَوْصَى لِقَوْمٍ بِوَصَايَا وَلَيْسَ فِي الثُّلُثِ فَضْلٌ عَنْ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ بُدِئَ بِالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَتَاقَةٌ، وَالْعَتَاقَةُ تُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا) لِتَشَوُّفِ الشَّرْعِ لِلْحُرِّيَّةِ (ثُمَّ تُجْعَلُ تِلْكَ الْوَصَايَا فِي كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ يَتْبَعُونَهُ بِهَا، وَتُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمُوصِي فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يُعْطُوا أَهْلَ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ كَامِلَةً وَتَكُونَ كِتَابَةُ الْمُكَاتَبِ لَهُمْ) خَاصَّةً (فَذَلِكَ) لَهُمْ (وَإِنْ أَبَوْا وَأَسْلَمُوا الْمُكَاتَبَ، وَمَا عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا، فَذَلِكَ لَهُمْ) وَإِنَّمَا خُيِّرُوا (لِأَنَّ الثُّلُثَ صَارَ فِي الْمُكَاتَبِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا أَحَدٌ، فَقَالَ الْوَرَثَةُ: الَّذِي أَوْصَى بِهِ صَاحِبُنَا) أَيْ مُورِثُنَا (أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ

ص: 201

وَقَدْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ، فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يُخَيَّرُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ أَوْصَى صَاحِبُكُمْ بِمَا قَدْ عَلِمْتُمْ فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تُنْفِذُوا) تُمْضُوا (ذَلِكَ لِأَهْلِهِ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، وَإِلَّا فَأَسْلِمُوا لِأَهْلِ الْوَصَايَا ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ كُلِّهِ) وَتُعْرَفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةِ خَلْعِ الثُّلُثِ، وَتَقَدَّمَتْ وَأَعَادَهَا هُنَا اسْتِظْهَارًا.

(فَإِنْ أَسْلَمَ الْوَرَثَةُ الْمُكَاتَبَ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا، كَانَ لِأَهْلِ الْوَصَايَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّى) الْمُكَاتَبُ (مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ أَخَذُوا ذَلِكَ فِي وَصَايَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ كَانَ عَبْدًا لِأَهْلِ الْوَصَايَا لَا يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ ; لِأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ حِينَ خُيِّرُوا) فَصَارَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ (وَلِأَنَّ أَهْلَ الْوَصَايَا حِينَ أَسْلَمَ إِلَيْهِمْ ضَمِنُوهُ، فَلَوْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى الْوَرَثَةِ شَيْءٌ) مِنَ التَّرِكَةِ. (وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كِتَابَتَهُ وَتَرَكَ مَالًا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ، فَمَالُهُ لِأَهْلِ الْوَصَايَا) لِمَلْكِهِمْ لَهُ (وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ مَا عَلَيْهِ عَتَقَ، وَرَجَعَ وَلَاؤُهُ إِلَى عَصَبَتِهِ الَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ) لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَنْتَقِلُ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَضَعُ) يَحُطُّ (عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْمُكَاتَبُ فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَالَّذِي وُضِعَ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ، وَذَلِكَ فِي الْقِيمَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَهُوَ عُشْرُ الْقِيمَةِ فَيُوضَعُ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ إِلَى عُشْرِ الْقِيمَةِ نَقْدًا) يُحَطُّ عَنْهُ

ص: 202

(وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَهَيْئَتِهِ لَوْ وُضَعَ عَنْهُ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُحْسَبْ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَّا قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ) فِي الْفَرْضِ الْمَذْكُورِ. (وَإِنْ كَانَ الَّذِي وُضِعَ عَنْهُ نِصْفَ الْكِتَابَةِ حُسِبَ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ) كَالثُّلُثِ (أَوْ أَكْثَرَ) كَالثُّلُثَيْنِ (فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ) الَّذِي قُلْنَا. (وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَنْ مُكَاتَبِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ) أَيْ مَوْتِ السَّيِّدِ (أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ) كَاتَبَهُ عَلَيْهَا (وَلَمْ يُسَمِّ أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابَةِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا وُضِعَ عَنْهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ عَشْرَةٌ) لِأَنَّ هَذَا عَدْلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَةِ سَيِّدِهِ.

(وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَنْ مُكَاتَبِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ أَوَّلِ كِتَابَتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا، وَكَانَ أَصْلُ الْكِتَابَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قُوِّمَ الْمُكَاتَبُ قِيمَةَ النَّقْدِ ثُمَّ قُسِّمَتْ تِلْكَ الْقِيمَةُ، فَجُعِلَ لِتِلْكَ الْأَلْفِ الَّتِي مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابَةِ حِصَّتُهَا مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ بِقَدْرِ قُرْبِهَا مِنَ الْأَجَلِ وَفَضْلِهَا، ثُمَّ الْأَلْفُ الَّتِي تَلِي الْأَلْفَ الْأُولَى) أَيِ الثَّانِيَةِ تُجْعَلُ (بِقَدْرِ فَضْلِهَا أَيْضًا ثُمَّ الْأَلْفُ الَّتِي تَلِيهَا) أَيِ الثَّالِثَةُ (بِقَدْرِ فَضْلِهَا أَيْضًا، حَتَّى يُؤْتَى عَلَى آخِرِهَا بِفَضْلِ كُلِّ أَلْفٍ بِقَدْرِ مَوْضِعِهَا فِي تَعْجِيلِ الْأَجَلِ وَتَأْخِيرِهِ ; لِأَنَّ مَا) أَيِ الَّذِي (اسْتَأْخَرَ مِنْ ذَلِكَ أَقَلُّ فِي الْقِيمَةِ) مِمَّا يُعَجَّلُ. (ثُمَّ يُوضَعُ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ قَدْرُ مَا أَصَابَ تِلْكَ الْأَلْفَ مِنَ الْقِيمَةِ عَلَى تَفَاضُلِ ذَلِكَ إِنْ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ)

ص: 203

الْمَذْكُورِ. (وَفِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبُعِ مُكَاتَبٍ لَهُ أَوْ أَعْتَقَ) وَفِي نُسَخٍ: وَعَتَقَ، بِالْوَاوِ (رُبُعَهُ، فَهَلَكَ الرَّجُلُ) الْمُوصِي (ثُمَّ) بَعْدَهُ (هَلَكَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا كَثِيرًا أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، قَالَ مَالِكٌ: يُعْطَى وَرَثَةُ السَّيِّدِ، وَالَّذِي أَوْصَى لَهُ بِرُبُعِ الْمُكَاتَبِ مَا بَقِيَ لَهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبِ) مِنْ رَأْسِ الْمَالِ (ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ مَا) أَيِ الْمَالَ الَّذِي (فَضَلَ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ الْمُكَاتَبِ ثُلُثُ مَا فَضَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ، وَلِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ الثُّلُثَانِ) لِأَنَّ حِصَّةَ الْحَرِّيَّةَ الرُّبُعُ لَا يُؤْخَذُ بِهَا شَيْءٌ، فَرَجَعَ ذَلِكَ إِلَى النِّصْفِ وَالرُّبُعِ، فَالنِّصْفُ ثُلُثَانِ، وَالرُّبُعُ ثُلُثٌ بِمَا رَجَعَ إِلَيْهِ مِنْ حِصَّةِ الْحُرِّيَّةِ. (وَذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّمَا يُورَثُ بِالرِّقِّ) أَيْ يُؤْخَذُ مَا خَلَّفَهُ، وَتَسْمِيَتُهُ إِرْثًا مَجَازٌ.

(مَالِكٌ: فِي مُكَاتَبٍ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ) لِلسَّيِّدِ (إِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ ثُلُثُ الْمَيِّتِ عَتَقَ مِنْهُ قَدْرَ مَا حَمَلَ الثُّلُثُ، وَيُوضَعُ عَنْهُ مِنَ الْكِتَابَةِ قَدْرُ ذَلِكَ) مَثَلًا (إِنْ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ نَقْدًا وَيَكُونُ ثُلُثُ الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، عَتَقَ نَصِفُهُ وَيُوضَعُ عَنْهُ شَطْرُ الْكِتَابَةِ) أَيْ نِصْفُهَا. (وَفِي رَجُلٍ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: غُلَامِي فُلَانٌ حُرٌّ وَكَاتِبُوا فُلَانًا) لِعَبْدٍ آخَرَ (تُبَدَّى الْعَتَاقَةُ) عِنْدَ ضِيقِ الثُّلُثِ (عَلَى الْكِتَابَةِ) لِأَنَّ الْعَتَاقَةَ تَحْرِيرٌ نَاجِزٌ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ.

ص: 204

[كِتَاب الْمُدَبَّرِ]

[باب الْقَضَاءِ فِي الْمُدَبَّرِ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْمُدَبَّرِ باب الْقَضَاءِ فِي الْمُدَبَّرِ

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ قَالَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ دَبَّرَ جَارِيَةً لَهُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا بَعْدَ تَدْبِيرِهِ إِيَّاهَا ثُمَّ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ قَبْلَ الَّذِي دَبَّرَهَا إِنَّ وَلَدَهَا بِمَنْزِلَتِهَا قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ مِنْ الشَّرْطِ مِثْلُ الَّذِي ثَبَتَ لَهَا وَلَا يَضُرُّهُمْ هَلَاكُ أُمِّهِمْ فَإِذَا مَاتَ الَّذِي كَانَ دَبَّرَهَا فَقَدْ عَتَقُوا إِنْ وَسِعَهُمْ الثُّلُثُ وَقَالَ مَالِكٌ كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَوَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا فَوَلَدُهَا أَحْرَارٌ وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُعْتَقَةً إِلَى سِنِينَ أَوْ مُخْدَمَةً أَوْ بَعْضَهَا حُرًّا أَوْ مَرْهُونَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَوَلَدُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى مِثَالِ حَالِ أُمِّهِ يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهَا قَالَ مَالِكٌ فِي مُدَبَّرَةٍ دُبِّرَتْ وَهِيَ حَامِلٌ وَلَمْ يَعْلَمْ سَيِّدُهَا بِحَمْلِهَا إِنَّ وَلَدَهَا بِمَنْزِلَتِهَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ جَارِيَةً لَهُ وَهِيَ حَامِلٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَمْلِهَا قَالَ مَالِكٌ فَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنَّ وَلَدَهَا يَتْبَعُهَا وَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ جَارِيَةً وَهِيَ حَامِلٌ فَالْوَلِيدَةُ وَمَا فِي بَطْنِهَا لِمَنْ ابْتَاعَهَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ الْمُبْتَاعُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَحِلُّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا فِي بَطْنِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ يَضَعُ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَا يَدْرِي أَيَصِلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَمْ لَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ لِأَنَّهُ غَرَرٌ قَالَ مَالِكٌ فِي مُكَاتَبٍ أَوْ مُدَبَّرٍ ابْتَاعَ أَحَدُهُمَا جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ وَوَلَدَتْ قَالَ وَلَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جَارِيَتِهِ بِمَنْزِلَتِهِ يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهِ وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهِ قَالَ مَالِكٌ فَإِذَا أُعْتِقَ هُوَ فَإِنَّمَا أُمُّ وَلَدِهِ مَالٌ مِنْ مَالِهِ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ إِذَا أُعْتِقَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

40 -

كِتَابُ الْمُدَبَّرِ أَيِ الَّذِي عَلَّقَ سَيِّدُهُ عِتْقَهُ عَلَى مَوْتِهِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمَوْتَ دُبُرُ الْحَيَاةِ، وَدُبُرُ كُلِّ شَيْءٍ مَا وَرَاءَهُ، بِسُكُونِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، وَالْجَارِحَةُ بِالضَّمِّ فَقَطْ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ السَّيِّدَ دَبَّرَ أَمْرَ دُنْيَاهُ بِاسْتِخْدَامِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ وَأَمْرَ آخِرَتِهِ بِإِعْتَاقِهِ.

1 -

بَابُ الْقَضَاءِ فِي وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ

(مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ دَبَّرَ جَارِيَةً لَهُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا بَعْدَ تَدْبِيرِهِ إِيَّاهَا ثُمَّ مَاتَتِ الْجَارِيَةُ قَبْلَ الَّذِي دَبَّرَهَا) وَخَبَرُ الْأَمْرِ قَوْلُهُ: (إِنَّ وَلَدَهَا بِمَنْزِلَتِهَا، قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ مِنَ الشَّرْطِ مِثْلُ الَّذِي ثَبَتَ لَهَا) مِنَ التَّدْبِيرِ (وَلَا يَضُرُّهُمْ هَلَاكُ أُمِّهِمْ) مَوْتُهَا قَبْلَ سَيِّدِهَا. (فَإِذَا مَاتَ الَّذِي كَانَ دَبَّرَهَا فَقَدْ عَتَقُوا إِنْ حَمَلَهُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ: إِنْ وَسِعَهُمْ (الثُّلُثُ) لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ فِي الثُّلُثِ. (وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا، إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَوَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا فَوَلَدُهَا أَحْرَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُعْتَقَةً إِلَى سِنِينَ) أَيْ بَعْدَ مُضِيِّهَا (أَوْ مُخْدَمَةً) لِإِنْسَانٍ ثُمَّ تُعْتَقُ بَعْدَهُ (أَوْ بَعْضُهَا حُرًّا) وَبَعْضُهَا رَقِيقًا (أَوْ مَرْهُونَةً أَوْ أُمَّ وُلَدٍ، فَوَلَدُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى مِثَالِ

ص: 205

حَالِ أُمِّهِ يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهَا) إِذَا عَتَقَتْ (وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهَا) أَيْ مُدَّةَ دَوَامِهَا رَقِيقَةً (وَفِي مُدَبَّرَةٍ دُبِّرَتْ وَهِيَ حَامِلَةٌ أَنَّ وَلَدَهَا بِمَنْزِلَتِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ جَارِيَةً لَهُ وَهِيَ حَامِلٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَمْلِهَا، قَالَ مَالِكٌ: فَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنَّ وَلَدَهَا يَتْبَعُهَا وَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ جَارِيَةً وَهِيَ حَامِلٌ فَالْوَلِيدَةُ) أَيِ الْأَمَةُ (وَمَا فِي بَطْنِهَا لِمَنِ ابْتَاعَهَا، اشْتَرَطَ ذَلِكَ الْمُبْتَاعُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ) لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ تَنَاوَلَ ذَلِكَ شَرْعًا (وَلَا يَحِلُّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا فِي بَطْنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ يَضَعُ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَا يَدْرِي أَيَصِلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَاعَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ) وَقَدْ «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْأَجِنَّةِ» . (وَفِي مُكَاتَبٍ أَوْ مُدَبَّرٍ ابْتَاعَ أَحَدَهُمَا جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ وَوُلَدَتْ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جَارِيَتِهِ بِمَنْزِلَتِهِ يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهِ وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهِ، فَإِذَا أُعْتِقَ هُوَ) بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ أَوْ مَوْتِ السَّيِّدِ (فَإِنَّمَا أُمُّ وَلَدِهِ مَالٌ مِنْ مَالِهِ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ إِذَا عَتَقَ) فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْحَمْلِ الْوَاقِعِ زَمَنَ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّحْرِيرِ.

ص: 206

[باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي التَّدْبِيرِ]

قَالَ مَالِكٌ فِي مُدَبَّرٍ قَالَ لِسَيِّدِهِ عَجِّلْ لِي الْعِتْقَ وَأُعْطِيكَ خَمْسِينَ مِنْهَا مُنَجَّمَةً عَلَيَّ فَقَالَ سَيِّدُهُ نَعَمْ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْكَ خَمْسُونَ دِينَارًا تُؤَدِّي إِلَيَّ كُلَّ عَامٍ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَرَضِيَ بِذَلِكَ الْعَبْدُ ثُمَّ هَلَكَ السَّيِّدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ قَالَ مَالِكٌ يَثْبُتُ لَهُ الْعِتْقُ وَصَارَتْ الْخَمْسُونَ دِينَارًا دَيْنًا عَلَيْهِ وَجَازَتْ شَهَادَتُهُ وَثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ وَمِيرَاثُهُ وَحُدُودُهُ وَلَا يَضَعُ عَنْهُ مَوْتُ سَيِّدِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فَمَاتَ السَّيِّدُ وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَمَالٌ غَائِبٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ الْحَاضِرِ مَا يَخْرُجُ فِيهِ الْمُدَبَّرُ قَالَ يُوقَفُ الْمُدَبَّرُ بِمَالِهِ وَيُجْمَعُ خَرَاجُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْ الْمَالِ الْغَائِبِ فَإِنْ كَانَ فِيمَا تَرَكَ سَيِّدُهُ مِمَّا يَحْمِلُهُ الثُّلُثُ عَتَقَ بِمَالِهِ وَبِمَا جُمِعَ مِنْ خَرَاجِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا تَرَكَ سَيِّدُهُ مَا يَحْمِلُهُ عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ الثُّلُثِ وَتُرِكَ مَالُهُ فِي يَدَيْهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابٌ جَامِعٌ مَا جَاءَ فِي التَّدْبِيرِ

- (مَالِكٌ: فِي مُدَبَّرٍ قَالَ لِسَيِّدِهِ: عَجِّلْ لِي الْعِتْقَ وَأُعْطِيكَ خَمْسِينَ دِينَارًا مُنَجَّمَةً عَلَيَّ، فَقَالَ سَيِّدُهُ: نَعَمْ، أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْكَ خَمْسُونَ دِينَارًا تُؤَدِّي إِلَيَّ فِي كُلِّ عَامٍ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَرَضِيَ بِذَلِكَ الْعَبْدُ، ثُمَّ هَلَكَ السَّيِّدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، قَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ لَهُ الْعِتْقُ) لِأَنَّهُ نَجَّزَ عِتْقَهُ (وَصَارَتِ الْخَمْسُونَ دِينَارًا دَيْنًا عَلَيْهِ) عَلَى تَنْجِيمِهَا (وَجَازَتْ شَهَادَتُهُ وَثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ وَمِيرَاثُهُ وَحُدُودُهُ) لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا (وَلَا يَضَعُ) لَا يُسْقِطُ (عَنْهُ مَوْتُ سَيِّدِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ) لِأَنَّ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ وَقَعَ فَلَزِمَهُ. (وَفِي رَجُلٍ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فَمَاتَ السَّيِّدُ وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَمَالٌ غَائِبٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ الْحَاضِرِ مَا يَخْرُجُ فِيهِ الْمُدَبَّرُ) حُرًّا مِنْ ثُلُثِهِ (قَالَ مَالِكٌ: يُوقَفُ الْمُدَبَّرُ بِمَالِهِ وَيُجْمَعُ خَرَاجُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنَ الْمَالِ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا تَرَكَ سَيِّدُهُ مِمَّا يَحْمِلُهُ الثُّلُثُ) مِنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ (عَتَقَ بِمَالِهِ وَبِمَا جُمِعَ مِنْ خَرَاجِهِ) أَيْ يَكُونَانِ لَهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا تَرَكَ سَيِّدُهُ مَا يَحْمِلُهُ عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ) مَحْمِلُ (الثُّلُثِ، وَتُرِكَ مَالُهُ فِي يَدَيْهِ) يَتَصَرَّفُ فِيهِ.

ص: 207

[باب الْوَصِيَّةِ فِي التَّدْبِيرِ]

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ عَتَاقَةٍ أَعْتَقَهَا رَجُلٌ فِي وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ أَنَّهُ يَرُدُّهَا مَتَى شَاءَ وَيُغَيِّرُهَا مَتَى شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ تَدْبِيرًا فَإِذَا دَبَّرَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى رَدِّ مَا دَبَّرَ قَالَ مَالِكٌ وَكُلُّ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ أَمَةٌ أَوْصَى بِعِتْقِهَا وَلَمْ تُدَبَّرْ فَإِنَّ وَلَدَهَا لَا يَعْتِقُونَ مَعَهَا إِذَا عَتَقَتْ وَذَلِكَ أَنَّ سَيِّدَهَا يُغَيِّرُ وَصِيَّتَهُ إِنْ شَاءَ وَيَرُدُّهَا مَتَى شَاءَ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا عَتَاقَةٌ وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ قَالَ لِجَارِيَتِهِ إِنْ بَقِيَتْ عِنْدِي فُلَانَةُ حَتَّى أَمُوتَ فَهِيَ حُرَّةٌ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ أَدْرَكَتْ ذَلِكَ كَانَ لَهَا ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ بَاعَهَا وَوَلَدَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ وَلَدَهَا فِي شَيْءٍ مِمَّا جَعَلَ لَهَا قَالَ وَالْوَصِيَّةُ فِي الْعَتَاقَةِ مُخَالِفَةٌ لِلتَّدْبِيرِ فَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ مَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ قَالَ وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ التَّدْبِيرِ كَانَ كُلُّ مُوصٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ وَصِيَّتِهِ وَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ الْعَتَاقَةِ وَكَانَ قَدْ حَبَسَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَبَّرَ رَقِيقًا لَهُ جَمِيعًا فِي صِحَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ إِنْ كَانَ دَبَّرَ بَعْضَهُمْ قَبْلَ بَعْضٍ بُدِئَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ وَإِنْ كَانَ دَبَّرَهُمْ جَمِيعًا فِي مَرَضِهِ فَقَالَ فُلَانٌ حُرٌّ وَفُلَانٌ حُرٌّ وَفُلَانٌ حُرٌّ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ إِنْ حَدَثَ بِي فِي مَرَضِي هَذَا حَدَثُ مَوْتٍ أَوْ دَبَّرَهُمْ جَمِيعًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَحَاصَّوْا فِي الثُّلُثِ وَلَمْ يُبَدَّأْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَإِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ وَإِنَّمَا لَهُمْ الثُّلُثُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ثُمَّ يَعْتِقُ مِنْهُمْ الثُّلُثُ بَالِغًا مَا بَلَغَ قَالَ وَلَا يُبَدَّأُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي مَرَضِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَبَّرَ غُلَامًا لَهُ فَهَلَكَ السَّيِّدُ وَلَا مَالَ لَهُ إِلَّا الْعَبْدُ الْمُدَبَّرُ وَلِلْعَبْدِ مَالٌ قَالَ يُعْتَقُ ثُلُثُ الْمُدَبَّرِ وَيُوقَفُ مَالُهُ بِيَدَيْهِ قَالَ مَالِكٌ فِي مُدَبَّرٍ كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ فَمَاتَ السَّيِّدُ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَهُ قَالَ مَالِكٌ يُعْتَقُ مِنْهُ ثُلُثُهُ وَيُوضَعُ عَنْهُ ثُلُثُ كِتَابَتِهِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ ثُلُثَاهَا قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ لَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَبَتَّ عِتْقَ نِصْفِهِ أَوْ بَتَّ عِتْقَهُ كُلَّهُ وَقَدْ كَانَ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ آخَرَ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ يُبَدَّأُ بِالْمُدَبَّرِ قَبْلَ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرُدَّ مَا دَبَّرَ وَلَا أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِأَمْرٍ يَرُدُّهُ بِهِ فَإِذَا عَتَقَ الْمُدَبَّرُ فَلْيَكُنْ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فِي الَّذِي أَعْتَقَ شَطْرَهُ حَتَّى يَسْتَتِمَّ عِتْقُهُ كُلُّهُ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَضْلَ الثُّلُثِ عَتَقَ مِنْهُ مَا بَلَغَ فَضْلَ الثُّلُثِ بَعْدَ عِتْقِ الْمُدَبَّرِ الْأَوَّلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ الْوَصِيَّةِ فِي التَّدْبِيرِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ عَتَاقَةٍ أَعْتَقَهَا رَجُلٌ فِي وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ أَنَّهُ يَرُدُّهَا) أَيْ لَهُ ذَلِكَ (مَتَى شَاءَ وَيُغَيِّرُهَا مَتَى شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ تَدْبِيرًا، فَإِذَا دَبَّرَ فَلَا سَبِيلَ) لَهُ (إِلَى رَدِّ مَا دَبَّرَ) لِحَدِيثِ: " «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» ". (وَكُلُّ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ أَمَةٌ أُوصِيَ بِعِتْقِهَا وَلَمْ تُدَبَّرْ، فَإِنَّ وَلَدَهَا لَا يَعْتِقُونَ مَعَهَا إِذْ عَتَقَتْ، وَذَلِكَ أَنَّ سَيِّدَهَا يُغَيِّرُ وَصِيَّتَهُ إِنْ شَاءَ وَيَرُدُّهَا مَتَى شَاءَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا عَتَاقَةٌ) حَتَّى يَكُونَ وَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا (وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ قَالَ لِجَارِيَتِهِ: إِنْ بَقِيَتْ عِنْدِي فُلَانَةُ حَتَّى أَمُوتَ فَهِيَ حُرَّةٌ، فَإِنْ أَدْرَكَتْ ذَلِكَ) أَيْ بَقِيَتْ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ (كَانَ لَهَا ذَلِكَ) التَّحْرِيرُ (وَإِنْ شَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ بَاعَهَا وَوَلَدَهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ وَلَدَهَا فِي شَيْءٍ مِمَّا جُعِلَ لَهَا، وَالْوَصِيَّةُ فِي الْعَتَاقَةِ) أَيْ بِهَا (مُخَالِفَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، فَرْقٌ بَيْنَ ذَلِكَ مَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ) فَيُتْبَعُ (وَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ التَّدْبِيرِ كَانَ كُلُّ مُوصٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ وَصِيَّتِهِ وَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْعَتَاقَةِ) وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ (وَكَانَ قَدْ حَبَسَ) مَنَعَ (عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ) وَذَلِكَ حَرَجٌ شَدِيدٌ.

ص: 208

(مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَبَّرَ رَقِيقًا لَهُ جَمِيعًا فِي صِحَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، إِنْ كَانَ دَبَّرَ بَعْضَهُمْ قَبْلَ بَعْضٍ بُدِئَ بِالْأَوَّلِ) فَالْأَوَّلُ التَّالِي لَهُ سُمِّيَ أَوَّلًا بِالنَّظَرِ لِمَا بَعْدَهُ (حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ، وَإِنْ كَانَ دَبَّرَهُمْ جَمِيعًا فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: فُلَانٌ حُرٌّ وَفُلَانٌ حُرٌّ وَفُلَانٌ حُرٌّ) لِثَلَاثَةِ أَرِقَّاءَ (فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ) مَنْسُوقٍ بِلَا فَاصِلٍ (إِنْ حَدَثَ بِي فِي مَرَضِي هَذَا حَدَثُ مَوْتٍ، أَوْ دَبَّرَهُمْ جَمِيعًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَحَاصَّوْا فِي الثُّلُثِ، وَلَمْ يُبْدَأْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ وَإِنَّمَا لَهُمُ الثُّلُثُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ثُمَّ يَعْتِقُ مِنْهُمُ الثُّلُثُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلَا يُبْدَأُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ كُلُّهُ فِي مَرَضِهِ) لِأَنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ. (وَفِي رَجُلٍ دَبَّرَ غُلَامًا لَهُ فَهَلَكَ السَّيِّدُ، وَلَا مَالَ لَهُ إِلَّا الْعَبْدُ الْمُدَبَّرُ وَلِلْعَبْدِ مَالٌ، قَالَ مَالِكٌ: يُعْتَقُ ثُلُثُ الْمُدَبَّرِ وَيُوقَفُ مَالُهُ بِيَدَيْهِ) وَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَزْعِهِ مِنْهُ وَتَرْكِهِ فَقِيرًا. (وَفِي مُدَبَّرٍ كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ فَمَاتَ السَّيِّدُ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَهُ، قَالَ مَالِكٌ: يُعْتَقُ مِنْهُ ثُلُثُهُ وَيُوضَعُ عَنْهُ ثُلُثُ كِتَابَتِهِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ ثُلُثَاهَا. وَفِي رَجُلٍ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ لَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَبَتَّ عِتْقَ نِصْفِهِ أَوْ بَتَّ عِتْقَهُ كُلَّهُ وَقَدْ كَانَ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ آخَرَ قَبْلَ ذَلِكَ) فِي صِحَّتِهِ (قَالَ مَالِكٌ: يُبْدَأُ بِالْمُدَبَّرِ) فِي صِحَّتِهِ (قَبْلَ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ

ص: 209

لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرُدَّ مَا دَبَّرَ وَلَا أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِأَمْرٍ يَرُدُّهُ بِهِ) وَإِنَّمَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ لِلْعِتْقِ أَوِ الْكِتَابَةِ. (فَإِذَا عَتَقَ الْمُدَبَّرُ فَلْيَكُنْ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ فِي الَّذِي أَعْتَقَ شَطْرَهُ حَتَّى يَسْتَتِمَّ عِتْقُهُ كُلِّهِ) بِالْجَرِّ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ (فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَضْلَ الثُّلُثِ عَتَقَ مِنْهُ مَا بَلَغَ فَضْلَ الثُّلُثِ) زِيَادَتَهُ (بَعْدَ عِتْقِ الْمُدَبَّرِ الْأَوَّلِ) .

ص: 210

[باب مَسِّ الرَّجُلِ وَلِيدَتَهُ إِذَا دَبَّرَهَا]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ دَبَّرَ جَارِيَتَيْنِ لَهُ فَكَانَ يَطَؤُهُمَا وَهُمَا مُدَبَّرَتَانِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

- بَابُ مَسِّ الرَّجُلِ وَلِيدَتَهُ إِذَا دَبَّرَهَا

1546 -

1488 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ دَبَّرَ جَارِيَتَيْنِ لَهُ فَكَانَ يَطَؤُهُمَا وَهُمَا مُدَبَّرَتَانِ) .

ص: 210

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ إِذَا دَبَّرَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا وَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1547 -

1489 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: إِذَا دَبَّرَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا) لِأَنَّهَا إِنْ حَمَلَتْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ تُعْتَقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ عِتْقِ الْمُدَبَّرَةِ مِنَ الثُّلُثِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا) لِأَنَّهُ انْعَقَدَ فِيهَا عَقْدُ حَرِّيَّةٍ فَلَيْسَ لَهُ فَسْخُهَا (وَوَلَدُهَا بِمُنْزِلَتِهَا) لِلْقَاعِدَةِ.

ص: 210

[باب بَيْعِ الْمُدَبَّرِ]

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْمُدَبَّرِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَبِيعُهُ وَلَا يُحَوِّلُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ وَأَنَّهُ إِنْ رَهِقَ سَيِّدَهُ دَيْنٌ فَإِنَّ غُرَمَاءَهُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى بَيْعِهِ مَا عَاشَ سَيِّدُهُ فَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي ثُلُثِهِ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى عَلَيْهِ عَمَلَهُ مَا عَاشَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْدُمَهُ حَيَاتَهُ ثُمَّ يُعْتِقَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ إِذَا مَاتَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ وَكَانَ ثُلُثَاهُ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ مَاتَ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِالْمُدَبَّرِ بِيعَ فِي دَيْنِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْتِقُ فِي الثُّلُثِ قَالَ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يُحِيطُ إِلَّا بِنِصْفِ الْعَبْدِ بِيعَ نِصْفُهُ لِلدَّيْنِ ثُمَّ عَتَقَ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ قَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُدَبَّرُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ أَوْ يُعْطِيَ أَحَدٌ سَيِّدَ الْمُدَبَّرِ مَالًا وَيُعْتِقُهُ سَيِّدُهُ الَّذِي دَبَّرَهُ فَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ وَوَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ الَّذِي دَبَّرَهُ قَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ غَرَرٌ إِذْ لَا يُدْرَى كَمْ يَعِيشُ سَيِّدُهُ فَذَلِكَ غَرَرٌ لَا يَصْلُحُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيُدَبِّرُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ إِنَّهُمَا يَتَقَاوَمَانِهِ فَإِنْ اشْتَرَاهُ الَّذِي دَبَّرَهُ كَانَ مُدَبَّرًا كُلَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ انْتَقَضَ تَدْبِيرُهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الَّذِي بَقِيَ لَهُ فِيهِ الرِّقُّ أَنْ يُعْطِيَهُ شَرِيكَهُ الَّذِي دَبَّرَهُ بِقِيمَتِهِ فَإِنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ بِقِيمَتِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَكَانَ مُدَبَّرًا كُلَّهُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ قَالَ مَالِكٌ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَيُخَارَجُ عَلَى سَيِّدِهِ النَّصْرَانِيِّ وَلَا يُبَاعُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ فَإِنْ هَلَكَ النَّصْرَانِيُّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قُضِيَ دَيْنُهُ مِنْ ثَمَنِ الْمُدَبَّرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ مَا يَحْمِلُ الدَّيْنَ فَيَعْتِقُ الْمُدَبَّرُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْمُدَبَّرِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَبِيعُهُ وَلَا يُحَوِّلُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ) بِنَحْوِ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالسَّلَفُ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ ; لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ:" «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنَ الثُّلُثِ» ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَضَعَّفَهُ هُوَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالُوا: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَاعَهُ، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِمِائَةٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ» ". أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا بَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. فَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ لِلْحَدِيثِ زِيَادَةٌ وَهِيَ: كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَفِيهِ فَأَعْطَاهَا، فَقَالَ: اقْضِ دَيْنَكَ.

وَلَا يُعَارِضُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، فَقَالَ:«ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا» . لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ صَدَقَتِهِ عَلَيْهَا قَضَاءُ دَيْنِهِ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَتُحْمَلُ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِمَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَوَرَدَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، أَيْ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ لِذَلِكَ.

(وَإِنَّهُ إِنْ رَهِقَ) بِكَسْرِ الْهَاءِ، أَيْ غَشَّى (سَيِّدَهُ دَيْنٌ) بَعْدَ التَّدْبِيرِ (فَإِنَّ غُرَمَاءَهُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى بَيْعِهِ مَا عَاشَ سَيِّدُهُ، فَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي ثُلُثِهِ ; لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى عَلَيْهِ عَمَلَهُ مَا عَاشَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْدُمَهُ حَيَاتَهُ ثُمَّ يُعْتِقَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ إِذَا مَاتَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ) لِأَنَّهُ يَظْلِمُهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ. (وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَكَانَ ثُلُثَاهُ لِوَرَثَتِهِ) لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي الثُّلُثِ. (فَإِنْ مَاتَ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالْمُدَبَّرِ، بِيعَ فِي دَيْنِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْتِقُ فِي الثُّلُثِ) وَالْمُحِيطُ لَا ثُلُثَ لَهُ (فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يُحِيطُ إِلَّا بِنِصْفِ الْعَبْدِ، بِيعَ نَصِفُهُ لِلدَّيْنِ

ص: 211

ثُمَّ عَتَقَ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ) وَهُوَ سُدُسُهُ وَيَرِقُّ الثُّلُثُ لِلْوَرَثَةِ.

(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ) أَيْ يَحْرُمُ (بَيْعُ الْمُدَبَّرِ) لِأَنَّ فِيهِ إِرْقَاقَهُ بَعْدَ جَرَيَانِ شَائِبَةِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ، وَالشَّرْعُ مُتَشَوِّفٌ لِلْحُرِّيَّةِ. (وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَهُ) ذَكَرَهُ، وَإِنْ عُلِمَ مِنْ لَفْظِ بَيْعٍ لِقَوْلِهِ:(إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُدَبَّرُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ) لِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ نَفْسَهُ عَتَقَ نَاجِزًا وَهُوَ خَيْرٌ مِنَ التَّدْبِيرِ (أَوْ يُعْطِيَ أَحَدٌ سَيِّدَ الْمُدَبَّرِ مَالَا وَيُعْتِقَهُ سَيِّدُهُ الَّذِي دَبَّرَهُ، فَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا) لِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ (وَوَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ الَّذِي دَبَّرَهُ) لِأَنَّهُ الَّذِي عَقَدَ ذَلِكَ لَا لِمَنْ أَعْطَى الْمَالَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّنْجِيزِ، وَلِذَا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ.

(وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ ; لِأَنَّهُ غَرَرٌ إِذْ لَا يَدْرِي كَمْ يَعِيشُ سَيِّدُهُ فَذَلِكَ غَرَرٌ لَا يَصْلُحُ) مِنَ الصَّلَاحِ ضِدَّ الْفَسَادِ، فَهُوَ بَاطِلٌ لِفَسَادِهِ بِالْغَرَرِ، وَلِذَا تُعُقِّبَ مَنْ أَجَابَ عَنْ حَدِيثِ بَيْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُدَبَّرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ، وَإِنَّمَا بَاعَ خِدْمَتَهُ لِأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ بَيْعِ رَقَبَتِهِ لَا يُجِيزُونَ بَيْعَ خِدْمَتِهِ أَيْضًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّمَا بَاعَ صلى الله عليه وسلم خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ. مُرْسَلٌ ضَعِيفٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَوْصُولًا وَلَا يَصِحُّ بِهِ.

(مَالِكٌ: فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيُدَبِّرُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ: أَنَّهُمَا يَتَقَاوَمَانِهِ فَإِنِ اشْتَرَاهُ الَّذِي دَبَّرَهُ كَانَ مُدَبَّرًا كُلَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ) بَلِ اشْتَرَاهُ شَرِيكُهُ (انْتَقَضَ تَدْبِيرُهُ) مُرَاعَاةً لِحَقِّ الشَّرِيكِ، وَهَذَا أَمْرٌ جَرَّ إِلَيْهِ حُكْمَ التَّقْوِيمِ فَلَيْسَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ كَمَا زَعَمَ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الَّذِي بَقِيَ لَهُ فِيهِ الرِّقُّ أَنْ يُعْطِيَهُ شَرِيكَهُ الَّذِي دَبَّرَهُ بِقِيمَتِهِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ بِقِيمَتِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ مُدَبَّرًا كُلَّهُ) فَإِنْ

ص: 212

مَاتَ مُدَبَّرُ نَصْفِهِ عَتَقَ نِصْفُهُ وَلَمْ يُقَوَّمِ النِّصْفُ لِأَنَّهُ صَارَ لِلْوَرَثَةِ (وَفِي رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ، قَالَ مَالِكٌ: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ) لِئَلَّا يَسْتَخْدِمَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. (وَيُخَارَجُ عَلَى) أَيْ يُجْعَلُ لَهُ عَلَيْهِ خَرَاجٌ (وَلَا يُبَاعُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ عَقْدُ حُرِّيَّةٍ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، فَإِنْ هَلَكَ النَّصْرَانِيُّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قُضِيَ دَيْنُهُ مِنْ ثَمَنِ الْمُدَبَّرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ مَا يَحْمِلُ الدَّيْنَ) يَسَعُهُ (فَيَعْتِقُ الْمُدَبَّرُ) مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي.

ص: 213

[باب جِرَاحِ الْمُدَبَّرِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا جَرَحَ أَنَّ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُسَلِّمَ مَا يَمْلِكُ مِنْهُ إِلَى الْمَجْرُوحِ فَيَخْتَدِمُهُ الْمَجْرُوحُ وَيُقَاصُّهُ بِجِرَاحِهِ مِنْ دِيَةِ جَرْحِهِ فَإِنْ أَدَّى قَبْلَ أَنْ يَهْلِكَ سَيِّدُهُ رَجَعَ إِلَى سَيِّدِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا جَرَحَ ثُمَّ هَلَكَ سَيِّدُهُ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ ثُلُثُهُ ثُمَّ يُقْسَمُ عَقْلُ الْجَرْحِ أَثْلَاثًا فَيَكُونُ ثُلُثُ الْعَقْلِ عَلَى الثُّلُثِ الَّذِي عَتَقَ مِنْهُ وَيَكُونُ ثُلُثَاهُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ اللَّذَيْنِ بِأَيْدِي الْوَرَثَةِ إِنْ شَاءُوا أَسْلَمُوا الَّذِي لَهُمْ مِنْهُ إِلَى صَاحِبِ الْجَرْحِ وَإِنْ شَاءُوا أَعْطَوْهُ ثُلُثَيْ الْعَقْلِ وَأَمْسَكُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ الْعَبْدِ وَذَلِكَ أَنَّ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ إِنَّمَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ مِنْ الْعَبْدِ وَلَمْ تَكُنْ دَيْنًا عَلَى السَّيِّدِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَبْدُ بِالَّذِي يُبْطِلُ مَا صَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ عِتْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ مَعَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ بِيعَ مِنْ الْمُدَبَّرِ بِقَدْرِ عَقْلِ الْجَرْحِ وَقَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ يُبَدَّأُ بِالْعَقْلِ الَّذِي كَانَ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ فَيُقْضَى مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ثُمَّ يُقْضَى دَيْنُ سَيِّدِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ فَيَعْتِقُ ثُلُثُهُ وَيَبْقَى ثُلُثَاهُ لِلْوَرَثَةِ وَذَلِكَ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ هِيَ أَوْلَى مِنْ دَيْنِ سَيِّدِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا هَلَكَ وَتَرَكَ عَبْدًا مُدَبَّرًا قِيمَتُهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ دِينَارٍ وَكَانَ الْعَبْدُ قَدْ شَجَّ رَجُلًا حُرًّا مُوضِحَةً عَقْلُهَا خَمْسُونَ دِينَارًا وَكَانَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ دِينَارًا قَالَ مَالِكٌ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِالْخَمْسِينَ دِينَارًا الَّتِي فِي عَقْلِ الشَّجَّةِ فَتُقْضَى مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ثُمَّ يُقْضَى دَيْنُ سَيِّدِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ فَيَعْتِقُ ثُلُثُهُ وَيَبْقَى ثُلُثَاهُ لِلْوَرَثَةِ فَالْعَقْلُ أَوْجَبُ فِي رَقَبَتِهِ مِنْ دَيْنِ سَيِّدِهِ وَدَيْنُ سَيِّدِهِ أَوْجَبُ مِنْ التَّدْبِيرِ الَّذِي إِنَّمَا هُوَ وَصِيَّةٌ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ شَيْءٌ مِنْ التَّدْبِيرِ وَعَلَى سَيِّدِ الْمُدَبَّرِ دَيْنٌ لَمْ يُقْضَ وَإِنَّمَا هُوَ وَصِيَّةٌ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ مَا يَعْتِقُ فِيهِ الْمُدَبَّرُ كُلُّهُ عَتَقَ وَكَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ يُتَّبَعُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَقْلُ الدِّيَةَ كَامِلَةً وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ دَيْنٌ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا جَرَحَ رَجُلًا فَأَسْلَمَهُ سَيِّدُهُ إِلَى الْمَجْرُوحِ ثُمَّ هَلَكَ سَيِّدُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَهُ فَقَالَ الْوَرَثَةُ نَحْنُ نُسَلِّمُهُ إِلَى صَاحِبِ الْجُرْحِ وَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَنَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ إِنَّهُ إِذَا زَادَ الْغَرِيمُ شَيْئًا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَيُحَطُّ عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْرُ مَا زَادَ الْغَرِيمُ عَلَى دِيَةِ الْجَرْحِ فَإِنْ لَمْ يَزِدْ شَيْئًا لَمْ يَأْخُذْ الْعَبْدَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا جَرَحَ وَلَهُ مَالٌ فَأَبَى سَيِّدُهُ أَنْ يَفْتَدِيَهُ فَإِنَّ الْمَجْرُوحَ يَأْخُذُ مَالَ الْمُدَبَّرِ فِي دِيَةِ جُرْحِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَجْرُوحُ دِيَةَ جُرْحِهِ وَرَدَّ الْمُدَبَّرَ إِلَى سَيِّدِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ اقْتَضَاهُ مِنْ دِيَةِ جُرْحِهِ وَاسْتَعْمَلَ الْمُدَبَّرَ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ دِيَةِ جُرْحِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ جِرَاحِ الْمُدَبَّرِ

بِكَسْرِ الْجِيمِ، جَمْعُ جِرَاحَةٍ بِالْكَسْرِ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى جِرَاحَاتٍ.

1490 -

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَبْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الْخَلِيفَةَ الْعَادِلَ (قَضَى فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا جَرَحَ) إِنْسَانًا (أَنَّ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُسَلِّمَ مَا يَمْلِكُ مِنْهُ) وَهُوَ خِدْمَتُهُ (إِلَى الْمَجْرُوحِ فَيَخْتَدِمَهُ الْمَجْرُوحُ وَيُقَاصَّهُ بِجِرَاحِهِ مِنْ دِيَةِ جَرْحِهِ، فَإِذَا أَدَّى قَبْلَ أَنْ يَهْلَكَ سَيِّدُهُ رَجَعَ إِلَى سَيِّدِهِ) مُدَبَّرًا عَلَى حَالِهِ (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا جَرَحَ) شَخْصًا (ثُمَّ هَلَكَ سَيِّدُهُ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، أَنَّهُ يُعْتَقُ ثُلُثُهُ ثُمَّ يُقْسَمُ عَقْلُ الْجِرَاحِ أَثْلَاثًا، فَيَكُونُ ثُلُثُ الْعَقْلِ الثُّلُثَ الَّذِي عَتَقَ مِنْهُ، وَيَكُونُ ثُلُثَاهُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ لِلَّذِينِ بِأَيْدِي الْوَرَثَةِ، إِنْ شَاءُوا أَسْلَمُوا الَّذِي لَهُمْ مِنْهُ) مِنَ الْعَبْدِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ

ص: 213

(إِلَى صَاحِبِ الْجَرْحِ، وَإِنْ شَاءُوا أَعْطَوْا ثُلُثَيِ الْعَقْلِ وَأَمْسَكُوا نَصِيبَهُمْ مِنَ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَقْلَ ذَلِكَ الْجُرْحِ إِنَّمَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ مِنَ الْعَبْدِ وَلَمْ تَكُنْ دَيْنًا عَلَى السَّيِّدِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَبْدُ بِالَّذِي يُبْطِلُ مَا صَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ عِتْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ (فَإِنْ كَانَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ مَعَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ بِيعَ مِنَ الْمُدَبَّرِ بِقَدْرِ عَقْلِ الْجُرْحِ وَقَدْرِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يُبْدَأُ بِالْعَقْلِ الَّذِي كَانَ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ فَيُقْضَى مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ثُمَّ يُقْضَى دَيْنُ سَيِّدِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ وَيَبْقَى ثُلُثَاهُ لِلْوَرَثَةِ وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ هِيَ أَوْلَى مِنْ دَيْنِ سَيِّدِهِ) لِتَعَلُّقِهَا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ (وَذَلِكَ) أَيْ إِيضَاحُهُ بِالْمِثَالِ (أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا هَلَكَ وَتَرَكَ عَبْدًا مُدَبَّرًا قِيمَتُهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ دِينَارٍ، وَكَانَ الْعَبْدُ قَدْ شَجَّ رَجُلًا حُرًّا مُوضِحَةً) أَوْضَحَتِ الْعَظْمَ (عَقْلُهَا خَمْسُونَ دِينَارًا وَكَانَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ مِنَ الدَّيْنِ خَمْسُونَ دِينَارًا، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَمْسِينَ دِينَارًا الَّتِي فِي عَقْلِ الشَّجَّةِ، فَتُقْضَى مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ثُمَّ يُقْضَى دَيْنُ سَيِّدِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْعَبْدِ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ وَيَبْقَى ثُلُثَاهُ لِلْوَرَثَةِ فَالْعَقْلُ أَوْجَبُ) أَثْبَتُ وَأَحَقُّ (فِي رَقَبَتِهِ مِنْ دَيْنِ سَيِّدِهِ، وَدَيْنُ سَيِّدِهِ أَوْجَبُ) أَحَقُّ (مِنَ التَّدْبِيرِ الَّذِي إِنَّمَا هُوَ وَصِيَّةٌ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ فَلَا يَنْبَغِي) لَا

ص: 214

يَصِحُّ (أَنْ يَجُوزَ شَيْءٌ مِنَ التَّدْبِيرِ وَعَلَى سَيِّدِ الْمُدَبَّرِ دَيْنٌ لَمْ يُقْضَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (وَإِنَّمَا هُوَ وَصِيَّةٌ، ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ إِجْمَاعًا. (فَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ مَا يَعْتِقُ فِيهِ الْمُدَبَّرُ كُلُّهُ عَتَقَ وَكَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ يُتَّبَعُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَقْلُ الدِّيَةَ كَامِلَةً) مُبَالَغَةً (وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ دَيْنٌ) وَإِلَّا فَعَلَى مَا مَرَّ.

(وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا جَرَحَ رَجُلًا فَأَسْلَمَهُ) أَيْ أَسْلَمَ خِدْمَتَهُ (سَيِّدُهُ إِلَى الْمَجْرُوحِ ثُمَّ هَلَكَ سَيِّدُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَهُ، فَقَالَ الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نُسَلِّمُهُ إِلَى صَاحِبِ الْجُرْحِ) بِضَمِّ الْجِيمِ (وَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: أَنَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، إِنَّهُ إِذَا زَادَ الْغَرِيمُ شَيْئًا فَهُوَ أَوْلَى) أَحَقُّ (بِهِ) وَلَا يُسَلَّمُ لِلْمَجْرُوحِ (وَيُحَطُّ عَنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْرُ مَا زَادَ الْغَرِيمُ عَلَى دِيَةِ الْجَرْحِ، فَإِنْ لَمْ يَزِدْ شَيْئًا لَمْ يَأْخُذِ الْعَبْدَ) بَلْ يُسَلَّمُ إِلَى الْمَجْرُوحِ إِنْ شَاءَ الْوَارِثُ. (وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا جَرَحَ) شَخْصًا (وَلَهُ مَالٌ فَأَبَى سَيِّدُهُ أَنْ يَفْتَدِيَهُ، فَإِنَّ الْمَجْرُوحَ يَأْخُذُ مَالَ الْمُدَبَّرِ فِي دِيَةِ جُرْحِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَجْرُوحُ دِيَةَ جُرْحِهِ وَرُدَّ الْمُدَبَّرُ إِلَى سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ اقْتَضَاهُ) أَخَذَهُ (مِنْ دِيَةِ جُرْحِهِ وَاسْتَعْمَلَ الْمُدَبَّرَ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ دِيَةِ جُرْحِهِ) حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا.

ص: 215

[باب مَا جَاءَ فِي جِرَاحِ أُمِّ الْوَلَدِ]

قَالَ مَالِكٌ فِي أُمِّ الْوَلَدِ تَجْرَحُ إِنَّ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ ضَامِنٌ عَلَى سَيِّدِهَا فِي مَالِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلُ ذَلِكَ الْجَرْحِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ فَلَيْسَ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا وَذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ أَوْ الْوَلِيدَةِ إِذَا أَسْلَمَ غُلَامَهُ أَوْ وَلِيدَتَهُ بِجُرْحٍ أَصَابَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَثُرَ الْعَقْلُ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ سَيِّدُ أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يُسَلِّمَهَا لِمَا مَضَى فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ فَإِنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ قِيمَتَهَا فَكَأَنَّهُ أَسْلَمَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ جِنَايَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ جِرَاحِ أُمِّ الْوَلَدِ

(قَالَ مَالِكٌ فِي أُمِّ الْوَلَدِ تَجْرَحُ:) شَخْصًا (إِنَّ عَقْلَ ذَلِكَ الْجُرْحِ ضَامِنٌ) أَيْ مَضْمُونٌ (عَلَى سَيِّدِهَا فِي مَالِهِ) كَقَوْلِهِمْ: سِرٌّ كَاتِمٌ أَيْ مَكْتُومٌ، وَعِيشَةٌ رَاضِيَةٌ أَيْ مَرَضِيَّةٌ. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلُ ذَلِكَ الْجُرْحِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَلَيْسَ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُخْرِجَ) أَيْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ (أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنَّ رَبَّ) أَيْ سَيِّدَ (الْعَبْدِ أَوِ الْوَلِيدَةِ إِذَا أَسْلَمَ غُلَامَهُ أَوْ وَلِيدَتَهُ) أَمَتَهُ (بِجُرْحٍ) أَيْ فِي جُرْحٍ (أَصَابَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَثُرَ) زَادَ (الْعَقْلُ) عَلَى قِيمَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا (فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ) لَمْ يَقْدِرْ (سَيِّدُ أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يُسَلِّمَهَا لِمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ) أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِدَاؤُهَا (فَإِنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ قِيمَتَهَا فَكَأَنَّهُ أَسْلَمَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لَهُ إِذْ هُوَ لَيْسَ بِجَانٍ (وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ جِنَايَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا) بَلْ إِنَّمَا عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَرْشُ مَا جَنَتْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 216

[كِتَاب الْحُدُودِ]

[باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْحُدُودِ باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ

حَدَّثَنَا مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «جَاءَتْ الْيَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ فَقَالُوا نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ فَقَالُوا صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ قَالَ مَالِكٌ يَعْنِي يَحْنِي يُكِبُّ عَلَيْهَا حَتَّى تَقَعَ الْحِجَارَةُ عَلَيْهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

41 -

كِتَابُ الْحُدُودِ

جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَمْنَعُ اخْتِلَاطَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ الْحُدُودُ الشَّرْعِيَّةُ لِكَوْنِهِ مَانِعًا لِمُتَعَاطِيهِ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَهُ.

1 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ

1551 -

1491 - (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ) مِنْ خَيْبَرَ، وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ الطَّبَرِيِّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَسْعَدِ، وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَيُوسُفُ بْنُ عَازُورَاءَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ (فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ) لَمْ يَعْرِفِ الْحَافِظُ اسْمَهُ، وَفُتِحَتْ أَنَّ لِسَدِّهَا مَسَدَّ الْمَفْعُولِ (وَامْرَأَةً) اسْمُهَا بُسْرَةُ، بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ (زَنَيَا) وَ " مِنْهُمْ " صِفَةُ " رَجُلًا " وَصِفَةُ " امْرَأَةً " مَحْذُوفَةٌ، أَيْ مِنْهُمْ لِدَلَالَةِ السَّابِقِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ " مِنْهُمْ " بِحَالٍ مِنْ ضَمِيرِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فِي " زَنَيَا "، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا فِي حَالَةِ كَوْنِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ سَبَبَ مَجِيئِهِمْ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ مِمَّنْ يَتْبَعُ الْعِلْمَ، وَكَانَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «زَنَا رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ بِامْرَأَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ فَإِنَّهُ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقُلْنَا فُتْيَا نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، قَالَ: فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: يَا

ص: 217

أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا» ؟ (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ)" مَا " مُبْتَدَأٌ مِنْ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ وَ " تَجِدُونَ " جُمْلَةٌ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ، وَالْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ مَعْمُولٌ لِلْقَوْلِ وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ تَجِدُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَيَتَعَلَّقُ حَرْفُ الْجَرِّ بِمَفْعُولٍ ثَانٍ لِوَجَدَ (فِي شَأْنِ الرَّجْمِ) أَيْ فِي حُكْمِهِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ لِتَقْلِيدِهِمْ وَلَا مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِلْزَامِهِمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي كِتَابِهِمُ الْمُوَافِقِ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ; إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِظْهَارًا لِمَا كَتَبُوهُ وَبَدَّلُوهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَأَرَادُوا تَعْطِيلَ نَصِّهَا فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ، وَذَلِكَ إِمَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي التَّوْرَاةِ لَمْ يُغَيَّرْ، وَإِمَّا بِإِخْبَارِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ (فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَيْنَهُمَا فَاءٌ سَاكِنَةٌ، مِنَ الْفَضِيحَةِ، أَيْ نَكْشِفُ مَسَاوِيَهُمْ وَنُبَيِّنُهَا لِلنَّاسِ (وَيُجْلَدُونَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ نَجِدُ أَنْ نَفْضَحَهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَهُوَ مَعْمُولٌ عَلَى الْحِكَايَةِ لِـ " نَجِدُ " الْمُقَدَّرَ، أَيْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَهُمْ كَاذِبُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا فَسَّرُوا بِهِ التَّوْرَاةَ، يَكُونُ مَقْطُوعًا عَنِ الْجَوَابِ، أَيِ الْحُكْمُ عِنْدَنَا أَنْ نَفْضَحَهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَيَكُونُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِتَقْدِيرِ أَنْ، وَإِنَّمَا بُنِيَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ لِلْفَاعِلِ وَالْآخَرُ لِلْمَفْعُولِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْفَضِيحَةَ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِمْ وَإِلَى اجْتِهَادِهِمْ بِكَشْفِ مَسَاوِيهِمْ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، فَقَالُوا:«نَسْخَمُ وُجُوهَهُمَا وَنُخْزِيهِمَا» . وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ قَالُوا: «نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا وَيُطَافُ بِهِمَا» .

(فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) بِخِفَّةِ اللَّامِ، الْإِسْرَائِيلِيُّ الْحَبْرُ، مِنْ ذُرِّيَّةِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، حَلِيفُ الْخَزْرَجِ، لَهُ أَحَادِيثٌ وَفَضْلٌ وَشَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ (كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ) عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ:«فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِالتَّوْرَاةِ، فَأَتَى بِهَا» . وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ قَالَ، أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (فَأَتَوْا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ (بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا) أَيْ فَتَحُوهَا وَبَسَطُوهَا، زَادَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ: يَا أَعْوَرُ اقْرَأْ (فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَاءَ الْيَهُودِيُّ الْأَعْوَرُ (يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ) عَنْهَا (فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ، وَ " بَيَّنَهَا " فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: «الْمُحْصَنُ وَالْمُحْصَنَةُ إِذَا زَنَيَا وَقَامَتْ عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَةُ

ص: 218

رُجِمَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُبْلَى تُرُبِّصَ بِهَا حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ:«إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا» . زَادَ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: «فَإِنْ وَجَدُوا الرَّجُلَ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي ثَوْبِهَا أَوْ عَلَى بَطْنِهَا فَهِيَ رِيبَةٌ وَفِيهَا عُقُوبَةٌ» .

(فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: وَلَكِنَّنَا نُكَاتِمُهُ بَيْنَنَا. وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ قَالَ: قَالَ - يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: فَمَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالُوا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. زَادَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: «نَجِدُ الرَّجْمَ وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا نَجْتَمِعُ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ» . وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ: " «فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّهُودِ، فَجَاءَ أَرْبَعَةٌ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ» "(فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا) زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ عِنْدَ الْبَلَاطِ، وَهُوَ مَكَانٌ بَيْنَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ شُيُوخِنَا عَنْ يَحْيَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِالْجِيمِ وَالصَّوَابُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ " يَجْنَأُ " بِالْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ، أَيْ يَمِيلُ (عَلَى الْمَرْأَةِ) وَالرُّؤْيَا بَصَرِيَّةٌ " فَيَحْنِي " فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَ " عَلَى الْمَرْأَةِ " مُتَعَلِّقٌ بِهَا (يَقِيهَا الْحِجَارَةَ) أَيْ حِجَارَةَ الرَّمْيِ، فَأَلْ عَهْدِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنْ " يَحْنِي " أَوْ حَالٌ أُخْرَى. (مَالِكٌ: مَعْنَى يَحْنِي يُكِبُّ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ، أَيْ يَمِيلُ (عَلَيْهَا حَتَّى تَقَعَ الْحِجَارَةُ عَلَيْهِ) دُونَهَا مِنْ حُبِّهِ لَهَا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي حَرْفِ الْجِيمِ: يُقَالُ: أَجَنَى يَجْنِي إِجْنَاءً، وَجَنَا عَلَى الشَّيْءِ يَجْنُو إِذَا أَكَبَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ هُوَ مَهْمُوزٌ، وَقِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ الْهَمْزَةُ مِنْ: جَنَأَ إِذَا مَالَ عَلَيْهِ وَعَطَفَ ثُمَّ خَفَّفَ وَهُوَ لُغَةٌ فِي الْجَنَأِ، وَلَوْ رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى عَلَيْهِ لَكَانَ أَشْبَهَ، وَقَالَ فِي حَرْفِ الْحَاءِ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الَّذِي جَاءَ فِي السُّنَنِ يَجْنِي بِالْجِيمِ وَالْمَحْفُوظ بِالْحَاءِ، أَيْ يُكِبُّ عَلَيْهَا يُقَالُ: حَنَا يَحْنُو حُنُوًّا، وَمَرَّ أَنَّ أَبَا عُمَرَ صَوَّبَ رِوَايَةَ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ الرَّاجِحُ فِي الرِّوَايَةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ شَرْطٌ فَلَا يُرْجَمُ كَافِرٌ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ تَنْفِيذًا لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ فِعْلٌ وَقَعَ فِي وَاقِعَةِ حَالٍ عَيْنِيَّةٍ مُحْتَمَلَةٍ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْعُمُومِ فِي

ص: 219

كُلِّ كَافِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمُحَارِبِينَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَقَبْلَهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ أَيُّوبُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ نَافِعٍ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَهُمْ.

ص: 220

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ الْأَخِرَ زَنَى فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ هَلْ ذَكَرْتَ هَذَا لِأَحَدٍ غَيْرِي فَقَالَ لَا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَاسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ فَلَمْ تُقْرِرْهُ نَفْسُهُ حَتَّى أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تُقْرِرْهُ نَفْسُهُ حَتَّى جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ إِنَّ الْأَخِرَ زَنَى فَقَالَ سَعِيدٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ أَيَشْتَكِي أَمْ بِهِ جِنَّةٌ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَحِيحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ فَقَالُوا بَلْ ثَيِّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1552 -

1492 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) مُرْسَلٌ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَتَابَعَهُ طَائِفَةٌ عَلَى إِرْسَالِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَرَوَاهُ يُونُسُ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ، وَشُعَيْبٌ، وَعَقِيلٌ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ) هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحُفَّاظُ (جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ رضي الله عنه (فَقَالَ: إِنَّ الْأَخِرَ زَنَى) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الرِّوَايَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَعْنَاهُ الرَّذْلُ الدَّنِيُّ زَنَى، كَأَنَّهُ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَيَعِيبُهَا بِمَا نَزَلَ بِهِ مِنْ مُوَاقَعَةِ الزِّنَى، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: السُّؤَالُ أَخِرُ كَسْبِ الرَّجُلِ، أَيْ أَرْذَلُ كَسْبِ الرَّجُلِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ حَدَثَ مِنْ نَفْسِهِ بِقَبِيحِ فِكْرِهِ أَنْ يَنْسُبَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، انْتَهَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَخِرُ بِهَمْزَةٍ مَقْصُورَةٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَمَعْنَاهُ الْأَرْذَلُ وَالْأَبْعَدُ وَالْأَدْنَى، وَقِيلَ اللَّئِيمُ، وَقِيلَ الشَّقِيُّ، وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ، وَمُرَادُهُ نَفْسُهُ فَحَقَّرَهَا وَعَابَهَا بِمَا فَعَلَ (فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ ذَكَرْتَ هَذَا لِأَحَدٍ غَيْرِي؟) وَفِي رِوَايَةٍ: لِأَحَدٍ قَبْلِي (فَقَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ:) لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْفَةِ بِالْأُمَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ:" «أَرْأَفُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ» ". (فَتُبْ إِلَى اللَّهِ) بِالنَّدَمِ عَلَى مَا فَعَلْتَ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ (وَاسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ) الَّذِي أَسْبَلَهُ عَلَيْكَ إِذْ لَوْ شَاءَ لَأَظْهَرَهُ لِلنَّاسِ وَفَضَحَكَ فَلَا تُظْهِرْ أَنْتَ مَا سَتَرَهُ عَلَيْكَ. (فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) أَيْ مِنْهُمْ (فَلَمْ تُقْرِرْهُ) بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، أَيْ لَمْ تُمَكِّنْهُ (نَفْسُهُ) مِنَ الثُّبُوتِ عَلَى مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِمَا عَلِمَ مِنْ رَأْفَتِهِ وَشَفَقَتِهِ، وَمَاعِزٌ رَضِيَ

ص: 220

اللَّهُ عَنْهُ حَصَلَ لَهُ شِدَّةُ خَوْفٍ مِنْ ذَنْبِهِ (حَتَّى أَتَى عُمَرَبْنَ الْخَطَّابِ) لَمَّا عَلِمَ مِنْ صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ وَفِي الْحَدِيثِ: " «وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ» ". (فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ) لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فِي أَمْرِ اللَّهِ لَكِنَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَطْلُوبٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِ اللَّهِ (فَلَمْ تُقْرِرْهُ نَفْسُهُ) لِشِدَّةِ إِشْفَاقِهِ (حَتَّى جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ (فَقَالَ: إِنَّ الْأَخِرَ) بِهَمْزَةٍ مَقْصُورَةٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ، أَيِ الرَّذْلَ الدَّنِيَّ (زَنَى، قَالَ سَعِيدٌ) ابْنُ الْمُسَيَّبِ (فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي زَنَيْتُ» (حَتَّى إِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ) بِالْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ:" «فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: أُحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ» " وَلَا يُنَافِي سُؤَالُهُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ( «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: أَيَشْتَكِي» ) مَرَضًا أَذْهَبَ عَقْلَهُ ( «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟» ) بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ جُنُونٌ ; لِأَنَّهُ سَأَلَهُ أَوَّلًا ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَنْكَرَ مَا وَقَعَ مِنْهُ ; إِذْ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَقَعُ مِنْ صَحِيحٍ عَاقِلٍ.

( «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَحِيحٌ» ) فِي الْعَقْلِ وَالْبَدَنِ. ( «فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَبِكْرٌ» ) هُوَ ( «أَمْ ثَيِّبٌ؟» ) أَيْ تَزَوَّجَ زَوْجَةً وَدَخَلَ بِهَا وَأَصَابَهَا بِعَقْدٍ صَحِيحٍ وَوَطْءٍ مُبَاحٍ ( «فَقَالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ» ) زَادَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ: فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَلَمَّا أَدْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ. قَالَ فِي الْمُقَدِّمَةِ: وَالَّذِي أَدْرَكَهُ لَمَّا هَرَبَ فَقَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عُمَرُ، حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَأْسَ الَّذِينَ رَجَمُوهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ، انْتَهَى.

فَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ أَوَّلًا بِنُصْحِهِ بِأَمْرِهِ بِالتَّوْبَةِ وَالسَّتْرِ فَلَمَّا ثَبَتَ عَلَى الْإِقْرَارِ تَقَرَّبَ ثَانِيًا إِلَى اللَّهِ فَكَانَ رَأْسَ مَنْ رَجَمَهُ. وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِظَاهِرِهِ فِي اشْتِرَاطِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَإِنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِمَا دُونَهَا قِيَاسًا عَلَى الشُّهُودِ، وَأَجَابَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:

ص: 221

" «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ". وَلَمْ يَقُلْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَبِحَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ إِذْ لَمْ يُنْقَلُ أَنَّهُ تَكَرَّرَ إِقْرَارُهَا، وَإِنَّمَا كَرَّرَ عَلَى مَاعِزٍ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي عَقْلِهِ وَلِذَا قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ وَقَالَ لِأَهْلِهِ: أَيَشْتَكِي أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ غَالِبًا لَا يُصِرُّ عَلَى إِقْرَارِ مَا يَقْتَضِي هَلَاكَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، مَعَ أَنَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ بِالتَّوْبَةِ، وَلِذَا سَأَلَ أَهْلَهُ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ حَالِهِ وَصِيَانَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ، فَيُبْنَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ لَا عَلَى مُجَرَّدِ إِقْرَارِهِ بِعَدَمِ الْجُنُونِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْنُونًا لَمْ يُفِدْ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ لَأَنَّ إِقْرَارَ الْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِيهِ أَنَّ الْمَجْنُونَ الْمَعْتُوهَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَأَنَّ إِظْهَارَ الْإِنْسَانِ مَا يَأْتِيهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ جُنُونٌ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا الْمَجَانِينُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ ذَوِي الْعُقُولِ كَشْفُ ذَلِكَ، وَالِاعْتِرَافُ بِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِمُ السَّتْرُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالتَّوْبَةُ، وَكَمَا يَلْزَمُهُمُ السَّتْرُ عَلَى غَيْرِهِمْ يَلْزَمُهُمُ السَّتْرُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّ حَدَّ الثَّيِّبِ غَيْرُ حَدِّ الْبِكْرِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ لَكِنْ قَلِيلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَأَى عَلَى الثَّيِّبِ الْجَلْدَ وَالرَّجْمَ مَعًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعُبَادَةَ وَتَعَلَّقَ بِهِ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ. وَقَالَ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: لَا رَجْمَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْحَدُّ الْجَلْدُ لِثَيِّبٍ أَوْ بِكْرٍ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ.

ص: 222

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ» قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ الْأَسْلَمِيِّ فَقَالَ يَزِيدُ هَزَّالٌ جَدِّي وَهَذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1553 -

1493 - (مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي) لَا خِلَافَ فِي إِسْنَادِهِ فِي الْمُوَطَّأِ كَمَا تَرَى، وَهُوَ يَسْتَنِدُ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنِ ابْنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، قَبِيلَةٌ، قَالَ فِيهَا الْمُصْطَفَى «أَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ» (يُقَالُ لَهُ) أَيِ اسْمُهُ (هَزَّالٌ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالزَّايِ الْمَنْقُوطَةِ الشَّدِيدَةِ، ابْنُ يَزِيدَ الصَّحَابِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّ هَزَّالًا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ وَأَنَّ مَاعِزًا وَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ هَزَّالٌ:«انْطَلِقْ فَأَخْبِرْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَسَى أَنْ يَنْزِلَ فِيكَ قُرْآنٌ، فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ) » مِنْ أَمْرِكَ لَهُ بِإِخْبَارِي لِمَا فِي السَّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ الْمَذْكُورِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ. (قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ) بِيَاءٍ قَبْلَ الزَّايِ (ابْنُ نُعَيْمِ) بِضَمِّ النُّونِ

ص: 222

(ابْنِ هَزَّالٍ الْأَسْلَمِيُّ) تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، ثِقَةٌ، مَقْبُولٌ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ جَدِّهِ مُرْسَلَةٌ، وَأَمَّا أَبُوهُ نُعَيْمٌ فَصَحَابِيٌّ نَزَلَ الْمَدِينَةَ مَا لَهُ رَاوٍ إِلَّا ابْنُهُ يَزِيدُ. (فَقَالَ يَزِيدُ: هَزَّالٌ جَدِّي وَهَذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ) أَيْ صِدْقٌ لَا مَحَالَةَ.

ص: 223

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِاعْتِرَافِهِ عَلَى نَفْسِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1554 -

1494 - (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ) مُرْسَلًا، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، وَشُعَيْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ (أَنَّ رَجُلًا) هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيُّ بِاتِّفَاقٍ، وَبِهِ صُرِّحَ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ (اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَى عَلَى عَهْدِ) أَيْ زَمَنِ (رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثَلَاثَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِهِ: أَيَشْتَكِي أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَالِ الَّذِي يُشْبِهُ حَالَ الْمَجْنُونِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ مُنْتَفِشَ الشَّعْرِ لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ يَقُولُ: زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَاسْمُ الْمَرْأَةِ الَّتِي زَنَى بِهَا فَاطِمَةُ، فَتَاةُ هَزَّالٍ، وَقِيلَ مُنِيرَةُ، وَفِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ: اسْمُهَا مُهَيْرَةُ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ:" «جَاءَ مَاعِزٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: فِيمَ أُطَهِرُّكَ؟ قَالَ: مِنَ الزِّنَى، فَسَأَلَ أَبِهِ جُنُونٌ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَزَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ "(فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ) » زَادَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: بِالْمُصَلَّى «فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خَيْرًا» .

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ: «فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فَرِيقَيْنِ: قَائِلٌ يَقُولُ: هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلُ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ، فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ جَاءَ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَالُوا: غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ» . وَفِي النَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ» ". يَعْنِي يَتَنَعَّمُ. وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ: " «قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» ". وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَاعِزٍ رضي الله عنه كَحَدِيثِ الْبَابِ ; لِأَنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَى طَلَبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ

ص: 223

عَلَيْهِ مَعَ تَوْبَتِهِ لِيَتِمَّ تَطْهِيرُهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ إِقْرَارِهِ مَعَ أَنَّ الطَّبْعَ الْبَشَرِيَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يَقْتَضِي مَوْتَهُ، فَجَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَوِيَ عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ، قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ لَا يُكَنِّي، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ» ". (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِاعْتِرَافِهِ عَلَى نَفْسِهِ) بِالزِّنَى أَوْ بِغَيْرِهِ حَيْثُ كَانَ مُكَلَّفًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ.

ص: 224

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا زَنَتْ وَهِيَ حَامِلٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَتْهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ فَلَمَّا أَرْضَعَتْهُ جَاءَتْهُ فَقَالَ اذْهَبِي فَاسْتَوْدِعِيهِ قَالَ فَاسْتَوْدَعَتْهُ ثُمَّ جَاءَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1555 -

1495 - (مَالِكٌ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ) التَّيْمِيِّ أَبِي يُوسُفَ الصَّدُوقِ الْمَدَنِيِّ قَاضِيهَا (عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ) التَّيْمِيِّ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، أَرْسَلَ هَذَا الْحَدِيثَ فَظَنَّهُ الْحَاكِمُ صَحَابِيًّا وَقَالَ: إِنَّ مَالِكًا هُوَ الْحَاكِمُ فِي حَدِيثِ الْمَدَنِيِّينَ، وَتَعَقَّبَهُ فِي الْإِصَابَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ كَمَا ظَنَّ، فَلَيْسَ لِزَيْدٍ وَلَا لِأَبِيهِ وَلَا لِجَدِّهِ صُحْبَةٌ فَهُوَ زَيْدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، كَمَا نَسَبَهُ الْقَعْنَبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَجَدُّهُ مَشْهُورٌ فِي التَّابِعِينَ (عَنْ) جَدِّهِ (عَبْدِ اللَّهِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، بِضَمِّهَا (ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ، ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، وَيُقَالُ: اسْمُ أَبِي مُلَيْكَةَ زُهَيْرٌ التَّيْمِيُّ الْمَدَنِيُّ، أَدْرَكَ ثَلَاثِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثِقَةٌ فَقِيهٌ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا قَالَ يَحْيَى فَجَعَلَ الْحَدِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مُرْسَلًا عَنْهُ. وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ بُكَيْرٍ: مَالِكٌ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَجَعَلُوا الْحَدِيثَ لِزَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ مُرْسَلًا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَرُوِيَ مُرْسَلًا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَصَحَّ بِمَعْنَاهُ عَنْ بُرَيْدَةَ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (أَنَّ امْرَأَةً) مِنْ غَامِدٍ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَلَهُ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَلَا تَنَافِيَ: فَغَامِدٌ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ فَأَلِفٍ فَمِيمٍ مَكْسُورَةٍ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ، بَطْنٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَرَوَى ابْنُ مَنْدَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ:" «سَمِعْتُ سُبَيْعَةَ الْقُرَشِيَّةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ حَدَّ اللَّهِ» ". الْحَدِيثُ بِنَحْوِ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ صَحَّ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُمَا مَعًا. ( «جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا زَنَتْ» ) وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَة

ص: 224

فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَى» " (وَهِيَ حَامِلٌ) مِنَ الزِّنَى كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ وَبُرَيْدَةَ.

(فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي) حَمْلَكِ لِمَنْعِ رَجْمِ الْحُبْلَى ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَتْلُ الْوَلَدِ بِلَا جِنَايَةٍ.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، وَفِيهِ عَنْ عِمْرَانَ: فَدَعَا نَبِيُّ اللَّهِ وَلِيَّهَا، فَقَالَ: أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا (فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَتْهُ) وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ) وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ: «فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ: إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا، لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إِلَيَّ رِضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: فَرَجَمَهَا» .

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .

وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْضَ قَوْلَ الرَّجُلِ إِلَيَّ رِضَاعُهُ ; لِأَنَّ أُمَّهُ أَرْفَقُ بِهِ فِي رِضَاعِهِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهَا حَتَّى فَطَمَتْهُ، وَيَكُونُ التَّعْقِيبُ فِي قَوْلِهِ فِي الْأُولَى فَرَجَمَهَا نَحْوَ: تَزَوَّجَ زَيْدٌ فَوُلِدَ لَهُ، هَكَذَا ظَهَرَ لِي، ثُمَّ رَأَيْتُ النَّوَوِيَّ قَالَ: الرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَالثَّانِيَةُ صَرِيحَةٌ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِخِلَافِ الْأُولَى، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهَا عَلَى وَفْقِ الثَّانِيَةِ، بِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ إِلَيَّ رِضَاعُهُ إِنَّمَا قَالَ بَعْدَ الْفِطَامِ، وَأَرَادَ بِهِ كَفَالَتَهُ وَتَرْبِيَتَهُ وَسَمَّاهُ رِضَاعًا مَجَازًا، انْتَهَى.

وَلَعَلَّ مَا قُلْتُهُ أَقْرَبُ لِإِبْقَاءِ الرِّضَاعِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ التَّعْقِيبُ ; لِأَنَّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.

(فَلَمَّا أَرْضَعَتْهُ جَاءَتْهُ فَقَالَ: اذْهَبِي فَاسْتَوْدِعِيهِ) اجْعَلِيهِ عِنْدَ مَنْ يَحْفَظُهُ (قَالَ فَاسْتَوْدَعَتْهُ) لَا يُنَافِي رِوَايَةَ مُسْلِمٍ: «فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَوْدَعَتْهُ وَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ أَحْضَرَهُ بِالصَّبِيِّ وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ ; لِيَكُونَ أَشَدَّ تَوَثُّقًا فِي حِفْظِهِ مِنْ مَزِيدِ رَأْفَتهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَلْقِ اللَّهِ.

(ثُمَّ جَاءَتْهُ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ) وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ: " «ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجْرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَخَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا فَسَمِعَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا

ص: 225

فَدُفِنَتْ» " وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عِمْرَانَ: "«ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ قَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا» ؟ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَيْهَا.

وَأَمَّا الْأُولَى فَقَالَ عِيَاضٌ: هِيَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِضَمِّ الصَّادِ، قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ:«ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا» " انْتَهَى.

وَقَدْ يُجْمَعُ بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ قَبْلَ الصَّلَاةِ صَلَّى عَلَيْهَا لَمَّا عَلِمَ تَوْبَتَهَا.

ص: 226

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ تَكَلَّمْ فَقَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأَمَرَ أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1556 -

1496 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِفَتْحِهَا (ابْنِ عُتْبَةَ) بِضَمِّهَا وَإِسْكَانِ الْفَوْقِيَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ أَوْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ قَوْلَانِ مُرَجَّحَانِ مِنْ نَحْوِ ثَلَاثِينَ قَوْلًا فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ (وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ (أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ) لَمْ يَعْرِفِ الْحَافِظُ اسْمَهُمَا (اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ) احْكُمْ (بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلَا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ "(وَقَالَ الْآخَرُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ (وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا) قَالَ الْحَافِظُ زَيْنُ الدَّيْنِ الْعِرَاقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ كَانَ عَارِفًا بِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَتَحَاكَمَا فَوَصَفَ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ أَفْقَهُ مِنَ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا، وَيُحْتَمَلُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْخَاصَّةِ لِحُسْنِ أَدَبِهِ فِي اسْتِئْذَانِهِ أَوَّلًا، وَتَرْكِ رَفْعِ صَوْتِهِ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ رَفَعَهُ (أَجَلْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ وَخِفَّةِ اللَّامِ أَيْ نَعَمْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) إِنَّمَا سَأَلَا ذَلِكَ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِحُكْمِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْحُكْمِ الصَّرْفِ لَا بِالتَّصَالُحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِهِمَا، أَوْ أَمْرِهِمَا بِالصُّلْحِ إِذْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ (وَأْذَنْ لِي) فِي (أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي) لَمْ يَعْرِفِ الْحَافِظُ اسْمَهُ (كَانَ عَسِيفًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالْفَاءِ أَيْ أَجِيرًا (عَلَى هَذَا) أَيْ عِنْدَهُ أَوْ عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ (فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ) لَمْ يَعْرِفِ الْحَافِظُ اسْمَهَا (فَأَخْبَرَنِي) بِالْإِفْرَادِ قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَكَذَا رَوَاهُ

ص: 226

يَحْيَى وَابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَلِلْقَعْنَبِيِّ: فَأَخْبَرُونِي أَيْ بِالْجَمْعِ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: فَسَأَلْتُ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَأَخْبَرَنِي (أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ) مُتَعَلِّقٌ بِافْتَدَيْتُ، وَمِنْ لِلْبَدَلِ نَحْوُ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ، أَيِ افْتَدَيْتُ بِمِائَةِ شَاةٍ بَدَلَ الرَّجْمِ (وَبِجَارِيَةٍ لِي) وَفِي رِوَايَةٍ وَجَارِيَةٍ بِلَا مُوَحَّدَةٍ (ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ، وَلَا عَلَى عَدَدِهِمْ ( «فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» ) بِالْإِضَافَةِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ بِكْرٌ ( «وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ» ) لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَقْسَمَ تَأْكِيدًا (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) أَيِ الْقُرْآنِ عَلَى ظَاهِرِهِ، الْمَنْسُوخِ لَفْظُهُ الثَّابِتِ حُكْمُهُ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُ عُمَرَ الْآتِي: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَثَبَتَ خَطُّهُ، وَعَكْسُهُ فِي الْقِيَاسِ مِثْلُهُ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15](سورة النِّسَاءِ الْآيَةُ 15) وَفَسَّرَ النَّبِيُّ السَّبِيلَ بِرَجْمِ الْمُحْصَنِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، أَوِ الْمَعْنَى بِحُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24](سورة النِّسَاءِ الْآيَةُ 80) أَيْ حُكْمُهُ فِيكُمْ وَقَضَاؤُهُ عَلَيْكُمْ، وَمَا قَضَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] (سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 80){وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7](سورة الْحَشْرِ: الْآيَةُ 7) فَلَمَّا أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ: حُكْمُ اللَّهِ وَقَضَاؤُهُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مَنْ زَنَى وَافْتَدَى يُرَدُّ فَدَاؤُهُ، وَلَا أَنَّ عَلَيْهِ نَفْيَ سَنَةٍ مَعَ الْجَلْدِ وَلَا أَنَّ عَلَى الثَّيِّبِ الرَّجْمَ، وَقَدْ أَقْسَمَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ صَادِقٌ وَقَالَ:(أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ) أَيْ مَرْدُودٌ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، نَحْوِ: نَسْجِ الْيَمَنِ أَيْ مَنْسُوجِهِ ; وَلِذَا كَانَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِلْجَمْعِ وَالْوَاحِدِ (وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً) أَيْ أَمَرَ مَنْ يَجْلِدُهُ فَجَلَدَهُ (وَغَرَّبَهُ عَامًا) عَنْ وَطَنِهِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ ابْنَهُ كَانَ بِكْرًا، وَأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالزِّنَى، فَإِنَّ إِقْرَارَ الْأَبِ عَلَيْهِ لَا يُقْبَلُ، وَقَرِينَةُ اعْتِرَافِهِ حُضُورُهُ مَعَ أَبِيهِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ ابْنِي هَذَا، وَسُكُوتُهُ عَلَى مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ.

وَفِي النَّسَائِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ ابْنِي أَجِيرًا لِامْرَأَةِ هَذَا، وَابْنِي لَمْ يُحْصِنْ فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ بِكْرٌ، وَفِيهِ تَغْرِيبُ الْبِكْرِ الزَّانِي خِلَافًا لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُغَرَّبُ ; لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ

ص: 227

بِخَبَرِ الْوَاحِدِ نَسْخٌ فَلَا يَجُوزُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ إِذْ حُكْمُ النَّصِّ بَاقٍ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ بِالسَّنَةِ.

(وَأَمَرَ أُنَيْسًا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُصَغَّرٌ (الْأَسْلَمِيَّ) جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ فِي نَقْدِي أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ السَّكَنِ: لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ وَلَمْ أَجِدْ لَهُ رِوَايَةً غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُقَالُ: هُوَ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ هُوَ أُنَيْسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَهُوَ خَطَأٌ ; لِأَنَّهُ غَنَوِيٌّ وَهَذَا أَسْلَمِيٌّ، كَذَا فِي الْإِصَابَةِ، وَقَالَ فِي الْمُقَدِّمَةِ: أُنَيْسٌ هُوَ ابْنُ الضَّحَّاكِ نَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ (الْأَسْلَمِيَّ) ، وَوَهِمَ ابْنُ التِّينِ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَلَكِنَّهُ صُغِّرَ انْتَهَى.

فَإِنَّهُ خَصَّ الْأَسْلَمِيَّ قَصْدًا إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤَمَّرُ فِي الْقَبِيلَةِ إِلَّا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِنُفُورِهِمْ عَنْ حُكْمِ غَيْرِهِمْ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ أَسْلَمِيَّةً.

(أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ) لِيُعْلِمَهَا أَنَّ الرَّجُلَ قَذَفَهَا بِابْنِهِ فَلَهَا عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ فَتُطَالِبُهُ أَوْ تَعْفُو عَنْهُ.

(فَإِنِ اعْتَرَفَتْ) بِأَنَّهُ زَنَى بِهَا (رَجَمَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا) أُنَيْسٌ لِأَنَّهُ حَكَّمَهُ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أُنَيْسًا إِنَّمَا كَانَ رَسُولًا لِيَسْمَعَ إِقْرَارَهَا فَقَطْ، وَأَنَّ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَيُشْكِلُ كَوْنُهُ اكْتَفَى بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ رِوَايَةَ مَالِكٍ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ ضَبْطِهِ وَخُصُوصًا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّهُ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أُنَيْسًا كَانَ حَاكِمًا، وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ رَسُولٌ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ نَصٌّ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالشَّهَادَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ غَيْرَهُ شَهِدَ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم بِشَهَادَةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَالِدُ الْعَسِيفِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْعَسِيفُ وَالزَّوْجُ فَلَا، وَغَفَلَ بَعْضُ مَنْ تَبِعَ عِيَاضًا فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ وَإِلَّا لَزِمَ الِاكْتِفَاءُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ أُنَيْسًا بُعِثَ حَاكِمًا فَاسْتَوْفَى شُرُوطَ الْحُكْمِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ صلى الله عليه وسلم فِي رَجْمِهَا فَأَذِنَ لَهُ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ إِنْفَاذِ الْحَاكِمِ رَجُلًا وَاحِدًا فِي الْإِعْذَارِ، وَفِي أَنْ يَتَّخِذَ وَاحِدًا يَثِقُ بِهِ يَكْشِفُ لَهُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي السِّرِّ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ الْوَاحِدِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ لَا الشَّهَادَةُ انْتَهَى.

وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُفْتُونَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي بَلَدِهِ.

وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُفْتُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُفْتِيَانِ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَعَنْ حِرَاشٍ الْأَسْلَمِيِّ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِمَّنْ يُفْتِي فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَقْبَلُ الْفِدَاءَ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالْحِرَابَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْقَذْفِ وَالصَّحِيحُ

ص: 228

أَنَّهُ كَغَيْرِهِ، وَإِرْسَالُ الْإِمَامِ إِلَى الْمَرْأَةِ لِيَسْأَلَهَا عَمَّا رُمِيَتْ بِهِ، وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ وُجُوبَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِنَا، وَاحْتَجَّ لَهُ بِبَعْثِ أُنَيْسٍ، لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي وَاقِعَةِ حَالٍ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ سَبَبَ الْبَعْثِ مَا وَقَعَ بَيْنَ زَوْجِهَا، وَبَيْنَ وَالِدِ الْعَسِيفِ مِنَ الْخِصَامِ، وَالْمُصَالَحَةِ عَلَى الْحَدِّ، وَاشْتِهَارِ الْقِصَّةِ حَتَّى صَرَّحَ وَالِدُ الْعَسِيفِ بِمَا صَرَّحَ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ زَوْجُهَا، فَالْإِرْسَالُ إِلَى هَذِهِ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِهَا مِنَ التُّهْمَةِ الْقَوِيَّةِ بِالْفُجُورِ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ) وَزْنًا وَمَعْنًى لِأَنَّهُ يَعْسِفُ الطُّرُقَ أَيْ يَسْلُكُهَا مُتَرَدِّدًا فِي الِاشْتِغَالِ، وَالْجَمْعُ عُسَفَاءُ بِزِنَةِ أُجَرَاءَ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْقَضَاءِ الْخَلِيفَةُ الْعَالِمُ بِوُجُوهِ الْقَضَاءِ، وَأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَالطَّالِبَ أَحَقُّ بِالتَّقَدُّمِ بِالْكَلَامِ، وَإِنْ بَدَأَ الْمَطْلُوبُ بِرَدِّ هَذَا الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِقَبْضِهِ فِي مِلْكِهِ وَلَا يُصَحِّحُهُ لَهُ، وَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَأَنَّهُ لَا جَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ، وَقَالَهُ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، وَبَعْضِ السَّلَفِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا:" خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ ".

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّهُ رَجَمَ جَمَاعَةً وَلَمْ يَجْلِدْهُمْ، وَرَجَمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَلَمْ يَجْلِدُوا، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي شُرَاحَةِ الْهَمْدَانِيَّةِ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَمُنْقَطِعٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَغَيْرُهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِنَحْوِهِ.

ص: 229

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ لَوْ أَنِّي وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1557 -

1497 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ (ابْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ) ذَكْوَانَ السَّمَّانِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) الْأَنْصَارِيَّ الْجَوَادَ الْمَشْهُورَ سَيِّدَ الْخَزْرَجِ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] (سورة النُّورِ: الْآيَةُ 4) الْآيَةَ (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنِّي وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا) وَفِي رِوَايَةٍ: لَوْ وَجَدْتُ لَكَاعًا يَعْنِي امْرَأَتَهُ قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ (أَأُمْهِلُهُ) بِفَتْحِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَضَمِّ الثَّانِيَةِ (حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: " كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ

ص: 229

قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي " وَفِيهِ قَطْعُ الذَّرِيعَةِ عَنْ سَفْكِ الدَّمِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَالنَّهْيُ عَنْ إِقَامَةِ حَدٍّ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا شُهُودٍ، وَهُوَ وَجْهُ إِدْخَالِهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَمَرَّ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ.

ص: 230

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا أُحْصِنَ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الْاعْتِرَافُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1558 -

1498 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِفَتْحِهَا (ابْنِ عُتْبَةَ) بِضَمِّهَا (ابْنِ مَسْعُودٍ) أَحَدِ الْفُقَهَاءِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ) عَلَى الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ (الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ) ثَابِتُ الْحُكْمِ مَنْسُوخُ اللَّفْظِ.

وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ: " إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ "(عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا أُحْصِنَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ تَزَوَّجَ وَوَطِئَ مُبَاحًا، وَكَانَ بَالِغًا عَاقِلًا (إِذَا أُقِيمَتِ الْبَيِّنَةُ) بِالزِّنَى (أَوْ كَانَ الْحَبَلُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ وُجِدَتِ الْمَرْأَةُ حُبْلَى (أَوْ) كَانَ (الِاعْتِرَافُ) الْإِقْرَارُ بِالزِّنَى وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ خُطْبَةٍ لِعُمَرَ طَوِيلَةٍ قَالَهَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ رضي الله عنه، رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ بِتَمَامِهَا مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ.

ص: 230

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ بِالشَّامِ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ إِلَى امْرَأَتِهِ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَتَاهَا وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ حَوْلَهَا فَذَكَرَ لَهَا الَّذِي قَالَ زَوْجُهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَخْبَرَهَا أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَجَعَلَ يُلَقِّنُهَا أَشْبَاهَ ذَلِكَ لِتَنْزِعَ فَأَبَتْ أَنْ تَنْزِعَ وَتَمَّتْ عَلَى الْاعْتِرَافِ فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَرُجِمَتْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1559 -

1499 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) بِتَحْتِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ (عَنْ أَبِي وَاقِدٍ) بِالْقَافِ (اللَّيْثِيِّ) الصَّحَابِيِّ قِيلَ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ، وَقِيلَ ابْنُ عَوْفٍ، وَقِيلَ اسْمُهُ عَوْنُ بْنُ الْحَارِثِ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ عَلَى الصَّحِيحِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَاهُ رَجُلٌ) لَمْ يُسَمَّ (وَهُوَ بِالشَّامِ) لَمَّا قَدِمَهَا فِي خِلَافَتِهِ (فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا وَاقَدٍ اللِّيثِيَّ) الصَّحَابِيَّ الْمَذْكُورَ

ص: 230

(إِلَى امْرَأَتِهِ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنْ قَذْفِ زَوْجِهَا لَهَا (فَأَتَاهَا وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ حَوْلَهَا) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَذَكَرَ لَهَا الَّذِي قَالَ زَوْجُهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) مِنْ رَمْيِهَا بِالزِّنَى (وَأَخْبَرَهَا) أَبُو وَاقَدٍ (أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ) بَلْ إِنْ كَذَّبَتْهُ لَاعَنَ وَإِلَّا حُدَّ (وَجَعَلَ يُلَقِّنُهَا أَشْبَاهَ ذَلِكَ لِتَنْزِعَ) بِفَوْقِيَّةٍ فَنُونٍ سَاكِنَةٍ فَزَايٍ مَنْقُوطَةٍ أَيْ تَرْجِعَ (فَأَبَتْ أَنْ تَنْزِعَ) تَرْجِعَ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالزِّنَى (وَتَمَّتْ) اشْتَدَّتْ وَصَلُبَتْ، وَفِي نُسْخَةٍ وَهِيَ أَظْهَرُ وَثَبَتَتْ بِمُثَلَّثَةٍ مِنَ الثُّبُوتِ (عَلَى الِاعْتِرَافِ) بِالزِّنَى (فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَرُجِمَتْ) لِثُبُوتِهَا عَلَى الِاعْتِرَافِ، وَعَدَمِ رُجُوعِهَا عَنْهُ.

ص: 231

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ «مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالْأَبْطَحِ ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطْحَاءَ ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ وَاسْتَلْقَى ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي وَضَعُفَتْ قُوَّتِي وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ سُنَّتْ لَكُمْ السُّنَنُ وَفُرِضَتْ لَكُمْ الْفَرَائِضُ وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَتَبْتُهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا» قَالَ مَالِكٌ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ رحمه الله قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ قَوْلُهُ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ يَعْنِي الثَّيِّبَ وَالثَّيِّبَةَ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1560 -

1500 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رحمه الله رِوَايَةُ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُتَّصِلِ ; لِأَنَّهُ رَآهُ وَقَدْ صَحَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ سَمَاعَهُ مِنْهُ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ (مِنْ مِنًى) فِي آخِرِ حَجَّاتِهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ (أَنَاخَ) رَاحِلَتَهُ (بِالْأَبْطَحِ) أَيِ الْمُحَصَّبِ (ثُمَّ كَوَّمَ) بِشَدِّ الْوَاوِ أَيْ جَمَعَ (كَوْمَةً) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ قِطْعَةً (بَطْحَاءَ) أَيْ صِغَارَ الْحَصَى أَيْ جَمَعَهَا وَجَعَلَ لَهَا رَأْسًا (ثُمَّ طَرَحَ) أَلْقَى (عَلَيْهَا رِدَاءَهُ وَاسْتَلْقَى) عَلَى ظَهْرِهِ (ثُمَّ مَدَّ) رَفَعَ (يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ) لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ (فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (سِنِّي) أَيْ عُمُرِي فَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ (وَضَعُفَتْ قُوَّتِي) بِسَبَبِ كِبَرِ سِنِّي (وَانْتَشَرَتْ) كَثُرَتْ وَتَفَرَّقَتْ (رَعِيَّتِي) الَّتِي أَقُومُ بِتَدْبِيرِهَا وَسِيَاسَتِهَا (فَاقْبِضْنِي) تَوَفَّنِي (إِلَيْكَ) حَالَ كَوْنِي (غَيْرَ مُضَيِّعٍ) لِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ (وَلَا مُفَرِّطٍ) مُتَهَاوِنٍ بِهِ.

(ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ) وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي عَقِبِ ذِي الْحِجَّةِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْنَا بِالرَّوَاحِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ

ص: 231

رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ.

(فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ سُنَّتْ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ النُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ (لَكُمُ السُّنَنُ) جُمَعُ سُنَّةٍ (وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ (وَتُرِكْتُمْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا (عَلَى) الطَّرِيقِ (الْوَاضِحَةِ) الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى (إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا) عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ لِهَوَى أَنْفُسِكُمْ (وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) أَسَفًا وَتَعَجُّبًا مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ ضَلَالٌ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْبَالِغِ (ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ) أُحَذِّرُكُمْ (أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ) أَنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (يَقُولُ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ) إِنَّمَا فِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَلْدُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ: " أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا "(فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ أَمَرَ بِرَجْمِ مَنْ أُحْصِنَ: مَاعِزٌ وَالْغَامِدِيَّةُ، وَالْيَهُودِيُّ وَالْيَهُودِيَّةُ (وَرَجَمْنَا) بَعْدَهُ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا) قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ كِتَابَتَهَا جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ قَوْلُ النَّاسِ، وَالْجَائِزُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَقُومُ مِنْ خَارِجِ مَا يَمْنَعُهُ، وَإِذَا كَانَتْ جَائِزَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً ; لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمَكْتُوبِ، قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بَاقِيَةً لَبَادَرَ عُمَرُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَقَالَةِ النَّاسِ ; لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ مَانِعًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ مُشْكِلَةٌ انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ عُمَرَ هَذَا الظَّاهِرَ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ الْمُبَالَغَةُ وَالْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ بِالرَّجْمِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ بَاقٍ وَإِنْ نُسِخَ لَفْظُهَا إِذْ لَا يَسَعُ مِثْلُ عُمَرَ مَعَ مَزِيدِ فِقْهِهِ تَجْوِيزَ كَتْبِهَا مَعَ نَسْخِ لَفْظِهَا، فَلَا إِشْكَالَ وَضَمِيرُ كَتَبْتُهَا لِآيَةِ الرَّجْمِ، وَهِيَ (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ) إِذَا زَنَيَا (فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ أَيْ جَزْمًا (قَدْ قَرَأْنَاهَا) ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْنَا.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ: " وَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ.

ص: 232

(قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا انْسَلَخَ) أَيْ مَضَى (ذُو الْحِجَّةِ) الشَّهْرُ الَّذِي خَطَبَ فِيهِ هَذِهِ الْخُطْبَةَ (حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ شَهِيدًا بِيَدِ فَيْرُوزَ النَّصْرَانِيِّ عَبْدِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.

(مَالِكٌ: قَوْلُهُ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ يَعْنِي الثَّيِّبَ وَالثَّيِّبَةَ) أَيِ الْمُحْصَنَ وَالْمُحْصَنَةَ، وَإِنْ كَانَا شَابَّيْنِ لَا حَقِيقَةَ الشَّيْخِ، وَهُوَ مَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:(فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ) فَإِنَّ الرَّجْمَ لَا يَخْتَصُّ بِالشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى الْإِحْصَانِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمَاعِزٍ: أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

وَلِقَوْلِهِ عليه السلام لِأَهْلِ مَاعِزٍ: أَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟ فَقَالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ كَمَا مَرَّ.

ص: 233

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فَالْحَمْلُ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَلَا رَجْمَ عَلَيْهَا فَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَثَرِهَا فَوَجَدَهَا قَدْ رُجِمَتْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1560 -

1501 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بِامْرَأَةٍ) تَزَوَّجَتْ (قَدْ وَلَدَتْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ) مِنْ زَوَاجِهَا (فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ) لِأَنَّ الْغَالِبَ الْكَثِيرَ أَنَّ الْحَمْلَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ (فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَيْسَ ذَلِكَ) الرَّجْمُ (عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15] مِنَ الرِّضَاعِ {ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] سِتَّةٌ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَالْبَاقِي أَكْثَرُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ.

(وَقَالَ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233] عَامَيْنِ (كَامِلَيْنِ) صِفَةٌ مُؤَكَّدَةٌ، ذَلِكَ {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ، فَالْحَمْلُ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ) كَمَا أَفَادَتْهُ الْآيَتَانِ (فَلَا رَجْمَ عَلَيْهَا فَبَعَثَ عُثْمَانُ فِي إِثْرِهَا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ (فَوَجَدَهَا قَدْ رُجِمَتْ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ بَعْجَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَّا امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لَهُ تَمَامًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَانْطَلَقَ إِلَى

ص: 233

عُثْمَانَ فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15](سورة الْأَحْقَافِ: الْآيَةُ 15) وَقَالَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14](سورة لُقْمَانَ: الْآيَةُ 14) فَلَمْ نَجِدْ بَقِيَ إِلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ مَا فَطِنْتُ لِهَذَا.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: " رُفِعَ إِلَى عُمَرَ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَسَأَلَ عَنْهَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فَكَانَ الْحَمْلُ هَاهُنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَتَرَكَهَا عُمَرُ " فَلَعَلَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه لَمْ يَحْضُرْ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ.

ص: 234

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ عَلَيْهِ الرَّجْمُ أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1561 -

1502 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ) أَيْ يَأْتِي الذَّكَرُ فِي الدُّبُرِ (فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: عَلَيْهِ الرَّجْمُ أُحْصِنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ) وَلَوْ كَانَ كَافِرًا.

ص: 234

[باب مَا جَاءَ فِيمَنْ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ فَوْقَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ فَقَالَ دُونَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَى

1562 -

1503 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمْ مُرْسَلًا لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُرْسَلًا مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ مُرْسَلِ كُرَيْبٍ نَحْوَهُ وَلَا أَعْلَمُهُ يَسْتَنِدُ بِلَفْظِهِ مِنْ وَجْهٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَى عَلَى عَهْدِ) أَيْ زَمَانِ (رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا) طَلَبَ (لَهُ) لِأَجْلِهِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوْطٍ) لِيُجْلَدَ بِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ (فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ فَوْقَ هَذَا) لِخِفَّةِ إِيلَامِهِ (فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ وَالرَّاءِ وَفَوْقِيَّةٍ أَيْ طَرَفُهُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَثَمَرَةُ السِّيَاطِ عُقَدُ أَطْرَافِهَا، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَيْ لَمْ يَمْتَهِنْ وَلَمْ يَلِنْ وَالثَّمَرَةُ الطَّرَفُ (فَقَالَ دُونَ) أَيْ أَقَلَّ مِنْ (هَذَا) وَفَوْقَ الْأَوَّلِ (فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ) فَذَهَبَتْ عُقْدَةُ طَرَفِهِ (وَلَانَ)

ص: 234

صَارَ لَيِّنًا مَعَ بَقَاءِ صَلَابَتِهِ بِعَدَمِ كَسْرِهِ (فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ) مِائَةَ جَلْدَةٍ (ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ) بِالْمَدِّ أَيْ حَانَ (لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ) الَّتِي حَرَّمَهَا (مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ) كُلُّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُسْتَقْبَحُ كَالزِّنَى وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَجَمْعُهَا قَاذُورَاتٌ، سُمِّيَتْ قَاذُورَةً ; لِأَنَّ حَقَّهَا أَنْ تُقْذَرَ فَوُصِفَتْ بِمَا يُوصَفُ بِهِ صَاحِبُهَا (شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ) الَّذِي أَسْبَلَهُ عَلَيْهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَلَا يُظْهِرْهُ لَنَا (فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي) بِالْيَاءِ لِلْإِشْبَاعِ كَقِرَاءَةِ مَنْ يَتَّقِي، وَفِي رِوَايَةٍ بِحَذْفِهَا أَيْ يُظْهِرُ (لَنَا) مَعَاشِرَ الْحُكَّامِ (صَفْحَتَهُ) هِيَ لُغَةً: جَانِبُهُ وَوَجْهُهُ وَنَاحِيَتُهُ، وَالْمُرَادُ مَنْ يُظْهِرُ لَنَا مَا سَتَرَهُ أَفْضَلُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيزٍ (نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ) أَيِ الْحَدَّ الَّذِي حَدَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالسُّنَّةُ مِنَ الْكِتَابِ، فَيَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ إِذَا فَعَلَ مَا يُوجِبُ حَدًّا السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ وَالتَّوْبَةُ، فَإِنْ خَالَفَ وَاعْتَرَفَ ثُمَّ الْحَاكِمُ أَقَامَهُ عَلَيْهِ، وَكَمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ جَلْدِ هَذَا الرَّجُلِ قَالَهُ أَيْضًا بَعْدَ رَجْمِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:" اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فَمَنْ أَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُ أَبُو عُمَرَ لَا أَعْلَمُهُ مَوْصُولًا بِوَجْهٍ، قَالَ الْحَافِظُ: مُرَادُهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلَمَّا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ، قَالَ: صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقَالَ: أَوْقَعَهُ فِيهِ عَدَمُ إِلْمَامِهِ بِصِنَاعَةِ الْحَدِيثِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا كُلُّ عَالَمٍ انْتَهَى.

لِأَنَّ اصْطِلَاحَهُمْ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعًا.

ص: 235

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ فَأَحْبَلَهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا وَلَمْ يَكُنْ أَحْصَنَ فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَجُلِدَ الْحَدَّ ثُمَّ نُفِيَ إِلَى فَدَكَ

قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَعْتَرِفُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ لَمْ أَفْعَلْ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنِّي عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا لِشَيْءٍ يَذْكُرُهُ إِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تُثْبِتُ عَلَى صَاحِبِهَا وَإِمَّا بِاعْتِرَافٍ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى اعْتِرَافِهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَالَ مَالِكٌ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا نَفْيَ عَلَى الْعَبِيدِ إِذَا زَنَوْا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1563 -

1504 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الثَّقَفِيَّةَ زَوْجَ ابْنِ عُمَرَ (أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أُتِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بِرَجُلٍ) لَمْ يُسَمَّ (قَدْ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ فَأَحْبَلَهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَى وَلَمْ يَكُنْ أَحْصَنَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَجُلِدَ الْحَدَّ) مِائَةَ جَلْدَةٍ (ثُمَّ نُفِيَ إِلَى فَدَكَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ وَكَافٍ، بَلْدَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ

ص: 235

وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَيْبَرَ دُونَ مَرْحَلَةٍ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَعْتَرِفُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَى ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ لَمْ أَفْعَلْ) أَيْ لَمْ أَزْنِ (وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنِّي عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا لِشَيْءٍ يَذْكُرُهُ) يُعَذَّرُ بِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَصَبْتُ امْرَأَتِي أَوْ أَمَتِي وَهِيَ حَائِضٌ فَظَنَنْتُ ذَلِكَ زِنًا (أَنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ) وَظَاهِرُهُ أَنَّ تَكْذِيبَ نَفْسِهِ بِدُونِ إِبْدَاءِ عُذْرٍ لَا يُقْبَلُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ نَصًّا وَأَشْهَبَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ.

وَالْمَذْهَبُ: قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ بِقَبُولِ رُجُوعِهِ مُطْلَقًا (وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ) كَالزِّنَى وَالشُّرْبِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ (لَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تُثْبِتُ عَلَى صَاحِبِهَا) مَا شَهِدَتْ بِهِ (وَإِمَّا بِاعْتِرَافٍ يُقِيمُ) يَسْتَمِرُّ (عَلَيْهِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ) فَإِنْ رَجَعَ قُبِلَ (وَإِنْ أَقَامَ عَلَى اعْتِرَافِهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ) وَلَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي قَبُولِ عُذْرِهِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْهُ وَهُوَ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ فِي مَذْهَبِهِ، وَكَذَا يُتْرَكُ حَدُّ الْمُعْتَرِفِ إِذَا هَرَبَ وَإِنْ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِّ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ مَالِكٍ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا فَرَّ وَأَدْرَكُوهُ، وَرَجَمُوهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:" هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ " خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: بَلْ يُتَّبَعُ وَيُرْجَمُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُلْزِمْهُمْ دِيَتَهُ مَعَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بَعْدَ هُرُوبِهِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ بُرَيْدَةَ: كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَتَحَدَّثُ أَنَّ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ لَوْ رَجَعَا لَمْ يَطْلُبْهُمَا.

(قَالَ مَالِكٌ: الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا نَفْيَ عَلَى الْعَبِيدِ إِذَا زَنَوْا) وَإِنَّمَا النَّفْيُ عَلَى الرَّجُلِ الْحُرِّ ; لِأَنَّ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ عُقُوبَةً لِمَالِكِهِ بِمَنْعِهِ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةَ نَفْيِهِ، وَتَصَرُّفُ الشَّرْعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعَاقَبَ غَيْرُ الْجَانِي ; وَلِأَنَّهُ يُخْشَى فَسَادُ الْأُنْثَى وَضَيَاعُهَا بِالنَّفْيِ، وَعَمَّمَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَهُ قَوْلٌ لَا يُنْفَى الرَّقِيقُ، وَعَنْ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا نَفْيَ عَلَى الزَّانِي مُطْلَقًا، وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَيَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ وَغَرَّبَ " ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ، فَلَوْ كَانَ مَنْسُوخًا مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْعَمَلُ بِالْمَنْسُوخِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا.

ص: 236

[باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي حَدِّ الزِّنَا]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ فَقَالَ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ لَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ وَالضَّفِيرُ الْحَبْلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بُابٌ جَامِعٌ: مَا جَاءَ فِي حَدِّ الزِّنَى

1564 -

1505 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِفَتْحِهَا (ابْنِ عُتْبَةَ) بِضَمِّهَا وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ (ابْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذَلِيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ الصَّحَابِيِّ الشَّهِيرِ الْمَدَنِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَلَمْ يَقِفِ الْحَافِظُ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ (عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ بِإِسْنَادِ الْإِحْصَانِ إِلَيْهَا ; لِأَنَّهَا تُحْصِنُ نَفْسَهَا بِعَفَافِهَا، وَرُوِيَ وَلَمْ تُحْصَنْ بِفَتْحِ الصَّادِ بِإِسْنَادِ الْإِحْصَانِ إِلَى غَيْرِهَا، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّتِي جَاءَتْ نَوَادِرُ، يُقَالُ أَحْصَنَ فَهُوَ مُحْصَنٌ، وَأَسْهَبَ فَهُوَ مُسْهَبٌ، وَأَلْفَجَ فَهُوَ مُلْفَجٌ قَلِيلٌ، وَيُرْوَى أَيْضًا وَلَمْ تُحَصِّنْ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ زَنَتْ، وَصَحِبَتِ الْوَاوُ مَعَ لَمْ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ، وَجَاءَتْ بِلَا وَاوٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174](سورة آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 174) وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ: تَفَرُّدَ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ وَلَمْ تُحْصِنْ، أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهَا بَلْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَتْ بِقَيْدٍ إِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ حَالٍ فِي السُّؤَالِ، وَلِذَا أَجَابَ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا) غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْإِحْصَانِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنْ لَا أَثَرَ لَهُ، وَأَنَّ مُوجِبَهُ فِي الْأُمَّةِ مُطْلَقُ الزِّنَى أَوِ الْمُرَادُ بِالْإِحْصَانِ الْمَنْفِيِّ الْحُرِّيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 25) أَوِ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ أَوْ لَمْ تُسْلِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 25) الْآيَةَ قِيلَ مَعْنَاهُ أَسْلَمْنَ وَقِيلَ تَزَوَّجْنَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تُرْجَمُ إِذَا أُحْصِنَتْ بِمَعْنَى تَزَوَّجَتْ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَصَرِيحِ قَوْلِهِ:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 25) فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَلْدِ مَنْ لَمْ تُحْصِنْ، وَالْآيَةُ عَلَى جَلْدِ الْمُحْصِنِ، إِذِ الرَّجْمُ لَا يَنْتَصِفُ فَتُجْلَدُ وَلَوْ مُتَزَوِّجَةً عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ.

(ثُمَّ إِنْ زَنَتْ) ثَانِيَةً (فَاجْلِدُوهَا) خِطَابٌ لِمُلَّاكِهَا فَفِيهِ أَنَّ السَّيِّدَ يُقِيمُ عَلَى رَقِيقِهِ الْحَدَّ وَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِمَا،

ص: 237

وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثُ وَالْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي آخَرِينَ، لَكِنِ اسْتَثْنَى مَالِكٌ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ ; لِأَنَّ فِيهِ مُثْلَةً فَلَا يُؤْمَنُ السَّيِّدُ أَنْ يُمَثِّلَ بِرَقِيقِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ الْقَطْعَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ.

(ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا) وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةُ الْحَدِّ لَكِنْ قَالَ أَبُو عُمَرَ: انْفَرَدَ بِهَا رَاوِيهَا وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَهُ غَيْرَهُ.

(ثُمَّ بِيعُوهَا) أَتَى بِثُمَّ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ مَطْلُوبٌ لِمَنْ أَرَادَ التَّمَسُّكَ بِأَمَتِهِ الزَّانِيَةِ، أَمَّا مَنْ أَرَادَ بَيْعَهَا مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ فَلَهُ ذَلِكَ (وَلَوْ بِضَفِيرٍ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَفَاءِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، عَبَّرَ بِهِ مُبَالَغَةً فِي التَّنْفِيرِ عَنْهَا، وَالْحَضِّ عَلَى مُبَاعَدَةِ الزَّانِيَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُنْكَرِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْعَوْنِ عَلَى الْخُبْثِ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ.

وَفَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَوْلَادِ الزِّنَى قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَلَوْ شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنَى إِنْ أَيْ وَإِنْ كَانَ بِضَفِيرٍ فَيَتَعَلَّقُ بِخَبَرِ كَانَ الْمُقَدَّرَةِ، وَحَذْفُ كَانَ بَعْدَ لَوْ هَذِهِ كَثِيرٌ، وَيَجُوزُ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَلَوْ تَبِيعُونَهَا بِضَفِيرٍ وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ فِي وُجُوبِ بَيْعِهَا إِذَا زَنَتْ رَابِعَةً لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْحَدِّ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَتُعُقِّبُ بِأَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عِنْدَ غَيْرِ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ لَا أَدْرِي أَبَعْدَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ هَلْ أَرَادَ أَنَّ بَيْعَهَا يَكُونُ بَعْدَ الزَّنْيَةِ (الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ) وَجَزَمَ أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِأَنَّهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ وَلَفْظُهُ: " ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ "(قَالَ مَالِكٌ: وَالضَّفِيرُ الْحَبْلُ) قِيلَ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، وَقِيلَ مِنَ الشَّعْرِ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي الرِّوَايَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِهِ وَهَذَا عَلَى جِهَةِ التَّزْهِيدِ فِيهَا وَلَيْسَ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَصَحَ بِإِبْعَادِهَا، وَالنَّصِيحَةُ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَدْخُلُ فِيهَا الْمُشْتَرِي فَيُنْصَحُ فِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نَصِيحَةُ الْجَانِبَيْنِ وَكَيْفَ يَقَعُ الْبَيْعُ إِذَا انْتَصَحَا مَعًا؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُبَاعَدَةَ إِنَّمَا تَوَجَّهَتْ عَلَى الْبَائِعِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي لُدِغَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَمْ يُجَرِّبْ مِنْهَا سُوءًا، فَلَيْسَتْ وَظِيفَتُهُ فِي الْمُبَاعَدَةِ كَالْبَائِعِ انْتَهَى.

وَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِأَنْ يُزَوِّجَهَا أَوْ يَعِفَّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَصُونَهَا بِهَيْبَتِهِ أَوْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَفِيهِ جَوَازُ بِيعِ الْغَبْنِ، وَإِنَّ الْمَالِكَ الصَّحِيحَ الْمِلْكِ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ مَالِهِ الْكَثِيرِ بِالتَّافِهِ الْيَسِيرِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إِذْ عَرَفَ قَدْرَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ فَخِلَافٌ، وَحُجَّةُ مَنْ أَطْلَقَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لَبَادٍ " وَفِيهِ أَنَّ الزِّنَى عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ الرَّقِيقُ لِلْأَمْرِ

ص: 238

بِالْحَطِّ مِنْ قِيمَتِهِ إِذَا زَنَى، وَتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لِجَوَازِ أَنَّ الْقَصْدَ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ وَلَوِ انْحَطَّتِ الْقِيمَةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَا إِخْبَارًا عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِالْأَمْرِ مِنْ حَطِّ الْقِيمَةِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَيْعِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَفِي الْمُحَارِبِينَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْحُدُودِ عَنْ يَحْيَى وَالْقَعْنَبِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَهُمْ.

ص: 239

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدًا كَانَ يَقُومُ عَلَى رَقِيقِ الْخُمُسِ وَأَنَّهُ اسْتَكْرَهَ جَارِيَةً مِنْ ذَلِكَ الرَّقِيقِ فَوَقَعَ بِهَا فَجَلَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَنَفَاهُ وَلَمْ يَجْلِدْ الْوَلِيدَةَ لِأَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1565 -

1506 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدًا كَانَ يَقُومُ عَلَى رَقِيقِ الْخُمُسِ) بِضَمَّتَيْنِ، وَإِسْكَانُ الْمِيمِ لُغَةٌ (وَأَنَّهُ اسْتَكْرَهَ) بِسِينِ التَّأْكِيدِ أَيْ أَكْرَهَ (جَارِيَةً مِنْ ذَلِكَ الرَّقِيقِ فَوَقَعَ بِهَا فَجَلَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَنَفَاهُ) لَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَالِكٌ (وَلَمْ يَجْلِدِ الْوَلِيدَةَ) الْأَمَةَ (لِأَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا) عَلَى الزِّنَى وَشَرْطُهُ الطَّوْعُ.

ص: 239

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ قَالَ أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَلَدْنَا وَلَائِدَ مِنْ وَلَائِدِ الْإِمَارَةِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ فِي الزِّنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1566 -

1507 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ) بِشَدِّ التَّحْتِيَّةِ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ (ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ) وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ (الْمَخْزُومِيُّ) الْقُرَشِيُّ صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ (قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فِتْيَةٍ) جَمْعُ قِلَّةٍ لِفَتًى أَيْ شَبَابٍ أَحْدَاثٍ (مِنْ قُرَيْشٍ فَجَلَدْنَا وَلَائِدَ) إِمَاءً (مِنْ وَلَائِدِ الْإِمَارَةِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ) كُلُّ وَاحِدَةٍ (فِي الزِّنَى) أَيْ بِسَبَبِهِ.

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.

وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَلَدَ وَلَائِدَ مِنَ الْخُمْسِ أَبْكَارًا فِي الزِّنَى، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا كُلُّهُ صَحَّ، وَأَثْبَتُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ كَمْ حَدُّهَا؟ فَقَالَ: أَلْقَتْ فَرْوَتَهَا وَرَاءَ الدَّارِ، وَأَرَادَ بِالْفَرْوَةِ الْقِنَاعَ أَيْ لَيْسَ عَلَيْهَا قِنَاعٌ وَلَا حِجَابٌ لِخُرُوجِهَا إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُرْسِلُهَا أَهْلُهَا إِلَيْهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فَلِذَا لَا

ص: 239

تَكَادُ تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْفُجُورِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، إِذْ لَا حِجَابَ لَهَا وَلَا قِنَاعَ وَإِنَّمَا عَلَيْهَا الْأَدَبُ وَتُجْلَدُ دُونَ الْحَدِّ، وَهَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ: لَا حَدَّ عَلَى الْأَمَةِ حَتَّى تَنْكِحَ، وَعَلَيْهِ تَأَوَّلُوا حَدِيثَ زَيْدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوِيَ الْقَوْلَانِ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ قُرِئَ:(فَإِذَا أَحْصَنَّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ أَسْلَمْنَ أَوْ عَفَفْنَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْبَعْضِ تَزَوَّجْنَ، وَبِضَمِّهَا أَيْ أُحْصِنَّ بِالْأَزْوَاجِ أَيْ أَنَّهُمْ أَحْصَنُوهُنَّ عِنْدَ مَنْ شَرَطَهُ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مَعْنَاهُ أُحْصِنَّ بِالْإِسْلَامِ، فَكَمَا أَنَّ الزَّوْجَ يُحْصِنُ الْأَمَةَ، فَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ يُحْصِنُهَا، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَدَاخِلَانِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

ص: 240

[باب مَا جَاءَ فِي الْمُغْتَصَبَةِ]

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمَرْأَةِ تُوجَدُ حَامِلًا وَلَا زَوْجَ لَهَا فَتَقُولُ قَدْ اسْتُكْرِهْتُ أَوْ تَقُولُ تَزَوَّجْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا وَإِنَّهَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَى مَا ادَّعَتْ مِنْ النِّكَاحِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا اسْتُكْرِهَتْ أَوْ جَاءَتْ تَدْمَى إِنْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ اسْتَغَاثَتْ حَتَّى أُتِيَتْ وَهِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي تَبْلُغُ فِيهِ فَضِيحَةَ نَفْسِهَا قَالَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا مَا ادَّعَتْ مِنْ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالْمُغْتَصَبَةُ لَا تَنْكِحُ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ قَالَ فَإِنْ ارْتَابَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا فَلَا تَنْكِحُ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا مِنْ تِلْكَ الرِّيبَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُغْتَصَبَةِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمَرْأَةِ تُوجَدُ حَامِلًا وَلَا زَوْجَ لَهَا، فَتَقُولُ: قَدِ اسْتُكْرِهْتُ) أَيْ أُكْرِهْتُ عَلَى الزِّنَى (أَوْ تَقُولُ: تَزَوَّجْتُ) وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ (أَنَّ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ دَعْوَى الْإِكْرَاهِ وَالتَّزَوُّجِ (لَا يُقْبَلُ مِنْهَا وَإِنَّهَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَى مَا ادَّعَتْ مِنَ النِّكَاحِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا اسْتُكْرِهَتْ) بَيِّنَةٌ (أَوْ) كَمَا إِذَا (جَاءَتْ تَدْمَى) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ يَخْرُجُ مِنْهَا الدَّمُ (إِنْ كَانَتْ بِكْرًا أَوِ اسْتَغَاثَتْ حَتَّى أُتِيَتْ) أَيْ أَتَاهَا مَنْ يُغِيثُهَا (وَهِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي تَبْلُغُ فِيهِ فَضِيحَةَ نَفْسِهَا) وَفِي نُسْخَةٍ لَا تَبْلُغُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ لَا تَبْلُغُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ عِظَمِ مَا دَهَاهَا.

(فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا مَا ادَّعَتْ مِنْ ذَلِكَ) بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَا قَرِينَةٍ.

(وَالْمُغْتَصَبَةُ لَا تَنْكِحُ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ) إِنْ كَانَتْ حُرَّةً ; لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا كَعِدَّتِهَا.

(فَإِنِ ارْتَابَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا) بِارْتِفَاعِهَا (فَلَا تَنْكِحُ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا مِنْ تِلْكَ الرِّيبَةِ) بِزَوَالِهَا.

ص: 240

[باب الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ وَالنَّفْيِ وَالتَّعْرِيضِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ قَالَ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ ثَمَانِينَ قَالَ أَبُو الزِّنَادِ فَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَدْرَكْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَالْخُلَفَاءَ هَلُمَّ جَرًّا فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا جَلَدَ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ وَالنَّفْيِ وَالتَّعْرِيضِ

1567 -

1508 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّايِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (أَنَّهُ قَالَ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ قَذْفٍ (ثَمَانِينَ) حَمْلًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4](سورة النُّورِ: الْآيَةُ 4) عَلَى عُمُومِهِ إِذْ لَمْ يَخُصَّ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ (قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) الْعَدَوِيَّ مَوْلَاهُمُ الْعَنْزِيَّ وُلِدَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ (عَنْ ذَلِكَ) الْفِعْلِ لِإِشْكَالِهِ إِذِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحُرِّ (فَقَالَ: أَدْرَكْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَالْخُلَفَاءَ هَلُمَّ جَرًّا) أَيْ بَعْدَهُمَا (فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا) مِنْهُمْ (جَلَدَ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ) جَلْدَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ خَصَّصُوا الْآيَةَ بِالْأَحْرَارِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 25) وَالْعَبْدُ فِي مَعْنَى الْأَمَةِ بِجَامِعِ الرِّقِّ.

ص: 241

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ الْأَيْلِيِّ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مِصْبَاحٌ اسْتَعَانَ ابْنًا لَهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَبْطَأَهُ فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لَهُ يَا زَانٍ قَالَ زُرَيْقٌ فَاسْتَعْدَانِي عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَجْلِدَهُ قَالَ ابْنُهُ وَاللَّهِ لَئِنْ جَلَدْتَهُ لَأَبُوءَنَّ عَلَى نَفْسِي بِالزِّنَا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَشْكَلَ عَلَيَّ أَمْرُهُ فَكَتَبْتُ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ الْوَالِي يَوْمَئِذٍ أَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ أَنْ أَجِزْ عَفْوَهُ قَالَ زُرَيْقٌ وَكَتَبْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا أَرَأَيْتَ رَجُلًا افْتُرِيَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَبَوَيْهِ وَقَدْ هَلَكَا أَوْ أَحَدُهُمَا قَالَ فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ إِنْ عَفَا فَأَجِزْ عَفْوَهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ افْتُرِيَ عَلَى أَبَوَيْهِ وَقَدْ هَلَكَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَخُذْ لَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ سِتْرًا

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْمُفْتَرَى عَلَيْهِ يَخَافُ إِنْ كُشِفَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ فَعَفَا جَازَ عَفْوُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1568 -

1509 - (مَالِكٌ عَنْ رُزَيْقٍ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَقَافٍ وَيُقَالُ فِيهِ زُرَيْقٌ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ (ابْنِ حَكِيمٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ مُصَغَّرٌ وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا مُكَبِّرًا (الْأَيْلِيِّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ ثِقَةٌ (أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مِصْبَاحٌ اسْتَعَانَ ابْنًا لَهُ) فِي شَيْءٍ (فَكَأَنَّهُ اسْتَبْطَأَهُ فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لَهُ يَا زَانٍ فَقَالَ زُرَيْقٌ فَاسْتَعْدَانِي) طَلَبَ تَقْوِيَتِي وَنَصْرَهُ (عَلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ أَرَدْتُ أَنْ أَجْلِدَهُ) الْحَدَّ (قَالَ ابْنُهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ جَلَدْتَهُ لِأَبُوأَنَّ) لَأَرْجِعَنَّ بِمَعْنَى لَأُقِرَّنَّ (عَلَى نَفْسِي

ص: 241

بِالزِّنَى فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَشْكَلَ عَلَيَّ أَمْرُهُ، فَكَتَبْتُ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ الْوَالِي يَوْمَئِذٍ) بِالْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَالِي الْخَلِيفَةَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ (أَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ) الَّذِي قَالَهُ مِصْبَاحٌ وَابْنُهُ (فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ أَنْ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (أَجِزْ) بِالْجِيمِ وَالزَّايِ أَمْضِ (عَفْوَهُ) عَنْ أَبِيهِ (قَالَ زُرَيْقٌ وَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا أَرَأَيْتَ رَجُلًا) أَيْ أَخْبِرْنِي عَنِ الْحُكْمِ فِي رَجُلٍ (افْتُرِيَ) بِضَمِّ الْأَلْفِ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ (عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَبَوَيْهِ وَقَدْ هَلَكَا) مَاتَا مَعًا (أَوْ أَحَدُهُمَا قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ إِنْ عَفَا فَأَجِزْ عَفْوَهُ فِي) حَقِّ (نَفْسِهِ وَإِنِ افْتَرَى عَلَى أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَقَدْ هَلَكَا فَخُذْ لَهُ) لِلْهَالِكِ الْمُتَعَدِّدِ أَوِ الْمُتَّحِدِ (بِكِتَابِ اللَّهِ) أَيْ قَوْلِهِ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4](سورة النُّورِ: الْآيَةُ 24)(إِلَّا أَنْ يُرِيدَ) الِابْنُ (سِتْرًا) بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا.

(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ) أَيْ إِرَادَةُ السَّتْرِ (أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْمُفْتَرَى عَلَيْهِ يَخَافُ إِنْ كَشَفَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ) بِمَا رُمِيَ بِهِ (فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ) بِضَمِّ التَّاءِ (فَعَفَا جَازَ عَفْوُهُ) وَلَوْ بَلَغَ الْحَاكِمَ.

ص: 242

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَذَفَ قَوْمًا جَمَاعَةً أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ قَالَ مَالِكٌ وَإِنْ تَفَرَّقُوا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1569 -

1510 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَذَفَ قَوْمَا جَمَاعَةً) أَيْ مُجْتَمِعِينَ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ: يَا زُنَاةُ أَوْ أَنْتُمْ زُنَاةٌ مَثَلًا (أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ) لِلْجَمِيعِ، قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ تَفَرَّقُوا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ.

ص: 242

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ وَاللَّهِ مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ قَائِلٌ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَقَالَ آخَرُونَ قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ

قَالَ مَالِكٌ لَا حَدَّ عِنْدَنَا إِلَّا فِي نَفْيٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ تَعْرِيضٍ يُرَى أَنَّ قَائِلَهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيًا أَوْ قَذْفًا فَعَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْحَدُّ تَامًّا قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِذَا نَفَى رَجُلٌ رَجُلًا مِنْ أَبِيهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ الَّذِي نُفِيَ مَمْلُوكَةً فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1569 -

1511

ص: 242

- (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ) بِجِيمٍ (مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثَةَ) بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ (ابْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْجِيمِ الثَّقِيلَةِ بَطْنٍ مِنَ الْخَزْرَجِ قَالَ فِيهَا صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ "(عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ (أَنَّ رَجُلَيْنِ) لَمْ يُسَمَّيَا (اسْتَبَّا فِي زَمَنِ) خِلَافَةِ (عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاللَّهِ مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ) الْعُلَمَاءَ (فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ) فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

(وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا) فَعُدُولُهُ إِلَى هَذَا فِي مَقَامِ الِاسْتِبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَّضَ بِالْقَذْفِ الْمُخَاطَبَةَ فَلِذَا (نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ فَجَلَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْحَدَّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) لِأَنَّهُ وَافَقَ رَأْيُهُ اجْتِهَادَهُمْ لَا تَقْلِيدًا لَهُمْ.

(قَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ عِنْدِنَا إِلَّا فِي نَفْيٍ) عَنْ أَبٍ لِثَابِتِ نَسَبِهِ (أَوْ قَذْفٍ) رَمْيٍ بِالزِّنَى وَنَحْوَهُ صَرِيحٌ (أَوْ تَعْرِيضٍ يُرَى أَنَّ قَائِلَهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيًا أَوْ قَذْفًا، فَعَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْحَدُّ تَامًّا) كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ دُونَ إِنْكَارٍ (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِذَا نَفَى) رَجُلٌ (رَجُلًا مِنْ أَبِيهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ الَّذِي نُفِيَ مَمْلُوكَةً فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ) لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأَبِ وَهُوَ ثَابِتٌ نَسَبُهُ لَهُ وَإِنَّ أُمَّهُ أَمَةٌ.

ص: 243

[باب مَا لَا حَدَّ فِيهِ]

قَالَ مَالِكٌ إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الْأَمَةِ يَقَعُ بِهَا الرَّجُلُ وَلَهُ فِيهَا شِرْكٌ أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَأَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَتُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْجَارِيَةُ حِينَ حَمَلَتْ فَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ مِنْ الثَّمَنِ وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ لَهُ وَعَلَى هَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُحِلُّ لِلرَّجُلِ جَارِيَتَهُ إِنَّهُ إِنْ أَصَابَهَا الَّذِي أُحِلَّتْ لَهُ قُوِّمَتْ عَلَيْهِ يَوْمَ أَصَابَهَا حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ وَدُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ فَإِنْ حَمَلَتْ أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقَعُ عَلَى جَارِيَةِ ابْنِهِ أَوْ ابْنَتِهِ أَنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْجَارِيَةُ حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ مَا لَا حَدَّ فِيهِ

1571 -

1512 - (مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الْأَمَةِ يَقَعُ بِهَا الرَّجُلُ) أَيْ يَطَؤُهَا (وَلَهُ فِيهَا شِرْكٌ أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ) لِمَا لَهُ فِيهَا مِنَ الْمِلْكِ.

(وَأَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَتُقَامُ) وَفِي نُسْخَةٍ وَتَتَقَوَّمُ (عَلَيْهِ الْجَارِيَةُ حِينَ حَمَلَتْ فَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ مِنَ الثَّمَنِ وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ لَهُ) كُلُّهَا (وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُحِلُّ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ (لِلرَّجُلِ جَارِيَتَهُ إِنَّهُ) بِالْكَسْرِ (إِنْ أَصَابَهَا) جَامَعَهَا (الَّذِي أُحِلَّتْ لَهُ قُوِّمَتْ عَلَيْهِ يَوْمَ أَصَابَهَا حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ) حَتَّى لَا يَتِمَّ مَا أَرَادَهُ مِنَ التَّحْلِيلِ (وَدُرِئَ) دُفِعَ (عَنْهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ) لِلشُّبْهَةِ (فَإِنْ حَمَلَتْ أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ) لِلْقَاعِدَةِ إِنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ يَدْرَأُ الْحَدَّ وَيُلْحِقُ الْوَلَدَ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقَعُ عَلَى جَارِيَةِ ابْنِهِ أَوِ ابْنَتِهِ أَنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ) لِمَا لَهُ فِي مَالِهِ مِنَ الشُّبْهَةِ لِخَبَرِ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ.

(وَتُقَامُ) أَيْ تُقَوَّمُ عَلَيْهِ (الْجَارِيَةُ حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ) وَيُؤَدَّبُ.

ص: 244

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرَجُلٍ خَرَجَ بِجَارِيَةٍ لِامْرَأَتِهِ مَعَهُ فِي سَفَرٍ فَأَصَابَهَا فَغَارَتْ امْرَأَتُهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَهَبَتْهَا لِي فَقَالَ عُمَرُ لَتَأْتِينِي بِالْبَيِّنَةِ أَوْ لَأَرْمِيَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ قَالَ فَاعْتَرَفَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهَا وَهَبَتْهَا لَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرَجُلٍ خَرَجَ

ص: 244

بِجَارِيَةٍ لِامْرَأَتِهِ مَعَهُ فِي سَفَرٍ فَأَصَابَهَا) جَامَعَهَا (فَغَارَتِ امْرَأَتُهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ) أَيِ الرَّجُلَ (عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ) الَّذِي قَالَتْهُ امْرَأَتُهُ (فَقَالَ: وَهَبَتْهَا لِي، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَتَأْتِيَنِي بِالْبَيِّنَةِ) أَنَّهَا وَهَبَتْهَا لَكَ (أَوْ لَأَرْمِيَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ) إِذْ لَا شُبْهَةَ لَكَ فِي مَالِ امْرَأَتِكَ.

(قَالَ) رَبِيعَةُ (فَاعْتَرَفَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهَا وَهَبَتْهَا لَهُ) فَلَمْ يَرْجُمْهُ.

ص: 245

[باب مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ

1572 -

1513 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ) يَدَ سَارِقٍ فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ أَيْ أَمَرَ بِقَطْعِهِ (فِي) سَبَبِيَّةٌ (مِجَنٍّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَشَدِّ النُّونِ مِفَعْلٍ مِنْ الِاجْتِنَانِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ وَالِاخْتِفَاءُ مِمَّا يُحَاذِرُهُ الْمُسْتَتِرُ وَكُسِرَتْ مِيمُهُ لِأَنَّهُ آلَةٌ.

قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:

وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتَّقِي

ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ

وَحُذِفَ الْهَاءُ مِنْ ثَلَاثَةٍ مَعَ أَنَّهُ عَدَدُ شُخُوصٍ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ أَرَادَ شُخُوصَ الْمَرْأَةِ فَأَنَّثَ الْعَدَدَ لِذَلِكَ يُرِيدُ أَنَّهُ اسْتَتَرَ نِسْوَةٌ عَنْ أَعْيُنِ الرُّقَبَاءِ، وَاسْتَظْهَرَ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّصِ مِنْهُمْ بِهِنَّ، وَالْكَاعِبُ الَّتِي نَهَدَ ثَدْيُهَا، وَالْمُعْصِرُ الدَّاخِلَةُ فِي عَصْرِ شَبَابِهَا (ثَمَنُهُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) فِضَّةً هَكَذَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُ عَنْ نَافِعٍ (ثَمَنُهُ) ، وَرَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْهُ بِلَفْظِ (قِيمَتُهُ) وَهُوَ الْمُرَادُ بِالثَّمَنِ هُنَا، وَأَصْلُ الثَّمَنِ مَا يُقَابَلُ بِهِ الشَّيْءُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْقِيمَةِ ثَمَنًا مَجَازًا أَوْ لِتَسَاوِيهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ فِي ظَنِّ الرَّاوِي أَوْ بِاعْتِبَارِ الْغَلَبَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي ذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعُهُ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، كُلُّهُمْ بِلَفْظِ (ثَمَنُهُ) ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ

ص: 245

بِلَفْظِ (قِيمَتُهُ) كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ بِهِ.

ص: 246

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوْ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1573 -

1514 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ) ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ (الْمَكِّيِّ) النَّوْفَلِيِّ ثِقَةٌ عَالِمٌ بِالْمَنَاسِكِ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ تَخْتَلِفْ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ فِي إِرْسَالِهِ، وَيَتَّصِلُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ (مُعَلَّقٍ) بِالْخَلِّ وَالشَّجَرِ قَبْلَ أَنْ يُجَذَّ وَيُحْرَزَ.

(وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَيْ لَيْسَ فِيمَا يُحْرَسُ بِالْجَبَلِ إِذَا سُرِقَ قَطْعٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ، وَحَرِيسَةٌ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ أَيْ أَنَّ لَهَا مَنْ يَحْرُسُهَا وَيَحْفَظُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْحَرِيسَةَ السَّرِقَةَ نَفْسَهَا أَيْ لَيْسَ فِيمَا يُسْرَقُ مِنَ الْمَاشِيَةِ بِالْجَبَلِ قَطْعٌ.

(فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَوْضِعُ مَبِيتِ الْغَنَمِ (أَوِ الْجَرِينِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ لِمَوْضِعٍ يُجَفَّفُ فِيهِ الثِّمَارُ، وَالْجَمْعُ جُرُنٌ كَبَرِيدٍ وَبُرُدٍ فَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ غَيْرُ مُرَتَّبٍ.

(فَالْقَطْعُ فِيمَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ) ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم الْحَالَةَ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ، وَهِيَ حَالَةُ كَوْنِ الْمَالِ فِي حِرْزِهِ فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ إِجْمَاعًا إِلَّا مَا شَذَّ بِهِ الْحَسَنُ وَالظَّاهِرِيَّةُ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُحْرَزًا بِحِرْزٍ مِثْلِهِ مَمْنُوعًا مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِمَانِعٍ، خِلَافًا لِقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ لَا قَطْعَ فِي كُلِّ فَاكِهَةٍ رَطْبَةٍ وَلَوْ بِحِرْزِهَا، وَقَاسُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَطْعِمَةَ الرَّطْبَةَ الَّتِي لَا تُدَّخَرُ، قَالَ: وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَإِذَا آوَاهُ. . . . إِلَخْ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُ فِي غَيْرِ حِرْزٍ لَهُ.

ص: 246

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ أُتْرُجَّةً فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنْ تُقَوَّمَ فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1574 -

1515 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ اسْمٌ سِوَاهُ (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) ابْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ (أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي زَمَانِ) أَيْ خِلَافَةِ (عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أُتْرُنْجَةً) وَاحِدُ تُرُنْجٍ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ، وَاللُّغَةُ الصَّحِيحَةُ أُتْرُجٌّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَشَدِّ الْجِيمِ، الْوَاحِدَةُ أُتْرُجَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا

ص: 246

الْفُصَحَاءُ وَارْتَضَاهُ النَّحْوِيُّونَ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ (فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تَقُومَ) لِيَنْظُرَ هَلْ تَبْلُغُ النِّصَابَ (فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ) أَيْ أَمَرَ بِقَطْعِهَا.

قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَكَانَتْ تِلْكَ الْأُتْرُجَّةُ تُؤْكَلُ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ لَمَا قَوَّمَهَا عُثْمَانُ أَيْ لِأَنَّ الذَّهَبَ لَا يُقَوَّمُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ وَزْنُهُ ; لِأَنَّهُ أَصْلُ الْأَثْمَانِ وَقَيِّمُ الْمُتْلَفَاتِ.

ص: 247

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ مَا طَالَ عَلَيَّ وَمَا نَسِيتُ الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1575 -

1516 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ عَمْرَةَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْمَدَنِيَّةِ الْأَنْصَارِيَّةِ (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: مَا طَالَ عَلَيَّ) أَيِ الزَّمَانُ (وَمَا) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَا (نَسِيتُ) حُكْمَ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ وَهُوَ (الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) مِنَ الذَّهَبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْوَقْفُ، لَكِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالرَّفْعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ".

ص: 247

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ وَمَعَهَا مَوْلَاتَانِ لَهَا وَمَعَهَا غُلَامٌ لِبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَبَعَثَتْ مَعَ الْمَوْلَاتَيْنِ بِبُرْدٍ مُرَجَّلٍ قَدْ خِيطَ عَلَيْهِ خِرْقَةٌ خَضْرَاءُ قَالَتْ فَأَخَذَ الْغُلَامُ الْبُرْدَ فَفَتَقَ عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَهُ وَجَعَلَ مَكَانَهُ لِبْدًا أَوْ فَرْوَةً وَخَاطَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَدِمَتْ الْمَوْلَاتَانِ الْمَدِينَةَ دَفَعَتَا ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ فَلَمَّا فَتَقُوا عَنْهُ وَجَدُوا فِيهِ اللِّبْدَ وَلَمْ يَجِدُوا الْبُرْدَ فَكَلَّمُوا الْمَرْأَتَيْنِ فَكَلَّمَتَا عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ كَتَبَتَا إِلَيْهَا وَاتَّهَمَتَا الْعَبْدَ فَسُئِلَ الْعَبْدُ عَنْ ذَلِكَ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا

وَقَالَ مَالِكٌ أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ أَوْ اتَّضَعَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1576 -

1517 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ نَسَبُهُ لِجَدِّهِ (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ) فِي نُسُكٍ (وَمَعَهَا مَوْلَاتَانِ لَهَا وَمَعَهَا غُلَامٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ (لِبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) رضي الله عنهما (فَبَعَثَتْ مَعَ الْمَوْلَاتَيْنِ بِبُرْدٍ مُرَجَّلٍ) بِالْجِيمِ وَالْحَاءِ أَيْ عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ الرِّجَالِ أَوِ الرِّحَالِ كَمَا أَفَادَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ، وَمَنْعُ تَصْوِيرِ الْحَيَوَانِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا تَمَّ تَصْوِيرُهُ وَكَانَ لَهُ ظِلٌّ دَائِمٌ، وَهَذَا مُجَرَّدُ وَشْيٍ فِي الْبُرْدِ لَا ظِلَّ لَهُ وَلَيْسَ بِتَامٍّ (قَدْ

ص: 247

خِيطَ عَلَيْهِ خِرْقَةٌ خَضْرَاءُ قَالَتْ: فَأَخَذَ الْغُلَامُ الْبُرْدَ فَفَتَقَ عَنْهُ) نَقَضَ خِيَاطَتَهُ (فَاسْتَخْرَجَهُ وَجَعَلَ مَكَانَهُ لِبْدًا) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ مَا يَتَلَبَّدُ مِنْ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ (أَوْ فَرْوَةً) بِالْهَاءِ وَيُقَالُ أَيْضًا بِحَذْفِهَا مَا يُلْبَسُ مِنْ جِلْدِ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا شَكَّ الرَّاوِي (وَخَاطَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَدِمَتَا) بِالْأَلِفِ عَلَى لُغَةٍ (الْمَوْلَاتَانِ الْمَدِينَةَ دَفَعَتَا ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ فَلَمَّا فَتَقُوا عَنْهُ وَجَدُوا فِيهِ اللِّبْدَ وَلَمْ يَجِدُوا الْبُرْدَ فَكَلَّمُوا الْمَرْأَتَيْنِ) أَيِ الْمَوْلَاتَيْنِ (فَكَلَّمَتَا عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ كَتَبَتَا إِلَيْهَا) شَكَّ الرَّاوِي (وَاتَّهَمَتَا) أَيِ الْمَرْأَتَانِ (الْعَبْدَ فَسُئِلَ الْعَبْدُ عَنْ ذَلِكَ فَاعْتَرَفَ) بِأَنَّهُ سَرَقَهُ (فَأَمَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) مِنَ الذَّهَبِ (قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ) لِلسَّارِقِ (إِلَيَّ) أَيْ عِنْدِي (ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) مِنَ الْفِضَّةِ (وَإِنِ ارْتَفَعَ) زَادَ (الصَّرْفُ أَوِ اتَّضَعَ) نَقَصَ (وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي) سَرِقَةِ (مِجَنٍّ) حُجْفَةٍ أَيْ تُرْسٍ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ (ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) أَيْ قِيمَتُهُ.

(وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ) الْفَاكِهَةِ الْمَأْكُولَةِ (قَوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ) فِضَّةً وَكَانَ الْأُتْرُجُّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ غَالِيًا (وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) يَقْتَضِي أَنَّهُ سَمِعَ غَيْرَهُ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ فَقِيلَ فِيمَا كَثُرَ وَقَلَّ تَافِهًا أَوْ غَيْرَهُ، وَقِيلَ إِلَّا فِي التَّافِهِ، وَقِيلَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَقِيلَ دِرْهَمَانِ، وَقِيلَ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَبْلُغْ ثَلَاثَةً، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَيُقَوَّمُ مَا عَدَاهَا بِهَا، وَقِيلَ إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ ذَهَبًا فَرُبُعُ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ كَانَ نِصْفَ دِينَارٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَالْقَطْعُ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ أَحَدَهُمَا، وَقِيلَ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ مَا بَلَغَ قِيمَتَهُ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ عَرَضٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ مَا بَلَغَ قِيمَتَهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ عَرَضٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

ص: 248

[باب مَا جَاءَ فِي قَطْعِ الْآبِقِ وَالسَّارِقِ]

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ فَأَرْسَلَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَأَبَى سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَقَالَ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْآبِقِ السَّارِقِ إِذَا سَرَقَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا ثُمَّ أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي قَطْعِ الْآبِقِ وَالسَّارِقِ

1577 -

1518 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدًا) لَمْ يُسَمَّ (لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ فَأَرْسَلَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي) ابْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي بْنِ أُمَيَّةَ الْقُرَشِيِّ الْأُمَوِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ وَكَانَ سِنُّهُ يَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ سِنِينَ، وَقُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، وَكَانَ سَعِيدٌ فَصِيحًا مَشْهُورًا بِالْكَرَمِ فَلَمَّا مَاتَ فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ كَانَ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ فَوَفَّاهَا عَنْهُ وَلَدُهُ عَمْرُو الْأَشْدَقُ (وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ) مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ عَاتَبَهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ عَنْهُ فِي حُرُوبِهِ فَاعْتَذَرَ ثُمَّ وَلَّاهُ الْمَدِينَةَ فَكَانَ يُعَاقِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَرْوَانَ فِي وِلَايَتِهَا (لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَأَبَى سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَقَالَ: لَا تُقْطَعُ يَدُ الْآبِقِ إِذَا سَرَقَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) مُنْكِرًا عَلَيْهِ (فِي أَيِّ) آيَةٍ مِنْ (كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا) الَّذِي تَقُولَهُ (ثُمَّ أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ) لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ.

ص: 249

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا قَدْ سَرَقَ قَالَ فَأَشْكَلَ عَلَيَّ أَمْرُهُ قَالَ فَكَتَبْتُ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْوَالِي يَوْمَئِذٍ قَالَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّنِي كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إِذَا سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَقِيضَ كِتَابِي يَقُولُ كَتَبْتَ إِلَيَّ أَنَّكَ كُنْتَ تَسْمَعُ أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إِذَا سَرَقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ وَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] فَإِنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا فَاقْطَعْ يَدَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1578 -

1519 - (مَالِكٌ عَنْ رُزَيْقٍ) بِالتَّصْغِيرِ وَتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ وَعَكْسِهِ (ابْنِ حَكِيمٍ) مُصَغَّرٌ وَقِيلَ مُكَبَّرٌ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا قَدْ سَرَقَ قَالَ: فَأَشْكَلَ عَلَيَّ أَمْرُهُ، قَالَ: فَكَتَبْتُ فِيهِ إِلَى عُمَرَبْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْوَالِي يَوْمَئِذٍ) عَلَى النَّاسِ (وَ) كَتَبْتُ إِلَيْهِ (أُخْبِرُهُ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إِذَا سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ) وَكَأَنَّ

ص: 249

شُبْهَةَ قَائِلِ ذَلِكَ أَنَّ الْآبِقَ يَجُوعُ غَالِبًا وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقٍ زَمَنَ الْمَجَاعَةِ.

(قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَقِيضَ كِتَابِي) أَيْ إِبْطَالَهُ، يُقَالُ: تَنَاقَضَ الْكَلَامَانِ تَدَافَعَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ نَقْضَ الْآخَرِ، وَفِي كَلَامِهِ تَنَاقُضٌ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ يَقْتَضِي إِبْطَالَ بَعْضٍ (يَقُولُ: كَتَبْتَ إِلَيَّ أَنَّكَ كُنْتَ تَسْمَعُ أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إِذَا سَرَقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ) فَكَيْفَ تَعْتَمِدُ عَلَى سَمَاعٍ مُخَالِفٍ لِلنَّصِّ (وَأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) ارْتَفَعَا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أَوِ الْخَبَرُ (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) أَيْ يَدَيْهُمَا.

وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِمَا مَعْنَى الشَّرْطِ إِذِ الْمَعْنَى: وَالَّذِي سَرَقَ وَالَّتِي سَرَقَتْ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَالِاسْمُ الْمَوْصُولُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَبَدَأَ بِالرَّجُلِ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مِنَ الْجَرَاءَةِ وَهِيَ فِي الرِّجَالِ أَكْثَرُ، وَقُدِّمَتِ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي لِأَنَّ دَاعِيَةَ الزِّنَى فِي الْإِنَاثِ أَكْثَرُ وَلِأَنَّ الْأُنْثَى سَبَبٌ فِي وُقُوعِ الزِّنَى ; لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى غَالِبًا إِلَّا بِطَوْعِهَا، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ثُمَّ التَّثْنِيَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ السَّارِقِ فَلُوحِظَ فِيهِ الْمَعْنَى فَجُمِعَ وَالتَّثْنِيَةُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْجِنْسَيْنِ الْمُتَلَفَّظِ بِهِمَا (جَزَاءً) نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ (بِمَا كَسَبَا نَكَالًا) عُقُوبَةً لَهُمَا (مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ) غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ (حَكِيمٌ) فِي خَلْقِهِ (فَإِنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ) أَيِ الْآبِقِ (رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ (فَاقْطَعْ يَدَهُ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ: أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِقَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَطْعِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانَ أَوَّلُ سَارِقٍ قَطَعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرِّجَالِ الْجَبَّارَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ فَاطِمَةُ الْمَخْزُومِيَّةِ.

ص: 250

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا سَرَقَ الْعَبْدُ الْآبِقُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ

قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إِذَا سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1578 -

1520 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ) بْنِ الصِّدِّيقِ (وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ عُمَرَ (وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ) وَالثَّلَاثَةُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ (كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا سَرَقَ الْعَبْدُ الْآبِقُ مَا يَجِبُ

ص: 250

فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ) أَيْ قَطْعُ الْآبِقُ (الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إِذَا سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ) بِسَرِقَةِ رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ مُقَوَّمٍ بِهَا (قُطِعَ) .

ص: 251

[باب تَرْكِ الشَّفَاعَةِ لِلسَّارِقِ إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ فَقَدِمَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَدِينَةَ فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ تَرْكِ الشَّفَاعَةِ لِلسَّارِقِ إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ

1579 -

1521 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ) بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيِّ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَاهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِ مَالِكٍ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ وَحْدَهُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَدِّهِ فَوَصَلَهُ، وَرَوَاهُ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ) بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ قُدَامَةَ بْنِ جُمَحٍ الْقُرَشِيَّ الْمَكِّيَّ صَحَابِيٌّ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، مَاتَ أَيَّامَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَقِيلَ سَنَةَ إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ (قِيلَ لَهُ إِنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ) وَكَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:" لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ " وَفِي رِوَايَةٍ أَخْرَجَهَا أَبُو عُمَرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ قَدْ هَاجَرَ فَقَالَ: لَا أَنْزِلُ مَنْزِلِي حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (فَقَدِمَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَدِينَةَ فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ) النَّبَوِيِّ (وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ) جَعَلَهُ وِسَادَةً تَحْتَ رَأْسِهِ (فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ فَقَالَ صَفْوَانُ: لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) وَإِنَّمَا أَرَدْتُ تَأْدِيبَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ)

ص: 251

مِنِّي كَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْقَطْعَ مَوْكُولٌ إِلَى إِرَادَتِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَهَلَّا) بِشَدِّ اللَّامِ (قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ) فَإِنَّ الْحُدُودَ إِذَا انْتَهَتْ إِلَيَّ فَلَيْسَ لَهَا مَتْرَكٌ، كَمَا زَادَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ.

وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَطْعِ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ مِنَ الْمَفْصِلِ " أَيْ مَفْصِلِ الْكُوعِ.

وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ صَفْوَانَ قَالَ: " كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى خَمِيصَةٍ لِي، ثَمَنُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأَخَذَ الرَّجُلَ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ فَقُلْتُ لَهُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا أَنَا أُمَتِّعُهُ ثَمَنَهَا، فَقَالَ: فَهَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ ".

ص: 252

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَقِيَ رَجُلًا قَدْ أَخَذَ سَارِقًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَشَفَعَ لَهُ الزُّبَيْرُ لِيُرْسِلَهُ فَقَالَ لَا حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ السُّلْطَانَ فَقَالَ الزُّبَيْرُ إِذَا بَلَغْتَ بِهِ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1580 -

1522 - (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخٍ الْمَدَنِيِّ (أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَقِيَ رَجُلًا قَدْ أَخَذَ سَارِقًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَشَفَعَ لَهُ الزُّبَيْرُ لِيُرْسِلَهُ) يُطْلِقَهُ وَلَا يَذْهَبَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ (فَقَالَ لَا حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ السُّلْطَانَ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِذَا بَلَغْتَ بِهِ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ) عِنْدَهُ (وَالْمُشَفِّعَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ شَدِيدَةٍ أَيْ قَابِلَ شَفَاعَتِهِ وَهُوَ السُّلْطَانُ.

وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا: " اشْفَعُوا مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْوَالِي فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْوَالِي فَعَفَا فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ الشَّفَاعَةَ فِي ذَوِي الذُّنُوبِ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ مَا لَمْ تَبْلُغِ السُّلْطَانَ، وَأَنَّ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَتْهُ إِقَامَتَهَا.

ص: 252

[باب جَامِعِ الْقَطْعِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدِمَ فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ قَدْ ظَلَمَهُ فَكَانَ يُصَلِّ مِنْ اللَّيْلِ فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ وَأَبِيكَ مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا عِقْدًا لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطُوفُ مَعَهُمْ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ بَيَّتَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ فَوَجَدُوا الْحُلِيَّ عِنْدَ صَائِغٍ زَعَمَ أَنَّ الْأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ فَاعْتَرَفَ بِهِ الْأَقْطَعُ أَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ عِنْدِي عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَتِهِ

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَسْرِقُ مِرَارًا ثُمَّ يُسْتَعْدَى عَلَيْهِ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ لِجَمِيعِ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِنْ كَانَ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ أَيْضًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ جَامِعِ الْقَطْعِ

1581 -

1523 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصِّدِّيقِ (عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا

ص: 252

مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ) لَمْ يُسَمَّ (أَقْطَعَ الْيَدِ) الْيُمْنَى (وَالرِّجْلِ) الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ (قَدِمَ) الْمَدِينَةَ (فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) فِي خِلَافَتِهِ (فَشَكَى إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ قَدْ ظَلَمَهُ فَكَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ بَعْضِهِ (فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ) مُتَعَجِّبًا (وَأَبِيكَ) قَسَمٌ عَلَى مَعْنَى وَرَبِّ أَبِيكَ، أَوْ كَلِمَةٌ جَرَتْ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَا يَقْصِدُونَ بِهَا الْقَسَمَ (مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ) لِأَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ يُنَافِي السَّرِقَةَ (ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْقَافِ (عِقْدًا) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ قِلَادَةً (لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) بِضَمِّ الْمُهْمِلَةِ وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ مُصَغَّرٌ (امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) أُمِّ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَهِيَ صَحَابِيَّةٌ شَهِيرَةٌ (فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطُوفُ) يَدُورُ (مَعَهُمْ) أَيْ مَعَ الَّذِينَ بُعِثُوا لِلتَّفْتِيشِ عَلَى الْعِقْدِ (وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ بَيَّتَ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالتَّحْتِيَّةِ الثَّقِيلَةِ (أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ) أَيْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ لَيْلًا يَأْخُذُ الْعِقْدَ (فَوَجَدُوا الْحُلِيَّ) الَّذِي هُوَ الْعِقْدُ (عِنْدَ صَائِغٍ زَعَمَ أَنَّ الْأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ فَاعْتَرَفَ بِهِ الْأَقْطَعُ أَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ) شَكَّ الرَّاوِي (فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ عِنْدِي) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيَّ وَفِي أُخْرَى عَلَيْهِ (مِنْ سَرِقَتِهِ) لِأَنَّ فِيهَا حَظًّا لِلنَّفْسِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ عَلَيْهَا، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْكَبَائِرِ.

(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَسْرِقُ مِرَارًا ثُمَّ يُسْتَعْدَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ لِجَمِيعِ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ) لِأَنَّ حَدَّ الْقَطْعِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِمَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ وَإِلَّا لَجَازَ عَفْوُهُمْ إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ، وَهَذَا (إِذَا لَمْ يَكُنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ أَيْضًا) مِنْ خِلَافٍ.

ص: 253

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَذَ نَاسًا فِي حِرَابَةٍ وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ أَوْ يَقْتُلَ فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَوْ أَخَذْتَ بِأَيْسَرِ ذَلِكَ

قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَسْرِقُ أَمْتِعَةَ النَّاسِ الَّتِي تَكُونُ مَوْضُوعَةً بِالْأَسْوَاقِ مُحْرَزَةً قَدْ أَحْرَزَهَا أَهْلُهَا فِي أَوْعِيَتِهِمْ وَضَمُّوا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ إِنَّهُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حِرْزِهِ فَبَلَغَ قِيمَتُهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ عِنْدَ مَتَاعِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَيْلًا ذَلِكَ أَوْ نَهَارًا قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَسْرِقُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْقَطْعُ ثُمَّ يُوجَدُ مَعَهُ مَا سَرَقَ فَيُرَدُّ إِلَى صَاحِبِهِ إِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ تُقْطَعُ يَدُهُ وَقَدْ أُخِذَ الْمَتَاعُ مِنْهُ وَدُفِعَ إِلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّارِبِ يُوجَدُ مِنْهُ رِيحُ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ وَلَيْسَ بِهِ سُكْرٌ فَيُجْلَدُ الْحَدَّ قَالَ وَإِنَّمَا يُجْلَدُ الْحَدَّ فِي الْمُسْكِرِ إِذَا شَرِبَهُ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا شَرِبَهُ لِيُسْكِرَهُ فَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي السَّرِقَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَرَجَعَتْ إِلَى صَاحِبِهَا وَإِنَّمَا سَرَقَهَا حِينَ سَرَقَهَا لِيَذْهَبَ بِهَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يَأْتُونَ إِلَى الْبَيْتِ فَيَسْرِقُونَ مِنْهُ جَمِيعًا فَيَخْرُجُونَ بِالْعِدْلِ يَحْمِلُونَهُ جَمِيعًا أَوْ الصُّنْدُوقِ أَوْ الْخَشَبَةِ أَوْ بِالْمِكْتَلِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْمِلُهُ الْقَوْمُ جَمِيعًا إِنَّهُمْ إِذَا أَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْ حِرْزِهِ وَهُمْ يَحْمِلُونَهُ جَمِيعًا فَبَلَغَ ثَمَنُ مَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِمْ الْقَطْعُ جَمِيعًا قَالَ وَإِنْ خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَتَاعٍ عَلَى حِدَتِهِ فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ بِمَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ بِمَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ دَارُ رَجُلٍ مُغْلَقَةً عَلَيْهِ لَيْسَ مَعَهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْهَا شَيْئًا الْقَطْعُ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ مِنْ الدَّارِ كُلِّهَا وَذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا هِيَ حِرْزُهُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الدَّارِ سَاكِنٌ غَيْرُهُ وَكَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَهُ وَكَانَتْ حِرْزًا لَهُمْ جَمِيعًا فَمَنْ سَرَقَ مِنْ بُيُوتِ تِلْكَ الدَّارِ شَيْئًا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَخَرَجَ بِهِ إِلَى الدَّارِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ إِلَى غَيْرِ حِرْزِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِيهِ الْقَطْعُ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يَسْرِقُ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ خَدَمِهِ وَلَا مِمَّنْ يَأْمَنُ عَلَى بَيْتِهِ ثُمَّ دَخَلَ سِرًّا فَسَرَقَ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهَا لَا قَطْعَ عَلَيْهَا وَقَالَ فِي الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مِنْ خَدَمِهِ وَلَا مِمَّنْ يَأْمَنُ عَلَى بَيْتِهِ فَدَخَلَ سِرًّا فَسَرَقَ مِنْ مَتَاعِ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ قَالَ وَكَذَلِكَ أَمَةُ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ لَيْسَتْ بِخَادِمٍ لَهَا وَلَا لِزَوْجِهَا وَلَا مِمَّنْ تَأْمَنُ عَلَى بَيْتِهَا فَدَخَلَتْ سِرًّا فَسَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدَتِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهَا قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ أَمَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مِنْ خَدَمِهَا وَلَا مِمَّنْ تَأْمَنُ عَلَى بَيْتِهَا فَدَخَلَتْ سِرًّا فَسَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ زَوْجِ سَيِّدَتِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ أَنَّهَا تُقْطَعُ يَدُهَا قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ مِنْ مَتَاعِ امْرَأَتِهِ أَوْ الْمَرْأَةُ تَسْرِقُ مِنْ مَتَاعِ زَوْجِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِنْ كَانَ الَّذِي سَرَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَتَاعِ صَاحِبِهِ فِي بَيْتٍ سِوَى الْبَيْتِ الَّذِي يُغْلِقَانِ عَلَيْهِمَا وَكَانَ فِي حِرْزٍ سِوَى الْبَيْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ فَإِنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْهُمَا مِنْ مَتَاعِ صَاحِبِهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ فِيهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَعْجَمِيِّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ أَنَّهُمَا إِذَا سُرِقَا مِنْ حِرْزِهِمَا أَوْ غَلْقِهِمَا فَعَلَى مَنْ سَرَقَهُمَا الْقَطْعُ وَإِنْ خَرَجَا مِنْ حِرْزِهِمَا وَغَلْقِهِمَا فَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَرَقَهُمَا قَطْعٌ قَالَ وَإِنَّمَا هُمَا بِمَنْزِلَةِ حَرِيسَةِ الْجَبَلِ وَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَنْبِشُ الْقُبُورَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ مَا أَخْرَجَ مِنْ الْقَبْرِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْقَطْعُ وَقَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِمَا فِيهِ كَمَا أَنَّ الْبُيُوتَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا قَالَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ مِنْ الْقَبْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1582 -

1524

ص: 253

- (مَالِكٌ أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَذَ نَاسًا فِي حِرَابَةٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مُقَاتَلَةٍ وَبِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ أَيْضًا ضُبِطَ بِهِمَا بِالْقَلَمِ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَيُقَالُ خَرَبَ بِالْمُعْجَمَةِ يَخْرُبُ مِنْ بَابِ قَتَلَ خِرَابَةً بِالْكَسْرِ إِذَا سَرَقَ لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْإِهْمَالَ قَوْلُهُ:(وَلَمْ يَقْتُلُوا) أَحَدًا (فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ أَوْ يَقْتُلَ) إِذِ التَّخْيِيرُ فِي ذَلِكَ وَفِي الصَّلْبِ وَالنَّفْيِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحِرَابَةِ بِالْإِهْمَالِ لَا فِي الْخِرَابَةِ بِالْإِعْجَامِ بِمَعْنَى السَّرِقَةِ، إِذْ لَا قَتْلَ فِيهَا وَلَا غَيْرَهُ سِوَى الْقَطْعِ.

(فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَوْ أَخَذْتَ بِأَيْسَرِ ذَلِكَ) أَهْوَنِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ، فَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ أَوْ هِيَ لِلتَّمَنِّي فَلَا جَوَابَ لَهَا، وَهَذَا أَيْضًا يُؤَيِّدُ الْإِهْمَالَ إِذْ لَوْ كَانُوا سَرَقُوا لِأَمَرَ بِالْقَطْعِ جَزْمًا.

(مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَسْرِقُ أَمْتِعَةَ النَّاسِ الَّتِي تَكُونُ مَوْضُوعَةً بِالْأَسْوَاقِ مُحْرَزَةً) فِي حِرْزِ مِثْلِهَا (قَدْ أَحْرَزَهَا أَهْلُهَا) أَصْحَابُهَا (فِي أَوْعِيَتِهِمْ وَضَمُّوا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ أَنَّهُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حِرْزِهِ فَبَلَغَ قِيمَتُهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ) ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ (فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ عِنْدَ مَتَاعِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَيْلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَهَارًا) إِذْ لَا فَرْقَ فِي الْمُخْرَجِ مِنَ الْحِرْزِ فِي ذَلِكَ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَسْرِقُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْقَطْعُ ثُمَّ يُوجَدُ مَعَهُ مَا سَرَقَ فَيُرَدُّ إِلَى صَاحِبِهِ إِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ.

(فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ تُقْطَعُ يَدُهُ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ أُخِذَ الْمَتَاعُ مِنْهُ وَدُفِعَ إِلَى صَاحِبِهِ) فَلَا

ص: 254

يَقُلْ ذَلِكَ (فَإِنَّمَا هُوَ) أَيِ السَّارِقُ (بِمَنْزِلَةِ الشَّارِبِ) لِلْخَمْرِ (يُوجَدُ مِنْهُ رِيحُ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ) شَأْنُهُ (وَلَيْسَ بِهِ سُكْرٌ) لِنَحْوِ اعْتِيَادٍ فَصَارَ لَا يُسْكِرُهُ (فَيُجْلَدُ الْحَدَّ وَإِنَّمَا يُجْلَدُ الْحَدَّ فِي الْمُسْكِرِ إِذَا شَرِبَهُ وَلَمْ يُسْكِرْهُ وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا شَرِبَهُ لِيُسْكِرَهُ، فَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي السَّرِقَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَرَجَعَتْ إِلَى صَاحِبِهَا وَ) ذَلِكَ أَنَّهُ (إِنَّمَا سَرَقَهَا لِيَذْهَبَ بِهَا) فَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ الِانْتِفَاعُ بِالْفِعْلِ، بَلْ مُجَرَّدُ الْقَصْدِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْحِرْزِ كَافٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ السُّكْرُ بِالْفِعْلِ بَلْ تَعَاطِيهِ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يَأْتُونَ إِلَى الْبَيْتِ فَيَسْرِقُونَ مِنْهُ جَمِيعًا فَيَخْرُجُونَ بِالْعِدْلِ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ الْحِمْلُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَنَحْوِهَا (يَحْمِلُونَهُ جَمِيعًا أَوْ) يَخْرُجُونَ (بِالصُّنْدُوقِ) بِضَمِّ الصَّادِ وَقَدْ تُفْتَحُ، وَالزُّنْدُوقُ وَالصُّنْدُوقُ لُغَاتٌ جَمْعُهُ صَنَادِيقُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (أَوْ بِالْخَشَبَةِ) وَاحِدَةُ الْخَشَبِ (أَوْ بِالْمِكْتَلِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ الزِّنْبِيلُ، وَهُوَ مَا يُعْمَلُ مِنَ الْخُوصِ يُحْمَلُ فِيهِ التَّمْرُ وَغَيْرُهُ (أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْمِلُهُ الْقَوْمُ جَمِيعًا) لِثِقَلِهِ (إِنَّهُمْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (إِذَا أَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْ حِرْزِهِ وَهُمْ يَحْمِلُونَهُ جَمِيعًا فَبَلَغَ ثَمَنَ مَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِمُ الْقَطْعُ جَمِيعًا) أَيْ يُقْطَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذْ لَوْلَا اجْتِمَاعُهُمْ مَا قَدَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِ.

(وَإِنْ خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَتَاعٍ عَلَى حِدَتِهِ) بِالْكَسْرِ (فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ بِمَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ بِمَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ) لِنَقْصِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَهُوَ النِّصَابُ

ص: 255

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا إِذَا كَانَتْ دَارُ رَجُلٍ مُغْلَقَةً) مُقْفَلَةً (عَلَيْهِ لَيْسَ مَعَهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْهَا شَيْئًا الْقَطْعُ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ مِنَ الدَّارِ كُلِّهَا وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا هِيَ حِرْزُهُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الدَّارِ سَاكِنٌ غَيْرُهُ وَكَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يُغْلِقُ) بِكَسْرِ اللَّامِ (عَلَيْهِ بَابَهُ وَكَانَتْ حِرْزًا لَهُمْ جَمِيعًا، فَمَنْ سَرَقَ مِنْ بُيُوتِ تِلْكَ الدَّارِ شَيْئًا فَخَرَجَ بِهِ إِلَى الدَّارِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ إِلَى غَيْرِ حِرْزِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِيهِ الْقَطْعُ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يَسْرِقُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ خَدَمِهِ وَلَا مِمَّنْ يَأْمَنُ عَلَى بَيْتِهِ ثُمَّ دَخَلَ سِرًّا فَسَرَقَ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهَا لَا قَطْعَ عَلَيْهَا) وَحَاصِلُهُ أَنْ لَا قَطْعَ عَلَى رَقِيقٍ سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ.

(وَقَالَ فِي الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مِنْ خَدَمِهِ وَلَا مِمَّنْ يَأْمَنُ عَلَى بَيْتِهِ فَدَخَلَ سِرًّا فَسَرَقَ مِنْ مَتَاعِ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَكَذَلِكَ أَمَةُ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ لَيْسَتْ بِخَادِمٍ لَهَا وَلَا لِزَوْجِهَا وَلَا مِمَّنْ تَأْمَنُ عَلَى بَيْتِهَا فَدَخَلَتْ سِرًّا فَسَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدَتِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ) عَلَى غَيْرِهَا (فَلَا قَطْعَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ أَمَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مِنْ خَدَمِهَا وَلَا مِمَّنْ تَأْمَنُ عَلَى بَيْتِهَا

ص: 256

فَدَخَلَتْ سِرًّا فَسَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ زَوْجِ سَيِّدَتِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ أَنَّهَا تُقْطَعُ يَدُهَا) إِذْ لَا مِلْكَ لِزَوْجِ سَيِّدَتِهَا فِيهَا.

(وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ مِنْ مَتَاعِ امْرَأَةٍ أَوِ الْمَرْأَةُ تَسْرِقُ مِنْ مَتَاعِ زَوْجِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِنْ كَانَ الَّذِي سَرَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَتَاعِ صَاحِبِهِ فِي بَيْتٍ سِوَى الْبَيْتِ الَّذِي يُغْلِقَانِ عَلَيْهِمَا وَكَانَ فِي حِرْزٍ سِوَى الْبَيْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ فَإِنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْهُمَا مِنْ مَتَاعِ صَاحِبِهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ) كَذَا إِنْ سُرِقَ كُلُّ مَا حَجَرَ عَلَيْهِ الْآخَرُ وَلَوْ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَعْجَمِيِّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ صِفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِأَعْجَمِيَّتِهِ (أَنَّهُمَا إِذَا سُرِقَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (مِنْ حِرْزِهِمَا وَغَلْقِهِمَا فَعَلَى مَنْ سَرَقَهُمَا الْقَطْعُ فَإِنْ خَرَجًا مِنْ حِرْزِهِمَا وَغَلْقِهِمَا فَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَرَقَهُمَا قَطْعٌ) لِفَقْدِ شَرْطِهِ (وَإِنَّمَا هُمَا بِمَنْزِلَةِ حَرِيسَةِ الْجَبَلِ) أَيْ مَا يُحْرَسُ فِيهِ (وَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ) عَلَى شَجَرِهِ (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَنْبُشُ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا يَكْشِفُ (الْقُبُورَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ مَا أَخْرَجَ مِنَ الْقَبْرِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْقَطْعُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِمَا فِيهِ كَمَا أَنَّ الْبُيُوتَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ مِنَ الْقَبْرِ) فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَا قَطْعَ.

ص: 257

[باب مَا لَا قَطْعَ فِيهِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ «أَنَّ عَبْدًا سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ حَائِطِ رَجُلٍ فَغَرَسَهُ فِي حَائِطِ سَيِّدِهِ فَخَرَجَ صَاحِبُ الْوَدِيِّ يَلْتَمِسُ وَدِيَّهُ فَوَجَدَهُ فَاسْتَعْدَى عَلَى الْعَبْدِ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَسَجَنَ مَرْوَانُ الْعَبْدَ وَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ فَانْطَلَقَ سَيِّدُ الْعَبْدِ إِلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ فَقَالَ الرَّجُلُ فَإِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخَذَ غُلَامًا لِي وَهُوَ يُرِيدُ قَطْعَهُ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَمْشِيَ مَعِيَ إِلَيْهِ فَتُخْبِرَهُ بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَشَى مَعَهُ رَافِعٌ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَالَ أَخَذْتَ غُلَامًا لِهَذَا فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ بِهِ قَالَ أَرَدْتُ قَطْعَ يَدِهِ فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ فَأَمَرَ مَرْوَانُ بِالْعَبْدِ فَأُرْسِلَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

11 -

بَابُ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ

1583 -

1525 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ (أَنَّ عَبْدًا) أَسْوَدَ لِوَاسِعِ ابْنِ حَبَّانَ عَمِّ مُحَمَّدٍ وَاسْمُ الْعَبْدِ فِيلٌ كَمَا فِي التَّمْهِيدِ، وَهُوَ بِلَفْظِ الْحَيَوَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ (سَرَقَ وَدِيًّا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ أَيْ نَخْلًا صِغَارًا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ سَرَقَ نَخْلًا صِغَارًا (مِنْ حَائِطِ رَجُلٍ) لَمْ يُسَمَّ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ غُلَامًا لِعَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ أَرْضِ جَارٍ لَهُ (فَغَرَسَهُ فِي حَائِطِ سَيِّدِهِ فَخَرَجَ صَاحِبُ الْوَدِيِّ يَلْتَمِسُ وَدِيَّهُ فَوَجَدَهُ) فِي حَائِطِ جَارِهِ (فَاسْتَعْدَى عَلَى الْعَبْدِ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ) أَمِيرَ الْمَدِينَةِ حِينَئِذٍ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ (فَسَجَنَ مَرْوَانُ الْعَبْدَ وَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ فَانْطَلَقَ سَيِّدُ الْعَبْدِ) وَاسِعُ بْنُ حَبَّانَ (إِلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَجِيمٍ ابْنِ رَافِعِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ الْأَوْسِيِّ الْحَارِثِيِّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ ثُمَّ الْخَنْدَقُ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ (فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ) رَافِعٌ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا قَطْعَ) جَائِزٌ (فِي ثَمَرٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ مُعَلَّقٌ عَلَى الشَّجَرِ قَبْلَ أَنْ يُجَذَّ وَيُحْرَزَ (وَلَوْ فِي كَثَرٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُثَلَّثَةِ (وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ) بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَمِيمٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ جُمَّارُ النَّخْلِ وَهُوَ شَحْمُهُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ الْكَافُورُ وَهُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ مِنْ جَوْفِهِ سُمِّيَ جُمَّارًا وَكَثَرًا لِأَنَّهُ أَصْلُ الْكَوَافِيرِ، وَحَيْثُ تَجْتَمِعُ وَتَكْثُرُ كَمَا فِي الْفَائِقِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُدْرَجٌ، فَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: مَا الْكَثَرُ؟ فَقَالَ: الْجُمَّارُ، وَبِهِ تُعُقِّبَ تَفْسِيرُ ابْنِ الْأَثِيرِ بِالتَّمْرِ الرُّطَبِ مَا دَامَ فِي النَّخْلَةِ فَإِذَا قُطِعَ فَهُوَ رُطَبٌ فَإِذَا كَثَرَ فَهُوَ تَمْرٌ وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ، وَهُوَ الْقَصْدُ مِنَ الْوَدِيِّ الَّذِي هُوَ النَّخْلُ الصِّغَارُ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ فَالدَّلِيلُ طِبْقَ

ص: 258

الْمَدْلُولِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ (فَقَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ (أَخَذَ غُلَامًا) عَبْدًا (لِي وَهُوَ يُرِيدُ قَطْعَهُ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَمْشِيَ مَعِيَ إِلَيْهِ فَتُخْبِرَهُ بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَشَى مَعَهُ رَافِعٌ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَالَ: أَخَذْتَ غُلَامًا لِهَذَا) الرَّجُلِ (قَالَ نَعَمْ) أَخَذْتُهُ (قَالَ: فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ) فَاعِلٌ (بِهِ؟) وَفِي هَذَا مِنَ اللُّطْفِ فِي الْخِطَابِ مَا لَا يَخْفَى حَيْثُ لَمْ يَقُلْ لَهُ إِنَّ هَذَا قَدْ أَخَذْتَ لَهُ غُلَامًا وَأَرَدْتَ قَطْعَهُ (قَالَ: أَرَدْتُ قَطْعَ يَدِهِ) لِأَنَّهُ سَرَقَ (فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: إِلَّا مَا آوَاهُ الْجَرِينُ.

(فَأَمَرَ مَرْوَانُ بِالْعَبْدِ فَأُرْسِلَ) أُطْلِقَ مِنَ السِّجْنِ بَعْدَ أَنْ ضَرَبَهُ.

فَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: فَضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ.

وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: فَأَرْسَلَهُ مَرْوَانُ فَبَاعَهُ أَوْ نَفَاهُ أَيْ بَاعَهُ سَيِّدُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ كُلِّهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ كَانَ فِيهِ كَلَامٌ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَتَلَقَّتِ الْأَئِمَّةُ مَتْنَهُ بِالْقَبُولِ.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ رَافِعٍ، وَتَابَعَ مَالِكًا عَلَيْهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَمَّادَانِ وَأَبُو عَوَانَةَ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعٍ عَنْ رَافِعٍ، وَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ دُلَيْلٍ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَهُوَ مُتَّصِلٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ لَكِنْ قَدْ خُولِفَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ إِلَّا مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ دُلَيْلٍ فَقِيلَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عَمَّةٍ لَهُ، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ رَافِعٍ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ خُولِفَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ دُلَيْلٍ أَيْضًا، فَإِنَّمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ رَافِعٍ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي التَّمْهِيدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ غَيْرُ قَادِحٍ كَمَا قَدْ يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فَإِنْ كَانَ فِيهِ كَلَامٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَتْنُ فَصَحِيحٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو عُمَرَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ.

ص: 259

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ جَاءَ بِغُلَامٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ اقْطَعْ يَدَ غُلَامِي هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَاذَا سَرَقَ فَقَالَ سَرَقَ مِرْآةً لِامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا فَقَالَ عُمَرُ أَرْسِلْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1584 -

1526

ص: 259

- (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) بْنِ سَعِيدٍ الْكِنْدِيِّ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ لَهُ أَحَادِيثُ قَلِيلَةٌ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ قَبْلَهَا وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمَّارٍ حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ وَهُوَ ابْنُ أَخِي الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ قُتِلَ أَبُوهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ كَافِرًا، اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ مُفَوَّزٍ وَابْنُ فَتْحُونٍ وَاسْتَبْعَدَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: وَمُقْتَضَى مَوْتِ أَبِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ نَحْوُ تِسْعِ سِنِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقِسْمِ أَيِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ.

(جَاءَ بِغُلَامٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ: اقْطَعْ يَدَ غُلَامِي هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَاذَا سَرَقَ؟ فَقَالَ: سَرَقَ مِرْآةً) وِزَانُ مِفْتَاحٍ وَالْجَمْعُ مَرَاءٍ وِزَانُ جَوَارٍ وَغَوَاشٍ آلَةُ النَّظَرِ (لِامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا، فَقَالَ عُمَرُ: أَرْسِلْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ خَادِمِكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ) فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْكُمْ أَمْرَانِ.

ص: 260

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أُتِيَ بِإِنْسَانٍ قَدْ اخْتَلَسَ مَتَاعًا فَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ فَأَرْسَلَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَيْسَ فِي الْخُلْسَةِ قَطْعٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1585 -

1527 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أُتِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بِإِنْسَانٍ قَدِ اخْتَلَسَ) أَيِ اخْتَطَفَ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ (مَتَاعًا فَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ فَأَرْسَلَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) أَحَدِ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ (يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ زَيْدٌ: لَيْسَ فِي الْخُلْسَةِ قَطْعٌ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ أَيْ مَا يُخْلَسُ.

ص: 260

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ أَخَذَ نَبَطِيًّا قَدْ سَرَقَ خَوَاتِمَ مِنْ حَدِيدٍ فَحَبَسَهُ لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَاةً لَهَا يُقَالُ لَهَا أُمَيَّةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَتْنِي وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ فَقَالَتْ تَقُولُ لَكَ خَالَتُكَ عَمْرَةُ يَا ابْنَ أُخْتِي أَخَذْتَ نَبَطِيًّا فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ ذُكِرَ لِي فَأَرَدْتَ قَطْعَ يَدِهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَتْ فَإِنَّ عَمْرَةَ تَقُولُ لَكَ لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَرْسَلْتُ النَّبَطِيَّ

قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي اعْتِرَافِ الْعَبِيدِ أَنَّهُ مَنْ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ يَقَعُ الْحَدُّ فِيهِ أَوْ الْعُقُوبَةُ فِيهِ فِي جَسَدِهِ فَإِنَّ اعْتِرَافَهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَلَا يُتَّهَمُ أَنْ يُوقِعَ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَمَّا مَنْ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِأَمْرٍ يَكُونُ غُرْمًا عَلَى سَيِّدِهِ فَإِنَّ اعْتِرَافَهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى سَيِّدِهِ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ عَلَى الْأَجِيرِ وَلَا عَلَى الرَّجُلِ يَكُونَانِ مَعَ الْقَوْمِ يَخْدُمَانِهِمْ إِنْ سَرَقَاهُمْ قَطْعٌ لِأَنَّ حَالَهُمَا لَيْسَتْ بِحَالِ السَّارِقِ وَإِنَّمَا حَالُهُمَا حَالُ الْخَائِنِ وَلَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ قَطْعٌ قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ فَيَجْحَدُهَا إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا جَحَدَهُ قَطْعٌ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي السَّارِقِ يُوجَدُ فِي الْبَيْتِ قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَمْرًا لِيَشْرَبَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَمَثَلُ ذَلِكَ رَجُلٌ جَلَسَ مِنْ امْرَأَةٍ مَجْلِسًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهَا حَرَامًا فَلَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مِنْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ حَدٌّ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخُلْسَةِ قَطْعٌ بَلَغَ ثَمَنُهَا مَا يُقْطَعُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1586 -

1528

ص: 260

- (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْمَدِينَةِ (أَنَّهُ أَخَذَ نَبَطِيًّا) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ نِسْبَةً إِلَى النَّبَطِ قَرْيَةٍ مِنَ الْعَجَمِ (قَدْ سَرَقَ خَوَاتِمَ مِنْ حَدِيدٍ فَحَبَسَهُ لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَنْصَارِيَّةُ (مَوْلَاةً لَهَا يُقَالُ لَهَا أُمَيَّةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَجَاءَتْنِي) أُمَيَّةُ (وَأَنَا بَيْنَ ظَهَرَانَيِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَلَا تُكْسَرُ أَيْ بَيْنَ (النَّاسِ) وَزِيدَ ظَهْرَانَيِ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِقَامَتَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِظْهَارِ بِهِمْ وَالِاسْتِنَادِ إِلَيْهِمْ.

كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ ظَهْرًا مِنْهُمْ قُدَّامَهُ وَظَهْرًا وَرَاءَهُ فَكَأَنَّهُ مَكْتُوفٌ مِنْ جَانِبَيْهِ هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكْتُوفٍ بَيْنَهُمْ (فَقَالَتْ: تَقُولُ لَكَ خَالَتُكَ عَمْرَةُ يَا ابْنَ أُخْتِي أَخَذْتَ نَبَطِيًّا فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ ذُكِرَ لِي فَأَرَدْتَ قَطْعَ يَدِهِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِنَّ عَمْرَةَ تَقُولُ لَكَ لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ) ذَهَبًا (فَصَاعِدًا) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَهَذَا قَدْ رَوَتْهُ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِنَحْوِهِ كَمَا مَرَّ.

(قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَرْسَلْتُ النَّبَطِيَّ) أَطْلَقْتُهُ بِلَا قَطْعٍ ; لِأَنَّ الْخَوَاتِمَ لَا تُسَاوِي ذَلِكَ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي اعْتِرَافِ الْعَبِيدِ) بِالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا (أَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ تَقَعُ الْعُقُوبَةُ أَوِ الْحَدُّ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ) كَاعْتِرَافِهِ بِزِنًى أَوْ شُرْبٍ (فَإِنَّ اعْتِرَافَهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ (وَلَا يُتَّهَمُ أَنْ يُوقِعَ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ جَسَدِهِ (هَذَا) أَيِ الضَّرْبَ أَوِ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(وَأَمَّا مَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِأَمْرٍ يَكُونُ غُرْمًا) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (عَلَى سَيِّدِهِ فَإِنَّ اعْتِرَافَهُ غَيْرُ

ص: 261

جَائِزٍ عَلَى سَيِّدِهِ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ (وَلَيْسَ عَلَى الْأَجِيرِ وَلَا عَلَى الرَّجُلِ يَكُونَانِ مَعَ الْقَوْمِ يَخْدُمَانِهِمْ) بِضَمِّ الدَّالِ (إِنْ سَرَقَاهُمْ) أَيْ شَيْئًا مِنْهُمْ (قَطْعٌ لِأَنَّ حَالَهُمَا لَيْسَتْ بِحَالِ السَّارِقِ) وَهُوَ مَنْ أَخَذَ مِنْ مَوْضِعٍ مَمْنُوعٍ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ (وَإِنَّمَا حَالُهُمَا حَالُ الْخَائِنِ) وَهُوَ الَّذِي خَانَ مَا جُعِلَ أَمِينًا عَلَيْهِ (وَلَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ قَطْعٌ) لِأَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا جَاءَ فِي قَطْعِ السَّارِقِ دُونَهُ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ فَيَجْحَدُهَا: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ) إِذْ لَيْسَ بِسَارِقٍ (إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ) أَيْ صِفَتُهُ بِمَعْنَى قِيَاسِهِ (مَثَلُ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلِ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا جَحَدَهُ قَطْعٌ) لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي السَّارِقِ يُوجَدُ فِي الْبَيْتِ) حَالَ كَوْنِهِ (قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ) لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحِرْزِ (وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَمْرًا لِيَشْرَبَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ) لِعَدَمِ الشُّرْبِ (وَمَثَلُ ذَلِكَ) أَيْ قِيَاسُهُ (رَجُلٌ جَلَسَ مِنَ امْرَأَةٍ مَجْلِسًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهَا) يُجَامِعَهَا (حَرَامًا فَلَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مِنْهَا) أَيْ لَمْ يُدْخِلْ حَشَفَتَهُ فِيهَا (فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ حَدٌّ) لِعَدَمِ الْوَطْءِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْأَدَبُ (وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخُلْسَةِ) أَيْ مَا يُخْلَسُ وَيُخْطَفُ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ (قَطْعٌ بَلَغَ ثَمَنُهَا مَا يُقْطَعُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَرِقَةٍ.

ص: 262

[كِتَاب الْأَشْرِبَةِ]

[باب الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْأَشْرِبَةِ باب الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلَانٍ رِيحَ شَرَابٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابُ الطِّلَاءِ وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ تَامًّا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

42 -

كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ

جَمْعُ شَرَابٍ كَطَعَامٍ وَأَطْعِمَةٍ اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ وَلَيْسَ مَصْدَرًا لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُوَ الشُّرْبُ مُثَلَّثَةُ الشِّينِ.

1 -

بَابُ الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ

1587 -

1529 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) مِنَ الزِّيَادَةِ الْكِنْدِيِّ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلَانٍ) هُوَ ابْنُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ بِضَمِّ الْعَيْنِ (رِيحَ شَرَابٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابُ الطِّلَاءِ) بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ قَالَ فِي الْمُقَدِّمَةِ: هُوَ مَا طُبِخَ مِنَ الْعَصِيرِ حَتَّى يَغْلُظَ وَشُبِّهَ بِطِلَاءِ الْإِبِلِ وَهُوَ الْقَطِرَانُ الَّذِي تُطْلَى بِهِ الْجُرْبُ (وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ) فَسَأَلَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ مُسْكِرًا (فَجَلَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْحَدَّ تَامًّا) ثَمَانِينَ جَلْدَةً.

وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ فَسَمَّاهُ عُبَيْدَ اللَّهِ، وَزَادَ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ قَالَ: فَرَأَيْتُ عُمَرَ يَجْلِدُهُ.

ص: 263

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى أَوْ كَمَا قَالَ فَجَلَدَ عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1588 -

1530 - (مَالِكٌ عَنْ ثَوْرٍ) بِمُثَلَّثَةٍ (ابْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ (أَنَّ عُمَرَ

ص: 263

بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَشَارَ) الصَّحَابَةَ (فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ) وَصْفٌ طَرْدِيٌّ فَالْمُرَادُ الْمُكَلَّفُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَإِنَّمَا اسْتَشَارَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَيِّنْهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ أَيْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ حَدًّا مَضْبُوطًا (فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَرَى أَنْ تَجَلِدَهُ ثَمَانِينَ) كَحَدِّ الْقَذْفِ (فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ) زَالَ عَقْلُهُ (وَإِذَا سَكِرَ هَذَى) خَلَطَ وَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَنْبَغِي (وَإِذَا هَذَى افْتَرَى) كَذَبَ وَقَذَفَ (أَوْ كَمَا قَالَ) شَكَّ الرَّاوِي (فَجَلَدَ عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ) وَفِي أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ فِي قِصَّةِ الشَّارِبِ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحُنَيْنٍ وَفِيهِ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ كَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَّ النَّاسَ قَدِ انْهَمَكُوا فِي الشُّرْبِ وَتَحَاقَرُوا الْعُقُوبَةَ، قَالَ وَعِنْدَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَسَأَلَهُمْ فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضْرِبَهُ ثَمَانِينَ.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ التَّابِعِينَ وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ كَالشُّذُوذِ الْمَحْجُوجِ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَتُعُقِّبَ بِمَا فِي الصَّحِيحِ «عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَلَدَ الْوَلِيدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ» ، فَلَوْ أَجْمَعُوا عَلَى الثَّمَانِينَ فِي زَمَنِ عُمَرَ لَمَا خَالَفُوا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَجَلَدُوا أَرْبَعِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ أَبِي عُمَرَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الثَّمَانِينَ بَعْدَ عُثْمَانَ فَيَصِحُّ كَلَامُهُ.

ص: 264

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَدْ جَلَدُوا عَبِيدَهُمْ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1589 -

1531 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْعَبْدِ) الرَّقِيقِ وَلَوْ أُنْثَى (فِي الْخَمْرِ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ) وَهُوَ أَرْبَعُونَ.

(وَ) بَلَغَنِي (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَلَدُوا عَبِيدًا لَهُمْ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ) وَبِهِمُ الْقُدْوَةُ ; لِأَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ عَلَى نِصْفِ حَدِّ الْحُرِّ وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 25) .

ص: 264

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ شَرَابًا مُسْكِرًا فَسَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1590 -

1532

ص: 264

(مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ) بْنِ حَزْنٍ يَقُولُ: (مَا مِنْ شَيْءٍ) نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَضُمَّ إِلَيْهَا مِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الذُّنُوبِ (إِلَّا اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا) فَلَا يُحِبُّ الْعَفْوَ عَنْهُ إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ.

وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا فِي الْحُدُودِ» " قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ يَقُولُ: يَتَجَافَى الْمِرْجَلُ ذِي الْهَيْئَةِ عَنْ عَثْرَتِهِ مَا لَمْ تَكُنْ حَدًّا، قَالَ: وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُعْرَفُونَ بِالشَّرِّ فَيَزِلُّ أَحَدُهُمُ الزَّلَّةَ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي عَثَرَاتِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الصَّغَائِرُ، وَالثَّانِي أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ زَلَّ فِيهَا مُطِيعٌ (قَالَ مَالِكٌ: وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ شَرَابًا مُسْكِرًا فَسَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ شَأْنَهُ الْإِسْكَارُ فَلَا يَمْنَعُ تَخَلُّفَهُ لِعَارِضِ الْحَدِّ.

ص: 265

[باب مَا يُنْهَى أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ فَانْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَهُ فَسَأَلْتُ مَاذَا قَالَ فَقِيلَ لِي نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

مَا يُنْهَى أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ

1591 -

1533 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ) لِأَسْمَعَ مَا يَقُولُ وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ.

(فَانْصَرَفَ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخُطْبَةِ (قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَهُ) أَيْ أَصِلَ إِلَيْهِ (فَسَأَلْتُ مَاذَا قَالَ؟ فَقِيلَ لِي) إِبْهَامٌ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ أَبْهَمَ صَحَابِيًّا (نَهَى أَنْ يُنْبَذَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ يُطْرَحَ (فِي الدُّبَّاءِ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْمُوَحَّدَةِ

ص: 265

وَالْمَدِّ الْقَرْعُ (وَالْمُزَفَّتِ) بِالزَّايِ وَالْفَاءِ الْمَطْلِيِّ بِالزِّفْتِ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَيْهِمَا الْإِسْكَارُ، فَرُبَّمَا شَرِبَ مِنْهَا مَنْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ ظَانًّا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ الْإِسْكَارَ وَقَدْ بَلَغَهُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ وَأَيُّوبُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَالضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ وَأُسَامَةُ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ إِلَّا مَالِكٌ وَأُسَامَةُ قَالَهُ مُسْلِمٌ.

ص: 266

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1592 -

1534 - (مَالِكٌ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) الْحُرَقِيِّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَقَافٍ الْمَدَنِيِّ الصَّدُوقِ مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ الْجُهَنِيِّ الْمَدَنِيِّ مَوْلَى الْحُرَقَةِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَقَافٍ، التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى) عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ وَقِيلَ التَّحْرِيمِ عَنْ (أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ) مِنَ الْجِرَارِ لِإِسْرَاعِ إِسْكَارِ مَا نُبِذَ فِيهِمَا.

ص: 266

[باب مَا يُكْرَهُ أَنْ يُنْبَذَ جَمِيعًا]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا يُكْرَهُ أَنْ يُنْبَذَ جَمِيعًا

1593 -

1535 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُرْسَلًا بِلَا خِلَافٍ أَعْلَمُهُ عَنْ مَالِكٍ وَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ» ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ التَّمْرُ قَبْلَ إِرْطَابِهِ وَاحِدَتُهُ بُسْرَةٌ بِالْهَاءِ (وَالرُّطَبُ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ مَا نَضِجَ مِنَ الْبُسْرِ، الْوَاحِدَةُ رُطَبَةٌ بِالْهَاءِ (جَمِيعًا) فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْإِسْكَارَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ فَيَظُنُّ الشَّارِبُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِسْكَارِ وَهُوَ قَدْ بَلَغَهُ.

(وَالتَّمْرُ) بِفَوْقِيَّةٍ فَمِيمٍ (وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا)

ص: 266

لِاشْتِدَادِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ.

ص: 267

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُبَابِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُشْرَبَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا وَالزَّهْوُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا

قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1593 -

1536 - (مَالِكٌ عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ) قِيلَ بْنُ بُكَيْرٍ أَوْ ابْنُ لَهِيعَةَ، فَقَدْ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ (عَنْ بُكَيْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ) الْمَخْزُومِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ نَزِيلُ مِصْرَ ثِقَةٌ مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ بَعْدَهَا (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُبَابِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ (الْأَنْصَارِيِّ) السَّلَمِيِّ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ الْمَدَنِيِّ، تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الْحَارِثِ وَيُقَالُ عَمْرٌو أَوِ النُّعْمَانُ (الْأَنْصَارِيِّ) السَّلَمِيِّ بِفَتْحَتَيْنِ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْأَصَحِّ الْأَشْهَرِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُشْرَبَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ (التَّمْرُ) بِفَوْقِيَّةٍ وَمِيمٍ سَاكِنَةٍ (وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا) لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَشْتَدُّ بِهِ الْآخَرُ فَيُسْرِعُ الْإِسْكَارَ.

(وَالزَّهْوُ) وَهُوَ الْبُسْرُ الْمُلَوَّنُ (وَالرُّطَبُ جَمِيعًا) نَهْيَ كَرَاهَةٍ وَقِيلَ تَحْرِيمٍ لِإِسْرَاعِ الْإِسْكَارِ بِخَلْطِهِمَا فَقَدْ يَظُنُّ عَدَمَ بُلُوغِهِ الْإِسْكَارَ وَيَكُونُ قَدْ بَلَغَهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:" «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ» " وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ شَرِبَ مِنْكُمُ النَّبِيذَ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا فَرْدًا» " وَجَاءَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَحَادِيثُ الْبَابِ صَحِيحَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ تَلَقَّاهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ (قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا أَنَّهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ) فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ سَوَاءٌ نُبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ أَوْ نُبِذَا جَمِيعًا وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيُّ وَحُمِلَ النَّهْيُ عَلَى أَنَّهُ لِلسَّرَفِ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ.

ص: 267

[باب تَحْرِيمِ الْخَمْرِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «سُئِلَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِتْعِ فَقَالَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ

وَهِيَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ كَمَا خَطَبَ بِذَلِكَ عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ الْأَكَابِرِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَشَمِلَ كُلَّ مُسْكِرٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا تَخْمُرُ الْعَقْلَ أَيْ تُغَطِّيهِ وَتَسْتُرُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ غَطَّى شَيْئًا فَقَدْ خَمَرَهُ، كَخِمَارِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُغَطِّي رَأْسَهَا، وَيُقَالُ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الْخَمْرُ لِأَنَّهُ يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ أَوْ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أُدْرِكَتْ، كَمَا يُقَالُ خَمَرَ الرَّأْيُ وَاخْتَمَرَ أَيْ تُرِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ الْوَجْهُ، وَاخْتَمَرَ الْخُبْزُ إِذَا بَلَغَ إِدْرَاكَهُ، أَوْ لِأَنَّهَا اشْتُقَّتْ مِنَ الْمُخَامَرَةِ الَّتِي هِيَ الْمُخَالَطَةُ ; لِأَنَّهَا تُخَالِطُ الْعَقْلَ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرِ، لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أَدْرَكَتِ الْغَلَيَانَ، وَحَّدَ الْإِسْكَارِ وَهِيَ مُخَالِطَةٌ لِلْعَقْلِ وَرُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ وَغَطَّتْهُ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.

1595 -

1537 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) إِسْمَاعِيلَ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ أَوِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِتْعِ» ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَتُفْتَحُ وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ وَقَدْ تُفْتَحُ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ شَرَابُ الْعَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ كَمَا زَادَهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ أَعْلَمُهُ فِي ذَلِكَ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ صَرِيحًا لَكِنِّي أَظُنُّهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْمَغَازِي عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا فَقَالَ مَا هِيَ؟ قَالَ: الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ( «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ) عُمُومُهُ شَامِلٌ لِمَا اتُّخِذَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَمِنْ غَيْرِهِ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِذَا خَرَجَ الْخَبَرُ بِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ عَلَى شَرَابِ الْعَسَلِ فَكُلُّ مُسْكِرٍ مِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ ; وَلِذَا قَالَ عُمَرُ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ.

وَقَالَ فِي الْفَتْحِ: يُؤْخَذُ مِنْ لَفْظِ السُّؤَالِ أَنَّهُ وَقَعَ عَنْ حُكْمِ جِنْسِ الْبِتْعِ لَا عَنِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ ; لِأَنَّ السَّائِلَ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ أَخْبِرْنِي عَمَّا يَحِلُّ مِنْهُ وَمَا يَحْرُمُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ إِذَا سَأَلُوا عَنِ الْجِنْسِ قَالُوا: هَلْ هَذَا نَافِعٌ أَوْ ضَارٌّ مَثَلًا؟ وَإِذَا سَأَلُوا عَنِ الْقَدْرِ قَالُوا: كَمْ يُؤْخَذُ مِنْهُ؟ وَفِيهِ

ص: 268

أَنَّ الْمُفْتِيَ يُجِيبُ السَّائِلَ بِزِيَادَةٍ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ، وَتَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ سَوَاءٌ اتُّخِذَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ غَيْرِهِ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ حَلَالٌ، وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ حُرِّمَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، ثُمَّ إِنْ حَصَلَ لَهُ تَخَلُّلٌ بِنَفْسِهِ حَلَّ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، فَوَقَعَ النَّظَرُ فِي تَبَدُّلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ هَذِهِ الْمُحَدَّدَاتِ فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الْإِسْكَارُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرَابٍ وُجِدَ فِيهِ الْإِسْكَارُ حَرَّمَ الرَّاوِي قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَهَذَا الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ الْمَازِرِيُّ ثَبَتَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» " وَفِي ذَلِكَ جَوَازُ الْقِيَاسِ بِاطِّرَادِ الْعِلَّةِ فَتَحْرُمُ جَمِيعُ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْجُمْهُورُ.

وَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ فِي قِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ وَالْإِطْرَابِ مِنْ أَجَلِّ الْأَقْيِسَةِ وَأَوْضَحِهَا وَالْمُقَايَسَةُ الَّتِي فِي الْخَمْرِ تُوجَدُ فِي النَّبِيذِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِذَةِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ حَرُمَ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ حَتَّى يَسْكَرَ وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَأَمَّا الَّذِي فِي مَاءِ الْعِنَبِ فَحَرَامٌ وَيُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَضْمُونُهَا أَنَّ الْمُسْكِرَ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ، وَيَكْفِي ذَلِكَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَقَدْ قَالَ جَابِرٌ: حُرِّمْتُ الْخَمْرُ يَوْمَ حَرُمَتْ وَمَا كَانَ شُرْبُ النَّاسِ إِلَّا الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ.

وَقَالَ مَالِكٌ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِالْمَدِينَةِ خَمْرٌ مِنْ عِنَبٍ.

وَقَالَ الْحَكِيمِيُّ:

لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ

وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ

كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا وَفَاتَ

ثِمَارُهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ.

ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُنَّةٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا حُجَّةَ لِلْمُخَالِفِ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» " لِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَفِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ.

وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَقَدْ رَجَّحَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ بِلَفْظِ وَالْمُسْكِرُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ لَا السُّكْرُ بِضَمِّ السِّينِ أَوْ بِفَتْحَتَيْنِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَهُوَ حَدِيثُ فَرْدٍ وَلَفْظُهُ مُحْتَمَلٌ فَكَيْفَ يُعَارِضُ عُمُومَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَصِحَّتِهَا؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 269

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْغُبَيْرَاءِ فَقَالَ لَا خَيْرَ فِيهَا وَنَهَى عَنْهَا» قَالَ مَالِكٌ فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ مَا الْغُبَيْرَاءُ فَقَالَ هِيَ الْأُسْكَرْكَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1596 -

1538

ص: 269

- (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) مُرْسَلًا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَكَرَ ابْنُ شَعْبَانَ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ أَسْنَدَهُ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالَّذِي عِنْدَنَا فِي مُوَطَّأِ ابْنِ الْقَاسِمِ مُرْسَلًا كَالْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَحْدَهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْغُبَيْرَاءِ» ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ فِرَاءٍ فَأَلْفٍ مَمْدُودَةٍ نَبِيذُ الذُّرَةِ، وَقِيلَ نَبِيذُ الْأَرُزِّ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عُمَرَ (فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهَا) لِأَنَّهَا مُسْكِرَةٌ (وَنَهَى عَنْهَا) تَحْرِيمًا.

(قَالَ مَالِكٌ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ مَا الْغُبَيْرَاءُ؟ فَقَالَ: هِيَ الْأُسْكَرْكَةُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَكَافَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ هَاءٌ، وَفِي نُسْخَةٍ السَّكْرَكَةُ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ الْأُولَى وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالْكَافِ الثَّانِيَةِ وَبِالْهَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ:" «إِيَّاكُمْ وَالْغُبَيْرَاءَ فَإِنَّهَا خَمْرُ الْأَعَاجِمِ» " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ ضَرْبٌ مِنَ الشَّرَابِ يَتَّخِذُهُ الْحَبَشُ مِنَ الذُّرَةِ يُسْكِرُ وَيُقَالُ لَهَا السَّكْرَكَةُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: " أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ فَخَطَبَ بِذَلِكَ بِحُضُورِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، لِأَنَّهُ خَبَرُ صَحَابِيٍّ شَهِدَ التَّنْزِيلَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعَصِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ» " فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّفْعِ، وَعَدَّ عُمَرُ الْخَمْسَةَ لِاشْتِهَارِ أَسْمَائِهَا فِي زَمَنِهِ وَجَعَلَ مَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ أَرُزٍّ وَغَيْرِهِ خَمْرًا إِذْ رُبَّمَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ.

ص: 270

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1597 -

1539 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا) أَيْ عَنْ شُرْبِهَا حَتَّى مَاتَ وَفِي لَفْظِ ثُمَّ إِشْعَارٌ بِأَنَّ تَرَاخِي التَّوْبَةِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَهَا مَا لَمْ يُغَرْغِرْ (حُرِمَهَا) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْخَفِيفَةِ مِنَ الْحِرْمَانِ أَيْ مُنِعَ مِنْ شُرْبِهَا (فِي الْآخِرَةِ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ:

ص: 270

" فَمَاتَ وَهُوَ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ " قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَشْرَبُهَا فِي الْجَنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أُمِرَ بِتَأْخِيرِهِ وَوُعِدَ بِهِ، فَحُرِمَهُ عِنْدَ مِيقَاتِهِ كَالْوَارِثِ إِذَا قَتَلَ مَوْرُثَهُ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ مِيرَاثَهُ لِاسْتِعْجَالِهِ، وَبِهَذَا قَالَ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَوْضِعُ احْتِمَالٍ وَتَوَقُّفٍ وَإِشْكَالٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَقُولُ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ يُحْرَمُ ذَلِكَ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِذَا لَمْ يَتُبْ لِاسْتِعْجَالِ مَا أَخَّرَ اللَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَارْتِكَابِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ» " قَالَ: فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ إِنْ كَانَ كُلُّهُ مَرْفُوعًا، وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مُدْرَجَةً مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فَهُوَ أَعْرَفُ بِالْحَدِيثِ، وَأَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيثَ مُؤَوَّلٌ عَلَى حِرْمَانِهِ وَقْتَ تَعْذِيبِهِ فِي النَّارِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ أَوْ بِالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُحْرَمْ شَيْئًا مِنْهَا لَا خَمْرًا وَلَا حَرِيرًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ حِرْمَانَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ فِي الْجَنَّةِ يُعَدُّ عُقُوبَةً وَمُؤَاخَذَةً، وَالْجَنَّةُ لَيْسَتْ بِدَارِ عُقُوبَةٍ وَلَا مُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَهِي ذَلِكَ كَمَا لَا يَشْتَهِي مَنْزِلَةَ مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ عُقُوبَةً انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ، مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُهَا وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِيهَا إِلَّا إِنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، فَالْمَعْنَى جَزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ أَنْ يُحْرَمَهَا لِحِرْمَانِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ إِلَّا إِنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَجَائِزٌ أَنْ يَدْخُلَهَا بِالْعَفْوِ ثُمَّ لَا يَشْرَبُ فِيهَا خَمْرًا وَلَا تَشْتَهِيهَا نَفْسُهُ وَإِنْ عَلِمَ وَجُودَهُ فِيهَا، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ مَنْ يَشْرَبُهَا مُسْتَحِلًّا فَهُوَ الَّذِي لَا يَشْرَبُهَا أَصْلًا ; لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَبَيْنَ مَنْ يَشْرَبُهَا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهَا فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، فَقِيلَ إِنَّهُ الَّذِي يُحْرَمُ شُرْبَهَا مُدَّةً وَلَوْ حَالَ تَعْذِيبِهِ إِنْ عُذِّبَ أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُ إِنْ جُوزِيَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَذْكُورَ يَقْتَضِي الْعُقُوبَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ لِمَانِعٍ كَالتَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الَّتِي تُوزَنُ وَالْمَصَائِبِ الَّتِي تُكَفَّرُ، وَكَدُعَاءِ الْوَلَدِ بِشَرَائِطِ ذَلِكَ، وَكَذَا شَفَاعَةُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عَفْوُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ: أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ مُكَفِّرَةٌ لَهُ.

وَبِهِ صَرَّحَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْكُفْرِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَهَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ أَوْ مَظْنُونٌ قَوْلَانِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ مَنِ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ قُرْآنًا وَسُنَّةً عَلِمَ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الصَّادِقِينَ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى

ص: 271

النَّيْسَابُورِيِّ وَالْقَعْنَبِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَأَيُّوبُ وَشُعْبَةُ عَنْ نَافِعٍ بِنَحْوِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

ص: 272

[باب جَامِعِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ «أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَمَّا يُعْصَرُ مِنْ الْعِنَبِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا قَالَ لَا فَسَارَّهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِمَ سَارَرْتَهُ فَقَالَ أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَزَادَتَيْنِ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ جَامِعِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ

1598 -

1540 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ التَّابِعِيِّ (عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ (الْمِصْرِيِّ) التَّابِعِيِّ الصَّدُوقِ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ السَّبَائِيِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ (أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْدَى رَجُلٌ) هُوَ كَيْسَانُ الثَّقَفِيُّ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِهِ (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خَمْرٍ) أَيْ مَزَادَةً وَأَصْلُ الرَّاوِيَةِ الْبَعِيرُ يَحْمِلُ الْمَاءَ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ أُطْلِقَتِ الرَّاوِيَةُ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ يُحْمَلُ عَلَيْهَا الْمَاءُ ثُمَّ عَلَى الْمَزَادَةِ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ كَيْسَانَ:" «أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي الْخَمْرِ وَأَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُكَ بِشَرَابٍ جَيِّدٍ» ".

وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَدِيقٌ مِنْ ثَقِيفٍ أَوْ دَوْسٍ فَلَقِيَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِرَاوِيَةِ خَمْرٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ» (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا) بِالْفَتْحِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ وَلِابْنِ وَهْبٍ هَلْ (عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا) بِآيَةِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إِلَى {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 90)(قَالَ لَا) أَيْ لَمْ أَعْلَمْ بِذَلِكَ (فَسَارَّهُ) بِالتَّثْقِيلِ (رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ عَلَى غُلَامِهِ فَقَالَ: بِعْهَا.

وَلِابْنِ وَهْبٍ: فَسَارَّ إِنْسَانًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِمَ سَارَرْتَهُ؟) بِأَيِّ شَيْءٍ كَلَّمْتَهُ سِرًّا؟ أَيْ خُفْيَةً (قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا) لِيَنْتَفِعَ بِحَقِّهَا (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ) اللَّهَ (الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا) لِأَنَّهُ قَالَ: رِجْسٌ أَيْ نَجَسٌ وَهُوَ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى شُرْبِهَا.

وَفِي حَدِيثِ كَيْسَانَ قَالَ: إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ وَحُرِّمَ

ص: 272

ثَمَنُهَا.

(فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَزَادَتَيْنِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزَّايِ، تَثْنِيَةُ مَزَادَةِ الْقِرْبَةِ ; لِأَنَّهُ يَتَزَوَّدُ فِيهَا الْمَاءُ (حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا) مِنَ الْخَمْرِ.

فَفِيهِ وُجُوبُ إِرَاقَتِهِ لِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّجُلَ الْمُهْدِي رَاوِيَةَ الْخَمْرِ لَقِيَهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِ أَنَّهُ «كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ حُرِّمَتْ جَاءَ بِرَاوِيَتِهِ فَقَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَبِيعُهَا وَأَنْتَفِعُ بِحَقِّهَا؟ فَنَهَاهُ» ، فَفِي هَذَا تَأْيِيدُ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ إِسْلَامَ تَمِيمٍ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ.

وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتْ:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 219) فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً فَنَزَلَتْ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 43) فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ إِلَى قَوْلِهِ:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91](سورة الْمَائِدَةِ الْآيَةُ 91) قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا.

صَحَّحَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ انْتَهَى.

وَبِحَدِيثِ عُمَرَ قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِاحْتِمَالِ أَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ كَانَتْ فِي سَنَةٍ مِنْهَا.

وَزَعَمَ مُغَلْطَايُ أَنَّهَا حُرِّمَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ.

وَالْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ عَقِبَ قَوْلِ حَمْزَةَ: إِنَّمَا أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِأَبِي يَعْنِي سَنَةَ اثْنَيْنِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ: اصْطَبَحَ الْخَمْرَ نَاسٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَقُتِلُوا مِنْ يَوْمِهِمْ جَمِيعًا شُهَدَاءَ.

ثُمَّ احْذَرْ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِهْدَاءِ الرَّاوِيَةِ إِلَيْهِ كُلَّ عَامٍ قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَنْ يَشْرَبَ بَلْ يُهْدِيهَا أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ عَمَّا يُخَالِفُ شَرْعَهُ، وَهُوَ لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ الْمُحْضَرَ مِنَ الْجَنَّةِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الْبَيْعِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي وَعْلَةَ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا.

ص: 273

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَأَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ قَالَ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا قَالَ فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1599 -

1541 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٍ حُجَّةٍ، أَبِي يَحْيَى مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ بَعْدَهَا (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ) عَامِرَ (ابْنَ الْجَرَّاحِ) أَحَدَ الْعَشَرَةِ (وَأَبَا طَلْحَةَ) زَيْدَ بْنَ سَهْلٍ (الْأَنْصَارِيَّ) زَوْجَ أُمِّ

ص: 273

أَنَسٍ وَجَدَّ إِسْحَاقَ (وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ) سَيِّدَ الْقُرَّاءِ وَكَبِيرَ الْأَنْصَارِ وَعَالِمَهُمْ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَأَبَا دُجَانَةَ وَسُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا أَيُّوبَ (شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ، وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ شَرَابٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْبُسْرِ الْمَنْضُوخِ وَهُوَ الْمَشْدُوخُ.

(وَتَمْرٍ) بِفَوْقِيَّةٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قَزَعَةَ مِنْ فَضِيخٍ وَهُوَ تَمْرٌ، وَلِإِسْمَاعِيلَ مِنْ خَمْرٍ فَضِيخٍ، وَزَهْوٍ بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْهَاءِ فَوَاوٍ أَيْ مَشْدُوخِ بُسْرٍ.

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَسْقِيهِمْ مِنْ مَزَادَةٍ فِيهَا خَلِيطُ بُسْرٍ وَتَمْرٍ.

وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ.

وَلِأَحْمَدَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ يَأْخُذُ فِيهِمْ.

وَلِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ: حَتَّى مَالَتْ رُؤُوسُهُمْ.

(قَالَ) أَنَسٌ (فَجَاءَهُمْ آتٍ) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ (فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ) لِرَبِيبِهِ السَّاقِي (يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ جَرَّةٍ الَّتِي فِيهَا الشَّرَابُ الْمَذْكُورُ (فَاكْسِرْهَا قَالَ) أَنَسٌ: (فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ فَرَاءٍ فَأَلِفٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، حَجَرٍ مُسْتَطِيلٍ يُنْقَرُ وَيُدَقُّ فِيهِ وَيُتَوَضَّأُ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِلْخَشَبَةِ الَّتِي يُدَقُّ فِيهَا الْحَبُّ فَقِيلَ لَهَا مِهْرَاسٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمِهْرَاسِ مِنَ الْحَجَرِ أَوِ الصُّفْرِ الَّذِي يُهْرَسُ فِيهِ الْحُبُوبُ وَغَيْرُهَا.

(فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ) وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلَا رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ.

وَفِيهِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا بِهِ نَسْخَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ مُبَاحًا حَتَّى قَدِمُوا مِنْ أَجْلِهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ صَبِّ الْخَمْرِ وَكَسْرِ أَوَانِيهِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَشْرِبَةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَفِي خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا الْحَدِيثُ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ يَدْخُلُ فِي الْمُسْنَدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

ص: 274

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ شَكَا إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وَبَاءَ الْأَرْضِ وَثِقَلَهَا وَقَالُوا لَا يُصْلِحُنَا إِلَّا هَذَا الشَّرَابُ فَقَالَ عُمَرُ اشْرَبُوا هَذَا الْعَسَلَ قَالُوا لَا يُصْلِحُنَا الْعَسَلُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ هَلْ لَكَ أَنْ نَجْعَلَ لَكَ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ شَيْئًا لَا يُسْكِرُ قَالَ نَعَمْ فَطَبَخُوهُ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَبَقِيَ الثُّلُثُ فَأَتَوْا بِهِ عُمَرَ فَأَدْخَلَ فِيهِ عُمَرُ إِصْبَعَهُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ فَتَبِعَهَا يَتَمَطَّطُ فَقَالَ هَذَا الطِّلَاءُ هَذَا مِثْلُ طِلَاءِ الْإِبِلِ فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يَشْرَبُوهُ فَقَالَ لَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَحْلَلْتَهَا وَاللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ كَلَّا وَاللَّهِ اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ شَيْئًا حَرَّمْتَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا أُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا أَحْلَلْتَهُ لَهُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1600 -

1542 - (مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ الْأُمَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ (عَنْ وَاقِدٍ) بِالْقَافِ (ابْنِ عُمَرَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) الْأَنْصَارِيِّ الْأَشْهَلِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ

ص: 274

الْمَدَنِيِّ، الثِّقَةُ التَّابِعِيُّ الصَّغِيرُ مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ (الْأَنْصَارِيِّ) الْأَوْسِيِّ الْأَشْهَلِيِّ، صَحَابِيٍّ صَغِيرٍ وَجُلُّ رِوَايَتِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَلَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ) فِي خِلَافَتِهِ (شَكَا إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وَبَاءَ الْأَرْضِ) أَيْ مَرَضَ أَرْضِهِمُ الْعَامَّ (وَثِقَلَهَا) بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْقَافِ ضِدَّ الْخِفَّةِ (وَقَالُوا لَا يُصْلِحُنَا إِلَّا هَذَا الشَّرَابُ، فَقَالَ عُمَرُ: اشْرَبُوا هَذَا الْعَسَلَ) النَّحْلَ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً (فَقَالُوا لَا يُصْلِحُنَا الْعَسَلُ) لَا يُوَافِقُ أَمْزِجَتَنَا (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ) يَعْنِي أَرْضَ الشَّامِ: (هَلْ لَكَ) رَغْبَةٌ فِي (أَنْ نَجْعَلَ لَكَ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ شَيْئًا لَا يُسْكِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَطَبَخُوهُ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَبَقِيَ الثُّلُثُ فَأَتَوْا بِهِ عُمَرَ) لِيَعْرِضُوهُ عَلَيْهِ (فَأَدْخَلَ عُمَرُ فِيهِ إِصْبَعَهُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ فَتَبِعَهَا يَتَمَطَّطُ) يَتَمَدَّدُ (فَقَالَ: هَذَا الطِّلَاءُ) بِالْمَدِّ مَا يُطْبَخُ مِنَ الْعَصِيرِ حَتَّى يَغْلُظَ (هَذَا مِثْلُ طِلَاءِ الْإِبِلِ) أَيِ الْقَطِرَانِ الَّذِي يُطْلَى بِهِ جَرَبُهَا (فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يَشْرَبُوهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مُسْكِرًا (فَقَالَ لَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) أَحَدُ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ (أَحْلَلْتَهَا وَاللَّهِ) أَيِ الْخَمْرَ (فَقَالَ عُمَرُ: كَلَّا) رَدْعٌ أَيِ انْزَجِرْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ (وَاللَّهِ) لَمْ أُحَلِّلْهَا لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ حِينَئِذٍ أَدَّاهُ إِلَى جَوَازِ مَا لَا يُسْكِرُ.

(اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ شَيْئًا حَرَّمْتَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا أُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا أَحْلَلْتَهُ لَهُمْ) وَكَأَنَّ عُمَرَ اجْتَهَدَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَحَدَّ ابْنَهُ فِي شُرْبِ الطِّلَاءِ كَمَا مَرَّ.

ص: 275

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نَبْتَاعُ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ فَنَعْصِرُهُ خَمْرًا فَنَبِيعُهَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتَهُ وَمَنْ سَمِعَ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَنِّي لَا آمُرُكُمْ أَنْ تَبِيعُوهَا وَلَا تَبْتَاعُوهَا وَلَا تَعْصِرُوهَا وَلَا تَشْرَبُوهَا وَلَا تَسْقُوهَا فَإِنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1600 -

1543 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ

ص: 275

الْعِرَاقِ) الْإِقْلِيمِ الْمَعْرُوفِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، قِيلَ هُوَ مُعَرَّبٌ وَقِيلَ سُمِّيَ عِرَاقًا لِأَنَّهُ سَفَلَ عَنْ نَجْدٍ وَدَنَا مِنَ الْبَحْرِ أَخْذًا مِنْ عِرَاقِ الْقِرْبَةِ وَالْمَزَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ مَا ثُنِّيَ ثُمَّ خُرِزَ مَثْنِيًّا (قَالُوا لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةُ ابْنِ عُمَرَ (إِنَّا نَبْتَاعُ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ فَنَعْصِرُهُ خَمْرًا فَنَبِيعُهَا) فَهَلْ ذَلِكَ حَرَامٌ أَمْ لَا؟ وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ.

(فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتَهُ وَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أَتَى بِذَلِكَ لِزِيَادَةِ الزَّجْرِ وَالتَّهْوِيلِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا (إِنِّي لَا آمُرُكُمْ أَنْ تَبِيعُوهَا وَلَا تَبْتَاعُوهَا) تَشْتَرُوهَا (وَلَا تَعْصِرُوهَا وَلَا تَشْرَبُوهَا وَلَا تَسْقُوهَا) غَيْرَكُمْ (فَإِنَّهَا رِجْسٌ) خَبَثٌ مُسْتَقْذَرٌ (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) الَّذِي يُوَسْوِسُ.

511 -

1 1.

ص: 276

[كِتَاب الْعُقُولِ]

[باب ذِكْرِ الْعُقُولِ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْعُقُولِ باب ذِكْرِ الْعُقُولِ

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْعُقُولِ أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِيَ جَدْعًا مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَفِي الْجَائِفَةِ مِثْلُهَا وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

43 -

كِتَابُ الْعُقُولِ

جَمْعُ عَقْلٍ، يُقَالُ عَقَلْتُ الْقَتِيلَ عَقْلًا أَدَّيْتُ دِيَتَهُ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سُمِّيَتِ الدِّيَةُ عَقْلًا تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ ; لِأَنَّ الْإِبِلَ كَانَتْ تُعْقَلُ بِفِنَاءِ وَلِيِ الْقَتِيلِ ثُمَّ كَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى أُطْلِقَ الْعَقْلُ عَلَى الدِّيَةِ إِبِلًا كَانَتْ أَوْ نَقْدًا.

1 -

بَابُ ذِكْرِ الْعُقُولِ

أَخَّرَ الْبَسْمَلَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ التَّرْجَمَةَ بِكِتَابٍ كَالْعُنْوَانِ، فَالْمَقْصُودُ بِالْبَدَاءَةِ بِهِ مَا بَعْدَهَا فَجَعَلَ الْبَسْمَلَةَ أَوَّلَهُ، وَكَثِيرًا مَا يُقَدِّمُ الْبَسْمَلَةَ عَلَى كِتَابٍ نَظَرًا إِلَى الْبَدْءِ الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ تَفَنُّنٌ لَطِيفٌ وَقَدَّمْتُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.

1601 -

1544 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ قَاضِيهَا (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرٍ اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ وَاحِدٌ، وَقِيلَ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَرُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ صَالِحٍ، وَرُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ (أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمِ) بْنِ لَوْذَانَ الْأَنْصَارِيِّ النَّجَّارِيِّ شَهِدَ الْخَنْدَقَ وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ عَامِلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَجْرَانَ مَاتَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ (فِي الْعُقُولِ) أَيِ الدِّيَاتِ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ فِيهِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفِقْهِ فِي الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ وَالْأَحْكَامِ، وَذِكْرِ الْكَبَائِرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَأَحْكَامِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ

ص: 277

وَالِاحْتِبَاءِ فِيهِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَدِمَ بِهِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إِلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كَلَالٍ وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كَلَالٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كَلَالٍ، قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِيرَ وَهَمْدَانَ، أَمَّا بَعْدُ» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِيهِ: (أَنَّ فِي) قَتْلِ (النَّفْسِ) خَطَأً (مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ) عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ وَفِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: (وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ أَيْ أُخِذَ كُلُّهُ (جَدْعًا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَتَيْنِ أَيْ قَطْعًا، وَوَعَى وَاسْتَوْعَى لُغَةً الِاسْتِيعَابُ وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ كُلِّهِ، وَرُوِيَ وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِيَتْ جَدْعَةً، وَيُرْوَى اسْتُوعِبَ أَيِ اسْتُؤْصِلَ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ (مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ) عَلَى أَهْلِهَا، وَفِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ.

(وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) قِيلَ لَهَا مَأْمُومَةٌ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ فِي الْأَصْلِ، وَجَمْعُهَا عَلَى لَفْظِهَا مَأْمُومَاتٌ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ وَهِيَ أَشَدُّ الشِّجَاجِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَصَاحِبُهَا يُصْعَقُ لِصَوْتِ الرَّعْدِ وَلِرُغَاءِ الْإِبِلِ، وَلَا يُطِيقُ الْبُرُوزَ فِي الشَّمْسِ، وَتُسَمَّى أَيْضًا آمَةٌ وَجَمْعُهَا أُوَامٌ مِثْلُ دَابَّةٍ وَدَوَابٍّ.

(وَفِي الْجَائِفَةِ مِثْلُهَا) ثُلُثُ الدِّيَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ جَافَتْهُ تَجُوفُهُ إِذَا وَصَلَتْ لِجَوْفِهِ.

(وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ) مِنَ الْإِبِلِ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لِأَعْوَرَ.

(وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ) مِنَ الْإِبِلِ.

(وَفِي الرِّجْلِ) الْوَاحِدَةِ (خَمْسُونَ) مِنَ الْإِبِلِ.

(وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ) فِي يَدٍ أَوْ رِجْلٍ (عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ) يَتَعَلَّقُ بِهِ وَبِالثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِمُجِيزِهِ.

(وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ) مِنَ الْإِبِلِ أَضْرَاسٍ أَوْ ثَنَايَا أَوْ رُبَاعِيَّاتٍ.

(وَفِي الْمُوضِحَةِ) الشَّجَّةِ الَّتِي تَكْشِفُ الْعَظْمَ (خَمْسٌ) مِنَ الْإِبِلِ.

ص: 278

[باب الْعَمَلِ فِي الدِّيَةِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَالَ مَالِكٌ فَأَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْطَعُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّلَاثُ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ الذَّهَبُ وَلَا الْوَرِقُ وَلَا مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ الْوَرِقُ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ الذَّهَبُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ الْعَمَلِ فِي الدِّيَةِ

1545 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ) أَيْ مَنْ يَغْلِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي قُرَاهُمْ (اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ) فِضَّةً.

(قَالَ مَالِكٌ: فَأَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ، وَأَهْلُ مِصْرَ) وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ (وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ) وَمَنْ وَالَاهُمْ.

(مَالِكٌ: أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْطَعُ) أَيْ تُنَجَّمُ (فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ) رِفْقًا بِالْعَاقِلَةِ (قَالَ مَالِكٌ: وَالثَّلَاثُ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) مِنَ الْأَرْبَعِ (وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.

(وَلَا مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ الذَّهَبُ وَلَا الْوَرِقُ) لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ عَلَيْهِمُ الْإِبِلُ.

(وَلَا مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ الْوَرِقُ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ الذَّهَبُ) فَإِنَّمَا يُقْبَلُ مِنْ كُلٍّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ.

ص: 279

[باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ وَجِنَايَةِ الْمَجْنُونِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَانَ يَقُولُ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ وَجِنَايَةِ الْمَجْنُونِ

1603 -

1546 - (مَالِكٌ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَانَ يَقُولُ فِي دِيَةِ) الْقَتْلِ (الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ) أَيْ رَضِيَ بِهَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ بِأَنْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ (خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ الْخَفِيفَةِ فَمُعْجَمَةٍ أَتَى عَلَيْهَا حَوْلٌ وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِي وَحَمَلَتْ أُمُّهَا، وَالْمَخَاضُ الْحَامِلُ أَيْ دَخَلَ وَقْتُ حَمْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ.

(وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ) وَهِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ فَصَارَتْ أُمُّهَا لَبَوْنًا بِوَضْعِ حَمْلِهَا.

(وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْقَافِ وَهِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ.

(وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا جَذَعَتْ أَيْ أَسْقَطَتْ مُقَدَّمَ أَسْنَانِهَا.

ص: 280

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ أُتِيَ بِمَجْنُونٍ قَتَلَ رَجُلًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ اعْقِلْهُ وَلَا تُقِدْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَجْنُونٍ قَوَدٌ

قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ إِذَا قَتَلَا رَجُلًا جَمِيعًا عَمْدًا أَنَّ عَلَى الْكَبِيرِ أَنْ يُقْتَلَ وَعَلَى الصَّغِيرِ نِصْفُ الدِّيَةِ قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ يَقْتُلَانِ الْعَبْدَ فَيُقْتَلُ الْعَبْدُ وَيَكُونُ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَتِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1604 -

1547 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ) أَمِيرَ الْمَدِينَةِ (كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ) صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ كِتَابًا وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِ بِالشَّامِ (أَنَّهُ أُتِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بِمَجْنُونٍ قَتَلَ رَجُلًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ اعْقِلْهُ) بِهَمْزَةِ وَصْلِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْقَافِ احْبِسْهُ بِالْعِقَالِ الْقَيْدِ (وَلَا تُقِدْ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ (مِنْهُ) أَيْ لَا تَقْتَصَّ مِنْ أَقَادَ الْأَمِيرُ الْقَاتِلَ بِالْقَتِيلِ قَتَلَهُ بِهِ (فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَجْنُونٍ قَوَدٌ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ قِصَاصٌ لِحَدِيثِ: " «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» مِنْهَا الْمَجْنُونُ حَتَّى يَبْرَأَ ".

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ إِذَا قَتَلَا رَجُلًا جَمِيعًا عَمْدًا أَنَّ عَلَى الْكَبِيرِ أَنْ يُقْتَلَ) قِصَاصًا (وَعَلَى الصَّغِيرِ نِصْفُ الدِّيَةِ) وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُ.

ص: 280

(وَكَذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ يَقْتُلَانِ الْعَبْدَ) أَيِ الرَّقِيقَ عَمْدًا (فَيُقْتَلُ الْعَبْدُ) لِمُسَاوَاتِهِ لِلْمَقْتُولِ (وَيَكُونُ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَتِهِ) وَلَوْ زَادَتْ عَلَى الدِّيَةِ وَلَا يُقْتَلُ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.

ص: 281

[باب دِيَةِ الْخَطَإِ فِي الْقَتْلِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ أَجْرَى فَرَسًا فَوَطِئَ عَلَى إِصْبَعِ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ فَنُزِيَ مِنْهَا فَمَاتَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلَّذِي ادُّعِيَ عَلَيْهِمْ أَتَحْلِفُونَ بِاللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا مَاتَ مِنْهَا فَأَبَوْا وَتَحَرَّجُوا وَقَالَ لِلْآخَرِينَ أَتَحْلِفُونَ أَنْتُمْ فَأَبَوْا فَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِشَطْرِ الدِّيَةِ عَلَى السَّعْدِيِّينَ قَالَ مَالِكٌ وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1605 -

1548 4 - بَابُ دِيَةِ الْخَطَأِ فِي الْقَتْلِ

- (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ عِرَاكٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ فَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ خَفِيفَةٍ فَأَلِفٍ وَكَافٍ (ابْنِ مَالِكٍ) الْغِفَارِيِّ الْكِنْدِيِّ الْمَدَنِيِّ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ الْفَاضِلِ مَاتَ بَعْدَ الْمِائَةِ.

(وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ يُسَمَّ (مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثِ) بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كِنَانَةَ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ السَّعْدِيُّ (أَجْرَى) بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْجِيمِ (فَرَسًا فَوَطِئَ) مَشَى (عَلَى أُصْبُعِ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ قَبِيلَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ (فَنُزِيَ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ كَعُنِيَ نَزَفَ أَيْ خَرَجَ الدَّمُ بِكَثْرَةٍ مِنْهَا (فَمَاتَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلَّذِي ادُّعِىَ عَلَيْهِمْ) أَيْ أَوْلِيَاءُ الَّذِي أَجْرَى: (أَتَحْلِفُونَ بِاللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا مَاتَ مِنْهَا؟) أَيْ مِنَ الْفِعْلَةِ الْمَذْكُورَةِ (فَأَبَوْا) أَنْ يَحْلِفُوا (وَتَحَرَّجُوا) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا جَانَبُوا بِهِ الْحَرَجَ وَهُوَ الْإِثْمُ، فَهَذَا مِمَّا وَرَدَ لَفْظُهُ مُخَالِفًا لِمَعْنَاهُ كَمُتَأَثِّمٍ تَحَنَّثَ تَحَرَّجَ.

(فَقَالَ لِلْآخَرِينَ) الْجُهَنِيِّينَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ (أَتَحْلِفُونَ أَنْتُمْ) أَنَّهُ مَاتَ مِنْهَا؟ (فَأَبَوْا) امْتَنَعُوا مِنَ الْحَلِفِ (فَقَضَى عُمَرُ بِشَطْرِ) أَيْ نِصْفِ (الدِّيَةِ عَلَى السَّعْدِيِّينَ) عَاقِلَةِ الَّذِي أَجْرَى.

(قَالَ مَالِكٌ وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا) الْمَذْكُورِ مِنَ الْقَضَاءِ بِشَطْرِ الدِّيَةِ وَتَبْدِيَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِالْحَلِفِ

ص: 281

وَالْمَصِيرُ إِلَى الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَبْدِيَةِ الْمُدَّعِينَ فِي الْقَسَامَةِ أَوْلَى فِي الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِ الصَّاحِبِ، وَيُعَضِّدُهُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِيِّينَ عَلَيْهِ كَمَا يَأْتِي بَسْطُهُ.

ص: 282

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ وَرَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانُوا يَقُولُونَ دِيَةُ الْخَطَإِ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا قَوَدَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَإِنَّ عَمْدَهُمْ خَطَأٌ مَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ وَيَبْلُغُوا الْحُلُمَ وَإِنَّ قَتْلَ الصَّبِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا خَطَأً وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ صَبِيًّا وَكَبِيرًا قَتَلَا رَجُلًا حُرًّا خَطَأً كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ قُتِلَ خَطَأً فَإِنَّمَا عَقْلُهُ مَالٌ لَا قَوَدَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ مَالِهِ يُقْضَى بِهِ دَيْنُهُ وَتَجُوزُ فِيهِ وَصِيَّتُهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ تَكُونُ الدِّيَةُ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ عَفَا عَنْ دِيَتِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُ دِيَتِهِ جَازَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ إِذَا عَفَا عَنْهُ وَأَوْصَى بِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1605 -

1549 - (مَالِكٌ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ وَرَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانُوا يَقُولُونَ: دِيَةُ الْخَطَأِ) عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ مُخَمَّسَةٌ (عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ) وَبِنْتَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَابْنَ بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ لِلْعَدَدِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(ذَكَرًا) بِالنَّصْبِ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ ابْنٍ لَا يَكُونُ إِلَّا ذَكَرًا ; لِأَنَّ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا يُطْلَقُ عَلَى ذَكَرِهِ وَأُنْثَاهُ لَفْظُ ابْنٍ، كَابْنِ عُرْسٍ وَابْنِ آوَى، أَوْ مُجَرَّدُ التَّأَكُّدِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَـ (غَرَابِيبُ سُودٌ) ، أَوِ احْتِرَازٌ عَنِ الْخُنْثَى، وَفِيهِ بُعْدٌ (وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) بِخِلَافِ دِيَةِ الْعَمْدِ فَمُرَبَّعَةٌ بِحَذْفِ ابْنِ لَبُونٍ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا.

(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا قَوَدَ) أَيْ قِصَاصَ (وَأَنَّ عَمْدَهُمْ خَطَأٌ) أَيْ كَالْخَطَأِ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ (مَا) أَيْ مُدَّةَ كَوْنِهِمْ صِبْيَانًا (لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ وَ) لَمْ (يَبْلُغُوا الْحُلُمَ وَإِنَّ قَتْلَ الصَّبِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا خَطَأً) أَيْ لَا يُعْطَى إِلَّا حُكْمَهُ (وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ صَبِيًّا وَكَبِيرًا قَتَلَا رَجُلًا حُرًّا خَطَأً كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ) وَقَدَّمَ أَنَّ عَلَى الصَّبِيِّ فِي الْعَمْدِ إِذَا اشْتَرَكَ مَعَ كَبِيرٍ (وَمَنْ قُتِلَ خَطَأً فَإِنَّمَا عَقْلُهُ مَالٌ لَا قَوَدَ فِيهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 92) فَلَمْ يَذْكُرْ قَوَدًا (وَإِنَّمَا هُوَ) أَيِ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِي الْخَطَأِ (كَغَيْرِهِ مِنْ مَالِهِ) أَيِ الْقَتِيلِ (يُقْضَى بِهِ دَيْنُهُ وَتَجُوزُ فِيهِ وَصِيَّتُهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ

ص: 282

مَالٌ تَكُونُ الدِّيَةُ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ عُفِيَ عَنْ دِيَتِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دِيَتُهُ جَازَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ إِذَا عَفَا عَنْهُ وَأَوْصَى بِهِ) وَالثُّلُثَانِ لِوَرَثَتِهِ.

ص: 283

[باب عَقْلِ الْجِرَاحِ فِي الْخَطَإِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي الْخَطَإِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ وَيَصِحَّ وَأَنَّهُ إِنْ كُسِرَ عَظْمٌ مِنْ الْإِنْسَانِ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْجَسَدِ خَطَأً فَبَرَأَ وَصَحَّ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ فَلَيْسَ فِيهِ عَقْلٌ فَإِنْ نَقَصَ أَوْ كَانَ فِيهِ عَثَلٌ فَفِيهِ مِنْ عَقْلِهِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَظْمُ مِمَّا جَاءَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَقْلٌ مُسَمًّى فَبِحِسَابِ مَا فَرَضَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَأْتِ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَقْلٌ مُسَمًّى وَلَمْ تَمْضِ فِيهِ سُنَّةٌ وَلَا عَقْلٌ مُسَمًّى فَإِنَّهُ يُجْتَهَدُ فِيهِ قَالَ مَالِكٌ وَلَيْسَ فِي الْجِرَاحِ فِي الْجَسَدِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً عَقْلٌ إِذَا بَرَأَ الْجُرْحُ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ فَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَثَلٌ أَوْ شَيْنٌ فَإِنَّهُ يُجْتَهَدُ فِيهِ إِلَّا الْجَائِفَةَ فَإِنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ قَالَ مَالِكٌ وَلَيْسَ فِي مُنَقِّلَةِ الْجَسَدِ عَقْلٌ وَهِيَ مِثْلُ مُوضِحَةِ الْجَسَدِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا خَتَنَ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ إِنَّ عَلَيْهِ الْعَقْلَ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَطَإِ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَأَنَّ كُلَّ مَا أَخْطَأَ بِهِ الطَّبِيبُ أَوْ تَعَدَّى إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ فَفِيهِ الْعَقْلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ عَقْلِ الْجِرَاحِ فِي الْخَطَأِ

جَمْعُ جُرْحٍ وَهُوَ هُنَا مَا دُونَ النَّفْسِ.

- (مَالِكٌ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجْتَمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي الْخَطَأِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ) أَيْ لَا يُؤْخَذُ عَقْلُهُ أَيْ دِيَتُهُ (حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ وَيَصِحَّ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ الْجُرْحُ إِلَى الْمَوْتِ.

(وَأَنَّهُ إِنْ كُسِرَ عَظْمٌ مِنَ الْإِنْسَانِ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ خَطَأً فَبَرَأَ وَصَحَّ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ) لِصِفَتِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلُ (فَلَيْسَ فِيهِ عَقْلٌ، فَإِنْ نَقَصَ) أَيْ بَرِئَ عَلَى نَقْصٍ (أَوْ كَانَ فِيهِ عَثَلٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَلَامٍ أَيْ بَرِئَ اسْتِوَاءً (فَفِيهِ مِنْ عَقْلِهِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهُ.

قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَظْمُ مِمَّا جَاءَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَقْلٌ مُسَمًّى فَبِحِسَابِ مَا فَرَضَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَأْتِ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَقْلٌ مُسَمًّى وَلَمْ تَمْضِ فِيهِ سُنَّةٌ) طَرِيقَةٌ لِلسَّلَفِ (وَلَا عَقْلٌ مُسَمًّى فَإِنَّهُ يُجْتَهَدُ فِيهِ.

وَلَيْسَ فِي الْجِرَاحِ فِي الْجَسَدِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً عَقْلٌ إِذَا بَرِئَ الْجُرْحُ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ) الْأُولَى (فَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَثَلٌ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمُثَلَّثَةِ

ص: 283

عَدَمُ اسْتِوَاءٍ (أَوْ شَيْنٌ فَإِنَّهُ يُجْتَهَدُ فِيهِ إِلَّا الْجَائِفَةَ فَإِنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ) لِنَصِّ الْحَدِيثِ.

(وَلَيْسَ فِي مُنَقِّلَةِ الْجَسَدِ) بِكَسْرِ الْقَافِ الشَّدِيدَةِ وَفَتْحِهَا قِيلَ وَهُوَ أَوْلَى ; لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْأَجْرَاحِ وَهَكَذَا ضَبَطَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ، وَهِيَ الَّتِي يُنْقَلُ مِنْهَا فِرَاشُ الْعِظَامِ وَهِيَ مَا رَقَّ مِنْهَا، وَضَبَطَهُ الْفَارَابِيُّ وَالْجَوْهَرِيُّ بِالْكَسْرِ عَلَى إِرَادَةِ نَفْسِ الضَّرْبَةِ ; لِأَنَّهَا تَكْسِرُ الْعَظْمَ وَتَنْقُلُهُ (عَقْلٌ وَهِيَ مِثْلُ مُوضِحَةِ الْجَسَدِ) أَيْ لَا عَقْلَ فِيهَا.

(وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا خَتَنَ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ الْعَقْلَ) الدِّيَةَ كَامِلَةً (وَأَنَّ ذَلِكَ) الْفِعْلَ (مِنَ الْخَطَأِ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَأَنَّ كُلَّ مَا أَخْطَأَ بِهِ الطَّبِيبُ أَوْ تَعَدَّى إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ فِيهِ الْعَقْلُ) فَإِنْ تَعَمَّدَ فَالْقِصَاصُ.

ص: 284

[باب عَقْلِ الْمَرْأَةِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ إِصْبَعُهَا كَإِصْبَعِهِ وَسِنُّهَا كَسِنِّهِ وَمُوضِحَتُهَا كَمُوضِحَتِهِ وَمُنَقِّلَتُهَا كَمُنَقِّلَتِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ عَقْلِ الْمَرْأَةِ

1607 -

1550 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ) أَيْ تَسَاوِي دِيَتُهُ دِيَتَهَا (إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ إِصْبَعُهَا كَإِصْبَعِهِ) فِيهِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ.

(وَسِنُّهَا كَسِنِّهِ) فِيهَا خَمْسُ إِبِلٍ.

(وَمُوضِحَتُهَا كَمُوضِحَتِهِ) خَمْسُ إِبِلٍ.

(وَمُنَقِّلَتُهَا كَمُنَقِّلَتِهِ) الَّتِي فِي الرَّأْسِ.

ص: 284

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَبَلَغَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ مِثْلَ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الْمَرْأَةِ أَنَّهَا تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ فَإِذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ كَانَتْ إِلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّهَا تُعَاقِلُهُ فِي الْمُوضِحَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَمَا دُونَ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ وَأَشْبَاهِهِمَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَصَاعِدًا فَإِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ كَانَ عَقْلُهَا فِي ذَلِكَ النِّصْفَ مِنْ عَقْلِ الرَّجُلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1607 -

1551 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) سَمَاعًا (وَبَلَغَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُمَا كَانَا

ص: 284

يَقُولَانِ مِثْلَ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الْمَرْأَةِ أَنَّهَا تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ فَإِذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ كَانَتْ) أَيْ صَارَتْ وَرُدَّتْ (إِلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ) وَيَأْتِي أَنَّ رَبِيعَةَ اسْتَشْكَلَهُ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ السُّنَّةُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي مَرْفُوعًا:" «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا» " وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ إِلَّا أَنَّهُ اعْتَضَدَ بِقَوْلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ هِيَ السُّنَّةُ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّهَا تُعَاقِلُهُ فِي الْمُوضِحَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَمَا دُونَ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ وَأَشْبَاهِهِمَا، مِمَّا يَكُونُ فِيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَصَاعِدًا، فَإِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ كَانَ عَقْلُهَا فِي ذَلِكَ النِّصْفَ مِنْ عَقْلِ الرَّجُلِ) عَلَى الْأَصْلِ فِي أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ خَرَجَ مُسَاوَاتُهَا لِلرَّجُلِ إِلَى الثُّلُثِ بِالسُّنَّةِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ.

ص: 285

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَصَابَ امْرَأَتَهُ بِجُرْحٍ أَنَّ عَلَيْهِ عَقْلَ ذَلِكَ الْجُرْحِ وَلَا يُقَادُ مِنْهُ

قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْخَطَإِ أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَيُصِيبَهَا مِنْ ضَرْبِهِ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ كَمَا يَضْرِبُهَا بِسَوْطٍ فَيَفْقَأُ عَيْنَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ يَكُونُ لَهَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ مِنْ غَيْرِ عَصَبَتِهَا وَلَا قَوْمِهَا فَلَيْسَ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا كَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى مِنْ عَقْلِ جِنَايَتِهَا شَيْءٌ وَلَا عَلَى وَلَدِهَا إِذَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ قَوْمِهَا وَلَا عَلَى إِخْوَتِهَا مِنْ أُمِّهَا إِذَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ عَصَبَتِهَا وَلَا قَوْمِهَا فَهَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِمِيرَاثِهَا وَالْعَصَبَةُ عَلَيْهِمْ الْعَقْلُ مُنْذُ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَوْمِ وَكَذَلِكَ مَوَالِي الْمَرْأَةِ مِيرَاثُهُمْ لِوَلَدِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهَا وَعَقْلُ جِنَايَةِ الْمَوَالِي عَلَى قَبِيلَتِهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1607 -

1552 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَصَابَ امْرَأَتَهُ بِجُرْحٍ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (أَصَابَ)(أَنَّ عَلَيْهِ عَقْلَ ذَلِكَ) الْجُرْحِ (وَلَا يُقَادُ مِنْهُ) أَيْ يُقْتَصُّ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ) مِثْلَ (أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَيُصِيبَهَا)(مِنْ ضَرْبِهِ مَا) أَيْ شَيْءٌ (لَمْ يَتَعَمَّدْ كَمَا) لَوْ كَانَ (يَضْرِبُهَا بِسَوْطٍ) لِلتَّأْدِيبِ (فَيَفْقَأُ عَيْنَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ) أَمَّا إِنْ تَعَمَّدَ فَالْقَوَدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 45) .

ص: 285

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ يَكُونُ لَهَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ مِنْ غَيْرِ عَصَبَتِهَا وَلَا قَوْمِهَا فَلَيْسَ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا كَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى مِنْ عَقْلِ جِنَايَتِهَا الْخَطَأِ شَيْءٌ، وَلَا عَلَى وَلَدِهَا إِذَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ قَوْمِهَا، وَلَا عَلَى إِخْوَتِهَا مِنْ أُمِّهَا إِذَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ عَصَبَتِهَا وَلَا قَوْمِهَا فَهَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِمِيرَاثِهَا) بِنَصِّ الْقُرْآنِ عَلَى تَفْصِيلِهِ.

(وَالْعَصَبَةُ عَلَيْهِمُ الْعَقْلُ) أَيْ دِيَةُ جِنَايَتِهَا (مُنْذُ زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى الْآنَ اتِّبَاعًا لَهُ.

(وَكَذَلِكَ مَوَالِي الْمَرْأَةِ) الَّذِينَ أَعْتَقَتْهُمْ (مِيرَاثُهُمْ لِوَلَدِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهَا وَعَقْلُ جِنَايَةِ الْمُوَالِي) خَطَأٌ (عَلَى قَبِيلَتِهَا) فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ.

ص: 286

[باب عَقْلِ الْجَنِينِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ عَقْلِ الْجَنِينِ

1608 -

1553 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ نِسْبَةً إِلَى هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَلَا يُخَالِفُهُ رِوَايَةُ اللَّيْثِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ امْرَأَتَيْنِ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ لِأَنَّهُ بَطْنٌ مِنْ هُذَيْلٍ (رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) بِحَجَرٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا، وَلِبَعْضِ الرُّوَاةِ بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، وَلِبَعْضِهِمْ بِمُسَطَّحٍ أَيْ خَشَبَةٍ أَوْ عُودٍ يُرَقَّقُ بِهِ الْخُبْزُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلِهَذَا الِاضْطِرَابِ لَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَضَى الْمَعْنَى الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْحَجَرِ وَغَيْرِهِ فِي الْعَمْدِ، وَالرَّامِيَةُ أُمُّ عَفِيفٍ وَالْمَرْمِيَّةُ مُلَيْكَةُ انْتَهَى.

وَكَانَتَا ضَرَّتَيْنِ كَمَا

ص: 286

رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْهُذَلِيِّ، وَعُوَيْمِرٌ بَرَاءٍ آخِرِهِ وَبِدُونِهَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَتْ أُخْتِي مُلَيْكَةُ وَامْرَأَةٌ مِنَّا يُقَالُ لَهَا أُمُّ عَفِيفٍ بِنْتُ مَسْرُوحٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ تَحْتَ حَمَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَضَرَبَتْ أُمُّ عَفِيفٍ مُلَيْكَةَ.

وَلِلْبَيْهَقِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَسْمِيَةُ الضَّارِبَةِ أُمُّ غَطِيفٍ وَهُمَا وَاحِدَةٌ وَحَمَلُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ (فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا) مَيِّتًا، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خَالِدٍ: فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَشَدِّ الرَّاءِ مُنَوَّنًا بَيَاضٌ فِي الْوَجْهِ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الْجَسَدِ كُلِّهِ إِطْلَاقًا لِلْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ (عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ) بِجَرِّهِمَا بَدَلٌ مِنْ غُرَّةٍ وَأَوْ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَصْوَبُ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ كَمَا وَرَدَ قَلِيلًا، وَالْمُرَادُ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ وَإِنْ كَانَا أَسْوَدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الْغُرَّةِ الْبَيَاضَ فِي الْوَجْهِ، لَكِنْ تَوَسَّعُوا فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ كَمَا قَالُوا: أَعْتَقَ رَقَبَةً.

وَقَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ الْمُقْرِيِّ: الْمُرَادُ الْأَبْيَضُ لَا الْأَسْوَدُ إِذْ لَوْلَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بِالْغُرَّةِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى شَخْصِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لَمَا ذَكَرَهَا، تَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ إِجْزَاءِ الْغُرَّةِ السَّوْدَاءِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْغُرَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْفَسُ الشَّيْءِ، وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فَهُوَ أَنْفَسُ الْمَخْلُوقَاتِ.

وَزَادَ اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَكِلَاهُمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَرَكَ ذَلِكَ مَالِكٌ ; لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْفَتْوَى وَعَمَلَ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَرِهَ أَنْ يَذْكُرَ مَا لَا يَقُولُ بِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى قِصَّةِ الْجَنِينِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْغُرَّةِ، هَكَذَا قَالَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الثَّانِي.

وَقَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَتْلَ الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ وَالْفُقَهَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَذَكَرَ قِصَّةَ الْجَنِينِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْإِخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَقَبْلَهُ فِي رَآهُ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ الْخَمْسَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ بِهِ بِدُونِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَاللَّيْثُ وَيُونُسُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالزِّيَادَةِ ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنِ ابْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمِثْلِ رِوَايَةِ مَالِكٍ فَقَطْ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ.

ص: 287

(مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) مُرْسَلًا عِنْدَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ وَوَصَلَهُ مُطَرِّفٌ وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْحَدِيثُ عِنْدَ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُونَ بِهِ عَنْهُ هَكَذَا، وَطَائِفَةٌ يُحَدِّثُونَ بِهِ عَنْهُ عَنْ سَعِيدٍ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَائِفَةٌ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٌ أَرْسَلَ عَنْهُ حَدِيثَ سَعِيدٍ هَذَا وَوَصَلَ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ وَاقْتَصَرَ فِيهِمَا عَلَى قِصَّةِ الْجَنِينِ دُونَ قَتْلِ الْمَرْأَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَلِمَا شَاءَ اللَّهُ مِمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ انْتَهَى.

وَمُرَادُهُ أَرْسَلَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ وَإِلَّا فَقَدَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى) حَكَمَ (فِي الْجَنِينِ) حَالَ كَوْنِهِ (يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى أَوْ خُنْثَى وَلَوْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ عِنْدَ مَالِكٍ (بِغُرَّةٍ) بِالتَّنْوِينِ (عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ) تَقْسِيمٌ لَا شَكَّ يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ كَمَا يَأْتِي (فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ بِالْغُرَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غُرَّتْ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ أَيِ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ وَوَلِيُّهَا هُوَ ابْنُهَا مَسْرُوحٌ رَوَاهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّ الْقَائِلَ زَوْجُهَا حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ عِمْرَانُ بْنُ عُوَيْمِرٍ أَخُو مُلَيْكَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: فَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقَائِلِينَ، فَإِسْنَادُ هَذِهِ صَحِيحٌ أَيْضًا انْتَهَى.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ الْغُرَّةَ عَلَى الْجَانِي لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا ; لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ اللَّفْظِ أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْجَانِي، إِذْ لَوْ قُضِيَ بِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لَقِيلَ فَقَالَ الَّذِينَ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ جَانِبٍ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ كَالْإِجْمَاعِ أَوِ السُّنَّةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164](سورة الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 164) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي رِمْثَةَ فِي ابْنِهِ: " «إِنَّكَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ» " وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِي تَعْيِينِ الْقَائِلِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِهِ ; لِأَنَّ كُلًّا تَكَلَّمَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْجَانِيَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْجَانِيَةَ هِيَ الَّتِي غَرِمَتِ الْغُرَّةَ، وَلَا يُخَالِفُهُ رِوَايَةُ غُرَّتْ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةٍ وَتَاءٍ سَاكِنَةٍ بِلَا مِيمٍ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِغُرْمِ الْغُرَّةِ ( «كَيْفَ أَغْرَمُ مَا لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ» )

ص: 288

أَيْ صَاحَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَهُوَ مِنْ إِقَامَةِ الْمَاضِي مَقَامَ الْمُضَارِعِ أَيْ لَمْ يَشْرَبْ. . . . إِلَخْ.

(وَمِثْلُ ذَلِكَ بَطَلَ) بِمُوَحَّدَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَلَامٍ خَفِيفَةٍ مِنَ الْبُطْلَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُطَلُّ بِتَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ وَشَدِّ اللَّامِ أَيْ يُهْدَرُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَإِنْ رَجَّحَ الْخَطَّابِيُّ التَّحْتِيَّةَ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ) لِمُشَابَهَةِ كَلَامِهِ كَلَامَهُمْ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ فِيهِ فَشُبِّهَ بِالْإِخْوَانِ ; لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَابَهَةَ، وَذَمَّهُ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ بِسَجْعِهِ دَفْعَ مَا أَوْجَبَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُعَاقِبْهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّفْحِ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَهُوَ كَانَ أَعْرَابِيًّا لَا عِلْمَ لَهُ بِأَحْكَامِ الدِّينِ، فَقَالَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا وَتِلْكَ سِيمَتُهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَلَا يَنْتَقِمَ لِنَفْسِهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَنْ زَعَمَ كَرَاهَةَ التَّسْجِيعِ مُطْلَقًا، نَعَمْ يُنْكَرُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْخَطِيبِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ كُلُّهُ سَجْعًا، أَمَّا إِذَا كَانَ أَقَلَّ كَلَامِهِ فَلَيْسَ بِمَعِيبٍ بَلْ مُسْتَحْسَنٌ مَحْمُودٌ فَإِنَّهُ كَلَامٌ، وَكَذَلِكَ الشِّعْرُ فَحَسَنُهُمَا حَسَنٌ وَقَبِيحُهُمَا قَبِيحٌ، كَالْكَلَامِ الْمَنْثُورِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا: تُورَثُ الْغُرَّةَ عَنِ الْجَنِينِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، تَعَالَى، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ كَيْفَ أَغْرَمُ. . . إِلَخْ، قَالَ: فَالْمَضْمُونُ لِأَنَّ الْعُضْوَ لَا يُعْتَرَضُ فِيهِ بِهَذَا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: تَخْتَصُّ بِهَا الْأُمُّ ; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا وَلَيْسَتْ بِدِيَةٍ إِذْ لَمْ تُعْتَبَرُ فِيهَا هَلْ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى كَالدِّيَاتِ، وَكَذَا قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ وَاحْتَجَّ إِمَامُهُمْ دَاوُدُ بِأَنَّ الْغُرَّةَ لَمْ يَمَلِكْهَا الْجَنِينُ فَتُورَثْ عَنْهُ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ دِيَةُ الْمَقْتُولِ خَطَّأً فَإِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَهِيَ تُورَثُ عَنْهُ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ مُلَخَّصًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ مُرْسَلًا فَفِيهِ أَنْ مَرَاسِيلَ مَالِكٍ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.

ص: 289

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْغُرَّةُ تُقَوَّمُ خَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتَّ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ خَمْسُ مِائَةِ دِينَارٍ أَوْ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ

قَالَ مَالِكٌ فَدِيَةُ جَنِينِ الْحُرَّةِ عُشْرُ دِيَتِهَا وَالْعُشْرُ خَمْسُونَ دِينَارًا أَوْ سِتُّ مِائَةِ دِرْهَمٍ قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُخَالِفُ فِي أَنَّ الْجَنِينَ لَا تَكُونُ فِيهِ الْغُرَّةُ حَتَّى يُزَايِلَ بَطْنَ أُمِّهِ وَيَسْقُطُ مِنْ بَطْنِهَا مَيِّتًا قَالَ مَالِكٌ وَسَمِعْت أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْجَنِينُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ كَامِلَةً قَالَ مَالِكٌ وَلَا حَيَاةَ لِلْجَنِينِ إِلَّا بِالْاسْتِهْلَالِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَاسْتَهَلَّ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَنَرَى أَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عُشْرَ ثَمَنِ أُمِّهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً عَمْدًا وَالَّتِي قَتَلَتْ حَامِلٌ لَمْ يُقَدْ مِنْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَإِنْ قُتِلَتْ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَامِلٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَيْسَ عَلَى مَنْ قَتَلَهَا فِي جَنِينِهَا شَيْءٌ فَإِنْ قُتِلَتْ عَمْدًا قُتِلَ الَّذِي قَتَلَهَا وَلَيْسَ فِي جَنِينِهَا دِيَةٌ وَإِنْ قُتِلَتْ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ قَاتِلِهَا دِيَتُهَا وَلَيْسَ فِي جَنِينِهَا دِيَةٌ وَحَدَّثَنِي يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ جَنِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ يُطْرَحُ فَقَالَ أَرَى أَنَّ فِيهِ عُشْرَ دِيَةِ أُمِّهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1609 -

1555 - (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْغُرَّةُ تُقَوَّمُ خَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ) يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ أَوِ الْأَمَةَ لَا يَكْفِي إِلَّا أَنْ يُسَاوِيَ ذَلِكَ.

(وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ) عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ (أَوْ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ ; لِأَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الذَّكَرِ.

ص: 289

(قَالَ مَالِكٌ فِدْيَةُ جَنِينِ الْحُرَّةِ) الْمُسْلِمَةِ (عُشْرُ دِيَتِهَا وَالْعُشْرُ خَمْسُونَ دِينَارًا أَوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ) وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ: قِيمَةُ الْغُرَّةِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سِنُّ الْغُرَّةِ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَمَانُ سِنِينَ بِلَا عَيْبٍ.

وَقَالَ دَاوُدُ: كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْغُرَّةِ (وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُخَالِفْ فِي أَنَّ الْجَنِينَ لَا تَكُونُ فِيهِ الْغُرَّةُ حَتَّى يُزَايِلَ) يُفَارِقَ (بَطْنَ أُمِّهِ وَيَسْقُطَ مِنْ بَطْنِهَا مَيِّتًا) وَهِيَ حَيَّةٌ (وَسَمِعْتُ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْجَنِينُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ حَيَّا ثُمَّ مَاتَ) بِقُرْبِ خُرُوجِهِ وَعُلِمَ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ مِنَ الضَّرْبَةِ وَمَا فُعِلَ بِأُمِّهِ وَبِهِ فِي بَطْنِهَا (أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ كَامِلَةً) وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَهَذَا اجْتِمَاعٌ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَلَا حَيَاةَ لِلْجَنِينِ إِلَّا بِالِاسْتِهْلَالِ) أَيِ الصِّيَاحِ ثُمَّ الْوِلَادَةِ.

(فَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَاسْتَهَلَّ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَاقِي الْفُقَهَاءِ: إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بِحَرَكَةٍ أَوْ بِعُطَاسٍ أَوِ اسْتِهْلَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَيَقَّنُ بِهِ حَيَاتُهُ ثُمَّ مَاتَ فَالدِّيَةُ كَامِلَةً.

(وَنَرَى أَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ) ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (عُشْرَ ثَمَنِ أُمِّهِ) وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ كَذَلِكَ إِنْ كَانَ أُنْثَى لَا إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَنِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ نَفْسِهِ.

وَقَالَ دَاوُدُ: لَا شَيْءَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ مُطْلَقًا.

(وَإِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً) أَيْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (عَمْدًا وَ) الْحَالُ أَنَّ (الَّتِي قَتَلَتْ) بِفَتَحَاتٍ (حَامِلٌ لَمْ يُقَدْ) يُقْتَصُّ (مِنْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) لِئَلَّا يُؤْخَذَ نَفَسَانِ فِي نَفْسٍ.

(وَإِنْ قُتِلَتْ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ (الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَامِلٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً

ص: 290

فَلَيْسَ عَلَى مَنْ قَتَلَهَا فِي جَنِينِهَا شَيْءٌ) ثُمَّ (إِنْ قُتِلَتْ عَمْدًا قُتِلَ الَّذِي قَتَلَهَا) قِصَاصًا (وَلَيْسَ فِي جَنِينِهَا دِيَةٌ، وَإِنْ قُتِلَتْ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ قَاتِلِهَا دِيَتُهَا وَلَيْسَ فِي جَنِينِهَا دِيَةٌ) وَعَلَى هَذَا الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ إِلَّا اللَّيْثَ وَأَهْلَ الظَّاهِرِ فَقَالُوا: إِذَا أَلْقَتْ جَنِينَهَا مَيِّتًا فَالْغُرَّةُ؛ سَوَاءٌ رَمَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهَا أَوْ قَبْلَهُ، وَأَبْطَلَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا وَاللَّيْثُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَمَاتَتْ وَهُوَ لَمْ يَسْقُطْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، كَذَلِكَ إِذَا أَسْقَطَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَيْضًا لَوْ ضَرَبَ بَطَنَ مَيِّتَةٍ حَامِلٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الضَّرْبُ فِي حَيَاتِهَا فَمَاتَتْ ثُمَّ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا.

(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ جَنِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ يُطْرَحُ) بِنَحْوِ ضَرْبِ بَطْنِهَا (فَقَالَ: أَرَى أَنَّ فِيهِ عُشْرَ دِيَةِ أُمِّهِ) وَهِيَ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمَةِ.

ص: 291

[باب مَا فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فَإِذَا قُطِعَتْ السُّفْلَى فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ مَا فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً

1610 -

1556 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةً) وَجَاءَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ كَمَا مَرَّ.

(فَإِذَا قُطِعَتِ السُّفْلَى فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ) لِأَنَّ النَّفْعَ بِهَا أَقْوَى، لَكِنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فَقَالُوا فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ.

ص: 291

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الرَّجُلِ الْأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ إِنْ أَحَبَّ الصَّحِيحُ أَنْ يَسْتَقِيدَ مِنْهُ فَلَهُ الْقَوَدُ وَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ الدِّيَةُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ فِي كُلِّ زَوْجٍ مِنْ الْإِنْسَانِ الدِّيَةَ كَامِلَةً وَأَنَّ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ كَامِلَةً وَأَنَّ فِي الْأُذُنَيْنِ إِذَا ذَهَبَ سَمْعُهُمَا الدِّيَةَ كَامِلَةً اصْطُلِمَتَا أَوْ لَمْ تُصْطَلَمَا وَفِي ذَكَرِ الرَّجُلِ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ فِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةَ كَامِلَةً قَالَ مَالِكٌ وَأَخَفُّ ذَلِكَ عِنْدِي الْحَاجِبَانِ وَثَدْيَا الرَّجُلِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أُصِيبَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهِ فَذَلِكَ لَهُ إِذَا أُصِيبَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَعَيْنَاهُ فَلَهُ ثَلَاثُ دِيَاتٍ قَالَ مَالِكٌ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الصَّحِيحَةِ إِذَا فُقِئَتْ خَطَأً إِنَّ فِيهَا الدِّيَةَ كَامِلَةً

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1610 -

1557 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الرَّجُلِ الْأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ فَقَالَ ابْنُ

ص: 291

شِهَابٍ إِنْ أَحَبَّ الصَّحِيحُ أَنْ يَسْتَقِيدَ) يَقْتَصَّ (مِنْهُ فَلَهُ الْقَوَدُ وَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ الدِّيَةُ أَلْفُ دِينَارٍ) إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ (أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ) إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفِضَّةِ.

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ فِي كُلِّ زَوْجٍ مِنَ الْإِنْسَانِ) كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْبَيْضَتَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ (الدِّيَةَ كَامِلَةً وَأَنَّ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ كَامِلَةً) وَذَلِكَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (أَنَّ فِي الْأُذُنَيْنِ إِذَا ذَهَبَ سَمْعُهُمَا الدِّيَةَ كَامِلَةً) سَوَاءٌ (اصْطُلِمَتَا) أَيْ قُطِعَتَا مِنْ أَصْلِهِمَا (أَوْ لَمْ تُصْطَلَمَا) لَمْ يُقْطَعَا.

(وَفِي ذَكَرِ الرَّجُلِ الدِّيَةُ كَامِلَةً) لِنَصِّ حَدِيثِ عُمَرَ (وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةً) بِنَصِّهِ أَيْضًا.

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ فِي ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ الدِّيَةَ كَامِلَةً) إِذَا اسْتَأْصَلَهُمَا بِالْقَطْعِ، وَأَمَّا حَلَمَتَاهُمَا وَهِيَ رَأْسُهُمَا فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِمَا إِلَّا بِشَرْطِ إِبْطَالِ اللَّبَنِ.

(مَالِكٌ: وَأَخَفُّ ذَلِكَ عِنْدِي الْحَاجِبَانِ وَثَدْيَا الرَّجُلِ) فَلَيْسَ فِيهِمَا الدِّيَةُ بَلِ الْحُكُومَةُ.

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أُصِيبَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهِ فَذَلِكَ لَهُ إِذَا أُصِيبَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَعَيْنَاهُ فَلَهُ ثَلَاثُ دِيَاتٍ) وَإِنْ أُصِيبَ مَعَ ذَلِكَ شَفَتَاهُ فَأَرْبَعٌ وَهَكَذَا.

(قَالَ مَالِكٌ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الصَّحِيحَةِ إِذَا فُقِئَتْ خَطَأً إِنَّ فِيهَا الدِّيَةَ كَامِلَةً) لِقَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ هِيَ السُّنَّةُ، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ.

ص: 292

[باب مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الْعَيْنِ إِذَا ذَهَبَ بَصَرُهَا]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ إِذَا طَفِئَتْ مِائَةُ دِينَارٍ قَالَ يَحْيَى وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ شَتَرِ الْعَيْنِ وَحِجَاجِ الْعَيْنِ فَقَالَ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْاجْتِهَادُ إِلَّا أَنْ يَنْقُصَ بَصَرُ الْعَيْنِ فَيَكُونُ لَهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الْعَوْرَاءِ إِذَا طَفِئَتْ وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ إِذَا قُطِعَتْ إِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْاجْتِهَادُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَقْلٌ مُسَمًّى

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الْعَيْنِ إِذَا ذَهَبَ بَصَرُهَا

1611 -

1558 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) الصَّحَابِيَّ الشَّهِيرَ (كَانَ يَقُولُ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ إِذَا أُطْفِئَتْ) أُطْمِسَ نُورُهَا (مِائَةُ دِينَارٍ) وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا مَالِكٌ بَلْ قَالَ: إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِالْجَانِي وَإِلَّا فَالْعَقْلُ كَالْخَطَأِ.

(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ شَتَرِ الْعَيْنِ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ أَيْ قَطْعِ جَفْنِهَا الْأَسْفَلِ مَصْدَرُ شَتِرَ مِنْ بَابِ تَعِبَ (وَحِجَاجِ الْعَيْنِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَفَتْحُهَا لُغَةٌ - وَجِيمَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، الْعَظْمُ الْمُسْتَدِيرُ حَوْلَهُمَا، وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَجَمْعُهُ حِجَجَةٌ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْحِجَاجُ الْعَظْمُ الْمُشْرِفُ عَلَى غَارِ الْعَيْنِ (فَقَالَ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا الِاجْتِهَادُ إِلَّا أَنْ يَنْقُصَ بَصَرُ الْعَيْنِ فَيَكُونُ لَهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ) مِنَ الدِّيَةِ.

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الْعَوْرَاءِ) الَّتِي لَا تُبْصِرُ (إِذَا أُطْفِئَتْ) أَيْ أُزِيلَتْ وَقُلِعَتْ (وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ) الَّتِي فَسَدَتْ وَبَطَلَ عَمَلُهَا (إِذَا قُطِعَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَقْلٌ مُسَمًّى) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ.

ص: 293

[باب مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الشِّجَاجِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يَذْكُرُ أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الْوَجْهِ مِثْلُ الْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ إِلَّا أَنْ تَعِيبَ الْوَجْهَ فَيُزَادُ فِي عَقْلِهَا مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَقْلِ نِصْفِ الْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ فَيَكُونُ فِيهَا خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ فِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ فَرِيضَةً قَالَ وَالْمُنَقِّلَةُ الَّتِي يَطِيرُ فِرَاشُهَا مِنْ الْعَظْمِ وَلَا تَخْرِقُ إِلَى الدِّمَاغِ وَهِيَ تَكُونُ فِي الرَّأْسِ وَفِي الْوَجْهِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ لَيْسَ فِيهِمَا قَوَدٌ قَالَ مَالِكٌ وَالْمَأْمُومَةُ مَا خَرَقَ الْعَظْمَ إِلَى الدِّمَاغِ وَلَا تَكُونُ الْمَأْمُومَةُ إِلَّا فِي الرَّأْسِ وَقَدْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ لَيْسَ فِي الْمَأْمُومَةِ قَوَدٌ قَالَ مَالِكٌ وَمَا يَصِلُ إِلَى الدِّمَاغِ إِذَا خَرَقَ الْعَظْمَ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ عَقْلٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْمُوضِحَةَ وَإِنَّمَا الْعَقْلُ فِي الْمُوضِحَةِ فَمَا فَوْقَهَا وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى إِلَى الْمُوضِحَةِ فِي كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَجَعَلَ فِيهَا خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ وَلَمْ تَقْضِ الْأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِعَقْلٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الشِّجَاجِ

بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ شَجَّةِ الْجِرَاحَةِ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى شَجَّاتٍ عَلَى لَفْظِهَا، وَإِنَّمَا تُسَمَّى بِذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ.

1612 -

1559 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يَذْكُرُ أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الْوَجْهِ مِثْلُ الْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ إِلَّا أَنْ تَعِيبَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْوَجْهَ فَيُزَادُ فِي عَقْلِهَا) دِيَتِهَا (مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَقْلِ نِصْفِ الْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ، فَيَكُونُ فِيهَا خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا) عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ (قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ فِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً) مِنَ الْإِبِلِ (وَالْمُنَقِّلَةُ) هِيَ (الَّتِي يَطِيرُ فَرَاشُهَا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا الرَّقِيقُ (مِنَ الْعَظْمِ) بَيَانٌ لِفَرَاشٍ عِنْدَ الدَّوَاءِ (وَلَا تَخْرِقُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ تَصِلُ (إِلَى الدِّمَاغِ) الْمَقْتَلِ مِنَ الرَّأْسِ (وَهِيَ تَكُونُ فِي الرَّأْسِ وَفِي الْوَجْهِ، وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ لَيْسَ فِيهِمَا قَوَدٌ) لِأَنَّهُمَا مِنَ الْمَتَالِفِ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَالْمَأْمُومَةُ مَا خَرَقَ الْعَظْمَ إِلَى الدِّمَاغِ، وَلَا تَكُونُ الْمَأْمُومَةُ إِلَّا فِي الرَّأْسِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ لَيْسَ فِي الْمَأْمُومَةِ قَوَدٌ) قِصَاصٌ.

ص: 294

(قَالَ مَالِكٌ وَمَا يَصِلُ إِلَى الدِّمَاغِ إِذَا خَرَقَ الْعَظْمَ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الشِّجَاجِ) الْجِرَاحِ (عَقْلٌ) دِيَةٌ (حَتَّى تَبْلُغَ الْمُوضِحَةَ وَإِنَّمَا الْعَقْلُ فِي الْمُوضِحَةِ فَمَا فَوْقَهَا وَ) دَلِيلُ (ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى) أَيْ وَصَلَ إِلَى الْمُوضِحَةِ فِي كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ (فَجَعَلَ فِيهَا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ) وَلَمْ يَجْعَلْ فِيمَا قَبْلَهَا شَيْئًا مُقَدَّرًا.

(وَلَمْ تَقْضِ الْأَئِمَّةُ) الْخُلَفَاءُ (فِي الْقَدِيمِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِعَقْلٍ) فَلَا دِيَةَ فِيهَا.

ص: 295

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ نَافِذَةٍ فِي عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ فَفِيهَا ثُلُثُ عَقْلِ ذَلِكَ الْعُضْوِ حَدَّثَنِي مَالِك كَانَ ابْنُ شِهَابٍ لَا يَرَى ذَلِكَ وَأَنَا لَا أَرَى فِي نَافِذَةٍ فِي عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ فِي الْجَسَدِ أَمْرًا مُجْتَمَعًا عَلَيْهِ وَلَكِنِّي أَرَى فِيهَا الْاجْتِهَادَ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَأْمُومَةَ وَالْمُنَقِّلَةَ وَالْمُوضِحَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَمَا كَانَ فِي الْجَسَدِ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْاجْتِهَادُ قَالَ مَالِكٌ فَلَا أَرَى اللَّحْيَ الْأَسْفَلَ وَالْأَنْفَ مِنْ الرَّأْسِ فِي جِرَاحِهِمَا لِأَنَّهُمَا عَظْمَانِ مُنْفَرِدَانِ وَالرَّأْسُ بَعْدَهُمَا عَظْمٌ وَاحِدٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1612 -

1560 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: كَلُّ) جِرَاحَةٍ (نَافِذَةٍ فِي عُضْوٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ فَفِيهَا ثُلُثُ عَقْلِ ذَلِكَ الْعُضْوِ. مَالِكٌ: كَانَ ابْنُ شِهَابٍ لَا يَرَى ذَلِكَ. وَأَنَا لَا أَرَى فِي نَافِذَةٍ فِي عُضْوٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ فِي الْجَسَدِ أَمْرًا مُجْتَمَعًا عَلَيْهِ) مُحَدَّدًا بِحَدٍّ كَمَا حَدَّهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ.

(وَلَكِنِّي أَرَى فِيهِ الِاجْتِهَادَ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ) فَيَكُونُ فِيهَا مَا اجْتَهَدَ فِيهِ.

(وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا) لَا يَتَعَدَّى.

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَأْمُومَةَ وَالْمُنَقِّلَةَ وَالْمُوضِحَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَمَا كَانَ فِي الْجَسَدِ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الِاجْتِهَادُ) مِنَ الْحَاكِمِ وَهَذَا مِمَّا يَرُدُّ قَوْلَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ بِالتَّعْيِينِ.

ص: 295

(وَلَا أَرَى اللَّحْيَ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ (الْأَسْفَلَ) وَهُوَ عَظْمُ الْحَنَكِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَسْنَانُ وَهُوَ مِنَ الْإِنْسَانِ حَيْثُ يَنْبُتُ الشَّعَرُ وَهُوَ أَعْلَى وَأَسْفَلُ.

(وَالْأَنْفَ مِنَ الرَّأْسِ فِي جِرَاحِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا عَظْمَانِ مُنْفَرِدَانِ وَالرَّأْسُ بَعْدَهُمَا عَظْمٌ وَاحِدٌ) .

ص: 296

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَقَادَ مِنْ الْمُنَقِّلَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1612 -

1561 - (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَقَادَ مِنَ الْمُنَقِّلَةِ) وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ فَقَالَ: لَا قِصَاصَ فِي الْمُنَقِّلَةِ.

ص: 296

[باب مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الْأَصَابِعِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ فَقُلْتُ كَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ قَالَ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَقُلْتُ كَمْ فِي ثَلَاثٍ فَقَالَ ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَقُلْتُ كَمْ فِي أَرْبَعٍ قَالَ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَقُلْتُ حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا فَقَالَ سَعِيدٌ أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ فَقُلْتُ بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ فَقَالَ سَعِيدٌ هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي أَصَابِعِ الْكَفِّ إِذَا قُطِعَتْ فَقَدْ تَمَّ عَقْلُهَا وَذَلِكَ أَنَّ خَمْسَ الْأَصَابِعِ إِذَا قُطِعَتْ كَانَ عَقْلُهَا عَقْلَ الْكَفِّ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشَرَةٌ مِنْ الْإِبِلِ قَالَ مَالِكٌ وَحِسَابُ الْأَصَابِعِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِينَارًا وَثُلُثُ دِينَارٍ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ وَهِيَ مِنْ الْإِبِلِ ثَلَاثُ فَرَائِضَ وَثُلُثُ فَرِيضَةٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

11 -

بَابُ عَقْلِ الْأَصَابِعِ

1613 -

1562 - (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَمْ فِي أُصْبُعِ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَقُلْتُ: كَمْ فِي أُصْبُعَيْنِ؟) مِنْهَا (قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقُلْتُ: كَمْ فِي ثَلَاثٍ؟) مِنْهَا (فَقَالَ: ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقُلْتُ كَمْ فِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقُلْتُ حِينَ عَظُمَ) كَثُرَ (جُرْحُهَا) بِضَمِّ الْجِيمِ (وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا) بِذَلِكَ (نَقَصَ عَقْلُهَا) دِيَتُهَا (فَقَالَ سَعِيدٌ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟) تَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ (فَقُلْتُ) لَسْتُ بِعِرَاقِيٍّ (بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ، فَقَالَ سَعِيدٌ: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي) قَالَهُ

ص: 296

مُلَاطَفَةً عَلَى عَادَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ ابْنَ أَخِيهِ، فَقَوْلُهُ هِيَ السُّنَّةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُرْسَلَاتِهِ أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تُتُبِّعَتْ كُلُّهَا فَوُجِدَتْ مُسْنَدَةً.

(مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي أَصَابِعِ الْكَفِّ إِذَا قُطِعَتْ فَقَدْ تَمَّ عَقْلُهَا وَ) وَجْهُ (ذَلِكَ أَنَّ خَمْسَ أَصَابِعَ إِذَا قُطِعَتْ كَانَ عَقْلُهَا عَقْلَ الْكَفِّ) أَيْ إِذَا قُطِعَ مَعَهَا (خَمْسِينَ مِنَ الْإِبِلِ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ) فَإِذَا قُطِعَتِ الْكَفُّ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا فِيهَا حُكُومَةٌ.

(وَحِسَابُ الْأَصَابِعِ مِنَ الذَّهَبِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِينَارًا فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ وَهِيَ مِنَ الْإِبِلِ ثَلَاثُ فَرَائِضَ وَثُلُثُ فَرِيضَةٍ) وَعَلَى ذَلِكَ الْحِسَابُ يُقَالُ فِي الدَّرَاهِمِ.

ص: 297

[باب جَامِعِ عَقْلِ الْأَسْنَانِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضِّرْسِ بِجَمَلٍ وَفِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ وَفِي الضِّلَعِ بِجَمَلٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

12 -

بَابُ جَامِعِ عَقْلِ الْأَسْنَانِ

بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ؛ جَمْعُ سِنٍّ، مُؤَنَّثَةٌ، وَزْنَ حَمْلٍ وَأَحْمَالٍ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ إِسْنَانٌ بِالْكَسْرِ وَبِالضَّمِّ وَهُوَ خَطَأٌ.

1614 -

1563 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ) الْهُذَلِيِّ الْمَدَنِيِّ الْقَاضِي، ثِقَةٍ فَصِيحٍ قَارِئٍ تَابِعِيٍّ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَةٍ (عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضِّرْسِ) مُذَكَّرٌ وَرُبَّمَا أَنَّثُوهُ عَلَى مَعْنَى السِّنِّ، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ التَّأْنِيثَ، وَجَمْعُهُ أَضْرَاسٌ وَرُبَّمَا قِيلَ ضُرُوسٌ (بِجَمَلٍ) ذَكَرُ الْإِبِلِ.

(وَفِي التَّرْقُوَةِ) بِفَتْحِ التَّاءِ، وَهِيَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْجَمْعُ التَّرَاقِي، قِيلَ وَلَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِلْإِنْسَانِ خَاصَّةً (بِجَمَلٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ.

(وَفِي الضِّلَعِ بِجَمَلٍ)

ص: 297

بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ لُغَةٌ، وَسُكُونُهَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ.

ص: 298

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ وَقَضَى مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْأَضْرَاسِ بِخَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَالدِّيَةُ تَنْقُصُ فِي قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَتَزِيدُ فِي قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ فَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَجَعَلْتُ فِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ فَتِلْكَ الدِّيَةُ سَوَاءٌ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مَأْجُورٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1614 -

1564 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْأَضْرَاسِ) جَمْعُ ضِرْسٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى ضُرُوسٍ مِثْلُ حَمْلٍ وَحَمُولٍ وَأَحْمَالٍ (بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ) أَيْ ذَكَرٍ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ فَوْقَهُ بِجَمَلٍ.

(وَقَضَى مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْأَضْرَاسِ بِخَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ) أَيْ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَلِذَا كَرَّرَ.

(قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَالدِّيَةُ تَنْقُصُ فِي قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَتَزِيدُ فِي قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (فَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَجَعَلْتُ فِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ) فِي كُلِّ ضِرْسٍ (فَتِلْكَ الدِّيَةُ سَوَاءٌ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مَأْجُورٌ) وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ: " «وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ» " وَلَا حَدِيثُ: " «الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ» ".

ص: 298

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أُصِيبَتْ السِّنُّ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا عَقْلُهَا تَامًّا فَإِنْ طُرِحَتْ بَعْدَ أَنْ اسْوَدَّتْ فَفِيهَا عَقْلُهَا أَيْضًا تَامًّا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1614 -

1565 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا أُصِيبَتِ السِّنُّ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا عَقْلُهَا تَامًّا، فَإِنْ طُرِحَتْ بَعْدَ أَنِ اسْوَدَّتْ فَفِيهَا عَقْلُهَا أَيْضًا تَامًّا) حَيْثُ كَانَتْ عَلَى قُوَّتِهَا.

ص: 298

[باب الْعَمَلِ فِي عَقْلِ الْأَسْنَانِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ الْمُرِّيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ بَعَثَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا فِي الضِّرْسِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ قَالَ فَرَدَّنِي مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَتَجْعَلُ مُقَدَّمَ الْفَمِ مِثْلَ الْأَضْرَاسِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لَوْ لَمْ تَعْتَبِرْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْأَصَابِعِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

13 -

بَابُ الْعَمَلِ فِي عَقْلِ الْأَسْنَانِ

1615 -

1566 - (مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ (عَنْ أَبِي غَطَفَانَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ قِيلَ اسْمُهُ سَعْدٌ (ابْنِ طَرِيفٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ (الْمُرِّيِّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَشَدِّ الرَّاءِ بِلَا نُقْطَةٍ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ بَعَثَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا فِي الضِّرْسِ؟) الَّذِي يُقْلَعُ خَطَأً مِنَ الدِّيَةِ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فِيهِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ» ".

(قَالَ) أَبُو غَطَفَانَ: (فَرَدَّنِي مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَتَجْعَلُ مُقَدَّمَ الْفَمِ) أَيْ أَسْنَانَهُ (مِثْلَ الْأَضْرَاسِ؟) مَعَ تَفَاوُتِ الْمَنْفَعَةِ بِهِمَا (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لَوْ لَمْ تَعْتَبِرْ ذَلِكَ) فِي الْقِيَاسِ (إِلَّا بِالْأَصَابِعِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ) لَكَفَاكَ، فَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ مُجَارَاةً لِمَا أَوْمَى إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ جَعْلَ الْأَسْنَانِ مِثْلَ الْأَضْرَاسِ خِلَافُ الْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «الْأَصَابِعُ وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ» " أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ» " وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " «أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ» " وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " «الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ كُلُّهُنَّ فِيهِ عَشْرٌ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ» ".

ص: 299

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَسْنَانِ فِي الْعَقْلِ وَلَا يُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ

قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مُقَدَّمَ الْفَمِ وَالْأَضْرَاسِ وَالْأَنْيَابِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَالضِّرْسُ سِنٌّ مِنْ الْأَسْنَانِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1615 -

1567 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَسْنَانِ فِي الْعَقْلِ،

ص: 299

وَلَا يُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ) اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ، وَالْعَمَلُ كَمَا (قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مُقَدَّمَ الْفَمِ وَالْأَضْرَاسِ وَالْأَنْيَابِ) جَمْعُ نَابٍ، مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الَّذِي يَلِي الرُّبَاعِيَّاتِ (عَقْلُهَا سَوَاءٌ وَ) دَلِيلُ (ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَالضِّرْسُ سِنٌّ مِنَ الْأَسْنَانِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ» ) وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا أَصْلٌ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ لَا تُضْبَطُ كَمِّيَّتُهَا، فَإِذَا فَاتَ ضَبْطُهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى اعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ الِاسْمُ فَتُسَاوِي دِيَتَهَا.

وَإِنِ اخْتَلَفَ كَمَالُهَا وَمَنْفَعَتُهَا وَمَبْلَغُ فِعْلِهَا فَإِنَّ لِلْإِبْهَامِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْخِنْصَرِ وَمَعَ ذَلِكَ فَدَيْتُهُمَا سَوَاءٌ، وَلَوِ اخْتَلَفَتِ الْمِسَاحَةُ، وَكَذَلِكَ الْأَسْنَانُ نَفْعُ بَعْضِهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَدِيَتُهَا سَوَاءٌ نَظَرًا لِلِاسْمِ فَقَطْ. اهـ.

ص: 300

[باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ جِرَاحِ الْعَبْدِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَانَا يَقُولَانِ فِي مُوضِحَةِ الْعَبْدِ نِصْفُ عُشْرِ ثَمَنِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

14 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي دِيَةِ جِرَاحِ الْعَبِيدِ

1568 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَانَ يَقُولَانِ فِي مُوضِحَةِ الْعَبْدِ: نِصْفُ عُشْرِ ثَمَنِهِ) أَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْحُرَّ فِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الرَّقِيقِ قِيمَتُهُ.

ص: 300

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَانَ يَقْضِي فِي الْعَبْدِ يُصَابُ بِالْجِرَاحِ أَنَّ عَلَى مَنْ جَرَحَهُ قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ فِي مُوضِحَةِ الْعَبْدِ نِصْفَ عُشْرِ ثَمَنِهِ وَفِي مُنَقِّلَتِهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهِ وَفِي مَأْمُومَتِهِ وَجَائِفَتِهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ ثَمَنِهِ وَفِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ مِمَّا يُصَابُ بِهِ الْعَبْدُ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَا يَصِحُّ الْعَبْدُ وَيَبْرَأُ كَمْ بَيْنَ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهُ الْجُرْحُ وَقِيمَتِهِ صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ هَذَا ثُمَّ يَغْرَمُ الَّذِي أَصَابَهُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ إِذَا كُسِرَتْ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ ثُمَّ صَحَّ كَسْرُهُ فَلَيْسَ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ فَإِنْ أَصَابَ كَسْرَهُ ذَلِكَ نَقْصٌ أَوْ عَثَلٌ كَانَ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ قَدْرُ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمَمَالِيكِ كَهَيْئَةِ قِصَاصِ الْأَحْرَارِ نَفْسُ الْأَمَةِ بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَجُرْحُهَا بِجُرْحِهِ فَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ عَبْدًا عَمْدًا خُيِّرَ سَيِّدُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَقْلَ فَإِنْ أَخَذَ الْعَقْلَ أَخَذَ قِيمَةَ عَبْدِهِ وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ أَنْ يُعْطِيَ ثَمَنَ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ أَسْلَمَ عَبْدَهُ فَإِذَا أَسْلَمَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِرَبِّ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إِذَا أَخَذَ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ وَرَضِيَ بِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ كُلِّهِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْقَتْلِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يَجْرَحُ الْيَهُودِيَّ أَوْ النَّصْرَانِيَّ إِنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ مَا قَدْ أَصَابَ فَعَلَ أَوْ أَسْلَمَهُ فَيُبَاعُ فَيُعْطِي الْيَهُودِيَّ أَوْ النَّصْرَانِيَّ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ دِيَةَ جُرْحِهِ أَوْ ثَمَنَهُ كُلَّهُ إِنْ أَحَاطَ بِثَمَنِهِ وَلَا يُعْطِي الْيَهُودِيَّ وَلَا النَّصْرَانِيَّ عَبْدًا مُسْلِمًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1569 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَانَ يَقْضِي فِي الْعَبْدِ يُصَابُ بِالْجِرَاحِ أَنَّ عَلَى مَنْ جَرَحَهُ قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ) أَيْ قِيمَتِهِ.

ص: 300

(قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ فِي مُوضِحَةِ الْعَبْدِ نِصْفَ عُشْرِ ثَمَنِهِ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا (الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهِ) قِيمَتِهِ وَلَوْ زَادَتْ.

(وَفِي مَأْمُومَتِهِ وَجَائِفَتِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ ثَمَنِهِ، وَفِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ مِمَّا يُصَابُ بِهِ الْعَبْدُ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَا يَصِحُّ الْعَبْدُ وَيَبْرَأُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوْ مُسَاوٍ، حَسَّنَهُ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ (كَمْ بَيْنَ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهُ الْجُرْحُ، وَقِيمَتِهِ صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ هَذَا) الْجُرْحُ (ثُمَّ يَغْرَمُ) يَدْفَعُ (الَّذِي أَصَابَهُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ) قَبْلَ الْجُرْحِ وَبَعْدَهُ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ إِذَا كُسِرَتْ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ) مِنْ شَخْصٍ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ (ثُمَّ صَحَّ كَسْرُهُ) بِلَا نَقْصٍ (فَلَيْسَ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ) كَسَرَهُ (شَيْءٌ فَإِنْ أَصَابَ كَسْرَهُ ذَلِكَ نَقْصٌ أَوْ عَثَلٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ بَرَأَ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ (كَانَ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ) قَدْرُ (مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ) قِيمَتِهِ.

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمَمَالِيكِ كَهَيْئَةِ) صِفَةِ (قِصَاصِ الْأَحْرَارِ، نَفْسُ الْأَمَةِ بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَجُرْحُهَا بِجُرْحِهِ) لِآيَةِ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةَ 45) ثُمَّ قَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةَ 45)(فَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ عَبْدًا عَمْدًا خُيِّرَ سَيِّدُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ) بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْعَقْلِ (فَإِنْ شَاءَ قَتَلَ) الْعَبْدَ الْقَاتِلَ وَلَا كَلَامَ لِسَيِّدِهِ (وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَقْلَ فَإِنْ أَخَذَ الْعَقْلَ، أَخَذَ قِيمَةَ عَبْدِهِ) لِأَنَّ الرَّقِيقَ إِنَّمَا فِيهِ قِيمَتُهُ وَلَوْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، وَحِينَئِذٍ فَيُخَيَّرُ سَيِّدُ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ كَمَا قَالَ.

ص: 301

(وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ أَنْ يُعْطِيَ ثَمَنَ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ) أَيْ قِيمَتَهُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ أَوَّلًا (فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ أَسْلَمَ عَبْدَهُ) لِأَنَّ إِلْزَامَهُ الْقِيمَةَ ضَرَرًا عَلَيْهِ فَتَخْيِيرُهُ يَنْفِيهِ (فَإِذَا أَسْلَمَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ أَسْلَمَ الْجَانِي وَلَيْسَ هُوَ الْجَانِي.

(وَلَيْسَ لِرَبِّ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إِذَا أَخَذَ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ وَرَضِيَ بِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ) لِأَنَّ عُدُولَهُ عَنْ قَتْلِهِ أَوَّلًا بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَلَى الدِّيَةِ، فَلَمَّا خُيِّرَ سَيِّدُهُ فِي إِسْلَامِهِ وَفِدَائِهِ وَأَسْلَمَهُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ قَتْلُهُ بَعْدَ الْعَفْوِ، وَلَا يُشَكِلُ تَخْيِيرُ سَيِّدِ الْمَقْتُولِ بِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ الْقَتْلُ أَوِ الْعَفْوُ مَجَّانًا، وَلَيْسَ لَهُ إِلْزَامُ الْقَاتِلِ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا غَيْرُ الْقَاتِلِ وَهُوَ السَّيِّدُ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي وَاحِدٍ مِمَّا يَخْتَارُهُ وَلِيُّ الدَّمِ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَلَهُ غَرَضٌ فِي إِغْنَاءِ وَرَثَتِهِ.

(وَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ كُلِّهِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْقَتْلِ) خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يَجْرَحُ الْيَهُودِيَّ أَوِ النَّصْرَانِيَّ: أَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ مَا قَدْ أَصَابَ فَعَلَ) بِدَفْعِ دِيَةِ ذَلِكَ الْجُرْحِ لِلْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ (أَوْ أَسْلَمَهُ السَّيِّدُ، فَيُبَاعُ فَيُعْطِي الْيَهُودِيَّ أَوِ النَّصْرَانِيَّ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ دِيَةَ جُرْحِهِ أَوْ ثَمَنَهَ كُلَّهُ إِنْ أَحَاطَ بِثَمَنِهِ، وَلَا يُعْطِي الْيَهُودِيَّ أَوِ النَّصْرَانِيَّ عَبْدًا مُسْلِمًا) لِئَلَّا يَلْزَمَ اسْتِيلَاءُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةَ 141) .

ص: 302

[باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ إِذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا مِثْلُ نِصْفِ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ مُسْلِمٌ قَتْلَ غِيلَةٍ فَيُقْتَلُ بِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

15 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي دِيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ

1617 -

1570 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ إِذَا قُتِلَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، نَائِبُهُ (أَحَدُهُمَا مِثْلُ نِصْفِ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ) لِقَوْلِهِ، صلى الله عليه وسلم:" «عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَهُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ: " «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِ» ".

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ) وَلَوْ رَقِيقًا (بِكَافِرٍ) وَلَوْ حُرًّا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُقْتَلُ بِهِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ آيَةِ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةَ 45) وَرُدَّ بِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالْمَسَاوِئِ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ.

وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ قُلْتُ لِزُفَرَ: تَقُولُونَ تُدْرَأُ الْحُدُودُ بِالشُّبَهَاتِ وَأَقْدَمْتُمْ عَلَى أَعْظَمِ الشُّبَهَاتِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: قَتْلُ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:«لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» ، قَالَ: اشْهَدْ عَلَى رُجُوعِي عَنْهُ.

(إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ مُسْلِمٌ قَتْلَ غِيلَةٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ خَدِيعَةٍ بِأَنْ خَدَعَهُ حَتَّى ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَوْضِعٍ فَقَتَلَهُ (فَيُقْتَلُ بِهِ) لِأَنَّ الْقَتْلَ فِيهَا لِأَجْلِ الْفَسَادِ لَا لِلْقِصَاصِ، فَلَوْ عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَاتِلِ لَمْ يُعْتَبَرْ وَيُقْتَلْ.

ص: 303

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَانَ يَقُولُ دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِيَ مِائَةِ دِرْهَمٍ

قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ وَجِرَاحُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فِي دِيَاتِهِمْ عَلَى حِسَابِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَاتِهِمْ الْمُوضِحَةُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ وَالْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ دِيَتِهِ وَالْجَائِفَةُ ثُلُثُ دِيَتِهِ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ جِرَاحَاتُهُمْ كُلُّهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1617 -

1571 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَانَ يَقُولُ: دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ) فَهِيَ ثُلُثُ خُمُسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا) بِالْمَدِينَةِ.

ص: 303

(وَجِرَاحُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فِي دِيَاتِهِمْ عَلَى حِسَابِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيِاتِهِمُ، الْمُوضِحَةُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ، وَالْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ دِيَتِهِ، وَالْجَائِفَةُ ثُلُثُ دِيَتِهِ، فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ جِرَاحَاتُهُمْ كُلُّهَا) يُعْمَلُ.

ص: 304

[باب مَا يُوجِبُ الْعَقْلَ عَلَى الرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ مَالِهِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَقْلٌ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ إِنَّمَا عَلَيْهِمْ عَقْلُ قَتْلِ الْخَطَإِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

16 -

بَابُ مَا يُوجِبُ الْعَقْلَ عَلَى الرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ مَالِهِ

1618 -

1572 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَقْلٌ) دِيَةٌ (فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، إِنَّمَا عَلَيْهِمْ عَقْلُ قَتْلِ الْخَطَأِ) لِثُبُوتِهِ بِالسُّنَّةِ لِلْمَصْلَحَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْعَمْدُ، إِذِ الْأَصْلُ أَنَّهُ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] (سورة فَاطِرٍ: الْآيَةَ 18) خُصَّ مِنْهُ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ الْخَطَأَ فَبَقِيَ الْعَمْدُ عَلَى الْأَصْلِ.

ص: 304

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ شَيْئًا مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ إِلَّا أَنْ يَشَاءُوا ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1618 -

1573 - (مَالِكٌ «عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ شَيْئًا مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ إِلَّا أَنْ يَشَاءُوا ذَلِكَ» ) .

ص: 304

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِثْلَ ذَلِكَ

قَالَ مَالِكٌ إِنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَالَ مَضَتْ السُّنَّةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ حِينَ يَعْفُو أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ أَنَّ الدِّيَةَ تَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً إِلَّا أَنْ تُعِينَهُ الْعَاقِلَةُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا فَمَا بَلَغَ الثُّلُثَ فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ فِي مَالِ الْجَارِحِ خَاصَّةً قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قُبِلَتْ مِنْهُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ أَنَّ عَقْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءُوا وَإِنَّمَا عَقْلُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ أَوْ الْجَارِحِ خَاصَّةً إِنْ وُجِدَ لَهُ مَالٌ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءُوا قَالَ مَالِكٌ وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَحَدًا أَصَابَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً بِشَيْءٍ وَعَلَى ذَلِكَ رَأْيُ أَهْلِ الْفِقْهِ عِنْدَنَا وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا ضَمَّنَ الْعَاقِلَةَ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ شَيْئًا وَمِمَّا يُعْرَفُ بِهِ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْعَقْلِ فَلْيَتْبَعْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَالْمَرْأَةِ الَّتِي لَا مَالَ لَهَا إِذَا جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةً دُونَ الثُّلُثِ إِنَّهُ ضَامِنٌ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ فِي مَالِهِمَا خَاصَّةً إِنْ كَانَ لَهُمَا مَالٌ أُخِذَ مِنْهُ وَإِلَّا فَجِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُؤْخَذُ أَبُو الصَّبِيِّ بِعَقْلِ جِنَايَةِ الصَّبِيِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قُتِلَ كَانَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ يَوْمَ يُقْتَلُ وَلَا تَحْمِلُ عَاقِلَةُ قَاتِلِهِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَصَابَهُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً بَالِغًا مَا بَلَغَ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ الدِّيَةَ أَوْ أَكْثَرَ فَذَلِكَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنْ السِّلَعِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1618 -

1574 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ.

وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا صُلْحًا وَلَا مَا دُونَ الثُّلُثِ.

ص: 304

(مَالِكٌ «أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ حِينَ يَعْفُوَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ» ) عَنِ الْقَاتِلِ عَلَى الدِّيَةِ (أَنَّ الدِّيَةَ تَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً إِلَّا أَنْ تُعِينَهُ) تُسَاعِدَهُ (الْعَاقِلَةُ) إِعَانَةً صَادِرَةً (عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا) بِلَا جَبْرٍ، وَكَذَا حُكْمُ غَيْرِهَا إِذَا أَعَانَهُ فَلَهُ ذَلِكَ.

(مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّلُثَ) أَيْ ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الْجَانِي (فَصَاعِدًا فَمَا بَلَغَ الثُّلُثَ فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ فِي مَالِ الْجَارِحِ خَاصَّةً) لِلْحَدِيثِ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ.

(وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قُبِلَتْ مِنْهُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ: أَنَّ عَقْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءُوا، وَإِنَّمَا عَقْلُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ أَوِ الْجَارِحِ خَاصَّةً إِنْ وُجِدَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءُوا) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ.

(وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَحَدًا أَصَابَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً بِشَيْءٍ، وَعَلَى ذَلِكَ رَأَىُ أَهْلِ الْفِقْهِ عِنْدَنَا، وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا ضَمَّنَ الْعَاقِلَةَ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ شَيْئًا) لِأَنَّهَا إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ فِي الْخَطَأِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18](سورة فَاطِرٍ: الْآيَةَ 18) لَكِنَّهُ خُصَّ مِنْ عُمُومِهَا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ ; لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ أُخِذَ بِالدِّيَةِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ مَالِهِ

ص: 305

لَأَنَّ تَتَابُعَ الْخَطَأِ مِنْهُ لَا يُؤْمَنُ، وَلَوْ تُرِكَ بِلَا تَغْرِيمٍ لِأُهْدِرَ دَمُ الْمَقْتُولِ فَلَا يُقَاسُ الْعَمْدُ عَلَى ذَلِكَ.

(وَمِمَّا يُعْرَفُ بِهِ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) مِنَ الْقَاتِلِينَ (مِنْ) دَمِ (أَخِيهِ) الْمَقْتُولِ (شَيْءٌ) بِأَنْ تَرَكَ الْقِصَاصَ مِنْهُ، وَتَنْكِيرُ " شَيْءٌ " يُفِيدُ سُقُوطَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوَ عَنْ بَعْضِهِ وَمِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَفِي ذِكْرِ أَخِيهِ تَعْطِيفٌ دَاعٍ إِلَى الْعَفْوِ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَقْطَعُ أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ، وَمِنْ مُبْتَدَأٌ، شَرْطِيَّةً أَوْ مَوْصُولَةً، وَالْخَبَرُ (فَاتِّبَاعٌ) أَيْ فَعَلَى الْعَافِي اتِّبَاعُ الْقَاتِلِ (بِالْمَعْرُوفِ) بِأَنْ يُطَالِبَهُ بِالدِّيَةِ بِلَا عُنْفٍ (وَ) عَلَى الْقَاتِلِ (أَدَاءٌ) الدِّيَةِ (إِلَيْهِ) إِلَى الْعَافِي وَهُوَ الْوَارِثُ (بِإِحْسَانٍ) بِلَا مَطْلٍ وَلَا بَخْسٍ (فَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ نَظُنُّ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) بِمُرَادِهِ (أَنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا مِنَ الْعَقْلِ) الدِّيَةِ (فَلْيَتَّبِعْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ الْقَاتِلُ بِإِحْسَانٍ) فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْقَاتِلِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِهِ لَا عَاقِلَتِهِ، وَتَرْتِيبُ الِاتِّبَاعِ عَلَى الْعَفْوِ يُفِيدُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا أَيِ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ.

وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا:" «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُؤَدِّيَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ» "(قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَالْمَرْأَةِ الَّتِي لَا مَالَ لَهَا، إِذَا جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةً دُونَ الثُّلُثِ، أَنَّهُ ضَامِنٌ) أَيْ مَضْمُونٌ كَمَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ مَرْضِيَّةٍ (عَلَى الصَّبِيِّ أَوِ الْمَرْأَةِ فِي مَالِهِمَا خَاصَّةً، إِنْ كَانَ لَهُمَا مَالٌ أُخِذَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَجِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يُؤْخَذُ أَبُو الصَّبِيِّ بِعَقْلِ جِنَايَةِ الصَّبِيِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ) لِحَدِيثِ أَبِي رِمْثَةَ فِي ابْنِهِ: وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ.

وَفِي النَّسَائِيِّ مَرْفُوعًا: لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَنْ أُخْرَى أَيْ لَا يُؤْخَذُ أَحَدٌ بِجِنَايَةِ أَحَدٍ.

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قُتِلَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (كَانَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ

ص: 306

يَوْمَ يُقْتَلُ) عَلَى قَاتِلِهِ.

(وَلَا تَحْمِلُ عَاقِلَةُ قَاتِلِهِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ) لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ عَبْدًا كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ (وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَصَابَهُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً بَالِغًا مَا بَلَغَ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ الدِّيَةَ) أَيْ قَدْرَهَا (أَوْ أَكْثَرَ فَذَلِكَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنَ السِّلَعِ) جَمْعُ سِلْعَةٍ كَسِدْرَةٍ وَسِدَرٍ، أَيْ بِضَاعَةٌ - بِالْكَسْرِ - قِطْعَةٌ مِنَ الْمَالِ تُعَدُّ لِلتِّجَارَةِ.

ص: 307

[باب مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ الْعَقْلِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ «نَشَدَ النَّاسَ بِمِنًى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الدِّيَةِ أَنْ يُخْبِرَنِي فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ فَقَالَ كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ادْخُلْ الْخِبَاءَ حَتَّى آتِيَكَ فَلَمَّا نَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ فَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ قَتْلُ أَشْيَمَ خَطَأً

ـــــــــــــــــــــــــــــ

17 -

بَابُ مِيرَاثِ الْعَقْلِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ

1619 -

1575 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ.

وَرَوَاهُ أَصْحَابُ ابْنِ شِهَابٍ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَهُشَيْمٌ عَنْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) وَرِوَايَةُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُتَّصِلِ ; لِأَنَّهُ قَدْ رَآهُ، وَصَحَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ سَمَاعَهُ مِنْهُ، وَوُلِدَ سَعِيدٌ لِسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَتِهِ، «وَقَالَ سَعِيدٌ: مَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَضِيَّةٍ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ إِلَّا وَأَنَا أَحْفَظُهَا» .

وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ.

وَفِي طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عُمَرَ تَسْأَلُهُ أَنْ يُوَرِّثَهَا مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ لَكِ شَيْئًا ثُمَّ (نَشَدَ) طَلَبَ (النَّاسَ بِمِنًى) أَيْ طَلَبَ مِنْهُمْ جَوَابَ قَوْلِهِ (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الدِّيَةِ أَنْ يُخْبِرَنِيَ) وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَا أَرَى الدِّيَةَ إِلَّا لِلْعَصَبَةِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَهَلْ سَمِعَ مِنْكُمْ أَحَدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ (فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ) بْنِ عَوْفٍ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ (الْكِلَابِيُّ) أَبُو سَعِيدٍ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ يُعَدُّ بِمِائَةِ فَارِسٍ وَبَعَثَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَرِيَّةٍ وَفِيهِ يَقُولُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:

إِنَّ الَّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتَهُمُ

جَيْشٌ بَعَثْتَ عَلَيْهِمُ الضَّحَّاكَا

طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَمِينِ وَتَارَةً

يَفْرِي الْجَمَاجِمَ صَارِمًا بَتَّاكَا

ص: 307

(فَقَالَ) زَادَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْأَعْرَابِ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ يَنْزِلُ نَجْدًا وَكَانَ وَالِيًا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ هُنَاكَ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ عَلَى صَدَقَاتِ قَوْمِهِ (كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُوَرِّثَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ (امْرَأَةَ أَشْيَمَ) بِمُعْجَمَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ قَالَ فِي الْإِصَابَةِ بِوَزْنِ أَحْمَدَ (الضِّبَابِيِّ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ فَمُوَحَّدَةٍ فَأَلَّفٍ فَمُوَحَّدَةٍ ثَانِيَةٍ قُتِلَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ مُسْلِمًا (مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا) أَشْيَمَ (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ادْخُلِ الْخِبَاءَ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَةٍ وَمَدٍّ، الْخَيْمَةَ (حَتَّى آتِيَكَ فَلَمَّا نَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ) الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بِالْخَبَرِ.

وَرَوَى ابْنُ شَاهِينَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِقِصَّةِ أَشْيَمَ فَقَالَ: إِيتِنِي عَلَى هَذَا بِمَا أَعْرِفُ فَنَشَدْتُ النَّاسَ فِي الْمَوْسِمِ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ زُرَارَةُ بْنُ جُرَيٍّ فَحَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.

وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ «عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ زُرَارَةَ بْنَ جُرَيٍّ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا (فَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) » بَعْدَ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ وَزُرَارَةَ وَالْمُغِيرَةِ ذَلِكَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا عَلِمَ لَا لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ خَبَرَ الْوَاحِدِ بَلْ لِإِشَاعَةِ الْخَبَرِ وَإِشْهَارِهِ بِالْمَوْسِمِ، وَرَدَّ مَا كَانَ رَآهُ أَنَّ الدِّيَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْعَصَبَةِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ ثُمَّ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الضَّحَّاكَ أَخْبَرَ عُمَرَ، وَقَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ الضَّحَّاكَ كَتَبَ إِلَيْهِ وَهْمٌ، إِنَّمَا الضَّحَّاكُ كَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ أَنَّ الْعَالِمَ الْجَلِيلَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنَ السُّنَنِ وَالْعِلْمِ مَا يَكُونُ عِنْدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ عِلْمُ خَاصَّةٍ لَا يُنْكَرُ أَنْ يَخْفَى مِنْهُ الشَّيْءُ عَلَى الْعَالَمِ وَهُوَ عِنْدَ غَيْرِهِ.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ قَتْلُ أَشْيَمَ خَطَّأً) هَكَذَا فِي الْمُوَطَّأِ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ قَتْلُ أَشْيَمَ خَطَأً.

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالْمَحْفُوظُ مَا فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ غَرِيبٌ جِدًّا وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ فَإِنَّهُ كَانَ يُدْخِلُ كَلَامَهُ فِي الْأَحَادِيثِ كَثِيرًا.

ص: 308

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يُقَالُ لَهُ قَتَادَةُ حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ سَاقَهُ فَنُزِيَ فِي جُرْحِهِ فَمَاتَ فَقَدِمَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ اعْدُدْ عَلَى مَاءِ قُدَيْدٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ فَلَمَّا قَدِمَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً ثُمَّ قَالَ أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ قَالَ هَأَنَذَا قَالَ خُذْهَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1620 -

1576 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ

ص: 308

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّدُوقِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَمَانَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ، بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ (يُقَالُ لَهُ قَتَادَةُ) الْمُدْلِجِيُّ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَهُ (حَذَفَ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ رَمَى (ابْنَهُ) لَمْ يُسَمَّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَصَحَّفَ مَنْ رَوَاهُ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ ; لِأَنَّ الْخَذْفَ بِالْخَاءِ إِنَّمَا هُوَ الرَّمْيُ بِالْحَصَى أَوِ النَّوَى وَهُوَ قَدْ قَالَ (بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ سَاقَهُ فَنُزِيَ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ كَعُنِيَ فِي جُرْحِهِ بِضَمِّ الْجِيمِ (فَمَاتَ فَقَدِمَ سُرَاقَةُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ (ابْنُ جُعْشُمٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ بَيْنَهُمَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ نُسِبَ لِجَدِّهِ وَأَبُو مَالِكٍ الْكِنَانِيُّ ثُمَّ الْمُدْلِجِيُّ أَبُو سُفْيَانَ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَقِيلَ بَعْدَهَا (عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ: اعْدُدْ) بِضَمِّ الدَّالِّ الْأُولَى (عَلَى مَاءِ قُدَيْدٍ) بِضَمِّ الْقَافِ وَمُهْمَلَتَيْنِ، مُصَغَّرٌ، مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدِمَ عَلَيْكَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً) بِالْكَسْرِ (وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً) بِفَتْحَتَيْنِ (وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ الْحَوَامِلُ مِنَ الْإِبِلِ (ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: خُذْهَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ) مِنْ دِيَةٍ وَلَا إِرْثٍ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ نَحْوَهُ وَقَالَ: فَوَرَّثَهُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَلَمْ يُوَرِّثْ أَبَاهُ مِنْ دِيَتِهِ شَيْئًا.

ص: 309

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا أَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَالَا لَا وَلَكِنْ يُزَادُ فِيهَا لِلْحُرْمَةِ فَقِيلَ لِسَعِيدٍ هَلْ يُزَادُ فِي الْجِرَاحِ كَمَا يُزَادُ فِي النَّفْسِ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ مَالِكٌ أُرَاهُمَا أَرَادَا مِثْلَ الَّذِي صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عَقْلِ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ أَصَابَ ابْنَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1620 -

1577 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا أَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ) فِي الْمَقْتُولِ (فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ) أَيْ جِنْسِهِ فَشَمِلَ الْأَرْبَعَةَ (فَقَالَ: لَا) تُغَلَّظُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَدْ (وَلَكِنْ يُزَادُ

ص: 309

فِيهَا لِلْحُرْمَةِ) أَيْ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ (فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: هَلْ يُزَادُ فِي الْجِرَاحِ كَمَا يُزَادُ فِي النَّفْسِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ) أَيْ يُزَادُ (قَالَ مَالِكٌ: أَرَاهُمَا) أَظُنُّ سَعِيدًا وَسُلَيْمَانَ (أَرَادَا مِثْلَ الَّذِي صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عَقْلِ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ أَصَابَ ابْنَهُ) مِنْ تَثْلِيثِ الدِّيَةِ.

ص: 310

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أُحَيْحَةُ بْنُ الْجُلَاحِ كَانَ لَهُ عَمٌّ صَغِيرٌ هُوَ أَصْغَرُ مِنْ أُحَيْحَةَ وَكَانَ عِنْدَ أَخْوَالِهِ فَأَخَذَهُ أُحَيْحَةُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ أَخْوَالُهُ كُنَّا أَهْلَ ثُمِّهِ وَرُمِّهِ حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى عُمَمِهِ غَلَبَنَا حَقُّ امْرِئٍ فِي عَمِّهِ قَالَ عُرْوَةُ فَلِذَلِكَ لَا يَرِثُ قَاتِلٌ مَنْ قَتَلَ

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَةِ مَنْ قَتَلَ شَيْئًا وَلَا مِنْ مَالِهِ وَلَا يَحْجُبُ أَحَدًا وَقَعَ لَهُ مِيرَاثٌ وَأَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَأً لَا يَرِثُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ وَلِيَأْخُذَ مَالَهُ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِهِ وَلَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1621 -

1578 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أُحَيْحَةُ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ (بْنُ الْجُلَاحِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ (كَانَ لَهُ عَمٌّ صَغِيرٌ هُوَ أَصْغَرُ مِنْ أُحَيْحَةَ وَكَانَ عِنْدَ أَخْوَالِهِ فَأَخَذَهُ أُحَيْحَةُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ أَخْوَالُهُ: كُنَّا أَهْلَ ثُمِّهِ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الثَّقِيلَةِ وَهَاءِ الضَّمِيرِ قَالَ أَبُو عُبْيَدٍ: الْمُحَدِّثُونَ يَرْوُونَهُ بِالضَّمِّ، وَالْوَجْهُ عِنْدِي الْفَتْحُ، وَالَثَّمُّ إِصْلَاحُ الشَّيْءِ وَإِحْكَامُهُ، يُقَالُ: ثَمَمْتُ أَثِمُّ ثَمًّا، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَالَثَّمُّ الرَّمُّ (وَرُمِّهِ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ شَدِيدَةً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هَكَذَا رَوَتْهُ الرُّوَاةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ مَالَهُ ثُمٌّ وَلَا رُمٌّ بِضَمِّهِمَا، فَالثُّمُّ قُمَاشُ الْبَيْتِ وَالرُّمُّ مَرَمَّةُ الْبَيْتِ، كَأَنَّهُ أُرِيدَ كُنَّا الْقَائِمِينَ بِهِ مُنْذُ وُلِدَ إِلَى أَنْ شَبَّ وَقَوِيَ.

(حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى عُمَمِهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا وَمِيمَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ مُخَفَّفَةٌ أَيْ عَلَى طُولِهِ وَاعْتِدَالِ شَبَابِهِ، وَيُقَالُ لِلنَّبْتِ إِذَا طَالَ اعْتَمَّ.

وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِالتَّشْدِيدِ قَالَهُ الْهَرَوِيُّ أَيْ شَدِّ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَدْ تُشَدَّدُ لِلِازْدِوَاجِ (غَلَبَنَا حَقُّ امْرِئٍ فِي عَمِّهِ) فَأَخَذَهُ مِنَّا قَهْرًا عَلَيْنَا.

(قَالَ عُرْوَةُ: فَلِذَلِكَ لَا يَرِثُ قَاتِلٌ مَنْ قَتَلَ) أَيِ الَّذِي قَتَلَهُ، قَالَ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَثَرُ الْمُوَطَّأِ هَذَا لَمْ أَقِفْ عَلَى نَسَبِ أُحَيْحَةَ هَذَا فِي أَنْسَابِ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ مَنْ أَلَّفَ فِي الصَّحَابَةِ.

وَزَعَمَ أَنَّهُ أُحَيْحَةُ بْنُ الْجُلَاحِ بْنِ حُرَيْشٍ، وَيُقَالُ حِرَاسُ بْنُ حُجْبَا بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ وَكَانَتْ تَحْتَهُ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو الْخَزْرَجِيَّةُ فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرَو بْنَ أُحَيْحَةَ، وَتَزَوَّجَ سَلْمَى بَعْدَ أُحَيْحَةَ

ص: 310

هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ جَدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَعَمَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُحَيْحَةَ هَذَا هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ فِي النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الدُّبُرِ.

وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ السَّائِبِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ لِأَبِيهِ أُحَيْحَةَ صُحْبَةٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا إِنْكَارًا شَدِيدًا.

وَقَالَ فِي الِاسْتِيعَابِ: ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِيمَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَسَمِعَ مِنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا لَا أَدْرِي مَا هُوَ لِأَنَّ أُحَيْحَةَ قَدِيمٌ وَهُوَ أَخُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِأُمِّهِ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ خُزَيْمَةَ مَنْ كَانَ بِهَذَا الْقِدَمِ، وَيَرْوِي عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ السَّائِبِ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ حَفِيدًا لِعَمْرِو بْنِ أُحَيْحَةَ يَعْنِي تَسَمَّى بَاسِمِ جَدِّهِ، قُلْتُ: لَمْ يَتَعَيَّنْ مَا قَالَ بَلْ لَعَلَّ أُحَيْحَةَ بْنَ الْجُلَاحِ وَالِدَ عَمْرٍو آخَرُ غَيْرُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمَرْزُبَانِيُّ عَمْرَو بْنَ أُحَيْحَةَ فِي مُعْجَمِ الشُّعَرَاءِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مُخَضْرَمٌ يَعْنِي أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَأَنْشَدَ لَهُ شِعْرًا، قَالَ: لَمَّا خَطَبَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ. وَأُحَيْحَةُ بْنُ الْجُلَاحِ الْمَشْهُورُ كَانَ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِدَهْرٍ، وَمِنْ وَلَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ أَحَدُ مَنْ سُمِّيَ مُحَمَّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمَبْعُوثَ، وَمَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمَ وَلَدُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَشَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا، وَاسْتُشْهِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وَمِمَّنْ لَهُ صُحْبَةٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُحَيْحَةَ عِيَاضُ بْنُ عَمْرِو بْنِ شَهْلِ بْنِ أُحَيْحَةَ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَعِمْرَانُ وَبُلَيْلٌ وَلَدَا بِلَالِ بْنِ أُحَيْحَةَ شَهِدًا أُحُدًا أَيْضًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَبَاهُمْ فِي الصَّحَابَةِ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ أُحَيْحَةَ أَيْضًا فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ نَاقِدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْأَصْرَمِ بْنِ حُجْبَا، أُمُّهُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الْمَذْكُورِ، وَذَاكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وَهْمِ مَنْ ذَكَرَ أُحَيْحَةَ بْنَ الْجُلَاجِ الْأَكْبَرَ فِي الصَّحَابَةِ.

وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ: وَهِمَ بَعْضُهُمْ مَا فِي الْمُوَطَّأِ بِأَنَّ أُحَيْحَةَ جَاهِلِيٌّ لَمْ يُدْرِكِ الْإِسْلَامَ، وَالْأَنْصَارُ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَكَيْفَ يُقَالُ مِنَ الْأَنْصَارِ؟ قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ يَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّ فِي اللَّفْظِ تَسَاهُلًا لِمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمَذْكُورِ، وَصَارَ لَهُمْ هَذَا الِاسْمُ كَالنَّسَبِ ذُكِرَ فِي جُمْلَتِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ إِخْوَتِهِمُ، انْتَهَى.

وَهَذَا تَسْلِيمٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَقَدْ أَغْرَبَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَذَّاءِ فِي رِجَالِ الْمُوَطَّأِ فَزَعَمَ أَنَّ أُحَيْحَةَ بْنَ الْجُلَاحِ قَدِيمُ الْوَفَاةِ وَأَنَّهُ عُمِّرَ حَتَّى أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَأَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَ عَنْهُ مَالِكٌ مَا ذَكَرَ، وَأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يُدْرِكْهُ وَإِنَّمَا وَقَعَ لَهُ الَّذِي وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ انْتَهَى.

فَجَعَلَهُ تَارَةً أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَتَارَةً لَمْ يُدْرِكْهُ، الْحَقُّ أَنَّهُ مَاتَ قَدِيمًا كَمَا قَدَّمْتُهُ.

وَأَمَّا صَاحِبُ الْقِصَّةِ فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ غَيْرُهُ وَكَأَنَّهُ وَالِدُ عَمْرِو بْنِ أُحَيْحَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَيَكُونُ أُحَيْحَةُ الصَّحَابِيُّ وَالِدُ عَمْرٍو غَيْرَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ جَدِّ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الْقَدِيمِ الْجَاهِلِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْغَرُ حَفِيدَ

ص: 311

الْأَكْبَرِ وَافَقَ اسْمُهُ وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ جَدِّهِ وَاسْمَ أَبِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُ الْإِصَابَةِ.

(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَةِ مَنْ قَتَلَ شَيْئًا وَلَا مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَحْجُبُ أَحَدًا وَقَعَ لَهُ مِيرَاثٌ) لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ وَارِثًا.

(وَأَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَأً لَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا) وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَامَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، وَتَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا وَمَالِهِ، وَهُوَ يَرِثُ مِنْ دِيَتِهَا مَا لَمْ يَقْتُلْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا فَلَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ وَمَالِهِ شَيْئًا، وَإِنْ قَتَلَ صَاحِبَهُ خَطَأً وَرِثَ مِنْ مَالِهِ وَلَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ» ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ لَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ.

(وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ وَلِيَأْخُذَ مَالَهُ) الَّذِي هُوَ عِلَّةُ مَنْعِ إِرْثِهِ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا، فَإِذَا انْتَفَتِ الْعِلَّةُ بِكَوْنِ الْقَتْلِ خَطَأً وَرِثَ مِنَ الْمَالِ أَوْ لَا يَرْثُ عَمَلًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ (فَأَحَبُّ) الْقَوْلَيْنِ (إِلَيَّ أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِهِ وَلَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ) لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا.

ص: 312

[باب جَامِعِ الْعَقْلِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ الْجُبَارِ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ

وَقَالَ مَالِكٌ الْقَائِدُ وَالسَّائِقُ وَالرَّاكِبُ كُلُّهُمْ ضَامِنُونَ لِمَا أَصَابَتْ الدَّابَّةُ إِلَّا أَنْ تَرْمَحَ الدَّابَّةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا شَيْءٌ تَرْمَحُ لَهُ وَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الَّذِي أَجْرَى فَرَسَهُ بِالْعَقْلِ قَالَ مَالِكٌ فَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ وَالسَّائِقُ أَحْرَى أَنْ يَغْرَمُوا مِنْ الَّذِي أَجْرَى فَرَسَهُ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَحْفِرُ الْبِئْرَ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ يَرْبِطُ الدَّابَّةَ أَوْ يَصْنَعُ أَشْبَاهَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْنَعَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أُصِيبَ فِي ذَلِكَ مِنْ جَرْحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَقْلُهُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ فَهُوَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً وَمَا بَلَغَ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْنَعَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا غُرْمَ وَمِنْ ذَلِكَ الْبِئْرُ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ لِلْمَطَرِ وَالدَّابَّةُ يَنْزِلُ عَنْهَا الرَّجُلُ لِلْحَاجَةِ فَيَقِفُهَا عَلَى الطَّرِيقِ فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِي هَذَا غُرْمٌ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَنْزِلُ فِي الْبِئْرِ فَيُدْرِكُهُ رَجُلٌ آخَرُ فِي أَثَرِهِ فَيَجْبِذُ الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى فَيَخِرَّانِ فِي الْبِئْرِ فَيَهْلِكَانِ جَمِيعًا أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي جَبَذَهُ الدِّيَةَ قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيِّ يَأْمُرُهُ الرَّجُلُ يَنْزِلُ فِي الْبِئْرِ أَوْ يَرْقَى فِي النَّخْلَةِ فَيَهْلِكُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ هَلَاكٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ عَقْلٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْقِلُوهُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِيمَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنْ الدِّيَاتِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَقْلُ عَلَى مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ مِنْ الرِّجَالِ وَقَالَ مَالِكٌ فِي عَقْلِ الْمَوَالِي تُلْزَمُهُ الْعَاقِلَةُ إِنْ شَاءُوا وَإِنْ أَبَوْا كَانُوا أَهْلَ دِيوَانٍ أَوْ مُقْطَعِينَ وَقَدْ تَعَاقَلَ النَّاسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ دِيوَانٌ وَإِنَّمَا كَانَ الدِّيوَانُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ غَيْرُ قَوْمِهِ وَمَوَالِيهِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَنْتَقِلُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَ مَالِكٌ وَالْوَلَاءُ نَسَبٌ ثَابِتٌ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَا أُصِيبَ مِنْ الْبَهَائِمِ أَنَّ عَلَى مَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فَيُصِيبُ حَدًّا مِنْ الْحُدُودِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا الْفِرْيَةَ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ عَلَى مَنْ قِيلَتْ لَهُ يُقَالُ لَهُ مَا لَكَ لَمْ تَجْلِدْ مَنْ افْتَرَى عَلَيْكَ فَأَرَى أَنْ يُجْلَدَ الْمَقْتُولُ الْحَدَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْتَلَ ثُمَّ يُقْتَلَ وَلَا أَرَى أَنْ يُقَادَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ إِلَّا الْقَتْلَ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَتِيلَ إِذَا وُجِدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ فِي قَرْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ دَارًا وَلَا مَكَانًا وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ الْقَتِيلُ ثُمَّ يُلْقَى عَلَى بَابِ قَوْمٍ لِيُلَطَّخُوا بِهِ فَلَيْسَ يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ النَّاسِ اقْتَتَلُوا فَانْكَشَفُوا وَبَيْنَهُمْ قَتِيلٌ أَوْ جَرِيحٌ لَا يُدْرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ الْعَقْلَ وَأَنَّ عَقْلَهُ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ نَازَعُوهُ وَإِنْ كَانَ الْجَرِيحُ أَوْ الْقَتِيلُ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ فَعَقْلُهُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

18 -

بَابُ جَامِعِ الْعَقْلِ

1622 -

1579 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ الزُّهْرِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) الْقُرَشِيِّ (وَ) عَنْ (أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ كِلَاهُمَا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: جَرْحُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا غَيْرُ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، فَأَمَّا بِالضَّمِّ فَالِاسْمُ (الْعَجْمَاءِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَبِالْمَدِّ تَأْنِيثُ أَعْجَمَ وَهُوَ الْبَهِيمَةُ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِكُلِّ حَيَوَانٍ غَيْرَ الْإِنْسَانِ وَلِمَنْ لَا يُفْصِحُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ سُمِّيَتِ الْبَهِيمَةُ

ص: 312

عَجْمَاءَ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ (جُبَارٌ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ هَدَرٌ لَا شَيْءَ فِيهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: جَرْحُهَا جِنَايَتُهَا، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ جِنَايَتَهَا نَهَارًا وَجَرْحَهَا بِلَا سَبَبٍ فِيهِ لِأَحَدٍ أَنَّهُ هَدَرٌ لَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا أَرْشَ، أَيْ فَلَا يَخْتَصُّ الْهَدَرُ بِالْجِرَاحِ بَلْ كُلُّ الْإِتْلَافَاتِ مُلْحَقَةٌ بِهَا، قَالَ عِيَاضٌ: وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْجَرْحِ ; لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ أَوْ هُوَ مِثَالٌ نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ.

وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ عَنْ مَالِكٍ: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَقْدِيرٍ؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْعَجْمَاءِ نَفْسِهَا جُبَارًا، وَدَلَّتْ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ:" «الْعَجْمَاءُ جَرَحُهَا جُبَارٌ» "، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُقَدَّرَ هُوَ جُرْحُهَا فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجُرْحِ كَمَا عُلِمَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رِوَايَةً تَعَيَّنَ الْمُقَدَّرُ لَمْ يَكُنْ لِرِوَايَةٍ التِّنِّيسِيِّ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ بِتَقْدِيرٍ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ لَا عُمُومَ لَهُ.

(وَالْبِئْرُ) بِكَسْرٍ الْمُوَحَّدَةِ وَبَاءٍ سَاكِنَةٍ مَهْمُوزَةٍ وَيَجُوزُ تَسْهِيلُهَا وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهَا عَلَى مَعْنَى الْقَلِيبِ وَالطَّوَى (جُبَارٌ) هَدَرٌ لَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّهَا فِي كُلِّ مَا سَقَطَ فِيهَا بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ إِذَا حَفَرَهَا فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ حَفْرُهَا فِيهِ كَمِلْكِهِ أَوْ دَارِهِ أَوْ فِنَائِهِ أَوْ فِي صَحْرَاءَ لِمَاشِيَةٍ أَوْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ مُحْتَمِلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَدَاوُدَ وَأَصْحَابِهِمْ قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْبِئْرِ هُنَا الْعَادِيَّةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي لَا يُعْلَمُ لَهَا مَالِكٌ تَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ فَيَقَعُ فِيهَا إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ فَلَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ انْتَهَى، وَهَذَا تَضْيِيقٌ.

(وَالْمَعْدِنُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْمَكَانُ مِنَ الْأَرْضِ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَادِ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ وَرَصَاصٍ وَكِبْرِيتٍ وَغَيْرِهَا مِنْ " عَدَنَ " بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ " يَعْدِنُ " بِالْكَسْرِ " عُدُونًا " سُمِّيَ بِهِ لِعُدُونِ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِيهِ كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَيْ إِقَامَتُهُ إِذَا انْهَارَ عَلَى مَنْ حَفَرَ فِيهِ فَهَلَكَ فَدَمُهُ (جُبَارٌ) لَا ضَمَانَ فِيهِ كَالْبِئْرِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ فِي مَعْدِنٍ فَهَلَكَ فَهَدَرٌ لَا شَيْءَ عَلَى مَنِ اسْتَأْجَرَهُ وَلَا دِيَةَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا غَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ فِي زَكَاتِهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 267) وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْ مَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةِ الصَّدَقَةَ.

(وَفِي الرِّكَازِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَخِفَّةِ الْكَافِ فَأَلِفٍ فَزَايٍ وَهُوَ كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ فِي الزَّكَاةِ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ (الْخُمُسُ) فِي الْحَالِ لَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِاتِّفَاقٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْحَرْبِ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ كَنُحَاسٍ وَجَوْهَرٍ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلَافٌ قَدَّمْتُهُ فِي الزَّكَاةِ، وَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ فِيهِ الْخُمُسُ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِي اسْتِخْرَاجِهِ إِلَى عَمَلٍ وَمُؤْنَةٍ وَمُعَالَجَةٍ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ أَوْ لِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ، فَنُزِّلَ وَاجِدُهُ مَنْزِلَةَ الْغَانِمِ فَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَتَفْسِيرُهُ بِدَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ سَمَاعِهِ مِنَ

ص: 313

الْعُلَمَاءِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ بِهِ هُوَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ: الرِّكَازُ هُوَ الْمَعْدِنُ فَهُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ فِيهِمَا الْخُمُسُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَكَرَ لِهَذَا حُكْمًا غَيْرَ حُكْمِ الْأَوَّلِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ، وَاحْتِمَالُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ ذَكَرَهَا صلى الله عليه وسلم فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَجَمَعَهَا الرَّاوِي وَسَاقَهَا مَسَاقًا وَاحِدًا فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ خِلَافَ الظَّاهِرِ وَالْأَصْلِ فَلَا يُعْبَأُ بِهِ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يُطْلَقُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ قَالَ: وَقِيلَ الرِّكَازُ قِطَعُ الْفِضَّةِ تُخْرَجُ مِنَ الْمَعْدِنِ، وَقِيلَ مِنَ الذَّهَبِ أَيْضًا.

(لَطِيفَةٌ) مِمَّا نُعِتَ بِهِ الْمُحِبُّ أَنَّهُ كَالدَّابَّةِ جَرْحَهُ جُبَارٌ؛ حُكِيَ أَنَّ خُطَّافًا رَاوَدَ خُطَّافَةً فِي قُبَّةِ سُلَيْمَانَ عليه الصلاة والسلام فَسَمِعَهُ يَقُولُ: بَلَغَ مِنِّي حُبُّكِ لَوْ قُلْتِ لِيَ اهْدِمِ الْقُبَّةَ عَلَى سُلَيْمَانَ فَعَلْتُ، فَاسْتَدْعَاهُ سُلَيْمَانُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَعْجَلْ إِنْ لِلْمَحَبَّةِ لِسَانًا لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِلَّا الْمُحِبُّونَ، وَالْعَاشِقُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلِسَانِ الْمَحَبَّةِ لَا بِلِسَانِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَقَالَ: هَذَا جَرْحٌ جُبَارٌ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الزَّكَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ.

(قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ الْجُبَارِ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا أَنَّهُ الْهَدْرُ الَّذِي لَا أَرْشَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَقَالَ مَالِكٌ) مُقَيِّدًا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مُبَيِّنًا لِلْمُرَادِ بِهِ (الْقَائِدُ) لِلدَّابَّةِ (وَالسَّائِقُ) لَهَا (وَالرَّاكِبُ) عَلَيْهَا (كُلُّهُمْ ضَامِنُونَ لِمَا أَصَابَتِ الدَّابَّةُ) لِنِسْبَةِ سَيْرِهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ تَسْتَقِلَّ بِالْفِعْلِ حَتَّى يَكُونَ جُبَارًا فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ (إِلَّا أَنْ تَرْمَحَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (الدَّابَّةُ) أَيْ تَضْرِبَ بِرِجْلِهَا (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا شَيْءٌ) كَنَخْسٍ تَرْمَحُ لَهُ فَلَا ضَمَانَ.

(وَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الَّذِي أَجْرَى فَرَسَهُ بِالْعَقْلِ) أَيِ الدِّيَةِ.

(فَالْقَائِدُ وَالسَّائِقُ وَالرَّاكِبُ أَحْرَى) أَوْلَى (أَنْ يَغْرَمَ مِنَ الَّذِي أَجْرَى فَرَسَهُ) لِأَنَّهُ إِذَا أَجْرَاهَا لَا يَسْتَطِيعُ غَالِبًا مَنْعَهَا بِخِلَافِهِمْ.

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَحْفِرُ)

ص: 314

بِكَسْرِ الْفَاءِ (الْبِئْرَ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ يَرْبِطُ الدَّابَّةَ أَوْ يَصْنَعُ أَشْبَاهَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ) يُفَصَّلُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ (مِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ) يَصْنَعَهُ (عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ) كَالضَّيِّقَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ (فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أُصِيبَ فِي ذَلِكَ مِنْ جَرْحٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَقْلُهُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ فَهُوَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونُ الثُّلُثِ.

(وَمَا بَلَغَ الثُّلُثَ فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَ) إِنْ كَانَ (مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْنَعَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ) كَالْوَاسِعَةِ الْمُحْتَمِلَةَ (فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا غُرْمَ) بَلْ هُوَ هَدْرٌ وَعَلَيْهِ يُحَمَلُ الْحَدِيثُ.

(وَمِنْ ذَلِكَ الْبِئْرُ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ لِلْمَطَرِ، وَالدَّابَّةُ يَنْزِلُ عَنْهَا الرَّجُلُ لِلْحَاجَةِ فَيَقِفُهَا عَلَى الطَّرِيقِ فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِي هَذَا غُرْمٌ) لَا عَلَى الرَّجُلِ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَلَا غَيْرِهِمَا.

(وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَنْزِلُ فِي الْبِئْرِ فَيُدْرِكُهُ رَجُلٌ آخَرُ فِي أَثَرِهِ) بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ عَقِبِهِ (فَيَجْبِذُ) بِجِيمٍ فَمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ مَقْلُوبَ جَذَبَ (الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى فَيَخِرَّانِ) يَسْقُطَانِ (فِي الْبِئْرِ فَيَهْلِكَانِ جَمِيعًا أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي جَبَذَهُ) وَهُوَ الْأَسْفَلُ (الدِّيَةَ) لِجَذْبِهِ، وَالْأَسْفَلُ هَدْرٌ (وَالصَّبِيُّ يَأْمُرُهُ الرَّجُلُ يَنْزِلُ فِي الْبِئْرِ أَوْ يَرْقَى) يَصْعَدُ (النَّخْلَةَ فَيَهْلِكَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ هَلَاكٍ أَوْ غَيْرِهِ) مِثْلِ كَسْرِ عُضْوٍ.

(وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ عَقْلٌ

ص: 315

يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْقِلُوهُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِيمَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ) بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ عَاقِلٍ (مِنَ الدِّيَاتِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَقْلُ عَلَى مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ مِنَ الرِّجَالِ) الْعَصَبَةِ سُمُّوا عَاقِلَةً لِعَقْلِهِمُ الْإِبِلَ بِفِنَاءِ دَارِ الْمُسْتَحِقَّ أَوْ لِتَحَمُّلِهِمْ عَنِ الْجَانِي الْعَقْلَ أَيِ الدِّيَةَ أَوْ لِمَنْعِهِمْ عَنْهُ، وَالْعَقْلُ الْمَنْعُ وَمِنْهُ سُمِّي الْعَقْلُ عَقْلًا لِمَنْعِهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الثَّلَاثَةِ يُنَاسِبُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ (وَقَالَ مَالِكٌ فِي عَقْلِ الْمَوَالِي يُلْزَمُهُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (الْعَاقِلَةُ إِنْ شَاءُوا وَإِنْ أَبَوْا) وَسَوَاءٌ (كَانُوا أَهْلَ دِيوَانٍ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَتُفَتَحُ مُعَرَّبٌ (أَوْ مُقْطَعِينَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتَحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ مُنْقَطِعِينَ بِنُونٍ قَبْلَ الْقَافِ.

(وَقَدْ تَعَاقَلَ النَّاسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ) يُوجَدَ (دِيوَانٌ وَإِنَّمَا كَانَ الدِّيوَانُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ فِي الْعَرَبِ أَيْ رَتَّبِ الْجَوَائِزَ لِلْعُمَّالِ وَغَيْرِهِمْ (فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ غَيْرُ قَوْمِهِ وَمَوَالِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُنْقَلُ) عَنْ مَنْ هُوَ لَهُ (وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» .

قَالَ مَالِكٌ: وَالْوَلَاءُ نَسَبٌ ثَابِتٌ) تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ ( «لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ) .

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَا أُصِيبَ مِنَ الْبَهَائِمِ أَنَّ عَلَى مَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا) إِذَا هِيَ مِنَ الْأَمْوَالِ.

(قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فَيُصِيبُ حَدًّا مِنَ الْحُدُودِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ) فَيَنْدَرِجُ الْأَصْغَرُ فِي الْأَكْبَرِ (إِلَّا الْفِرْيَةَ) بِكَسْرِ

ص: 316

الْفَاءِ الْقَذْفَ (فَإِنَّهَا تَثْبُتُ عَلَى مَنْ قِيلَتْ لَهُ يُقَالُ لَهُ مَا لَكَ) أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ (لَمْ تَجْلِدْ مَنِ افْتَرَى عَلَيْكَ) فَتَلْحَقُهُ الْمَعَرَّةُ بِذَلِكَ (فَأَرَى أَنْ يُجْلَدَ الْمَقْتُولُ الْحَدَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْتَلَ ثُمَّ يُقْتَلُ، وَلَا أَرَى أَنْ يُقَادَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْجِرَاحِ إِلَّا الْقَتْلَ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ) بِخِلَافِ حَدِّ الْفِرْيَةِ فَلَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْقَتْلُ.

(وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَتِيلَ إِذَا وُجِدَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ) بِفَتْحِ النُّونِ وَفِي نُسْخَةٍ ظَهْرِي وَكُلٌّ مِنْهُمَا زَائِدٌ أَيْ بَيْنَ (قَوْمٍ فِي قَرْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا) كَحَارَةٍ وَبَسَاتِينَ (لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ دَارًا وَلَا مَكَانًا) فَالْبَعِيدُ أَوْلَى (وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (الْقَتِيلُ ثُمَّ يُلْقَى عَلَى بَابِ قَوْمٍ لِيُلَطِّخُوا) أَيْ يَرْمُوا (بِهِ) يُقَالُ لَطَّخَهُ بِسُوءٍ رَمَاهُ بِهِ (فَلَيْسَ يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ) وَأَيْضًا فَالْقَاتِلُ لَا يُبْقِي الْقَتِيلَ فِي مَكَانِهِ غَالِبًا.

(قَالَ مَالِكٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ اقْتَتَلُوا فَانْكَشَفُوا وَبَيْنَهُمْ قَتِيلٌ أَوْ جَرِيحٌ لَا يُدْرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ) أَيْ فِيهِ (الْعَقْلَ) الدِّيَةَ (أَنَّ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ نَازَعُوهُ) خَاصَمُوهُ حَتَّى اقْتَتَلُوا (وَإِنْ كَانَ الْجَرِيحُ أَوِ الْقَتِيلُ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ) الْمُتَنَازِعَيْنِ (فَعَقْلُهُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا) لِأَنَّ جَعْلَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ.

ص: 317

[باب مَا جَاءَ فِي الْغِيلَةِ وَالسِّحْرِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ نَفَرًا خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَتَلُوهُ قَتْلَ غِيلَةٍ وَقَالَ عُمَرُ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

19 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغِيلَةِ وَالسِّحْرِ

1623 -

1580 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) مَرَّ أَنَّ رِوَايَةَ سَعِيدٍ عَنْهُ مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّهُ رَآهُ وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ سَمَاعَهُ مِنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الْمُوَطَّأِ سَوَاءً، أَنَّ عُمَرَ (قَتَلَ نَفَرًا خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً) شَكَّ الرَّاوِي (بِرَجُلٍ وَاحِدٍ) غُلَامٍ اسْمُهُ أُصَيْلٌ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ (قَتَلُوهُ) قَتْلَ (غِيلَةٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ أَيْ خَدِيعَةً أَيْ سِرًّا.

(وَقَالَ عُمَرُ: لَوْ تَمَالَأَ) تَعَاوَنَ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ (أَهْلُ صَنْعَاءَ) بِالْمَدِّ بَلَدٍ مَعْرُوفٍ بِالْيَمَنِ (لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا) بِهِ.

وَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ أَثَرٍ وَصَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ وَالطَّحَاوِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ حَكِيمٍ الصَّنْعَانِيَّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً بِصَنْعَاءَ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَتَرَكَ فِي حِجْرِهَا ابْنًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا غُلَامًا يُقَالُ لَهُ أُصَيْلٌ، فَاتَّخَذَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ زَوْجِهَا خَلِيلًا فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ يَفْضَحُنَا فَاقْتُلْهُ فَأَبَى فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ فَطَاوَعَهَا فَاجْتَمَعَ عَلَى قَتْلِ الْغُلَامِ الرَّجُلُ وَرَجُلٌ آخَرُ وَالْمَرْأَةُ وَخَادِمُهَا فَقَتَلُوهُ ثُمَّ قَطَّعُوهُ أَعْضَاءَ وَجَعَلُوهُ فِي عَيْبَةٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ فَمُوَحَّدَةٍ وِعَاءٍ مِنْ أَدَمٍ فَوَضَعُوهُ فِي رَكِيَّةٍ بِشَدِّ التَّحْتِيَّةِ بِئْرٍ لَمْ تُطْوَ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، فَأُخِذَ خَلِيلُهَا فَاعْتَرَفَ ثُمَّ اعْتَرَفَ الْبَاقُونَ، فَكَتَبَ يَعْلَى وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ بِشَأْنِهِمْ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ عُمَرُ بِقَتْلِهِمْ جَمِيعًا، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ لَقَتَلْتُهُمْ أَجْمَعِينَ.

ص: 318

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ قَالَ مَالِكٌ السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ مَثَلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1624 -

1581 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ) الْأَنْصَارِيِّ وَنُسِبَ أَبُوهُ إِلَى جَدِّهِ وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَمُحَمَّدٌ ثِقَةٌ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ (أَنَّهُ بَلَغَهُ

ص: 318

أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا) أَيْ عَلَّقَتْ حَفْصَةُ عِتْقَهَا عَلَى مَوْتِهَا (فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ) لَا أَنَّهَا تَوَلَّتْهُ بِنَفْسِهَا.

(قَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ مِثْلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ: وَلَقَدْ) لَامُ قَسَمٍ (عَلِمُوا) أَيِ الْيَهُودُ (لَمَنِ) لَامُ ابْتِدَاءٍ مُعَلِّقَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَمَنْ مَوْصُولَةٌ (اشْتَرَاهُ) اخْتَارَهُ أَوِ اسْتَبْدَلَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) نَصِيبٍ فِي الْجَنَّةِ (فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ) لَا أَنْ عَمِلَهُ غَيْرُهُ لَهُ.

ص: 319

[باب مَا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ]

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَقَادَ وَلِيَّ رَجُلٍ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ بِعَصًا فَقَتَلَهُ وَلِيُّهُ بِعَصًا

قَالَ مَالِكٌ وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ضَرَبَ الرَّجُلَ بِعَصًا أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ أَوْ ضَرَبَهُ عَمْدًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَمْدُ وَفِيهِ الْقِصَاصُ قَالَ مَالِكٌ فَقَتْلُ الْعَمْدِ عِنْدَنَا أَنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَضْرِبَهُ حَتَّى تَفِيظَ نَفْسُهُ وَمِنْ الْعَمْدِ أَيْضًا أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي النَّائِرَةِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَيُنْزَى فِي ضَرْبِهِ فَيَمُوتُ فَتَكُونُ فِي ذَلِكَ الْقَسَامَةُ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْعَمْدِ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ بِالرَّجُلِ الْحُرِّ الْوَاحِدِ وَالنِّسَاءُ بِالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ وَالْعَبِيدُ بِالْعَبْدِ كَذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

20 -

بَابُ مَا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ

1625 -

1582 - (مَالِكٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ) بْنِ مَظْعُونٍ الصَّحَابِيَّةِ بِنْتِ الصَّحَابِيِّ بَايَعَتْ مَعَ أُمِّهَا (أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَقَادَ وَلِيَّ رَجُلٍ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ بِعَصًا فَقَتَلَهُ وَلِيُّهُ بِعَصًا) لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِمَا قَتَلَ بِهِ (قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ضَرَبَ الرَّجُلَ بِعَصًا أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ أَوْ ضَرَبَهُ عَمْدًا) بِيَدِهِ (فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَمْدُ وَفِيهِ الْقِصَاصُ) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا

ص: 319

الْيَهُودِيَّ الَّذِي قَتَلَ امْرَأَةً بِحَجَرٍ فَقَتَلَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ» " فَفِيهِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ بِمَا قَتَلَ بِهِ كَمَا قَالَ.

(فَقَتْلُ الْعَمْدِ عِنْدَنَا أَنْ يَعْمِدَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ يَقْصِدَ (الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَضْرِبَهُ حَتَّى تَفِيضَ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ تَخْرُجَ نَفْسُهُ، وَيَصِحُّ قِرَاءَتُهُ بِتَحْتِيَّةِ أَوَّلِهِ وَنَصْبِ نَفْسِهِ، وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126](سورة النَّحْلِ: الْآيَةُ 126) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 194) وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ مُحْتَجِّينَ بِحَدِيثِ: " «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» " وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مَعَ ضَعْفِ إِسْنَادِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَدَيٍّ: طَرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الْكُوفِيِّينَ " السُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ وَلَا تُخَصِّصُهُ ".

(وَمِنَ الْعَمْدِ أَيْضًا أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي الثَّائِرَةِ) الْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ، مُشْتَقَّةٍ مِنَ الثَّأْرِ (تَكُونُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَيُنْزَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِالزَّايِ آخِرَهُ (فِي ضَرْبِهِ فَيَمُوتُ فَتَكُونُ فِي ذَلِكَ الْقَسَامَةُ) خَمْسُونَ يَمِينًا (وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْعَمْدِ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ) الْمُتَعَدِّدُونَ (بِالرَّجُلِ الْحُرِّ الْوَاحِدِ، وَالنِّسَاءُ) الْمُتَعَدِّدَاتُ (بِالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ، وَالْعَبِيدُ) الْمُتَعَدِّدُونَ (بِالْعَبْدِ كَذَلِكَ أَيْضًا) فَيُقْتَلُ الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ مَعَ الْمُسَاوَاةِ.

ص: 320

[باب الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَكْرَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ اقْتُلْهُ بِهِ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فَهَؤُلَاءِ الذُّكُورُ {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ بَيْنَ الْإِنَاثِ كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْأَمَةُ تُقْتَلُ بِالْأَمَةِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْقِصَاصُ يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالْقِصَاصُ أَيْضًا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فَذَكَرَ اللَّهُ تبارك وتعالى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَنَفْسُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ بِنَفْسِ الرَّجُلِ الْحُرِّ وَجُرْحُهَا بِجُرْحِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُمْسِكُ الرَّجُلَ لِلرَّجُلِ فَيَضْرِبُهُ فَيَمُوتُ مَكَانَهُ أَنَّهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ قُتِلَا بِهِ جَمِيعًا وَإِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الضَّرْبَ مِمَّا يَضْرِبُ بِهِ النَّاسُ لَا يَرَى أَنَّهُ عَمَدَ لِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَيُعَاقَبُ الْمُمْسِكُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ وَيُسْجَنُ سَنَةً لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ عَمْدًا أَوْ يَفْقَأُ عَيْنَهُ عَمْدًا فَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ أَوْ تُفْقَأُ عَيْنُ الْفَاقِئِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَلَا قِصَاصٌ وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّ الَّذِي قُتِلَ أَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فِي الشَّيْءِ بِالَّذِي ذَهَبَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ عَمْدًا ثُمَّ يَمُوتُ الْقَاتِلُ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّمِ إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ شَيْءٌ دِيَةٌ وَلَا غَيْرُهَا وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] قَالَ مَالِكٌ فَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي قَتَلَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَاتِلُهُ الَّذِي قَتَلَهُ فَلَيْسَ لَهُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ قَوَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْعَبْدُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَهُوَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

21 -

بَابُ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ

1583 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ أُتِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بِسَكْرَانَ) حَالَ كَوْنِهِ (قَدْ قَتَلَ رَجُلًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ اقْتُلْهُ بِهِ) لِأَنَّ السَّكْرَانَ يُؤْخَذُ بِجِنَايَاتِهِ لِئَلَّا يَتَسَاكَرَ النَّاسُ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ وَيَدَّعُوا عَدَمَ الْعَقْلِ

ص: 320

بِالسُّكْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْقَصْدُ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ.

(قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلِ) بِالْجَرِّ بَدَلٌ، أَوْ بِالرَّفْعِ أَيْ وَهِيَ قَوْلُ (اللَّهِ تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) يُقْتَلُ لَا بِالْعَبْدِ (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) فَهَؤُلَاءِ الذُّكُورُ (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى)(سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 178) أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ بَيْنَ الْإِنَاثِ كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الذُّكُورِ، وَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ:(كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ) الذَّكَرِ (وَالْأَمَةُ تُقْتَلُ بِالْأَمَةِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْقِصَاصُ يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ) كَمَا دَلَّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ الْآيَةُ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ كَمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الدِّينِ، فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ رَقِيقًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا.

(وَالْقِصَاصُ أَيْضًا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَكَتَبْنَا) فَرَضْنَا (عَلَيْهِمْ فِيهَا) أَيِ التَّوْرَاةِ (أَنَّ النَّفْسَ) تُقْتَلُ (بِالنَّفْسِ) إِذَا قَتَلَتْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ (وَالْعَيْنَ) تُفْقَأُ (بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ) يُجْدَعُ (بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ) تُقْطَعُ (بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ) تُقْلَعُ (بِالسِّنِّ) وَفِي قِرَاءَةٍ بِرَفْعِ الْأَرْبَعَةِ (وَالْجُرُوحَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ (قِصَاصٌ) أَيْ يُقْتَصُّ مِنْهَا إِذَا أَمْكَنَ كَيَدٍ وَرِجْلٍ وَذَكَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ حُكُومَةٌ كَمَا مَرَّ، وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا حُكِيَ مُتَقَرِّرًا وَلَمْ يُنْسَخْ، وَقَدِ احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ.

(فَذَكَرَ اللَّهُ تبارك وتعالى النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وَأَطْلَقَ فَلَمْ يُقَيِّدْ بِذَكَرٍ (فَنَفْسُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ بِنَفْسِ الرَّجُلِ الْحُرِّ وَجُرْحُهَا بِجُرْحِهِ) لِعُمُومِ الْآيَةِ.

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِعُمُومِهَا

ص: 321

عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ وَعَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ:" «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» " وَحَكَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُخَصِّصٍ لِلْآيَةِ انْتَهَى.

وَالدَّلِيلُ هُوَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ.

(مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يُمْسِكُ الرَّجُلَ لِلرَّجُلِ فَيَضْرِبُهُ فَيَمُوتُ مَكَانَهُ إِنَّهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى) يَعْتَقِدُ (أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ قُتِلَا جَمِيعًا وَإِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الضَّرْبَ مِمَّا يَضْرِبُ بِهِ النَّاسُ لَا يَرَى أَنَّهُ عَمَدَ) بِفَتْحَتَيْنِ قَصَدَ (لِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَيُعَاقَبُ الْمُمْسِكُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ وَيُسْجَنُ) بَعْدَهَا (سَنَةً لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَظُنَّ الْقَتْلَ.

(وَفِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ عَمْدًا أَوْ يَفْقَأُ عَيْنَهُ عَمْدًا فَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ أَوْ تُفْقَأُ عَيْنُ الْفَاقِئِ) بِالْهَمْزِ (قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَلَا قِصَاصٌ وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّ الَّذِي قُتِلَ أَوْ فُقِئَتْ) قُلِعَتْ (عَيْنُهُ فِي الشَّيْءِ) أَيِ الدِّيَةِ أَوِ الْقِصَاصِ (بِالَّذِي) الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ الَّذِي (ذَهَبَ) مَنْ قَتَلَ أَوْ فَقَأَ عَيْنَ الْقَاتِلِ أَوِ الْفَاقِئِ (وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ عَمْدًا ثُمَّ يَمُوتُ الْقَاتِلُ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّمِ إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ شَيْءٌ دِيَةٌ وَلَا غَيْرُهَا) بَيَانٌ لِشَيْءٍ (وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ، تبارك وتعالى: كُتِبَ) فُرِضَ (عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) جَمْعِ قَتِيلٍ، وَالْمَعْنَى فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَتْلَى (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ مَأْخُوذٌ أَوْ مَقْتُولٌ بِالْحُرِّ (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) عَطْفٌ عَلَيْهِ (فَإِنَّمَا يَكُونُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي قَتَلَهُ،

ص: 322

وَإِذَا هَلَكَ قَاتِلُهُ الَّذِي قَتَلَهُ فَلَيْسَ لَهُ قِصَاصٌ) لِتَعَذُّرِهِ (وَلَا دِيَةٌ) فِي مَالِهِ (وَلَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ قَوَدٌ) قِصَاصٌ (فِي شَيْءٍ مِنَ الْجِرَاحِ) لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ (وَ) لَكِنَّ (الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا) وَتِلْكَ قَاعِدَةٌ أَنَّهُ يُقْتَلُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى.

(وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَهُوَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ) فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا لِأَنَّهُ مَالٌ.

ص: 323

[باب الْعَفْوِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَدْرَكَ مَنْ يَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا أَوْصَى أَنْ يُعْفَى عَنْ قَاتِلِهِ إِذَا قَتَلَ عَمْدًا إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَأَنَّهُ أَوْلَى بِدَمِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَعْفُو عَنْ قَتْلِ الْعَمْدِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ وَيَجِبَ لَهُ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ عَقْلٌ يَلْزَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَفَا عَنْهُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَاتِلِ عَمْدًا إِذَا عُفِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَيُسْجَنُ سَنَةً قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ عَمْدًا وَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ وَلِلْمَقْتُولِ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَعَفَا الْبَنُونَ وَأَبَى الْبَنَاتُ أَنْ يَعْفُونَ فَعَفْوُ الْبَنِينَ جَائِزٌ عَلَى الْبَنَاتِ وَلَا أَمْرَ لِلْبَنَاتِ مَعَ الْبَنِينَ فِي الْقِيَامِ بِالدَّمِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

22 -

بَابُ الْعَفْوِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ

- (مَالِكٌ: أَنَّهُ أَدْرَكَ مَنْ يَرْضَى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ أَيْ هُوَ وَغَيْرُهُ (مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ) جَمْعٌ عَلَى مَعْنَى مِنْ (فِي الرَّجُلِ إِذَا أَوْصَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ قَاتِلِهِ إِذَا قَتَلَ عَمْدًا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَأَنَّهُ أَوْلَى) أَحَقُّ (بِدَمِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ) وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " «مَنْ عَفَا عَنْ قَاتِلِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ".

(مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يَعْفُو عَنْ قَتْلِ الْعَمْدِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ وَيَجِبَ) يَثْبُتَ (لَهُ) بِإِنْفَاذِ مَقْتَلِهِ (أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ عَقْلٌ) دِيَةٌ (يَلْزَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَفَا عَنْهُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ عَفْوِهِ عَنْهُ) فَيَلْزَمُهُ (وَالْقَاتِلُ عَمْدًا إِذَا عُفِيَ عَنْهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً) كَامِلَةً.

(وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ عَمْدًا أَوْ قَامَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ وَلِلْمَقْتُولِ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَعَفَا الْبَنُونَ وَأَبَى الْبَنَاتُ أَنْ يَعْفُونَ فَعَفْوُ الْبَنِينَ جَائِزٌ) .

مَاضٍ (عَلَى الْبَنَاتِ وَلَا أَمْرَ لِلْبَنَاتِ مَعَ

ص: 323

الْبَنِينَ فِي الْقِيَامِ بِالدَّمِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ) إِنَّمَا الْأَمْرُ لِلْبَنِينَ.

ص: 324

[باب الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ كَسَرَ يَدًا أَوْ رِجْلًا عَمْدًا أَنَّهُ يُقَادُ مِنْهُ وَلَا يَعْقِلُ قَالَ مَالِكٌ وَلَا يُقَادُ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحُ صَاحِبِهِ فَيُقَادُ مِنْهُ فَإِنْ جَاءَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ مِثْلَ جُرْحِ الْأَوَّلِ حِينَ يَصِحُّ فَهُوَ الْقَوَدُ وَإِنْ زَادَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ أَوْ مَاتَ فَلَيْسَ عَلَى الْمَجْرُوحِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَقِيدِ شَيْءٌ وَإِنْ بَرَأَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ وَشَلَّ الْمَجْرُوحُ الْأَوَّلُ أَوْ بَرَأَتْ جِرَاحُهُ وَبِهَا عَيْبٌ أَوْ نَقْصٌ أَوْ عَثَلٌ فَإِنَّ الْمُسْتَقَادَ مِنْهُ لَا يَكْسِرُ الثَّانِيَةَ وَلَا يُقَادُ بِجُرْحِهِ قَالَ وَلَكِنَّهُ يُعْقَلُ لَهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ يَدِ الْأَوَّلِ أَوْ فَسَدَ مِنْهَا وَالْجِرَاحُ فِي الْجَسَدِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا عَمَدَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَفَقَأَ عَيْنَهَا أَوْ كَسَرَ يَدَهَا أَوْ قَطَعَ إِصْبَعَهَا أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ فَإِنَّهَا تُقَادُ مِنْهُ وَأَمَّا الرَّجُلُ يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ بِالْحَبْلِ أَوْ بِالسَّوْطِ فَيُصِيبُهَا مِنْ ضَرْبِهِ مَا لَمْ يُرِدْ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ فَإِنَّهُ يَعْقِلُ مَا أَصَابَ مِنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يُقَادُ مِنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

23 -

بَابُ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ

(مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ مَنْ كَسَرَ يَدًا أَوْ رِجْلًا عَمْدًا أَنَّهُ يُقَادُ مِنْهُ وَلَا يَعْقِلُ) جَبْرًا عَلَى الْجَانِي ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ (وَلَا يُقَادُ) يُقْتَصُّ (مِنْ أَحَدٍ حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحُ صَاحِبِهِ فَيُقَادُ مِنْهُ فَإِنْ جَاءَ جِرَاحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ) أَيِ الْجَانِي (مِثْلَ جِرَاحِ الْأَوَّلِ حِينَ يَصِحُّ فَهُوَ الْقَوَدُ) الْكَامِلُ.

(وَإِنْ زَادَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ أَوْ مَاتَ فَلَيْسَ عَلَى الْمَجْرُوحِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَقِيدِ شَيْءٌ) لَا عَقْلٌ وَلَا دِيَةٌ (وَإِنْ بَرَأَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ) وَهُوَ الْجَانِي (وَشَلَّ الْمَجْرُوحُ الْأَوَّلُ) الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ (أَوْ بَرَأَتْ جِرَاحَهُ وَلَهَا عَيْبٌ أَوْ نَقْصٌ أَوْ عَثَلٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ بُرْءٌ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ (فَإِنَّ الْمُسْتَقَادَ مِنْهُ لَا يَكْسِرُ الثَّانِيَةَ) مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ (وَلَا يُقَادُ بِجُرْحِهِ وَلَكِنَّهُ يُعْقَلُ لَهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ يَدِ الْأَوَّلِ أَوْ فَسَدَ مِنْهَا) بِالشَّلَلِ إِذْ هُوَ فَسَادٌ فِي الْيَدِ وَبُطْلَانٌ لِعَمَلِهَا (وَالْجِرَاحُ فِي الْجَسَدِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ) مِنْ تَمَامٍ وَزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ (وَإِذَا عَمَدَ) قَصَدَ (الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَفَقَأَ عَيْنَهَا أَوْ كَسَرَ يَدَهَا أَوْ قَطَعَ أُصْبُعَهَا أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ) حَالَ كَوْنِهِ (مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنَ الْفَقْءِ وَمَا بَعْدَهُ (فَإِنَّهَا تُقَادُ مِنْهُ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ بِالْحَبَلِ أَوْ

ص: 324

بِالسَّوْطِ فَيُصِيبُهَا مِنْ ضَرْبِهِ مَا لَمْ يُرِدْ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ فَإِنَّهُ يَعْقِلُ مَا أَصَابَ مِنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يُقَادُ مِنْهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدْ ذَلِكَ.

ص: 325

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقَادَ مِنْ كَسْرِ الْفَخِذِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1584 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) قَاضِيَ الْمَدِينَةِ (أَقَادَ مِنْ كَسْرِ الْفَخِذِ) .

ص: 325

[باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ السَّائِبَةِ وَجِنَايَتِهِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ سَائِبَةً أَعْتَقَهُ بَعْضُ الْحُجَّاجِ فَقَتَلَ ابْنَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَائِذٍ فَجَاءَ الْعَائِذِيُّ أَبُو الْمَقْتُولِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَطْلُبُ دِيَةَ ابْنِهِ فَقَالَ عُمَرُ لَا دِيَةَ لَهُ فَقَالَ الْعَائِذِيُّ أَرَأَيْتَ لَوْ قَتَلَهُ ابْنِي فَقَالَ عُمَرُ إِذًا تُخْرِجُونَ دِيَتَهُ فَقَالَ هُوَ إِذًا كَالْأَرْقَمِ إِنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ وَإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

24 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي دِيَةِ السَّائِبَةِ وَجِنَايَتِهِ

1629 -

1585 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّايِ مُخَفَّفًا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) بِالتَّخْفِيفِ (أَنْ سَائِبَةً أَعْتَقَهُ بَعْضُ الْحُجَّاجِ) جَمْعُ حَاجٍّ (فَقَتَلَ ابْنَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَائِذٍ) بِتَحْتِيَّةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ (فَجَاءَ الْعَايِذِيُّ أَبُو الْمَقْتُولِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَطْلُبُ دِيَةَ ابْنِهِ) أَفَادَ أَنَّهُ قُتِلَ خَطَأً (فَقَالَ عُمَرُ لَا دِيَةَ لَهُ، فَقَالَ الْعَائِذِيُّ: أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (لَوْ قَتَلَهُ ابْنِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِذَا تُخْرِجُونَ دِيَتَهُ، فَقَالَ الْعَائِذِيُّ: هُوَ إِذَا كَالْأَرْقَمِ) بِالْقَافِ الْحَيَّةِ الَّتِي فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ أَوْ حُمْرَةٌ وَسَوَادٌ (إِنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَأَصْلُهُ الْأَكْلُ بِسُرْعَةٍ (وَإِنْ يُقْتَلْ) بِضَمٍّ أَوَّلَهُ وَفَتَحِ ثَالِثِهِ (يَنْقَمْ) بِكَسْرِ الْقَافِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ لُغَةُ

ص: 325

الْقُرْآنِ، وَفِي لُغَةٍ بِفَتْحِ الْقَافِ مِنْ بَابِ تَعِبَ وَهِيَ أَوْلَى هُنَا بِالسَّجْعِ، وَمَعْنَاهُ إِنْ تَرَكْتَ قَتْلَهُ قَتَلَكَ وَإِنْ قَتَلْتَهُ كَانَ لَهُ مَنْ يَنْتَقِمُ مِنْكَ، وَهُوَ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ مَشْهُورٌ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَطْلُبُ ثَأْرَ الْجَانِّ وَهِيَ الْحَيَّةُ الرَّقِيقَةُ فَرُبَّمَا مَاتَ قَاتِلُهَا وَرُبَّمَا أَصَابَهُ خَلَلٌ، وَهَذَا مَثَلٌ فِيمَنْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ شَرَّانِ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَصْنَعُ بِهِمَا.

ص: 326

[كِتَاب الْقَسَامَةِ]

[باب تَبْدِئَةِ أَهْلِ الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْقَسَامَةِ باب تَبْدِئَةِ أَهْلِ الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبِّرْ كَبِّرْ يُرِيدُ السِّنَّ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَقَالُوا لَا قَالَ أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ قَالُوا لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمْ الدَّارَ قَالَ سَهْلٌ لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ» قَالَ مَالِكٌ الْفَقِيرُ هُوَ الْبِئْرُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

44 -

كِتَابُ الْقَسَامَةِ

بِفَتْحِ الْقَافِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَسَمِ وَهُوَ الْيَمِينُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَسَامَةُ اسْمٌ لِلْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ دَمِ الْمَقْتُولِ، وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْقِسْمَةِ لِقِسْمَةِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَالْيَمِينُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ بِسَبَبِ اللَّوْثِ الْمُقْتَضِي لِظَنِّ صِدْقِهِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الظَّاهِرُ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلِذَا خَرَجَتْ عَنِ الْأَصْلِ.

1 -

بَابُ تَبْدِئَةِ أَهْلِ الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ

قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهَا صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ وَهْبٍ انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَنْصَارِ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» " ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلُهُ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَاهُ عَنْ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.

1630 -

1586 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ وَيُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ ثِقَةٌ (عَنْ سَهْلِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ ابْنِ سَاعِدَةَ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجَيِّ الْمَدَنِيِّ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَلَهُ أَحَادِيثُ مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ أَيْ عُظَمَاءِ (قَوْمِهِ) قَالَ فِي الْمُقَدِّمَةِ: هُمْ مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ بْنَا مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ

ص: 327

وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنَا سَهْلٍ.

(أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ) بْنِ زَيْدِ بْنِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيَّ الْحَارِثِيَّ (وَمُحَيِّصَةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الثَّقِيلَةِ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ ابْنِ مَسْعُودِ بْنِ كَعْبِ الْحَارِثِيَّ الْأَوْسِيَّ أَسْلَمَ قَبْلَ أَخِيهِ حُوَيِّصَةَ (خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ) بَعْدَ فَتْحِهَا، وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فِي أَصْحَابٍ لَهُ يَمْتَارُونَ تَمْرًا (مِنْ جَهْدٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ أَيْ فَقْرٍ شَدِيدٍ (أَصَابَهُمْ) وَفِي مُسْلِمٍ: خَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ وَأَهْلُهَا يَهُودُ.

(فَأُتِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ التَّاءِ (مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا (فِي فَقِيرٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ فَقَافٍ مَكْسُورَةٍ (بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ) بِالشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: وُجِدَ فِي عَيْنٍ قَدْ كُسِرَتْ عُنُقُهُ ثُمَّ طُرِحَ (فَأَتَى) مُحَيِّصَةُ (يَهُودَ فَقَالَ) لَهُمْ (أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ) حَلِفَ لِقَرَائِنَ قَامَتْ عِنْدَهُ أَوْ قِيلَ لَهُ بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ.

(فَقَالُوا) مُقَابَلَةً لِلْيَمِينِ بِالْيَمِينِ (وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا أَيْ لَهُ.

(فَأَقْبَلَ) مُحَيِّصَةُ (حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ) بَنِي حَارِثَةَ (فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الثَّقِيلَةِ عَلَى الْأَشْهَرِ وَتُخَفَّفُ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ ابْنُ مَسْعُودِ بْنِ كَعْبٍ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ أُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ (وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ مُحَيِّصَةَ، وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَعْدَ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ: مَنْ ظَفَرْتُمْ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ فَاقْتُلُوهُ، فَوَثَبَ مُحَيِّصَةُ عَلَى تَاجِرٍ يَهُودِيٍّ فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ حُوَيِّصَةُ يَضْرِبُهُ وَكَانَ أَسَنَّ مِنْهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ حُوَيِّصَةُ» .

(وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ) بْنِ زَيْدِ بْنِ كَعْبٍ الْحَارِثِيُّ أَخُو الْمَقْتُولِ (فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ) وَفِي الرِّوَايَةِ اللَّاحِقَةِ: فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ لِمَكَانِهِ مِنْ أَخِيهِ وَجُمِعَ بِاحْتِمَالِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَرَادَ الْكَلَامَ.

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَبِّرْ كَبِّرْ) بِالتَّكْرِيرِ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ قَدِّمِ الْأَكْبَرَ (يُرِيدُ السِّنَّ) إِرْشَادًا إِلَى الْأَدَبِ فِي تَقْدِيمِ الْأَسَنِّ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الدَّعْوَى وَغَيْرِهَا أَوْلَاهُمْ بِبَدْءِ الْكَلَامِ أَكْبَرُهُمْ، فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ تَكَلَّمَ الْأَصْغَرُ فَيَسْمَعُ مِنْهُ إِنِ احْتِيجَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ بَيَانٌ وَلِتَقْدِيمِهِ وَجْهٌ فَلَا بَأْسَ بِتَقْدِيمِهِ وَإِنْ صَغُرَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَخْرَجَ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ قَدِمَ وَفْدٌ مِنَ الْعِرَاقِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ

ص: 328

فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى شَابٍّ مِنْهُمْ يُرِيدُ الْكَلَامَ فَقَالَ عُمَرُ: كَبِّرُوا كَبِّرُوا، فَقَالَ الْفَتَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ بِالسِّنِّ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ، قَالَ: صَدَقْتَ تَكَلَّمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - فَقَالَ: إِنَّا وَفْدُ شُكْرٍ فَذَكَرَ الْخَبَرَ انْتَهَى.

وَحَقِيقَةُ الدَّعْوَى إِنَّمَا هِيَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخِي الْقَتِيلِ لَا حَقَّ لِابْنِ عَمِّهِ فِيهَا، فَإِنَّمَا أَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَكَلَّمَ الْأَكْبَرُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ حِينَئِذٍ الدَّعْوَى بَلْ سَمَاعَ صُورَةِ الْقِصَّةِ، وَعِنْدَ الدَّعْوَى يُدْعَى الْمُسْتَحِقُّ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَكْبَرَ يَكُونُ وَكِيلًا لَهُ.

(فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ) الَّذِي هُوَ أَسَنُّ (ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ) أَخُوهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، فَصَمَتَ أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَتَكَلَّمَ صَاحِبَاهُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مَعَهُمَا فَذَكَرُوا مَقْتَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِمَّا أَنْ يَدَوُا صَاحِبَكُمْ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَخِفَّةِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يُعْطُوا أَيِ الْيَهُودُ دِيَةَ صَاحِبِكُمْ (وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا) يَعْلَمُوا (بِحَرْبٍ) تَهْدِيدٌ وَتَشْدِيدٌ إِذْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى حَرْبِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ الذِّلَّةِ.

(فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ) أَيْ أَمَرَ بِالْكُتُبِ إِلَى الْيَهُودِ (فِي ذَلِكَ) الْخَبَرِ الَّذِي نُقِلَ إِلَيْهِ (فَكَتَبُوا) الْيَهُودُ (إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلَهُ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ (وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ) أَيْ بَدَلٌ مِنْ دَمِ صَاحِبِكُمْ فَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، أَوْ مَعْنَى صَاحِبِكُمْ غَرِيمُكُمْ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَالْجُمْلَةُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَتَحْلِفُونَ لِتَسْتَحِقُّوا؟ وَقَدْ جَاءَتِ الْوَاوُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34](سورة الشُّورَى: الْآيَةُ 34) الْمَعْنَى لِيَعْفُوَ، وَفِي عَرْضِ الْيَمِينِ عَلَى الثَّلَاثَةِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ: وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَصَبَةً، وَأَنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ وَهُوَ هُنَا الْأَخُ الِاسْتِعَانَةَ بِعَاصِبِهِ.

(قَالُوا: لَا) نَحْلِفُ.

وَفِي الرِّوَايَةِ اللَّاحِقَةِ لَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَحْضُرْ.

(قَالَ: أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟) خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ.

(قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ) وَفِي اللَّاحِقَةِ: كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ وَفِي رِوَايَةٍ قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ.

وَفِي أُخْرَى: مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ ثُمَّ يَحْلِفُونَ.

(فَوَدَاهُ) بِخِفَّةِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِلَا هَمْزٍ أَعْطَى دِيَتَهُ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَجُمِعَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَدَفَعَ الْمَالَ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ مِنْ

ص: 329

عِنْدِهِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ قَطْعِ النِّزَاعِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْيَمِينِ وَجَبْرًا لِخَاطِرِهِمْ وَإِلَّا فَاسْتِحْقَاقُهُمْ لَمْ يَثْبُتْ.

وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ تَجْوِيزَ صَرْفِ الزَّكَاةِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَتَأَوَّلَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْمُفْهِمِ: رِوَايَةُ " مِنْ عِنْدِهِ " أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ " مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ " وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا غَلَطٌ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُغَلَّطَ الرَّاوِي مَا أَمْكَنَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَسَلَّفَ ذَلِكَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِيَدْفَعَهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ (فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ) النُّوقُ (عَلَيْهِمُ الدَّارَ، قَالَ سَهْلٌ) ابْنُ أَبِي حَثْمَةَ: (لَقَدْ رَكَضَتْنِي) أَيْ رَفَسَتْنِي بِرِجْلِهَا (مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ) وَلِابْنِ إِسْحَاقَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى نَاقَةً بَكَرَةً مِنْهَا حَمْرَاءَ ضَرَبْتِنِي وَأَنَا أَحُوزُهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَأَدْرَكْتُ نَاقَةً مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ فَدَخَلْتُ مِرْبَدًا لَهُمْ فَرَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا، وَقَالَ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ ضَبْطَهُ لِلْحَدِيثِ ضَبْطًا شَافِيًا بَلِيغًا، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَسَامَةِ، وَبِهِ أَخَذَ كَافَّةُ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَعُلَمَاءِ الْأَمَةِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدَ، وَعَنْ طَائِفَةٍ التَّوَقُّفُ؛ فِيهَا فَلَمْ يَرَوُا الْقَسَامَةَ وَلَا أَثْبَتُوا لَهَا فِي الشَّرْعِ حُكْمًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَإِسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ.

(قَالَ مَالِكٌ: الْفَقِيرُ) بِفَاءٍ ثُمَّ قَافٍ بِلَفْظِ الْفَقِيرِ مِنْ بَنِي آدَمَ (هُوَ الْبِئْرُ) الْقَرِيبَةُ الْقَعْرِ الْوَاسِعَةُ الْفَمِ، وَقِيلَ الْحُفْرَةُ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ النَّخْلِ.

ص: 330

قَالَ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَقَدِمَ مُحَيِّصَةُ فَأَتَى هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ لِمَكَانِهِ مِنْ أَخِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبِّرْ كَبِّرْ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ فَذَكَرَا شَأْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلِكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَحْضُرْ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَزَعَمَ بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ»

قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَالَّذِي سَمِعْتُ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ وَأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ أَوْ يَأْتِيَ وُلَاةُ الدَّمِ بِلَوْثٍ مِنْ بَيِّنَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً عَلَى الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّمُ فَهَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ لِلْمُدَّعِينَ الدَّمَ عَلَى مَنْ ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ وَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عِنْدَنَا إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قَالَ مَالِكٌ وَتِلْكَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا وَالَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ أَنَّ الْمُبَدَّئِينَ بِالْقَسَامَةِ أَهْلُ الدَّمِ وَالَّذِينَ يَدَّعُونَهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ بَدَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَارِثِيِّينَ فِي قَتْلِ صَاحِبِهِمْ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ اسْتَحَقُّوا دَمَ صَاحِبِهِمْ وَقَتَلُوا مَنْ حَلَفُوا عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَلُ فِي الْقَسَامَةِ إِلَّا وَاحِدٌ لَا يُقْتَلُ فِيهَا اثْنَانِ يَحْلِفُ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ أَوْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَنْكُلَ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ الْمَقْتُولِ وُلَاةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ الْعَفْوُ عَنْهُ فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا تُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ عَفْوٌ فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ الْعَفْوُ عَنْ الدَّمِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِنَّ الْأَيْمَانَ لَا تُرَدُّ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ الْأَيْمَانِ وَلَكِنْ الْأَيْمَانُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَيَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ رَجُلًا رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ يَحْلِفُ إِلَّا الَّذِي ادُّعِيَ عَلَيْهِ حَلَفَ هُوَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ الْقَسَامَةِ فِي الدَّمِ وَالْأَيْمَانِ فِي الْحُقُوقِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَايَنَ الرَّجُلَ اسْتَثْبَتَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ وَأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ الرَّجُلِ لَمْ يَقْتُلْهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ الْخَلْوَةَ قَالَ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقَسَامَةُ إِلَّا فِيمَا تَثْبُتُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ وَلَوْ عُمِلَ فِيهَا كَمَا يُعْمَلُ فِي الْحُقُوقِ هَلَكَتْ الدِّمَاءُ وَاجْتَرَأَ النَّاسُ عَلَيْهَا إِذَا عَرَفُوا الْقَضَاءَ فِيهَا وَلَكِنْ إِنَّمَا جُعِلَتْ الْقَسَامَةُ إِلَى وُلَاةِ الْمَقْتُولِ يُبَدَّءُونَ بِهَا فِيهَا لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنْ الدَّمِ وَلِيَحْذَرَ الْقَاتِلُ أَنْ يُؤْخَذَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ قَالَ يَحْيَى وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يَكُونُ لَهُمْ الْعَدَدُ يُتَّهَمُونَ بِالدَّمِ فَيَرُدُّ وُلَاةُ الْمَقْتُولِ الْأَيْمَانَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ نَفَرٌ لَهُمْ عَدَدٌ أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَلَا تُقْطَعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ عَدَدِهِمْ وَلَا يَبْرَءُونَ دُونَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ قَالَ وَالْقَسَامَةُ تَصِيرُ إِلَى عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ وَهُمْ وُلَاةُ الدَّمِ الَّذِينَ يَقْسِمُونَ عَلَيْهِ وَالَّذِينَ يُقْتَلُ بِقَسَامَتِهِمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1631 -

1587 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) ابْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ بُشَيْرِ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ (بْنِ يَسَارٍ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ الْمَدَنِيِّ الْحَارِثِيِّ مَوْلَى الْأَنْصَارِ التَّابِعِيِّ ثِقَةٌ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِي إِرْسَالِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ انْتَهَى، وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ كُلِّهِمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، زَادَ حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ بُشَيْرٍ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مَعَ سَهْلٍ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ

ص: 330

الْأَنْصَارِيَّ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ) فِي أَصْحَابٍ لَهُمَا يَمْتَارُونَ تَمْرًا، زَادَ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ: وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ وَالْمُرَادُ بَعْدَ فَتْحِهَا.

(فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا) وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ (فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُفَضَّلِ: فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَنْشَطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ (فَقَدِمَ مُحَيِّصَةُ) الْمَدِينَةَ (فَأَتَى هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ) ابْنَا مَسْعُودٍ (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ) أَخُو الْمَقْتُولِ (إِلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرُوهُ بِذَلِكَ (فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ لِمَكَانِهِ مِنْ أَخِيهِ) وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: كَبِّرْ كَبَّرْ) بِالْجَزْمِ أَمْرٌ وَكَرَّرَهُ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ قَدِّمِ الْأَسَنَّ يَتَكَلَّمُ.

وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ فَقَالَ: الْكُبْرَ الْكُبْرَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الْكَافِ وَتَسْكِينِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ الْأَكْبَرِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، يَعْنِي كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ لِيَلِيَ الْكَلَامَ الْأَكْبَرُ، وَزَادَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ: فَسَكَتَ (فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ) بِشَدِّ الْيَاءِ فِيهِمَا عَلَى أَشْهَرِ اللُّغَتَيْنِ (فَذَكَرَا شَأْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ) أَيْ أَخْبَرَاهُ بِقِصَّةِ قَتْلِهِ.

وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: فَصَمَتَ أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَتَكَلَّمَ صَاحِبَاهُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مَعَهُمَا فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقْتَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:(أَتَحْلِفُونَ) بِهَمْزِ الِاسْتِفْهَامِ (خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ) قَالَ دَمَ (قَاتِلِكُمْ) أَيْ قَاتِلِ قَرِيبِكُمْ، فَشَكَّ الرَّاوِي، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى يَثْبُتُ حَقُّكُمْ عَلَى مَنْ تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْحَقُّ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا أَوْ دِيَةً انْتَهَى.

وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مُتَعَسِّفٌ حَمَلَهُ عَلَيْهِ نُصْرَةُ مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بِالْقَسَامَةِ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ إِنَّمَا فِيهَا الدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي فِي الْعَمْدِ، وَعَاقِلَتُهُ فِي الْخَطَأِ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ ذِكْرِ الدَّمِ الْقِصَاصُ وَالتَّبَادُرُ آيَةُ الْحَقِيقَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ بِالْقَسَامَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ نَشْهَدْ) قَتْلَهُ (وَلَمْ نَحْضُرْ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُفَضَّلِ: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟ وَوَقَعَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ فَقَالَ: تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ.

وَفِي النَّسَائِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَقِمْ شَاهِدِينَ عَلَى قَاتِلِهِ أَدْفَعْهُ إِلَيْكَ بِرُمَّتِهِ،

ص: 331

فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُصِبْ شَاهِدِينَ وَإِنَّمَا أَصْبَحَ قَتِيلًا عَلَى أَبْوَابِهِمْ» " قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذِهِ رِوَايَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، وَرِوَايَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْهُ أَثْبَتُ وَهُمْ بِهِ أَقْعَدُ وَنَقْلُهُمْ أَصَحُّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَدْ حَكَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ضَعَّفَ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرٍ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنْهُ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذِكْرُ الْبَيِّنَةِ وَهْمٌ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلِمَ أَنَّ خَيْبَرَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْكُنْ مَعَ الْيَهُودِ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ لَكِنْ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا يَمْتَارُونَ تَمْرًا فَيَجُوزُ أَنَّ طَائِفَةً أُخْرَى خَرَجَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَلَبَ الْبَيِّنَةَ أَوَّلًا فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْأَيْمَانَ فَامْتَنَعُوا فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتُبْرِئُكُمْ) بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ تَبْرَأُ إِلَيْكُمْ مِنْ دَعْوَاكُمْ (يَهُودُ) بِالرَّفْعِ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعِلْمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ عَلَى إِرَادَةِ اسْمِ الْقَبِيلَةِ وَالطَّائِفَةِ، وَضُبِطَ أَيْضًا فَتُبْرِيكُمْ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَشَدِّ الرَّاءِ مَكْسُورَةً أَيْ يُخَلِّصُونَكُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ (بِخَمْسِينَ) يَمِينًا يَحْلِفُونَهَا (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تُسَمُّونَ قَاتِلَكُمْ ثُمَّ تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا فَيُسَلَّمُ إِلَيْكُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ عَلَى مَا لَا نَعْلَمُ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ لَكُمْ بِاللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا قَتَلُوهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا ثُمَّ يَبْرَءُونَ مِنْ دَمِهِ، قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَقْبَلَ أَيْمَانَ الْيَهُودِ مَا فِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى إِثْمٍ» " وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " فَكَرِهَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ "(قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَزَعَمَ) أَيْ قَالَ مِنْ إِطْلَاقِ الزَّعْمِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّابِتِ كَخَبَرِ زَعْمِ جِبْرِيلَ (بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَاهُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ أَنْ أَعْطَاهُمْ دِيَتَهُ (مِنْ عِنْدِهِ) مِنْ خَالِصِ مَالِهِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ عَاقِلَةُ الْمُسْلِمِينَ وَوَلِيُّ أَمْرِهِمْ.

وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: قَالَ سَهْلٌ فَأَدْرَكْتُ نَاقَةً مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ قَدْ دَخَلَتْ مِرْبَدًا لَهُمْ فَرَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا، وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْقَسَامَةِ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الدَّعَاوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي وَأَنَّهَا خَمْسُونَ يَمِينًا وَهُوَ يَخُصُّ قَوْلَهُ، صلى الله عليه وسلم:" «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» " فَكَأَنَّهُ قَالَ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَوْ حَدِيثَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سُنَّتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ جَاءَ " «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ» " وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ لِينٌ فَقَدْ عَضَّدَهُ الْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ

ص: 332

الْعُلَمَاءُ كَمَا أَشَارَ لَهُ الْإِمَامُ حَيْثُ (قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَالَّذِي سَمِعْتُ مِمَّنْ أَرْضَى) مِنَ الْعُلَمَاءِ (فِي الْقَسَامَةِ وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ) وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَوْلُهُ: (أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ) فَإِنْ نَكَلُوا رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَإِنْ حَلَفُوا بَرِئُوا وَبَطَلَ الدَّمُ، فَإِنْ أَبَوْا فَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ (وَأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَجِبُ) أَيْ تَثْبُتُ لِوَلِيِّ الدَّمِ (إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ) قَبْلَ مَوْتِهِ (دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ يَأْتِي وُلَاةُ الدَّمِ بِلَوْثٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ آخِرَهُ مُثَلَّثَةٌ (مِنْ بَيِّنَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً عَلَى الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّمُ) بَيَانٌ لِلَّوْثِ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: اللَّوْثُ الْبَيِّنَةُ الضَّعِيفَةُ غَيْرُ الْكَامِلَةِ (فَهَذَا يُوجِبُ) يُثْبِتُ (الْقَسَامَةَ لِلْمُدَّعِينَ الدَّمَ عَلَى مَنِ ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ وَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عِنْدَنَا إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ) أَعَادَهُ تَأْكِيدًا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا جَعَلَ مَالِكٌ قَوْلَهُ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ شُبْهَةً وَلَطْخًا ; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ طَبْعِ النَّاسِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ الْإِنَابَةُ وَالتَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ، تَعَالَى:{لَوْلَا أَخَّرْتِنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10](سورة الْمُنَافِقُونَ: الْآيَةُ 10) وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 18) فَهَذَا مَعْهُودٌ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَلَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَدَعَ قَاتِلَهُ وَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا نَادِرٌ فِي النَّاسِ لَا حُكْمَ لَهُ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَتِلْكَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا، الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ أَنَّ الْمُبَدَّئِينَ بِالْقَسَامَةِ أَهْلُ الدَّمِ وَالَّذِينَ يَدَّعُونَهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِأَهْلِ الدَّمِ، وَأَعَادَ ذَلِكَ وَإِنْ قَدَّمَهُ قَرِيبًا لِزِيَادَةِ قَوْلِهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَلِلِاحْتِجَاجِ لَهُ بِقَوْلِهِ:(وَقَدْ بَدَّأَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم الْحَارِثِيِّينَ) نِسْبَةً إِلَى حَارِثَةَ، بِمُثَلَّثَةٍ، بَطْنٌ مِنَ الْأَوْسِ؛ يَعْنِي الْمَذْكُورِينَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ طَرِيقَيْهِ (فِي قَتْلِ

ص: 333

صَاحِبِهِمُ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ) وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 179) وَقَوْلِهِ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 82) فَلِلْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ بَدَّأَهُمْ بِالْأَيْمَانِ، وَجَعَلَ الْعَدَاوَةَ سَبَبًا تُقَوَّى بِهَا دَعْوَاهُمْ ; لِأَنَّهُ لَطْخٌ يَلِيقُ بِهِمْ غَالِبًا لِعَدَاوَتِهِمْ، وَمِنْ سُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَنْ قَوِيَ سَبَبُهُ فِي دَعْوَاهُ وَجَبَتْ تَبْدِيَتُهُ بِالْيَمِينِ، وَلِهَذَا جَاءَ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ مَعَ مَا فِي هَذَا مِنْ قَطْعِ التَّطَرُّقِ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَقَبْضِ أَيْدِي الْأَعْدَاءِ عَلَى إِرَاقَةِ دِمَاءِ مَنْ عَادَوْهُ عَلَى الدُّنْيَا.

وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ: يَبْدَأُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِالْحَلِفِ لِعُمُومِ حَدِيثِ " «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» "، وَعَارَضُوا أَحَادِيثَ الْبَابِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِ وَبَدَأَ بِهِمْ أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا؟ فَأَبَوْا فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: أَتَحْلِفُونَ؟ فَقَالُوا: نَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ؟ فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْيَهُودِ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» " وَالْجَوَابُ أَنَّ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ أَصَحُّ، وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ نَفْسُهُ هَذِهِ وَهَذِهِ وَقَضَى بِمَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ الْأَثْبَتُ وَالْأَوْلَى، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَانَ الشَّأْنُ هَكَذَا، وَلَكِنَّ سَهْلًا وَهِمَ مَا قَالَ، صلى الله عليه وسلم: احْلِفُوا عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ إِلَى يَهُودَ حِينَ كَلَّمَتْهُ الْأَنْصَارُ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَبْيَاتِكُمْ فَدُوهُ فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يَحْلِفُونَ مَا قَتَلُوهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يَرُدُّ قَوْلَ سَهْلٍ الْمُخْبِرِ عَمَّا شَاهَدَ حَتَّى رَكَضَتْهُ مِنْهَا نَاقَةٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ تَابِعِيٌّ لَمْ يَرَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا شَهِدَ الْقِصَّةَ، وَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ أَثْبَتَهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ اسْتَحَقُّوا دَمَ صَاحِبِهِمْ وَقَتَلُوا مَنْ حَلَفُوا عَلَيْهِ) فِي الْعَمْدِ (وَلَا يُقْتَلُ فِي الْقَسَامَةِ إِلَّا وَاحِدٌ لَا يُقْتَلُ فِيهِ اثْنَانِ) لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِسَنَدِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ عَلَى رَجُلٍ فَيُدْفَعُ لَكُمْ بِرُمَّتِهِ» " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: " «تُسَمُّونَ قَاتِلَكُمْ ثُمَّ تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا فَيُسَلَّمُ إِلَيْكُمْ» " فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ إِنَّمَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِتَعْيِينِ رَجُلٍ يُقْسِمُونَ عَلَيْهِ

ص: 334

فَيُدْفَعُ إِلَيْهِمْ بِرُمَّتِهِ، وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْوَاحِدَ أَوْلَى مَنْ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ قَتَلَهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ بِالْقَسَامَةِ عَلَيْهِ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.

(يَحْلِفُ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا) كُلُّ رَجُلٍ يَمِينًا (فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى الْمُدَّعِينَ الْأَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ أَيِ الَّذِينَ حَلَفُوا وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ (إِلَّا أَنْ يَنْكُلَ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ الْمَقْتُولِ وُلَاةِ الدَّمِ) بِالْخَفْضِ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ (الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوَ عَنْهُ) كَابْنٍ مَعَ أَخٍ (فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ) لِسُقُوطِهِ بِنُكُولِهِ كَمَا لَوْ عَفَا (وَإِنَّمَا تُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ عَفْوٌ) لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَيُنَزَّلُ نُكُولُهُ كَالْعَدَمِ وَتُرَدُّ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ حَلَفَ.

(فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ عَنِ الدَّمِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِنَّ الْأَيْمَانَ لَا تُرَدُّ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ الْأَيْمَانِ، وَلَكِنَّ الْأَيْمَانَ إِذَا كَانَ) وُجِدَ (ذَلِكَ) أَيْ نُكُولُ بَعْضِ وُلَاةِ الدَّمِ (تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَيَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا) كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ.

(فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ رَجُلًا رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ) حَتَّى تُكْمِلَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ إِلَّا الَّذِي ادُّعِيَ عَلَيْهِ) الدَّمُ (حَلَفَ هُوَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ الْقَسَامَةِ فِي الدَّمِ) فِي أَنَّ أَيْمَانَهَا خَمْسُونَ مِنَ الْمُدَّعِينَ (وَ) بَيْنَ (الْأَيْمَانِ فِي الْحُقُوقِ) فَاكْتَفَى فِيهَا بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ (أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَايَنَ الرَّجُلَ اسْتَثْبَتَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ)

ص: 335

بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَالرَّهْنِ أَوِ الضَّامِنِ.

(وَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ الرَّجُلِ لَمْ يَقْتُلْهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ) يَطْلُبُ (الْخَلْوَةَ) حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ.

(فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقَسَامَةُ إِلَّا فِيمَا تَثْبُتُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ وَلَوْ عُمِلَ فِيهَا كَمَا يُعْمَلُ فِي الْحُقُوقِ) الْمَالِيَّةِ مِنَ الْبَيِّنَةِ أَوْ يَمِينِ الْمَطْلُوبِ (هَلَكَتِ الدِّمَاءُ) ضَاعَتْ (وَاجْتَرَأَ) بِالْهَمْزِ أَسْرَعَ وَهَجَمَ (النَّاسُ عَلَيْهَا إِذَا عَرَفُوا الْقَضَاءَ فِيهَا وَلَكِنْ إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ إِلَى وُلَاةِ الْمَقْتُولِ يُبَدَّءُونَ فِيهَا) بِالْحَلِفِ فَإِنْ نَكَلُوا رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنِ الدَّمِ وَلِيَحْذَرَ الْقَاتِلُ أَنْ يُؤْخَذَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ) دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ وَأَقْسَامِ أَوْلِيَائِهِ.

(وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يَكُونُ لَهُمُ الْعَدَدُ يُتَّهَمُونَ بِالدَّمِ فَتَرُدُّ وُلَاةُ الْمَقْتُولِ الْأَيْمَانَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ نَفَرٌ لَهُمْ عَدَدٌ أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَلَا تُقْطَعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ عَدَدِهِمْ وَلَا يَبْرَءُونَ) يُخَلَّصُونَ (دُونَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ) يَقْتَضِي أَنَّهُ سَمِعَ غَيْرَهُ.

(وَالْقَسَامَةُ تَصِيرُ إِلَى عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ وَهُمْ وُلَاةُ الدَّمِ الَّذِينَ يُقْسِمُونَ عَلَيْهِ وَالَّذِينَ يُقْتَلُ بِقَسَامَتِهِمْ) قَالَ أَبُو عَمْرٍو: مِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فِي وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ مَعَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ بِالْقَسَامَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ» " وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا قَضَيَا بِذَلِكَ، وَحَسْبُكَ بِقَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

ص: 336

[باب مَنْ تَجُوزُ قَسَامَتُهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ فِي الْعَمْدِ أَحَدٌ مِنْ النِّسَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وُلَاةٌ إِلَّا النِّسَاءُ فَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ قَسَامَةٌ وَلَا عَفْوٌ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُقْتَلُ عَمْدًا أَنَّهُ إِذَا قَامَ عَصَبَةُ الْمَقْتُولِ أَوْ مَوَالِيهِ فَقَالُوا نَحْنُ نَحْلِفُ وَنَسْتَحِقُّ دَمَ صَاحِبِنَا فَذَلِكَ لَهُمْ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ أَرَادَ النِّسَاءُ أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُنَّ الْعَصَبَةُ وَالْمَوَالِي أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُنَّ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا الدَّمَ وَحَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِنْ عَفَتْ الْعَصَبَةُ أَوْ الْمَوَالِي بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقُّوا الدَّمَ وَأَبَى النِّسَاءُ وَقُلْنَ لَا نَدَعُ دَمَ صَاحِبِنَا فَهُنَّ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ الْقَوَدَ أَحَقُّ مِمَّنْ تَرَكَهُ مِنْ النِّسَاءِ وَالْعَصَبَةِ إِذَا ثَبَتَ الدَّمُ وَوَجَبَ الْقَتْلُ قَالَ مَالِكٌ لَا يُقْسِمُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ مِنْ الْمُدَّعِينَ إِلَّا اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَتُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَحْلِفَا خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ قَدْ اسْتَحَقَّا الدَّمَ وَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا ضَرَبَ النَّفَرُ الرَّجُلَ حَتَّى يَمُوتَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا فَإِنْ هُوَ مَاتَ بَعْدَ ضَرْبِهِمْ كَانَتْ الْقَسَامَةُ وَإِذَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُقْتَلْ غَيْرُهُ وَلَمْ نَعْلَمْ قَسَامَةً كَانَتْ قَطُّ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَنْ تَجُوزُ قَسَامَتُهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ

(قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ فِي الْعَمْدِ أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وُلَاةٌ إِلَّا النِّسَاءُ فَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ قَسَامَةٌ وَلَا عَفْوٌ) لِأَنَّ شَهَادَتَيْنِ لَا تَجُوزُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ.

(مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يُقْتَلُ عَمْدًا أَنَّهُ إِذَا قَامَ عَصَبَةُ الْمَقْتُولِ أَوْ مَوَالِيهِ) الَّذِينَ أَعْتَقُوهُ (فَقَالُوا نَحْنُ نَحْلِفُ وَنَسْتَحِقُّ دَمَ صَاحِبِنَا فَذَلِكَ لَهُمْ، فَإِنْ أَرَادَ النِّسَاءُ أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُنَّ، الْعَصَبَةُ وَالْمَوَالِي أَوْلَى) أَحَقُّ (بِذَلِكَ مِنْهُنَّ) أَيْ أَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ دُونَهُنَّ (لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا الدَّمَ وَحَلَفُوا عَلَيْهِ) وَلَا دَخْلَ لِلنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ.

(وَإِنْ عَفَتِ الْعَصَبَةُ أَوِ الْمَوَالِي بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقُّوا الدَّمَ) بِالْأَيْمَانِ (وَأَبَى النِّسَاءُ وَقُلْنَ لَا نَدَعُ) نَتْرُكُ (قَاتِلَ صَاحِبِنَا) بِلَا قَتْلٍ (فَهُنَّ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ الْقَوَدَ) أَيْ طَلَبَهَ (أَحَقُّ مِمَّنْ تَرَكَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْعَصَبَةِ إِذَا ثَبَتَ الدَّمُ وَوَجَبَ الْقَتْلُ) بِالْقَسَامَةِ لَا قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَمَا قَدَّمَ.

(وَلَا يُقْسِمُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ مِنَ الْمُدَّعِينَ إِلَّا اثْنَانِ فَصَاعِدًا) قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ.

كَمَا أَنَّهُ لَا يُقْتُلَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَلِذَا لَا تَحْلِفُ النِّسَاءُ فِي الْعَمْدِ ; لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ لَا تَجُوزُ فِيهِ وَيَحْلِفْنَ فِي الْخَطَأِ

ص: 337

لِأَنَّهُ مَالٌ وَشَهَادَتُهُنَّ جَائِزَةٌ فِي الْأَمْوَالِ (فَتُرَدُّ الْإِيمَانُ عَلَيْهِمَا) إِنْ كَانَا اثْنَيْنِ (حَتَّى يَحْلِفَا خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ قَدِ اسْتَحَقَّا الدَّمَ) لِحَدِيثِ: " «وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلِكُمْ» " فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ ذِكْرِ الدَّمِ الْقَوَدُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِنَّ الْقَسَامَةَ تُوجِبُ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَعًا إِلَّا أَنَّهَا فِي الْعَمْدِ عَلَى الْجَانِي وَفِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَالَ بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ لَكِنَّ قَوْلَهُ:(وَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا) بِدَارِ الْهِجْرَةِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُ ; وَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ ذِكْرِ الدَّمِ فِي قَوْلِهِ: دَمُ صَاحِبِكُمْ، وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّمِ الدِّيَةُ لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ دِيَةَ صَاحِبِهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ دَمَهُ، لِأَنَّ الدِّيَةَ قَدْ تُؤْخَذُ فِي الْعَمْدِ فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقًا لِلدَّمِ، بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ وَهُوَ آيَةُ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ تَأَيَّدَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ بِالْقَسَامَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْرٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ.

(وَإِذَا ضَرَبَ النَّفَرُ) الْجَمَاعَةُ (الرَّجُلَ حَتَّى يَمُوتَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا) بِلَا قَسَامَةٍ.

(فَإِنْ هُوَ مَاتَ بَعْدَ ضَرْبِهِمْ كَانَتِ الْقَسَامَةُ) أَيْ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْقَتْلِ.

(وَإِذَا كَانَتْ قَسَامَةً لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُقْتَلْ غَيْرُهُ وَلَمْ نَعْلَمْ قَسَامَةً كَانَتْ) أَيْ وُجِدَتْ فِيمَا مَضَى (قَطُّ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ) لِأَنَّ الْمُتَيَقَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ وَيُضْرَبُ الْبَاقُونَ مِائَةً مِائَةً وَيُسْجَنُونَ سَنَةً ثُمَّ يُخَلَّى عَنْهُمْ.

ص: 338

[باب الْقَسَامَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ الْقَسَامَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ يُقْسِمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الدَّمَ وَيَسْتَحِقُّونَهُ بِقَسَامَتِهِمْ يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا تَكُونُ عَلَى قَسْمِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْ الدِّيَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْأَيْمَانِ كُسُورٌ إِذَا قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ نُظِرَ إِلَى الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ تِلْكَ الْأَيْمَانِ إِذَا قُسِمَتْ فَتُجْبَرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْيَمِينُ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَرَثَةٌ إِلَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يَحْلِفْنَ وَيَأْخُذْنَ الدِّيَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَأَخَذَ الدِّيَةَ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ وَلَا يَكُونُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ الْقَسَامَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ

(قَالَ مَالِكٌ: الْقَسَامَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ) صِفَتُهَا أَنَّهُ (يُقْسِمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الدَّمَ وَيَسْتَحِقُّونَ بِقَسَامَتِهِمْ يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا تَكُونُ عَلَى) قَدْرِ (قَسْمِ مَوَارِيثِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ) فَإِذَا كَانَا اثْنَيْنِ

ص: 338

حَلَفَ كُلٌّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ.

(فَإِنْ كَانَ فِي الْأَيْمَانِ كُسُورٌ) كَابْنٍ وَبِنْتٍ (إِذَا قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ نُظِرَ إِلَى الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ تِلْكَ الْأَيْمَانِ) أَيْ أَكْثَرُ كَسُورِهَا (إِذَا قُسِمَتْ فَتُجْبَرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْيَمِينُ) فَتَحْلِفُ الْبِنْتُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا ; لِأَنَّ كَسْرَهَا أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِ الِابْنِ.

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَرَثَةٌ إِلَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يَحْلِفْنَ وَيَأْخُذْنَ الدِّيَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَأَخَذَ الدِّيَةَ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا يَكُونُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ) لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَصَبَةً كَمَا تَقَدَّمَ.

ص: 339

[باب الْمِيرَاثِ فِي الْقَسَامَةِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ إِذَا قَبِلَ وُلَاةُ الدَّمِ الدِّيَةَ فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ يَرِثُهَا بَنَاتُ الْمَيِّتِ وَأَخَوَاتُهُ وَمَنْ يَرِثُهُ مِنْ النِّسَاءِ فَإِنْ لَمْ يُحْرِزْ النِّسَاءُ مِيرَاثَهُ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَتِهِ لِأَوْلَى النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ مَعَ النِّسَاءِ قَالَ مَالِكٌ إِذَا قَامَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الَّذِي يُقْتَلُ خَطَأً يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْهَا وَأَصْحَابُهُ غَيَبٌ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا قَلَّ وَلَا كَثُرَ دُونَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْقَسَامَةَ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا اسْتَحَقَّ حِصَّتَهُ مِنْ الدِّيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ حَتَّى يَثْبُتَ الدَّمُ فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْوَرَثَةِ أَحَدٌ حَلَفَ مِنْ الْخَمْسِينَ يَمِينًا بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنْهَا وَأَخَذَ حَقَّهُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْوَرَثَةُ حُقُوقَهُمْ إِنْ جَاءَ أَخٌ لِأُمٍّ فَلَهُ السُّدُسُ وَعَلَيْهِ مِنْ الْخَمْسِينَ يَمِينًا السُّدُسُ فَمَنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ مِنْ الدِّيَةِ وَمَنْ نَكَلَ بَطَلَ حَقُّهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِبًا أَوْ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ حَلَفَ الَّذِينَ حَضَرُوا خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ جَاءَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ الْحُلُمَ حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْلِفُونَ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنْ الدِّيَةِ وَعَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْهَا قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ الْمِيرَاثِ فِي الْقَسَامَةِ

- (مَالِكٌ: إِذَا قَبِلَ وُلَاةُ الدَّمِ الدِّيَةَ فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ) أَيْ مَا فَرَضَهُ فِيهِ مِنَ الْإِرْثِ (يَرِثُهَا بَنَاتُ الْمَيِّتِ وَأَخَوَاتُهُ وَمَنْ يَرِثُهُ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُحْرِزِ النِّسَاءُ مِيرَاثَهُ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَتِهِ لِأَوْلَى) أَقْرَبَ (النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ) مِنْ عَصَبَةٍ (مَعَ النِّسَاءِ) كَبِنْتَيْنِ وَأَخٍ وَابْنِ عَمٍّ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَالثُّلُثُ لِلْأَخِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِمِيرَاثِهِ (وَإِذَا قَامَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الَّذِي يُقْتَلُ خَطَأً يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْهَا وَأَصْحَابُهُ غَيَبٌ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ غَائِبٍ كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ (لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا قَلَّ وَلَا كَثُرَ دُونَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْقَسَامَةِ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا،

ص: 339

فَإِنْ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا اسْتَحَقَّ حِصَّتَهُ مِنَ الدِّيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ حَتَّى يَثْبُتَ الدَّمُ) فَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِالْقَسَامَةِ، أَمَّا إِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوِ اعْتِرَافٍ فَلَا.

(فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَرَثَةِ أَحَدٌ حَلَفَ مِنَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنْهَا) فَقَطْ (وَأَخَذَ حَقَّهُ) وَهَكَذَا يُفْعَلُ (حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْوَرَثَةُ حُقُوقَهُمْ، إِنْ جَاءَ أَخٌ لِأُمٍّ فَلَهُ السُّدُسُ) مِنَ الْمِيرَاثِ (وَعَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا السُّدُسُ) بِقَدْرِ إِرْثِهِ (فَمَنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ حَقَّهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَمَنْ نَكَلَ بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِبًا أَوْ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ) صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (حَلَفَ الَّذِينَ حَضَرُوا خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ جَاءَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ الْحُلُمَ حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْلِفُونَ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ وَ) هِيَ (عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ) فِي ذَلِكَ.

ص: 340

[باب الْقَسَامَةِ فِي الْعَبِيدِ]

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبِيدِ أَنَّهُ إِذَا أُصِيبَ الْعَبْدُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهُ بِشَاهِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ يَمِينًا وَاحِدَةً ثُمَّ كَانَ لَهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ وَلَيْسَ فِي الْعَبِيدِ قَسَامَةٌ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَإٍ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ قُتِلَ الْعَبْدُ عَبْدًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ قَسَامَةٌ وَلَا يَمِينٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ سَيِّدُهُ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ بِشَاهِدٍ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ الْقَسَامَةِ فِي الْعَبِيدِ

- (مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبِيدِ أَنَّهُ إِذَا أُصِيبَ الْعَبْدُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهُ بِشَاهِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ) حَلِفًا مُتَلَبِّسًا (بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ) لِأَنَّهُ مَالٌ، أَوِ الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ (ثُمَّ كَانَ لَهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ) وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ.

(وَلَيْسَ فِي الْعَبِيدِ قَسَامَةٌ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ وَلَمْ أَسْمَعْ

ص: 340

أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ذَلِكَ.

فَإِنْ قُتِلَ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ، نَائِبُهُ (الْعَبْدُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ قَسَامَةٌ وَلَا يَمِينٌ) وَاحِدَةٌ (وَلَا يَسْتَحِقُّ سَيِّدُهُ ذَلِكَ) أَيْ قِيمَتَهُ (إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ) أَيْ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ (أَوْ بِشَاهِدٍ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ.

قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ) لِأَنَّهُ مَالٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 341

[كِتَاب الْجَامِعِ]

[باب فضائل المدينة]

[الدُّعَاءِ لِلْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْجَامِعِ باب فضائل المدينة الدُّعَاءِ لِلْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْن يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ» يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

45 -

كِتَابُ الْجَامِعِ

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ: هَذَا كِتَابٌ اخْتَرَعَهُ مَالِكٌ فِي التَّصْنِيفِ لِفَائِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ رَسْمِ التَّكْلِيفِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَبْوَابًا وَرَتَّبَهَا أَنْوَاعًا.

الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا لَحَظَ الشَّرِيعَةَ وَأَنْوَاعَهَا وَرَآهَا مُنْقَسِمَةً إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَإِلَى عِبَادَةٍ وَمُعَامَلَةٍ، وَإِلَى جِنَايَاتٍ وَعَادَاتٍ، نَظَّمَهَا أَسْلَاكًا وَرَبَطَ كُلَّ نَوْعٍ بِجِنْسِهِ، وَشَذَّتْ عَنْهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ مَعَانٍ مُنْفَرِدَةٌ لَمْ يَتَّفِقْ نَظْمُهَا فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهَا مُتَغَايِرَةُ الْمَعَانِي، وَلَا أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بَابًا لِصِغَرِهَا، وَلَا أَرَادَ هُوَ أَنْ يُطِيلَ الْقَوْلَ فِيمَا يُمْكِنُ إِطَالَةُ الْقَوْلِ فِيهَا، فَجَعَلَهَا أَشْتَاتًا وَسَمَّى نِظَامَهَا " كِتَابَ الْجَامِعِ " فَطَرَّقَ لِلْمُؤَلِّفِينَ مَا لَمْ يَكُونُوا قَبْلُ بِهِ عَالَمِينَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا، ثُمَّ بَدَأَ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْمَدِينَةِ لِأَنَّهَا أَصْلُ الْإِيمَانِ وَمَعْدِنُ الدِّينِ وَمُسْتَقَرُّ النُّبُوَّةِ انْتَهَى.

1 -

بَابُ الدُّعَاءِ لِلْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا

الْمَدِينَةُ فِي الْأَصْلِ الْمِصْرُ الْجَامِعُ ثُمَّ صَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى دَارِ هِجْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَوَزْنُهَا فَعِيلَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ مَدَنَ، وَقِيلَ مَفْعِلَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ لِأَنَّهَا مِنْ دَانَ، وَالْجَمْعُ مُدُنٌ وَمَدَائِنُ بِالْهَمْزِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَصَالَةِ الْمِيمِ، وَوَزْنُهَا فَعَائِلُ، وَبِغَيْرِ هَمْزٍ عَلَى الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الْمِيمِ وَوَزْنُهَا مَفَاعِلُ لِأَنَّ لِلْيَاءِ أَصْلًا فِي الْحَرَكَةِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهَا فِي الِاخْتِلَافِ مَعَايِشُ.

1636 -

1588 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) زَيْدٍ (الْأَنْصَارِيِّ) الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ

ص: 342

الْحُجَّةِ قِيلَ: كَانَ مَالِكٌ لَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَحَدًا مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَقِيلَ بَعْدَهَا.

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ) أَتِمَّ وَزِدْ (لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ) بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةُ الْكَيْلِ أَيْ فِيمَا يُكَالُ فِي مِكْيَالِهِمْ.

(وَبَارِكْ لَهُمْ فِي) مَا يُكَالُ فِي (صَاعِهِمْ وَ) مَا يُكَالُ فِي (مُدِّهِمْ) فَحُذِفَ الْمُقَدَّرُ لِفَهْمِ السَّامِعِ وَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مِنْ فَصِيحِ كَلَامِهِ وَبَلَاغَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِلْبَرَكَةِ فِي الطَّعَامِ الْمَكِيلِ بِالصَّاعِ وَالْمُدِّ لَا فِي الظُّرُوفِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ أَنْ تَكُونَ فِيهِمَا.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْبَرَكَةُ هُنَا بِمَعْنَى النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَتَكُونُ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ وَاللُّزُومِ، قَالَ: وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَرَكَةُ دِينِيَّةً وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ لَهَا بِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ وَثَبَاتِهَا، وَأَنْ تَكُونَ دُنْيَوِيَّةً مِنْ تَكْثِيرِ الْمَالِ وَالْقَدْرِ بِهَا حَتَّى يَكْفِيَ مِنْهَا مَا لَا يَكْفِي مِنْ غَيْرِهِ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ، أَوْ تَرْجِعَ الْبَرَكَةُ إِلَى التَّصَرُّفِ بِهَا فِي التِّجَارَةِ وَأَرْبَاحِهَا، أَوْ إِلَى كَثْرَةِ مَا يُكَالُ بِهَا مِنْ غَلَّاتِهَا وَأَثْمَارِهَا، أَوْ لِاتِّسَاعِ عَيْشِهِمْ بَعْدَ ضِيقِهِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَوَسَّعَ مِنْ فَضْلِهِ لَهُمْ بِتَمْلِيكِ بِلَادِ الْخِصْبِ وَالرِّيفِ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا حَتَّى كَثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاتَّسَعَ عَيْشُهُمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْبَرَكَةُ فِي الْكَيْلِ نَفْسِهِ فَزَادَ مُدُّهُمْ وَصَارَ هِشَامِيًّا مِثْلَ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً وَنِصْفًا.

وَفِي هَذَا كُلِّهِ ظُهُورُ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْبَرَكَةُ فِي نَفْسِ الْكَيْلِ فِي الْمَدِينَةِ بِحَيْثُ يَكْفِي الْمُدُّ فِيهَا لِمَنْ لَا يَكْفِيهِ فِي غَيْرِهَا.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ هُوَ قَوْلُ عِيَاضٍ أَوْ لِاتِّسَاعِ عَيْشِ أَهْلِهَا. . . إِلَخْ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ» ، وَدُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ قَوْلُهُ:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37](سورة إِبْرَاهِيمَ: الْآيَةُ 37) يَعْنِي وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِأَنْ تَجْلِبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِلَادِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ النِّعْمَةَ فِي أَنْ يُرْزَقُوا أَنْوَاعَ الثَّمَرَاتِ فِي وَادٍ لَيْسَ فِيهِ نَجْمٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَاءٌ، لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَجَابَ دَعْوَتَهُ فَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنْهُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ دُعَاءَ حَبِيبِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتُجِيبَ لَهَا وَضَاعَفَ خَيْرَهَا عَلَى غَيْرِهَا، بِأَنْ جَلَبَ إِلَيْهَا فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْ كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَخَاقَانَ مَا لَا يُحْصَى وَلَا يُحْصَرُ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ يَأْرِزُ الدِّينُ إِلَيْهَا مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ وَشَاسِعِ الْبِلَادِ، وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «أٌمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، وَمَكَّةُ أَيْضًا مِنْ مَأْكُولِهَا» " انْتَهَى.

(يَعْنِي) صلى الله عليه وسلم (أَهْلَ الْمَدِينَةِ) بَيَانٌ مِنَ الرَّاوِي لِلضَّمَائِرِ فِي لَهُمْ وَمَا بَعْدَهُ، وَهَلْ يَخْتَصُّ

ص: 343

بِالْمُدِّ الْمَخْصُوصِ أَوْ يَعُمُّ كُلَّ مُدٍّ تَعَارَفَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ زَادَ أَوْ نَقَصَ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَضَافَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ تَارَةً وَإِلَى أَهْلِهَا أُخْرَى، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ الدَّعْوَةِ لَا عَلَى خُصُوصِهِ بِمُدِّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَيْعِ وَالِاعْتِصَامِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 344

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1637 -

1589 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ) بِضَمِّ السِّينِ مُصَغَّرٌ (بْنِ أَبِي صَالِحٍ) الْمَدَنِيِّ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاحْتَجَّ بِهِ الْجَمَاعَةُ، وَكَفَى بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ تَوْثِيقًا (عَنْ أَبِيهِ) ذَكْوَانَ السَّمَّانِ الزَّيَّاتِ الثِّقَةِ الثَّبْتِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ (جَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِمَّا هَدِيَّةً وَجَلَالَةً وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَإِمَّا تَبَرُّكًا بِدُعَائِهِ لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي دُعَائِهِ وَرَجَاءَ تَمَامِ ثَمَرِهِمْ بِذَلِكَ، وَإِعْلَامًا بِبِدُوِّ صَلَاحِهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ كَبَعْثِ الْخَرَّاصِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

(فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: وَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ (قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا) أَيْ أَنْمِهِ وَزِدْهُ (وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا) طَيْبَةَ (وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا) وَهُوَ مِكْيَالُ أَرْبَعَةِ أَمْدَادٍ، زَادَ الدَّرَاوَرْدِيُّ: بَرَكَةً فِي بَرَكَةً.

(وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَشَدِّ الدَّالِ.

(اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبَدُكَ وَخَلِيلُكَ) كَمَا قُلْتَ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 125)(وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ) لَمْ يُقِلْ وَخَلِيلُكَ مَعَ أَنَّهُ خَلِيلٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَحَادِيثَ عِدَّةٍ، قَالَ الْأُبِّيُّ: رِعَايَةً لِلْأَدَبِ فِي تَرْكِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ الْكِرَامِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مَعَ رِعَايَةِ الْأَدَبِ أَفْخَمُ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 253) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ مِنْ تَفْخِيمِ

ص: 344

فَضْلِهِ مَا لَا يَخْفَى.

وَقَدْ سُئِلَ الْحُطَيْئَةُ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ فَقَالَ: زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةُ وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ الثَّالِثَ، أَرَادَ نَفْسَهُ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَمْ يُفَخِّمْ أَمْرَهُ.

(وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ) بِقَوْلِهِ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37](سورة إِبْرَاهِيمَ: الْآيَةُ 37)(وَإِنِّي أَدْعُوكَ) أَطْلُبُ مِنْكَ (لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَالدُّنْيَا، أَوْ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَتَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ وَغُفْرَانِ السَّيِّئَاتِ قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ.

(ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ) أَيْ مَوْلُودٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ (يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ) وَفِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ: ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ عِظَمَ الْأَجْرِ فِي إِدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَى مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لِصِغَرِهِ، فَإِنَّ سُرُورَهُ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ سُرُورِ الْكَبِيرِ.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِيهِ مِنَ الْآدَابِ وَجَمِيلِ الْأَخْلَاقِ: إِعْطَاءُ الصَّغِيرِ وَإِتْحَافُهُ بِالطُّرْفَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْكَبِيرِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِ وَلِفَرَحِهِ بِذَلِكَ، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: تَخْصِيصُهُ أَصْغَرَ وَلِيدٍ حَضَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَسَّمُ عَلَى الْوِلْدَانِ، وَمَنْ كَبِرَ مِنْهُمْ مُلْحَقٌ بِأَخْلَاقِ الرِّجَالِ وَتَلْوِيحًا إِلَى التَّفَاؤُلِ بِنَمَاءِ الثِّمَارِ وَزِيَادَتِهَا بِدَفْعِهَا لِمَنْ هُوَ فِي سِنِّ النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ كَمَا قِيلَ فِي قَلْبِ الرِّدَاءِ لِلِاسْتِسْقَاءِ.

قَالَ الْأُبِّيُّ: وَلَا يُعَارِضُ دُعَاءَهُ لَهَا بِالْبَرَكَةِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «أَصَابَهُمْ بِالْمَدِينَةِ جَهْدٌ وَشِدَّةٌ» " إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشِّدَّةِ وَثُبُوتِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَتَخَلُّفُهَا عَنْ بَعْضٍ لَا يَضُرُّ بِهَا، كَذَا أَجَابَ شَيْخُنَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي تَحْصِيلِ الْقُوتِ، وَأَنَّ الْمُدَّ بِهَا يُشْبِعُ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِ بِغَيْرِهَا، فَتَكُونُ الشِّدَّةُ فِي تَحْصِيلِ الْمُدِّ، وَالْبَرَكَةُ فِي تَضْعِيفِ الْقُوتِ بِهِ انْتَهَى.

وَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ جَوَابُ شَيْخِهِ وَهُوَ ابْنُ عَرَفَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ لِدُعَائِهِ بِذَلِكَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَوْضِعِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَوْضِعِ التَّضْعِيفِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 126) أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَحْجُرُهَا أَيِ الدَّعْوَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ النَّاسِ فَقَالَ تَعَالَى: " وَمَنْ كَفَرَ " أَيْضًا فَإِنِّي أَرْزُقُهُ كَمَا أَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ.

أَأَخْلُقُ خَلْقًا لَا أَرْزُقُهُمْ، أُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ أَلِيمٍ.

ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20](سورة الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 20) انْتَهَى.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ سُهَيْلٍ نَحْوَهُ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا.

ص: 345

[مَا جَاءَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ الْأَجْدَعِ أَنَّ يُحَنَّسَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَخْبَرَهُ «أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْفِتْنَةِ فَأَتَتْهُ مَوْلَاةٌ لَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ اقْعُدِي لُكَعُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا

1638 -

1590 - (مَالِكٌ عَنْ قَطَنِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَنُونٍ (بْنِ وَهْبِ بْنِ عُمَيْرِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ " عُوَيْمِرٍ " بِوَاوٍ بَعْدَ الْعَيْنِ (بْنِ الْأَجْدَعِ) بِجِيمٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ اللَّيْثِيِّ أَوِ الْخُزَاعِيِّ الْمَدَنِيِّ الصَّدُوقِ يُكْنَى أَبَا الْحَسَنِ، وَفِي التَّمْهِيدِ قَطَنٌ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ مَدَنِيٍّ ثِقَةٍ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ (أَنَّ يُحَنَّسَ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مَفْتُوحَةً وَمَكْسُورَةً كَمَا ضَبَطَهُ عِيَاضٌ، وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ،، ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ الثِّقَةُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى وَابْنُ بُكَيْرٍ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عُوَيْمِرِ بْنِ الْأَجْدَعِ أَنَّ يُحَنَّسَ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ، وَكَذَا نَسَبَهُ ابْنُ الْبَرْقِيِّ وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ يُحَنَّسَ (مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ) أَحَدِ الْعَشْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مَوْلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ لِأَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ وَلِلْآخَرِ مَجَازٌ.

(أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ (فِي الْفِتْنَةِ) الَّتِي وَقَعَتْ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ (فَأَتَتْهُ مَوْلَاةٌ لَهُ) لَمْ تُسَمَّ (تُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ) مِنَ الْمَدِينَةِ (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) لِأَنَّهُ (اشْتَدَّ) قَوِيَ وَصَعُبَ (عَلَيْنَا الزَّمَانُ، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: اقْعُدِي لُكَعُ) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتَحِ الْكَافِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ كَذَا لِيَحْيَى وَحْدَهُ وَالصَّوَابُ لُكَاعُ كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ لُكَاعُ مِثْلُ جُذَامٍ وَقُطَامٍ، وَقَالَ عِيَاضٌ: يُطْلَقُ لُكَعُ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْكَافِ عَلَى اللَّئِيمِ وَالْعَبْدِ وَالْغَبِيِّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي لِنُطْقٍ وَلَا غَيْرِهِ وَعَلَى الصَّغِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَطْلُبُ الْحَسَنَ أَثَمَّ لُكَعُ» .

وَقَوْلُ الْحَسَنِ لِإِنْسَانٍ: يَا لُكَعُ أَيْ يَا صَغِيرَ الْعِلْمِ.

وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ لُكَاعُ عَلَى وَزْنِ فُعَالٍ، وَالْجَمِيعُ مِنَ اللُّكَعِ وَهُوَ اللُّؤْمُ، وَقِيلَ مَنِ الْمَلَاكِيعِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّلَا مِنَ الْبَطْنِ.

وَقَالَ النُّحَاةُ: لُكَعُ وَلُكَاعُ لَا يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً، قَدِ اسْتُعْمِلَ لُكَاعُ فِي

ص: 346

الشِّعْرِ فِي غَيْرِ النِّدَاءِ، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:

أَطَوِّفُ مَا أَطُوفُ ثُمَّ آوِي

إِلَى بَيْتٍ قَعِيدَتُهُ لُكَاعُ

قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ لَهَا إِنْكَارًا لِمَا أَرَادَتْهُ مِنَ الْخُرُوجِ وَتَثْبِيطًا لَهَا وَإِدْلَالًا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ يَا قَلِيلَةَ الْعِلْمِ وَصَغِيرَةَ الْحَظِّ مِنْهُ؛ لِمَا فَاتَهَا مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِّ الْمَدِينَةِ.

(فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا) بِالْمَدِّ (وَشِدَّتِهَا) قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَعْنِي الْمَدِينَةَ، وَالشَّدَّةُ الْجُوعُ، وَاللَّأْوَاءُ تَعَذُّرُ الْكَسْبِ وَسُوءُ الْحَالِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اللَّأْوَاءُ الْجُوعُ وَشَدَّةُ الْمَكْسَبِ، وَضَمِيرُ شِدَّتِهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّأْوَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ الْأُبِّيُّ: الْحَدِيثُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحَثِّ عَلَى سُكْنَاهَا فَمَنْ لَزِمَ سُكْنَاهَا دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ تَلْحَقْهُ لَأْوَاءٌ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْغَالِبِ وَالْمَظِنَّةِ لَا يَضُرُّ فِيهِ التَّخَلُّفُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَتَعْلِيلِ الْقَصْرِ بِمَشَقَّةِ السَّفَرِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ يَقْصُرُ وَإِنْ لَمْ تَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ لِوُجُودِ السَّفَرِ (أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ عِيَاضٌ: سُئِلْتُ قَدِيمًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَ خُصَّ سَاكِنُ الْمَدِينَةِ بِالشَّفَاعَةِ هُنَا مَعَ عُمُومِ شَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَادِّخَارِهِ إِيَّاهَا؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابٍ شَافٍ مُقْنِعٍ فِي أَوْرَاقٍ اعْتَرَفَ بِصَوَابِهِ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَيْهِ، وَأَذْكُرُ مِنْهُ هُنَا لُمَعًا تَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا " أَوْ " هُنَا لِلشَّكِّ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلشَّكِّ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ جَابِرٌ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَصَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا اللَّفْظِ، وَيَبْعُدُ اتِّفَاقُ جَمِيعِهِمْ أَوْ رُوَاتِهِمْ عَلَى الشَّكِّ وَيُطَابِقُهُمْ فِيهِ عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ هَكَذَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ هَكَذَا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ " أَوْ " لِلتَّقْسِيمِ وَيَكُونُ شَهِيدًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَشَفِيعًا لِبَاقِيهِمْ، إِمَّا شَفِيعًا لِلْعَاصِينَ وَشَهِيدًا لِلْمُطِيعِينَ، وَإِمَّا شَهِيدًا لِمَنْ مَاتَ فِي حَيَاتِهِ وَشَفِيعًا لِمَنْ مَاتَ بَعْدَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ رَائِدَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْمُذْنِبِينَ أَوْ لِلْعَاصِينَ فِي الْقِيَامَةِ، وَعَلَى شَهَادَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ:" أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ " فَيَكُونُ لِتَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا كُلِّهِ مَزِيَّةٌ وَزِيَادَةُ مَنْزِلَةٍ وَحُظْوَةٌ، قَالَ: وَقَدْ تَكُونُ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ فَيَكُونُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ شَفِيعًا وَشَهِيدًا انْتَهَى.

وَبِالْوَاوِ رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ عِيَاضٌ: وَإِذَا جَعَلْنَا " أَوْ " لِلشَّكِّ كَمَا قَالَ الْمَشَايِخُ فَإِنْ كَانَتِ اللَّفْظَةُ الصَّحِيحَةُ شَهِيدًا انْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْمُدَّخَرَةِ الْمُجَرَّدَةِ لِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ شَفِيعًا فَاخْتِصَاصُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَذَا أَنَّ هَذِهِ شَفَاعَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ فِي إِخْرَاجِ أُمَّتِهِ مِنَ النَّارِ وَمُعَافَاةِ بَعْضِهِمْ بِشَفَاعَتِهِ فِي الْقِيَامَةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الشَّفَاعَةُ بِزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ أَوْ تَخْفِيفِ السَّيِّئَاتِ أَوْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ،

ص: 347

أَوْ بِإِكْرَامِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْكَرَامَةِ كَإِيوَائِهِمْ إِلَى ظِلِّ الْعَرْشِ أَوْ كَوْنِهِمْ فِي رَوْحٍ أَوْ عَلَى مَنَابِرَ، أَوِ الْإِسْرَاعُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ ذَلِكَ مِنْ خُصُوصِ الْكَرَامَاتِ الْوَارِدَةِ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ انْتَهَى.

وَنَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَقَرُّوهُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ الضَّحَّاكُ عَنْ قَطَنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

ص: 348

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1639 -

1591 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ الْمَدَنِيِّ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ ذَكَرَ فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ أَنَّهُ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مَشْهُورٌ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ هَاجَرَ فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهُ آخَرُ وَافَقَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ.

وَفِي الذَّيْلِ لِأَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ، فِي الصَّحَابَةِ قَيْسُ بْنُ حَازِمٍ الْمِنْقَرِيُّ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ هَذَا أَيْ: زِيدٌ فِي اسْمِ أَبِيهِ أَدَاةُ الْكُنْيَةِ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا (بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِسُكُونِ الْعَيْنِ حُمَّى (بِالْمَدِينَةِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: فَجَاءَ الْغَدُ مَحْمُومًا (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي) عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا اسْتَقَالَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَرُدِ الِارْتِدَادَ عَنِ الْإِسْلَامِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: بِدَلِيلٍ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَلَّ مَا عَقَدَهُ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أَرَادَ الرِّدَّةَ وَوَقَعَ فِيهَا لَقَتَلَهُ إِذْ ذَاكَ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِقَالَةِ مِنَ الْمَقَامِ بِالْمَدِينَةِ (فَأَبَى) امْتَنَعَ (رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيلَهُ (ثُمَّ جَاءَهُ) ثَانِيَةً (فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى) امْتَنَعَ (ثُمَّ جَاءَهُ) الثَّالِثَةَ (فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى) أَنْ يُقِيلَهُ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ فَهِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُقِلْهُ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الرُّجُوعُ إِلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَهِيَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْمُقَامِ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى وَطَنِهِ كَذَا قَالَ عِيَاضٌ.

وَرَدَّهُ الْأُبِّيُّ فَقَالَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهَا عَلَى الْهِجْرَةِ لِقَوْلِهِ وَعْكٌ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ كَانَتْ رِدَّةً لِأَنَّ الرِّضَا بِالدَّوَامِ عَلَى الْكُفْرِ كُفْرٌ انْتَهَى.

(فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ) مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْبَدْوِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ)

ص: 348

بِكَسْرِ الْكَافِ الْمِنْفَخُ الَّذِي يُنْفَخُ بِهِ النَّارُ أَوِ الْمَوْضِعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا (تَنْفِي) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبِالْفَاءِ (خَبَثَهَا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ مَا تُبْرِزُهُ النَّارُ مِنْ وَسَخٍ وَقَذَرٍ، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ مِنَ الشَّيْءِ الْخَبِيثِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِمُنَاسَبَةِ الْكِيرِ.

(وَيَنْصَعُ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتَحِ الصَّادِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَتَيْنِ مِنَ النُّصُوعِ وَهُوَ الْخُلُوصُ أَيْ يَخْلُصُ (طِيبُهَا) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ خَفِيفَةً وَالرَّفْعُ فَاعِلُ يَنْصَعُ، وَفِي رِوَايَةٍ تَنْصَعُ بِالْفَوْقِيَّةِ طِيبَهَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ مُخَفَّفًا أَيْضًا، وَبِهِ ضَبْطَهُ الْقَزَّازُ لَكِنَّهُ اسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ النُّصُوعَ فِي الطِّيبِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ يَتَضَوَّعُ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَزِيَادَةِ وَاوٍ، لَكِنْ قَالَ عِيَاضٌ مَعْنَى يَنْصَعُ يَصْفُو وَيَخْلُصُ، يُقَالُ طِيبٌ نَاصِعٌ إِذَا خَلُصَتْ رَائِحَتُهُ وَصَفَتْ مِمَّا يُنْقِصُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ طَيِّبُهَا بِشَدِّ التَّحْتِيَّةِ مَكْسُورَةً وَالرَّفْعِ فَاعِلٌ، قَالَ الْأُبِّيُّ: وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَهُوَ أَقْوَمُ مَعْنًى لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْخَبِيثِ أَيْ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْكِيرِ وَالطِّيبِ، شَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَمَا يُصِيبُ سَاكِنَهَا مِنَ الْجَهْدِ بِالْكِيرِ وَمَا يَدُورُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ فَيَذْهَبُ الْخَبِيثُ وَيَبْقَى الطَّيِّبُ، وَكَذَلِكَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي شَرَارَهَا بِالْحُمَّى وَالْجُوعِ وَتُطَهِّرُ خِيَارَهُمْ وَتُزَكِّيهِمُ انْتَهَى.

وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا تَشْبِيهٌ حَسَنٌ لِأَنَّ الْكِيرَ بِشِدَّةِ نَفْخِهِ يَنْفِي عَنِ النَّارِ السُّخَامَ وَالدُّخَانَ وَالرَّمَادَ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا خَالِصُ الْجَمْرِ، هَذَا إِنْ أُرِيدَ بِالْكِيرِ الْمِنْفَخُ الَّذِي يُنْفَخُ بِهِ النَّارُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَوْضِعُ فَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ يَنْزِعُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيُخْرِجُ خُلَاصَةَ ذَلِكَ، وَالْمَدِينَةُ كَذَلِكَ تَنْفِي شِرَارَ النَّاسِ بِالْحُمَّى وَالْوَصَبِ وَشِدَّةِ الْعَيْشِ وَضِيقِ الْحَالِ الَّتِي تُخَلِّصُ النَّفْسَ مِنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي الشَّهَوَاتِ وَتُطَهِّرُ خِيَارَهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَحْكَامِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الِاعْتِصَامِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمٌ فِي الْحَجِّ عَنْ يَحْيَى الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِنَحْوِهِ.

ص: 349

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1640 -

1592 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ)، ابْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ فَأَلِفٍ فَمُوَحَّدَةٍ (سَعِيدَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (بْنَ يَسَارٍ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ الْمَدَنِيَّ الثِّقَةَ الْمُتْقِنَ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ وَقِيلَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ، يُقَالُ إِنَّهُ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَيُقَالُ مَوْلَى شُمَيْسَةَ النَّصْرَانِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ

ص: 349

بِالْمَدِينَةِ عَلَى يَدِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقِيلَ مَوْلَى شُقْرَانَ مَوْلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَمَرَنِي رَبِّي بِالْهِجْرَةِ إِلَى قَرْيَةٍ (تَأْكُلُ الْقُرَى) أَيْ تَغْلِبُهَا وَتَظْهَرُ عَلَيْهَا، يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا تَغْلِبُ أَهْلَ سَائِرِ الْبِلَادِ فَتُفْتَحُ مِنْهَا، يُقَالُ أَكَلْنَا بَنِي فُلَانٍ أَيْ غَلَبْنَاهُمْ وَظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْغَالِبَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الشَّيْءِ كَالْمُفْنِي لَهُ إِفْنَاءَ الْآكِلِ إِيَّاهُ، وَفِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ قُلْتُ لِمَالِكٍ: مَا تَأْكُلُ الْقُرَى أَيْ مَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: تَفْتَحُ الْقُرَى لِأَنَّ مِنَ الْمَدِينَةِ افْتَتَحَتِ الْقُرَى كُلَّهَا بِالْإِسْلَامِ.

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي التَّوْرَاةِ يَقُولُ اللَّهُ يَا طَابَةُ يَا مِسْكِينَةُ إِنِّي سَأَرْفَعُ أَجَاجِيرَكِ عَلَى أَجَاجِيرِ الْقُرَى، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ تَأْكُلُ الْقُرَى ; لِأَنَّهَا إِذَا عَلَتْ عَلَيْهَا عُلُوَّ الْغَلَبَةِ أَكَلَتْهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ يَأْكُلُ فَضْلُهَا الْفَضَائِلَ أَيْ يَغْلِبُ فَضْلُهَا الْفَضَائِلَ حَتَّى إِذَا قِيسَتْ بِفَضْلِهَا تَلَاشَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَجَاءَ فِي مَكَّةَ أَنَّهَا أُمُّ الْقُرَى، لَكِنَّ الْمَذْكُورَ لِلْمَدِينَةِ أَبْلَغُ مِنَ الْأُمُومَةِ إِذْ لَا يُمْحَى بِوُجُودِهَا وُجُودُ مَا هِيَ أُمٌّ لَهُ لَكِنْ يَكُونُ حَقُّ الْأُمُومَةِ أَظْهَرَ، وَمَعْنَى تَأْكُلُ الْقُرَى مِنَ الْفَضَائِلِ تَضْمَحِلُّ فِي جَنْبِ عَظِيمِ فَضْلِهَا حَتَّى يَكُونَ عَدَمًا، وَمَا تَضْمَحِلُّ لَهُ الْفَضَائِلُ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا تَبْقَى مَعَهُ الْفَضَائِلُ اهـ.

وَفِيهِ تَفْضِيلُ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: لِأَنَّ الْمَدِينَةَ هِيَ الَّتِي أَدْخَلَتْ مَكَّةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْقُرَى فِي الْإِسْلَامِ فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي صَحَائِفِ أَهْلِهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ فَتَحُوا مَكَّةَ فِيهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَالْفَضْلُ ثَابِتٌ لِلْفَرِيقَيْنِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، قُلْنَا: لَا نِزَاعَ فِي ثُبُوتِ الْفَضْلِ لِلْفَرِيقَيْنِ وَلِلْقَرْيَتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ مَكَّةَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرَى الَّتِي أَكَلَتْهَا الْمَدِينَةُ فَيَلْزَمُ تَفْضِيلُهَا عَلَيْهَا.

(وَيَقُولُونَ) أَيْ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ (يَثْرِبُ) بِالرَّفْعِ يُسَمُّونَهَا بَاسِمِ وَاحِدٍ مِنَ الْعَمَالِقَةِ نَزَلَهَا، وَقِيلَ بِاسْمِ يَثْرِبَ بْنِ قَانِيَةٍ مِنْ وَلَدِ إِرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ كَانَ لِمَوْضِعٍ مِنْهَا سُمِّيَتْ بِهِ كُلُّهَا، وَكَرِهَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ مِنَ التَّثْرِيبِ الَّذِي هُوَ التَّوْبِيخُ وَالْمَلَامَةُ أَوْ مِنَ الثَّرْبِ وَهُوَ الْفَسَادُ وَكِلَاهُمَا قَبِيحٌ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ وَيَكْرَهُ الْقَبِيحَ وَلِذَا قَالَ، يَقُولُونَ يَثْرِبُ (وَهِيَ الْمَدِينَةُ) أَيِ الْكَامِلَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَالْبَيْتِ لِلْكَعْبَةِ فَهُوَ اسْمُهَا الْحَقِيقِيُّ لَهَا لِأَنَّ التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى التَّفْخِيمِ كَقَوْلِهِ: وَهُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدٍ.

أَيْ هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِأَنْ تُتَّخَذَ دَارَ إِقَامَةٍ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا فِي الْقُرْآنِ يَثْرِبَ فَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ.

وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَفَعَهُ: " «مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ هِيَ طَابَةُ هِيَ طَابَةُ» " وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُقَالَ لِلْمَدِينَةِ يَثْرِبُ» " قَالَ عِيَاضٌ: فَهِمَ

ص: 350

الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا مَنْعَ أَنْ يُقَالَ يَثْرِبُ حَتَّى قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ اهـ.

وَأُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ فَإِذَا هِيَ يَثْرِبُ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا أَرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ (تَنْفِي) بِكَسْرِ الْفَاءِ (النَّاسَ) أَيِ الْخَبِيثَ الرَّدِيءَ مِنْهُمْ (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ مَوْضِعُ نَارِ الْحَدَّادِ وَالصَّائِغِ وَلَيْسَ الْجِلْدُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ كِيرًا هَكَذَا قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ (خَبَثَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَمُثَلَّثَةٍ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (الْحَدِيدِ) أَيْ وَسَخِهِ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّارُ، أَيْ لَا تَتْرُكُ فِيهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ دَغَلٌ، بَلْ تُمَيِّزُهُ عَنِ الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ وَتُخْرِجُهُ، كَمَا تُمَيِّزُ النَّارُ رَدِيءَ الْحَدِيدِ مِنْ جَيِّدِهِ، وَنُسِبَ التَّمْيِيزُ لِلْكِيرِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْأَكْبَرُ فِي اشْتِعَالِ النَّارِ الَّتِي وَقَعَ التَّمْيِيزُ بِهَا.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي الْحَيَاةِ النَّبَوِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْ جِوَارِهِ فِيهَا إِلَّا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا الْخِيَارُ الْفُضَلَاءُ الْأَبْرَارُ، وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ فَقَالَ: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِزَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصْبِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْمُقَامِ مَعَهُ إِلَّا مَنْ ثَبَتَ إِيمَانُهُ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ وَجَهَلَةُ الْأَعْرَابِ فَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى شِدَّةِ الْمَدِينَةِ وَلَا يَحْتَسِبُونَ الْأَجْرَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي أَصَابَهُ الْوَعْكُ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي اهـ.

وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ عُمُومَهُ لِمَا وَرَدَ أَنَّهَا فِي زَمَنِ الدَّجَّالِ تَرْجُفُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْهَا كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، قَالَ: فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمُ اخْتُصُّوا بِزَمَنِ الدَّجَّالِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فِي أَزْمَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، قَالَ الْأُبِّيُّ: فَإِنْ قِيلَ قَدِ اسْتَقَرَّ الْمُنَافِقُونَ فِيهَا، أُجِيبَ بِأَنَّهُمُ انْتَفَوْا بِالْمَوْتِ وَهُوَ أَشَدُّ النَّفْيِ، فَإِنْ قِيلَ قَدِ اسْتَقَرَّ بِهَا الرَّوَافِضُ وَنَحْوُهَا، قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَفْيُهَا الْخَبَثَ خَاصًا بِزَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم فَالْجَوَابُ وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْخَبَثِ إِخْمَادُ بِدْعَةِ مَنْ يَسْكُنُهَا مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ، وَعَدَمُ ظُهُورِهِ بِحَيْثُ يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ وَهَذَا لَمْ يَتَّفِقْ فِيهَا اهـ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَقَالَ: إِنَّهُمَا قَالَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ الْخَبَثَ لَمْ يُذْكَرِ الْحَدِيدُ.

ص: 351

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1641 -

1593 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَصَلَهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى وَحْدَهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يُخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَدِينَةِ)

ص: 351

مِمَّنِ اسْتَوْطَنَهَا (رَغْبَةً عَنْهَا) أَيْ عَنْ ثَوَابِ السَّاكِنِ فِيهَا، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: أَيْ كَرَاهَةً لَهَا مِنْ رَغِبْتُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا كَرِهْتَهُ (إِلَّا أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ) بِمَوْلُودٍ يُولَدُ فِيهَا أَوْ قُدُومِ خَيْرٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِهَا، أَمَّا مَنْ كَانَ وَطَنُهُ غَيْرَهَا فَقَدَّمَهَا لِلْقُرْبَةِ وَرَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ كَانَ مُسْتَوْطِنًا بِهَا فَسَافَرَ لِحَاجَةٍ أَوْ لِضَرُورَةِ شِدَّةِ زَمَانٍ أَوْ فِتْنَةٍ فَلَيْسَ مِمَّنْ يَخْرُجُ رَغْبَةً عَنْهَا قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَعْرَابِيِّ الْقَائِلِ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ جِوَارِهِ أَبْدَلَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَمْ تُعَوَّضِ الْمَدِينَةُ خَيْرًا مِنْهُمُ انْتَهَى.

يَعْنِي كَأَبِي مُوسَى وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَمَّارٍ وَحُذَيْفَةَ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَبِلَالٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَطَنُوا غَيْرَهَا وَمَاتُوا خَارِجًا عَنْهَا وَلَمْ تُعَوَّضِ الْمَدِينَةُ مِثْلَهُمْ فَضْلًا عَنْ خَيْرٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْصِيصِ بِزَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الْأُبِّيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِالزَّمَنِ النَّبَوِيِّ، وَمَنْ خَرَجَ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَخْرُجْ رَغْبَةً عَنْهَا بَلْ إِنَّمَا خَرَجَ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى.

لَا يُقَالُ لَيْسَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ خُرُوجَهُمْ لِمَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْوِيضِهَا بِخَيْرٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ فَالْأَظْهَرُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّا نَقُولُ: الْإِبْدَالُ مُقَيَّدٌ بِالْخُرُوجِ رَغْبَةً عَنْهَا فَلَا يَرُدُّ أَنَّ الْخَارِجَ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ لَمْ تُعَوَّضْ مِثْلَهُمْ.

ص: 352

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1642 -

1594 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) تَابِعِيٍّ صَغِيرٍ لَقِيَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ (عَنْ أَبِيهِ) أَحَدِ الْفُقَهَاءِ (عَنْ) أَخِيهِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ (عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ) بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الْهَاءِ مُصَغَّرٌ الْأَزْدِيِّ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ وَبَعْدَ الْوَاوِ هَمْزَةٌ، صَحَابِيٌّ نَزَلَ الْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَخَلِيفَةُ اسْمُ أَبِيهِ الْقَرِدُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَلِذَا يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْقَرِدِ، وَقِيلَ اسْمُ أَبِيهِ نُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، وَيُقَالُ فِيهِ النُّمَيْرِيُّ ; لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ النَّمِرِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ زَهْرَانَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تُفْتَحُ) بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَنَائِبُهُ (الْيَمَنُ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ يَمِينِ الشَّمْسِ أَوْ بِيَمَنِ بْنِ قَحْطَانَ (فَيَأْتِي قَوْمٌ) مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (يَبُسُّونَ)

ص: 352

بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ رَوَاهُ يَحْيَى وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ وَقَالَ: مَعْنَاهُ يَسِيرُونَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5][سُورَةُ الْوَاقِعَةِ: الْآيَةُ 5] أَيْ سَارَتْ.

وَذَكَرَ حَبِيبٌ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، فَإِنْكَارُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ رِوَايَةَ يَحْيَى لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا بَلْ تَابَعَهُ ابْنُ بُكَيْرٍ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ مَالِكٍ.

وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ثُلَاثِيًّا أَيْضًا مِنْ بَابِ نَصَرَ أَيْ يُسْرِعُونَ السَّيْرَ، وَقِيلَ: يَزْجُرُونَ دَوَابَّهُمْ، وَقِيلَ: يَسْأَلُونَ عَنِ الْبُلْدَانِ وَأَخْبَارِهَا لِيَتَحَمَّلُوا إِلَيْهَا وَهَذَا لَا يَكَادُ يُعْرَفُ لُغَةً.

وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ يُبِسُّونَ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ رُبَاعِيٍّ مِنْ أَبَسَّ وَقَالَ: مَعْنَاهُ يُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَيْ: وَيُزَيِّنُونَ الْبَلَدَ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ وَيُحَبِّبُونَهُ إِلَيْهِمْ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ مُلَخَّصًا.

(فَيَتَحَمَّلُونَ) مِنَ الْمَدِينَةِ (بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ) مِنَ النَّاسِ (وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) لِأَنَّهَا لَا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْفِتَنَ فِيهَا دُونَهَا فِي غَيْرِهَا، وَقِيلَ: لِفَضْلِ مَسْجِدِهَا وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَمُجَاوِرَةِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ.

(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) بِمَا فِيهَا مِنَ الْفَضَائِلِ كَالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهَا وَثَوَابِ الْإِقَامَةِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي تُسْتَحْقَرُ دُونَهَا مَا يَجِدُونَهُ مِنَ الْحُظُوظِ الْفَانِيَةِ الْعَاجِلَةِ بِسَبَبِ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهَا.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ أَوْ قَرِيبَهُ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» " وَظَاهِرُهُ أَنَّ الَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ غَيْرَ الَّذِينَ يَبِسُّونَ، فَكَأَنَّ الَّذِي حَضَرَ الْفَتْحَ أَعْجَبَهُ حُسْنُ الْيَمَنِ وَرَخَاؤُهُ فَدَعَا قَرِيبَهُ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهِ، فَيَحْتَمِلُ الْمَدْعُوُّ بِأَهْلِهِ وَأَتْبَاعِهِ لَكِنْ صَوَّبَ النَّوَوِيُّ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ إِخْبَارٌ عَنْ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ مُتَحَمِّلًا بِأَهْلِهِ وَأَتْبَاعِهِ بَأْسًا فِي سَيْرِهِ إِلَى الرَّخَاءِ وَالْأَمْصَارِ الْمُنْفَتِحَةِ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَلَفْظُهُ: " «تُفْتَحُ الشَّامُ فَيَخْرُجُ النَّاسُ إِلَيْهَا يَبِسُّونَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» " وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ زَمَانٌ يَنْطَلِقُ النَّاسُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْيَافِ يَلْتَمِسُونَ الرَّخَاءَ فَيَجِدُونَ ثُمَّ يَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» " وَالْأَرْيَافُ جَمْعُ رِيفٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ مَا قَارَبَ الْمِيَاهَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الزَّرْعُ وَالْخِصْبُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

(وَتُفْتَحُ الشَّامُ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَنْ شِمَالِ الْكَعْبَةِ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامٍ: ثُمَّ تُفْتَحُ الشَّامُ (فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّهَا وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسِرِ الْمُوَحَّدَةِ

ص: 353

، أَيْ: يُزَيِّنُونَ وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى بِلَادِ الْخِصْبِ (فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ) مِنَ النَّاسِ رَاحِلِينَ إِلَى الشَّامِ (وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) مِنْهَا لِأَنَّهَا حَرَمُ الرَّسُولِ وَجِوَارُهُ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَمَنْزَلُ الْبَرَكَاتِ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) فَضْلَهَا مَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ كَالسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَوْ بِمَعْنَى لَيْتَ فَلَا جَوَابَ لَهَا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَفِيهِ تَجْهِيلٌ لِمَنْ فَارَقَهَا لِتَفْوِيتِهِ عَلَى نَفْسِهِ خَيْرًا عَظِيمًا.

(وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ثُمَّ تُفْتَحُ الْعِرَاقُ (فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ) مِنَ النَّاسِ رَاحِلِينَ إِلَى الْعِرَاقِ (وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) مِنْهُ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ذَلِكَ وَالْوَاوُ فِي الثَّلَاثَةِ لِلْحَالِ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَخْبَرَ بِفَتْحِ هَذِهِ الْأَقَالِيمِ، وَأَنَّ النَّاسَ يَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَيُفَارِقُونَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ مَا قَالَهُ عَلَى تَرْتِيبِ مَا قَالَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ:«تُفْتَحُ الشَّامُ ثُمَّ الْيَمَنُ ثُمَّ الْعِرَاقُ» " وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَمَنَ قَبْلَ الشَّامِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ شَيْءٌ مِنَ الشَّامِ فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ، فَرِوَايَةُ تَقْدِيمِ الشَّامِ عَلَى الْيَمَنِ مَعْنَاهُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ فَتْحِ الْيَمَنِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الشَّامِ، وَقَوْلُ الطُّهْرِيِّ: «أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَنَّ الْيَمَنَ تُفْتَحُ فَيَأْتِي مِنْهَا قَوْمٌ حَتَّى يَكْثُرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهَا» " تَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ تَنْكِيرَ قَوْمٍ وَوَصْفُهُ بِـ " يَبِسُّونَ " ثُمَّ تَوْكِيدُهُ بِقَوْلِهِ " لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " لَا يُسَاعِدُ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ تَنْكِيرَ قَوْمٍ لِتَحْقِيرِهِمْ وَتَوْهِينِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ وَصْفُ " يُبِسُّونَ " وَهُوَ سُوقُ الدَّوَابِّ يُشْعِرُ بِرِكَّةِ عُقُولِهِمْ وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ رَكَنَ إِلَى الْحُظُوظِ الْبَهِيمِيَّةِ وَحُطَامِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ وَأَعْرَضُوا عَنِ الْإِقَامَةِ فِي جِوَارِ الرَّسُولِ، وَلِذَا كَرَّرَ قَوْمًا وَوَصَفَهُ فِي كُلِّ قَرِينَةٍ بِ " يُبِسُّونَ " اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْهَيْئَةِ الْقَبِيحَةِ، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَنْ يُنَزِّلَ يَعْلَمُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِيَنْفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ ذَهَبَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى التَّمَنِّي لَكَانَ أَبْلَغَ لِأَنَّ التَّمَنِّيَ طَلَبُ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ، أَيْ: لَيْتَهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا انْتَهَى.

وَفِي إِسْنَادِهِ تَابِعِيَّانِ وَصَحَابِيَّانِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَوَكِيعٌ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِهِ، غَايَتُهُ أَنَّ وَكِيعًا قَدِمَ الشَّامَ.

ص: 354

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ حِمَاسٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَتُتْرَكَنَّ الْمَدِينَةُ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ حَتَّى يَدْخُلَ الْكَلْبُ أَوْ الذِّئْبُ فَيُغَذِّي عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَنْ تَكُونُ الثِّمَارُ ذَلِكَ الزَّمَانَ قَالَ لِلْعَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1643 -

1595 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ حِمَاسٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمِيمٍ خَفِيفَةٍ فَأَلِفٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ كَذَا

ص: 354

رَوَاهُ يَحْيَى وَلَمْ يُسَمِّهُ وَهُوَ يُوسُفُ بْنُ يُونُسَ بْنِ حِمَاسٍ، وَقَالَ مَعِنٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ فَقَلَبَهُ، وَقَالَ التِّنِّيسِيُّ وَأَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سِنَانٍ أَبْدَلَا يُونُسَ فَسَمَّيَاهُ سِنَانًا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ: كَانَ مِنْ عُبَّادِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَمَحَ مَرَّةً امْرَأَةً فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَرَدَّهُمَا عَلَيْهِ.

وَرَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَرَوَى هُوَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ (عَنْ عَمِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَتُتْرَكَنَّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ الْأُولَى وَإِسْكَانِ الثَّانِيَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالْكَافِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ وَنَائِبِ الْفَاعِلِ (الْمَدِينَةُ عَلَى أَحْسَنِ مَا) أَيْ: حَالَ (كَانَتْ) مِنَ الْعِمَارَةِ وَكَثْرَةِ الْأَثْمَارِ وَحُسْنِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلصَّحِيحَيْنِ: عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ.

وَفِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ " خَيْرِ مَا كَانَتْ " وَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: " أَعْمَرِ مَا كَانَتْ " وَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ (حَتَّى يَدْخُلَ الْكَلْبُ أَوِ الذِّئْبُ) لِلتَّنْوِيعِ وَيُحْتَمَلُ الشَّكُّ (فَيُغَذِّي) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الذَّالِ الثَّقِيلَةِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، أَيْ: يَبُولُ دَفْعَةً بَعْدَ دَفْعَةٍ (عَلَى بَعْضِ سَوَارِي) أَعْمِدَةِ (الْمَسْجِدِ أَوِ الْمِنْبَرِ) تَنْوِيعٌ أَوْ شَكٌّ لِعَدَمِ سُكَّانِهِ وَخُلُوِّهِ مِنَ النَّاسِ ( «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَنْ تَكُونُ الثِّمَارُ ذَلِكَ الزَّمَانُ؟ قَالَ: لِلْعَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ» ) بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لِلْعَوَافِي وَهِيَ الطَّالِبَةُ لِمَا تَأْكُلُ مَأْخُوذٌ مِنْ عَفَوْتَهُ إِذَا أَتَيْتَهُ تَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَيُوَضِّحُهُ قَضِيَّةُ الرَّاعِيَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ فَإِنَّهُمَا يَخِرَّانِ عَلَى وُجُوهِهِمَا حِينَ تُدْرِكُهُمَا السَّاعَةُ وَهُمَا آخِرُ مَنْ يُحْشَرُ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا مِمَّا جَرَى فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَانْقَضَى فَإِنَّهَا صَارَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم دَارَ الْخِلَافَةِ وَمَعْقِلَ النَّاسِ حَتَّى تَنَافَسُوا فِيهَا بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ وَسَكَنُوا مِنْهَا مَا لَمْ يُسْكَنْ قَبْلُ حَتَّى بَلَغَتِ الْمَسَاكِنُ مِلْءَ إِهَابٍ، وَجُلِبَتْ إِلَيْهَا خَيْرَاتُ الْأَرْضِ كُلِّهَا فَلَمَّا انْتَهَتْ حَالُهَا كَمَالًا انْتَقَلَتِ الْخِلَافَةُ عَنْهَا إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَذَلِكَ الْوَقْتَ أَحْسَنُ مَا كَانَتْ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا.

أَمَّا الدِّينُ فَلِكَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ بِهَا وَكَمَالِهِمْ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَلِعِمَارَتِهَا وَغَرْسِهَا وَاتِّسَاعِ حَالِ أَهْلِهَا.

قَالَ: وَذَكَرَ الْأَخْبَارِيُّونَ فِي بَعْضِ الْفِتَنِ الَّتِي جَرَتْ بِالْمَدِينَةِ وَخَافَ أَهْلُهَا أَنَّهُ رَحَلَ عَنْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَبَقِيَتْ ثِمَارُهَا أَوْ أَكْثَرُهَا لِلْعَوَافِي وَخَلَتْ مُدَّةً ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَيْهَا.

وَحَكَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ

ص: 355

أَنَّهُمْ رَأَوْا فِي خَلَائِهَا ذَلِكَ مَا أُنْذِرَ بِهِ مِنْ تَغْذِيَةِ الْكِلَابِ عَلَى سَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَحَالُهَا الْيَوْمَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ خُرِّبَتْ أَطْرَافُهَا.

قَالَ الْأُبِّيُّ: تَأَمَّلِ الْكَلَامَ فَإِنَّهُ يُعْطِي أَنَّ خَلَاءَهَا حَتَّى غُذَّتِ الْكِلَابُ عَلَى سَوَارِي الْمَسْجِدِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ تَنَاهِي حَالِهَا أَوِ انْتِقَالِ الْخِلَافَةِ عَنْهَا، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ وَلَوْ وَقَعَ لَتَوَاتَرَ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَدَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِوُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُهُ بَيْنَ يَدَيْ نَفْخَةِ الصَّعْقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَوْتُ الرَّاعِيَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِخَيْرِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ، وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ انْتَهَى.

وَفِي نَفْيِ وُقُوعِهِ نَظَرٌ مَعَ نَقْلِ عِيَاضٍ عَنْ كَثِيرٍ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ وَزِيَادَةٍ.

ص: 356

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَبَكَى ثُمَّ قَالَ يَا مُزَاحِمُ أَتَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ نَفَتْ الْمَدِينَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1643 -

1596 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ) يُرِيدُ الشَّامَ وَكَانَ قَدْ أَقَامَ بِهَا مُدَّةً أَمِيرًا عَلَيْهَا قَبْلَ الْخِلَافَةِ (الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَبَكَى) عَلَى فِرَاقِهَا (ثُمَّ قَالَ: يَا مُزَاحِمُ) ابْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ الْمَكِّيُّ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيُقَالُ مَوْلَى طَلْحَةَ، ثِقَةٌ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا (أَتَخْشَى) تَخَافُ (أَنْ تَكُونَ) بِفَوْقِيَّةٍ (مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ) وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ نَكُونُ بِالنُّونِ، أَيْ: أَنَا وَأَنْتَ.

ص: 356

[مَا جَاءَ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ]

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنَا أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ

1645 -

1597 - (مَالِكٌ عَنْ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ ابْنِ أَبِي عَمْرٍو وَاسْمُهُ مَيْسَرَةُ الْمَدَنِيُّ الثِّقَةُ الْمُتَوَفَّى بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَمِائَةٍ (مَوْلَى الْمُطَّلِبِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ الْمَخْزُومِيِّ، وَعَمْرٌو قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِهِ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَمْ يُفْرِدْهُ مَالِكٌ بِحُكْمٍ لَهُ فِي الْمُوَّطَأِ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ انْتَهَى.

وَفِي مُقَدِّمَةِ الْفَتْحِ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ

ص: 356

وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالْعِجْلِيِّ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَعُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ لِرِوَايَتِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" مَنْ أَتَى الْبَهِيمَةَ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ " وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ حَدَّثٌ بِحَدِيثِ الْبَهِيمَةِ.

وَقَدْ رَوَى عَاصِمٌ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " لَيْسَ عَلَى مَنْ أَتَى الْبَهِيمَةَ حَدٌّ " وَقَالَ السَّاجِيُّ: صَدُوقٌ إِلَّا أَنَّهُ يَهِمُ انْتَهَى.

وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ عَنْ عِكْرِمَةَ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَطْ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَاللَّامِ مُخَفَّفًا ظَهَرَ (لَهُ أُحُدٌ) حِينَ رَجَعَ مِنْ خَيْبَرَ، فَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ قَالَ:" «خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ فَلَمَّا قَدِمَ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ» "(فَقَالَ: هَذَا) مُشِيرًا إِلَى أُحُدٍ (جَبَلٌ) خَبَرٌ مُوَطِّئٌ لِقَوْلِهِ: (يُحِبُّنَا) حَقِيقَةً كَمَا رَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَدْ خَاطَبَهُ صلى الله عليه وسلم مُخَاطَبَةَ مَنْ يَعْقِلُ فَقَالَ لَمَّا اضْطَرَبَ: اسْكُنْ أُحُدُ. . . الْحَدِيثَ.

فَوَضَعَ اللَّهُ الْحُبَّ فِيهِ كَمَا وَضَعَ التَّسْبِيحَ فِي الْجِبَالِ مَعَ دَاوُدَ وَالْخَشْيَةَ فِي الْحِجَارَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74][سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 74] وَكَمَا حَنَّ الْجِذْعُ لِفِرَاقِهِ حَتَّى سَمِعَ النَّاسُ حَنِينَهُ، فَلَا يُنْكَرُ وَصْفُ الْجَمَادِ بِحُبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ سَلَّمَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ وَسَبَحَتِ الْحَصَيَاتُ فِي يَدِهِ وَكَلَّمَتْهُ الذِّرَاعُ وَأَمَّنَتْ حَوَائِطُ الْبَيْتِ وَأُسْكُفَّةُ الْبَابِ عَلَى دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم، إِشَارَةً إِلَى مَزِيدِ حُبِّ اللَّهِ إِيَّاهُ حَتَّى أَسْكَنَ حُبَّهُ فِي الْجَمَادِ وَغَرَسَ مَحَبَّتَهُ فِي الْحَجَرِ مَعَ فَضْلِ يُبْسِهِ وَقُوَّةِ صَلَابَتِهِ.

(وَنُحِبُّهُ) حَقِيقَةً أَيْضًا لِأَنَّ جَزَاءَ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُحَبَّ وَلِأَنَّهُ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ كَمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ مَرْفُوعًا: " «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَهُوَ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ» " وَلِلْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ: " «أُحُدٌ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» "، أَيْ: مِنْ دَاخِلِهَا، فَلَا يُنَافِي رِوَايَةَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا:" «أُحُدٌ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْجَنَّةِ» " لِأَنَّهُ رُكْنٌ دَاخِلَ الْبَابِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ ابْنِ سَلَامٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ رُكْنُ بَابِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: يُحِبُّنَا أَهْلُهُ وَهُمُ الْأَنْصَارُ لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ وَكَانُوا يُحِبُّونَهُ صلى الله عليه وسلم وَيُحِبُّهُمْ لِأَنَّهُمْ آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ وَأَقَامُوا دِينَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82][سُورَةُ يُوسُفَ: الْآيَةُ 82] وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي

وَلَكِنَّ حُبَّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا

وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُ بِلِسَانِ الْحَالِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بِقُرْبِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَلِقَائِهِمْ وَذَلِكَ فِعْلُ الْمُحِبِّ بِمَنْ يُحِبُّ، فَكَانَ يَفْرَحُ إِذَا طَلَعَ لَهُ اسْتِبْشَارًا بِالْأَوْبَةِ مِنْ سَفَرِهِ وَالْقُرْبِ مَنْ أَهْلِهِ، وَضَعُفَ بِمَا فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ:" «فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَكُلُوا مِنْ شَجَرِهِ وَلَوْ مِنْ عِضَاهِهِ» " بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، كُلُّ شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ ذَاتِ شَوْكٍ، فَحَثَّ عَلَى عَدَمِ إِهْمَالِ الْأَكْلِ

ص: 357

حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا مَا يُؤْكَلُ كَالْعِضَاهِ، يَمْضِغُ مِنْهُ تَبَرُّكًا وَلَوْ بِلَا ابْتِلَاعٍ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ أَيِ الْحَقِيقَةَ - قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» " مَعَ أَحَادِيثَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَتَنَاسَبَتْ هَذِهِ الْآثَارُ وَشَدَّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ وَلَا أَحْسَنَ مِنِ اسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْأَحَدِيَّةِ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ بِهَذَا الِاسْمِ تَقْدِمَةً لِمَا أَرَادَهُ مِنْ مُشَاكَلَةِ اسْمِهِ لِمَعْنَاهُ، إِذْ أَهْلُهُ وَهُمُ الْأَنْصَارُ نَصَرُوا التَّوْحِيدَ وَالْمَبْعُوثَ بِدِينِ التَّوْحِيدِ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْوِتْرَ وَيُحِبُّهُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ اسْتِشْعَارًا لِلْأَحَدِيَّةِ، فَقَدْ وَافَقَ اسْمُهُ أَغْرَاضَهُ وَمَقَاصِدَهُ، وَمَعَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَحَدِيَّةِ فَحَرَكَاتُ حُرُوفِهِ الرَّفْعُ وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِارْتِفَاعِ دِينِ الْأَحَدِيَّةِ وَعُلُوِّهِ، فَتَعَلَّقَ الْحُبُّ بِهِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم اسْمًا وَمُسَمًّى، فَخُصَّ مِنْ بَيْنِ الْجِبَالِ بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا انْتَهَى.

وَأُخِذَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أَفْضَلُ الْجِبَالِ، وَقِيلَ: عَرَفَةُ، وَقِيلَ: أَبُو قَبِيسٍ، وَقِيلَ: الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَقِيلَ: قَافٌ، قِيلَ: وَفِيهِ قَبْرُ هَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا يَصِحُّ.

(اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ) بِتَحْرِيمِكَ لَهَا عَلَى لِسَانِهِ (وَأَنَا أُحَرِّمُ) بِتَحْرِيمِكَ عَلَى لِسَانِي (مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) بِخِفَّةِ الْمُوَحَّدَةِ تَثْنِيَةُ لَابَةٍ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ وَجَمْعُهَا فِي الْقِلَّةِ لَابَاتٌ وَفِي الْكَثْرَةِ لُوبٌ كَسَاحَةٍ وَسُوحٍ يَعْنِي الْحَرَّتَيْنِ الشَّرْقِيَّةَ وَالْغَرْبِيَّةَ وَهِيَ حِرَارٌ أَرْبَعٌ لَكِنَّ الْقِبْلِيَّةَ وَالْجَنُوبِيَّةَ مُتَّصِلَتَانِ، وَقَدْ رَدَّهَا حَسَّانُ إِلَى حَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِهِ:

لَنَا حَرَّةٌ مَأْطُورَةٌ بِجِبَالِهَا

بَنَى الْعِزُّ فِيهَا بَيْتَهُ فَتَأَثَّلَا

قَالَ: وَمَأْطُورَةٌ يَعْنِي مَعْطُوفَةٌ بِجِبَالِهَا لِاسْتِدَارَةِ الْجِبَالِ بِهَا، وَإِنَّمَا جِبَالُهَا تِلْكَ الْحِجَارَةُ السُّودُ الَّتِي تُسَمَّى الْحِرَارَ، قَالَ: وَتَحْرِيمُهُ صلى الله عليه وسلم مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا إِنَّمَا يَعْنِي فِي الصَّيْدِ، فَأَمَّا الشَّجَرُ فَبَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ فِي دُورِهَا كُلِّهَا، كَذَلِكَ أَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ انْتَهَى.

وَكَذَا قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ.

زَادَ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ " وَالتَّشْبِيهُ فِي الْحُرْمَةِ فَقَطْ لَا الْجَزَاءِ ; لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ جَزَاءُ الصَّيْدِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ كَمَا قَالَ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94][سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 94] وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالصَّحَابَةُ فَهِمُوا الْمُرَادَ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ فَتَلَقَّوْهُ بِالْوُجُوبِ دُونَ جَزَاءٍ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا بِيَقِينٍ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فِي صَيْدِهَا الْجَزَاءُ ; لِأَنَّهُ حَرَمُ نَبِيٍّ كَمَا مَكَّةُ حَرَمُ نَبِيٍّ انْتَهَى.

وَزَادَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ: " «لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا» " وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرٍو: " «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ

ص: 358

إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» " فَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ؛ نُصْرَةً لِقَوْلِهِمْ بِجَوَازِ صَيْدِهَا وَقَطْعِ شَجَرِهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ بِمِثْلِ هَذَا لَا تُرَدُّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَالْجَمْعُ وَاضِحٌ وَلَوْ تَعَذَّرَ، فَرِوَايَةُ لَابَتَيْهَا أَرْجَحُ لِتَوَارُدِ الرُّوَاةِ عَلَيْهَا وَلَا يُنَافِيهَا رِوَايَةُ جَبَلَيْهَا فَيَكُونُ عِنْدَ كُلِّ لَابَةٍ جَبَلٌ أَوْ لَابَتَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ وَالشِّمَالِ وَجَبَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَتَسْمِيَةُ الْجَبَلَيْنِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَضُرُّ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي الْمَغَازِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، الثَّلَاثَةُ عَنْ عَمْرٍو بِنَحْوِهِ.

ص: 359

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1646 -

1598 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بِكَسْرِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ) بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ جَمْعُ ظَبْيٍ (بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ) أَيْ: تَرْعَى (مَا ذَعَرْتُهَا) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ: مَا أَفْزَعْتُهَا وَنَفَّرْتُهَا، كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ عَدَمِ صَيْدِهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ كَالْمَكِّيِّ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ» ) بِتَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «حُرِّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي» " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَا يَجُوزُ صَيْدُهَا وَلَا قَطْعُ شَجَرِهَا الَّذِي لَا يَسْتَنْبِتُهُ الْآدَمِيُّ، وَالْمَدِينَةُ بَيْنَ لَابَتَيْنِ شَرْقِيَّةٍ وَغَرْبِيَّةٍ، وَلَهَا لَابَتَانِ أَيْضًا قِبْلِيَّةٌ وَجَنُوبِيَّةٌ لَكِنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى الْأَوَّلَيْنِ لِاتِّصَالِهِمَا بِهِمَا، فَجَمِيعُ دُورِهَا كُلِّهَا دَاخِلُ ذَلِكَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاللَّابَتَانِ دَاخِلَتَانِ أَيْضًا.

قَالَ الْأُبِّيُّ: وَلَعَلَّهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَإِلَّا فَلَفْظُ " بَيْنَ " لَا يَشْمَلُهُمَا انْتَهَى.

وَفِي بَعْضِ الْإِشَارَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " حَرَّمَ صلى الله عليه وسلم مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى " وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: " «حَمَى صلى الله عليه وسلم كُلَّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ» " وَفِي هَذَا بَيَانُ مَا أُجْمِلَ مِنْ حَدِّ حَرَمِ الْمَدِينَةِ.

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا حُجَّةٌ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا وَزَعَمُوا نَسْخَهَا بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةٌ إِلَيْهَا، فَكَانَ بَقَاءُ الصَّيْدِ وَالشَّجَرِ مِمَّا يُقَوِّي الْمَقَامَ بِهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَاحْتِجَاجُ الطَّحَاوِيِّ لِلْجَوَازِ بِحَدِيثِ:" «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» " حَيْثُ لَمْ يُنْكِرْ صَيْدَهُ وَلَا إِمْسَاكَهُ.

وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ: " «كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَحْشِيٌّ فَإِذَا خَرَجَ لَعِبَ وَاشْتَدَّ

ص: 359

وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا أَحَسَّ بِهِ صلى الله عليه وسلم رَبَضَ فَلَمْ يَقُمْ مِنْ مَكَانِهِ» " تَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِجَوَازِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِمَّا صِيدَ فِي غَيْرِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

ص: 360

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ وَجَدَ غِلْمَانًا قَدْ أَلْجَئُوا ثَعْلَبًا إِلَى زَاوِيَةٍ فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ قَالَ مَالِكٌ لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ أَفِي حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْنَعُ هَذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1647 -

1599 - (مَالِكٌ عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ) بْنِ حِمَاسٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، ثِقَةٌ عَابِدٌ.

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: هُوَ يُوسُفُ بْنُ يُونُسَ، وَوَهِمَ مَا قَبْلَهُ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بِخِفَّةِ الْمُهْمَلَةِ (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ (الْأَنْصَارِيِّ) أَحَدِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ (أَنَّهُ وَجَدَ غِلْمَانًا قَدْ أَلْجَئُوا) بِجِيمٍ، أَيِ: اضْطَرُّوا (ثَعْلَبًا إِلَى زَاوِيَةٍ) بِزَايٍ، نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، يُرِيدُونَ اصْطِيَادَهُ (فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ) لِحُرْمَةِ ذَلِكَ.

(قَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَفِي حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْنَعُ هَذَا؟) إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ.

ص: 360

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ دَخَلَ عَلَيَّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَنَا بِالْأَسْوَافِ قَدْ اصْطَدْتُ نُهَسًا فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِي فَأَرْسَلَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1647 -

1600 - (مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ إِنَّهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ اهـ.

وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ مِنْ مَوَالِي الْأَنْصَارِ (قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ) بِشَدِّ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ (زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) الْأَنْصَارِيُّ بِالرَّفْعِ فَاعِلُ " دَخَلَ "(وَأَنَا بِالْأَسْوَافِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ السِّينِ فَوَاوٍ فَأَلِفٍ فَفَاءٍ، قَالَ الْبَاجِيُّ: مَوْضِعٌ بِبَعْضِ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ (قَدِ اصْطَدْتُ نُهَسًا) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ طَائِرٌ يُشْبِهُ الصَّرْدَ يُدِيمُ تَحْرِيكَ رَأْسِهِ وَذَنَبِهِ يَصْطَادُ الْعَصَافِيرَ وَيَأْوِي إِلَى الْمَقَابِرِ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ.

(فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِي فَأَرْسَلَهُ) أَطْلَقَهُ فَهَذَا زَيْدٌ وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ كَأَبِي أَيُّوبَ قَدْ مَنَعَا مَنِ اصْطَادَ وَأَطْلَقَ زَيْدٌ الصَّيْدَ فَلَوْ كَانَ مَنْسُوخًا مَا حَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَيَاعُ مَالٍ خُصُوصًا لِلْغَيْرِ، فَفِي ذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمَا كَأَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ قَالَ: مَا ذُعْرَتُهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ وَفَهِمُوا بَقَاءَ التَّحْرِيمِ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَعَمِلُوا بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا نُسِخَ - حَرَامٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ظَنُّهُ بِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 360

[مَا جَاءَ فِي وَبَاءِ الْمَدِينَةِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ

وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنَّةٍ

وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ» قَالَ مَالِكٌ وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَقُولُ

قَدْ رَأَيْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ

إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي وَبَاءِ الْمَدِينَةِ

1648 -

1601 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ) فِي الْهِجْرَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، وَنَحْوُهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامٍ، وَزَادَ: قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ وَبَاؤُهَا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ إِذَا دَخَلَهَا وَأَرَادَ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ وَبَائِهَا قِيلَ انْهَقْ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ:

لَعَمْرِي لَئِنْ غَنَّيْتُ مِنْ خِيفَةِ الرَّدَى

نَهِيقَ الْحِمَارِ إِنَّنِي لَمُرَوَّعُ

قَالَ عِيَاضٌ: قُدُومُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْوَبَاءِ مَعَ صِحَّةِ نَهْيِهِ عَنْهُ لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَوْتِ الذَّرِيعِ وَالطَّاعُونِ وَالَّذِي بِالْمَدِينَةِ إِنَّمَا كَانَ وَخْمًا يَمْرَضُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْغُرَبَاءِ، أَوْ أَنَّ قُدُومَهُ الْمَدِينَةَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ (وُعِكَ) بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، أَيْ: حُمَّ (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقُ (وَبِلَالٌ) رضي الله عنهما (قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا) لَأَعُودَهُمَا، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا:" «لَمَّا قَدِمَ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ أَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ وَأَصَابَتْ أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِيَادَتِهِمْ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ» "(فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: تَجِدُّ نَفْسَكَ أَوْ جِسْمَكَ (وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَيَا عَامِرُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ (قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ، أَيْ: مُصَابٌ بِالْمَوْتِ صَبَاحًا أَوْ يُسْقَى الصَّبُوحَ وَهُوَ شُرْبُ الْغَدَاةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُقَالُ لَهُ صَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ، وَهُوَ مُنَعَّمٌ (فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى) أَقْرَبُ إِلَيْهِ (مِنْ شِرَاكِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَخِفَّةِ الرَّاءِ سَيْرِ (نَعْلِهِ) الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ

ص: 361

الْمَوْتَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ لِرِجْلِهِ، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ:" فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ إِنَّ أَبِي لَيَهْذِي وَمَا يَدْرِي مَا يَقُولُ " وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَنَّ هَذَا الرَّجَزَ لِحَنْظَلَةَ بْنِ سَيَّارٍ، قَالَهُ يَوْمَ ذِي قَارٍ وَتَمَثَّلَ بِهِ الصِّدِّيقُ.

(وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ وَفِي رِوَايَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ: كُفَّ وَزَالَ (عَنْهُ) الْوَعْكُ (يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُوْلَةٍ، أَيْ: صَوْتَهُ بِبُكَاءٍ أَوْ بِغِنَاءٍ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَصْلُهُ أَنَّ رَجُلًا انْعَقَرَتْ رِجْلُهُ فَرَفَعَهَا عَلَى الْأُخْرَى وَجَعَلَ يَصِيحُ فَصَارَ كُلُّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ يُقَالُ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ رِجْلَهُ، قَالَ ثَعْلَبٌ: وَهَذَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ عَلَى غَيْرِ أَصْلِهَا (فَيَقُولُ أَلَا) بِخِفَّةِ اللَّامِ أَدَاةُ اسْتِفْتَاحٍ (لَيْتَ شِعْرِي) أَيْ: مَشْعُورِي، أَيْ: لَيْتَنِي عَلِمْتُ بِجَوَابِ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلِي (هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادِي) أَيْ: وَادِ مَكَّةَ (وَحَوْلِي إِذْخِرٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ حَشِيشُ مَكَّةَ ذُو الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ (وَجَلِيلُ) بِجِيمٍ وَكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى نَبْتٌ ضَعِيفٌ يُحْشَى بِهِ الْبُيُوتُ وَغَيْرُهَا وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِذْخِرٌ وَجَلِيلٌ نَبْتَانِ مِنَ الْكَلَأِ طَيِّبَا الرَّائِحَةِ يَكُونَانِ بِمَكَّةَ وَأَوْدِيَتِهَا لَا يَكَادُ أَنْ يُوجَدَانِ فِي غَيْرِهَا.

(وَهَلْ أَرِدَنْ) بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ (يَوْمًا مِيَاهَ) بِالْهَاءِ (مَجِنَّةٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِكَسْرِ الْجِيمِ مَوْضِعٌ عَلَى أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ كَانَ بِهِ سُوقٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

(وَهَلْ يَبْدُوَنْ) بِنُونِ تَأْكِيدٍ خَفِيفَةٍ يَظْهَرَنْ (لِي شَامَةٌ) بِمُعْجَمَةٍ وَمِيمٍ مُخَفَّفًا، وَزَعَمَ فِي الْقَامُوسِ أَنَّ الْمِيمَ تَصْحِيفٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالصَّوَابُ شَابَةٌ بِالْبَاءِ، وَبِالْمِيمِ وَقَعَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ جَمِيعِهَا كَذَا قَالَ، وَأَشَارَ الْحَافِظُ لِرَدِّهِ فَقَالَ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الصَّوَابَ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ الْمِيمِ، وَالْمَعْرُوفُ بِالْمِيمِ (وَطَفِيلُ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ جَبَلَانِ بِقُرْبِ مَكَّةَ عَلَى نَحْوِ ثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْهَا كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: جَبَلَانِ مُشْرِفَانِ عَلَى مَجِنَّةَ عَلَى بَرِيدَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كُنْتُ أَحْسَبُهُمَا جَبَلَيْنِ حَتَّى مَرَرْتُ بِهِمَا وَوَقَفْتُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا هُمَا عَيْنَانِ مِنْ مَاءٍ، وَقَوَّاهُ السُّهَيْلِيُّ بِقَوْلِ كَثِيرٍ:

وَمَا أَنْسَ مَشْيًا وَلَا أَنْسَ مَوْقِفًا

لَنَا وَلَهَا بِالْخَبِّ حُبٌّ طَفِيلُ

الْخَبُّ مُنْخَفَضُ الْأَرْضِ انْتَهَى، أَيْ: بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتُكْسَرُ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَجُمِعَ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْعَيْنَيْنِ بِقُرْبِ الْجَبَلَيْنِ أَوْ فِيهِمَا وَيُبْعِدُ الثَّانِي كَلَامَ الْخَطَّابِيِّ، قِيلَ: الْبَيْتَانِ لَيْسَا لِبِلَالٍ بَلْ لِبَكْرِ بْنِ غَالِبٍ الْجُرْهُمِيِّ أَنْشَدَهُمَا لَمَّا نَفَتْهُمْ خُزَاعَةُ مِنْ مَكَّةَ فَتَمَثَّلَ بِهِمَا بِلَالٌ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ بِهِ ثُمَّ يَقُولُ بِلَالٌ: اللَّهُمَّ الْعَنْ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ

ص: 362

وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ.

(قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ) بِشَأْنِهِمَا وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَهْذُونَ وَمَا يَعْقِلُونَ مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ (فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ) مِنْ حُبِّنَا لِمَكَّةَ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَكَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَكَانَ يُحَرِّكُ دَابَّتَهُ إِذَا رَأَى الْمَدِينَةَ مِنْ حُبِّهَا (وَصَحِّحْهَا) مِنَ الْوَبَاءِ (وَبَارِكْ) أَنْمِ وَزِدْ (لَنَا فِي صَاعِهَا) كَيْلٌ يَسَعُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ (وَمُدِّهَا) وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَطَيَّبَ هَوَاءَهَا وَتُرَابَهَا وَمَسَاكِنَهَا وَالْعَيْشَ بِهَا.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: مَنْ أَقَامَ بِهَا يَجِدُ مِنْ تُرَابِهَا وَحِيطَانِهَا رَائِحَةً طَيِّبَةً لَا تَكَادُ تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ تَكَرَّرُ دُعَاؤُهُ بِتَحْبِيبِهَا وَالْبَرَكَةِ فِي ثِمَارِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِجَابَةَ حَصَلَتْ بِالْأَوَّلِ وَالتَّكْرِيرُ لِطَلَبِ الْمَزِيدِ فِيهَا مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْكَيْلِ بِحَيْثُ يَكْفِي الْمُدُّ بِهَا مَا لَا يَكْفِيهِ بِغَيْرِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ لِمَنْ سَكَنَهَا.

(وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِيلًا مِنْ مَكَّةَ، وَكَانَتْ تُسَمَّى مَهْيَعَةً، وَبِهِ عَبَّرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالتَّحْتِيَّةِ، بَيْنَهُمَا هَاءٌ سَاكِنَةٌ فَعَيْنٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ فَهَاءٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى عِيَاضٌ كَسْرَ الْهَاءِ وَسُكُونَ الْيَاءِ عَلَى وَزْنِ جَمِيلَةَ، وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ مَسْكَنَ الْيَهُودِ وَلِذَا تَوَجَّهَ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِمْ، فَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْأَمْرَاضِ وَالْهَلَاكِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ بِالصِّحَّةِ وَإِظْهَارِ مُعْجَمَةٍ عَجِيبَةٍ فَإِنَّهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ وَبِيَّةٌ لَا يَشْرَبُ أَحَدٌ مِنْ مَائِهَا إِلَّا حُمَّ، وَلَا يَمُرُّ بِهَا طَائِرٌ إِلَّا حُمَّ وَسَقَطَ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ كَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَهُ: «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَتْ مَهْيَعَةَ فَتَأَوَّلْتُهَا أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا» ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَجَسُّمِ الْأَعْرَاضِ خَرْقًا لِلْعَادَةِ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الطَّمَأْنِينَةُ بِإِخْرَاجِهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ: «قَدِمَ إِنْسَانٌ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَقِيتَ أَحَدًا؟ قَالَ: لَا إِلَّا امْرَأَةً سَوْدَاءَ عُرْيَانَةً، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ الْحُمَّى وَلَنْ تَعُودَ بَعْدَ الْيَوْمِ» .

قَالَ الشَّرِيفُ السَّمْهُورْدِيُّ: وَالْمَوْجُودُ الْآنَ مِنَ الْحُمَّى بِالْمَدِينَةِ لَيْسَ حُمَّى الْوَبَاءِ بَلْ رَحْمَةُ رَبِّنَا وَدَعْوَةُ نَبِيِّنَا لِلتَّكْفِيرِ، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ " أَصَحُّ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ حَرَّةَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالْعَرِيضِ " وَهُوَ يُؤْذِنُ بِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا بِهَا، وَأَنَّ الَّذِي نُقِلَ عَنْهَا أَصْلًا وَرَأْسًا سُلْطَانُهَا وَشِدَّتُهَا وَوَبَاؤُهَا وَكَثْرَتُهَا بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ الْبَاقِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا رُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ

ص: 363

ثُمَّ أُعِيدَتْ خَفِيفَةً لِئَلَّا يَفُوتَ ثَوَابُهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:" «اسْتَأْذَنَتِ الْحُمَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أُمُّ مِلْدَمٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى أَهْلِ قِبَاءَ فَبَلَغُوا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللَّهَ لِيَكْشِفَهَا عَنْكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ تَكُونُ لَكُمْ طَهُورًا، قَالُوا: أَوَتَفْعَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَدَعْهَا» " انْتَهَى.

هَذَا وَقَدْ عَارَضَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَدِيثَ الْبَابِ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: " «لَمَّا دَخَلَ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ حُمَّ أَصْحَابُهُ فَدَخَلَ يَعُودُهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ تَجِدُكَ؟» " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: فَجَعَلَ سُفْيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ هُوَ الدَّاخِلُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ وَعَامِرٍ، وَمَالِكٌ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ هِيَ الدَّاخِلَةَ انْتَهَى.

وَلَا مُعَارَضَةَ أَصْلًا لِأَنَّ دُخُولَ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْآخَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْهُ بِحَالِهِمْ جَاءَ لِعِيَادَتِهِمْ وَأَجَابُوا كُلًّا مِنْهُمَا بِالْأَشْعَارِ الْمَذْكُورَةِ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ أَيْضًا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهَا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: " «أَصَابَتِ الْحُمَّى الصَّحَابَةَ حَتَّى جَهِدُوا مَرَضًا وَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ حَتَّى مَا كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَّا وَهُمْ قُعُودٌ، فَخَرَجَ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يُصَلُّونَ كَذَلِكَ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ فَتَجَشَّمُوا الْقِيَامَ، أَيْ: تَكَلَّفُوهُ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالسَّقَمِ الْتِمَاسَ الْفَضْلِ» " قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ حَنِينِهِمْ إِلَى مَكَّةَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حُبِّ الْوَطَنِ وَالْحَنِينِ إِلَيْهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُصَيْلٍ - أَيْ: بِالتَّصْغِيرِ - الْغِفَارِيِّ، وَيُقَالُ فِيهِ الْهُذَلِيُّ، أَنَّهُ «قَدِمَ مِنْ مَكَّةَ فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ: كَيْفَ تَرَكْتَ مَكَّةَ يَا أُصَيْلُ؟ قَالَ: تَرَكْتُهَا حِينَ ابْيَضَّتْ أَبَاطِحُهَا وَأَحْجَنَ ثُمَامُهَا وَأَعْذَقَ إِذْخِرُهَا وَأَمْشَرَ سَلَمُهَا، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: تَشَوَّقْنَا يَا أُصَيْلُ» .

وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: دَعِ الْقُلُوبَ تَقَرُّ، وَقَدْ قَالَ الْأَوَّلُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادِي الْخُزَامَى حَيْثُ رَبَّتْنِي أَهْلِي

بِلَادٍ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِمِي

وَقُطِّعْنَ عَنِّي حِينَ أَدْرَكَنِي عَقْلِي

انْتَهَى.

وَهَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ حُبِّبَتِ الْمَدِينَةُ إِلَيْهِمْ بِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهَا وَمَحَبَّتِهِ فِيهَا، وَفَضَائِلُهَا جَمَّةٌ كَثِيرَةٌ صَنَّفَهَا النَّاسُ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْحَجِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَفِي الْهِجْرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الطِّبِّ عَنْ قُتَيْبَةَ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ بِنَحْوِهِ وَزِيَادَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَعَبْدَةَ وَابْنِ نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، الثَّلَاثَةُ عَنْ هِشَامٍ (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَائِشَةَ) فِيهِ انْقِطَاعٌ لِأَنَّ

ص: 364

يَحْيَى لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ، وَقَدْ زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ هِشَامٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، جَمِيعًا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَقِبَ قَوْلِهَا: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا يَدْرِي أَبِي مَا يَقُولُ ثُمَّ دَنَوْتُ إِلَى عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ؟ (قَالَتْ: وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، التَّيْمِيُّ مَوْلَى الصِّدِّيقِ، يُقَالُ أَصْلُهُ مِنَ الْأَزْدِ فَاسْتُرِقَّ وَيُقَالُ أَصْلُهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّاوِي قَدِيمًا فَعُذِّبَ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَافَقَ أَبَا بَكْرٍ فِي الْهِجْرَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَاسْتُشْهِدَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، رَوَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رَجَزَهُ الَّذِي كَانَ (يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُ الْمَوْتَ) أَيْ: شِدَّةً تُشَابِهُ شِدَّتَهُ (قَبْلَ ذَوْقِهِ) حُلُولِهِ (إِنَّ الْجَبَانَ) أَيْ: ضَعِيفَ الْقَلْبِ (حَتْفُهُ) هَلَاكُهُ (مِنْ فَوْقِهِ) لِجُبْنِهِ، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ:

كُلُّ امْرِئٍ مُجَاهِدٍ بِطَوْقِهِ

كَالثَّوْرِ يَحْمِي أَنْفَهُ بِرَوْقِهِ

وَالطَّوْقُ الطَّاقَةُ، وَالرَّوْقُ الْقَرْنُ، يُضْرَبُ مَثَلًا فِي الْحَثِّ عَلَى حِفْظِ الْحَرِيمِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيُذْكَرُ أَنَّ هَذَا الشِّعْرَ لِعَمْرِو بْنِ مَامَةَ.

ص: 365

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1649 -

1602 - (مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمٍ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ) بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ بَيْنَهُمَا جِيمٌ سَاكِنَةٌ آخِرُهُ رَاءٌ، الْمَدَنِيُّ مَوْلَى آلِ عُمَرَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْقَابِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَقَافٍ مَفْتُوحَةٍ جَمْعُ قِلَّةٍ لِنَقْبٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ نِقَابٌ بِكَسْرِ النُّونِ (الْمَدِينَةِ) طِيبَةَ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِي مَدَاخِلَهَا وَهِيَ أَبْوَابُهَا وَفُوَّهَاتُ طُرُقِهَا الَّتِي يُدْخَلُ إِلَيْهَا مِنْهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا مَلَكٌ "، وَقِيلَ: طُرُقُهَا (مَلَائِكَةٌ) يَحْرُسُونَهَا (لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ) لِأَنَّ كُفَّارَ الْجِنِّ وَشَيَاطِينَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا، وَمَنِ اتَّفَقَ دُخُولُهُ فِيهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ طَعْنِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَدُّوا عَدَمَ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا بِالصِّحَّةِ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ لَهُ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّ الْأَطِبَّاءَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ عَجَزُوا أَنْ يَدْفَعُوا الطَّاعُونَ عَنْ بَلَدٍ مِنَ الْبِلَادِ بَلْ عَنْ قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى، وَقَدِ امْتَنَعَ الطَّاعُونُ عَنِ الْمَدِينَةِ بِدُعَائِهِ وَخَبَرِهِ هَذِهِ

ص: 365

الْمُدَدَ الْمُتَطَاوِلَةَ فَهُوَ خَاصٌّ بِهَا، وَجَزَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ بِأَنَّ الطَّاعُونَ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ أَيْضًا، مُعَارَضٌ بِمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّهُ دَخَلَهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، لَكِنَّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ مَحْفُوفَتَانِ بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهُمَا مَلَكٌ فَلَا يَدْخُلُهُمَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ " وَحِينَئِذٍ فَالَّذِي نُقِلَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي التَّارِيخِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ كَمَا ظَنَّ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُهُمَا مِنَ الطَّاعُونِ مِثْلُ الَّذِي يَقَعُ فِي غَيْرِهِمَا كَالْجَارِفِ وَعَمَوَاسَ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْفِتَنِ: " «فَتَجِدُ الْمَلَائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، يَعْنِي الْمَدِينَةَ فَلَا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» " وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، فَقِيلَ: لِلتَّبَرُّكِ فَيَشْمَلُهُمَا، وَقِيلَ: لِلتَّعْلِيقِ وَأَنَّ مُقْتَضَاهُ جَوَازُ دُخُولِ الطَّاعُونِ الْمَدِينَةَ.

(وَلَا الدَّجَّالُ) الْمَسِيحُ الْأَعْوَرُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةُ " لَا يَدْخُلُهَا " مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِمُوجَبِ اسْتِقْرَارِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَنْقَابِهَا.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَائِكَةٌ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ» " قَالَ الْحَافِظُ: وَعَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: الْمُرَادُ لَا يَدْخُلُهُ بِجُنُودِهِ، وَكَأَنَّهُ اسْتَبْعَدَ إِمْكَانَ دُخُولِ الدَّجَّالِ جَمِيعَ الْبِلَادِ لِقِصَرِ مُدَّتِهِ، وَغَفَلَ عَمَّا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ بَعْضَ أَيَّامِهِ يَكُونُ قَدْرَ السَّنَةِ.

وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " إِلَّا الْكَعْبَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ " وَزَادَ الطَّحَاوِيُّ: " وَمَسْجِدَ الطُّورِ " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " «فَلَا يَبْقَى مَوْضِعٌ إِلَّا وَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ غَيْرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَبَلِ الطُّورِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَطْرُدُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ» " اهـ.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْحَجِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَفِي الطِّبِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْفِتَنِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 366

[مَا جَاءَ فِي إِجْلَاءِ الْيَهُودِ مِنْ الْمَدِينَةِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ «كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي إِجْلَاءِ الْيَهُودِ - بِالْجِيمِ - مِنَ الْمَدِينَةِ

، أَيْ: إِخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهَا الْمَدِينَةُ الَّتِي الْكَلَامُ فِيهَا.

1650 -

1603 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ) الْقُرَشِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيُّ، ثِقَةٌ، مَاتَ سَنَةَ

ص: 366

ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (يَقُولُ) مُرْسَلٌ وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا ( «كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ» ) قِيلَ مَعْنَاهُ لَعَنَهُمْ لِرِوَايَةِ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ» " وَقِيلَ: أَيْ: قَتَلَهُمْ لِأَنَّ فَاعِلَ يَأْتِي بِمَعْنَى فَعَلَ.

(وَالنَّصَارَى) وَكَأَنَّهُ قِيلَ مَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُمُ (اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) أَيِ اتَّخَذُوهَا جِهَةَ قِبْلَتِهِمْ مَعَ اعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلَ، وَأَنَّ اتِّخَاذَهَا مَسَاجِدَ لَازِمٌ لِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا كَعَكْسِهِ، وَقَدَّمَ الْيَهُودَ لِابْتِدَائِهِمْ بِالِاتِّخَاذِ وَتَبِعَهُمُ النَّصَارَى فَالْيَهُودُ أَظْلَمُ، فَإِنْ قِيلَ: النَّصَارَى لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا نَبِيٌّ وَاحِدٌ وَلَا قَبْرَ لَهُ.

أُجِيبَ: بِأَنَّ الْجَمْعَ بِإِزَاءِ الْمَجْمُوعِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَهُمْ أَنْبِيَاءُ أَوِ الْمُرَادُ الْأَنْبِيَاءُ وَكِبَارُ أَتْبَاعِهِمْ كَالْحَوَارِيِّينَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَفِي مُسْلِمٍ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي النَّصَارَى أَنْبِيَاءُ أَيْضًا غَيْرُ مُرْسَلِينَ كَالْحَوَارِيِّينَ وَمَرْيَمَ فِي قَوْلٍ، أَوِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ لِلْيَهُودِ فَقَطْ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ إِسْقَاطِ النَّصَارَى، أَوْ عَلَى الْكُلِّ وَيُرَادُ مَنْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ كَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْيَهُودُ يَسْجُدُونَ لِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ وَيَجْعَلُونَهَا قِبْلَةً وَيَتَوَجَّهُونَ فِي الصَّلَاةِ نَحْوَهَا فَاتَّخَذُوهَا أَوْثَانًا لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنَعَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، أَمَّا مَنِ اتَّخَذَ مَسْجِدًا بِجِوَارِ صَالِحٍ أَوْ صَلَّى فِي مَقْبَرَتِهِ وَقَصَدَ بِهِ الِاسْتِظْهَارَ بِرُوحِهِ وَوُصُولَ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ عِبَادَتِهِ إِلَيْهِ لَا التَّعْظِيمَ لَهُ وَالتَّوَجُّهَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَدْفَنَ إِسْمَاعِيلَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْحَطِيمِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ أَفْضَلُ مَكَانٍ يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي بِصَلَاتِهِ.

وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْبُوشَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّجَاسَةِ انْتَهَى.

لَكِنَّ خَبَرَ الشَّيْخَيْنِ كَرَاهَةُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ مُطْلَقًا، أَيْ: قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ خَشْيَةَ أَنْ يُعْبَدَ الْمَقْبُورُ فِيهَا بِقَرِينَةِ خَبَرِ: " «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» " فَيُحْمَلُ كَلَامُ الْبَيْضَاوِيِّ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يُخَفْ ذَلِكَ.

( «لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ» ) الْحِجَازِ كُلِّهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الثَّانِي بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ.

ص: 367

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» قَالَ مَالِكٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ وَلَا مِنْ الْأَرْضِ شَيْءٌ وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكَ فَكَانَ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ وَنِصْفُ الْأَرْضِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ صَالَحَهُمْ عَلَى نِصْفِ الثَّمَرِ وَنِصْفِ الْأَرْضِ فَأَقَامَ لَهُمْ عُمَرُ نِصْفَ الثَّمَرِ وَنِصْفَ الْأَرْضِ قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَإِبِلٍ وَحِبَالٍ وَأَقْتَابٍ ثُمَّ أَعْطَاهُمْ الْقِيمَةَ وَأَجْلَاهُمْ مِنْهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1651 -

1604 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُرْسَلٌ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ

ص: 367

سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا أَيْضًا، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِنَحْوِهِ مِنْ طُرُقٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ) خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ؛ لِلرِّوَايَةِ قَبْلَهُ " لَا يَبْقَيَنَّ "(دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) هِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَيْ: وَقُرَاهَا، سُمِّيَتْ جَزِيرَةً لِإِحَاطَةِ الْبَحْرِ بِهَا.

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنٍ وَمَا وَالَاهَا مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ كُلِّهَا إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَأَمَّا فِي الْعَرْضِ فَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ وَمِصْرَ فِي الْمَغْرِبِ، وَفِي الْمَشْرِقِ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مُنْقَطَعِ السِّمَارَةِ.

(قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَفَحَصَ) أَيِ اسْتَقْصَى فِي الْكَشْفِ (عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) فِي خِلَافَتِهِ (حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَجِيمٍ، الْيَقِينُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ (وَالْيَقِينُ) الَّذِي اطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسُهُ وَالْعَطْفُ تَفْسِيرِيٌّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» ) وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ» "(فَأَجْلَى) أَخْرَجَ (يَهُودَ خَيْبَرَ) لَمَّا اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِكَثْرَةِ مَنْ رَوَى لَهُ ذَلِكَ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَهُودَ نَجْرَانَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ هَمْدَانَ بِالْيَمَنِ، قَالَ الْبَكْرِيُّ: سُمِّيَتْ بِاسْمِ بَانِيهَا نَجْرَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ.

(وَفَدَكَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَلْدَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَيْبَرَ دُونَ مَرْحَلَةٍ.

(فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوهُ الْعَمَلَ وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرَةِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّمَا سَاقَاهُمُ اللَّهُ مُدَّةً وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ فِيهَا شَيْئًا.

(وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكَ فَكَانَ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ وَنِصْفُ الْأَرْضِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ صَالَحَهُمْ) لَمَّا أَوْقَعَ بِأَهْلِ خَيْبَرَ (عَلَى نِصْفِ الثَّمَرِ وَنِصْفِ الْأَرْضِ)

ص: 368

بِطَلَبِهِمْ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَأْتِهِمْ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَتْ لَهُ خَالِصَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَقِيلَ: صَالَحُوهُ عَلَى حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَالْجَلَاءِ وَيُخْلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْوَالِ فَفَعَلَ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ.

(فَأَقَامَ) أَيْ: قَوَّمَ (لَهُمْ عُمَرُ نَصِفَ الثَّمَرِ وَنِصْفَ الْأَرْضِ قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ) فِضَّةٍ (وَإِبِلٍ وَحِبَالٍ) جَمْعُ حَبْلٍ (وَأَقْتَابٍ) جَمْعُ قَتَبٍ (ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْقِيمَةَ وَأَجْلَاهُمْ) عَمَلًا بِحَدِيثِ: " «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» ".

ص: 369

[مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْمَدِينَةِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْمَدِينَةِ

1653 -

1605 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) مُرْسَلًا عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَّطَأِ، وَمَرَّ قَرِيبًا أَنَّ مَالِكًا رَوَاهُ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ) ظَهَرَ (لَهُ أُحُدٌ) لَمَّا رَجَعَ مِنْ خَيْبَرَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ أَيْضًا كَمَا قُيِّدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ (فَقَالَ هَذَا) مُشِيرًا لَهُ (جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) حَقِيقَةً كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ مِثْلِهِ نَحْوَهُ:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29][سُورَةُ الدُّخَانِ: الْآيَةُ 29] وَ {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11][سُورَةُ فُصِّلَتْ: الْآيَةُ 11] وَ {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77][سُورَةُ الْكَهْفِ: الْآيَةُ 77] وَ {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10][سُورَةُ سَبَأٍ: الْآيَةُ 10]، أَيْ: سَبِّحِي.

وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ أَكْثَرُ لَا يَكَادُ يُحْصَى.

وَقِيلَ: مَجَازٌ، أَيْ: يُحِبُّنَا أَهْلُهُ وَنُحِبُّهُمْ، فَكَنَّى بِالْجَبَلِ عَنْهُمْ، وَأُضِيفَ الْحُبَّ إِلَى الْجَبَلِ لِمَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ كَقَوْلِهِ:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82][سُورَةُ يُوسُفَ: الْآيَةُ 82]، أَيْ: أَهْلَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمُرْسَلُهُ مَزِيدٌ وَأَنَّ جَمَاعَةً رَجَّحُوا الْحَقِيقَةَ هُنَا.

ص: 369

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ زَارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ الْمَخْزُومِيَّ فَرَأَى عِنْدَهُ نَبِيذًا وَهُوَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ أَسْلَمُ إِنَّ هَذَا الشَّرَابَ يُحِبُّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ قَدَحًا عَظِيمًا فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَضَعَهُ فِي يَدَيْهِ فَقَرَّبَهُ عُمَرُ إِلَى فِيهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ هَذَا لَشَرَابٌ طَيِّبٌ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ رَجُلًا عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا أَدْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ نَادَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ أَأَنْتَ الْقَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَقُلْتُ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ عُمَرُ لَا أَقُولُ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَلَا فِي حَرَمِهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ عُمَرُ أَأَنْتَ الْقَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ فَقُلْتُ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ عُمَرُ لَا أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَلَا فِي بَيْتِهِ شَيْئًا ثُمَّ انْصَرَفَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1654 -

1606 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) بْنِ

ص: 369

مُحَمَّدِ بْنِ الصِّدِّيقِ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْكَبِيرِ عَنِ الصَّغِيرِ ; لِأَنَّ يَحْيَى تَابِعِيٌّ سَمِعَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَحَادِيثَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَإِنْ عَاصَرَهُ لَكِنْ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ شُيُوخِ مَالِكٍ.

(أَنَّ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) ثِقَةٌ مُخَضْرَمٌ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَقِيلَ: بَعْدَ سَنَةِ سِتِّينَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةِ سَنَةٍ (أَخْبَرَهُ أَنَّهُ زَارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ) بِتَحْتِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ لَهُ صُحْبَةٌ وَأَبُوهُ صَحَابِيُّ شَهِيرٌ (الْمَخْزُومِيَّ)(فَرَأَى عِنْدَهُ نَبِيذًا) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ تَمْرًا وَزَبِيبًا طُرِحَ فِي مَاءٍ (وَهُوَ بِطْرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ أَسْلَمُ: إِنَّ هَذَا الشَّرَابَ يُحِبُّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) لِأَنَّهُ حُلْوٌ بَارِدٌ وَكَانَ الْمُصْطَفَى يُحِبُّ الْحُلْوَ الْبَارِدَ (فَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ قَدَحًا عَظِيمًا) كَبِيرًا (فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَضَعَهُ فِي يَدِهِ) أَيْ: عُمَرَ (فَقَرَّبَهُ عُمَرُ إِلَى فِيهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا) الَّذِي فِي الْقَدَحِ (لَشَرَابٌ طَيِّبٌ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ رَجُلًا عَنْ يَمِينِهِ) عَمَلًا بِالسُّنَّةِ (فَلَمَّا أَدْبَرَ) وَلَّى (عَبْدُ اللَّهِ نَادَاهُ) دَعَاهُ (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: أَأَنْتَ) بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا لِلِاسْتِفْهَامِ (الْقَائِلُ: لَمَكَّةُ) بِلَامِ التَّأْكِيدِ (خَيْرٌ) أَفْضَلُ (مِنَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقَلَتْ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ وَفِيهَا بَيْتُهُ) الْكَعْبَةُ وَمَا أُضِيفَ لِلَّهِ خَيْرٌ مِمَّا أُضِيفَ إِلَى رَسُولِهِ (فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَقُولُ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَلَا فِي حَرَمِهِ شَيْئًا) يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَلَمْ أَسْأَلْكَ عَنْهُ إِنَّمَا سَأَلْتُكَ عَنِ الْبَلَدَيْنِ (ثُمَّ قَالَ عُمَرُ) ثَانِيًا لِيَنْظُرَ هَلْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَى مُوَافَقَةِ عُمَرَ فِي تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ (أَأَنَّتَ الْقَائِلُ لَمَكَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ) عَبْدُ اللَّهِ: (فَقُلْتُ: هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ وَفِيهَا بَيْتُهُ) الْكَعْبَةُ (فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَلَا فِي بَيْتِهِ شَيْئًا ثُمَّ انْصَرَفَ) عَبْدُ اللَّهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرِ اجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمُوَافَقَةِ الْآخَرِ وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ أَيُّ الْبَلَدَيْنِ أَفْضَلُ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ

ص: 370

حَبِيبٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ عَرَفَةَ، وَذَهَبَ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ سِوَى مَنْ ذُكِرَ إِلَى تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَدِلَّةُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ بِتَسَاوِي الْبَلَدَيْنِ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي الْحُجَجِ الْمُبَيَّنَةِ: الْمُخْتَارُ الْوَقْفُ عَنِ التَّفْضِيلِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ بَلِ الَّذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ تَفْضِيلُ الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا تَأَمَّلَ ذُو الْبَصِيرَةِ لَمْ يَجِدْ فَضْلًا أُعْطِيَتْهُ مَكَّةُ إِلَّا وَأُعْطِيَتِ الْمَدِينَةُ نَظِيرَهُ وَأَعْلَى مِنْهُ، وَجَزَمَ فِي خَصَائِصِهِ بِأَنَّ الْمُخْتَارَ تَفْضِيلُ الْمَدِينَةِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا عَدَا الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَهُ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ أَفْضَلُ إِجْمَاعًا مِنْ جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَيَلِيهَا الْكَعْبَةُ فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا كَمَا قَالَ الشَّرِيفُ السَّمْهُودِيُّ وَإِلَيْهِ يُومِئُ كَلَامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

ص: 371

[مَا جَاءَ فِي الطَّاعُونِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَأَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَأَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَإِ فَقَالَ عُمَرُ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمُ رَجُلَانِ فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَإِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ «فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ غَائِبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الطَّاعُونِ

بِوَزْنِ فَاعُولٍ مِنَ الطَّعْنِ عَدَلُوا بِهِ عَنْ أَصْلِهِ وَوَضَعُوهُ دَالًّا عَلَى الْمَوْتِ الْعَامِّ كَالْوَبَاءِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:" الطَّاعُونُ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ لَكُمْ شَهَادَةٌ " صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ فِي وُقُوعِهِ فِي أَعْدَلِ الْفُصُولِ وَأَصَحِّ الْبِلَادِ هَوَاءً وَأَطْيَبِهَا مَاءً دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِسَبَبِ فَسَادِ الْهَوَاءِ أَوِ انْصِبَابِ الدَّمِ إِلَى عُضْوٍ فَيَحْدُثُ ذَلِكَ كَمَا زَعَمَ الْأَطِبَّاءُ لَدَامَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْهَوَاءَ يَفْسَدُ تَارَةً وَيَصِحُّ أُخْرَى، وَالطَّاعُونُ يَذْهَبُ أَحْيَانًا وَيَجِيءُ أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَلَا تَجْرِبَةٍ، وَرُبَّمَا جَاءَ سَنَةً عَلَى سَنَةٍ، وَرُبَّمَا أَبْطَأَ سِنِينَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ لَعَمَّ النَّاسَ وَالْحَيَوَانَ وَرُبَّمَا يُصِيبُ الْكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يُصِيبُ مَنْ هُوَ بِجَانِبِهِمْ مِمَّنْ هُوَ فِي مِثْلِ مِزَاجِهِمْ، وَرُبَّمَا يُصِيبُ بَعْضَ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَيَسْلَمُ مِنْهُ بَاقِيهِمْ، وَمَا يُذْكَرُ مِنْ أَنَّهُ وَخْزُ إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ، فَقَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدَةِ وَلَا فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ وَلَا الْأَجْزَاءِ الْمَنْثُورَةِ بَعْدَ التَّتَبُّعِ الطَّوِيلِ الْبَالِغِ، وَعَزَاهُ فِي أَكَامِ الْمَرْجَانِ لِمُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ أَوْ كِتَابِ الطَّوَاعِينِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، قِيلَ: إِذَا كَانَ الطَّعْنُ مِنَ الْجِنِّ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي رَمَضَانَ وَالشَّيَاطِينُ تُصَفَّدُ فِيهِ وَتُسَلْسَلُ؟ أُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ يَطْعَنُونَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ وَلَا يَظْهَرُ التَّأْثِيرُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

1655 -

1607 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

ص: 371

زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ) الْعَدَوِيِّ أَبِي عُمَرَ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ فَاضِلٌ نَاسِكٌ وَلِيَ الْكُوفَةَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَاتَ بِحَرَّانَ فِي خِلَافَةِ هِشَامٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِيهِمَا (ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ) بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيِّ أَبِي يَحْيَى الْمَكِّيِّ ثِقَةٌ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَبَوْهُ لَهُ رُؤْيَةٌ وَلَقَبُهُ بَبَّةُ بِمُوَحَّدَتَيْنِ الثَّانِيَةُ ثَقِيلَةٌ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ) سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ، قَالَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْفُتُوحِ، وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَاسْتَخْلَفَهُ مَرَّاتٍ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْحَجِّ وَمَا أَظُنُّهُ اسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ قَطُّ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَخْلَفَ مَرَّةً عَلَى الْمَدِينَةِ خَالًا لَهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَفِيهِ خُرُوجُ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَعْمَالِهِ يُطَالِعُهَا وَيَنْظُرُ أَحْوَالَ أَهْلِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ خَرَجَ لِيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ وَكَانَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ فَأَلِفٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَسُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ عَمَّ وَأَسَاءَ وَقَعَ بِهَا فِي مُحَرَّمٍ وَصَفَرٍ ثُمَّ ارْتَفَعَ فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ (بِسَرْغَ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ قَرْيَةٌ بِوَادِي تَبُوكَ يَجُوزُ فِيهَا الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ، وَقِيلَ: هِيَ مَدِينَةٌ افْتَتَحَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَهِيَ وَالْيَرْمُوكُ وَالْجَابِيَةُ مُتَّصِلَاتٌ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَرْحَلَةً (لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ) بِالْفَتْحِ جَمْعُ جُنْدٍ (أَبُو عُبَيْدَةَ) عَامِرُ (بْنُ الْجَرَّاحِ) أَحَدُ الْعَشَرَةِ (وَأَصْحَابُهُ) خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حُسْنَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَكَانَ عُمَرُ قَسَّمَ الشَّامَ أَجْنَادًا: الْأُرْدُنُ جُنْدٌ، وَحِمْصُ جُنْدٌ، وَدِمَشْقُ جُنْدٌ، وَفِلَسْطِينُ جُنْدٌ، وَقِنَّسْرِينَ جُنْدٌ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جُنْدٍ أَمِيرًا، ثُمَّ لَمْ يَمُتْ عُمَرُ حَتَّى جَمَعَ الشَّامَ لِمُعَاوِيَةَ.

(فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ) مَهْمُوزٌ وَقَصْرُهُ أَفْصَحُ مِنْ مَدِّهِ أَيِ الطَّاعُونَ (قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ) وَعِنْدَ سَيْفٍ أَنَّهُ أَشَدُّ مَا كَانَ.

(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) لِي (ادْعُ) لِيَ (الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ) الَّذِينَ صَلُّوا لِلْقِبْلَتَيْنِ (فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ) فِي الْقُدُومِ أَوِ الرُّجُوعِ (وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرِ) تَفَقُّدِ حَالِ الرَّعِيَّةِ (وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ) حَتَّى تَفْعَلَهُ.

(وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ) أَيِ الصَّحَابَةُ قَالُوا ذَلِكَ

ص: 372

تَعْظِيمًا لَهُمْ (وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَطْفُ تَفْسِيرٍ (وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ) بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ: تَجْعَلَهُمْ قَادِمِينَ (عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ) أَيِ الطَّاعُونِ.

(فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي) وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَهُمْ فَخَرَجُوا عَنْهُ (ثُمَّ قَالَ) عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: (ادْعُ لِيَ الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ) فَحَضَرُوا عِنْدَهُ (فَاسْتَشَارَهُمْ) فِي ذَلِكَ (فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ) فِيمَ قَالُوا (وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ) لَهُمْ (ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ شَيْخٍ وَهُوَ مَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ (مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ قِيلَ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْفَتْحِ وَهَاجَرُوا عَامَهُ إِذْ لَا هِجْرَةَ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: هُمْ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ الَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْدَهُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ مَشْيَخَةُ قُرَيْشٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى مَنْ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ لِأَنَّهُ مُهَاجِرٌ صُورَةً وَإِنِ انْقَطَعَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بِالْفَتْحِ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ.

(فَدَعَوْتُهُمْ) فَحَضَرُوا عِنْدَهُ (فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمُ اثْنَانِ) وَفِي رِوَايَةٍ رَجُلَانِ (فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ) الطَّاعُونِ، وَفِيهِ مَشُورَةُ مَنْ يُوثَقُ بِفَهْمِهِ وَعَقْلِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُعْضِلِ، وَأَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْقَائِلِينَ فِيهَا عَيْبُ مُخَالَفَةٍ وَلَا الطَّعْنُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا وَهُمُ الْقُدْوَةُ فَلَمْ يَعِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَلَا وَجَدَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ عَلَيْهِ جَمْعُ الْجَمْعِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَيُشَاوِرُهُمْ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِدَلِيلٍ فَعَلَيْهِ الْمَيْلُ إِلَى الْأَصْلَحِ وَالْأَخْذُ بِمَا يَرَاهُ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا وَإِنَّمَا يُوجِبُ النَّظَرَ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ يُوجِبُ الْحُكْمَ وَالْعَمَلَ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ (فَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ) حِينَ ظَهَرَ لَهُ صَوَابُ رَأْيِ الْمَشْيَخَةِ (إِنِّي مُصْبِحٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ وَبِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ، أَيْ: مُسَافِرٌ فِي الصَّبَاحِ رَاكِبًا (عَلَى ظَهْرٍ) أَيْ: عَلَى ظَهْرِ الرَّاحِلَةِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ (فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمْ، وَلَا يَبْعُدُ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَحَصَلَ تَرْجِيحُ الرَّأْيِ بِالْكَثْرَةِ، لَا سِيَّمَا رَأْيَ أَهْلِ السِّنِّ

ص: 373

وَالتَّجْرِبَةِ وَالْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، وَمُسْتَنَدُ الطَّائِفَتَيْنِ فِي اخْتِلَافِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ: الْأَوَّلُ التَّوَكُّلُ وَالتَّسْلِيمُ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ.

وَالثَّانِي الْحَذَرُ وَتَرْكُ إِلْقَاءِ الْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

(فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ) لِعُمَرَ (أَ) تَرْجِعُ (فِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ) لَأَدَّبْتُهُ لِاعْتِرَاضِهِ عَلَيَّ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ وَافَقَنِي عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، أَوْ لَكَانَ أَوْلَى مِنْكَ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ أَوْ لَمْ أَتَعَجَّبْ مِنْهُ وَلَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْكَ مَعَ عِلْمِكَ وَفَضْلِكَ كَيْفَ تَقُولُ هَذَا أَوْ هِيَ لِلتَّمَنِّي فَلَا يُحْتَاجُ لِجَوَابٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ غَيْرَكَ مِمَّنْ لَا فَهْمَ لَهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ يُعْذَرُ.

(نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ) زَادَ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَكَانَ يَكْرَهُ خِلَافَهُ، أَيْ: عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ فِرَارًا لِشِبْهِهِ فِي الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِرَارًا شَرْعِيًّا، وَالْمُرَادُ أَنَّ هُجُومَ الْمَرْءِ عَلَى مَا يُهْلِكُهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَوْ فَعَلَ لَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، وَتَجَنُّبُهُ مَا يُؤْذِيهِ مَشْرُوعٌ، وَقَدْ يُقَدِّرُ اللَّهُ وُقُوعَهُ فِيمَا فَرَضَهُ فَلَوْ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ لَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، وَفِيهِ الْمُنَاظَرَةُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ قَايَسَهُ وَنَاظَرَهُ بِمَا يُشْبِهُ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ:(أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا وَدَالٍ مُهْمَلَتَيْنِ، أَيْ: شَاطِئَانِ وَحَالَتَانِ (إِحْدَاهُمَا مُخْصِبَةٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ خَصِبَةٌ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ بِلَا مِيمٍ (وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا (أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ (رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعْيَتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ) فَنَقْلُكَ إِيَّاهَا مِنَ الْجَدْبَةِ وَرَعْيُهَا فِي الْخِصْبَةِ فِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ رُجُوعُنَا.

زَادَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهِ وَقَالَ لَهُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّهُ رَعَى الْجَدْبَةَ وَتَرَكَ الْخِصْبَةَ أَكُنْتَ مُعْجِزَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسِرْ إِذًا.

(فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ غَائِبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ) لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمُ الْمُشَاوَرَةَ الْمَذْكُورَةَ (فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي مِنْ) وَفِي رِوَايَةٍ فِي (هَذَا) الَّذِي اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ (عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ) بِالطَّاعُونِ (بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ) لِيَكُونَ أَسْكَنَ لِأَنْفُسِكُمْ وَأَقْطَعَ لِوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ.

قَالَ فِي الْأَحْوَذِيِّ: وَلِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلْحَتْفِ وَالْبَلَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا نَجَاةَ

ص: 374

مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَذِرِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ، وَلِئَلَّا يَقُولَ الْقَائِلُ: لَوْ لَمْ أَدْخُلْ لَمْ أَمْرَضْ وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ لَمْ يَمُتْ.

(وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) لِئَلَّا يَكُونَ مُعَارَضَةً لِلْقَدَرِ، فَلَوْ خَرَجَ لِقَصْدِ الْفِرَارِ جَازَ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي فِي النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ تَعَرُّضٌ لِلْبَلَاءِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الدَّعْوَى لِمَقَامِ الصَّبْرِ أَوِ التَّوَكُّلِ فَمَنَعَ ذَلِكَ لِاغْتِرَارِ النَّفْسِ وَدَعْوَاهَا مَا لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَأَمَّا الْفِرَارُ فَقَدْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي بَابِ التَّوَغُّلِ فِي الْأَسْبَابِ مُتَصَوِّرًا بِصُورَةِ مَنْ يُحَاوِلُ النَّجَاةَ مِمَّا قُدِّرَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ التَّكَلُّفُ فِي الْقُدُومِ كَمَا يَقَعُ التَّكَلُّفُ فِي الْفِرَارِ فَأَمَرَ بِتَرْكِ التَّكَلُّفِ فِيهِمَا.

وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَإِذْ لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» " فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ التَّمَنِّي لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ وَخَوْفِ الِاغْتِرَارِ بِالنَّفْسِ إِذْ لَا يُؤْمَنُ غَدْرُهَا عِنْدَ الْوُقُوعِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ.

(قَالَ) ابْنُ عَبَّاسٍ (فَحَمِدَ اللَّهَ) تَعَالَى (عُمَرُ) عَلَى مُوَافَقَةِ اجْتِهَادِ مُعْظَمِ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ (ثُمَّ انْصَرَفَ) رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ النَّبَوِيِّ الْقَاطِعِ لِلنِّزَاعِ، وَبِهِ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ وَجَبَ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ.

وَفِي أَنَّ الْحَدِيثَ يُسَمَّى عِلْمًا لِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْصَافِ لِلْعِلْمِ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، كَيْفَ لَا وَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَدَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِمَحْضَرِ جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَقُولُوا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنْتَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِ الْكَافَّةِ. مَا أَضَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6][سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: الْآيَةُ 6] وَقُرِئَ " فَتَثَبَّتُوا " فَلَوْ كَانَ الْعَدْلُ إِذَا جَاءَ بِنَبَأٍ تَثَبَّتَ فِي خَبَرِهِ وَلَمْ يُنَفِّذْ لَاسْتَوَى مَعَ الْفَاسِقِ، وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] [سُورَةُ ص: الْآيَةُ 28] ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الطِّبِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَائِلًا نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ.

وَزَادَ مَعْمَرٌ قَالَ: وَقَالَ لَهُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّهُ رَعَى الْجَدْبَةَ وَتَرَكَ الْخِصْبَةَ أَكُنْتَ مُعْجِزَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسِرْ إِذًا، فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: هَذَا الْمَحَلُّ أَوْ هَذَا الْمَنْزِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ص: 375

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ «مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعُونِ فَقَالَ أُسَامَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» قَالَ مَالِكٌ قَالَ أَبُو النَّضْرِ لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1656 -

1608 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ (وَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ)

ص: 375

بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ (مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْعَيْنَيْنِ كِلَاهُمَا (عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) مَالِكٍ الْقُرَشِيِّ الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا لِأَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَّطَأِ، وَالْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ. . . . الْحَدِيثَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ ذِكْرَ أَبِيهِ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ فَمَنْ أَسْقَطَ عَنْ أَبِيهِ لَمْ يَضُرَّهُ وَذِكْرُهُ صَحِيحٌ، نَعَمْ شَذَّ الْقَعْنَبِيُّ فِي حَذْفِ أَبِي النَّضْرِ، وَرَوَاهُ قَوْمٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَهْمٌ عِنْدَهُمْ، إِنَّمَا الْحَدِيثُ لِعَامِرٍ عَنْ أُسَامَةَ لَا عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ انْتَهَى.

، أَيْ: فَلَمْ يَرُدَّ بِقَوْلِهِ عَنْ أَبِيهِ الرِّوَايَةَ بَلْ أَرَادَ عَنْ سُؤَالِ أَبِيهِ لِأُسَامَةَ كَمَا أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) الْحِبَّ ابْنَ الْحِبِّ فَكَانَ عَامِرٌ حَاضِرًا سُؤَالَ وَالِدِهِ سَعْدٍ لِأُسَامَةَ بِقَوْلِهِ: (مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي) شَأْنِ (الطَّاعُونِ) وَوَقَعَ فِي السُّيُوطِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ: لَا وَجْهَ لِذِكْرِ " عَنْ أَبِيهِ "، إِنَّمَا الْحَدِيثُ لِعَامِرٍ عَنْ أُسَامَةَ سَمِعَهُ مِنْهُ وَلِذَا لَمْ يَقُلْهُ ابْنُ بُكَيْرٍ وَمَعْنٌ وَجَمَاعَةٌ انْتَهَى وَلَا يَصِحُّ.

فَالَّذِي فِي التَّمْهِيدِ مَا رَأَيْتُهُ (فَقَالَ أُسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الطَّاعُونُ رِجْزٌ» ) بِالزَّايِ عَلَى الْمَعْرُوفِ، أَيْ: عَذَابٌ، وَوَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ رِجْسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الزَّايِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْمَحْفُوظُ بِالزَّايِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الَّذِي بِالسِّينِ الْخَبَثُ أَوِ النَّجَسُ أَوِ الْقَذَرُ، وَوَجَّهَهَ عِيَاضٌ بِأَنَّ الرِّجْسَ يُطْلَقُ عَلَى الْعُقُوبَةِ أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ الْفَارَابِيُّ وَالْجَوْهَرِيُّ: الرِّجْسُ الْعَذَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100][سُورَةُ ص: الْآيَةُ 28] وَحَكَاهُ الرَّاغِبُ أَيْضًا (أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) لَمَّا كَثُرَ طُغْيَانُهُمْ (أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) بِالشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِالْجَزْمِ بِلَفْظِ رِجْسٍ سُلِّطَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِمْ أَخَصُّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادَ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ بَلْعَامٍ فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَحَدِ صِغَارِ التَّابِعِينَ عَنْ يَسَارٍ: " أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُقَالُ لَهُ بَلْعَامٌ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَأَنَّ مُوسَى أَقْبَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا بَلْعَامٌ فَأَتَاهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: ادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، فَمُنِعَ، فَأَتَوْهُ بِهَدِيَّةٍ فَقَبِلَهَا وَسَأَلُوهُ ثَانِيًا فَقَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فَقَالُوا: لَوْ كَرِهَ لَنَهَاكَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَصَارَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مَا يَدْعُو بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَنْقَلِبُ عَلَى قَوْمِهِ فَلَامُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: سَأَدُلُّكُمْ عَلَى مَا فِيهِ هَلَاكُهُمْ أَرْسِلُوا النِّسَاءَ فِي عَسْكَرِهِمْ وَمُرُوهُنَّ لَا يَمْتَنِعْنَ

ص: 376

مِنْ أَحَدٍ فَعَسَى أَنْ يَزْنُوا فَيَهْلِكُوا، فَكَانَ فِيمَنْ خَرَجَ بِنْتُ الْمَلِكِ فَأَرَادَهَا بَعْضُ الْأَسْبَاطِ وَأَخْبَرَهَا بِمَكَانِهِ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الطَّاعُونُ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا فِي يَوْمٍ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَارُونَ وَمَعَهُ الرُّمْحُ وَأَيَّدَهُ اللَّهُ فَانْتَظَمَهُمَا جَمِيعًا " وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَسَيَّارٌ شَامِيٌّ مُوَثَّقٌ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ بِنَحْوِهِ وَسَمَّى الْمَرْأَةَ كَشْتًا بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَوْقِيَّةٍ، وَالرَّجُلَ زِمْرِي بِكَسْرِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، رَأْسُ سِبْطِ شَمْعُونَ، وَالَّذِي طَعَنَهُمَا فِنْحَاصٌ - بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ فَأَلِفٍ فَمُهْمَلَةٍ - ابْنُ هَارُونَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَحَسْبُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الطَّاعُونِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالْمُقَلِّلُ يَقُولُ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تُعَضِّدُ الْأُولَى.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَثُرَ عِصْيَانُهُمْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ فَخَيَّرَهُمْ مَا بَيْنَ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أَبْتَلِيَهُمْ بِالْقَحْطِ، أَوِ الْعَدُوِّ شَهْرَيْنِ، أَوِ الطَّاعُونِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالُوا: اخْتَرْ لَنَا فَاخْتَارَ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقِيلَ: مِائَةُ أَلْفٍ، فَتَضَرَّعَ دَاوُدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَرَفَعَهُ.

وَوَرَدَ وُقُوعُ الطَّاعُونِ فِي غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.

فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَمَرَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَذْبَحَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَبْشًا ثُمَّ يُخَضِّبُ كَفَّهُ فِي دَمِهِ ثُمَّ يَضْرِبُ بِهِ عَلَى بَابِهِ فَفَعَلُوا فَسَأَلَهُمُ الْقِبْطُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ عَلَيْكُمْ عَذَابًا وَإِنَّا نَنْجُو مِنْهُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مَاتَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَقَالَ فِرْعَوْنُ ثَمَّ ذَلِكَ لِمُوسَى:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134][سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 134] الْآيَةَ، فَدَعَا فَكَشَفَهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243][سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 243] قَالَ فِرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243][سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 243] لِيُكْمِلُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ، فَأَقْدَمُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَنْقُولِ مِمَّنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قِصَّةِ بَلْعَامٍ وَمِنْ غَيْرِهِمْ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَتَكَرَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمُ انْتَهَى.

(فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ تَهَوُّرٌ وَإِقْدَامٌ عَلَى خَطَرٍ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْكُنَ لِلنَّفْسِ وَأَطْيَبَ لِلْعَيْشِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لِئَلَّا يَقَعُوا فِي اللَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَنَهَوْا عَنْ ذَلِكَ تَأْدِيبًا لِئَلَّا يَلُومُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا لَا لَوْمَ فِيهِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ وَالنَّاهِضَ لَا يَتَجَاوَزُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَجَلَهُ.

(وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) لِأَنَّهُ فِرَارٌ مِنَ

ص: 377

الْقَدَرِ وَلِئَلَّا تَضِيعَ الْمَرْضَى بِعَدَمِ مَنْ يَتَفَقَّدُهُمْ، وَالْمَوْتَى بِعَدَمِ مَنْ يُجَهِّزُهُمْ، فَالْأَوَّلُ تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ، وَالثَّانِي تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ، وَقِيلَ: هُوَ تَعَبُّدِيٌّ لِأَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْمَهَالِكِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا فَهُوَ لِسِرٍّ فِيهِ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ.

(قَالَ مَالِكٌ) هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا.

(قَالَ أَبُو النَّضْرِ) فِي رِوَايَتِهِ (لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ) قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِأَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَّطَأِ بِالرَّفْعِ وَهُوَ بَيِّنٌ، أَيْ: لَا يُخْرِجُكُمُ الْفِرَارُ وَمُجَرَّدُ قَصْدِهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخُرُوجَ فِي الْأَسْفَارِ وَالْحَوَائِجِ مُبَاحٌ، فَهُوَ مُطَابِقٌ لِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَّا فِرَارًا بِالنَّصْبِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جَاءَ بِالْوَجْهَيْنِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ مَالِكٍ، وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ دُخُولُ إِلَّا بَعْدَ النَّفْيِ لِإِيجَابِ بَعْضِ مَا نُفِيَ قَبْلُ مِنَ الْخُرُوجِ، فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنِ الْخُرُوجِ إِلَّا لِلْفِرَارِ خَاصَّةً وَهُوَ ضِدُّ الْمَقْصُودِ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ لِلْفِرَارِ خَاصَّةً لَا لِغَيْرِهِ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَ قَوْلَهُ " إِلَّا " حَالًا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ: لَا تَخْرُجُوا إِذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجُكُمْ إِلَّا فِرَارًا، أَيْ: لِلْفِرَارِ انْتَهَى.

وَوَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْمُوَّطَأِ: لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ بِأَدَاةِ التَّعْرِيفِ بَعْدَهَا إِفْرَارٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ وَهْمٌ وَلَحْنٌ، هَذَا كَلَامُ عِيَاضٍ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ مَا حَاصِلُهُ: يَجُوزُ أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلتَّعْدِيَةِ يُقَالُ: أَفَرَّهُ كَذَا مِنْ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه السلام لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ:" إِنْ كَانَ لَا يُفِرُّكُ مِنْ هَذَا إِلَّا مَا تَرَى " فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يُخْرِجُكُمْ إِفْرَارُهُ إِيَّاكُمْ.

وَقَالَ فِي الْمُفْهَمِ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ غَلَطٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ أَفَرَّ وَإِنَّمَا يُقَالُ فَرَّ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِدْخَالُ إِلَّا فِيهِ غَلَطٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زَائِدَةٌ وَتَجُوزُ زِيَادَتُهَا كَمَا تُزَادُ " لَا " وَهُوَ الْأَقْرَبُ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ: لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَبَيْنَ قَوْلِ أَبِي النَّضْرِ: لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ - مُشْكِلٌ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ التَّنَاقُضُ، وَأَجَابَ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّ غَرَضَ الرَّاوِي أَنَّ أَبَا النَّضْرِ فَسَّرَ لَا تَخْرُجُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحَصْرُ يَعْنِي الْخُرُوجَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لِمُجَرَّدِ الْفِرَارِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ، فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْمُعَلَّلِ الْمَنْهِيِّ لَا لِلنَّهْيِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ كَلَامِ أَبِي النَّضْرِ زَادَهُ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَلَى رِوَايَةِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَالْمُتَبَادِرُ خِلَافُ ذَلِكَ.

وَالْجَوَابُ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ وَالزِّيَادَةُ مَرْفُوعَةٌ أَيْضًا فَيَكُونُ رَوَى اللَّفْظَيْنِ وَيَكُونُ التَّفْسِيرُ مَرْفُوعًا أَيْضًا.

الثَّالِثُ: " إِلَّا " زَائِدَةٌ بِشَرْطِ أَنَّ تَثْبُتَ زِيَادَتُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ انْتَهَى، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُسْلِمٌ فِي الطِّبِّ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

ص: 378

- (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَدِيٍّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَحَفِظَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُهُ:" «دَعَتْنِي أُمِّي وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ: تَعَالَى أُعْطِيكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟ قَالَتْ: تَمْرًا، قَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً» " مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَبَوْهُ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ.

(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ) لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ بِهَا وَأُمَرَائِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَخَرَجَ إِلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمَّا حَاصَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَسَأَلَهُ أَهْلُهُ أَنْ يَكُونَ صُلْحُهُمْ عَلَى يَدِ عُمَرَ، فَقَدِمَ فَصَالَحَهُمْ وَرَجَعَ سَنَةَ عَشْرٍ، قَالَهُ فِي الْمُفْهِمِ.

وَفِي التَّمْهِيدِ: خَرَجَ عُمَرُ إِلَى الشَّامِ مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَقِيلَ: لَمْ يَخْرُجْ لَهَا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً هِيَ هَذِهِ.

(حَتَّى إِذَا جَاءَ سَرْغَ) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَمُعْجَمَةٍ قَالَ عِيَاضٌ: رَوَيْنَاهُ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَصَوَّبَ ابْنُ مَكِّيٍّ السُّكُونَ، قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ حَبِيبٍ: هِيَ قَرْيَةٌ بِوَادِي تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ عَمَلِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ: مَدِينَةٌ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَرْحَلَةً (بَلَغَهُ) مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ (أَنَّ الْوَبَاءَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْهَمْزَةِ وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَهُوَ الْمَرَضُ الْعَامُّ، وَالْمُرَادُ هُنَا الطَّاعُونُ الْمَعْرُوفُ بِطَاعُونِ عَمَوَاسَ.

(قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ) أَيْ: بِدِمَشْقَ وَهِيَ أُمُّ الشَّامِ وَإِلَيْهَا كَانَ مَقْصِدُهُ كَذَا قَالَ أَبُو عُمَرَ، فَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ بَعْدَ أَنِ اجْتَهَدَ وَوَافَقَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ.

(فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ) أَيِ الطَّاعُونِ (بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّالِثِ (عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى خَطَرٍ (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) لِأَنَّهُ فِرَارٌ مِنَ الْقَدَرِ، فَالْأَوَّلُ تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ وَالثَّانِي تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: النَّهْيُ عَنِ الْقُدُومِ لِدَفْعِ مَلَامَةِ النَّفْسِ، وَعَنِ الْخُرُوجِ لِلْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ انْتَهَى.

وَالْأَكْثَرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفِرَارِ مِنْهُ لِلتَّحْرِيمِ وَقِيلَ: لِلتَّنْزِيهِ وَيَجُوزُ لِشُغُلٍ عَرَضَ غَيْرِ الْفِرَارِ اتِّفَاقًا، قَالَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ: مَنْ خَرَجَ لِقَصْدِ الْفِرَارِ مَحْضًا فَهَذَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ لَا مَحَالَةَ.

وَمَنْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ مُتَمَحِّضَةٍ لَا لِقَصْدِ الْفِرَارِ أَصْلًا وَيُصَوَّرُ ذَلِكَ فِيمَنْ تَهَيَّأَ لِلرَّحِيلِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ كَانَ بِهَا إِقَامَتُهُ مَثَلًا وَلَمْ يَكُنِ الطَّاعُونُ وَقَعَ فَاتَّفَقَ وُقُوعُهُ

ص: 379

فِي أَثْنَاءِ تَجْهِيزِهِ فَهَذَا لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ أَصْلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ.

الثَّالِثُ: مَنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَيْهَا وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ الرَّاحَةَ مِنَ الْإِقَامَةِ بِالْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ فَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، كَأَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ الَّتِي وَقَعَ بِهَا وَخِمَةً، وَالْأَرْضُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا صَحِيحَةً فَيَتَوَجَّهُ بِهَذَا الْقَصْدِ إِلَيْهَا، فَمَنْ مَنَعَ نَظَرَ إِلَى صُورَةِ الْفِرَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَنْ أَجَازَ نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضِ الْقَصْدُ لِلْفِرَارِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ التَّأَوِّي انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُقَالُ مَا فَرَّ أَحَدٌ مِنَ الطَّاعُونِ فَسَلِمَ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ فَرَّ مِنْهُ إِلَّا مَا ذَكَرَ الْمَدَايِنِيُّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدِ بْنَ جُدْعَانَ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى السَّبَالَةِ فَكَانَ يَجْمَعُ كُلَّ جُمُعَةٍ وَيَرْجِعُ فَإِذَا رَجَعَ صَاحُوا بِهِ فِرَّ مِنَ الطَّاعُونِ فَطُعِنَ فَمَاتَ بِالسَّبَالَةِ انْتَهَى.

لَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ جَوَازَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْأَسْوَدُ بْنُ هِلَالٍ وَمَسْرُوقٌ وَأَنَّهُمَا كَانَا يَفِرَّانِ مِنْهُ.

وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَانَ يَبْعَثُ بَنِيهِ إِلَى الْأَعْرَابِ مِنَ الطَّاعُونِ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي أَنَّهُ قَالَ: تَفَرَّقُوا مِنْ هَذَا الرِّجْزِ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ حَتَّى قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُعَاقِبُ اللَّهُ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ يَعْفُ.

(فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ سَرْغَ) بِمَنْعِ الصَّرْفِ وَالصَّرْفِ وَفِيهِ جَوَازُ ذَلِكَ وَلَيْسَ مِنَ الطِّيَرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَنْعِ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أَوْ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ مَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهَا ظَنَّ الْعَدْوَى الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَفِيهِ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ يَذْهَبُ عَلَى الْعَالِمِ الْحَبْرِ مَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ، وَكَانَ عُمَرُ مِنَ الْعِلْمِ بِمَوْضِعٍ لَا يُوَازِيهِ أَحَدٌ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ وُضِعَ عِلْمُ عُمَرَ فِي كِفَّةٍ وَعِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ رَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى أَنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَسُقِيَ بِهَا لَبَنًا فَنَاوَلَ فَضْلَهُ عُمَرَ فَقِيلَ مَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْعِلْمُ» " وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الطِّبِّ عَنِ التِّنِّيسِيِّ وَفِي تَرْكِ الْحِيَلِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 380

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِنَّمَا رَجَعَ بِالنَّاسِ مِنْ سَرْغَ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1657 -

1610 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ) جَدَّهُ (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِنَّمَا رَجَعَ بِالنَّاسِ) مِنْ سَرْغَ (عَنْ) وَلِلْقَعْنَبِيِّ مِنْ، أَيْ: لِأَجْلِ (حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الْمَذْكُورِ تَقْدِيمًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الرُّجُوعِ اعْتِمَادًا عَلَى خَبَرِهِ

ص: 380

وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ رَكِبُوا مَشَقَّةَ السَّفَرِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى سَرْغَ فَرَجَعُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا الشَّامَ، وَقِيلَ: رَجَعَ قَبْلَ إِخْبَارِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; لِأَنَّهُ قَالَ: أَنَّهُ مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِالْحَدِيثِ فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ قَوِيَ عَزْمُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَأَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِأَنَّ سَالِمًا لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلُ عُمَرَ قَبْلَ إِخْبَارِ ابْنِ عَوْفٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلَ بِأَنَّ وَلَدَهُ - أَيْ: حَفِيدَهُ - مَا عُرِفَ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ لِيَرْجِعَ إِلَى رَأْيٍ دُونَ رَأْيِ الْغَيْرِ حُجَّةً حَتَّى وَجَدَ عِلْمًا وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، الَّذِي قَالَهُ قَبْلُ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَهُ بِالْحَدِيثِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنِّي عَلَى سَفَرٍ لِوَجْهِهِ الَّذِي كَانَ تَوَجَّهَ لَهُ، لَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ وَهَذَا بِعِيدٌ انْتَهَى.

وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ لِأَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِ مَنْ أَشَارَ بِالرُّجُوعِ لِكَثْرَتِهِمْ، ثُمَّ قَوَّى ذَلِكَ لَهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرَجَعَ بِهِمْ مِنْ سَرْغَ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ سَالِمٍ، فَلَا دَاعِيَةَ لِدَعْوَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلُ عُمَرَ قَبْلَ إِخْبَارِ ابْنِ عَوْفٍ.

ص: 381

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَبَيْتٌ بِرُكْبَةَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ بِالشَّامِ قَالَ مَالِكٌ يُرِيدُ لِطُولِ الْأَعْمَارِ وَالْبَقَاءِ وَلِشِدَّةِ الْوَبَإِ بِالشَّامِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1657 -

1611 - (مَالِكٌ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِبَيْتٍ بِرُكْبَةَ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: هِيَ أَرْضُ بَنِي عَامِرٍ وَهِيَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْعِرَاقِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُكْبَةُ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الطَّائِفِ (أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ بِالشَّامِ، قَالَ مَالِكٌ: يُرِيدُ) عُمَرُ (لِطُولِ الْأَعْمَارِ وَالْبَقَاءِ) لِأَهْلِ رُكْبَةَ (وَلِشِدَّةِ الْوَبَاءِ) قُوَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ (بِالشَّامِ) وَفِي التَّمْهِيدِ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ حِينَ وَقَعَ الْوَبَاءُ بِالشَّامِ.

وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ مَرْفُوعًا: " «أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْحُمَّى وَالطَّاعُونِ فَأُمْسِكَتِ الْحُمَّى بِالْمَدِينَةِ وَأُرْسِلَتِ الطَّاعُونُ إِلَى الشَّامِ، فَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي وَرَحْمَةٌ لَهُمْ وَرِجْزٌ عَلَى الْكَافِرِينَ» " قَالَ الْحَافِظُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَهَا عَلَى الطَّاعُونِ وَأَقَرَّهَا بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَنَقَلَهَا إِلَى الْجُحْفَةِ كَمَا مَرَّ وَبَقِيَتْ مِنْهَا بَقَايَا، وَلَا يُعَارِضُهُ الدُّعَاءُ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ عَنْهَا لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِ فِيهَا بِخِلَافِ الطَّاعُونِ لَمْ يُنْقَلْ قَطُّ أَنَّهُ وَقَعَ بِهَا.

ص: 381

[باب القدر]

[النَّهْيِ عَنْ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ]

كتاب القدر

باب النَّهْيِ عَنْ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى قَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

46 -

كِتَابُ الْقَدَرِ

1 -

بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ

بِفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَقَدْ تُسَكَّنُ، قَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْقَضَاءُ هُوَ التَّفْصِيلُ وَالْقَطْعُ، فَالْقَضَاءُ أَخَصُّ مِنَ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ الْفَصْلُ بَيْنَ التَّقْدِيرِ فَالْقَدَرُ كَالْأَسَاسِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقَدَرَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَدِّ لِلْكَيْلِ، وَالْقَضَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ.

قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: قَدَّرَ اللَّهُ الْأَشْيَاءَ، أَيْ: عَلِمَ مَقَادِيرَهَا وَأَحْوَالَهَا وَأَزْمَانَهَا قَبْلَ إِيجَادِهَا ثُمَّ أَوْجَدَ مِنْهَا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، فَلَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَإِنَّ خَلْقَهُ لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا إِلَّا نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَمُحَاوَلَةٌ وَنِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ، وَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ وَإِلْهَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ.

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: سَبِيلُ مَعْرِفَةِ هَذَا الْبَابِ التَّوْقِيفُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَالْعَقْلِ، فَمَنْ عَدَلَ عَنِ التَّوْقِيفِ ضَلَّ وَتَاهَ فِي بِحَارِ الْحَيْرَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ شِفَاءً وَلَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ ; لِأَنَّ الْقَدَرَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى اخْتُصَّ بِهِ الْخَبِيرُ الْعَلِيمُ وَضَرَبَ دُونَهُ الْأَسْتَارَ، وَحَجَبَهُ عَنْ عُقُولِ الْخَلْقِ وَمَعَارِفِهِمْ لِمَا عَلِمَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَلَمْ يَعْلَمْهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَقِيلَ: الْقَدَرُ يَنْكَشِفُ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَلَا يَنْكَشِفُ قَبْلَ دُخُولِهَا.

1660 -

1612 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَحَاجَّ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْجِيمِ أَصْلُهُ تَحَاجَجَ بِجِيمَيْنِ أُدْغِمَتْ أُولَاهُمَا فِي الْأُخْرَى (آدَمُ وَمُوسَى) أَيْ: ذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّتَهُ، قَالَ الْقَابِسِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْتَقَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِي السَّمَاءِ أَوَّلَ مَا مَاتَ مُوسَى فَتَحَاجَّا.

قَالَ عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمَا فَاجْتَمَعَا فَتَحَاجَّا بِأَشْخَاصِهِمَا كَمَا جَاءَ فِي الْإِسْرَاءِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا فِي حَيَاةِ مُوسَى وَأَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُرِيَهُ آدَمَ فَأَجَابَهُ.

ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ أَثَرًا أَنَّ مُوسَى

ص: 382

قَالَ: رَبِّ، أَبُونَا آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَأَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَرِنِيهِ، فَأَرَاهُ إِيَّاهُ (فَحَجَّ آدَمُ) بِالرَّفْعِ فَاعِلٌ (مُوسَى) فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٌ، أَيْ: غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ (قَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ: عَرَّضْتَهُمْ لِلْإِغْوَاءِ لَمَّا كُنْتَ سَبَبَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: أَيْ: أَنْتَ السَّبَبُ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَتَعْرِيضِهِمْ لِإِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ (وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) دَارِ النَّعِيمِ وَالْخُلُودِ إِلَى دَارِ الْبُؤْسِ وَالْفَنَاءِ.

وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، فَيَرُدُّ قَوْلَ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّهَا غَيْرُهَا.

قَالَ الْأُبِّيُّ: كَأَنَّ مُوسَى جَوَّزَ الْوِلَادَةَ فِي الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهَا مَشَقَّةٌ لِأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ مَشَقَّةٌ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ قِيلَ فِي هَابِيلَ أَنَّهُ مِنْ حَمْلِ الْجَنَّةِ.

وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُولَدُ لَهُ الْوَلَدُ كَمَا يَشْتَهِي وَيَكُونُ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ وَشَبَابُهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ» " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ " وَفِي رِوَايَةٍ: " أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ ثُمَّ أُهْبِطَ النَّاسُ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الْأَرْضِ؟» "(فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ) قَالَ عِيَاضٌ: عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، أَيْ: مِمَّا عَلَّمَكَ وَيُحْتَمَلُ مِمَّا عَلَّمَهُ الْبَشَرَ (وَاصْطَفَاهُ) اخْتَارَهُ (عَلَى النَّاسِ) أَهْلِ زَمَانِهِ (بِرِسَالَتِهِ) بِالْإِفْرَادِ وَقُرِئَتِ الْآيَةُ بِهِ وَبِالْجَمْعِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلصَّحِيحَيْنِ: " اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ " وَفِي أُخْرَى: " اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ، فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ "(قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ) بِشَدِّ الدَّالِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ (عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟) فَحَجَّهُ بِذَلِكَ بِأَنْ أَلْزَمَهُ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُسْتَقِلًّا بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ بَلْ كَانَ قَدَرًا مِنَ اللَّهِ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَهُ فِي عِلْمِهِ قَبْلَ كَوْنِي وَحَكَمَ بِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَكَيْفَ تَغْفُلُ عَنِ الْعِلْمِ السَّابِقِ وَتَذْكُرُ الْكَسْبَ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ وَتَنْسَى الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ سِرَّ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ الْأَسْتَارِ؟ وَهَذِهِ الْمُحَاجَّةُ لَمْ تَكُنْ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ قَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْوَسَائِطِ وَالِاكْتِسَابِ وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ مُلْتَقَى الْأَرْوَاحِ، وَاللَّوْمُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا بَعْدَهَا فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلِذَا عَدَلَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ، فَالتَّائِبُ لَا يُلَامُ عَلَى مَا

ص: 383

تِيبَ عَلَيْهِ مِنْهُ لَا سِيَّمَا إِذَا انْتَقَلَ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ؟» " وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ: " «أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟» " وَجَمَعَ بِحَمْلِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابَةِ وَالْأُخْرَى عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: " الْأَرْبَعِينَ " مَثَلٌ خَلْقُهُ تَارِيخٌ مَحْدُودٌ وَقَضَاءُ اللَّهِ الْكَائِنَاتِ وَإِرَادَتُهُ أَزَلِيٌّ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَرْبَعِينَ عَلَى أَنَّهُ أَظْهَرَ قَضَاءَهُ بِذَلِكَ لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مَا أَضَافَ إِلَيْهِ هَذَا التَّارِيخَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ: بِقَدَرٍ كَتَبَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَلَا تَرَاهُ.

قَالَ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ: فَكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ.

فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى التَّحَاجِّ ذِكْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ حُجَّتَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُحَاجَّةُ وَهُوَ هُنَا اللَّوْمُ فَمُوسَى أَثْبَتَهُ وَآدَمُ نَفَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ آدَمَ احْتَجَّ بِشَيْءٍ سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ، وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّمَا ذَكَرَ الدَّعْوَى وَلَمْ يَذْكُرْ حُجَّةً.

أَجَابَ الْأَبِّيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ أَنْتَ أَبُونَا حُجَّةٌ ; لِأَنَّ الْأَبَ مَحَلُّ الشَّفَقَةِ، وَهِيَ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ مَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْبَاجِيُّ: لَيْسَ مَا سَبَقَ مِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ يَرْفَعُ الْمَلَامَةَ عَنِ الْبَشَرِ لَكِنَّ مَعْنَاهُ قُدِّرَ عَلَيَّ وَتُبْتُ مِنْهُ وَالتَّائِبُ لَا يُلَامُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا غَلَبَهُ لِأَنَّ آدَمَ أَبُوهُ وَلَمْ يُشْرَعْ لِلِابْنِ لَوْمُ الْأَبِ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ مُوسَى كَانَ قَدْ عَلِمَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ تِلْكَ الْأَكْلَةَ سَبَبًا لِهُبُوطِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَسُكْنَاهُ بِهَا وَنَشْرِ ذُرِّيَّتِهِ فِيهَا وَتَكْلِيفِهِمْ لِيُرَتِّبَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ وَقَدْ فَعَلَ سَبَبَهُ فَفِيمَ اللَّوْمُ؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا غَلَبَهُ لِأَنَّ تَرْتِيبَ اللَّوْمِ عَلَى الذَّمِّ لَيْسَ أَمْرًا عَقْلِيًّا لَا يَنْفَكُّ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ، فَإِذَا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ وَغَفَرَ لَهُ فَقَدْ رَفَعَ عَنْهُ اللَّوْمَ فَمَنْ لَامَ فِيهِ مَحْجُوجٌ مَغْلُوبٌ بِالشَّرْعِ.

وَقِيلَ: لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُبْ لَوْمَهُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ.

وَمَبَاحِثُهَا إِنَّمَا هِيَ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ آدَمَ سَبَبٌ إِلَّا قَضَاءَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ ; وَلِذَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ; وَلِذَا قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ وَذَكَرَ فَضَائِلَهُ، أَيْ: كَمَا قَضَى تَعَالَى لَكَ بِذَلِكَ وَنَفَّذَهُ فِيكَ، كَذَلِكَ قَضَى عَلَيَّ فِيمَا فَعَلْتُ وَنَفَّذَهُ فِيَّ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 384

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ «سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ رَبُّهُ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ رَبُّهُ النَّارَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1661 -

1613 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ) قِيلَ: وَاسْمُهُ أَيْضًا زِيدٌ الْجَزَرِيُّ، أَبِي أُسَامَةَ أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ ثُمَّ سَكَنَ الرُّهَا، ثِقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَلَهُ أَفْرَادٌ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ

ص: 384

وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعَةٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، لَهُ مَرْفُوعًا فِي الْمُوَّطَأِ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ (عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ) الْعَدَوِيِّ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ ثِقَةٌ، رَوَى لَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالثَّلَاثَةُ تَابِعُونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ) أَيْ: حِينَ {أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف: 172] بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بِأَنْ أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مِنْ صُلْبِ بَعْضٍ مِنْ صُلْبِ آدَمَ نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ كَنَحْوِ مَا يَتَوَالَدُونَ كَالذَّرِّ، بِنَعْمَانَ بِفَتْحِ النُّونِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَنَصَبَ لَهُمْ دَلَائِلَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَرَكَّبَ فِيهِمْ عَقْلًا {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأعراف: 172] قَالَ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] أَنْتَ رَبُّنَا (شَهِدْنَا) بِذَلِكَ وَالْإِشْهَادُ (أَنْ) لَا (يَقُولُوا) بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} [الأعراف: 172] الْإِشْهَادِ (غَافِلِينَ) لَا نَعْرِفُهُ (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عَنْهَا) أَيِ الْآيَةِ « (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ) » قَالَ الْبَاجِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ " يَدَهُ " صِفَةٌ وَلَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ كَجَوَارِحِ الْمَخْلُوقِينَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: عَبَّرَ بِالْمَسْحِ عَنْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِظَهْرِ آدَمَ وَكُلُّ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ الْخَالِقِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِفِعْلِ الْمَخْلُوقِ مَا لَمْ يَكُنْ دَنَاءَةً.

وَقَالَ عِيَاضٌ: اخْتُلِفَ فِي الْيَدِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْجَوَارِحِ الَّتِي وَرَدَتْ وَيَسْتَحِيلُ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الْمُحَالِ وَلَا تُتَأَوَّلُ وَيُصْرَفُ عِلْمُهَا إِلَى اللَّهِ وَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَتَأَوَّلَهَا الْأَشْعَرِيُّ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّهَا صِفَاتٌ لَا نَعْلَمُهَا، وَتَأَوَّلَهَا قَوْمٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ، وَالْيَدُ فِي اللُّغَةِ تُطْلَقُ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا (فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ) وَهُمُ السُّعَدَاءُ وَحُرَّمْتُهَا عَلَى غَيْرِهِمْ (وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيِ الطَّاعَاتِ (يَعْمَلُونَ) أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى يُيَسِّرُ لَهُمْ أَعْمَالَ الطَّاعَاتِ وَيُهَوِّنُهَا عَلَيْهِمْ (ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ

ص: 385

فَاسْتَخْرَجَ) أَيْ: أَخْرَجَ (مِنْهُ ذَرِّيَّةً وَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ) الْأَشْقِيَاءَ (لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ) لِأَنَّهُمْ مُيَسَّرُونَ لِذَلِكَ وَجُعِلَ كِلَيْهِمَا مَعًا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَوَقَعَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ بِسَبَبِ الِاخْتِلَاطِ وَجَعَلَهَا دَارَ تَكْلِيفٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ لِبَيَانِ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَأَمَرَهُمْ بِجِهَادِ الْأَشْقِيَاءِ فَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ مَيَّزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ، فَجَعَلَ الطَّيِّبَ وَأَهَّلَهُ فِي دَارِهِمْ، وَالْخَبِيثَ وَأَهْلَهُ فِي دَارِهِمْ، فَيَنْعَمُ هَؤُلَاءِ بِطِيبِهِمْ وَيُعَذَّبُ هَؤُلَاءِ بِخُبْثِهِمْ لِانْكِشَافِ الْحَقَائِقِ.

(فَقَالَ رَجُلٌ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ كَمَا فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدِ بْنِ مُسَرْهَدٍ فِي نَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ فِي نَحْوِهِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟) أَيْ: إِذَا سَبَقَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى عَمَلٍ ; لِأَنَّهُ سَيَصِيرُ إِلَى مَا قُدِّرَ لَهُ « (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَيُهَوِّنُهُ عَلَيْهِ (حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ رَبُّهُ الْجَنَّةَ) » عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِمَحْضِ رَحْمَتِهِ.

( «وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ رَبُّهُ النَّارَ» ) وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَفِيهِ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا لِأَجْلِ الْأَعْمَالِ بَلِ الْمُوجِبُ لَهُمَا اللُّطْفُ الرَّبَّانِيُّ وَالْخِذْلَانُ الْإِلَهِيُّ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، بَلْ وَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَأُصُولُ أَكْوَانِهِمْ فِي الْعَدَمِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَدْأَبَ فِي صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّهَا أَمَارَةٌ إِلَى مَآلِ أَمْرِهِ غَالِبًا.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُ هَذَا الصَّحَابِيِّ مُطَالَبَةٌ بِأَمْرٍ يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْعُبُودِيَّةِ فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ إِخْبَارَ الرَّسُولِ عَنْ سَابِقِ الْكِتَابِ إِخْبَارٌ عَنْ غَيْبِ عِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَرَامَ أَنْ يَتَّخِذَهُ حُجَّةً فِي تَرْكِ الْعَمَلِ فَأَعْلَمَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَاهُنَا أَمْرَيْنِ مُحْكَمَيْنِ لَا يَبْطُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ: بَاطِنٌ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْمُوجَبَةُ فِي حُكْمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظَاهِرٌ وَهُوَ السِّمَةُ اللَّازِمَةُ فِي حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ.

وَهِيَ أَمَارَةٌ وَمُخَيَّلَةٌ غَيْرُ مُفِيدَةٍ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّمَا عُومِلُوا بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ وَتَعَبَّدُوا بِهَا لِيَتَعَلَّقَ خَوْفُهُمْ وَرَجَاؤُهُمْ بِالْبَاطِنِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَأَنَّ عَمَلَهُ فِي الْعَاجِلِ دَلِيلُ مَصِيرِهِ فِي الْآجِلِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لَا

ص: 386

يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَاطْلُبْ نَظِيرَهُ مِنَ الرِّزْقِ الْمَقْسُومِ مَعَ الْأَمْرِ بِالْكَسْبِ وَمِنَ الْأَجَلِ الْمَنْصُوبِ مَعَ الْمُعَاجَلَةِ بِالطَّلَبِ الْمَأْذُونِ فِيهَا انْتَهَى.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِهِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَرْفُوعِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ:" «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» " وَتَنَاقَضَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ أَوَّلًا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: زِيَادَةٌ مَنْ زَادَ نُعَيْمًا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوهُ أَحْفَظُ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ مِنَ الْحَافِظِ الْمُتْقِنِ انْتَهَى.

فَحَيْثُ لَمْ تُقْبَلْ فَهِيَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ فَيُنَاقِضُ قَوْلَهُ أَوَّلًا مُنْقَطِعٌ بَيْنَهُمَا نُعَيْمٌ، أَمَّا قَوْلُهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَائِمِ، فَمُسْلِمٌ وَنُعَيْمٌ غَيْرُ مَعْرُوفَيْنِ بِحَمْلِ الْعِلْمِ لَكِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ.

ص: 387

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1661 -

1614 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) مَرَّ أَنَّ بَلَاغَهُ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَرَكْتُ فِيكُمْ بَعْدَ وَفَاتِي أَمْرَيْنِ) وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ شَيْئَيْنِ (لَنْ تَضِلُّوا مَا مَسَكْتُمْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالسِّينِ، أَيْ: أَخَذْتُمْ وَتَعَلَّقْتُمْ وَاعْتَصَمْتُمْ (بِهِمَا، كِتَابَ اللَّهِ) بَدَلٌ مِنْ أَمْرَيْنِ (وَسُنَّةَ نَبِيهِ) فَإِنَّهُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ لَا عُدُولَ عَنْهُمَا وَلَا هَدْيَ إِلَّا مِنْهُمَا، وَالْعِصْمَةُ وَالنَّجَاةُ لِمَنْ مَسَكَ بِهِمَا وَاعْتَصَمَ بِحَبْلِهِمَا، وَهُمَا الْعُرْفَانِ الْوَاضِحُ وَالْبُرْهَانُ اللَّائِحُ بَيْنَ الْمُحِقِّ إِذَا اقْتَفَاهُمَا وَالْمُبْطِلِ إِذَا حَلَّاهُمَا، فَوُجُوبُ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، لَكِنَّ الْقُرْآنَ يُحَصِّلُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ يَقِينًا، وَفِي السُّنَّةِ تَفْصِيلٌ مَعْرُوفٌ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَسَنَتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الْحَوْضِ» ".

ص: 387

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ قَالَ طَاوُسٌ وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ أَوْ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1663 -

1615 - (مَالِكٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ) بِسُكُونِ الْعَيْنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ نَشَأَ بِهَا ثُمَّ

ص: 387

نَزَلَ مَكَّةَ ثُمَّ الْيَمَنَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ أَثْبَتَ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ مَالِكٌ: ثِقَةٌ سَكَنَ مَكَّةَ وَقَدِمَ عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ وَلَهُ هَيْبَةٌ وَصَلَاحٌ، وَكَذَا وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا (عَنْ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ مُسْلِمٍ) الْجَنَدِيِّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ الْيَمَانِيِّ صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامُ (عَنْ طَاوُسِ) بْنِ كَيْسَانَ (الْيَمَانِيِّ) الثِّقَةِ الثَّبْتِ الْفَقِيهِ الْفَاضِلِ، يُقَالُ: اسْمُهُ ذَكْوَانُ وَطَاوُسٌ لَقَبٌ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَةٍ وَقِيلَ: بَعْدَهَا (أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ) أَيْ: جَمِيعُ الْأُمُورِ إِنَّمَا هِيَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ فَمَا قُدِّرَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، أَوِ الْمُرَادُ كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ بِتَقْدِيرٍ مُحْكَمٍ وَهُوَ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَرْتِيبٍ.

(قَالَ طَاوُسٌ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) بْنَ الْخَطَّابِ (يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» ) قَالَ عِيَاضٌ: رَوَيْنَاهُ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى شَيْءٍ وَالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى " كُلُّ " وَقَدْ تَكُونُ حَتَّى جَارَّةً وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهَا، وَالْعَجْزُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَالتَّسْوِيفُ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهُ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عَمَلَ الطَّاعَاتِ، وَيُحْتَمَلَ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ وَهُوَ النَّشَاطُ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، قَالَ: وَإِدْخَالُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا مَا قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقَضَى بِهِ وَأَرَادَهُ مِنْ خَلْقِهِ انْتَهَى وَهُوَ وَجِيهٌ.

لَكِنْ تَعَقَّبَ الْأَبِّيُّ تَفْسِيرَ الْعَجْزِ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ: يُصَيِّرُهُ عَدَمًا وَهُوَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ يَمْتَنِعُ مَعَهَا وُقُوعُ الْفِعْلِ الْمُمْكِنِ.

وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ أَنَّ " حَتَّى " حَرْفُ جَرٍّ بِمَعْنَى " إِلَى "، نَحْوَ:{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5][سُورَةُ الْقَدْرِ: الْآيَةُ 5] لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي الْغَايَةَ، إِذِ الْمُرَادُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَاكْتِسَابَهُمْ كُلَّهَا بِتَقْدِيرِ خَالِقِهِمْ حَتَّى الْكَيْسَ الْمُوصِلَ صَاحِبَهُ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَالْعَجْزَ الَّذِي يَتَأَخَّرُ بِهِ عَنْ دَرْكِهَا.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ مَا مِنْ شَيْءٍ يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَسَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ، وَلِذَا أَتَى بِكُلِّ الَّتِي هِيَ لِلْعُمُومِ وَعَقَّبَهَا بِحَتَّى الَّتِي هِيَ لِلْغَايَةِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْعَجْزِ وَالْكَيْسِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ أَفْعَالَنَا وَإِنْ كَانَتْ مُرَادَةً لَنَا فَهِيَ لَا تَقَعُ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30][سُورَةُ الْإِنْسَانِ: الْآيَةُ 30] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قُوبِلَ الْكَيْسُ بِالْعَجْزِ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقَابِلَ الْحَقِيقِيَّ لِلْكَيْسِ الْبَلَادَةُ وَلِلْعَجْزِ الْقُوَّةُ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْأُسْلُوبِ تَقْيِيدُ كُلٍّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ بِمَا يُضَادُّ الْآخَرَ، يَعْنِي: حَتَّى الْكَيْسِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَلَادَةِ وَالْعَجْزِ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يُثْبِتُ الْقُدْرَةَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَيَقُولُ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مُسْنَدَةٌ إِلَى

ص: 388

قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ لِأَنَّ مَصْدَرَ الْفِعْلِ الدَّاعِيَةُ وَمَنْشَؤُهَا الْقَلْبُ الْمَوْصُوفُ بِالْكِيَاسَةِ وَالْبَلَادَةِ ثُمَّ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَمَكَانُهُمَا الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ، فَإِذَا كَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَأَيُّ شَيْءٍ يَخْرُجُ عَنْهُمَا.

(أَوْ) قَالَ (الْكَيْسُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَمُهْمَلَةٍ، النَّشَاطُ وَالْحَذْقُ وَالظَّرَافَةُ، أَوْ كَمَالُ الْعَقْلِ أَوْ شَدَّةُ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ أَوْ تَمْيِيزُ مَا فِيهِ الضَّرَرُ مِنَ النَّفْعِ.

(وَالْعَجْزُ) التَّقْصِيرُ عَمَّا يَجِبُ فِعْلُهُ أَوْ عَنِ الطَّاعَةِ أَوْ أَعَمُّ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ هَلْ أَخَّرَ الْكَيْسَ أَوْ قَدَّمَهُ؟ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَإِنْ صَحَّ أَنَّ الشَّكَّ مِنِ ابْنِ عُمَرَ أَوْ مِنْ دُونَهُ فَفِيهِ مُرَاعَاةُ الْأَلْفَاظِ عَلَى رُتْبَتِهَا وَأَظُنُّهُ مِنْ وَرَعِ ابْنِ عُمَرَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى لِلْعَارِفِ بِالْمَعَانِي، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 389

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي وَالْفَاتِنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1664 -

1616 - (مَالِكٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ) الْمَذْكُورِ آنِفًا (عَنْ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، ابْنِ دِينَارٍ الْمَكِّيِّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ) وَهُوَ خَلِيفَةٌ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي) الَّذِي يُبَيِّنُ الرُّشْدَ مِنَ الْغَيِّ وَأَلْهَمَ طُرُقَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ كُلَّ مُكَلَّفٍ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ كُلَّ حَيٍّ.

(وَالْفَاتِنُ) بِمَعْنَى الْمُضِلِّ الْوَارِدِ فِي أَسْمَائِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا وَارِدٌ أَيْضًا عَنْ صَحَابِيٍّ، فَهُوَ تَوْقِيفٌ، إِذْ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَفِي التَّنْزِيلِ:{فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} [طه: 85][سُورَةُ طه: الْآيَةُ 85] وَ {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155][سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 155] وَأَخْرَجَ أَبُو عُمَرَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ مَنْ حَرَمَنِي الْهُدَى وَأَوْرَثَنِي الضَّلَالَةَ وَالرَّدَى أَتُرَاهُ أَحْسَنَ إِلَيَّ أَوْ ظَلَمَنِي؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا كَانَ الْهُدَى شَيْئًا كَانَ لَكَ عِنْدَهُ فَمَنَعَكَ فَقَدْ ظَلَمَكَ، وَإِنْ كَانَ الْهُدَى لَهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَمَا ظَلَمَكَ شَيْئًا وَلَا تُجَالِسْنِي بَعْدُ.

وَبِهَذَا أَجَابَ رَبِيعَةُ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ لَمَّا سَأَلَهُ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

ص: 389

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ مَا رَأْيُكَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ فَقُلْتُ رَأْيِي أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَذَلِكَ رَأْيِي قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ رَأْيِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1665 -

1617 - (مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَاسْمُهُ نَافِعٌ (ابْنِ مَالِكٍ)

ص: 389

ابْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيِّ (قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (فَقَالَ: مَا رَأْيُكَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ؟ فَقُلْتُ: أَرَى أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ) تَطْلُبَ مِنْهُمُ التَّوْبَةَ عَنِ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ (فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ) أَيْ: قَتَلْتَهُمْ بِهِ (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَذَلِكَ رَأْيِي) فِيهِمْ.

(قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ رَأْيِي) دَفْعًا لِفَسَادِهِمْ وَقَطْعًا لِبِدْعَتِهِمْ لَا لِلْكُفْرِ.

ص: 390

بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلِتَنْكِحَ فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ

1666 -

1618 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَخِفَّةِ النُّونِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ» ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلَاقَ أُخْتِهَا نَسَبًا أَوْ رَضَاعًا أَوْ دِينًا أَوْ فِي الْبَشَرِيَّةِ لِيُدْخِلَ الْكَافِرَةَ» " وَقِيلَ: الْمُرَادُ ضَرَّتُهَا، وَلَفْظُ لَا يَحِلُّ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، لَكِنْ حُمِلَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ مُجَوِّزٌ كَرِيبَةٍ فِي الْمَرْأَةِ لَا يَسُوغُ مَعَهَا الِاسْتِمْرَارُ فِي الْعِصْمَةِ وَقَصَدَتِ النَّصِيحَةَ الْمَحْضَةَ، ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ، وَحَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ بَعِيدٌ.

وَفِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ: " «لَا يَصْلُحُ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَشْتَرِطَ طَلَاقَ أُخْتِهَا» " وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَجْنَبِيَّةُ فَتَكُونُ الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ لَا فِي النَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ أَوِ الْبَشَرِيَّةِ لِيَعُمَّ الْكَافِرَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنُ حِبَّانَ لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ (طَلَاقَ أُخْتِهَا) فَإِنَّ الْمُسْلِمَةَ أُخْتُ الْمُسْلِمَةِ (لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا) أَيْ: تَجْعَلَهَا فَارِغَةً لِتَفُوزَ بِحَظِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: لِتَسْتَفْرِغَ إِنَاءَ أُخْتِهَا.

(وَلْتَنْكِحْ) بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْجَزْمِ، أَيْ: وَلْتَتَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مَنْ خَطَبَهَا مِنْ

ص: 390

غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ طَلَاقَ أُخْتِهَا.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلْتَنْكِحْ عَطْفٌ عَلَى لِتَسْتَفْرِغَ وَكِلَاهُمَا عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ: وَلْتَنْكِحْ زَوْجَهَا.

(فَإِنَّمَا لَهَا) أَيْ: لِلسَّائِلَةِ (مَا قُدِّرَ لَهَا) أَيْ: لَنْ يَعْدُوَ ذَلِكَ مَا قُسِمَ لَهَا وَلَنْ تَسْتَزِيدَ بِهِ شَيْئًا.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحْسَنِ أَحَادِيثِ الْقَدَرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَجَابَهَا وَطَلَّقَ مَنْ تَظُنُّ أَنَّهَا تُزَاحِمُهَا فِي رِزْقِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهَا، سَوَاءٌ أَجَابَهَا أَمْ لَمْ يُجِبْهَا.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ " «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ» " وَالْبَاقِي مِثْلُهُ.

ص: 391

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ اللَّهُ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ سَمِعْتُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذِهِ الْأَعْوَادِ»

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا يَنْبَغِي الَّذِي لَا يَعْجَلُ شَيْءٌ أَنَاهُ وَقَدَّرَهُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَكَفَى سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا لَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ إِنَّ أَحَدًا لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1667 -

1619 - (مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ) بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ يُنْسَبُ لِجَدِّهِ الْمَخْزُومِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيُّ الثِّقَةُ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ) الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ الْعَالِمِ وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ عَلَى الصَّحِيحِ وَوَهِمَ مَنْ قَالَ فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ، فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ لَمْ يَنْبُتُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، مَاتَ مُحَمَّدٌ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: قَبْلَهَا.

(قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ) وَلِبَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ كَمَا أَفَادَهُ أَبُو عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ (بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) النَّبَوِيِّ عَامَ حَجَّ فِي خِلَافَتِهِ ( «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ» ) أَيْ: لِمَا أَرَادَ إِعْطَاءَهُ، وَإِلَّا فَبَعْدَ الْإِعْطَاءِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لَا مَانِعَ لَهُ إِذِ الْوَاقِعُ لَا يَرْتَفِعُ.

( «وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ اللَّهُ» ) أَيْ: لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَ " مَا " مَوْصُولَةٌ، وَجُمْلَةُ " أَعْطَى " صِلَةُ " مَا "، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الَّذِي أَعْطَاهُ وَمَنَعَهُ، وَقِيلَ: لَا مَانِعَ اسْمُ نَكِرَةٍ مَبْنِيٌّ مَعَ لَا وَخَبَرُهَا الِاسْتِقْرَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ، أَوِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وُجُوبًا عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ فَيَتَعَلَّقُ حَرْفُ الْجَرِّ بِمَانِعٍ، قِيلَ: فَيَجِبُ نَصْبُهُ وَتَنْوِينُهُ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ وَالرِّوَايَةُ عَلَى بِنَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَوُجِّهَتْ بِأَنَّ مُتَعَلِّقَ خَبَرِ " لَا مَانِعَ " مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا مَانِعَ لَنَا لِمَا أَعْطَى، فَيَتَعَلَّقُ بِالْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ لَا بِمَانِعٍ، كَمَا قِيلَ فِي:{لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ} [الأنفال: 48][سُورَةُ الْأَنْفَالِ: الْآيَةُ 48] أَوْ يُقَدَّرُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ لِمَا أَعْطَى فَيَتَعَلَّقُ بِ " يَمْنَعُ " وَيَكُونُ " يَمْنَعُ " خَبَرُ " لَا " عَلَى إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ.

( «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ» ) بِفَتْحِ الْجِيمِ فِيهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمِنْهُ يَتَعَلَّقُ بِ " يَنْفَعُ "، أَيْ: لَا يَنْفَعُ صَاحِبَ الْحَظِّ مِنْ نُزُولِ عَذَابِهِ - حَظُّهُ، إِنَّمَا يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ الصَّالِحُ.

ص: 391

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الْحَظُّ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: لِفُلَانٍ جَدٌّ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: حَظٌّ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَعْطَاكُمُ اللَّهُ جَدًّا تُنْصَرُونَ بِهِ

لَا جَدَّ إِلَّا صَغِيرٌ بَعْدَ مُحْتَقَرِ

وَهُوَ الَّذِي تَقُولُ الْعَامَّةُ: الْبَخْتُ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى مِنْهُ غِنَاهُ إِنَّمَا تَنْفَعُهُ طَاعَتُهُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ:" «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْفُقَرَاءُ وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ» "، أَيْ: أَصْحَابُ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا مَحْبُوسُونَ يَوْمَئِذٍ.

قَالَ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89][سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: الْآيَةُ 88، 89] وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37][سُورَةُ سَبَأٍ: الْآيَةُ 37] وَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا، وَرُوِيَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: الِاجْتِهَادُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُ ذَا الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ اجْتِهَادُهُ وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَلَيْسَ يَرْزُقُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ انْتَهَى.

وَقَالَ الْحَافِظُ: الْجَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَمَعْنَاهُ الْغِنَى كَمَا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَوِ الْحَظُّ.

وَحَكَى الرَّاغِبُ أَنَّهُ أَبُو الْأَبِ، أَيْ: لَا يَنْفَعُ أَحَدًا نَسَبُهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْكَسْرِ، وَقَالَ مَعْنَاهُ ذَا الِاجْتِهَادِ اجْتِهَادُهُ وَأَنْكَرَهُ الطَّبَرِيُّ.

قَالَ الْقَزَّازُ: لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ نَافِعٌ لِدُعَاءِ اللَّهِ الْخَلْقَ إِلَيْهِ فَكَيْفَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَتَضْيِيعُ الْآخِرَةِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ بِمُجَرَّدِهِ حَتَّى يُقَارِنَهُ الْقَبُولُ وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ السَّعْيُ التَّامُّ فِي الْحِرْصِ أَوِ الْإِسْرَاعُ فِي الْهَرَبِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَظُّ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ أَوِ الْوَلَدِ أَوِ الْعَظْمَةِ أَوِ السُّلْطَانِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُنْجِيهِ حَظُّهُ مِنْكَ وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ انْتَهَى.

(مَنْ يُرِدِ اللَّهُ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْإِرَادَةِ وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصَّصَةٌ لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ (بِهِ خَيْرًا) أَيْ: جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ أَوْ خَيْرًا عَظِيمًا (يُفَقِّهْهُ) أَيْ: يَجْعَلُهُ فَقِيهًا (فِي الدِّينِ) وَالْفِقْهُ لُغَةً الْفَهْمُ، وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ هُنَا أَوْلَى مِنَ الِاصْطِلَاحِيِّ لِيَعُمَّ فَهْمَ كُلِّ عَامٍّ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، وَ " مَنْ " مَوْصُولٌ، فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ ; لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهُ، وَنَكَّرَ " خَيْرًا " لِيُفِيدَ التَّعْمِيمَ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ كَهِيَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَوِ التَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ ; وَلِذَا قُدِّرَ بِجَمِيعٍ أَوْ عَظِيمٍ.

(ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: سَمِعْتُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذِهِ الْأَعْوَادِ) أَيْ: أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ، ظَاهِرُهُ

ص: 392

أَنَّهُ سَمِعَ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْهُ وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَيَرْوُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُهُ يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَجَمَعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِجَوَازِ أَنَّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» " فَأَشَارَ إِلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، فَيَجْتَمِعُ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ لِأَنَّهَا كُلَّهَا صَحِيحَةٌ انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ عَوْدُ الْإِشَارَةِ لِجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ، وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كِتَابَتَهُ إِلَى الْمُغِيرَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ شَكَّ فَسَأَلَ الْمُغِيرَةَ فَأَجَابَهُ فَزَالَ بِذَلِكَ شَكُّهُ فَحَدَّثَ بِهِ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام هَكَذَا ظَهَرَ لِي، ثُمَّ رَأَيْتُ فَتْحَ الْبَارِي قَالَ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اسْتِثْبَاتَ الْمُغِيرَةِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْمُوَّطَأِ هَذَا انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِزَعْمٍ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَزْمِهِ بِذَلِكَ.

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ) قَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَئِمَّةِ الشَّرْعِ ; لِأَنَّ مَالِكًا أَدْخَلَهُ فِي كِتَابِهِ الْمُعْتَقَدِ صِحَّتُهُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْلُقَ (كَمَا يَنْبَغِي) أَيْ: أَحْسَنُهُ وَأَتَى بِهِ عَلَى أَفْضَلِ مَا يَكُونُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ (الَّذِي لَا يَعْجَلُ شَيْءٌ أَنَاهُ وَقَدَّرَهُ) أَيْ: لَا يَسْبِقُ وَقْتَهُ الَّذِي وَقَّتَهُ لَهُ (حَسْبِيَ اللَّهُ) كَافِيَّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ (وَكَفَى) بِهِ كَافٍ (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا) أَيْ: أَجَابَ دُعَاءَهُ (لَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى) أَيْ: غَايَةٍ يُرْمَى إِلَيْهَا، أَيْ: تُقْصَدُ بِدُعَاءٍ أَوْ أَمَلٍ أَوْ رَجَاءٍ تَشْبِيهًا بِغَايَةِ السِّهَامِ.

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُقَالُ) ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إِذَا قَالَ كَانَ يُقَالُ؛ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكَذَا كَانَ مَالِكٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ وُجُوهٍ حِسَانٍ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( «إِنَّ أَحَدًا لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ» ) الَّذِي كَتَبَ لَهُ الْمَلَكُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَلَا وَجْهَ لِلْوَلَدِ وَالْكَدِّ وَالتَّعَبِ وَالْحِرْصِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَسَمَ الرِّزْقَ وَقَدَّرُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَلَا

ص: 393

يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ تَعَالَى الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32][سُورَةُ الزُّخْرُفِ: الْآيَةُ 32] فَلَا يُعَارِضُهُ مَا وَرَدَ: «الصُّبْحَةُ تَمْنَعُ الرِّزْقَ وَالْكَذِبُ يُنْقِصُ الرِّزْقَ» ، «وَأَنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، أَوْ أَنَّ الَّذِي يَمْنَعُهُ وَيُنْقِصُهُ هُوَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ أَوِ الْبَرَكَةُ، لَا أَصْلُ الرِّزْقِ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا» "( «فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» ) بِأَنْ تَطْلُبُوهُ بِالطُّرُقِ الْجَمِيلَةِ الْمُحَلَّلَةِ بِلَا كَدٍّ وَلَا حِرْصٍ وَلَا تَهَافُتٍ عَلَى الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ أَوْ غَيْرَ مُنْكَبِّينَ عَلَيْهِ مُشْتَغِلِينَ عَنِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ بِهِ، أَوْ بِأَنْ لَا تُعَيِّنُوا وَقْتًا وَلَا قَدْرًا لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ عَلَى اللَّهِ، أَوِ اطْلُبُوا مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ، لَا حُظُوظَ الدُّنْيَا أَوْ لَا تَسْتَعْجِلُوا الْإِجَابَةَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: " «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» " زَادَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: " «وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» " وَلِلْبَيْهَقِيِّ وَالْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجْلُهُ» " وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: " «لَا تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدٌ يَمُوتُ حَتَّى يَبْلُغَهُ آخِرُ الرِّزْقِ فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» " وَفِيهِ: " «أَنَّ الطَّلَبَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ» " وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَاهُ عَنْ عُمَرَ رَفَعَهُ: " «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» " فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ لَا الْقُعُودِ، أَرَادَ لَوْ تَوَكَّلُوا فِي ذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ وَعَلِمُوا أَنَّ الْخَيْرَ بِيَدِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَنْصَرِفُوا إِلَّا سَالِمِينَ غَانِمِينَ كَالطَّيْرِ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّتِهِمْ وَكَسْبِهِمْ وَهَذَا خِلَافُ التَّوَكُّلِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا فِي الْقَائِلِ أَجْلِسُ لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَنِي رِزْقِي: هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» " وَقَوْلَهُ: " «تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» " وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخِيلِهِمْ وَبِهِمُ الْقُدْوَةُ.

ص: 394

[باب حُسْنِ الْخُلُقِ]

[مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ]

كتاب حُسْنِ الْخُلُقِ

باب مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

47 -

كِتَابُ حُسْنِ الْخُلُقِ

1 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ

بِضَمَّتَيْنِ وَتُسَكَّنُ اللَّامُ لِلتَّخْفِيفِ.

وَفِي النِّهَايَةِ: الْخُلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا الدِّينُ وَالطَّبْعُ وَالسَّجِيَّةُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لِصُورَةِ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نَفْسُهُ، وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخُلُقِ لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَهَا أَوْصَافٌ حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي أَنَّهُ غَرِيزَةٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ» " الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَغَيْرِهِمَا أَوْ مُكْتَسِبُ خِلَافٍ.

وَفِي حَدِيثِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَوْ حَدِيثًا؟ قَالَ: قَدِيمًا، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ مِمَّا يُحِبُّهُمَا اللَّهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، فَتَرْدِيدُ السُّؤَالِ وَتَقْرِيرُهُ بِقَوْلِهِ قَدِيمًا يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي الْخُلُقِ مَا هُوَ جِبِلِّيٌّ وَمَا هُوَ مُكْتَسَبٌ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لَا ثَالِثَ.

1671 -

1620 - (مَالِكٌ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) كَذَا لِيَحْيَى وَابْنِ الْقَاسِمِ وَالْقَعْنَبِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُعَاذٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا مُنْقَطِعٌ جِدًّا، وَلَا يُوجَدُ مُسْنَدًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَلَا غَيْرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، لَكِنْ وَرَدَ مَعْنَاهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

( «قَالَ: آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ) لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ ( «حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ» ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَزَايٍ مَنْقُوطَةٍ فِي مَوْضِعِ الرِّكَابِ مِنْ رِجْلِ الْبَعِيرِ كَالرِّكَابِ لِلسَّرْجِ ( «أَنْ قَالَ: أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ» ) فَهُوَ مُنَادَى بِحَذْفِ الْأَدَاةِ؛ بِأَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ لِمُجَالِسِهِ أَوِ الْوِرَادِ عَلَيْهِ الْبِشْرُ وَالْحِلْمُ وَالْإِشْفَاقُ وَالصَّبْرُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالنَّاسِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا لَكِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ تَحْسِينَ الْخُلُقِ لَهُمْ، فَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ

ص: 395

وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالتَّمَادِي عَلَى الظُّلْمِ، فَلَا يُؤْمَرُ بِتَحْسِينِ الْخُلُقِ لَهُمْ بَلْ يُؤْمَرُ بِالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَهَذَا آخِرُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي قَالُوا إِنَّهَا لَمْ تُوجَدْ مَوْصُولَةً فِي غَيْرِ الْمُوَّطَأِ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ مَالِكًا الَّذِي قَالَ فِيهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ مَالِكًا لَا يُبَلِّغُ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا كَانَ صَحِيحًا وَإِذَا قَالَ بَلَغَنِي فَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، فَتَصَوُّرُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ وُجُودِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مَوْصُولَةً لَا يَقْدَحُ فِيهَا، فَلَعَلَّهَا وَصَلَتْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي حَدِيثِ:" «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» " لَعَلَّهُ خَرَجَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ تَصِلْ إِلَيْنَا ; لِأَنَّهُ عَزَاهُ لِجَمْعٍ مِنَ الْأَجِلَّةِ ذَكَرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ بِلَا إِسْنَادٍ وَلَا نِسْبَةٍ لِمُخَرِّجٍ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ دُونَ مَالِكٍ بِمَرَاحِلَ بَعِيدَةٍ، كَيْفَ وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ:" «قَلَتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» " وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» " وَرَوَى قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ «عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ آخِرَ كَلِمَةٍ فَارَقْتُ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» " فَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ آخِرَ مَا أَوْصَاهُ سَأَلَهُ عَنْ هَذَا فَأَجَابَهُ فَكَانَ آخِرَ كَلِمَةٍ فَلَا خُلْفَ.

ص: 396

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1671 -

1621 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ ( «عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ» ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الثَّقِيلَةِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَأَيُّهُمْ فَاعِلُ خُيِّرَ لِيَكُونَ أَعَمَّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُخَيِّرَ لَهُ هُوَ اللَّهُ فِيمَا كَلَّفَ أُمَّتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ أَوِ النَّاسَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ " «مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» " اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ الِاسْتِثْنَاءُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ (فِي أَمْرَيْنِ) وَلِلتِّنِّيسِيِّ وَالْقَعْنَبِيِّ: بَيْنَ أَمْرَيْنِ (قَطُّ) قَالَ الْحَافِظُ: أَيْ: مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» لِأَنَّ أُمُورَ الدِّينِ لَا إِثْمَ فِيهَا ( «إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا» ) أَيْ: أَسْهَلَهُمَا (مَا لَمْ يَكُنِ) الْأَيْسَرُ (إِثْمًا) أَيْ: مُفْضِيًا لِلْإِثْمِ (فَإِنْ كَانَ) الْأَيْسَرُ ( «إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ» ) وَيُخْتَارُ الْأَشَدُّ حِينَئِذٍ وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ: " «إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ فِيهِ سُخْطٍ» وَوُقُوعُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ مَا فِيهِ إِثْمٌ وَمَا لَا إِثْمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ وَاضِحٌ.

وَأَمَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ

ص: 396

إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ جَائِزَيْنِ، لَكِنْ إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى الْإِثْمِ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَيِّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْهِ مِنْ كُنُوزِ الْأَرْضِ مَا يَخْشَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهِ إِلَّا أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ مَثَلًا وَبَيْنَ أَنْ لَا يُؤْتِيَهُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا الْكَفَافَ فَيَخْتَارَ الْكَفَافَ، وَإِنْ كَانَتِ السَّعَةُ أَسْهَلَ مِنْهُ، وَالْإِثْمُ عَلَى هَذَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ لَا يُرَادُ مِنْهُ مَعْنَى الْخَطِيئَةِ لِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ لَهُ انْتَهَى.

وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمُجَاهَدَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاقْتِصَادِ فِيهَا، فَإِنَّ الْمُجَاهَدَةَ إِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَجُرُّ إِلَى الْهَلَاكِ لَا تَجُوزُ.

( «وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ» ) أَيْ: خَاصَّةً فَلَا يَرِدُ أَمْرُهُ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَنْتَهِكُونَ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِرَادَةُ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ إِذَا أُوذِيَ فِي غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي يَخْرُجُ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا عَفَا عَنِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَفَا فِي رَفْعِ صَوْتِهِ عَلَيْهِ، وَعَنِ الْآخَرِ الَّذِي «جَبَذَ بِرِدَائِهِ حَتَّى أَثَّرَ فِي كَتِفِهِ، وَقَالَ: مُحَمَّدُ أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ» كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ.

وَفِي أَبِي دَاوُدَ: «ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ: احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ: عَلَى بَعِيرٍ تَمْرًا وَعَلَى الْآخَرِ شَعِيرًا» .

( «إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ» ) بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ، أَيْ: لَكِنْ إِذَا انْتُهِكَتْ (حُرْمَةُ اللَّهِ) عز وجل (فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ) لَا لِنَفْسِهِ مِمَّنِ ارْتَكَبَ تِلْكَ الْحُرْمَةَ (بِهَا) أَيْ: بِسَبَبِهَا.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ: " «فَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةُ اللَّهِ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ غَضَبًا لِلَّهِ» ".

قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنْ يُؤْذَى أَذًى فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الدِّينِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكًا لِحُرْمَةِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ بِذَلِكَ إِعْظَامًا لِحَقِّ اللَّهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْذَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِعْلٍ مُبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ يُؤْذَى بِمُبَاحٍ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ مِنْهُ وَلَا يَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَإِنْ وَصَلَ بِذَلِكَ إِلَى أَذَى غَيْرِهِ، وَلِذَا لَمْ يَأْذَنْ صلى الله عليه وسلم فِي نِكَاحِ ابْنَةِ أَبِي جَهْلٍ فَجَعَلَ حُكْمَ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ حُكْمَهُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْذَى بِمُبَاحٍ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [الأحزاب: 57] إِلَى أَنْ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58][سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 57، 58] فَشَرَطَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْذُوا بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، وَأَطْلَقَ الْأَذَى فِي خَاصَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ انْتَهَى.

وَحَمَلَ الدَّاوُدِيُّ عَدَمَ انْتِقَامِهِ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يُخْتَصُّ بِالْمَالِ.

وَأَمَّا الْعِرْضُ فَقَدِ اقْتَصَّ مِمَّنْ نَالَ مِنْهُ قَالَ: فَاقْتَصَّ مِمَّنْ لَدَّهُ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَ بِلَدِّهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا نَهْيَهُ عَلَى عَادَةِ الْبَشَرِ مِنْ كَرَاهَةِ النَّفْسِ لِلدَّوَاءِ.

قَالَ الْحَافِظُ: كَذَا قَالَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادٍ مُطَوَّلًا، وَأَوَّلُهُ: " «مَا لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا بِذِكْرِ اسْمِهِ» ، أَيْ: بِصَرِيحِهِ «وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يَضْرِبَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،

ص: 397

وَلَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَمَنَعَهُ إِلَّا أَنْ يُسْأَلَ مَأْثَمًا، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَكُونَ اللَّهُ يَنْتَقِمُ» " الْحَدِيثَ.

وَهَذَا السِّيَاقُ سِوَى صَدْرِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِهِ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى تَرْكِ الْأَخْذِ بِالشَّيْءِ الْعَسِيرِ وَالِاقْتِنَاعِ بِالْيَسِيرِ وَتَرْكِ الْإِلْحَاحِ فِيمَا لَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ نَدْبُ الْأَخْذِ بِالرُّخَصِ مَا لَمْ يَظْهَرِ الْخَطَأُ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ إِلَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّدْبُ إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَحَلُّهُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَفِيهِ تَرْكُ الْحُكْمِ لِلنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مِنْهُ الْحَيْفُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَكِنْ لِحَسْمِ الْمَادَّةِ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَالْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَهَذَا هُوَ الْخُلُقُ الْحَسَنُ الْمَحْمُودُ ; لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْقِيَامَ لِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ مَهَانَةً، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ صَبْرٌ، وَكَانَ هَذَا الْخُلُقُ بَطْشًا، فَانْتَفَى عَنْهُ الطَّرَفَانِ الْمَذْمُومَانِ وَبَقِيَ الْوَسَطُ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصِّفَةِ النَّبَوِيَّةِ عَنِ التِّنِّيسِيِّ، وَفِي الْأَدَبِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَيُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَتَابَعَهُ هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

ص: 398

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1672 -

1622 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) مُرْسَلًا عِنْدَ جَمَاعَةِ رُوَاةِ الْمُوَّطَأِ فِيمَا عَلِمْتُ إِلَّا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيَّ، فَقَالَ: عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ، وَخَالِدٌ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا خُولِفَ فِيهِ، وَلِابْنِ شِهَابٍ فِيهِ إِسْنَادَانِ أَحَدُهُمَا مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ، قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَمُوسَى بْنِ دَاوُدَ الضَّبِّيِّ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَخَالِدٌ وَمُوسَى لَا بَأْسَ بِهِمَا انْتَهَى.

وَلَمْ أَجِدْهُ فِي التَّمْهِيدِ إِنَّمَا فِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ فَلَعَلَّ نُسَخَهُ اخْتَلَفَتْ، وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ بَلْ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَالْعَسْكَرِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.

( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ عَنَاهُ كَذَا إِذَا

ص: 398

تَعَلَّقَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ وَكَانَ مِنْ قَصْدِهِ يَعْنِي تَرْكَ الْفُضُولِ كُلِّهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِاللَّازِمِ فَكَيْفَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى الْفَاضِلِ؟ انْتَهَى.

وَفِي إِفْهَامِهِ أَنَّ مِنْ قُبْحِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ أَخْذَهُ مَا لَا يَعْنِيهِ لِأَنَّهُ ضَيَاعٌ لِلْوَقْتِ النَّفِيسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَعْوِيضُ فَائِتِهِ فِيمَا لَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَعْنِيِهِ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَمَا تَعَلَّقَ بِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ فِي مَعَاشِهِ مِنْ شِبَعِ وَرِوْيٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ وَعِفَّةِ فَرْجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ الضَّرُورَةَ دُونَ مَزِيدِ النِّعَمِ، وَبِهَذَا يَسْلَمُ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ دُنْيَا وَأُخْرَى، فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ أَوْ قُرْبِ رَبِّهِ مِنْهُ فَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ:" مِنْ " تَبْعِيضِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنَّهَا بَيَانِيَّةٌ، وَآثَرَ التَّعْبِيرَ بِالْإِسْلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ ; لِأَنَّهُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ إِنَّمَا يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهَا، وَزَادَ " حُسْنِ " إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ بِصُورَةِ الْأَعْمَالِ فِعْلًا وَتَرْكًا إِلَّا إِنِ اتَّصَفَ بِالْحُسْنِ بِأَنْ تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ مُكَمِّلَاتِهَا فَضْلًا عَنِ الْمُصَحِّحَاتِ، وَجَعَلَ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي مِنَ الْحُسْنِ مُبَالَغَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ، وَمِمَّا لَا يَعْنِي تَعَلُّمُ مَا لَا يُهِمُّ مِنَ الْعُلُومِ وَتَرْكُ الْأَهَمِّ مِنْهُ كَمَنْ تَرَكَ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِهِ وَاشْتَغَلَ بِتَعَلُّمِ مَا يُصْلِحُ بِهِ غَيْرَهُ كَعِلْمِ الْجَدَلِ، وَيَقُولُ فِي اعْتِذَارِهِ: نِيَّتِي نَفْعُ النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا لَبَدَأَ بِاشْتِغَالِهِ بِمَا يُصْلِحُ بِهِ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ مِنْ إِخْرَاجِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ مِنْ نَحْوِ حَسَدٍ وَرِيَاءٍ وَكِبْرٍ وَعُجْبٍ وَتَرَؤُّسٍ عَلَى الْأَقْرَانِ وَتَطَاوُلٍ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُهْلِكَاتِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الْجَلِيلَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ وَهُوَ مِمَّا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ صلى الله عليه وسلم.

لَكِنْ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ مَرْفُوعًا.

ثُمَّ أُخْرِجَ بِسَنَدِهِ «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: كَانَتْ أَمْثَالًا كُلَّهَا» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:" «وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قُلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ» " وَقِيلَ لِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ: مَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى، أَيِ الْفَضْلُ؟ قَالَ: قَدَرُ اللَّهِ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي.

وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ الْحَسَنِ: مِنْ عَلَامَةِ إِعْرَاضِ اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ شُغُلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَصُولُ السُّنَنِ فِي كُلِّ فَنِّ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ: هَذَا، وَحَدِيثُ " «الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ» "، وَ " «الْحَلَالُ بَيِّنٌ» "، وَ " «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا» ".

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: قَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ: وَالثَّانِي «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَالثَّالِثُ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ نِصْفُ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: كُلُّهُ.

ص: 399

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَنَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ سَمِعْتُ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ أَنْ ضَحِكْتَ مَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1672 -

1623 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ

ص: 399

بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ) فِي الدُّخُولِ (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَهُ وَهُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ وَعِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي الْمُبْهَمَاتِ عَنْ مَالِكٍ بَلَاغًا، وَابْنُ بَشْكُوَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنْ عُيَيْنَةَ اسْتَأْذَنَ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَقِيلَ: هُوَ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ.

وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالَ: هُوَ عُيَيْنَةُ، وَقِيلَ: مَخْرَمَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ اهـ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَدِيثَ تَسْمِيَتِهِ عُيَيْنَةَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا، وَخَبَرُ تَسْمِيَتِهِ مَخْرَمَةَ فِيهِ رَاوِيَانِ ضَعِيفَانِ ; وَلِذَا قَالَ الْخَطِيبُ وَعِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عُيَيْنَةُ، قَالُوا: وَيَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ مَخْرَمَةَ مَا قَالَ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ.

« (قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَنَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ) قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، قَالَ: أَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَنْ أُمِّ الْبَنِينَ؟ فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ» ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ يَعْنِي فِي قَوْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافِ قَنَاةٍ لَا يَسْأَلُونَهُ أَيْنَ يُرِيدُ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ ( «بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ» ) الْجَمَاعَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْأَدْنَى إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهِ وَهُمْ وَلَدُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ.

وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ» " (ثُمَّ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْبُخَارِيِّ رِوَايَةٌ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ.

( «قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمْ أَنْشَبْ» ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ ( «أَنْ سَمِعْتُ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ» ) وَلِلْبُخَارِيِّ: " «فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ» " وَلَهُ أَيْضًا: " «فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ» "(فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قُلْتُ) مُسْتَفْهِمَةً ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ» ) بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا خِطَابًا ( «ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ أَنْ ضَحِكْتَ مَعَهُ» ) فَمَا السِّرُّ فِي ذَلِكَ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا عَائِشَةُ ( «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ» ) أَيْ: قَبِيحِ كَلَامِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ» " فَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَصَفَهُ بِذَلِكَ لِيُعْلِمَ حَالَهُ فَيُحْذَرَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْغِيبَةِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ جَوَازُ غِيبَةِ الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ أَوِ الْفُحْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ جَوَازِ مُدَارَاتِهِمُ اتِّقَاءً لِشَرِّهِمْ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ

ص: 400

فِي دِينِ اللَّهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُدَارَاةِ أَنَّهَا بَذْلُ الدُّنْيَا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا أَوِ الدِّينِ أَوْ هُمَا مَعًا وَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَرُبَّمَا اسْتُحْسِنَتْ، وَالْمُدَاهَنَةُ بَذْلُ الدِّينِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بَذَلَ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ حُسْنَ عِشْرَتِهِ وَالرِّفْقَ فِي مُكَالَمَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَمْدَحْهُ بِقَوْلٍ فَلَمْ يُنَاقِضْ قَوْلُهُ فِيهِ فِعْلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِيهِ " «بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ» " حَقٌّ، وَفِعْلَهُ مَعَهُ حُسْنُ عِشْرَةٍ، فَيَزُولُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ الْإِشْكَالُ اهـ.

أَيِ الَّذِي هُوَ أَنَّ النَّصِيحَةَ فَرْضٌ، وَطَلَاقُ الْوَجْهِ وَإِلَانَةُ الْقَوْلِ يَسْتَلْزِمَانِ التَّرْكَ، وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّ الْفَرْضَ سَقَطَ لِعَارِضٍ، وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمْ تَكُنْ غِيبَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ حِينَ إِذْ أَسْلَمَ فَلَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ فِيهِ غِيبَةً أَوْ كَانَ أَسْلَمَ وَلَمْ يَكُنْ إِسْلَامُهُ نَاصِحًا فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم بَيَانَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَهُ فَيَكُونَ مَا وَصَفَهُ بِهِ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا إِلَانَةُ الْقَوْلِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فَعَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْلَافِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّ عُيَيْنَةَ خُتِمَ لَهُ بِسُوءٍ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَمَّهُ وَأَخْبَرَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ شَرَّ النَّاسِ.

وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَشَرْطُ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدِ ارْتَدَّ عُيَيْنَةُ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ وَحَارَبَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَسْلَمَ وَحَضَرَ بَعْضَ الْفُتُوحِ فِي عَهْدِ عُمَرَ.

وَفِي الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ عُيَيْنَةَ عَلَى الرِّدَّةِ، قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَا يُذْكَرُ فِي الصَّحَابَةِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَبَادَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ.

وَقَالَ أَيْضًا فِي تَرْجَمَةِ طُلَيْحَةَ نَقْلًا عَنِ الْأُمِّ: أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ طُلَيْحَةَ وَعُيَيْنَةَ عَلَى الرِّدَّةِ فَرَاجَعْتُ جَلَالَ الدِّينِ الْبُّلْقِينِيَّ فَاسْتَغْرَبَهُ وَقَالَ: لَعَلَّهُ قَبِلَهُمَا بِمُوَحَّدَةٍ، أَيْ: قَبِلَ مِنْهُمَا الْإِسْلَامَ بَعْدَ الِارْتِدَادِ.

ص: 401

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ إِذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ فَانْظُرُوا مَاذَا يَتْبَعُهُ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1674 -

1624 - (مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) نَافِعٍ (بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيِّ (عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ) مَوْقُوفًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ لِأَنَّهُ خَبِرَهَا، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( «إِذَا أَحْبَبْتُمْ» ) أَيْ: أَرَدْتُمْ ( «أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ» ) مِمَّا قُدِّرَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (فَانْظُرُوا) أَيْ: تَأَمَّلُوا (مَاذَا يَتْبَعُهُ) أَيِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ (مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمَدِّ، الْوَصْفُ بِمَدْحٍ أَوْ بِهِ وَبِذَمٍّ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَالْمُرَادُ مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الدِّينِ وَالْخَيْرِ دُونَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْفِسْقِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ الْعَدُوُّ فَيُتْبِعُهُ بِالذِّكْرِ الْقَبِيحِ اهـ.

فَإِنْ ذَكَرَهُ الصُّلَحَاءُ بِشَيْءٍ؛ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مَا لَهُ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِإِلْهَامِهِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:

ص: 401

" «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» " رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَلَا يَعْجَبْ، بَلْ يَكُونُ خَائِفًا مِنْ مَكْرِهِ الْخَفِيِّ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَلْيُبَادِرْ بِالتَّوْبَةِ وَيَحْذَرْ سَطْوَتَهُ وَقَهْرَهُ.

ص: 402

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الْمَرْءَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ الظَّامِي بِالْهَوَاجِرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1675 -

1625 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي) أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْمَرْءَ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ الرَّجُلَ وَالْمُرَادُ مِنْهُمَا الْإِنْسَانُ، وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ الْمُؤْمِنَ ( «لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ» ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْخَلْقُ، أَيْ: بِالْفَتْحِ وَالْخُلُقُ، أَيْ: بِالضَّمِّ عِبَارَتَانِ عَنْ جُمْلَةِ الْإِنْسَانِ، فَالْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْخُلُقُ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَتِهِ الْبَاطِنَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِالْخُلُقِ، أَيْ: بِالضَّمِّ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَاللِّينِ وَالشِّدَّةِ وَالسَّمَاحَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ وَالسَّخَاءِ وَالْبُخْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلِبَابِهَا فِي الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ يَدُورُ عَلَى عِشْرِينَ خَصْلَةً.

(دَرَجَةَ) أَيْ: مِثْلَ دَرَجَةِ، أَيْ: مَنْزِلَةِ (الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ) أَيْ: الْمُتَهَجِّدِ (الظَّامِي بِالْهَوَاجِرِ) أَيِ الْعَطْشَانِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ بِسَبَبِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُمَا مُجَاهِدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا فِي مُخَالَفَةِ حِفْظِهِمَا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّوْمِ، وَالْقِيَامُ وَالصِّيَامُ يَمْنَعَانِ مِنْ ذَلِكَ، وَالنَّفْسُ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ بِالطَّعَامِ تَتَقَوَّى وَبِالنَّوْمِ تَنْمُو، وَمِنْ حُسْنِ خُلُقِهِ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ فِي تَحَمُّلِ أَثْقَالِ مَسَاوِئِ أَخْلَاقِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ أَثْقَالَ غَيْرِهِ وَلَا يَحْمِلُ غَيْرُهُ أَثْقَالَهُ، وَهُوَ جِهَادٌ كَبِيرٌ، فَأَدْرَكَ مَا أَدْرَكَهُ الْقَائِمُ الصَّائِمُ فَاسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يُدْرِكُ دَرَجَةَ الْمُتَنَفِّلِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِصَبْرِهِ عَلَى الْأَذَى وَكَفِّهِ عَنْ أَذَى غَيْرِهِ وَالْمُقَارَضَةِ عَلَيْهِ؛ مَعَ سَلَامَةِ صَدْرِهِ مِنَ الْغِلِّ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يَتِمُّ لِرَجُلٍ حُسْنُ خُلُقِهِ حَتَّى يَتِمَّ عَقْلُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتِمُّ إِيمَانُهُ وَيُطِيعُ رَبَّهُ وَيَعْصِي عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَالْحَاكِمِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ مَرْفُوعًا بِهِ.

ص: 402

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى قَالَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِيَّاكُمْ وَالْبِغْضَةَ فَإِنَّهَا هِيَ الْحَالِقَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1676 -

1626 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ) مَوْقُوفًا

ص: 402

لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَّطَأِ إِلَّا إِسْحَاقَ بْنَ بِشْرٍ الْكَامِلَ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، فَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا.

وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ أَنَّ يَحْيَى لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ سَعِيدٍ وَإِنَّمَا بَيَّنَهُمَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ كَمَا حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا، قَالَهُ كُلَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُلَخَّصًا.

وَتَعْلِيلُ ابْنِ الْمَدِينِيِّ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فَإِنَّ يَحْيَى ثِقَةٌ حَافِظٌ بِاتِّفَاقٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَلَا مَانِعَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ سَعِيدٍ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ سَعِيدٍ فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، كَمَا أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ حَدَّثَ بِهِ مُرْسَلًا وَمَوْقُوفًا وَمَوْصُولًا وَأَيُّمَا كَانَ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَلَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ يُذْكَرُ لِتَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَلَا الَّتِي لِلنَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ النَّفْيُ أَفَادَ التَّحْقِيقَ، وَلِذَا لَا يَكَادُ يَقَعُ بَعْدَهَا إِلَّا مَا كَانَ مَصْدَرًا بِنَحْوِ مَا يَتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ وَشَقِيقَتُهَا (أَمَّا) الَّتِي هِيَ مِنْ طَلَائِعِ الْقَسَمِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ ( «أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ» ) زَادَ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ: وَالصِّيَامِ.

وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَمَنْ بَعْدَهُ: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ» "(قَالُوا: بَلَى) أَخْبِرْنَا (قَالَ: صُلْحُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ إِصْلَاحُ (ذَاتِ الْبَيْنِ) أَيْ: صَلَاحُ الْحَالِ الَّتِي بَيْنَ النَّاسِ وَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ نَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ: إِصْلَاحُ أَحْوَالِ الْبَيْنِ حَتَّى تَكُونَ أَحْوَالُكُمْ أَحْوَالَ صِحَّةٍ وَأُلْفَةٍ، أَوْ هُوَ إِصْلَاحُ الْفَسَادِ وَالْفِتْنَةِ الَّتِي بَيْنَ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَالْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْخَيْرِ حَتَّى أُبِيحَ فِيهِ الْكَذِبُ وَلِكَثْرَةِ مَا يَنْدَفِعُ مِنَ الْمَضَرَّةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَمَنْ بَعْدَهُ - " «فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» " بَدَلَ قَوْلِهِ ( «وَإِيَّاكُمْ وَالْبِغْضَةَ» ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ: شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْبَغْضَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ وَهُوَ أَيْضًا شِدَّتُهُ.

( «فَإِنَّهَا هِيَ الْحَالِقَةُ» ) أَيِ الْخَصْلَةُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَحْلِقَ، أَيْ: تُهْلِكَ وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسَى الشَّعْرَ، وَالْمُرَادُ

ص: 403

الْمُزِيلَةُ لِمَنْ وَقَعَ فِيهَا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّغَائِنِ، وَقَدْ زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ «أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ حَالِقَةَ الشَّعْرِ وَلَكِنَّهَا حَالِقَةُ الدِّينِ» .

قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ: أَنَّهَا لَا تُبْقِي شَيْئًا مِنَ الْحَسَنَاتِ حَتَّى تَذْهَبَ بِهَا كَمَا يَذْهَبُ الْحَلْقُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ وَيَتْرُكُهُ عَارِيًا.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ أَوْضَحُ حُجَّةٍ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَدَاوَةِ وَفَضْلُ الْمُؤَاخَاةِ وَسَلَامَةُ الصُّدُورِ مِنَ الْغِلِّ.

ص: 404

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1676 -

1627 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ وَالْحَاكِمُ وَالْخَرَايِطِيُّ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بُعِثْتُ» ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّمَا بُعِثْتُ (لِأُتَمِّمَ حَسَنَ) بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَكَارِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: صَالِحَ (الْأَخْلَاقِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ أَحْسَنَ النَّاسِ أَخْلَاقًا بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانُوا ضَلُّوا بِالْكُفْرِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا فَبُعِثَ صلى الله عليه وسلم لِيُتَمِّمَ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ بِبَيَانِ مَا ضَلُّوا عَنْهُ وَبِمَا خُصَّ بِهِ فِي شَرْعِهِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاحُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ وَالدِّينُ وَالْفَضْلُ وَالْمُرُوءَةُ وَالْإِحْسَانُ وَالْعَدْلُ فَبِذَلِكَ بُعِثَ لِيُتَمِّمَهُ، قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بِتَمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَمَالِ مَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ» " وَعَزَاهُ الدَّيْلَمِيُّ لِأَحْمَدَ عَنْ مُعَاذٍ.

قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَمَا رَأَيْتُهُ فِيهِ وَالَّذِي فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 404

[مَا جَاءَ فِي الْحَيَاءِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ سَلَمَةَ الزُّرَقِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحَيَاءِ، بِالْمَدِّ

قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَيَاءُ انْقِبَاضُ النَّفْسِ عَنِ الْقَبِيحِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِ لِيَرْتَدِعَ عَنِ ارْتِكَابِ كُلِّ مَا يَشْتَهِي فَلَا يَكُونُ كَالْبَهِيمَةِ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ خَيْرٍ وَعِفَّةٍ، وَلِذَا لَا يَكُونُ الْمُسْتَحِي هَجَّاعًا، وَقَلَّمَا يَكُونُ الشُّجَاعُ مُسْتَحِيًا، وَقَدْ يَكُونُ لِمُطْلَقِ الِانْقِبَاضِ فِي بَعْضِ الصِّبْيَانِ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ انْقِبَاضُ النَّفْسِ خَشْيَةَ ارْتِكَابِ مَا يُكْرَهُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا، وَمُقَابِلُ الْأَوَّلِ فَاسِقٌ، وَالثَّانِي مَجْنُونٌ، وَالثَّالِثُ أَبْلَهٌ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ» "، أَيْ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ.

وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: حَقِيقَةُ الْحَيَاءِ خَوْفُ الذَّمِّ بِنِسْبَةِ الشَّرِّ إِلَيْهِ، قَالَ غَيْرُهُ: فَإِنْ كَانَ فِي مُحَرَّمٍ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَفِي مَكْرُوهٍ فَمُسْتَحَبٌّ، وَفِي مُبَاحٍ فَهُوَ الْعُرْفِيُّ، الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» " وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّ الْمُبَاحَ

ص: 404

إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَعُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا.

1678 -

1628 - (مَالِكٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ سَلَمَةَ الزُّرَقِيِّ) بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَقَافٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ، رَوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ وَعَنْهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ (عَنْ زَيْدٍ) كَذَا لِيَحْيَى.

وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ: يَزِيدُ، بِيَاءٍ أَوَّلَهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الصَّوَابُ (ابْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ) بِضَمِّ الرَّاءِ ابْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْمُطَّلِبِيِّ، تَابِعِيٌّ مَعْرُوفٌ، ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الصَّحَابَةِ غَلَطًا، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ وَقَالَ: وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَعَنْهُ: سَلَمَةُ وَابْنُ وَهْبٍ وَهُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، وَمَاتَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ هِشَامٍ، قَالَ ابْنُ الْحَذَّاءِ: وَهُوَ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَكْتَفِي فِي مَعْرِفَتِهِمْ بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُمْ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ كَلَامٌ فَارِغٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي مَنْ لَمْ يُعْرَفْ شَخْصُهُ وَلَا نَسَبُهُ وَلَا حَالُهُ وَلَا بَلَدُهُ وَانْفَرَدَ عَنْهُ وَاحِدٌ وَهَذَا بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَاهُ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ مُرْسَلًا.

وَقَالَ وَكِيعٌ وَحْدَهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ الْحَدِيثُ مُسْنَدًا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ مُرْسَلٌ. قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَذْكُرْ طَلْحَةَ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَعَلَيْهِ تَعَقُّبٌ آخَرُ، فَإِنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، أَيْ: وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَفْسُهُ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أَبِيهِ، فَعَلَى هَذَا الصُّحْبَةُ لِرُكَانَةَ.

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الصُّدَائِيُّ عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ يَزِيدُ: طَلْحَةُ بْنُ رُكَانَةَ (يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ» ) سَجِيَّةٌ شُرِعَتْ فِيهِ وَحَضَّ أَهْلَ ذَلِكَ الدِّينِ عَلَيْهَا ( «وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ» ) أَيْ: طَبْعُ هَذَا الدِّينِ وَسَجِيَّتُهُ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَمُرُوءَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي بِهَا جَمَالُهُ الْحَيَاءُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَيَاةِ فَإِذَا حَيِيَ الْقَلْبُ بِاللَّهِ ازْدَادَ مِنْهُ حَيَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَحْيِيَ يَعْرَقُ وَقْتَ الْحَيَاءِ فَعَرَقُهُ مِنْ حَرَارَةِ الْحَيَاءِ الَّتِي هَاجَتْ مِنَ الرُّوحِ، فَمِنْ هَيَجَانِهِ تَفُورُ مِنْهُ الرُّوحُ فَيَعْرَقُ مِنْهُ الْجَسَدُ وَيَعْرَقُ مِنْهُ أَعْلَاهُ ; لِأَنَّ سُلْطَانَ الْحَيَاءِ فِي الْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وَالدِّينَ خُضُوعُهَا وَانْقِيَادُهَا، فَلِذَا صَارَ الْحَيَاءُ خُلُقًا لِلْإِسْلَامِ فَيَتَوَاضَعُ وَيَسْتَحْيِي، ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ

ص: 405

يَعْنِي: الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ دِينٍ سَجِيَّةٌ سِوَى الْحَيَاءِ، وَالْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ ; لِأَنَّهُ مُتَمِّمٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بُعِثَ صلى الله عليه وسلم لِإِتْمَامِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَشْرَفَ الْأَدْيَانِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَسْنَى الْأَخْلَاقِ وَأَشْرَفِهَا.

قَالَ الْبَاجِيُّ: فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْحَيَاءُ بِخِلَافِ مَا لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِهِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَاتِ عَلَى وَجْهِهَا.

ص: 406

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1679 -

1629 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ بِالْمَدِينَةِ (عَنْ) أَبِيهِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ) زَادَ التِّنِّيسِيُّ: مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ:" مَرَّ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ " وَمَرَّ بِمَعْنَى اجْتَازَ يُعَدَّى بِعَلَى وَبِالْبَاءِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا وَلَا خُلْفَ فَلَمَّا مَرَّ بِهِ سَمِعَهُ " ( «وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ» ) نَسَبًا أَوْ دِينًا، قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَعْرِفِ اسْمَ الْوَاعِظِ وَلَا أَخِيهِ (فِي الْحَيَاءِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ: يَلُومُهُ عَلَى كَثْرَتِهِ وَأَنَّهُ أَضَرَّ بِهِ وَمَنَعَهُ مِنْ بُلُوغِ حَاجَتِهِ انْتَهَى.

وَهَذَا حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِمَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ.

قَالَ الْحَافِظُ: قَوْلُهُ يَعِظُ، أَيْ: يَنْصَحُ أَوْ يُخَوِّفُ أَوْ يُذَكِّرُ كَذَا شَرَحُوهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُشْرَحَ بِمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَلَفْظُهُ:«يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ» يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحِي؛ حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ الْحَيَاءُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ لَهُ الْعِتَابَ وَالْوَعْظَ فَذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، لَكِنَّ الْمَخْرَجَ مُتَّحِدٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ بِحَسَبَ مَا اعْتُقِدَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مِنْهَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ وَ " فِي " سَبَبِيَّةٌ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ فَكَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَعَاتَبَهُ أَخُوهُ عَلَى ذَلِكَ.

( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ» ) أَيِ اتْرُكْهُ عَلَى هَذَا الْخُلُقِ السَّنِيِّ، ثُمَّ زَادَهُ تَرْغِيبًا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:( «فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ» ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ: مِنْ شَرَائِعِهِ انْتَهَى.

وَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: " «الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» ".

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِنَّمَا صَارَ الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ الْمُكْتَسَبِ وَهُوَ جِبِلَّةٌ لِمَا يُفِيدُ مِنَ الْكَفِّ عَمَّا لَا يَحْسُنُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِفَائِدَتِهِ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيِ الْمَجَازِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ: وَإِذَا كَانَ الْحَيَاءُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ جَرَّ لَهُ ذَلِكَ تَحْصِيلَ أَجْرِ ذَلِكَ الْحَقِّ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ لَهُ مُسْتَحِقًّا.

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَيَاءَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنِ ارْتِكَابِ

ص: 406

الْمَعَاصِي كَمَا يَمْنَعُ الْإِيمَانُ، فَسُمِّيَ إِيمَانًا كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ مَا قَامَ مَقَامَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ إِطْلَاقَ كَوْنِهِ مِنَ الْإِيمَانِ مَجَازٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّاهِيَ مَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ ; فَلِهَذَا وَقَعَ التَّأْكِيدُ، وَقَدْ يَكُونُ التَّأْكِيدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ نَفْسَهَا مِمَّا يُهْتَمُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنْكَرٌ انْتَهَى.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَزَجْرُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْوَاعِظِ لِعِلْمِهِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَضُرُّهُ كَثْرَةُ الْحَيَاءِ وَإِلَّا فَقَدْ تَكُونُ كَثْرَتُهُ مَذْمُومَةً، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْوَعْظِ بِالْعِتَابِ وَاللَّوْمِ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فَإِنَّ مَعْنَى الْوَعْظِ الزَّجْرُ وَبِهِ فَسَّرَهُ التَّيْمِيُّ هُنَا، وَمَعْنَى الْعَتْبِ الْوَجْدُ، يُقَالُ: عَتَبَ عَلَيْهِ إِذَا وَجَدَ، عَلَى أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ جَلِيلَيْنِ لَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا حَتَّى يُفَسَّرَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ وَعَظَ أَخَاهُ فِي اسْتِعْمَالِ الْحَيَاءِ وَعَاتَبَهُ عَلَيْهِ، وَالرَّاوِي حَكَى فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ بِلَفْظِ الْوَعْظِ وَفِي الْآخَرِ بِلَفْظِ الْمُعَاتَبَةِ انْتَهَى.

وَالْحَافِظُ أَبْدَى هَذَا احْتِمَالًا ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ، وَتَفْسِيرُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَيْسَ لِلْخَفَاءِ إِنَّمَا هُوَ لِلِاتِّحَادِ، فَالرِّوَايَاتُ لَا سِيَّمَا الْمُتَّحِدَةَ الْمُخْرِجِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَإِنْ سَلِمَ بَعْدَهُ لُغَةً فَلَا مَعْنَى لِهَذَا التَّعْقِيبِ سِوَى تَسْوِيدِ وَجْهِ الطِّرْسِ بِالتَّغْبِيرِ فِي وُجُوهِ الْحِسَانِ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْحَيَاءِ وَأَجْلُهُ الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ وَاسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ الْمَعَاصِيَ نَذَالَةً فَتَرَكْتُهَا مُرُوءَةً فَصَارَتْ دِينًا، وَقَدْ يَتَوَلَّدُ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ التَّقَلُّبِ فِي نِعَمِهِ فَيَسْتَحْيِي الْعَاقِلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِيمَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَهُ فِي الْأَدَبِ مِنْ صَحِيحِهِ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرُ عِنْدَ مُسْلِمٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوُهُ.

ص: 407

[مَا جَاءَ فِي الْغَضَبِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَغْضَبْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغَضَبِ

1680 -

1630 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) مُرْسَلًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَوَصَلَهُ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ جَارِيَةُ بِجِيمٍ وَتَحْتِيَّةٍ ابْنُ قُدَامَةَ بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ التَّمِيمِيُّ عَمُّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ كَمَا

ص: 407

رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَوَقَعَ مِثْلُ سُؤَالِهِ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ:" «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الْجَنَّةُ» " وَلِسُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ: " «قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ قُلْ لِي قَوْلًا أَنْتَفِعُ بِهِ وَأَقْلِلْ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى، وَلِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِي عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ تَعَدَّدَ ( «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ» ) أَنْتَفِعُ بِهِنَّ فِي مَعِيشَتِي ( «وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى» ) وَفِي رِوَايَةٍ " «قُلْ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا وَأَقْلِلْ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ» "( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَغْضَبْ» ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ لِئَلَّا أَنْسَى إِنْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ، وَلَوْ أَرَادَ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ مِنَ الذِّكْرِ مَا أَجَابَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْقَلِيلِ الْأَلْفَاظِ الْجَامِعِ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ وَالْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَرَدَّ غَضَبَهُ أَخْزَى شَيْطَانَهُ وَسَلِمَتْ لَهُ مُرُوءَتُهُ وَدِينُهُ.

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ هَوَاهُ، لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا تَرَكَ مَا يَشْتَهِي كَانَ أَجْدَرَ أَنْ يَتْرُكَ مَا لَا يَشْتَهِي وَخُصُوصًا الْغَضَبُ، فَإِنْ مَلِكَ نَفْسَهُ عِنْدَهُ كَانَ شَدِيدًا.

وَإِذَا مَلَكَهَا عِنْدَ الْغَضَبِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَمْلِكَهَا عَنِ الْكِبَرِ وَالْحَسَدِ وَأَخَوَاتِهِمَا.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: جَمَعَ لَهُ صلى الله عليه وسلم الْخَيْرَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْغَضَبَ يُفْسِدُ كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمَعْنَى لَا تَغْضَبْ لَا تَمْضِ عَلَى مَا يَحْمِلُكُ غَضَبُكَ عَلَيْهِ وَامْتَنِعْ وَكُفَّ عَنْهُ.

وَأَمَّا نَفْسُ الْغَضَبِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ دَفْعَهُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُ مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ.

وَكَذَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ أَرَادَ لَا تَعْمَلْ بَعْدَ الْغَضَبِ شَيْئًا مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ لَا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ جُبِلَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيِ اجْتَنِبْ أَسْبَابَ الْغَضَبِ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يَجْلِبُهُ ; لِأَنَّ نَفْسَ الْغَضَبِ مَطْبُوعٌ فِي الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ جِبِلَّتِهِ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْعَهُ مِنَ الْغَضَبِ فِي مَعَانِي دُنْيَاهُ وَمُعَامَلَاتِهِ، وَأَمَّا فِيمَا يَعُودُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْحَقِّ فَقَدْ يَجِبُ كَالْقِيَامِ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَجُوزُ وَقَدْ يُنْدَبُ وَهُوَ الْغَضَبُ عَلَى الْمُخْطِئِ كَغَضَبِهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، وَلَمَّا شُكِيَ إِلَيْهِ مُعَاذٌ أَنَّهُ يُطَوِّلُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ اللَّطِيفَةُ وَهِيَ مِنْ بَدَائِعِ جَوَامِعِ كَلِمِهِ الَّتِي خُصَّ بِهَا صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا لَا يُحْصَى بِالْعَدِّ مِنَ الْحِكَمِ وَاسْتِحْبَابِ الْمَصَالِحِ وَالنِّعَمِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالنِّقَمِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْغَضَبَ مِنَ النَّارِ وَجَعَلَهُ غَرِيزَةً فِي الْإِنْسَانِ، مَهْمَا قُصِدَ أَوْ نُوزِعَ فِي غَرَضٍ مَا؛ اشْتَعَلَتْ نَارُ الْغَضَبِ وَثَارَتْ حَتَّى يَحْمَرَّ الْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ مِنَ الدَّمِ ; لِأَنَّ الْبَشَرَةَ تَحْكِي لَوْنَ مَا وَرَاءَهَا، وَهَذَا إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَاسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ

ص: 408

عَلَيْهِ، وَإِنْ غَضِبَ مِمَّنْ فَوْقَهُ تَوَلَّدَ مِنْهُ انْقِبَاضُ الدَّمِ مِنْ ظَاهِرِ الْجِلْدِ إِلَى جَوْفِ الْقَلْبِ، فَيَصْفَرُّ اللَّوْنُ حُزْنًا وَإِنْ كَانَ عَلَى النَّظِيرِ تَرَدَّدَ الدَّمُ بَيْنَ انْقِبَاضٍ وَانْبِسَاطٍ فَيَحْمَرُّ وَيَصْفَرُّ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْغَضَبِ تَغَيُّرُ اللَّوْنِ وَالرِّعْدَةُ فِي الْأَطْرَافِ وَخُرُوجُ الْأَفْعَالِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَاسْتِحَالَةُ الْخِلْقَةِ، حَتَّى لَوْ رَأَى الْغَضْبَانُ نَفْسَهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ، لَكِنَّ غَضَبَهُ حَيَاءً مِنْ قُبْحِ صُورَتِهِ وَاسْتِحَالَةِ خِلْقَتِهِ وَتَغَيُّرِ الْبَاطِنِ وَقُبْحِهِ - أَشَدُّ لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ حِقْدَ الْقَلْبِ وَالْحَسَدِ وَإِضْمَارَ السُّوءِ وَمَزِيدَ الشَّمَاتَةِ وَهَجْرَ الْمُسْلِمِ وَمُصَارَمَتَهُ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَالسُّخْرِيَةَ وَمَنْعَ الْحُقُوقِ، بَلْ أَوَّلُ شَيْءٍ يَقْبُحُ مِنْهُ - بَاطِنُهُ، وَتَغَيُّرُ ظَاهِرِهِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ بَاطِنِهِ، هَذَا كُلُّهُ أَثَرُهُ فِي الْجَسَدِ.

وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي اللِّسَانِ فَانْطِلَاقُهُ بِالشَّتْمِ وَالْفُحْشِ الَّذِي يَسْتَحْيِي مِنْهُ الْعَاقِلُ وَيَنْدَمُ قَائِلُهُ عِنْدَ سُكُونِ غَضَبِهِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ أَيْضًا فِي الْفِعْلِ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَإِنْ فَاتَ بِهَرَبِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيُمَزِّقُ ثَوْبَهُ وَيَلْطُمُ خَدَّهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ صَرِيعًا، وَرُبَّمَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَسَرَ الْآنِيَةَ وَضَرَبَ مَنْ لَا جَرِيمَةَ لَهُ فِيهِ، وَلِلْغَضَبِ دَوَاءٌ مَانِعٌ وَرَافِعٌ، فَالْمَانِعُ ذِكْرُ فَضْلِ الْحِلْمِ وَمَا جَاءَ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ مِنَ الْفَضْلِ، وَمَا وَرَدَ فِي عَاقِبَةِ ثَمَرَةِ الْغَضَبِ مِنَ الْوَعِيدِ وَخَوْفِ اللَّهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُلُوكِ أَنَّهُ كَتَبَ وَرَقَةً، فِيهَا: ارْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَيْلٌ لِسُلْطَانِ الْأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِ السَّمَاءِ، وَيْلٌ لِحَاكِمِ الْأَرْضِ مِنْ حَاكِمِ السَّمَاءِ، اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبْ أَذْكُرْكَ حِينَ أَغْضَبُ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى وَزِيرِهِ، فَقَالَ: إِذَا غَضِبْتُ فَادْفَعْهَا إِلَيَّ، فَجَعَلَ الْوَزِيرُ كُلَّمَا غَضِبَ الْمَلِكُ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا فَيَسْكُنُ غَضَبُهُ، وَالرَّافِعُ لِلْغَضَبِ نَحْوُ الْمَذْكُورِ عَنْ هَذَا الْمَلِكِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَيَتَوَضَّأُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ " «وَإِنْ غَضِبَ وَهُوَ قَائِمٌ قَعَدَ أَوْ هُوَ قَاعِدٌ اضْطَجَعَ» " كَمَا فِي حَدِيثٍ. وَالْقَصْدُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ هَيْئَةِ الْوُثُوبِ وَلَا يُسْرِعَ إِلَى الِانْتِقَامِ مَا أَمْكَنَ حَسْبَمَا الْمَادَّةِ الْمُبَادِرَةِ.

وَأَقْوَى الْأَشْيَاءِ فِي دَفْعِهِ اسْتِحْضَارُ التَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ التَّامِّ، وَأَنَّهُ لَا فَاعِلَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ وَكُلُّ فَاعِلٍ غَيْرُهُ فَهُوَ آلَةٌ، فَمَنْ تَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَاسْتَحْضَرَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَمْ يُمَكِّنْ ذَلِكَ الْغَيْرَ مِنْهُ انْدَفَعَ غَضَبُهُ لِأَنَّهُ لَوْ غَضِبَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ غَضَبُهُ إِمَّا عَلَى الْخَالِقِ وَهُوَ جُرْأَةٌ تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ أَوْ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَهُوَ إِشْرَاكٌ يُنَافِي التَّوْحِيدَ، وَلِذَا «قَالَ أَنَسٌ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ، وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ لِمَ لَمْ تَفْعَلْهُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» ، وَلَوْ قَدَّرَ لَكَانَ مَا ذَاكَ إِلَّا لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّهُ لَا فَاعِلَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا سِوَاهُ آلَةٌ لِلْفِعْلِ كَالسَّيْفِ لِلضَّارِبِ، فَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَلَهُ آلَاتٌ كُبْرَى وَصُغْرَى وَوُسْطَى، فَالْكُبْرَى مَنْ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ كَالْإِنْسَانِ الضَّارِبِ بِالْعَصَا، وَالصُّغْرَى مَا لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا اخْتِيَارَ كَالْعَصَا الْمَضْرُوبِ بِهَا، وَالْوُسْطَى مَا لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا عَقْلَ كَالدَّابَّةِ

ص: 409

تَرْفُسُ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ سِرُّ أَمْرِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ غَضِبَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ أَمْكَنَهُ اسْتِحْضَارُ مَا ذَكَرَ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ الشَّيْطَانُ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْوَسْوَسَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِحْضَارُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

ص: 410

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1681 -

1631 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ» ) أَيِ الْقَوِيُّ (بِالصُّرَعَةِ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، أَيِ: الَّذِي يَكْثُرُ مِنْهُ صَرْعُ النَّاسِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ نَفْيَ الشِّدَّةِ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ شِدَّتَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالنِّهَايَةِ فِي الشِّدَّةِ مِنْهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ أَوْ أَرَادَ أَنَّهَا شِدَّةٌ لَيْسَ لَهَا كَبِيرُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا الشِّدَّةُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا شِدَّةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ كَقَوْلِهِمْ: لَا كِرِيمَ إِلَّا يُوسُفُ، لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْكَرَمِ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا أُرِيدَ إِثْبَاتُ مَزِيَّةٍ لَهُ فِي الْكَرَمِ.

وَكَذَا: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفِقَارِ، وَلَا شُجَاعَ إِلَّا عَلِيٌّ انْتَهَى.

فَالنَّفْيُ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: لَيْسَ الْقَوِيُّ الَّذِي يَصْرَعُ أَبْطَالَ الرِّجَالِ وَيُلْقِيهِمْ إِلَى الْأَرْضِ بِقُوَّةٍ ( «إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» ) بِأَنْ لَا يَفْعَلَ مُوجِبَاتِ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ إِذَا مَلَكَهَا كَانَ هُوَ الشَّدِيدَ الْكَامِلَ لِأَنَّهُ قَهَرَ أَكْبَرَ أَعْدَائِهِ إِذْ مَنْ عَدَاهَا أَذَاهُ دُونَهَا لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، وَأَقَلُّهَا أَشَدُّ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَقَهْرِ شَرِّ خُصُومِهِ لِخَبَرِ:" «أَعْدَى عَدُوٍّ لَكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» " وَهَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْ مَوْضُوعِهَا اللُّغَوِيِّ لِضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَضْبَانُ بِحَالَةٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْغَيْظِ وَقَدْ ثَارَتْ عَلَيْهِ شِدَّةٌ مِنَ الْغَضَبِ فَقَهَرَهَا بِحِلْمِهِ وَصَرَعَهَا بِثَبَاتِهِ وَعَدَمِ عَمَلِهِ بِمُقْتَضَى الْغَضَبِ كَانَ كَالصُّرَعَةِ الَّذِي يَصْرَعُ الرِّجَالَ وَلَا يَصْرَعُونَهُ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، وَكُلُّ مَا جَاءَ بِهَذَا الْوَزْنِ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَحُفَظَةٍ وَضُحَكَةٍ وَخُدَعَةٍ، وَالصُّرْعَةُ بِسُكُونِ الرَّاءِ بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَنْ يَصْرَعُهُ غَيْرُهُ كَثِيرًا، وَكُلُّ مَا جَاءَ بِهَذَا الْوَزْنِ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ كَهُمَزَةٍ وَمَا بَعْدَهُ.

قَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطْنَا الصَّرَعَةَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِسُكُونِهَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ عَكْسُ الْمَطْلُوبِ، قَالَ: وَضُبِطَ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «مَا تَعُدُّونَ الصَّرْعَةَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي لَا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ» " وَعِنْدَ الْبَزَّارِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يَصْطَرِعُونَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: فُلَانٌ مَا يُصَارِعُ أَحَدًا إِلَّا صَرَعَهُ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى

ص: 410

مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟ رَجُلٌ كَلَّمَهُ رَجُلٌ وَكَظَمَ غَيْظَهُ فَغَلَبَهُ وَغَلَبَ شَيْطَانَهُ وَغَلَبَ شَيْطَانُهُ صَاحِبَهُ» " وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا: "«لَيْسَ الشَّدِيدُ مَنْ غَلَبَ النَّاسَ إِنَّمَا الشَّدِيدُ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ» " وَحَدِيثُ الْبَابِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 411

[مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ

1682 -

1632 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بِتَحْتِيَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا زَايٌ (اللِّيثِيِّ) الْمَدَنِيِّ نَزِيلِ الشَّامِ الثِّقَةِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَمِائَةٍ وَقَدْ جَازَ الثَّمَانِينَ.

(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ (الْأَنْصَارِيِّ) الْبَدْرِيِّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ مَاتَ غَازِيًا بِالرُّومِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَقِيلَ: بَعْدَهَا.

( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ» ) كَذَا لِيَحْيَى وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَهْجُرَ (أَخَاهُ) فِي الْإِسْلَامِ ( «فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ» ) بِأَيَّامِهَا وَظَاهِرُهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ الثَّلَاثَ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَضَبٍ وَسُوءِ خُلُقٍ فَسُومِحَ تِلْكَ الْمُدَّةَ، قَالَهُ عِيَاضٌ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ يَزُولُ مِنَ الْمُؤْمِنِ أَوْ يَقِلُّ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ السُّكُوتُ عَنْ حُكْمٍ الثَّلَاثِ لِتَطَلُّبٍ وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ، وَفِي قَوْلِهِ أَخَاهُ إِشْعَارٌ بِالْعَلِيَّةِ ( «يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا» ) عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (وَيُعْرِضُ هَذَا) الْآخَرُ كَذَلِكَ قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَصْلُهُ أَنْ يُولِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ عَرْضَهُ، أَيْ: جَانِبَهُ، انْتَهَى.

وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا» " وَهُمَا بِمَعْنًى، وَيُعْرِضُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ بَيَانٌ لِصِفَةِ الْهَجْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ يَهْجُرُ وَمَفْعُولِهِ مَعًا.

(وَخَيْرُهُمَا) أَيْ: أَفْضَلُهُمَا وَأَكْثَرُهُمَا ثَوَابًا (الَّذِي يَبْدَأُ) أَخَاهُ (بِالسَّلَامِ) لِأَنَّهُ فَعَلَ حَسَنَةً وَتَسَبَّبَ إِلَى فِعْلِ حَسَنَةٍ وَهِيَ الْجَوَابُ، مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ حُسْنِ طَوِيَّتِهِ وَتَرْكِ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْهَجْرِ وَالْجَفَاءِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَا يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَعَلَى أَنَّ الْأُولَى حَالٌ فَهَذِهِ الثَّانِيَةُ عَطْفٌ عَلَى " لَا

ص: 411

يَحِلُّ ".

وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ بِالسَّلَامِ: " «يَسْبِقُ إِلَى الْجَنَّةِ» ".

وَلِأَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ رَدَّ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْهِجْرَةِ» " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَرَفِيقِهِ حَيْثُ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِهَجْرِهِمْ، قَالَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ مِنْ مُكَالَمَةِ أَحَدٍ وَصِلَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ أَوْ يُدْخِلُ عَلَيْهِ مَضَرَّةً فِي دُنْيَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُجَانَبَتُهُ وَبُعْدُهُ، وَرُبَّ هَجْرٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَاطَبَةٍ مُؤْذِيَةٍ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِهِجْرَانِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُسُوقِ وَمُنَابِذِي السُّنَّةِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ هِجْرَانُهُمْ دَائِمًا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ هَجَرَ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَمَعَايِشِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَنَحْوُهُمْ فَهِجْرَانُهُمْ دَائِمٌ انْتَهَى.

وَمَا زَالَتِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ يَهْجُرُونَ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ أَوْ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِهِ مَفْسَدَةٌ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ رَدِّهِ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْمُبْتَدِئَ خَيْرٌ مِنَ الْمُجِيبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ابْتَدَأَ بِتَرْكِ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ مِنَ التَّقَاطُعِ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ الْبَاجِيُّ وَعِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا: وَفِيهِ أَنَّ السَّلَامَ يَخْرُجُ مِنَ الْهِجْرَانِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَكْثَرِينَ.

وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَبْرَأُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا بِعَوْدِهِ إِلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوَّلًا.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَالزُّبَيْدِيُّ وَسُفْيَانُ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَائِلًا بِإِسْنَادِ مَالِكٍ وَمِثْلِ حَدِيثِهِ إِلَّا قَوْلَهُ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا قَالُوا: فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا.

ص: 412

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ»

قَالَ مَالِكٌ لَا أَحْسِبُ التَّدَابُرَ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ فَتُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1683 -

1633 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَبَاغَضُوا» ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِيهِ وَفِي تَالِيَيْهِ، أَيْ: لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ التَّبَاغُضِ وَلَا تَفْعَلُوا الْأَهْوَاءَ الْمُضِلَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّبَاغُضِ وَالتَّجَانُبِ لِأَنَّ التَّبَاغُضَ مُفْسِدٌ لِلدِّينِ.

(وَلَا تَحَاسَدُوا) بِأَنْ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ أَخِيهِ فَإِنْ سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ بَاغِيًا وَإِنْ لَمْ يَسْعَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَسَبَّبَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ عَجْزَهُ بِحَيْثُ لَوْ تَمَكَّنَ فَعَلَ فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ التَّقْوَى فَقَدْ يُعْذَرُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ الْخَوَاطِرِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَيَكْفِيهِ فِي مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ عَدَمُ الْعَمَلِ وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ.

وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مَرْفُوعًا: " «ثَلَاثٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ وَالْحَسَدُ، قِيلَ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ فَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَلَا تَرْجِعْ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ،

ص: 412

وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» " وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ خُلِقَ مَعَهُ الْحَسَدُ فَمَنْ لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ إِلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ لَمْ يَتْبَعْهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ قُومًا عَلَى حَسَدِهِمْ آخَرِينَ فَقَالَ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] [سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 54] وَقَالَ: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] إِلَى قَوْلِهِ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] [سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 32] وَجَاءَ مَرْفُوعًا: "«إِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» " وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا: "«دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ حَالِقَتَا الدِّينِ لَا حَالِقَتَا الشَّعْرِ» " وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ: "«لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ مُوسَى نَجِيًّا رَأَى رَجُلًا مُتَعَلِّقًا بِالْعَرْشِ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي صَالِحٌ إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِعَمَلِهِ، قَالَ: يَا رَبِّ أَخْبِرْنِي، قَالَ: كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: "«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» " وَبِحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: "«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» " اهـ عَلَى أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ غِبْطَةٌ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَهُ عَنْهُ.

(وَلَا تَدَابَرُوا) أَيْ: لَا يُعْرِضُ أَحَدُكُمْ بِوَجْهِهِ عَنْ أَخِيهِ وَيُوَلِّهِ دُبُرَهُ اسْتِثْقَالًا وَبُغْضًا لَهُ بَلْ يُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَبْسُطُ لَهُ وَجْهَهُ مَا اسْتَطَاعَ.

(وَكُونُوا) يَا (عِبَادَ اللَّهِ) فَهُوَ مُنَادَى بِحَذْفِ الْأَدَاةِ (إِخْوَانًا) زَادَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: " كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ "، أَيْ: مُتَوَاخِينَ مُتَوَادِّينَ بِاكْتِسَابِ مَا تَصِيرُونَ بِهِ كَإِخْوَانِ النَّسَبِ فِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالنَّصِيحَةِ.

( «وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ» ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا لِيَحْيَى وَحْدَهُ وَسَائِرُ رُوَاةِ الْمُوَّطَأِ يَقُولُونَ يَهْجُرُ (أَخَاهُ) فِي الْإِسْلَامِ ( «فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ» ) بِأَيَّامِهَا.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا جُوِّزَ فِي الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْمَرْءَ فِي ابْتِدَاءِ الْغَضَبِ مَغْلُوبٌ فَرُخِّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ، زَادَ عِيَاضٌ: وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ السُّكُوتُ عَنْ حُكْمِهَا لِيَطْلُبَ فِي الشَّرْعِ وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، قَالَ الْأُبِّيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَازَ هَجْرُهُ فَوْقَ الثَّلَاثِ، وَالْمُرَادُ بِالْهِجْرَةِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ عَتْبٍ أَوْ مَوْجَدَةٍ، أَيْ: غَضَبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ دُونَ مَا كَانَ فِي جَانِبِ الدِّينِ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ دَائِمًا مَا لَمْ تَظْهَرِ التَّوْبَةُ، وَمَرَّ لَهُ مَزِيدٌ.

ص: 413

(قَالَ مَالِكٌ: لَا أَحْسِبُ التَّدَابُرَ) أَيْ: مَعْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ (إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ) وَتَرْكَ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ وَنَحْوِهِمَا (فَتُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِكَ) لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضْتَهُ أَعْرَضْتَ عَنْهُ وَمَنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ وَلَّيْتَهُ دُبُرَكَ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ هُوَ بِكَ.

وَمَنْ أَحْبَبْتَهُ أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ وَوَاجَهْتَهُ لِتَسُرَّهُ وَيَسُرَّكَ، فَمَعْنَى تَدَابَرُوا وَتَقَاطَعُوا وَتَبَاغَضُوا مَعْنًى مُتَدَاخِلٌ مُتَقَارِبٌ كَالْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي النَّدْبِ إِلَى التَّوَاخِي وَالتَّحَابُبِ، فَبِذَلِكَ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرُهُ لِلْوُجُوبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يُخْرِجُهُ إِلَى النَّدْبِ كَذَا قَالَ أَبُو عُمَرَ، وَظَاهِرُهُ التَّنَافِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْأَمْرِ اهـ، أَيْ: أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ فَيَجِبُ تَرْكُهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ التَّوَاخِي وَالتَّحَابُبُ، قَالَ: وَقَدْ زَادَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مَالِكٍ عَقِبَ قَوْلِهِ «وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَنَافَسُوا» قَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ: لَا أَعْلَمَ أَحَدًا قَالَهَا غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالزُّبَيْدِيُّ وَيُونُسُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَزَادَ:" وَلَا تَقَاطَعُوا " وَمَعْمَرٌ أَرْبَعَتُهُمْ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْخَمْسَةُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 414

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1684 -

1634 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ) كَلِمَةُ تَحْذِيرٍ (وَالظَّنَّ) أَيِ اجْتَنِبُوا ظَنَّ السَّوْءِ بِالْمُسْلِمِ، فَلَا تَتَّهِمُوا أَحَدًا بِالْفَاحِشَةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَالظَّنُّ تُهْمَةٌ تَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِلَا دَلِيلٍ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهُوَ حَرَامٌ كَسُوءِ الْقَوْلِ لَكِنْ لَسْتُ أَعْنِي بِهِ إِلَّا عَقْدَ الْقَلْبِ وَحُكْمَهَ عَلَى غَيْرِهِ بِالسُّوءِ، أَمَّا الْخَوَاطِرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ فَعَفْوٌ بَلِ الشَّكُّ عَفْوٌ أَيْضًا، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الظَّنُّ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا تَرْكَنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ أَنَّ أَسْرَارَ الْقُلُوبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَعْتَقِدَ فِي غَيْرِكَ سُوءًا إِلَّا إِذَا انْكَشَفَتْ لَكَ بِعِيَانٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَعْتَقِدْ إِلَّا مَا عَلِمْتَهُ وَشَاهَدْتَهُ أَوْ تَسْمَعُهُ، ثُمَّ يُوقَعُ فِي قَلْبِكَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِيهِ إِلَيْكَ، فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُكَذِّبَهُ فَإِنَّهُ أَفْسُقُ الْفُسَّاقِ اهـ.

وَقَالَ الْعَارِفُ زَرُوقٌ: إِنَّمَا يَنْشَأُ الظَّنُّ الْخَبِيثُ عَنِ الْقَلْبِ الْخَبِيثِ لَا فِي جَانِبِ الْحَقِّ وَلَا فِي جَانِبِ الْخُلُقِ كَمَا قِيلَ:

ص: 414

إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عَدُوِّهِ وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ (فَإِنَّ الظَّنَّ) أَقَامَ الْمُظْهَرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ لِزِيَادَةِ تَمْكِينِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي ذِكْرِ السَّامِعِ حَثًّا عَلَى الِاجْتِنَابِ.

( «أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» ) أَيْ: حَدِيثِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَاسْتُشْكِلَ تَسْمِيَتُهُ كَذِبًا بِأَنَّ الْكَذِبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ، سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَمْ لَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَنْشَأُ عَنِ الظَّنِّ فَوُصِفَ الظَّنُّ بِهِ مَجَازًا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ غَالِبًا، بَلِ الْمُرَادُ تَرْكُ تَحْقِيقِ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِلَا دَلِيلٍ وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِلَ الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ:" «تَجَاوَزَ اللَّهُ لِلْأُمَّةِ بِمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا» " وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا التُّهْمَةُ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا كَمَنْ يَتَّهِمُ رَجُلًا بِالْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِيهَا وَلِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " وَلَا تَجَسَّسُوا " وَذَلِكَ أَنَّ الشَّخْصَ يَقَعُ لَهُ خَاطِرُ التُّهْمَةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فَيَتَجَسَّسُ وَيَبْحَثُ وَيَسْتَمِعُ فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12][سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: الْآيَةُ 12] الْآيَةَ، فَدَلَّ سِيَاقُهَا عَلَى الْأَمْرِ بِصَوْنِ عِرْضِ الْمُسْلِمِ غَايَةَ الصِّيَانَةِ لِتَقَدُّمِ النَّهْيِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ بِالظَّنِّ، فَإِنْ قَالَ الظَّانُّ: أَبْحَثُ لِأَتَحَقَّقَ، قِيلَ لَهُ:{وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] فَإِنْ قَالَ: تَحَقَّقْتُهُ مِنْ غَيْرِ تَجْسِيسٍ، قِيلَ لَهُ:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] .

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ قَوْمٌ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَحَمَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ظَنٍّ مُجَرَّدٍ عَنِ الدَّلِيلِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ وَلَا تَحْقِيقِ نَظَرٍ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ بِالظَّنِّ الِاجْتِهَادَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَحْكَامِ أَصْلًا بَلِ الِاسْتِدْلَالُ لَهُ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ضَعْفَهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا بُطْلَانُهُ فَلَا لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ.

وَقَدْ قَرَّبَهُ فِي الْمُفْهِمِ وَقَالَ: الظَّنُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لَيْسَ مُرَادًا مِنَ الْحَدِيثِ وَلَا مِنَ الْآيَةِ، فَلَا يُلْتَفَتُ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى إِنْكَارِ الظَّنِّ الشَّرْعِيِّ.

(وَلَا تَحَسَّسُوا) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ.

(وَلَا تَجَسَّسُوا) بِالْجِيمِ وَرَوَى بِتَقْدِيمِهَا عَلَى الْحَاءِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، هُمَا لَفْظَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْبَحْثُ وَالتَّطَلُّبُ لِمَعَايِبِ النَّاسِ وَمُسَاوِيهِمْ إِذَا غَابَتْ وَاسْتَتَرَتْ لَمْ يَحِلَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا، وَلَا يَكْشِفُ عَنْ خَبَرِهَا، وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِكَ حَسَّ الشَّيْءَ، أَيْ: أَدْرَكَهُ بِحَسِّهِ وَجَسِّهِ مِنَ الْمِحَسَّةِ وَالْمِجَسَّةِ، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:

ص: 415

ذِكْرُ الثَّانِي لِلتَّوْكِيدِ كَقَوْلِهِمْ بُعْدًا وَسُحْقًا.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُ الَّتِي بِالْحَاءِ مِنَ الْحَاسَّةِ إِحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَبِالْجِيمِ مِنَ الْجَسِّ بِمَعْنَى اخْتِبَارِ الشَّيْءِ بِالْيَدِ وَهِيَ إِحْدَى الْحَوَاسِّ فَتَكُونُ الَّتِي بِالْحَاءِ أَعَمَّ.

وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنِ الْعَوْرَاتِ وَبِالْحَاءِ اسْتِمَاعُ حَدِيثِ الْقَوْمِ، وَقِيلَ: بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ، وَبِالْحَاءِ الْبَحْثُ عَمَّا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْعَيْنِ أَوِ الْأُذُنِ وَرَجَّحَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ.

وَقِيلَ: بِالْحَاءِ تَتَبُّعُ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ وَبِالْجِيمِ لِغَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ ثَعْلَبٌ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: التَّجَسُّسُ بِالْجِيمِ تَطَلَّبُ أَخْبَارِ النَّاسِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْإِمَامِ الَّذِي رُتِّبَ لِمَصَالِحِهِمْ وَأُلْقِيَ إِلَيْهِ زِمَامُ حِفْظِهِمْ، فَأَمَّا عِرْضُ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا لِغَرَضِ مُصَاهَرَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ رِفَاقَةٍ فِي سَفَرٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الِامْتِزَاجِ، وَأَمَّا بِالْحَاءِ فَطَلَبُ الْخَبَرِ الْغَائِبِ لِلشَّخْصِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لِسِوَاهُ.

وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ أَهْلِهَا بِهَا إِلَّا إِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذِ نَفْسٍ مِنَ الْهَلَاكِ مَثَلًا كَإِخْبَارِ ثِقَةٍ بِأَنَّ فَلَانًا خَلَا بِشَخْصٍ لِيَقْتُلَهُ ظُلْمًا أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيُشْرَعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّجَسُّسُ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهِ.

(وَلَا تَنَافَسُوا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنَ الْمُنَافَسَةِ وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ: لَا تَتَنَافَسُوا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا إِنَّمَا التَّنَافُسُ فِي الْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26][سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: الْآيَةُ 26] وَكَأَنَّ الْمُنَافَسَةَ هِيَ الْغِبْطَةُ وَأَبْعَدَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْحَسَدِ ; لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: (وَلَا تَحَاسَدُوا) أَيْ: لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: التَّنَافُسُ هُوَ التَّحَاسُدُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّهُ يَتَمَيَّزُ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَبَبُهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمُرَادُ التَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا وَمَعْنَاهُ طَلَبُ الظُّهُورِ فِيهَا عَلَى النَّاسِ وَالتَّكَبُّرُ عَلَيْهِمْ وَمُنَافَسَتُهُمْ فِي رِيَاسَتِهِمْ وَالْبَغْيُ عَلَيْهِمْ وَحَسَدُهُمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْهَا، وَأَمَّا التَّنَافُسُ وَالْحَسَدُ عَلَى الْخَيْرِ وَطُرُقِ الْبِرِّ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ.

(وَلَا تَبَاغَضُوا) أَيْ: لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ ; لِأَنَّ الْبُغْضَ لَا يُكْتَسَبُ ابْتِدَاءً.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبَاغُضِ.

قَالَ الْحَافِظُ: بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَهْوَاءِ ; لِأَنَّ تَعَاطِيَ الْأَهْوَاءِ ضَرْبٌ مِنْ ذَلِكَ، وَحَقِيقَةُ التَّبَاغُضِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ يُطْلَقُ إِذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ فِي غَيْرِ اللَّهِ، أَمَّا فِي اللَّهِ فَوَاجِبٌ يُثَابُ فَاعِلُهُ لِتَعْظِيمِ حَقِّ اللَّهِ وَلَوْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ، كَمَنْ يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى اعْتِقَادٍ يُنَافِي الْآخَرَ فَيَبْغَضُهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ.

(وَلَا تَدَابَرُوا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا تَتَهَاجَرُوا فَيَهْجُرُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَوْلِيَةِ الرَّجُلِ الْآخَرَ دُبُرَهُ إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ حِينَ يَرَاهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ مُدَابَرَةٌ لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضَ أَعْرَضَ وَمَنْ أَعْرَضَ وَلَّى دُبُرَهُ وَالْمُحِبُّ بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا

ص: 416

يَسْتَأْثِرُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْآخَرِ، وَقِيلَ: لِلْمُسْتَأْثِرِ مُسْتَدْبِرٌ لِأَنَّهُ يُوَلِّي دُبُرَهُ حَتَّى يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ دُونَ الْآخَرِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَعْنَى التَّدَابُرِ الْمُعَادَاةُ، تَقُولُ دَابَرْتُهُ، أَيْ: عَادَيْتُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَتَخَاذَلُوا بَلْ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذِهِ أُمُورٌ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ فَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهَا فَيُصْرَفُ النَّهْيُ إِلَى أَسْبَابِهَا، أَيْ: لَا تَفْعَلُوا مَا يُوجِبُ ذَلِكَ.

( «وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اكْتَسِبُوا مَا تَصِيرُونَ بِهِ كَإِخْوَانِ النَّسَبِ فِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَلَعَلَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ " هَذِهِ الْأَوَامِرُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَعَانِي الْأُخُوَّةِ وَنَسَبُهَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنَّ إِخْوَانًا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَأَنَّهُ بَدَلٌ وَأَنَّهُ الْخَبَرُ، وَ " عِبَادَ اللَّهِ " مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْقَعُ، يَعْنِي أَنْتُمْ مُسْتَوُونَ فِي كَوْنِكُمْ عَبِيدَ اللَّهِ وَمِلَّتُكُمْ وَاحِدَةً، وَالتَّبَاغُضُ وَمَا مَعَهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ، وَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونُوا إِخْوَانًا مُتَوَاصِلِينَ مُتَآلِفِينَ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: انْتَصَبَ عِبَادَ اللَّهِ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ حُذِفَ حَرْفُهُ وَإِخْوَانًا خَبَرٌ، وَيَجُوزُ أَنَّهُمَا خَبَرَانِ، وَيَجُوزُ أَنَّ الْخَبَرَ عِبَادَ اللَّهِ، وَإِخْوَانًا حَالٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ لَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَا تَنَاجَشُوا بَدَلَ قَوْلِهِ وَلَا تَنَافَسُوا، وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ عِيَاضٌ: النَّجْشُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ ذَمِّ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَقِيلَ: النَّجْشُ التَّنْفِيرُ نَجَشَ الصَّيْدَ نَفَّرَهُ، وَالنَّجْشُ أَيْضًا الْإِطْرَاءُ، فَمَعْنَى لَا تَنَاجَشُوا لَا يُنَافِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَيْ: لَا يُعَامِلُهُ مِنَ الْقَوْلِ بِمَا يُنَفِّرُهُ كَمَا يُنَفِّرُ الصَّيْدَ بَلْ يُسْكِنُهُ وَيُؤْنِسُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةٍ:" «وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» " وَهَذَا يُوَافِقُ مَعْنَى الْمُنَاجَشَةِ فِي الْبَيْعِ، وَيَكُونُ مِنَ الزِّيَادَةِ أَوْ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْ سِلْعَةِ غَيْرِهِ بِإِطْرَاءِ سِلْعَتِهِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَعْلُهُ مِنَ النَّجْشِ فِي الْبَيْعِ بَعِيدٌ لِأَنَّ تَنَاجَشُوا تَفَاعَلُوا وَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالنَّجْشُ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَاحِدٍ فَافْتَرَقَا.

ص: 417

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1685 -

1635 - (مَالِكٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ عَبْدِ اللَّهِ) وَقِيلَ: مَيْسَرَةُ (الْخُرَاسَانِيِّ) ابْنِ عُثْمَانَ صَدُوقٌ لَكِنَّهُ يَهِمُ وَيُرْسِلُ وَيُدَلِّسُ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَحَسْبُكَ بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ (قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَافَحُوا» ) مُفَاعَلَةٌ

ص: 417

مِنَ الصَّفْحِ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْإِفْضَاءُ بِصَفْحَةِ الْيَدِ إِلَى صَفْحَةِ الْيَدِ، قَالَهُ الْحَافِظُ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُصَافَحَةُ الْأَخْذُ بِالْيَدِ، وَفِي الْمَشَارِقِ: الْمُصَافَحَةُ بِالْأَيْدِي عِنْدَ السَّلَامِ وَاللِّقَاءِ وَهِيَ ضَرْبُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ (يَذْهَبِ) بِكَسْرِ الْبَاءِ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ حُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَبِالرَّفْعِ، أَيْ: فَبِهِ يَذْهَبُ (الْغِلُّ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ الْحِقْدُ وَالضَّغَانَةُ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ مَالِكٌ هَكَذَا مُعْضَلًا، وَقَدْ أُسْنِدَ مِنْ طُرُقٍ فِيهَا مَقَالٌ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ مِنْ قُلُوبِكُمْ» " وَإِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ عَنْكُمْ» " فَقَوْلُ السُّيُوطِيِّ: فِي الْمُصَافَحَةِ أَحَادِيثُ مَوْصُولَةٌ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ عَجِيبٌ مَعَ أَنَّهُ نَفْسَهُ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: حَدِيثُ مَالِكٍ جَيِّدٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا يَتَّصِلُ مِنْ وُجُوهٍ شَتًّى حِسَانٍ كُلِّهَا، ثُمَّ ذَكَرَهُ بِأَسَانِيدِهِ جُمْلَةً مِنْهَا فِي الْمُصَافَحَةِ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، فَكَأَنَّ السُّيُوطِيَّ اغْتَرَّ بِهِ وَغَفَلَ عَمَّا فِي جَامِعِهِ وَالْكَمَالُ لِلَّهِ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ وَغَيْرُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ خِلَافُهُ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى مَا فِي الْمُوَّطَأِ وَعَلَى جَوَازِهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَفِيهِ آثَارٌ حِسَانٌ، (وَتَهَادَوْا) بِفَتْحِ الدَّالِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ تَحَابُّوا، قَالَ الْحَافِظُ لِلْحَاكِمِ: إِنْ كَانَ بِالتَّشْدِيدِ فَمِنَ الْمَحَبَّةِ وَإِنْ كَانَ بِالتَّخْفِيفِ فَمِنَ الْمُحَابَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحَثَّ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُمُ الْأَوْلِيَاءُ تُؤَلِّفُ الْقُلُوبَ وَتَنْفِي سَخَائِمِ الصُّدُورِ، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ سُنَّةٌ لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ مَا فِيهِ مِنَّةٌ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو يَعْلَى وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُنَى وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «تَهَادَوْا (تَحَابُّوا وَتَذْهَبِ الشَّحْنَاءُ) » بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَنُونٍ وَالْمَدِّ، الْعَدَاوَةُ ; لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ جَالِبَةٌ لِلرِّضَا وَالْمَوَدَّةِ فَتُذْهِبُ الْعَدَاوَةَ.

وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» " بِوَاوٍ فَمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ فِرَاءٍ، أَيْ: غِلَّهُ وَغِشَّهُ وَحِقْدَهُ.

وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ بِالسَّخِيمَةِ» " قَالَ يُونُسُ بْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْغِلُّ.

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَهَادَوْا فَإِنَّهُ يُضَعِّفُ الْوُدَّ وَيُذْهِبُ بِغَوَائِلِ الصَّدْرِ» " وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَحْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهِ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَكُنْ بِالرَّضِيِّ وَلَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ وَلَا عَنِ الزُّهْرِيِّ انْتَهَى.

لَكِنَّ لَهُ شَوَاهِدَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ وَدَّاعٍ الْخُزَاعِيَّةِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُضَعِّفُ الْحُبَّ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ» " وَتُضَعِّفُ بِالتَّثْقِيلِ، أَيْ: تُزِيدُهُ وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:

ص: 418

هَدَايَا النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ

تُوَلِّدُ فِي قُلُوبِهِمُ الْوِصَالَا

وَتَزْرَعُ فِي الضَّمِيرِ هَوًى وَوُدًّا

وَتَكْسُوهُمْ إِذَا حَضَرُوا جَمَالَا

وَقَالَ آخَرُ:

إِنَّ الْهَدَايَا لَهَا حِفْظٌ إِذَا وَرَدَتْ

أَحْظَى مِنَ الِابْنِ عِنْدَ الْوَالِدِ الْحَدْبُ

وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: " «اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ فَتَمَارَوْا فِي أَشْيَاءَ فَقَالَ عَلِيٌّ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسْأَلْهُ، فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ سَلُونِي، وَإِنْ شِئْتُمْ أَخْبَرْتُكُمْ بِمَا جِئْتُمْ لَهُ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا، قَالَ: جِئْتُمْ تَسْأَلُونِي عَنِ الصَّنِيعَةِ لِمَنْ تَكُونُ؟ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلَّا لِذِي حَسَبٍ أَوْ دِينٍ، وَجِئْتُمْ تَسْأَلُونِي عَنِ الرِّزْقِ يَجْلِبُهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فَاسْتَنْزِلُوهُ بِالصَّدَقَةِ، وَجِئْتُمْ تَسْأَلُونِي عَنْ جِهَادِ الضَّعِيفِ، وَجِهَادُ الضَّعِيفِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَجِئْتُمْ تَسْأَلُونِي عَنْ جِهَادِ الْمَرْأَةِ، وَجِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ لِزَوْجِهَا، وَجِئْتُمْ تَسْأَلُونِي عَنِ الرِّزْقِ مِنْ أَيْنَ أَتَى وَكَيْفَ يَأْتِي؟ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» " قَالَ أَبُو عُمَرَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ لَكِنَّهُ مُنْكَرٌ عَنْ مَالِكٍ عِنْدَهُمْ وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ وَلَا لَهُ أَصْلٌ فِي حَدِيثِهِ انْتَهَى.

وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّ مَتْنَهُ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ الْمَذْكُورُ لَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ وَإِلَّا فَالْجَمْعُ بَيْنَ حَسَنٍ وَبَيْنَ مُنْكَرٍ لَا يَصِحُّ تَنَافٍ، أَوْ مُرَادُهُ حُسْنُ اللَّفْظِ وَهُوَ بَعِيدٌ.

ص: 419

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1686 -

1636 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ) بِضَمِّ السِّينِ مُصَغَّرٌ (ابْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ) ذَكْوَانَ السَّمَّانِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ» ) يُحْتَمَلُ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْجَنَّةَ مَغْلُوقَةٌ وَفَتْحُ أَبْوَابِهَا مُمْكِنٌ وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْمَغْفِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ وَكَتْبِ الدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْفَتْحُ حَقِيقَةٌ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى التَّأْوِيلِ وَيَكُونُ فَتْحُهَا تَأَهُّبًا مِنَ الْخَزَنَةِ لِمَنْ يَمُوتُ يَوْمَئِذٍ مِمَّنْ غَفَرَ لَهُ أَوْ يَكُونُ عَلَامَةً لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ فِي ذَيْنِكَ الْيَوْمَيْنِ ( «يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ» ) فِيهِ فَضَّلَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيَّامِ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُمَا وَيَنْدُبُ أُمَّتَهُ إِلَى صِيَامِهِمَا وَكَانَ يَتَحَرَّاهُمَا بِالصِّيَامِ، وَأَظُنُّ هَذَا الْخَبَرَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى طَائِفَةٍ كَانَتْ تَصُومُهُمَا تَأْكِيدًا عَلَى لُزُومِ ذَلِكَ كَذَا قَالَ أَبُو عُمَرَ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ» "(فَيُغْفَرُ) فِيهِمَا

ص: 419

( «لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» ) ذُنُوبُهُ الصَّغَائِرُ بِغَيْرِ وَسِيلَةِ طَاعَةٍ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِحَدِيثِ " «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُمَا مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» "(إِلَّا رَجُلًا) لِأَنَّهَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كَلَامٍ مُوجَبٍ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ، قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَلَى الرَّفْعِ الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: لَا يَبْقَى ذَنْبُ أَحَدٍ إِلَّا ذَنْبَ رَجُلٍ وَهُوَ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ وَالْمُرَادُ إِنْسَانٌ ( «كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ» ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ، أَيْ: عَدَاوَةٌ (فَيُقَالُ أَنْظِرُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يَعْنِي يَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ النَّازِلَةِ بِهَدَايَا الْمَغْفِرَةِ أَخِّرُوا وَأَمْهِلُوا (هَذَيْنِ) أَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَدَلَ الضَّمِيرِ لِمَزِيدِ التَّنْفِيرِ، وَالتَّعْبِيرُ يَعْنِي لَا تُعْطُوا مِنْهَا أَنْصِبَاءَ رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ (حَتَّى) تَرْتَفِعَ وَ (يَصْطَلِحَا) وَلَوْ بِمُرَاسَلَةٍ عِنْدَ الْبُعْدِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مَنْ يُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ أَنْظِرُوا كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا غَفَرَ لِلنَّاسِ سِوَاهُمَا قِيلَ ( «أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» ) وَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ التَّحْذِيرُ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَإِدَامَةِ الْهَجْرِ، قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَلَمْ يَقْبَلْ غُفِرَ لِلْمُصَالِحِ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: إِذَا كَانَ الْهَجْرُ لِلَّهِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَجَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَابْنَ عُمَرَ هَجَرَ ابْنًا لَهُ حَتَّى مَاتَ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ أَنَّ الشَّحْنَاءَ مِنَ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْكَبَائِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ اسْتَثْنَى غُفْرَانَهَا وَخَصَّهَا بِذَلِكَ؟ وَأَنَّ ذُنُوبَ الْعِبَادِ إِذَا وَقَعَ بَيْنَهُمُ الْمَغْفِرَةُ وَالتَّجَاوُزُ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ حَتَّى يَصْطَلِحَا فَإِذَا اصْطَلَحَا غَفَرَ لَهُمَا ذَلِكَ وَغَيْرَهُ مِنْ صَغَائِرِ ذُنُوبِهِمَا انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ سُهَيْلٍ لَكِنْ قَالَ: إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ وَوَهِمَ مَنْ عَزَاهُ لَهُ.

ص: 420

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا عَبْدًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا أَوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1687 -

1637 - (مَالِكٌ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ) وَاسْمُهُ يَسَارٌ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى الْأَنْصَارِ تَابِعِيُّ صَغِيرٌ ثِقَةٌ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (السِّمَّانِ) بَائِعِ السَّمْنِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَذَا وَقَفَهُ يَحْيَى وَجُمْهُورُ الرُّوَاةِ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَهُوَ تَوْقِيفٌ بِلَا شَكٍّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِهِ فَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ، فَقَالَ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:

ص: 420

( «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ» ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ تَرْتِيبِهِ الْمَغْفِرَةَ عَلَى الْعَرْضِ وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ لَا ذَنْبَ لَهُ يُغْفَرُ ( «كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ» ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَرَادَ بِالْجُمُعَةِ الْأُسْبُوعَ فَعَبَّرَ عَنِ الشَّيْءِ بِآخِرِهِ وَمَا يَتِمُّ بِهِ وَيُوجَدُ عِنْدَهُ وَالْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ مَلَكٌ يُوَكِّلُهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ صُحُفِ الْأَعْمَالِ وَضَبْطِهَا انْتَهَى.

وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بِأَنَّ الْعَرْضَ عَلَى اللَّهِ. . . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجُمُعَةِ يَوْمَهَا لِمُنَافَاتِهِ لِقَوْلِهِ: ( «يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ» ) وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْعَرْضُ قَدْ يَكُونُ بِنَقْلِ الْأَعْمَالِ مِنْ صَحَائِفِ الْحَفَظَةِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ، وَلَعَلَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29][سُورَةُ الْجَاثِيَةِ: الْآيَةُ 29] قَالَ الْحَسَنُ: الْخَزَنَةُ تَسْتَنْسِخُ مِنَ الْحَفَظَةِ وَقَدْ يَكُونُ الْعَرْضُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ لِيُبَاهِيَ سُبْحَانَهُ بِصَالِحِ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ الْمَلَائِكَةَ كَمَا يُبَاهِيهِمْ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، وَقَدْ يَكُونُ لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ الْمَقْبُولَ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنَ الْمَرْدُودِ كَمَا جَاءَ:" «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَصْعَدُ بِصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ لِتَعْرِضَهَا عَلَى اللَّهِ فَيَقُولُ ضَعُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: وَعِزَّتِكَ مَا عَلِمْنَا إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ لِغَيْرِي وَلَا أَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجِهِي» "( «فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدِ مُؤْمِنٍ» ) ذُنُوبَهُ الْمَعْرُوضَةَ عَلَيْهِ (إِلَّا عَبْدًا) بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كَلَامٍ مُوجَبٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَبْدٌ بِالرَّفْعِ وَتَقْدِيرُهُ فَلَا يُحْرَمُ أَحَدٌ مِنَ الْغُفْرَانِ إِلَّا عَبْدٌ، وَمِنْهُ:" فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ " بِالرَّفْعِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ.

( «كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ: يَرْجِعَا عَمَّا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالتَّبَاغُضِ إِلَى الصُّلْحِ، وَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَدَلَ الضَّمِيرِ لِمَزِيدِ التَّعْيِيرِ وَالتَّنْفِيرِ (أَوْ) قَالَ ( «أَرْكُوا» ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، أَيْ: أَخِّرُوا (هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا) شَكَّ الرَّاوِي، يُقَالُ: أَرْكَيْتُ الشَّيْءَ أَخَّرْتُهُ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثُ مَا صَحَّ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ» "، قَالَ الْوَالِيُّ الْعِرَاقِيُّ: لِاحْتِمَالِ عَرْضِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهِ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، ثُمَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ فَتُعْرَضُ عَرْضًا بَعْدَ عَرْضٍ، وَلِكُلِّ عَرْضٍ حِكْمَةٌ يَسْتَأْثِرُ بِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ خَافِيَةٌ أَوْ عَلَيْهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُعْرَضُ فِي الْيَوْمِ تَفْصِيلًا وَفِي الْجُمُعَةِ إِجْمَالًا أَوْ عَكْسُهُ انْتَهَى.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ وَعَمْرُو بْنُ سَوَّارٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ فَذَكَرَهُ مَرْفُوعًا بِهِ، وَتَابَعُهُ سُفْيَانُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ.

ص: 421

[باب الملابس]

[مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ لِلْجَمَالِ بِهَا]

كِتَابُ اللُّبَاسِ

باب مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ لِلْجَمَالِ بِهَا

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي أَنْمَارٍ قَالَ جَابِرٌ فَبَيْنَا أَنَا نَازِلٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ إِلَى الظِّلِّ قَالَ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُمْتُ إِلَى غِرَارَةٍ لَنَا فَالْتَمَسْتُ فِيهَا شَيْئًا فَوَجَدْتُ فِيهَا جِرْوَ قِثَّاءٍ فَكَسَرْتُهُ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا قَالَ فَقُلْتُ خَرَجْنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ جَابِرٌ وَعِنْدَنَا صَاحِبٌ لَنَا نُجَهِّزُهُ يَذْهَبُ يَرْعَى ظَهْرَنَا قَالَ فَجَهَّزْتُهُ ثُمَّ أَدْبَرَ يَذْهَبُ فِي الظَّهْرِ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ لَهُ قَدْ خَلَقَا قَالَ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ فَقَالَ أَمَا لَهُ ثَوْبَانِ غَيْرُ هَذَيْنِ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ ثَوْبَانِ فِي الْعَيْبَةِ كَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا قَالَ فَادْعُهُ فَمُرْهُ فَلْيَلْبَسْهُمَا قَالَ فَدَعَوْتُهُ فَلَبِسَهُمَا ثُمَّ وَلَّى يَذْهَبُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَهُ ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَهُ أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا لَهُ قَالَ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَقُتِلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

48 -

كِتَابُ اللُّبَاسِ

1 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ لِلْجَمَالِ بِهَا

1688 -

1638 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ) الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي أَنْمَارٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ فَمِيمٍ فَأَلِفٍ فَرَاءٍ بِنَاحِيَةِ نَجْدٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهِيَ غَزْوَةُ غَطَفَانَ، وَتُعْرَفُ بِذِي أَمَرٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَسَبَبُهَا أَنَّ جَمْعًا مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ وَمُحَارِبَ تَجَمَّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْ أَطْرَافِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ هَرَبُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فِرَقًا مِمَّنْ نُصِرَ بِالرُّعْبِ فَرَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا (قَالَ جَابِرٌ: فَبَيْنَا) بِلَا مِيمٍ (أَنَا نَازِلٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ) أَيْ: أَقْبِلْ (إِلَى الظِّلِّ) وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ إِذَا رَأَوْا شَجَرَةً ظَلِيلَةً تَرَكُوهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ دَابَّتِهِ تَحْتَ ظِلِّ الشَّجَرَةِ (فَقُمْتُ إِلَى غِرَارَةٍ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ شِبْهُ الْعَدْلِ وَجَمْعُهَا غَرَائِرُ (لَنَا فَالْتَمَسْتُ) طَلَبْتُ (فِيهَا شَيْئًا) يُؤْكَلُ أُقَدِّمُهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم (فَوَجَدْتُ فِيهَا جِرْوَ) بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَضَمُّهَا لُغَةٌ (قِثَّاءٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَكْثَرَ مِنْ ضَمِّهَا، فَمُثَلَّثَةٍ ثَقِيلَةٍ وَمَدٍّ، اسْمٌ لِمَا يَقُولُ لَهُ النَّاسُ الْخِيَارُ وَالْعَجُّورُ وَالْفَقُّوسُ وَبَعْضُهُمْ يُطْلِقُهُ عَلَى نَوْعٍ يُشْبِهُ الْخِيَارَ، قَالَ الْبَاجِيُّ: هِيَ الصَّحِيحَةُ، وَقِيلَ: الْمُسْتَطِيلَةُ، وَقِيلَ: الصَّغِيرَةُ، وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ: الْجِرْوُ صِغَارُ الْقِثَّاءِ وَالرُّمَّانِ (فَكَسَرْتُهُ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: خَرَجْنَا

ص: 422

بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَ الْمَدِينَةِ) قَالَ جَابِرٌ: (وَعِنْدَنَا صَاحِبٌ لَنَا) لَمْ يُسَمَّ (نُجَهِّزُهُ يَذْهَبُ يَرْعَى ظَهْرَنَا) أَيْ: دَوَابَّنَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا يُرْكَبُ عَلَى ظُهُورِهَا أَوْ لِكَوْنِهَا يُسْتَظْهَرُ بِهَا وَيُسْتَعَانُ عَلَى السَّفَرِ.

(قَالَ) جَابِرٌ: (فَجَهَّزْتُهُ ثُمَّ أَدْبَرَ يَذْهَبُ فِي الظَّهْرِ) يَرْعَاهُ (وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ لَهُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ تَثْنِيَةُ بُرْدٍ ثَوْبٌ مُخَطَّطٌ أَكْسِيَةٌ يُلْتَحَفُ بِهَا الْوَاحِدَةُ بِهَاءٍ وَجَمْعُهُ أَبْرَادٌ وَأَبْرُدٌ وَبُرُودٌ (قَدْ خَلَقَا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ، أَيْ: بَلِيَا (قَالَ: فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ فَقَالَ: أَمَا) بِالْفَتْحِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ (لَهُ ثَوْبَانِ غَيْرُ هَذَيْنِ؟) الْبُرْدَيْنِ الْخَلِقَيْنِ (فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ ثَوْبَانِ فِي الْعَيْبَةِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَمُوَحَّدَةٍ مُسْتَوْدَعُ الثِّيَابِ (كَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا، قَالَ: فَادْعُهُ فَمُرْهُ فَلْيَلْبَسْهُمَا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ: فَدَعَوْتُهُ فَلَبِسَهُمَا (ثُمَّ وَلَّى يَذْهَبُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَهُ) يَلْبَسُ الْخَلِقَيْنِ مَعَ تَيَسُّرِ الْجَدِيدَيْنِ وَوُجُودِهِمَا عِنْدَهُ (ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَهُ أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا لَهُ؟) أَنْكَرَ عَلَيْهِ بَذَاذَتَهُ لِمَا يُؤَدِّي إِلَى ذِلَّتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " «الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَمَعْنَاهُ إِنْ قَصَدَ بِهَا تَوَاضُعًا وَزُهْدًا وَكَفَّ نَفْسٍ عَنْ فَخْرٍ وَتَكَبُّرٍ لَا إِظْهَارَ فَقْرٍ وَصِيَانَةِ مَالٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ إِثْبَاتُ التَّوَاضُعِ لِلْمُؤْمِنِ كَمَا وَرَدَ:" «الْمُؤْمِنُ مُتَوَاضِعٌ وَلَيْسَ بِذَلِيلٍ» "(قَالَ: فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ) يَقُولُ ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَهُ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ إِنْكَارِ أَمْرٍ وَلَا تُرِيدُ بِهَا الدُّعَاءَ عَلَى مَنْ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا تَيَقَّنَ الرَّجُلُ وُقُوعَ مَا يَقُولُهُ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟) أَيِ الْجِهَادِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ) جَابِرٌ (فَقُتِلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَهَذَا مِنْ عَظِيمِ الْآيَاتِ.

ص: 423

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى الْقَارِئِ أَبْيَضَ الثِّيَابِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1688 -

1639 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى الْقَارِئِ) أَيِ

ص: 423

الْعَالِمِ (أَبْيَضَ الثِّيَابِ) أَيْ: أَسْتَحِبُّ لِأَهْلِ الْعِلْمِ حُسْنَ الزِّيِّ وَالتَّجَمُّلِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

ص: 424

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1690 -

1640 - (مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ) كَيْسَانَ السِّخْتِيَانِيِّ الْبَصْرِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) الْأَنْصَارِيِّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ (قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) الرِّزْقَ (فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ لَالٍ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَخَذَ عَنِ اللَّهِ أَدَبًا حَسَنًا إِذَا وَسَّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ عَلَى نَفْسِهِ» "(جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ) خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ يَعْنِي لِيَجْمَعْ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَلَامٌ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ فَحَسَنٌ، وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟ " ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقِبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ، وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ» .

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ فَأُدْمِجَ الْمَوْقُوفُ فِي الْمَرْفُوعِ وَلَمْ يُذْكَرْ عُمَرُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَافَقَ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَرَوَاهُ عَنْ أَيُّوبَ وَهُشَامٍ وَحَبِيبٍ وَعَاصِمٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ ابْنِ عُلَيَّةَ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى رَفْعِهِ وَحَذَفَ الْبَاقِي، وَهُوَ مِنْ حُسْنِ تَصَرُّفِهِ.

ص: 424

[مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ وَالذَّهَبِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَلْبَسُ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْمِشْقِ وَالْمَصْبُوغَ بِالزَّعْفَرَانِ

قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْغِلْمَانُ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ فَأَنَا أَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ الْكَبِيرِ مِنْهُمْ وَالصَّغِيرِ

قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ فِي الْمَلَاحِفِ الْمُعَصْفَرَةِ فِي الْبُيُوتِ لِلرِّجَالِ وَفِي الْأَفْنِيَةِ قَالَ لَا أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَرَامًا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ اللِّبَاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ وَالذَّهَبِ

1691 -

1641 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَلْبَسُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ (الثَّوْبَ

ص: 424

الْمَصْبُوغَ بِالْمِشْقِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَقَافٍ أَيِ الْمُغْرَةِ (وَالْمَصْبُوغَ بِالزَّعْفَرَانِ) عَمَلًا بِمَا رَوَاهُ - أَعْنِي: ابْنَ عُمَرَ - قَالَ: " «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ ثِيَابَهُ حَتَّى عِمَامَتَهُ» " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ:" «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» " وَفِي أَنَّ النَّهْيَ لِلَوْنِهِ أَوْ لِرَائِحَتِهِ تَرَدُّدٌ لِأَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ، وَفَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوِ النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى تَزَعْفُرِ الْجَسَدِ لَا الثَّوْبِ، أَوْ عَلَى الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِأَنَّهُ مِنَ الطِّيبِ وَقَدْ نُهِيَ الْمُحْرِمُ عَنْهُ.

(مَالِكٌ: وَأَنَا أَكْرَهُ) تَنْزِيهًا (أَنْ يَلْبَسَ الْغِلْمَانُ) غَيْرُ الْبَالِغِينَ (شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ لِأَنَّهُ بَلَغَنِي) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ» ) أَيْ: لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ: «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى رِجَالِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ» " (وَأَنَا أَكْرَهُهُ لِلرَّجُلِ الْكَبِيرِ) الْبَالِغِ (مِنْهُمْ) كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ (وَالصَّغِيرِ) تَنْزِيهًا.

(مَالِكٌ: فِي الْمَلَاحِفِ) جَمْعُ مِلْحَفَةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْمُلَاءَةُ الَّتِي يُلْتَحَفُ بِهَا (الْمُعَصْفَرَةِ) الْمَصْبُوغَةِ بِالْعُصْفُرِ (فِي الْبُيُوتِ لِلرِّجَالِ وَفِي الْأَفْنِيَةِ) أَيْ: أَفْنِيَةِ الدُّورِ (قَالَ: لَا أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَرَامًا وَ) لَكِنَّ (غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ اللِّبَاسِ) الَّذِي لَا عُصْفُرَ فِيهِ أَحَبُّ إِلَيَّ وَمُقْتَضَاهُ الْإِبَاحَةُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَفْنِيَةِ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْمَحَافِلِ وَالْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهَا.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْهُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَالْكَرَاهَةُ مُطْلَقًا وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ الثَّوْبَ الْمُعَصْفَرَ الْمُقْدَمِ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، وَالْمُقْدَمُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْقَوِيُّ الصَّبْغِ الَّذِي رُدَّ فِي الْعُصْفُرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.

قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَأَمَّا الْمُعَصْفَرُ غَيْرُ الْمُقْدَمِ وَالْمُزَعْفَرُ فَيَجُوزُ لُبْسُهُمَا فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، نَصَّ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَعَلَى الثَّانِي غَيْرُهَا، قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالْمُزَعْفَرِ لِغَيْرِ الْإِحْرَامِ وَكُنْتُ أَلْبَسُهُ.

ص: 425

[مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْخَزِّ]

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَسَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مِطْرَفَ خَزٍّ كَانَتْ عَائِشَةُ تَلْبَسُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْخَزِّ

بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمَنْقُوطَيْنِ اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَّخَذِ مِنْ وَبَرِهَا، وَالْجَمْعُ خُزُوزٌ بِزِنَةِ فُلُوسٍ، وَالْمُرَادُ مَا سُدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ صُوفٌ مَثَلًا.

1692 -

1642 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَسَتِ) ابْنَ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) الصَّحَابِيَّ ابْنَ الصَّحَابِيِّ الْحَوَارِيَّ (مِطْرَفَ خَزٍّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَفَاءٍ ثَوْبٌ مِنْ خَزٍّ لَهُ أَعْلَامٌ وَيُقَالُ ثَوْبٌ مُرَبَّعٌ مِنْ خَزٍّ (كَانَتْ عَائِشَةُ تَلْبَسُهُ) فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ لُبْسِ الْخَزِّ لِلرِّجَالِ.

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَصَحَّحَهُ فِي الْقَبَسِ وَذَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ جَوَازَهُ عَنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ صَحَابِيًّا وَخَمْسَةَ عَشَرَ تَابِعِيًّا، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ لُبْسُهُ.

ص: 426

[مَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ لُبْسُهُ مِنْ الثِّيَابِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى حَفْصَةَ خِمَارٌ رَقِيقٌ فَشَقَّتْهُ عَائِشَةُ وَكَسَتْهَا خِمَارًا كَثِيفًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ مَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ لُبْسُهُ مِنَ الثِّيَابِ

1693 -

1643 - (مَالِكٌ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ) بِلَالٍ الْمَدَنِيِّ مَوْلَى عَائِشَةَ الثِّقَةِ الْعَلَّامَةِ (عَنْ أُمِّهِ) مَرْجَانَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ مَقْبُولَةٌ، تُكَنَّى أُمَّ عَلْقَمَةَ (أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَلَى) عَمَّتِهَا (عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى حَفْصَةَ الْمَذْكُورَةِ خِمَارٌ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثَوْبٌ تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا (رَقِيقٌ فَشَقَّتْهُ عَائِشَةُ) حَتَّى لَا تَعُودَ حَفْصَةُ لِلُبْسِهِ (وَكَسَتْهَا خِمَارًا كَثِيفًا) غَلِيظًا لِأَنَّهُ أَسْتَرُ.

ص: 426

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1694 -

1644 - (مَالِكٌ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ) يَسَارٍ الْمَدَنِيِّ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ السَّمَّانِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ) كَذَا وَقَفَهُ يَحْيَى وَرُوَاةُ الْمُوَّطَأِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعٍ، فَقَالَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنَّهُ مِنْ رَأْيِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ رَأْيِهِ لَا يَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(نِسَاءٌ) مُبْتَدَأٌ سَائِغٌ لِلْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: (كَاسِيَاتٌ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرَادَ اللَّوَاتِي يَلْبَسْنَ مِنَ الثِّيَابِ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ الَّذِي يَصِفُ وَلَا يَسْتُرُ، فَهُنَّ (كَاسِيَاتٌ) بِالِاسْمِ (عَارِيَاتٌ) فِي الْحَقِيقَةِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: كَاسِيَاتٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَارِيَاتٌ مِنَ الشُّكْرِ، أَوْ كَاسِيَاتٌ لِبَعْضِ أَجْسَادِهِنَّ عَارِيَاتٌ لِبَعْضِهِ إِظْهَارًا لِلْجَمَالِ، أَوْ لَابِسَاتٌ ثِيَابًا رِقَاقًا تَصِفُ مَا تَحْتَهَا (مَائِلَاتٌ) عَنِ الْحَقِّ (مُمِيلَاتٌ) لِأَزْوَاجِهِنَّ عَنْهُ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَائِلَاتٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ مِنْ حِفْظِ فُرُوجِهِنَّ، مُمِيلَاتُ غَيْرِهِنَّ إِلَى مِثْلِ فِعْلِهِنَّ، وَقِيلَ: مَائِلَاتٌ مُتَبَخْتِرَاتٌ فِي مَشْيِهِنَّ مُمِيلَاتٌ أَكْتَافَهُنَّ وَأَعْطَافَهُنَّ، وَقِيلَ: مَائِلَاتٌ يُمَشِّطْنَ الْمِشْطَةَ الْمَيْلَاءَ وَهِيَ مِشْطَةُ الْبَغَايَا، مُمِيلَاتٌ غَيْرَهُنَّ إِلَى تِلْكَ الْمِشْطَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: اسْتِشْهَادُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَلَى الْمِشْطَةِ الْمَيْلَاءِ بِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

غَدَائِرُهُ مُتَشَزِرَاتٌ إِلَى الْعُلَى

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِشْطَةَ ضَفَائِرُ الْغَدَائِرِ وَشَدُّهَا فَوْقَ الرَّأْسِ فَتَأْتِي كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشْبِيهَ بِأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ إِنَّمَا هُوَ بِارْتِفَاعِ الْغَدَائِرِ فَوْقَ رُءُوسِهِنَّ، وَجَمْعُ الْعَقَائِصِ هُنَاكَ وَتَكْثِيرُهَا بِمَا تُضَفَّرُ بِهِ حَتَّى تَمِيلَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ جَانِبِ الرَّأْسِ كَمَا يَمِيلُ السَّنَامُ.

قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: نَاقَةٌ مَيْلَاءُ إِذَا مَالَ سَنَامُهَا إِلَى أَحَدِ شِقَّيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى مَائِلَاتٍ مُنْحَطَّاتٍ لِلرِّجَالِ مُمِيلَاتٌ لَهُمْ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، وَالصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلُّغَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ مَائِلَاتٌ خِلَافًا لِقَوْلِ الْكِنَانِيِّ، صَوَابُهُ مَاثِلَاتٌ؛ بِمُثَلَّثَةٍ، أَيْ: قَائِمَاتٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ) مَعَ السَّابِقِينَ أَوْ بِغَيْرِ عَذَابٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَأَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُنَّ، فَإِنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُنَّ فَهُوَ أَهْلُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 48] وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: رُءُوسُهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ.

(وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ) وَفِي مُسْلِمٍ مِنَ الطَّرِيقِ

ص: 427

الْمَذْكُورَةِ: مَسِيرَةُ كَذَا وَكَذَا فَتُفَسَّرُ بِرِوَايَةِ الْمُوَّطَأِ هَذِهِ وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ فِي مُسْلِمٍ: " «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا وَنِسَاءٌ» " إِلَخْ.

ص: 428

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَنَظَرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ مَاذَا فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا وَقَعَ مِنْ الْفِتَنِ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1695 -

1645 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ شَيْخِ الْإِمَامِ رَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدِ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ امْرَأَةٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ) أَيِ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ (مِنَ اللَّيْلِ) وَفِي الْبُخَارِيِّ: اسْتَيْقَظَ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ (فَنَظَرَ فِي أُفُقِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ، أَيْ: نَاحِيَةِ (السَّمَاءِ فَقَالَ) زَادَ الْبُخَارِيُّ: سُبْحَانَ اللَّهِ (مَاذَا) اسْتِفْهَامٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ (فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْخَزَائِنِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُرِيدُ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ مِمَّا فَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَخْذِهَا الْكُفْرَ وَالِاتِّسَاعِ فِي الْمَالِ.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ فُتِحَ مِنْ خَزَائِنِهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ فَتْحِ تِلْكَ الْخَزَائِنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَتْحُ خَزَائِنِ الْفِتَنِ، فَوَقَعَ بَعْضُ مَا كَانَ فِيهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ إِلَى مَوْضِعٍ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ.

(وَمَاذَا وَقَعَ مِنَ الْفِتَنِ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا يُفْتِنُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ الْفِتَنُ الَّتِي حَدَثَتْ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَفَسَادِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى.

وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَالشَّيْءُ قَدْ يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ تَأْكِيدًا لِأَنَّ مَا يُفْتَحُ مِنَ الْخَزَائِنِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفِتَنِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَكَأَنَّهُ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَزَائِنِ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا فُتِحَ عَلَى الصَّحَابَةِ، لَكِنَّ الْمُغَايِرَةَ بَيْنَ الْخَزَائِنِ وَالْفِتَنِ وَاضِحٌ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ، فَكَمْ مِنْ نَائِلٍ مِنْ تِلْكَ الْخَزَائِنِ سَالِمٌ مِنَ الْفِتَنِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عَبَّرَ عَنِ الرَّحْمَةِ بِالْخَزَائِنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} [الإسراء: 100][سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 100] وَعَنِ الْعَذَابِ بِالْفِتَنِ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَابُهُ. انْتَهَى.

قَالَ شَيْخُنَا عَلَّامَةُ الدُّنْيَا: مَا الْمَانِعُ مِنْ بَقَاءِ الْخَزَائِنِ عَلَى ظَاهِرِهَا حَيْثُ أُرِيدَ بِهَا خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْآيَةُ لَا تُنَافِيهِ، وَبِتَقْدِيرِ جَعْلِ الْآيَةِ كِنَايَةً عَنِ الرَّحْمَةِ لِخُصُوصِيَّةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ التَّفْسِيرِ - لَا تُنَافِيهِ أَيْضًا، وَكَذَا بَقَاءُ الْفِتَنِ عَلَى ظَاهِرِهَا حَيْثُ أُرِيدَ بِهَا مَا وَقَعَ مِنَ الْفِتَنِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَرْغِيبٍ فِي الصَّبْرِ عَلَى قِلَّةِ الْمَالِ لِفُقَرَائِهِمْ حُمِلَتِ الْخَزَائِنُ عَلَى الرَّحْمَةِ بِمَعْنَى الْأَرْزَاقِ

ص: 428

الْحَاصِلَةِ فِيهَا، وَمَقَامَ تَخْوِيفٍ؛ حُمِلَتِ الْفِتَنُ عَلَى الْعَذَابِ، وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى (كَمْ مِنْ) نَفْسٍ (كَاسِيَةٍ) لَابِسَةٍ (فِي الدُّنْيَا) أَثْوَابًا رَقِيقَةً لَا تَمْنَعُ إِدْرَاكَ الْبَشَرَةِ أَوْ نَفِيسَةً (عَارِيَةٌ) بِخِفَّةِ الْيَاءِ وَالْجَرِّ وَالرَّفْعِ، أَيْ: وَهِيَ عَارِيَةٌ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: فِي الْحَشْرِ إِذَا كُسِيَ أَهْلُ الصَّلَاحِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيُحْتَمَلُ عَارِيَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ (أَيْقِظُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: نَبِّهُوا (صَوَاحِبَ الْحُجَرِ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْرَةٍ وَهِيَ مَنَازِلُ أَزْوَاجِهِ، وَخَصَّهُنَّ بِالْإِيقَاظِ لِأَنَّهُنَّ الْحَاضِرَاتُ حِينَئِذٍ، أَوْ مِنْ بَابِ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ، وَأَرَادَ أَنْ يُوقِظَهُنَّ لِلصَّلَاةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا، وَلِئَلَّا يَكُونَ مِنَ الْغَافِلِينَ فِيهَا وَيَعْتَمِدْنَ عَلَى كَوْنِهِنَّ أَزْوَاجَهُ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ: إِيقَاظُ الرَّجُلِ أَهَّلَهُ بِاللَّيْلِ لِلْعِبَادَةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ أَمْرٍ يَحْدُثُ، وَالْإِسْرَاعُ إِلَى الصَّلَاةِ ثُمَّ خَشْيَةُ الشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45][سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 45] وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَرَ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ.

ص: 429

[مَا جَاءَ فِي إِسْبَالِ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي إِسْبَالِ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ

1696 -

1646 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيِّ (عَنْ) مَوْلَاهُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ) إِزَارًا أَوْ رِدَاءً أَوْ قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ غَيْرَهَا مِمَّا يُسَمَّى ثَوْبًا حَالَ كَوْنِهِ جَرَّهُ (خُيَلَاءَ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ كِبْرًا وَعَجَبًا (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) نَظَرَ رَحْمَةٍ، أَيْ: لَا يَرْحَمُهُ لِكِبْرِهِ وَعُجْبِهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَفْهُومُ خُيَلَاءَ أَنَّ الْجَارَّ لِغَيْرِهَا لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ إِلَّا أَنَّ جَرَّ الْقَمِيصِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ مَذْمُومٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

ص: 429

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ تبارك وتعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1697 -

1647 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ

ص: 429

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ أَوْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ) أَيْ: لَا يَرْحَمُ، فَالنَّظَرُ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ وَإِلَى الْمَخْلُوقِ كِنَايَةٌ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَنَى بِالشَّخْصِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ عِبَارَةً عَنِ الْإِحْسَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَظَرٌ، فَإِذَا نُسِبَ لِمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِحْسَانِ مَجَازًا عَمَّا وَقَعَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كِنَايَةً، قَالَهُ فِي الْكَوَاكِبِ تَبَعًا لِلْكَشَّافِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: عُبِّرَ عَنِ الْمَعْنَى الْكَائِنِ عِنْدَ النَّظَرِ بِالنَّظَرِ لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى مُتَوَاضِعٍ رَحِمَهُ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مُتَكَبِّرٍ مَقَتَهُ، فَالرَّحْمَةُ وَالْمَقْتُ مُسَبَّبَانِ عَنِ النَّظَرِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ الدَّائِمَةِ خِلَافَ رَحْمَةِ الدُّنْيَا فَقَدْ تَنْقَطِعُ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْحَوَادِثِ (إِلَى مَنْ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا) بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، قَالَ عِيَاضٌ: جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الطَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَبِكَسْرِهَا عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَجُرُّ، أَيْ: تَكَبُّرًا وَطُغْيَانًا، وَأَصْلُ الْبَطَرِ الطُّغْيَانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْكِبْرِ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْبَطَرِ دَهْشٌ يَعْتَرِي الْمَرْءَ عِنْدَ هُجُومِ النِّعْمَةِ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ الْإِزَارِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْإِزَارَ وَالْأَرْدِيَةَ فَلَمَّا لَبِسَ النَّاسُ الْقُمُصَ وَالدَّرَارِيعَ كَانَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الْإِزَارِ فِي ذَلِكَ.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ لَوْ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِالثَّوْبِ أَنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ، يَعْنِي: فَلَا دَاعِيَةَ لِلْقِيَاسِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 430

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ كُلُّهُمْ يُخْبِرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1698 -

1648 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) وَكِلَاهُمَا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) ابْنِ مَوْلَى أَبِيهِ (كُلُّهُمْ يُخْبِرُهُ) أَيِ الثَّلَاثَةُ يُخْبِرُونَ مَالِكًا (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ) نَظَرَ رَحْمَةٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَقَدْ قِيلَ بِكَسْرِهَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، أَيْ: عَجَبًا وَتَكَبُّرًا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْقِتَالِ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ.

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ زِيَادَةَ: " «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا

ص: 430

رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ» " وَكَذَا إِذَا كَانَ سَبَبُهُ الْإِسْرَاعَ فِي الْمَشْيِ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَعِيدِ لِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعٍ: "«خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فَجُلِّيَ عَنْهَا» " وَلَفَظُ ثَوْبِهِ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يُلْبَسُ حَتَّى الْعِمَامَةِ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ» " الْحَدِيثَ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ خَاصًّا بِالْإِزَارِ، وَإِنْ جَاءَ فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ بِلَفْظِ الْإِزَارِ فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ لِبَاسِهِمْ حِينَئِذٍ كَمَا مَرَّ، لَكِنَّ فِي تَصْوِيرِ جَرِّ الْعِمَامَةِ نَظَرٌ إِذْ لَا يَتَأَتَّى جَرُّهَا عَلَى الْأَرْضِ كَالْقَمِيصِ وَالْإِزَارِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنْ إِرْخَاءِ الْعَذَبَاتِ ; لِأَنَّ جَرَّ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَمَهْمَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْإِسْبَالِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الزَّجْرِ عَنْ جَرِّ الثَّوْبِ تَطْوِيلُ أَكْمَامِ الْقَمِيصِ، وَنَحْوُهُ مَحَلُّ نَظَرٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ أَطَالَهَا حَتَّى خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْحِجَازِيِّينَ، وَقَالَ شَيْخُهُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: مَا مَسَّ الْأَرْضَ مِنْهَا لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، بَلْ لَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ لَمْ يَبْعُدْ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذِهِ الْأَكْمَامُ الْوَاسِعَةُ الطِّوَالُ الَّتِي هِيَ كَالْأَخْرَاجِ وَعَمَائِمُ كَالْأَبْرَاجِ لَمْ يَلْبَسْهَا صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِسُنَنِهِ وَفِي جَوَازِهَا نَظَرٌ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْخُيَلَاءِ.

وَفِي الْمَدْخَلِ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّ كُمَّ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ الْيَوْمَ - فِيهِ إِضَاعَةُ الْمَالِ، الْمَنْهِيُّ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْضُلُ عَنْ ذَلِكَ الْكَمِّ ثَوْبٌ لِغَيْرِهِ. انْتَهَى وَهُوَ حَسَنٌ.

قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ: لَكِنْ حَدَثَ لِلنَّاسِ اصْطِلَاحٌ بِتَطْوِيلِهَا وَصَارَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ النَّاسِ شِعَارٌ يُعْرَفُونَ بِهِ، وَمَهْمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْخُيَلَاءِ فَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ فَلَا تَحْرِيمَ فِيهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى جَرِّ الذَّيْلِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَةَ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ لِلنَّاسِ، وَعَلَى الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ لِمِثْلِ لَابِسِهِ فِي الطُّولِ وَالسَّعَةِ انْتَهَى.

وَعُمُومُ الْحَدِيثِ يَشْمَلُ النِّسَاءَ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِهِنَّ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْآتِي.

وَقَدْ زَادَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ مُتَّصِلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

ص: 431

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ «عَنْ الْإِزَارِ فَقَالَ أَنَا أُخْبِرُكَ بِعِلْمٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1699 -

1649 - (مَالِكٌ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْجُهَنِيِّ (عَنْ أَبِيهِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ

ص: 431

مَوْلَى الْحُرَقَةِ (أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ) سَعْدَ بْنَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ (الْخِدْرِيَّ) الصَّحَابِيَّ ابْنَ الصَّحَابِيِّ (عَنِ الْإِزَارِ قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكَ بِعِلْمٍ) أَيْ: نَصٍّ لَا اجْتِهَادٍ، وَفِي رِوَايَةٍ " عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ " (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِزْرَةُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، الْحَالَةُ وَهَيْئَةُ الِائْتِزَارِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ، يَعْنِي الْحَالَةَ الْمَرْضِيَّةَ مِنَ (الْمُؤْمِنِ) الْحَسَنَةَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ إِزَارُهُ (إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) فَقَطْ، وَجَمْعُ أَنْصَافٍ كَرَاهَةَ تَوَالِي تَثْنِيَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: مِثْلُ رُءُوسِ الْكَبْشَيْنِ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ التَّوَاضُعِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْمُصْطَفَى.

فَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ سَلَمَةَ: " «كَانَ عُثْمَانُ يَأْتَزِرُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَقَالَ: كَانَتْ إِزْرَةَ صَاحِبِي، يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» . وَفِي النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبِيدٍ الْمُحَارِبِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "«ارْفَعْ إِزَارَكَ أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا إِزَارُهُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ» " وَلَكِنَّ (لَا جُنَاحَ) لَا حَرَجَ (عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ) فَيَجُوزُ إِسْبَالُهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَالْأَوَّلُ مُسْتَحَبٌّ فَلَهُ حَالَتَانِ (مَا أَسْفَلَ) قَالَ الْحَافِظُ: " مَا " مَوْصُولٌ وَبَعْضُ صِلَتِهِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ " كَانَ "، وَ " أَسْفَلَ " خَبَرُهُ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، أَيْ: مَا هُوَ أَسْفَلُ، أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَيَجُوزُ أَنَّ " مَا " نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِأَسْفَلَ (مِنْ ذَلِكَ) أَيِ الْكَعْبَيْنِ، زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الْإِزَارِ (فَفِي النَّارِ) دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ بِتَضْمِينِ " مَا " مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْ: مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ قَدَمِ صَاحِبِ الْإِزَارِ الْمُسْبَلِ فَهُوَ فِي النَّارِ (مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ) أَعَادَهَا لِلتَّأْكِيدِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنَالُهُ الْإِزَارُ مِنْ أَسْفَلِ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ فَكَنَّى بِالثَّوْبِ عَنْ بَدَنِ لَابِسِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي دُونَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْقَدَمِ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عُقُوبَةً لَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ أَوْ حَلَّ فِيهِ، وَتَكُونُ " مِنْ " بَيَانِيَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً، وَالْمُرَادُ الشَّخْصُ نَفْسُهُ، أَوِ الْمَعْنَى مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ الَّذِي يُسَامِتُ الْإِزَارَ فِي النَّارِ، أَوِ التَّقْدِيرُ لَابِسُ مَا أَسْفَلَ. . . إِلَخْ.

أَوْ تَقْدِيرُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مَحْسُوبٌ فِي أَفْعَالِ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْإِزَارِ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ، وَكُلُّ هَذَا اسْتِبْعَادٌ مِمَّنْ قَالَهُ لِوُقُوعِ الْإِزَارِ حَقِيقَةً فِي النَّارِ، وَأَصْلُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ نَافِعًا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَا ذَنْبُ الثِّيَابِ بَلْ هُوَ مِنَ الْقَدَمَيْنِ.

لَكِنَّ فِي الطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَسْبَلْتُ إِزَارِي فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ كُلُّ شَيْءٍ لَمَسَ الْأَرْضَ مِنَ الثِّيَابِ فِي النَّارِ» " وَعِنْدَهُ أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى أَعْرَابِيًّا يُصَلِّي قَدْ أَسْبَلَ، فَقَالَ: الْمُسْبِلُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ مِنْ حِلٍّ وَلَا حَرَامٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ

ص: 432

قِبَلِ الرَّأْيِ، فَعَلَى هَذَا لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَكُونُ مِنْ وَادِي:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98][سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: الْآيَةُ 98] أَوْ يَكُونُ مِنَ الْوَعِيدِ لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الَّذِي يَتَعَاطَى الْمَعْصِيَةَ أَحَقُّ بِذَلِكَ اهـ.

( «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا» ) بِفَتْحِ الطَّاءِ مَصْدَرٌ وَكَسْرِهَا، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " جَرَّ " رِوَايَتَانِ كَمَا مَرَّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ بِهِ، وَأَخْرَجُوهُ أَيْضًا بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ» ".

ص: 433

[مَا جَاءَ فِي إِسْبَالِ الْمَرْأَةِ ثَوْبَهَا]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ ذُكِرَ الْإِزَارُ فَالْمَرْأَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُرْخِيهِ شِبْرًا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ إِذًا يَنْكَشِفُ عَنْهَا قَالَ فَذِرَاعًا لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي إِسْبَالِ الْمَرْأَةِ ثَوْبَهَا

أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ عُمُومَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَاقَهَا قَبْلَ الْآنِ مِنْ صِيغَةِ عُمُومٍ فَيَشْمَلُ النِّسَاءَ وَلِأَنَّهُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ مَخْصُوصٌ بِالرِّجَالِ.

1700 -

1650 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ) الْعَدَوِيِّ الْمَدَنِيِّ، صَدُوقٌ يُقَالُ اسْمُهُ عُمَرُ (عَنْ أَبِيهِ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ) شَيْخِ الْإِمَامِ رَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ (عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّةِ زَوْجِ ابْنِ عُمَرَ، قِيلَ: لَهَا إِدْرَاكٌ، وَأَنْكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: ثِقَةٌ فَهِيَ تَابِعِيَّةٌ كَبِيرَةٌ (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ) أَيْ: نَافِعًا (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هِنْدٍ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ ذُكِرَ الْإِزَارُ) أَيِ التَّحْذِيرُ مِنْ جَرِّهِ، وَفِي النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: (فَالْمَرْأَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) كَيْفَ تَصْنَعُ» ؟ وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَةِ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ (قَالَ: تُرْخِيهِ شِبْرًا) فَعُمُومُ الْوَعِيدِ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ النِّسَاءِ.

(قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: إِذًا يَنْكَشِفُ) بِالرَّفْعِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ النَّصْبِ، وَهُوَ قَصْدُ الْجَزَاءِ بِمَا بَعْدَ " إِذًا " (عَنْهَا) وَلِأَيُّوبَ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ (قَالَ: فَذِرَاعًا) تُرْخِيهِ (لَا تَزِدْ عَلَيْهِ) إِذْ بِهِ يَحْصُلُ

ص: 433

أَمْنُ الِانْكِشَافِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ لَهَا حَالَةَ اسْتِحْبَابٍ وَهُوَ قَدْرُ شِبْرٍ، وَحَالَةَ جَوَازٍ بِقَدْرِ ذِرَاعٍ.

قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: هَلِ ابْتِدَاءُ الذِّرَاعِ مِنَ الْحَدِّ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ الرِّجَالُ وَهُوَ مَا أَسْفَلُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوْ مِنَ الْحَدِّ الْمُسْتَحَبِّ لِلرِّجَالِ وَهُوَ أَنْصَافُ السَّاقَيْنِ، أَوْ حَدُّهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَمَسُّ الْأَرْضَ؟ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّالِثُ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيِّ، وَاللَّفْظُ لَهُ «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سُئِلَ صلى الله عليه وسلم تَجُرُّ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَيْلِهَا؟ قَالَ: شِبْرًا، قَالَتْ: إِذًا يَنْكَشِفُ عَنْهَا، قَالَ: فَذِرَاعًا لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ» " فَظَاهِرُهُ أَنَّ لَهَا أَنْ تَجُرَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُ ذِرَاعًا، أَيْ: لِأَنَّ الْجَرَّ السَّحْبُ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ.

قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّرَاعِ ذِرَاعُ الْيَدِ وَهُوَ شِبْرَانِ لِمَا فِي ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «رَخَّصَ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شِبْرًا ثُمَّ اسْتَزَدْنَهُ فَزَادَهُنَّ شِبْرًا» " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذِّرَاعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ شِبْرَانِ انْتَهَى، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ تُفَسِّرُ بَعْضَهَا، وَإِنَّمَا جَازَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ.

ص: 434

[مَا جَاءَ فِي الْانْتِعَالِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

مَا جَاءَ فِي الِانْتِعَالِ

1701 -

1651 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمْشِيَنَّ) بَنُونِ التَّأْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، وَلِلْقَعْنَبِيِّ: لَا يَمْشِي (أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُثْلَةِ وَمُفَارَقَةِ الْوَقَارِ مُشَابَهَةِ زِيِّ الشَّيْطَانِ كَالْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، زَادَ غَيْرُهُ: وَلِمَشَقَّةِ الْمَشْيِ حِينَئِذٍ وَخَوْفِ الْعِثَارِ (لِيَنْعِلْهُمَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ مِنْ نَعَلَ وَأَنْعَلَ، وَاقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ عَلَى الضَّمِّ، وَرَدَّهُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا نَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا أَيْضًا نَعَلَ رِجْلَهُ أَلْبَسُهَا نَعْلًا (جَمِيعًا أَوْ لِيُحْفِهِمَا) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْإِحْفَاءِ، أَيْ: لِيُجَرِّدْهُمَا (جَمِيعًا) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالضَّمِيرَانِ لِلْقَدَمَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمَا ذِكْرٌ، وَلَوْ أَرَادَ النَّعْلَيْنِ؛ لَقَالَ: لِيَنْتَعِلْهُمَا أَوْ لِيَحْتَفِ مِنْهُمَا انْتَهَى.

وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ لِبَاسٍ شُفِعَ كَالْخُفَّيْنِ وَإِخْرَاجِ الْيَدِ مِنَ الْكُمِّ وَالتَّرَدِّي عَلَى أَحَدِ الْمَنْكِبَيْنِ

ص: 434

وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 435

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ وَلْتَكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1702 -

1652 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ» ) أَيْ: لَبِسَ نَعْلَهُ (فَلْيَبْدَأْ) اسْتِحْبَابًا (بِالْيَمِينِ) أَيْ: بِالْجَانِبِ الْيَمِينِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْيُمْنَى، أَيْ: بِالنَّعْلِ الْيُمْنَى ; لِأَنَّ النَّعْلَ مُؤَنَّثَةٌ.

(وَإِذَا نَزَعَ) وَفِي رِوَايَةٍ انْتَزَعَ (فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ) أَيْ: يَنْزِعُهَا؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ كَرَامَةٌ لِلْبَدَنِ إِذْ هُوَ وِقَايَةٌ مِنَ الْآفَاتِ وَالْيُمْنَى أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ فَبُدِئَ بِهَا فِي اللُّبْسِ وَأُخِّرَتْ فِي النَّزْعِ لِيَكُونَ الْإِكْرَامُ لَهَا أَدْوَمَ، وَصِيَانَتُهَا وَحِفْظُهَا أَكْثَرَ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: التَّيَامُنُ مَشْرُوعٌ فِي ابْتِدَاءِ الْأَعْمَالِ وَالتَّيَاسُرُ مَشْرُوعٌ فِي تَرْكِهَا.

(وَلْتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ) بِبِنَائِهِ كَ " تُنْعَلُ " لِلْمَفْعُولِ وَ " أَوَّلَهُمَا " وَ " آخِرَهُمَا " نُصِبَ خَبَرَ " تَكُنْ " أَوْ عَلَى الْحَالِ، وَالْخَبَرُ " تُنْعَلُ " وَ " تُنْزَعُ " بِفَوْقِيَّتَيْنِ وَتَحْتَانِيَّتَيْنِ مُذَكَّرَيْنِ بِاعْتِبَارِ النَّعْلِ وَالْخَلْعِ، وَزَعَمَ ابْنُ وَضَّاحٍ أَنَّ قَوْلَهُ وَلْتَكُنْ. . . إِلَخْ - مُدْرَجٌ، قَالَهُ الْحَافِظُ، أَيْ: وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ لِأَنَّ الْإِدْرَاجَ لَيْسَ بِالتَّشَهِّي، وَلَيْسَ هَذَا تَأْكِيدًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْأَوَّلِ كَمَا زَعَمَ: بَلْ لَهُ فَائِدَةٌ هِيَ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى أَوَّلًا لَا يَقْتَضِي تَأَخُّرَ نَزْعِهَا لِاحْتِمَالِ نَزْعِهِمَا مَعًا.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَمَنْ بَدَأَ بِالِانْتِعَالِ بِالْيُسْرَى أَسَاءَ بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَلَكِنْ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ نَعْلِهِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِعَ الْفِعْلَ مِنَ الْيُسْرَى ثُمَّ يَبْدَأُ بِالْيُمْنَى.

قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِنُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مَا إِذَا لَبِسَهُمَا مَعًا فَبَدَأَ بِالْيُسْرَى فَلَا يُشْرَعُ لَهُ نَزْعُهُمَا ثُمَّ لُبْسُهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ نَزْعُهُمَا وَيَسْتَأْنِفُ لُبْسَهُمَا عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ فَكَأَنَّهُ أَلْغَى مَا وَقَعَ مِنْهُ أَوَّلًا.

وَنَقَلَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 435

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ رَجُلًا نَزَعَ نَعْلَيْهِ فَقَالَ لِمَ خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ لَعَلَّكَ تَأَوَّلْتَ هَذِهِ الْآيَةَ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12] قَالَ ثُمَّ قَالَ كَعْبٌ لِلرَّجُلِ أَتَدْرِي مَا كَانَتْ نَعْلَا مُوسَى قَالَ مَالِكٌ لَا أَدْرِي مَا أَجَابَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ كَعْبٌ كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1703 -

1653 - (مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَاسْمُهُ نَافِعٌ (ابْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مَالِكٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيِّ (عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ) أَيْ: مَلْجَأِ الْعُلَمَاءِ الْحِمْيَرِيِّ (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ يُسَمَّ

ص: 435

(نَزَعَ نَعْلَيْهِ فَقَالَ) كَعْبٌ (لِمَ خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ لَعَلَّكَ تَأَوَّلْتَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} [طه: 12] الْمُطَهَّرِ أَوِ الْمُبَارَكِ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ فَطَأْهُ لِتُصِيبَ قَدَمَيْكَ بَرَكَتَهُ (طُوًى) بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ بِالتَّنْوِينِ وَتَرْكُهُ مَصْرُوفٍ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ وَغَيْرُ مَصْرُوفٍ لِلتَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ.

(ثُمَّ قَالَ كَعْبٌ لِلرَّجُلِ: أَتَدْرِي مَا كَانَتْ نَعْلَا مُوسَى؟ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَدْرِي مَا أَجَابَهُ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ) فَهَذَا سَبَبُ أَمْرِهِ بِخَلْعِهِمَا فَأَخْذُ الْيَهُودِ مِنْهُ لُزُومَ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ مَدْبُوغَةً فَتَرَكَ ذِكْرَ الدِّبَاغِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَلِجَرْيِ الْعَادَةِ بِدِبَاغِهَا قَبْلَ لُبْسِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ شَرْعَ مُوسَى اسْتِعْمَالُهَا بِلَا دِبَاغٍ وَهَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لِأَنَّ كَعْبًا مِنْ أَحْبَارِهَا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا:«كَانَ عَلَى مُوسَى يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ كِسَاءُ صُوفٍ وَجُبَّةُ صُوفٍ وَكُمَّةُ صُوفٍ وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ وَكَانَتْ نَعْلَاهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ» " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍالْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ حُمَيْدًاالْأَعْرَجَ هُوَ ابْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: ابْنُ عَمَّارٍ أَحَدُ الْمَتْرُوكِينَ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ عَنْهُ الْبُخَارِيَّ فَقَالَ: حُمَيْدٌ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.

قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّصَوُّفِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا جَعَلَ ثِيَابَهُ كُلَّهَا صُوفًا لِأَنَّهُ كَانَ بِمَحَلٍّ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فِيهِ سِوَاهُ، فَعَمِلَ بِالْيُسْرِ وَتَرَكَ التَّكَلُّفَ وَالْعُسْرَ، وَكَانَ مِنَ الِاتِّفَاقِ الْحَسَنِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ اللِّبْسَةِ الَّتِي لَمْ يَتَكَلَّفْهَا.

وَقَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مَقْصُودًا لِلتَّوَاضُعِ وَتَرْكِ التَّنَعُّمِ أَوْ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا هُوَ أَرْفَعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اتِّفَاقِيٌّ لَا عَنْ قَصْدٍ بَلْ كَانَ يَلْبَسُ كُلَّ مَا وَجَدَ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ، وَكُمَّةٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَشَدِّ الْمِيمِ قَلَنْسُوَةٌ صَغِيرَةٌ أَوْ مُدَوَّرَةٌ.

ص: 436

[مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَعَنْ الْمُنَابَذَةِ وَعَنْ أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَعَنْ أَنْ يَشْتَمِلَ الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ

1704 -

1654 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزَّادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه وَهَذَا مِمَّا قِيلَ

ص: 436

أَنَّهُ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ (أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ» ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ (وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى إِرَادَةِ الْهَيْئَةِ، قَالَهُ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْفَتْحِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمُ: الْكَسْرُ أَحْسَنُ نَظَرًا لِلْهَيْئَةِ، وَأَبْدَلَ مِنْ بَيْعَتَيْنِ قَوْلَهُ:(عَنِ الْمُلَامَسَةِ) بِأَنْ يَلْمِسَ الثَّوْبَ مَطْوِيًّا أَوْ فِي ظُلْمَةٍ فَيَلْزَمُ بِذَلِكَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لَهُ إِذَا رَآهُ اكْتِفَاءً بِلَمْسِهِ، أَوْ يَقُولُ إِذَا لَمَسْتُهُ فَقَدْ بِعْتُكَ اكْتِفَاءً بِلَمْسِهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمِسَهُ انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ.

(وَعَنِ الْمُنَابَذَةِ) مُفَاعَلَةٌ زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الصَّحِيحِ: وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ وَلَا يُقَلِّبُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ وَيَنْبِذَ الْآخَرُ ثَوْبَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعُهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِلثَّوْبِ وَلَا تَرَاضٍ، وَبَيَّنَ اللِّبْسَتَيْنِ بِقَوْلِهِ:(وَعَنْ أَنْ يَحْتَبِيَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (الرَّجُلُ) أَيْ: وَعَنِ احْتِبَاءِ الرَّجُلِ بِأَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَلْيَتِهِ وَيَنْصُبَ سَاقَيْهِ مُلْتَفًّا (فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ) أَيِ الثَّوْبِ (شَيْءٌ) زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: " بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ " لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِفْضَاءِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ رُبَّمَا تَحَرَّكَ فَتَبْدُو عَوْرَتُهُ فَإِنْ كَانَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ فَلَا حُرْمَةَ.

(وَعَنْ أَنْ يَشْتَمِلَ الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ) فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ فَيَحْرُمُ إِنِ انْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهِ وَإِلَّا كُرِهَ، وَهَذِهِ اللِّبْسَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالصَّمَّاءِ لِأَنَّ يَدَهُ حِينَئِذٍ تَصِيرُ دَاخِلَ ثَوْبِهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ الِاحْتِرَاسَ مِنْهُ وَالِاتِّقَاءَ بِيَدَيْهِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ تَحْتِ الثَّوْبِ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، وَبِهَا فُسِّرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَفْظُهُ: وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَفَسَّرَهَا اللُّغَوِيُّونَ بِأَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ حَتَّى يُخَلِّلَ بِهِ جَسَدَهُ لَا يَرْفَعُ مِنْهُ جَانِبًا فَلَا يَبْقَى مَا تَخْرُجُ مِنْهُ يَدُهُ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلِذَا سُمِّيَتْ صَمَّاءَ لِسَدِّ الْمَنَافِذِ كُلِّهَا كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ لَا خَرْقَ فِيهَا وَلَا صَدْعَ، فَيُكْرَهُ عَلَى هَذَا لِعَجْزِهِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِيَدِهِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ كَدَفْعِ بَعْضِ الْهَوَامِّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 437

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ تُبَاعُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ الْحُلَّةَ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1705 -

1655 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ) أَبَاهُ (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ

ص: 437

رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالرَّاءِ وَالْمَدِّ، قَالَ مَالِكٌ: أَيْ حَرِيرٍ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثِيَابٌ فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ قَزٍّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا سِيَرَاءُ لِسَيْرِ الْخُطُوطِ فِيهَا، وَقِيلَ: حَرِيرٌ خَالِصٌ.

قَالَ عِيَاضٌ وَابْنُ قُرْقُولٍ: ضَبَطْنَاهُ عَلَى الْمُتْقِنِينَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ بِالْإِضَافَةِ كَمَا يُقَالُ ثَوْبُ خَزٍّ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِالتَّنْوِينِ عَلَى الصِّفَةِ أَوِ الْبَدَلِ، قِيلَ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُقَالُ حُلَّةٌ سِيَرَاءُ كَمَا يُقَالُ نَاقَةٌ عُشَرَاءُ.

قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ أَنَّ عُشَرَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَشَرَةَ، أَيْ: أَكْمَلَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ فَسُمِّيَتْ عُشَرَاءَ، وَكَذَلِكَ الْحُلَّةُ، سُمِّيَتْ سِيَرَاءَ ; لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّيُورِ، هَذَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ.

لَكِنْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يَأْتِ فِعَلَاءُ وَصْفًا، وَقَالَ الْخَلِيلُ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعَلَاءُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَعَ الْمَدِّ سِوَى سِيَرَاءَ وَحِوَلَاءَ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الْوَلَدِ، وَعِنَبَاءَ لُغَةٌ فِي الْعِنَبِ وَالْمَعْنَى رَأَى حُلَّةَ حَرِيرٍ (تُبَاعُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ) النَّبَوِيِّ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «رَأَى عُمَرُ عُطَارِدَ التَّيْمِيَّ يُقِيمُ حُلَّةً بِالسُّوقِ وَكَانَ رَجُلًا يَغْشَى الْمُلُوكَ وَيُصِيبُ مِنْهُمْ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ الْحُلَّةَ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ) لَكَانَ حَسَنًا» ، وَ " لَوْ " لِلتَّمَنِّي لَا لِلشَّرْطِ، فَلَا تَحْتَاجُ لِلْجَزَاءِ.

وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " فَلَبِسْتَهَا لِلْعِيدِ وَلِلْوَفْدِ " وَلِلنَّسَائِيِّ: " وَتَجَمَّلْتَ بِهَا لِلْوُفُودِ وَالْعَرَبِ إِذَا أَتَوْكَ وَإِذَا خَطَبْتَ النَّاسَ يَوْمَ عِيدٍ وَغَيْرِهِ ".

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ) وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ (مَنْ لَا خَلَاقَ) أَيْ: مَنْ لَا حَظَّ وَلَا نَصِيبَ (لَهُ) مِنَ الْخَيْرِ (فِي الْآخِرَةِ) وَهَذَا خُرِّجَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ، وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الْعَاصِي لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ، فَلَهُ خَلَاقٌ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِالرِّجَالِ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ.

(ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا) أَيْ: مِنْ جِنْسِ الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ (حُلَلٌ) فَاعِلُ جَاءَ (فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً) أَيْ: بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، وَبَعَثَ إِلَى أُسَامَةَ بِحُلَّةٍ، وَأَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حُلَّةً (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَسَوْتَنِيهَا) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: فَجَاءَ عُمَرُ بِحُلَّتِهِ، فَقَالَ: بَعَثْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ (وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ، ابْنِ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عَدِيٍّ بِمُهْمَلَتَيْنِ التَّمِيمِيِّ الدَّارِمِيِّ، وَفَدَ فِي بَنِي تَمِيمٍ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَلَهُ صُحْبَةٌ (مَا قُلْتَ) إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ

ص: 438

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا) بَلْ لِتَنْتَفِعَ بِهَا.

وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا غَيْرَكَ " وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ كَسَاهُ إِذَا أَعْطَاهُ كِسْوَةً لَبِسَهَا أَمْ لَا.

وَلِمُسْلِمٍ: " أَعْطَيْتُكَهَا تَبِيعُهَا وَتُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ " وَلِأَحْمَدَ: " فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ " لَكِنْ يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ: (فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا) كَائِنًا (لَهُ مُشْرِكًا) كَائِنًا (بِمَكَّةَ) وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ: أَخًا لَهُ مِنْ أُمِّهِ وَسَمَّاهُ ابْنُ الْحَذَّاءِ عُثْمَانَ بْنَ حَكِيمٍ وَنَقَلَهُ ابْنُ بَشْكُوَالٍ، قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: هُوَ السَّلَمِيُّ أَخُو خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ أَخُو زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ لِأُمِّهِ، فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخُو عُمَرَ لِأُمِّهِ لَمْ يُصِبْ إِنَّمَا هُوَ أَخُو أَخِيهِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّ عُمَرَ رَضَعَ مِنْ أُمِّ أَخِيهِ زَيْدٍ فَيَكُونُ عُثْمَانُ هَذَا أَخَا عُمَرَ لِأُمِّهِ مِنَ الرَّضَاعِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجُمُعَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَفِي الْهِبَةِ، وَمُسْلِمٌ فِي اللِّبَاسِ عَنْ يَحْيَى، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 439

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ وَقَدْ رَقَعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِرِقَاعٍ ثَلَاثٍ لَبَّدَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1706 -

1656 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) عَمُّ إِسْحَاقَ أَخُو أَبِيهِ لِأُمِّهِ (رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ رَقَعَ) كَنَفَعَ، أَيْ: جَعَلَ رُقْعَةً مَكَانَ الْقَطْعِ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِرُقَعٍ) جَمْعُ رُقْعَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِرِقَاعٍ جَمْعُ رُقْعَةٍ أَيْضًا بِزِنَةٍ بُرْمَةٍ وَبِرَامٍ (ثَلَاثٍ لَبَّدَ) بِشَدِّ الْبَاءِ أَلْزَقَ (بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ) لِأَنَّ قَصْدَهُ السَّتْرُ لَا الْفَخْرُ، وَلَيْسَتِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ عِنْدَهُ وَلِيُقْتَدَى بِهِ فِي الزُّهْدِ فِيهَا.

ص: 439

[باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم وقضايا أخرى]

كِتَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ وَلَا بِالْآدَمِ وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا بِالسَّبِطِ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ صلى الله عليه وسلم»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

49 -

كِتَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1707 -

1657 - (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخٍ الْفَقِيهِ الْمَدَنِيِّ، الْمَعْرُوفُ بِرَبِيعَةَ الرَّأْيِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ) أَيْ: رَبِيعَةَ (سَمِعَهُ) أَيْ: أَنَسًا (يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْحَافِظُ: الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا صِفَتُهُ صلى الله عليه وسلم دَاخِلَةٌ فِي قِسْمِ الْمَرْفُوعِ بِاتِّفَاقٍ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ قَوْلًا لَهُ وَلَا فِعْلًا وَلَا تَقْرِيرًا انْتَهَى.

وَلِذَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَوْضُوعُ الْحَدِيثِ: ذَاتُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَحَدُّهُ: عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَقْوَالُهُ وَأَحْوَالُهُ، وَغَايَتُهُ: الْفَوْزُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ (لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ) بِمُوَحَّدَةٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ فَارَقَ مَنْ سِوَاهُ، أَيِ: الْمُفْرِطِ فِي الطُّولِ مَعَ اضْطِرَابِ الْقَامَةِ (وَلَا بِالْقَصِيرِ) أَيِ الْبَائِنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَإِذَا نُفِيَا عَنْهُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا.

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ: لَكِنَّهُ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ، وَكَذَا رَوَاهُ الذُّهْلِيُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ رَبْعَةً وَهُوَ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ، وَجَمَعَ بَيْنَ النَّفْيَيْنِ لِتَوَجُّهِ الْأَوَّلِ إِلَى الْوَصْفِ، أَيْ: لَيْسَ طُولُهُ مُفْرِطًا، فَفِيهِ إِثْبَاتُ الطُّولِ فَاحْتِيجَ لِلثَّانِي وَذَلِكَ صِفَتُهُ الذَّاتِيَّةُ فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَاشَى الطَّوِيلَ زَادَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ حَتَّى لَا يَتَطَاوَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ صُورَةً كَمَا لَا يَتَطَاوَلُ عَلَيْهِ مَعْنًى.

رَوَى ابْنُ أَبِي خُثَيْمَةَ عَنْ عَائِشَةَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُمَاشِيهِ مِنَ النَّاسِ يُنْسَبُ إِلَى الطُّولِ إِلَّا طَالَهُ صلى الله عليه وسلم وَرُبَّمَا اكْتَنَفَهُ الرَّجُلَانِ الطَّوِيلَانِ فَيَطُولُهُمَا، فَإِذَا فَارَقَاهُ - نُسِبَا إِلَى الطُّولِ، وَنُسِبَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرَّبْعَةِ.

وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيٍّ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِالذَّاهِبِ طُولًا وَفَوْقَ الرَّبْعَةِ فَإِذَا جَاءَ مَعَ الْقَوْمِ غَمَرَهُمْ» " بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ، أَيْ: زَادَ عَلَيْهِمْ فِي الطُّولِ، وَهَلْ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ لَهُ طُولًا حَقِيقَةً حِينَئِذٍ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يُرَى فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ وَجَسَدُهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44]

ص: 440

(سورة الْأَنْفَالِ: الْآيَةُ 44) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَهُوَ مِثْلُ تَطَوُّرِ الْوَلِيِّ.

وَذَكَرَ رَزِينٌ وَغَيْرُهُ: كَانَ إِذَا جَلَسَ يَكُونُ كَتِفُهُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ الْجَالِسِينَ، وَدَلِيلَهُ قَوْلُ عَلِيٍّ:" «إِذَا جَاءَ مَعَ الْقَوْمِ غَمَرَهُمْ» " إِذْ هُوَ شَامِلٌ لِلْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ، فَقَصَرَ مَنْ تَوَقَّفَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ إِلَّا لِرَزِينٍ وَلِلنَّاقِلِينَ عَنْهُ.

(وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ بَيْنَهُمَا مِيمٌ سَاكِنَةٌ آخِرُهُ قَافٌ، أَيْ: لَيْسَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ كَلَوْنِ الْجِصِّ.

(وَلَا بِالْآدَمِ) بِالْمَدِّ، أَيْ: وَلَا شَدِيدَ السُّمْرَةِ وَإِنَّمَا يُخَالِطُ بَيَاضَهُ الْحُمْرَةُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَنَسٍ: " أَزْهَرُ اللَّوْنِ "، أَيْ: أَبْيَضٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَلِيٍّ:" كَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بَيَاضُهُ حُمْرَةً " وَرَوَاهُ ابْنُ أَسْعَدَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ، وَالْإِشْرَابُ خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ كَأَنَّ أَحَدَ اللَّوْنَيْنِ سَقَى الْآخَرَ يُقَالُ بَيَاضٌ مَشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ بِالتَّخْفِيفِ فَإِذَا شُدِّدَ كَانَ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَلْوَانِ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُطْلِقُ عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَسْمَرَ، وَلِذَا جَاءَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ وَابْنِ مَنْدَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ:" كَانَ أَسْمَرَ " وَرَدَّ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّمْرَةِ الْحُمْرَةُ الَّتِي تُخَالِطُ الْبَيَاضَ وَبِالْبَيَاضِ الْمُثْبَتِ مَا تُخَالِطُهُ الْحُمْرَةُ وَالْمَنْفِيُّ مَا لَا تُخَالِطُهُ وَهُوَ الَّذِي تَكْرَهُ الْعَرَبُ لَوْنَهُ وَتُسَمِّيهِ أَمْهَقَ، وَبِهَذَا بَانَ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبُخَارِيِّ: أَمْهَقُ لَيْسَ بِأَبْيَضَ مَقْلُوبَةً، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا إِنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةً بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْهَقِ الْأَخْضَرُ اللَّوْنِ الَّذِي لَيْسَ بَيَاضُهُ فِي الْغَايَةِ وَلَا سُمْرَتُهُ وَلَا حُمْرَتُهُ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ الْمَهَقَ خُضْرَةُ الْمَاءِ، قَالَهُ الْحَافِظُ، لَكِنَّ رِوَايَةَ " أَسْمَرُ " وَإِنْ صَحَّ إِسْنَادُهَا فَقَدَ أَعَلَّهَا الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ بِالشُّذُوذِ فَقَالَ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ انْفَرَدَ بِهَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ، ثُمَّ نَظَرْنَا مَنْ رَوَى صِفَةَ لَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ أَنَسٍ فَكُلُّهُمْ وَصَفُوهُ بِالْبَيَاضِ وَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا انْتَهَى، مِنْهُمْ أَبُو جُحَيْفَةَ فِي الْبُخَارِيِّ وَأَبُو الطُّفَيْلِ فِي مُسْلِمٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ:" كَانَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ " أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَمُحَرِّشٌ الْكَعْبِيُّ: نَظَرْتُ إِلَى ظَهْرِهِ كَأَنَّهُ سَبِيكَةُ فِضَّةٍ وَسُرَاقَةُ: جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ كَأَنَّهَا جُمَّارَةٌ، رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَبَعًا لِابْنِ أَبِي خُثَيْمَةَ: الْمُشَرَّبُ بِحُمْرَةٍ أَوْ سُمْرَةٍ مَا ضَحَا مِنْهُ إِلَى الشَّمْسِ وَالرِّيحِ، وَأَمَّا تَحْتَ الثِّيَابِ فَهُوَ الْأَبْيَضُ الْأَزْهَرُ، وَلَوْنُهُ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ الْأَبْيَضُ الْأَزْهَرُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَنَسًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُ حَتَّى يَصِفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم مُلَازِمًا لِلشَّمْسِ، نَعَمْ لَوْ وَصَفَهُ بِذَلِكَ بَعْضُ الْقَادِمِينَ مِمَّنْ صَادَفَهُ فِي وَقْتٍ غَيَّرَتْهُ الشَّمْسُ لَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى حَمْلُ السُّمْرَةُ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ عَلَى الْحُمْرَةِ الْمُخَالِطَةِ لِلْبَيَاضِ كَمَا مَرَّ وَهِيَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «جِسْمُهُ وَلَحْمُهُ

ص: 441

أَحْمَرُ إِلَى بَيَاضٍ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

(وَلَا) أَيْ: وَلَيْسَ شَعْرُهُ (بِالْجَعْدِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَدَالٍ مُهْمَلَتَيْنِ، أَيْ: مُنْقَبِضِ الشَّعْرِ يَتَجَعَّدُ وَيَتَكَسَّرُ كَشَعْرِ الْحَبَشِ وَالزِّنْجِ (الْقَطَطِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، الْأُولَى عَلَى الْأَشْهَرِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَلَمَّا وَرَدَ الْجَعْدُ بِمَعْنَى الْجَوَادِ وَالْكَرِيمِ وَالْبَخِيلِ وَاللَّئِيمِ وَمُقَابِلِ السَّبِطِ، وَيُوصَفُ فِي الْكُلِّ بِقَطَطٍ فَهُوَ لَا يُعَيِّنُ الْمُرَادَ، قَابَلَهُ لِتَعْيِينِهِ بِقَوْلِهِ:" وَلَا بِالسَّبِطِ " بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْمُنْبَسِطِ الْمُسْتَرْسِلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ شَعْرَهُ لَيْسَ نِهَايَةً فِي الْجُعُودَةِ وَهِيَ تَكَسُّرُهُ الشَّدِيدُ، وَلَا فِي السُّبُوطَةِ وَهِيَ عَدَمُ تَكَسُّرِهِ وَتَثَنِّيهِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ كَانَ وَسَطًا بَيْنَهُمَا وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا.

وَقَدْ زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَنَسٍ: رَجِلُ الشَّعْرِ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتُسَكَّنُ، أَيْ: مُتَسَرِّحٌ وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: هُوَ رَجِلٌ.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عَلِيٍّ: وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا بِالسَّبِطِ كَانَ جَعْدًا رَجِلًا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَالِبُ عَلَى الْعَرَبِ جُعُودَةُ الشَّعْرِ وَعَلَى الْعَجَمِ سُبُوطَتُهُ، فَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَسُولِهِ الشَّمَائِلَ وَجَمَعَ فِيهِ مَا تَفَرَّقَ فِي الظَّرَائِفِ مِنَ الْفَضَائِلِ اهـ.

( «بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ) أَيْ: آخِرِهَا، قَالَ الْحَافِظُ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ بُعِثَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وُلِدَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ بُعِثَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ حِينَ بُعِثَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ، فَمَنْ قَالَ أَرْبَعِينَ أَلْغَى الْكَسْرَ أَوْ جَبَرَ، لَكِنْ قَالَ الْمَسْعُودِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ بُعِثَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً سَوَاءً، وَقِيلَ: بُعِثَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقِيلَ: وُلِدَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ شَاذٌّ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا وَضُمَّ إِلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ الْبَعْثَ فِي رَمَضَانَ صَحَّ أَنَّهُ بُعِثَ عِنْدَ إِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ بُعِثَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ وَشَهْرَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ وُلِدَ فِي رَجَبٍ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ فِي تَارِيخِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِتْقِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ وُلِدَ لِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَمِنَ الشَّاذِّ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ:" «أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ» " وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ وَتَبِعَهُ الْبَلَاذُرِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ.

وَفِي تَارِيخِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ بُعِثَ بَعْدَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ.

(فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ) أَيْ: يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَنَسٍ.

(وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ) بِاتِّفَاقٍ (وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً) أَيْ: آخِرِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجَازُهُ كَمَجَازِ قَوْلِهِمْ رَأْسُ آيَةٍ، أَيْ: آخِرُهَا اهـ.

وَصَرِيحُهُ أَنَّهُ عَاشَ سِتِّينَ فَقَطْ.

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ

ص: 442

آخَرَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ أَحَدَهُمَا، وَجَمَعَ غَيْرُهُ بِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ.

وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " لَبِثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَبُعِثَ لِأَرْبَعِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ " وَجَمَعَ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّ مَنْ قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ عَدَّ مِنْ أَوَّلِ مَا جَاءَهُ الْمَلَكُ بِالنُّبُوَّةِ، وَمَنْ قَالَ عَشْرًا عَدَّ مَا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَنُزُولِ:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1][سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ: الْآيَةُ 1] وَيُؤَيِّدُهُ زِيَادَةُ " يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ "، لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ خَبَرِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ ثَلَاثُ سِنِينَ، لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُهُ، أَيْ: أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ كَانَتْ أَيَّامًا، قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَوَى عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ الْمَشْهُورَ وَهُوَ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ جَاءَ عَنْهُ الْمَشْهُورُ، وَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأَنَسٌ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ الثَّبْتُ عِنْدَنَا، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي سِنِّهِ أَنَّهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ جَبَرَ الْكَسْرَ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فَقَطْ، وَقَلَّ مَنْ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ، وَمِنَ الشَّاذِّ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ أَنَّهُ عَاشَ إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَبْلُغْ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَعِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ أَنَّهُ عَاشَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفًا اهـ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: رِوَايَاتُ سِتِّينَ وَثَلَاثٍ وَخَمْسٍ لَيْسَتْ بِاخْتِلَافٍ إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ مَا بَيْنَ رُؤْيَا وَفَتْرَةٍ ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَمَنْ عَدَّهَا قَالَ سِتِّينَ، وَمَنْ عَدَّ الْجُمْلَةَ قَالَ خَمْسًا وَسِتِّينَ، وَمَنْ أَسْقَطَ عَامَيِ الْفَتْرَةِ قَالَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ اهـ.

وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ وَجَمْعُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عَاشَ خَمْسًا، فَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى جَبْرِ الْكَسْرِ.

( «وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ» ) أَيْ: بَلْ أَقَلُّ.

رَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: " «مَا كَانَ فِي رَأْسِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِحْيَتِهِ إِلَّا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ» " وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ: " كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ ".

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: " «كَانَ فِي لِحْيَتِهِ شَعْرَاتٌ بِيضٌ» " فَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةٍ لِإِيرَادِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَهُوَ شَعَرَاتٌ، جَمْعُ تَصْحِيحٍ لِشَعَرٍ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةٍ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ بُسْرٍ خَصَّهُ بِعَنْفَقَتِهِ فَيُحْمَلُ الزَّائِدُ عَلَى أَنَّهُ فِي صُدْغَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، لَكِنَّ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ:" «لَمْ يَبْلُغْ مَا فِي لِحْيَتِهِ مِنَ الشَّيْبِ عِشْرِينَ شَعْرَةً» " قَالَ حُمَيْدٌ: وَأَوْمَأَ إِلَى عَنْفَقَتِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ.

وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: " «مَا عَدَدْتُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ إِلَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَعْرَةً» " وَجُمِعَ بِأَنَّ أَخْبَارَهُ اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ

ص: 443

عَدَدًا، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عَائِشَةَ: " «كَانَ أَكْثَرُ شَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّأْسِ فِي فَوْدَيْ رَأْسِهِ، وَكَانَ أَكْثَرُ شَيْبِهِ فِي لِحْيَتِهِ حَوْلَ الذَّقْنِ، وَكَانَ شَيْبُهُ كَأَنَّهُ خُيُوطُ الْفِضَّةِ يَتَلَأْلَأُ بَيْنَ سَوَادِ الشَّعْرِ فَإِذَا مَسَّهُ بِصُفْرَةٍ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ خُيُوطُ الذَّهَبِ» " وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ قَتَادَةَ: " «سَأَلْتُ أَنَسًا هَلْ خَضَّبَ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ» " وَلِمُسْلِمٍ: " «إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نُبَذٌ» " بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَمُعْجَمَةٍ، أَيْ: شَعْرَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ.

وَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا أَنَّ مَا شَابَ مِنْ عَنْفَقَتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا شَابَ مِنْ غَيْرِهَا.

قَالَ الْحَافِظُ: وَمُرَادُ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَعْرِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ:" «سَأَلْتُ أَنَسًا أَكَانَ صلى الله عليه وسلم خَضَّبَ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ» " وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: " «لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ لَفَعَلْتُ» " زَادَ ابْنُ سَعْدٍ وَالْحَاكِمُ: " «مَا شَانَهُ اللَّهُ بِالشَّيْبِ» "، أَيْ: أَنَّ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْبِيضَ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا شَيْءٌ مِنْ حُسْنِهِ.

وَمَرَّ فِي الْحَجِّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَضِّبُ بِالصُّفْرَةِ» " وَلِلْحَاكِمِ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ: " «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ وَلَهُ شَعْرٌ قَدْ عَلَاهُ الشَّيْبُ وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ» ".

وَيُجْمَعُ بِحَمْلِ نَفْيِ أَنَسٍ عَلَى غَلَبَةِ الشَّيْبِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى خِضَابِهِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ أَنَّهُ رَآهُ وَهُوَ يُخَضِّبُ.

وَحَدِيثُ مَنْ أَثْبَتَ الْخِضَابَ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ نَفْيَ أَنَسٍ أَنَّهُ خَضَّبَ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَوَافَقَ مَالِكٌ أَنَسًا فِي إِنْكَارِ الْخِضَابِ وَتَأَوَّلَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصِّفَةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي اللِّبَاسِ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بِنَحْوِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَائِلًا بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِمَا: كَانَ أَزْهَرَ انْتَهَى.

ص: 444

[صِفَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام وَالدَّجَّالِ]

بَابُ صِفَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام وَالدَّجَّالِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا قِيلَ هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ لِي هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ صِفَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام وَالدَّجَّالِ

1708 -

1658 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرَانِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً فِي اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ، أَيْ: أَرَى

ص: 444

نَفْسِيَ (اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ) فِي الْمَنَامِ (فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ) بِالْمَدِّ اسْمٌ (كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:" فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ " وَالْأَحْمَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الشَّدِيدُ الْبَيَاضِ مَعَ الْحُمْرَةِ، وَالْآدَمُ الْأَسْمَرُ، وَجُمِعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بِأَنَّهُ احْمَرَّ لَوْنُهُ بِسَبَبٍ كَالتَّعَبِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ أَسْمَرُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ الْأُدْمَةَ تَصِيرُ سُمْرَةً تَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ وَهُوَ غَالِبُ أَلْوَانِ الْعَرَبِ، وَبِهِ تُجْمَعُ الرِّوَايَتَانِ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " لَا وَاللَّهِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِيسَى: أَحْمَرُ، وَلَكِنْ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ أَنِّي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ " الْحَدِيثَ.

قَالَ الْحَافِظُ: أَقْسَمَ عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ أَنَّ الْوَصْفَ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي وَأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ أَحْمَرُ إِنَّمَا هُوَ الدَّجَّالُ لَا عِيسَى، وَقَرُبَ ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، صِفَةُ مَدْحٍ لِعِيسَى وَذَمٍّ لِلدَّجَّالِ، وَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ ذَلِكَ جَزْمًا فِي وَصْفِ عِيسَى أَنَّهُ آدَمُ فَسَاغَ لَهُ الْحَلِفُ لِغَلَبَةِ ظَنِّهِ أَنَّ مَنْ وَصَفَهُ بِأَحْمَرَ فَقَدْ وَهِمَ، لَكِنْ قَدْ وَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى أَحْمَرُ فَظَهَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَنْكَرَ شَيْئًا حَفِظَهُ غَيْرُهُ وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَأَمَّا قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ: رِوَايَةُ مَنْ قَالَ آدَمُ - أَثْبَتُ فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ اتِّفَاقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مُخَالَفَةِ ابْنِ عُمَرَ.

(لَهُ لِمَّةٌ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَشَدِّ الْمِيمِ: شَعْرٌ جَاوَزَ شَحْمَةَ الْأُذُنَيْنِ وَأَلَمَّ بِالْمَنْكِبَيْنِ فَإِنْ جَاوَزَهُمَا فَجُمَّةٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِنْ قَصُرَ عَنْهَا فَوَفْرَةٌ (كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ) جَمْعُ لِمَّةٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ: تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ (قَدْ رَجَّلَهَا) أَيْ: سَرَّحَهَا (فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً) مِنَ الْمَاءِ الَّذِي سَرَّحَهَا بِهِ أَوْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ كَنَّى بِهَا عَنْ مَزِيدِ النَّظَافَةِ وَالنَّضَارَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ " وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: " فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعْرِ " وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: جَعْدٌ، وَالْجُعُودَةُ ضِدُّ السُّبُوطَةِ، فَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ سَبْطُ الشَّعْرِ جَعْدُ الْجِسْمِ وَالْمُرَادُ بِهِ اجْتِمَاعُهُ وَاكْتِثَارُهُ، وَهَذَا نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي لَوْنِهِ.

(مُتَّكِئًا) حَالٌ (عَلَى رَجُلَيْنِ) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِمَا (أَوْ) لِلشَّكِّ قَالَ (عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ) جَمْعُ عَاتِقٍ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: وَاضِعٌ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ (يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ) حَالٌ (فَسَأَلْتُ) الْمَلَكَ (مَنْ هَذَا؟) الطَّائِفُ (قِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ مُخَفَّفَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَدْ تُشَدَّدُ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَصَحَّفَ مَنْ أَعْجَمَهَا لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا

ص: 445

بِالدُّهْنِ، أَوْ لِأَنَّ زَكَرِيَّا مَسَحَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ، أَوْ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ بِسِيَاحَتِهِ، أَوْ لِأَنَّ رِجْلَهُ لَا أُخْمُصَ لَهَا، أَوْ لِلُبْسِهِ الْمُسُوحَ، أَقْوَالٌ.

وَقِيلَ: هُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَاسِحٌ فَعُرِّبَ الْمَسِيحَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الصِّدِّيقُ (ثُمَّ إِذَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ شَعْرُهُ (قَطَطٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ الْأُولَى عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَدْ تُكْسَرُ، أَيْ: شَدِيدُ جُعُودَةِ الشَّعْرِ (أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) بِتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْفَاءِ، أَيْ: بَارِزَةٍ مِنْ طَفِئَ الشَّيْءُ يَطْفُو بِغَيْرِ هَمْزٍ إِذَا عَلَا عَلَى غَيْرِهِ، شَبَّهَهَا بِالْعِنَبَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْعُنْقُودِ بَارِزَةً عَنْ نَظَائِرِهَا وَبِالْهَمْزِ، أَيْ: ذَهَبَ ضَوْءُهَا.

قَالَ عِيَاضٌ: رَوَيْنَاهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ عَنْ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَصَحَّحُوهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةَ الْهَمْزِ وَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا، وَيُصَحِّحُهَا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ حَجْرَاءَ وَلَا نَاتِئَةً وَأَنَّهَا مَطْمُوسَةٌ، وَهَذِهِ صِفَةُ حَبَّةِ الْعِنَبِ إِذَا طُفِيَتْ وَزَالَ مَاؤُهَا، وَيُصَحِّحُ رِوَايَةَ الْيَاءِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ، وَأَنَّهَا جَاحِظَةٌ، وَكَأَنَّهَا نُخَاعَةٌ فِي حَائِطٍ مُجَصَّصٍ وَأَنَّهَا عَوْرَاءُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ مَا صُحِّحَتْ بِهِ رِوَايَةُ الْيَاءِ يَكُونُ فِي عَيْنٍ، وَمَا صُحِّحَتْ بِهِ رِوَايَةُ الْهَمْزِ يَكُونُ فِي الْأُخْرَى، وَبِهِ أَيْضًا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرِّوَايَاتُ، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَعْوَرُ الْيُسْرَى لِأَنَّ الْعَوَرَ الْعَيْبُ وَكِلْتَا عَيْنَيْهِ مَعِيبَةٌ، أَحَدُهُمَا بِالطَّمْسِ وَهِيَ الْيُمْنَى، وَالْأُخْرَى بِالْبُرُوزِ، انْتَهَى كَلَامُ عِيَاضٍ مُلَخَّصًا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ فِي نِهَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ: يَطُوفُ بِالْبَيْتِ.

(فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ) لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، أَوْ لِأَنَّ أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ خُلِقَ مَمْسُوحًا لَا عَيْنَ فِيهِ وَلَا حَاجِبَ، أَوْ لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ إِذَا خَرَجَ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَنْ خَفَّفَهُ فَلِمَسْحِهِ الْأَرْضَ، وَمَنْ شَدَّدَ فَلِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم " «إِنَّ الدَّجَّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ» "، أَيْ: فِي زَمَنِ خُرُوجِهِ وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ فِي دُخُولِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي.

وَهَذِهِ الرُّؤْيَا مَنَامٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: " رَأَيْتُ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى " وَذَكَرَ صِفَتَهُمْ.

قَالَ عِيَاضٌ: رُؤْيَتُهُ لَهُمْ إِنْ كَانَ مَنَامًا فَلَا إِشْكَالَ وَإِنْ كَانَ يَقَظَةً فَمُشْكِلٌ، وَيُقَوِّيهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ:" «وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ جَعْدٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي» " وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُصَلُّوا وَيَحُجُّوا وَيَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَاعُوا مَا دَامَتِ الدُّنْيَا وَهِيَ دَارُ التَّكْلِيفِ بَاقِيَةً وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ حَالَهُمُ الَّتِي

ص: 446

كَانُوا عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِمْ، فَمُثِّلُوا لَهُ كَيْفَ كَانُوا وَكَيْفَ كَانَ حَجُّهُمْ وَتَلْبِيَتُهُمْ، وَلِذَا قَالَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى " وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ، فَلِذَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّثْنِيَةِ فِي رِوَايَةٍ وَحَيْثُ أَطْلَقَهَا فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَجَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ كِتَابًا لَطِيفًا فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ وَرَوَى فِيهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» " وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: " «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُتْرَكُونَ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ» " وَمُحَمَّدٌ سَيِّئُ الْحِفْظِ.

وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ الرَّافِعِيُّ حَدِيثًا مَرْفُوعًا: " «أَنَا أَكْرَمُ عَلَى رَبِّي مِنْ أَنْ يَتْرُكَنِي فِي قَبْرِي بَعْدَ ثَلَاثٍ» "، وَلَا أَصْلَ لَهُ إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَلَيْسَ الْأَخْذُ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ يُصَلُّونَ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ ثُمَّ يَكُونُونَ مُصَلِّينَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَتَتْ حَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ:" «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَوَجْهُ إِشْكَالِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ عَوْدَ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ يَقْتَضِي انْفِصَالَهَا عَنْهُ وَهُوَ الْمَوْتُ.

وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ رُوحَهُ كَانَتْ سَابِقَةً عَقِبَ دَفْنِهِ لِأَنَّهَا تُعَادُ ثُمَّ تُنْزَعُ ثُمَّ تُعَادُ سَلَّمْنَا لَكِنْ لَيْسَ بِنَزْعِ مَوْتٍ بَلْ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ أَوِ النُّطْقُ، فَتَجُوزُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ خِطَابِنَا بِمَا نَفْهَمُهُ وَبِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ فِي أُمُورِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهْمُهُ لِيُجِيبَ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى هِيَ اسْتِلْزَامُ اسْتِغْرَاقِ الزَّمَانِ كُلِّهِ فِي ذَلِكَ لِاتِّصَالِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِمَّنْ لَا يُحْصَرُ كَثْرَةً.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ لَا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَأَحْوَالُ الْبَرْزَخِ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي اللِّبَاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي الْإِيمَانِ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ بِنَحْوِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَهُ طُرُقٌ.

ص: 447

[مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي الْفِطْرَةِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالْاخْتِتَانُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي الْفِطْرَةِ

بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيِ: السُّنَّةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ فَكَأَنَّهَا أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فُطِرُوا عَلَيْهِ، هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.

1709 -

1659 - (مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ) كَيْسَانَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

ص: 447

قَالَ) مَوْقُوفًا لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ بِهَذَا السَّنَدِ وَرَفَعَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَقَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، وَكَذَا رَفَعَهُ حُمَيْدُ بْنُ أَبِي الْجَهْمِ الْعَدَوِيُّ، عَنْ مَالِكٍ بِإِسْنَادِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(خَمْسٌ) صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: خِصَالٌ خَمْسٌ، ثُمَّ فَسَّرَهَا، أَوْ عَلَى الْإِضَافَةِ، أَيْ: خَمْسُ خِصَالٍ، أَوِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الَّذِي شُرِعَ لَكُمْ خَمْسٌ (مِنَ الْفِطْرَةِ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ) تَفْعِيلٌ مِنَ الْقَلْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَلَمْتُ ظُفْرِي بِالتَّخْفِيفِ وَقَلَّمْتُ أَظْفَارِي بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ، أَيْ: إِزَالَةُ مَا طَالَ مِنْهَا عَنِ اللَّحْمِ بِمِقَصٍّ أَوْ سِكِّينٍ لَا غَيْرِهِمَا مِنَ الْآلَةِ وَيُكْرَهُ بِالْأَسْنَانِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوَسَخَ يَجْتَمِعُ تَحْتَهُ فَيُسْتَقْذَرُ، وَقَدْ يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَيُسْتَحَبُّ كَيْفَمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ يَثْبُتْ فِي اسْتِحْبَابِ قَصِّ الظُّفْرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَدِيثٌ، وَكَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ شَيْءٌ وَلَا فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَظْفَارِهِ وَشَارِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» " وَلَهُ شَاهِدٌ مَوْصُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ قَالَ: "«كَانَ صلى الله عليه وسلم يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إِلَى الصَّلَاةِ» " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ عُقْبَةُ: قَالَ أَحْمَدُ: فِي هَذَا الْإِسْنَادِ مَنْ يُجْهَلُ. انْتَهَى.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حَيْثُ يَذْكُرُونَ اسْتِحْبَابَ تَحْسِينِ الْهَيْئَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَقَلْمِ ظُفْرٍ، وَقَصِّ شَارِبٍ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً فَبَعْضُهَا يُقَوِّي بَعْضًا.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَبِالْجُمْلَةِ فَأَرْجَحُهَا دَلِيلًا وَنَقْلًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِيهِ لَيْسَتْ بِوَاهِيَةٍ جِدًّا بَلْ فِيهَا مُتَمَسِّكٌ، خُصُوصًا الْأَوَّلَ، وَقَدِ اعْتُضِدَ بِشَوَاهِدَ مَعَ أَنَّ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: " «قَصُّ الظُّفْرِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْغُسْلُ وَالطِّيبُ وَاللِّبَاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» " وَلِلدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْمَنَ الْفَقْرَ وَشِكَايَةَ الْعَمَى وَالْبَرَصَ وَالْجُنُونَ فَلْيُقَلِّمْ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَلِيَبْدَأْ بِخِنْصَرِهِ الْيُسْرَى» " وَالْخَبَرَانِ وَاهِيَانِ.

وَفِي مُسَلْسَلَاتِ الْحَافِظِ جَعْفَرٍ الْمُسْتَغْفَرِيِّ بِإِسْنَادٍ مَجْهُولٍ عَنْ عَلِيٍّ: " «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ» "، وَمَا يُعْزَى لِعَلِيٍّ:

ابْدَأْ بِيُمْنَاكَ وَبِالْخِنْصَرِ

فِي قَصِّ أَظْفَارِكَ وَاسْتَبْصِرِ

وَثَنِّ بِالْوُسْطَى وَثَلِّثْ كَمَا

قَدْ قِيلَ بِالْإِبْهَامِ وَالْبِنْصَرِ

ص: 448

وَاخْتَتَمَ الْكَفَّ بِسَبَّابَةٍ

فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَلَا تَمْتَرِ

وَفِي الْيَدِ الْيُسْرَى بِإِبْهَامِهَا

وَالْأُصْبُعِ الْوُسْطَى وَبِالْخِنْصَرِ

وَبَعْدَ سَبَّابَتِهَا بِنْصَرٌ

فَإِنَّهَا خَاتِمَةُ الْأَيْسَرِ

فَبَاطِلٌ عَنْهُ.

وَكَذَا مَا يُعْزَى لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، قَالَ السَّخَاوِيُّ، وَنَصُّهُ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ:

فِي قَصِّ ظُفْرِكَ يَوْمَ السَّبْتِ آكِلَةٌ

تَبْدُو وَفِيمَا يَلِيهِ تَذْهَبُ الْبِرَكَهْ

وَعَالِمٌ فَاضِلٌ يَبْدُو بِتَلْوِهِمَا

وَإِنْ يَكُنْ فِي الثُّلَاثَا فَاحْذَرِ الْهَلَكَهْ

وَيُورِثُ السُّوءَ فِي الْأَخْلَاقِ رَابِعُهَا

وَفِي الْخَمِيسِ الْغِنَى يَأْتِي لِمَنْ سَلَكَهْ

وَالْعُمْرُ وَالرِّزْقُ زِيدَا فِي عُرُوبَتِهَا

عَنِ النَّبِيِّ رُوِينَا فَاقْتَفَوْا نُسُكَهْ

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا مُفْتَرًى عَلَيْهِ، بَلْ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ يَوْمَ السَّبْتِ، خَرَجَ مِنْهُ الدَّاءُ، وَدَخَلَ فِيهِ الشِّفَاءُ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ خَرَجَ مِنْهُ الْفَاقَةُ، وَدَخَلَ فِيهِ الْغِنَى، وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ خَرَجَ مِنْهُ الْجُنُونُ، وَدَخَلَتْ فِيهِ الصِّحَّةُ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَرَجَ مِنْهُ الْمَرَضُ، وَدَخَلَ فِيهِ الشِّفَاءُ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ خَرَجَ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ وَالْخَوْفُ، وَدَخَلَ فِيهِ الْأَمْنُ وَالشِّفَا، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ خَرَجَ مِنْهُ الْجُذَامُ، وَدَخَلَتْ فِيهِ الْعَافِيَةُ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ دَخَلَتْ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الذُّنُوبُ» "، قَالَ: وَآثَارُ الْبُطْلَانِ لَائِحَةٌ عَلَيْهِ، انْتَهَى.

(وَقَصُّ الشَّارِبِ) ، وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الشَّفَةِ، وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ حَلْقِ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ بِلَفْظِ قَصِّ الشَّارِبِ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: تَقْصِيرُ الشَّارِبِ.

(وَنَتْفُ الْإِبْطِ) - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ - يَبْدَأُ بِالْيُمْنَى اسْتِحْبَابًا، وَيَتَأَدَّى أَصْلُهُ بِالْحَلْقِ لَا سِيَّمَا مَنْ يُؤْلِمُهُ النَّتْفُ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَنْ نَظَرَ إِلَى اللَّفْظِ وَقَفَ مَعَ النَّتْفِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى أَزَالَهُ بِكُلِّ مُزِيلٍ، لَكِنْ يَتَعَيَّنُ أَنَّ النَّتْفَ مَقْصُودٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْوَسَخِ الْمُجَسَّمِ بِالْعَرَقِ فِيهِ، فَيَتَلَبَّدُ وَيَهِيجُ، فَشُرِعَ النَّتْفُ الَّذِي يُضْعِفُهُ فَتَخِفُّ الرَّائِحَةُ بِهِ بِخِلَافِ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ يُقَوِّي الشَّعْرَ وَيُهَيِّجُهُ، فَتَكْثُرُ الرَّائِحَةُ بِذَلِكَ، انْتَهَى.

وَقَدْ جَاءَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّ الْإِبْطَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ، إِلَّا هُوَ عليه الصلاة والسلام.

وَمِثْلُهُ لِلْقُرْطُبِيِّ، وَزَادَ: وَأَنَّهُ لَا شَعْرَ عَلَيْهِ.

وَنَازَعَهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِوَجْهٍ، وَالْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَعْرٌ، فَإِنَّ الشَّعْرَ إِذَا نُتِفَ بَقِيَ الْمَكَانُ أَبْيَضَ وَإِنْ بَقِيَ فِيهِ آثَارُ الشَّعْرِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَقْرَمَ، وَقَدْ صَلَّى مَعَهُ صلى الله عليه وسلم:

ص: 449

" «كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ» "، حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْعُفْرَةُ: بَيَاضٌ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ كَمَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آثَارَ الشَّعْرِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَكَانَ أَعْفَرَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ خَالِيًا عَنْ نَبَاتِ الشَّعْرِ جُمْلَةً، لَمْ يَكُنْ أَعْفَرَ، نَعَمْ، الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِإِبْطَيْهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ انْتَهَى.

وَقَدْ تَمْنَعُ دَلَالَتُهُ عَلَى مَا قَالَ بِأَنَّ شَأْنَ الْمَغَابِنِ أَنَّهَا أَقَلُّ بَيَاضًا مِنْ بَاقِي الْجَسَدِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِبَيَاضِ إِبْطَيْهِ، فَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُمَا شَعْرٌ فَكَانَا كَلَوْنِ جَسَدِهِ، ثُمَّ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُمَا شَعْرٌ الْبَتَّةَ، وَقِيلَ: كَأَنَّ لِدَوَامِ تَعَاهُدِهِ لَهُ لَا يَبْقَى فِيهِ شَعْرٌ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ: " «حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ» "، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْأَعْفَرَ: مَا بَيَاضُهُ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمَغَابِنِ تَكُونُ لَوْنُهَا فِي الْبَيَاضِ دُونَ لَوْنِ بَقِيَّةِ الْجَسَدِ.

(وَحَلْقُ الْعَانَةِ) بِالْمُوسَى، وَفِي مَعْنَاهُ الْإِزَالَةُ بِالنَّتْفِ وَالنُّورَةِ، لَكِنْ بِالْمُوسَى أَوْلَى بِالرَّجُلِ لِتَقْوِيَةِ الْمَحَلِّ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ، فَالْأَوْلَى لَهَا النَّتْفُ.

وَاسْتَشْكَلَهُ الْفَاكِهَانِيُّ بِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الزَّوْجِ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَحَلِّ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ، انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ "، وَلِابْنِ الْعَرَبِيِّ تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ شَابَّةً، فَالنَّتْفُ أَوْلَى فِي حَقِّهَا لِأَنَّهُ يَرْبُو مَكَانَ النَّتْفِ، وَإِنْ كَانَتْ كَهْلَةً الْأَوْلَى الْحَلْقُ ; لِأَنَّ النَّتْفَ يُرْخِي الْمَحَلَّ، وَلَوْ قِيلَ فِي حَقِّهَا بِالتَّنْوِيرِ مُطْلَقًا لَمَا بَعُدَ.

وَرَوَى أَنَسٌ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ حَلَقَهُ» ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا طَلَى بَدَأَ بِعَانَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنُّورَةِ، وَسَائِرَ جَسَدِهِ» "، أَهْلُهُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ لَكِنْ أُعِلَّ بِالِانْقِطَاعِ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ صِحَّتَهُ.

وَرَوَى الْخَرَائِطِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَوِّرُهُ الرَّجُلُ، فَإِذَا بَلَغَ مَرَاقَّهُ تَوَلَّى هُوَ ذَلِكَ» "، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَرَدَ فِي النُّورَةِ أَحَادِيثُ هَذَا أَمْثَلُهَا: قَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ مُثْبَتٌ وَأَجْوَدُ إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ النَّفْيِ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَاسْتِعْمَالُهَا مُبَاحٌ لَا مَكْرُوهٌ.

(وَالِاخْتِتَانُ) ، وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ مِنَ الرَّجُلِ، وَقَطْعُ بَعْضِ الْجِلْدَةِ الَّتِي بِأَعْلَى الْفَرْجِ مِنَ الْمَرْأَةِ، كَالنَّوَاةِ، أَوْ كَعُرْفِ الدِّيكِ، وَيُسَمَّى خِتَانُ الرَّجُلِ: إِعْذَارًا، وَخِتَانُ الْمَرْأَةِ: خَفْضًا - بِمُعْجَمَتَيْنِ - هَذَا وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ» ، فَذَكَرَ مَا هُنَا إِلَّا الْخِتَانَ، وَزَادَ: «إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَالِاسْتِنْجَاءُ» "، وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَفَعَهُ:" زِيَادَةُ الِانْتِضَاحِ "، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ "، وَلِأَبِي عَوَانَةَ زِيَادَةُ:" الِاسْتِنْثَارُ "، وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 124) ، ذَكَرَ مَفْرِقَ الرَّأْسِ، فَالْحَصْرُ فِي رِوَايَةِ: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ لَيْسَ بِمُرَادٍ.

ص: 450

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ كَانَ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ الضَّيْفَ وَأَوَّلَ النَّاسِ اخْتَتَنَ وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ الشَّارِبَ وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ فَقَالَ يَا رَبِّ مَا هَذَا فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا

قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ يُؤْخَذُ مِنْ الشَّارِبِ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَهُوَ الْإِطَارُ وَلَا يَجُزُّهُ فَيُمَثِّلُ بِنَفْسِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1710 -

1660 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ الْمَخْزُومِيِّ) ، وَصَلَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ قَالَ:«كَانَ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ الضَّيْفَ» ) ، يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ.

( «وَأَوَّلَ النَّاسِ اخْتَتَنَ» ) - بِهَمْزَةِ وَصْلٍ - رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَالَ صلى الله عليه وسلم: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ» " - بِخِفَّةِ الدَّالِ - اسْمُ آلَةِ النَّجَّارِ، يَعْنِي: الْفَأْسَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَرُوِيَ بِشَدِّهَا، وَأَنْكَرَهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَبَّةَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَكَانُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِتَانُ، وَهُوَ أَيْضًا بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّشْدِيدِ: قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ، وَإِرَادَةُ الْآلَةِ كَمَا قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَحَدُ رُوَاتِهِ، وَأَنْكَرَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْمَوْضِعَ وَرَجَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَالزَّرْكَشِيُّ، وَالْحَافِظُ مُسْتَدِلًّا بِحَدِيثِ أَبِي يَعْلَى:" «أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِالْخِتَانِ فَاخْتَتَنَ بِقَدُومٍ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: عَجَّلْتَ قَبْلَ أَنْ نَأْمُرَكَ بِآلَتِهِ قَالَ: يَا رَبِّ كَرِهْتُ أَنْ أُؤَخِّرَ أَمْرَكَ» " وَجُمِعَ بِأَنَّهُ اخْتَتَنَ بِالْآلَةِ وَفِي الْمَوْضِعِ.

وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَابْنِ السَّمَّاكِ، وَابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا عَنْهُ مَرْفُوعًا:" وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ "، وَزَادُوا: وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَأُعِلَّ بِأَنَّ عُمُرَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَرُدَّ بِأَنَّ مِثْلَهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنِ سَعْدٍ، وَالْحَاكِمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ وَصَحَّحَاهُ، وَأَبِي الشَّيْخِ فِي الْعَقِيقَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَزَادُوا أَيْضًا:" وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ "، فَعَلَى هَذَا عَاشَ مِائَتَيْنِ، وَجُمِعَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ حَسَبَ مِنْ مُنْذُ نُبُوَّتِهِ، وَالثَّانِيَ حَسَبَ مِنْ مَوْلِدِهِ، وَبِأَنَّ الْمُرَادَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ مِنْ وَقْتِ فِرَاقِ قَوْمِهِ وَهِجْرَتِهِ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، أَيْ مِنْ مَوْلِدِهِ، وَبِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَأَى مِائَةً وَعِشْرِينَ، فَظَنَّهَا إِلَّا عِشْرِينَ، أَوْ عَكْسَهُ، وَالْأَوَّلَانِ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَوْهِيمُ الرُّوَاةِ بِلَا دَاعِيَةٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِدُونِ تَوْهِيمِهِمْ.

وَفِي التَّمْهِيدِ تَوَاتَرَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَتَنَ إِسْمَاعِيلَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِسْحَاقَ لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَكَرِهَ جَمْعَ الْخِتَانِ يَوْمَ السَّابِعِ.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: أَتَرَى أَنْ تَخْتِنَ الصَّبِيَّ يَوْمَ السَّابِعِ؟ فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْيَهُودِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ إِلَّا حَدِيثًا، قُلْتُ: فَمَا حَدُّ خِتَانِهِ؟ قَالَ: إِذَا أُدِّبَ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: عَشْرُ سِنِينَ، أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

( «وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى» ) : هَذَا

ص: 451

(وَقَارٌ) حِلْمٌ، وَرَزَانَةٌ (يَا إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا) ، فَالشَّيْبُ مَمْدُوحٌ.

وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورُ الْإِسْلَامِ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَفَعَهُ:" «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، زَادَ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى:" مَا لَمْ يُغَيِّرْهَا "، وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ مَرْفُوعًا:" «الشَّيْبُ نُورُ الْمُؤْمِنِ، لَا يَشِيبُ رَجُلٌ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِكُلِّ شَيْبَةٍ حَسَنَةٌ، وَرُفِعَ بِهَا دَرَجَةً» "، وَلِلدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «الشَّيْبُ نُورٌ، مَنْ خَلَعَ الشَّيْبَ، فَقَدْ خَلَعَ نُورَ الْإِسْلَامِ» "، وَلِلدَّيْلَمِيِّ عَنْهُ رَفَعَهُ:" «أَيُّمَا رَجُلٍ نَتَفَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ مُتَعَمِّدًا صَارَتْ رُمْحًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُطْعَنُ بِهِ» "، وَأَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ «عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا شَانَهُ اللَّهُ بِبَيْضَاءَ» ، فَقَالَ الْحَافِظُ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْبِيضِ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا شَيْءٌ مِنْ حُسْنِهِ صلى الله عليه وسلم اه.

وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ تَعَجُّبِ ابْنِ الْأَثِيرِ مِنْ جَعْلِ أَنَسٍ الشَّيْبَ عَيْبًا، وَتَعَسُّفِهِ الْجَمْعَ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا رَأَى أَبَا قُحَافَةَ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ أَمَرَهُمْ بِتَغْيِيرِهِ وَكَرِهَهُ، فَلَمَّا عَلَمَ أَنَسٌ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ قَالَ: مَا شَانَهُ اللَّهُ بِبَيْضَاءَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَحَمْلًا لَهُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ، يَعْنِي كَرَاهَةَ الشَّيْبِ، وَلَمْ يَسْمَعِ الْحَدِيثَ الْآخَرَ وَلَعَلَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلْآخَرِ فَإِنَّ فِي نَفْيِهِ نَظَرًا، إِذْ أَنَسٌ قَدْ رَوَى بَعْضَ أَحَادِيثِ مَدْحِهِ كَمَا رَأَيْتَ، وَكَذَا فِي تَرَجِّيهِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ التَّارِيخِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدٍ: وَأَوَّلَ مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ وَأَوَّلَ مَنِ اسْتَحَدَّ.

وَزَادَ وَكِيعٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَأَوَّلَ مَنْ تَسَرْوَلَ، وَأَوَّلَ مَنْ فَرَّقَ، وَلِلدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْمِ» "، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ:" «أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ» "، وَلِابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ:" أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "، وَلَهُ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ:" «أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ رَتَّبَ الْعَسْكَرَ فِي الْحَرْبِ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا» ".

وَلِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الرَّمْيِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ «أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الْقِسِيَّ» "، وَلَهُ فِي كِتَابِ الْإِخْوَانِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا:" أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَانَقَ "، وَلِابْنِ سَعْدٍ:" أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ ثَرَدَ الثَّرِيدَ "، وَلِلدَّيْلَمِيِّ عَنْ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ مَرْفُوعًا:" أَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْخُبْزَ الْمُبَلْقَسَ "، وَلِأَحْمَدَ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُطَرِّفٍ:" أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ رَاغَمَ "(مَالِكٌ: يُؤْخَذُ مِنَ الشَّارِبِ حَتَّى يَبْدُوَ) : يَظْهَرَ (طَرَفُ الشَّفَةِ) ظُهُورًا بَيِّنًا، (وَهُوَ الْإِطَارُ) بِزِنَةِ كِتَابٍ ; أَيِ اللَّحْمُ الْمُحِيطُ بِالشَّفَةِ (وَلَا يَجُزُّهُ) - بِضَمِّ الْجِيمِ - يَقْطَعُهُ، (فَيُمَثِّلُ بِنَفْسِهِ)، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهُ: " يُحْفِي الشَّوَارِبَ وَيُعْفِي

ص: 452

اللِّحَى "، وَلَيْسَ إِحْفَاءُ الشَّارِبِ حَلْقَهُ، وَأَرَى تَأْدِيبَ مَنْ حَلَقَ شَارِبَهُ.

وَقَالَ عَنْهُ أَشْهَبُ: إِنَّ حَلْقَهُ بِدْعَةٌ، وَأَرَى أَنْ يُوجَعَ ضَرْبًا مَنْ فَعَلَهُ.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى اسْتِحْبَابِ حَلْقِهِ كُلِّهِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ:" «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» "، وَرُدَّ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَزِيلُوا مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُؤْذِي الْآكِلَ، وَلَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَسَخُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَتَفْسِيرُ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْفَاءِ الشَّارِبِ إِنَّمَا هُوَ الْإِطَارُ يَعْنِي لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ:" قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَعَبَّرَ بِمَنِ الصَّرِيحَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَأْصِلُهُ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَلَمْ نَجِدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ مِنْهُمْ: الرَّبِيعُ وَالْمُزَنِيُّ يُحْفِيَا شَارِبَهُمَا، وَمَا أَظُنُّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ إِلَّا عَنْهُ.

وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَعِنْدَهُمُ الْإِحْفَاءُ فِي الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ، أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ.

وَذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ عَنِ الشَّافِعِيِّ كَالْحَنَفِيِّ سَوَاءً، وَقَالَ الْأَثْرَمُ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ يُحْفِي شَارِبَهُ شَدِيدًا وَيَقُولُ: هُوَ السُّنَّةُ

ص: 453

[النَّهْيِ عَنْ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ]

بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ وَأَنْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ

1711 -

1661 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيِّ) - بِفَتْحَتَيْنِ - الْأَنْصَارِيِّ الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى) تَنْزِيهًا عَلَى الْأَصَحِّ (عَنْ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ) ، وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، وَالْمُرَادُ الْإِنْسَانُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (بِشِمَالِهِ) إِلَّا لِعُذْرٍ، (أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) صِفَةُ نَعْلٍ، لِأَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ، فَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمُثْلَةِ، وَمُفَارَقَةِ الْوَقَارِ، وَمُشَابَهَةِ الشَّيْطَانِ، وَمَشَقَّةِ الْمَشْيِ وَخَوْفِ الْعِثَارِ.

(وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ) - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمَدِّ - فُسِّرَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِأَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، أَيْ لِأَنَّ يَدَهُ تَصِيرُ دَاخِلَ ثَوْبِهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ الِاحْتِرَاسَ مِنْهُ وَالِاتِّقَاءَ بِيَدَيْهِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ تَحْتِ الثَّوْبِ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، وَبِهَذَا فَسَّرَهَا الْفُقَهَاءُ وَقَالُوا: تَحْرُمُ إِنِ انْكَشَفَتْ بَعْضُ عَوْرَتِهِ وَإِلَّا كُرِهَتْ.

وَفَسَّرَهَا اللُّغَوِيُّونَ بِأَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ حَتَّى يُخَلِّلَ بِهِ جَسَدَهُ، لَا يَرْفَعُ مِنْهُ جَانِبًا، وَلِذَا سُمِّيَتْ صَمَّاءَ لِأَنَّهُ يَسُدُّ عَلَى يَدَيْهِ، وَرِجْلَيْهِ الْمَنَافِذَ كُلَّهَا كَصَخْرَةٍ

ص: 453

صَمَّاءَ لَا خَرْقَ فِيهَا، وَلَا صَدْعَ وَمَرَّ ذَلِكَ قَرِيبًا.

(وَأَنْ يَحْتَبِيَ) - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ - (فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ) ، فَيَحْرُمُ فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَرْجُهُ فَلَا حُرْمَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 454

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1712 -

1662 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، (عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - قَالَ أَبُو عُمَرَ عَلَى الصَّوَابِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٌ، إِلَّا يَحْيَى، فَقَالَ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - وَهُوَ وَهْمٌ وَخَطَأٌ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ، وَالنَّسَبِ.

(ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ، تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، مَاتَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَأَبَوْهُ شَقِيقُ سَالِمٍ (عَنْ) جَدِّهِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ زِيَادَةُ: عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يَرْوِي عَنْ جَدِّهِ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ مِنْ حَفَدَتِهِ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ وَمَنْ دُونَهُمْ فِي السِّنِّ، وَلَا أَدْفَعُ رِوَايَةَ ابْنِ بُكَيْرٍ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ) ، أَيْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، (فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ) ، أَيْ بِيَدِهِ الْيُمْنَى مِنَ الْيَمَنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ.

(وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ)، وَفِي رِوَايَةٍ:" وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ " ; لِأَنَّ مِنْ حَقِّ النِّعْمَةِ الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا، وَمِنْ حَقِّ الْكَرَامَةِ أَنْ تُتَنَاوَلَ بِالْيَمِينِ، وَيُمَيَّزَ بِهَا بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَمَا هُوَ مِنَ الْأَذَى، وَقَدَّمَ الْأَكْلَ إِجْرَاءً لِحُكْمِ الشَّرْعِ عَلَى وَفْقِ الطِّبَاعِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَطَشِ، فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا لَا تَحْرِيمًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِعْلُهُمَا بِالشِّمَالِ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَأَرْشَدَ لِعِلَّةِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ) حَقِيقَةً لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُهُ، وَالشَّرْعُ لَا يُنْكِرُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ الْخَبَرُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِنْ فَعَلْتُمْ كُنْتُمْ أَوْلِيَاءَهُ ; لِأَنَّهُ يَحْمِلُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَازِ إِذَا أَمْكَنَتِ الْحَقِيقَةُ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَنْ نَفَى عَنِ الْجِنِّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، فَقَدْ وَقَعَ فِي حَيَالَةِ إِلْحَادٍ وَعَدَمِ رَشَادٍ، بَلِ الشَّيْطَانُ وَجَمِيعُ الْجَانِّ يَأْكُلُونَ، وَيَشْرَبُونَ، وَيَنْكِحُونَ، وَيُولَدُ لَهُمْ، وَيَمُوتُونَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عَقْلًا، وَوَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَتَظَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمِضْمَارِ إِلَّا حِمَارٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَكْلَهُمْ شَمٌّ فَمَا شَمَّ رَائِحَةَ الْعِلْمِ، انْتَهَى.

ص: 454

وَيُقَوِّي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ الْجِنَّ سَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا» ; لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ لَحْمًا إِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَكْلِ حَقِيقَةً.

وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: الْجِنُّ أَصْنَافٌ فَخَالِصُهُمْ لَا يَأْكُلُونَ، وَلَا يَشْرَبُونَ، وَلَا يَتَوَالَدُونَ وَصِنْفٌ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمُ السَّعَالِي، وَالْغِيلَانُ، وَالْقُطْرُبُ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ كَانَ جَامِعًا لِلْقَوْلَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا لِابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ مَرْفُوعًا:" «الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَصِنْفٌ يَحُلُّونَ وَيَظْعَنُونَ وَيَرْحَلُونَ» "، وَلِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا مَرْفُوعًا نَحْوُهُ، لَكِنْ قَالَ فِي الثَّالِثِ: وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، انْتَهَى.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَعَلَّ الصِّنْفَ الطَّيَّارَ هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ، وَلَا يَشْرَبُ إِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ آكَامِ الْمَرْجَانِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَائِلُونَ: الْجِنُّ لَا يَأْكُلُ، وَلَا يَشْرَبُ إِنْ أَرَادُوا جَمِيعَهُمْ فَبَاطِلٌ لِمُصَادَمَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا صِنْفًا مِنْهُمْ فَمُحْتَمَلٌ، لَكِنَّ الْعُمُومَاتِ تَقْتَضِي أَنَّ الْكُلَّ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، انْتَهَى.

وَأَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ حُرْمَةَ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، وَوُجُوبَهُ بِالْيَمِينِ، وَلِصِحَّةِ الْوَعِيدِ فِي الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ فَقَالَ: كُلْ بِيَمِينِكَ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ» "، أَيْ فَمَا اسْتَطَاعَ رَفْعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى فَمِهِ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْجِيزِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تَأْكُلُ بِشِمَالِهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَخَذَهَا دَاءُ غَزَّةَ، فَقِيلَ: إِنَّ بِهَا قُرْحَةً، فَقَالَ: وَإِنْ، فَمَرَّتْ بِغَزَّةَ فَأَصَابَهَا الطَّاعُونُ فَمَاتَتْ» "، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَيْسَ لِتَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ بَلْ لِقَصْدِ الْمُخَالَفَةِ كِبْرًا بِلَا عُذْرٍ، فَدَعَا عَلَى الرَّجُلِ فَشُلَّتْ يَمِينُهُ، وَالْمَرْأَةِ فَمَاتَتْ، وَبِهَذَا الْإِيرَادِ أَنَّ دُعَاءَهُ صلى الله عليه وسلم الْمَقْصُودُ بِهِ الزَّجْرُ لَا الدُّعَاءُ الْحَقِيقِيُّ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا.

ص: 455

[مَا جَاءَ فِي الْمَسَاكِينِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَسَاكِينِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ قَالُوا فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يَفْطُنُ النَّاسُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَسَاكِينِ

جَمْعُ مِسْكِينٍ مِنَ السُّكُونِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ سَكَنَتْ حَرَكَاتُهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16](سورة الْبَلَدِ: الْآيَةُ 16) ، أَيْ أُلْصِقَ بِالتُّرَابِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

1713 -

1663 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، (عَنِ الْأَعْرَج) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ

ص: 455

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ) - بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقَدْ تُفْتَحُ - أَيِ الْكَامِلُ فِي الْمَسْكَنَةِ (بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ) يَسْأَلُهُمُ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ، (فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ، وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ) - بِفَوْقِيَّةٍ فِيهِمَا - أَيْ عِنْدَ طَوَافِهِ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ قُوَّتِهِ، وَرُبَّمَا يَقَعُ لَهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْمَسْكَنَةِ عَنِ الطَّوَّافِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ غَيْرَهُ أَشَدُّ حَالًا مِنْهُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الطَّوَّافَ الْمُحْتَاجُ الْمِسْكِينُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 177) الْآيَةَ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " «أَتُدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ» ؟ (قَالُوا فَمَا) كَذَا لِيَحْيَى وَحْدَهُ، وَلِغَيْرِهِ فَمَنْ، كَذَا، قِيلَ: وَقَدْ رَوَاهُ قُتَيْبَةُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ مَا، وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحِزَامِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْمَسْكَنَةُ، وَمَا يَقَعُ عَنْ صِفَاتِ الْعُقَلَاءِ يُقَالُ فِيهِ مَا نَحْوَ:{مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 3) ، فَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ، (الْمِسْكِينُ) : الْكَامِلُ فِي الْمَسْكَنَةِ، (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ) ، وَسَقَطَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ عَقِبَ اللُّقْمَتَانِ: وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ: (الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى) - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ - أَيْ يَسَارًا، (يُغْنِيهِ) صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْيَسَارِ الْمَنْفِيِّ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِهِ لِلْمَرْءِ أَنْ يَغْتَنِيَ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفِيَ أَصْلِ الْيَسَارِ، وَلِأَنْ يَكُونَ نَفْيَ الْيَسَارِ الْمُقَيَّدِ بِأَنَّهُ يُغْنِيهِ مَعَ وُجُودِ أَصْلِهِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ.

(وَلَا يُفْطَنُ) - بِضَمِّ الطَّاءِ، وَفَتْحِهَا - أَيْ لَا يَتَنَبَّهُ (النَّاسُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ) - بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ - (وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ)، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الْبُخَارِيِّ:" وَيَسْتَحِي أَنْ يَسْأَلَ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا "، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْمُضَارِعُ الْوَاقِعُ بَعْدَ الْفَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْمَنْفِيِّ الْمَرْفُوعِ، فَيَنْسَحِبُ النَّفْيُ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يُفْطَنُ فَلَا يُتَصَدَّقُ، وَلَا يَقُومُ فَلَا يَسْأَلُ، وَبِالنَّصْبِ فِيهِمَا بِأَنْ مُضْمِرَةٍ وُجُوبًا، لِوُقُوعِهِ فِي جَوَابِ النَّفْيِ بَعْدَ الْفَاءِ، انْتَهَى.

وَاقْتَصَرَ الْحَافِظُ عَلَى النَّصْبِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ عَلَى أَحَدِ مَحْمَلَيْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 273) ، أَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ السُّؤَالِ أَصْلًا، أَوْ نَفْيُ السُّؤَالِ بِالْإِلْحَافِ خَاصَّةً، فَلَا يُنَفَى السُّؤَالُ بِغَيْرِهِ،

وَالثَّانِي أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا.

وَقَدْ يُقَالُ: لَفْظَةُ يَقُومُ تَدُلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ فِي السُّؤَالِ، فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيِ أَصْلِهِ، وَالتَّأْكِيدُ فِي السُّؤَالِ هُوَ الْإِلْحَافُ، وَهُوَ الْإِلْحَاحُ، مُشْتَقٌّ مِنَ اللِّحَافِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللِّحَافِ فِي التَّغْطِيَةِ.

وَزَادَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ

ص: 456

فِي الصَّحِيحَيْنِ: إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ لَا يَسْأَلُونَ فِي حَالِ الْإِلْحَافِ، أَوْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا يَسْأَلُونَ لِأَجْلِ الْإِلْحَافِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الزَّكَاةِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ كِلَيْهِمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَهُ طُرُقٌ.

ص: 457

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ بُجَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْحَارِثِيِّ عَنْ جَدَّتِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ رُدُّوا الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1714 -

1664 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ بُجَيْدٍ) - بِمُوَحَّدَةٍ وَجِيمٍ مُصَغَّرٌ - (الْأَنْصَارِيِّ، ثُمَّ الْحَارِثِيُّ) - بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَمُثَلَّثَةٍ - نِسْبَةً إِلَى بَنِي حَارِثَةَ بَطْنٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي تَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ: اتَّفَقَ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ عَلَى إِبْهَامِهِ إِلَّا يَحْيَى بْنَ بُكَيْرٍ، فَقَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بُجَيْدٍ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْبَرْقِيِّ، فِيمَا حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْجَوْهَرِيُّ فِي مُسْنَدِ الْمُوَطَّأِ، وَوَقَعَ فِي أَطْرَافِ الْمِزِّيِّ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدٍ، وَلَمْ يُتَرْجِمْ فِي التَّهْذِيبِ لِمُحَمَّدٍ، بَلْ جَزَمَ فِي مُبْهَمَاتِهِ بِأَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ النَّسَائِيَّ إِنَّمَا رَوَاهُ غَيْرَ مُسَمًّى كَأَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَمُسْتَنَدُ مَنْ سَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَا فِي السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، عَنِ اللَّيْثِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ، فَذَكَرَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ شَيْخِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْخَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِيهِ آخِرُ اسْمِهِ مُحَمَّدٌ، (عَنْ جَدَّتِهِ) أُمِّ بُجَيْدٍ مَشْهُورَةٌ بِكُنْيَتِهَا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ اسْمُهَا حَوَّاءُ، وَتَرْجَمَ لَهَا أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ حَوَّاءُ جَدَّةُ عَمْرِو بْنِ مُعَاذٍ، وَيَأْتِي فِي جَامِعِ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ فِي التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ، حَدِيثِ عَمْرٍو عَنْهَا، وَكَانَتْ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رُدُّوا) ، أَيْ أَعْطُوا (الْمِسْكِينَ)، وَفِي رِوَايَةٍ: السَّائِلَ (وَلَوْ بِظِلْفٍ) - بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَبِالْفَاءِ - وَهُوَ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ كَالْحَافِرِ لِلْفَرَسِ، " وَلَوْ " لِلتَّقْلِيلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ مَا يُعْطَى، وَالْمَعْنَى: تَصَدَّقُوا بِمَا تَيَسَّرَ كَثُرَ أَوْ قَلَّ وَلَوْ بَلَغَ فِي الْقِلَّةِ الظِّلْفَ مَثَلًا، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ.

وَقَالَ: (مُحْرَقٍ) لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَقَدْ يُلْقِيهِ آخِذُهُ، وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: الْوَاوُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الشَّرْطِ لِلْعَطْفِ، لَكِنَّهَا لِعَطْفِ حَالٍ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ، وَقَدْ تَضَمَّنَهَا السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: رُدُّوهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَالٍ، وَلَوْ بِظِلْفٍ وَقَيَّدَ بِالْإِحْرَاقِ، أَيِ الشَّيْءِ كَمَا هُوَ عَادَتُهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّ النَّيِّئَ قَدْ لَا يُؤْخَذُ، وَقَدْ يَرْمِيهِ آخِذُهُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِخِلَافِ الْمَشْوِيِّ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا تَتْمِيمٌ لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي ظِلْفٍ كَقَوْلِهَا: كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ.

يَعْنِي: لَا تَرُدُّوهُ رَدَّ حِرْمَانٍ بِلَا شَيْءٍ، وَلَوْ أَنَّهُ ظِلْفٌ، فَهُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْمُبَالِغَةِ، وَلِلذَّهَابِ إِلَى أَنَّ الظِّلْفَ إِذْ ذَاكَ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ عِنْدَهُمْ بَعِيدٌ عَنْ الِاتِّجَاهِ

ص: 457

انْتَهَى.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَعْنٍ الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 458

[مَا جَاءَ فِي مِعَى الْكَافِرِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي مِعَى الْكَافِرِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي مِعَى الْكَافِرِ

1715 -

1665 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) - بِكَسْرِ الزَّايِ، وَخِفَّةِ النُّونِ - (عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ) - بِكَسْرِ الْمِيمِ، مَقْصُورٌ - كَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ، إِمَّا لِأَنَّهُ الرِّوَايَةُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ، وَإِلَّا فَفِيهِ الْفَتْحُ وَالْمَدُّ، وَجَمْعُ الْمَقْصُورِ: أَمْعَاءٌ، كَعِنَبٍ وَأَعْنَابٍ، وَالْمَمْدُودُ أَمْعِيَةٌ، كَحِمَارٍ، وَأَحْمِرَةٍ وَهِيَ الْمَصَارِينُ، وَعُدِّيَ بِفِي عَلَى مَعْنَى دَفْعِ الْأَكْلِ فِيهَا، وَجَعَلَهَا مَكَانًا لِلْمَأْكُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ: 10) أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ.

( «وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» ) هِيَ عِدَّةُ أَمْعَاءِ الْإِنْسَانِ، وَلَا ثَامِنَ لَهَا كَمَا بُيِّنَ فِي التَّشْرِيحِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا سَبِيلَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَدْفَعُهُ، فَكَمْ مِنْ كَافِرٍ يَكُونُ أَقَلَّ أَكْلًا وَشُرْبًا مِنْ مُسْلِمٍ وَعَكْسُهُ، وَكَمْ مِنْ كَافِرٍ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ، انْتَهَى.

وَجُمْلَةُ مَا قِيلَ فِيهِ عَشْرَةُ أَوْجُهٍ: فَقِيلَ: لَيْسَتْ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ مُرَادَةً، بَلِ الْمُرَادُ قِلَّةُ أَكْلِ الْمُؤْمِنِ، وَكَثْرَةُ أَكْلِ الْكَافِرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد: 12](سورة مُحَمَّدٍ: الْآيَةُ 12) ، وَتَخْصِيصُ السَّبْعَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكْثِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27](سورة لُقْمَانَ: الْآيَةُ 27) ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ التَّقَلُّلُ فِي الْأَكْلِ لِاشْتِغَالِهِ بِأَسْبَابِ الْعِبَادَةِ وَعِلْمِهِ أَنَّ قَصْدَ الشَّرْعِ مِنَ الْأَكْلِ سَدُّ الْجُوعِ وَالْعَوْنُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَلِخَشْيَتِهِ مِنْ حِسَابِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْكَافِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا أَرْجَحُ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ لِكَوْنِهِ يَأْكُلُ بِشَرَهِهِ لَا يُشْبِعُهُ إِلَّا مِلْءُ أَمْعَائِهِ السَّبْعَةِ، وَالْمُؤْمِنُ يُشْبِعُهُ مِلْءُ مِعًى وَاحِدٍ لِقِلَّةِ حِرْصِهِ وَشَرَهِهِ عَلَى الطَّعَامِ.

وَأَشَارَ النَّوَوِيُّ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَلَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهُ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَإِذَا وُجِدَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، فَلَا يُشْرِكُهُ الشَّيْطَانُ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ لَا يُسَمِّي، فَيَأْكُلُ مَعَهُ الشَّيْطَانُ وَالثَّلَاثَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُسْلِمِ الْإِسْلَامَ التَّامَّ ; لِأَنَّهُ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ كَمُلَ إِيمَانُهُ اشْتَغَلَ

ص: 458

فِكْرُهُ بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ شِدَّةُ الْخَوْفِ وَكَثْرَةُ الْفِكْرَةِ، وَالْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ مِنِ اسْتِيفَاءِ شَهْوَتِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحِ:" «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ» "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَقْتَصِدُ فِي مَطْعَمِهِ.

وَأَمَّا الْكَافِرُ فَشَأْنُهُ الشَّرَهُ، فَيَأْكُلُ كَالْبَهِيمَةِ لَا بِمَصْلَحَةِ قِيَامِ الْبِنْيَةِ.

وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ: قَدْ ذُكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْصًا فِي إِيمَانِهِمْ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَالْكَافِرُ الْحَرَامَ، وَالْحَلَالُ أَقَلُّ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَضُّ الْمُسْلِمِ عَلَى قِلَّةِ الْأَكْلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ كَثْرَتَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: شَهَوَاتُ الطَّعَامِ سَبْعٌ: الطَّبْعُ، وَالنَّفْسُ، وَالْعَيْنُ، وَالْفَمُ، وَالْأَنْفُ، وَالْأُذُنُ، وَالْجُوعُ، وَهِيَ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي يَأْكُلُ بِهَا الْمُسْلِمُ.

وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْكُلُ بِالْجَمِيعِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّبْعَةِ فِي الْكَافِرِ صِفَاتٍ هِيَ الْحِرْصُ، وَالشَّرَهُ، وَطُولُ الْأَمَلِ، وَالطَّمَعُ، وَالْحَسَدُ، وَحُبُّ السِّمَنِ، وَسُوءُ الطَّبْعِ، وَبِالْوَاحِدِ فِي الْمُسْلِمِ سَدُّ خَلَّتِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: السَّبْعَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَالشَّهْوَةِ، وَالْحَاجَةِ.

وَالْقَوْلُ الْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّامَ فِي الْكَافِرِ عَهْدِيَّةٌ، فَهُوَ خَاصٌّ بِمَعْنَى كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ التَّالِي، وَيَأْتِي تَفْسِيرُ الرَّجُلِ فِيهِ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا، فَأَسْلَمَ، فَكَانَ يَأْكُلُ قَلِيلًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» "، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: لِأَنَّ الْمُعَايَنَةَ وَهِيَ أَصَحُّ عُلُومِ الْحَوَاسِّ تَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ، وَمَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173](سورة آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 173) ، فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ رَجُلٌ وَاحِدٌ.

أَخْبَرَ الصَّحَابَةُ أَنَّ قُرَيْشًا جَمَعَتْ لَهُمْ، وَجَاءَ اللَّفْظُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ لَا يَجْهَلُهُ إِلَّا مَنْ لَا عِنَايَةَ لَهُ بِالْعِلْمِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 459

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَافَهُ ضَيْفٌ كَافِرٌ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1716 -

1666 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلٍ) - بِضَمِّ السِّينِ مُصَغَّرٌ - (ابْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ) ذَكْوَانَ السَّمَّانَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَافَهُ ضَيْفٌ كَافِرٌ) ، هُوَ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِهِ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَنَضْلَةُ بِنْتُ عُمَرَ، وَكَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، وَقَاسِمِ ابْنِ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَأَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، أَوْ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ الْحَنَفِيُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْبَاجِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ

ص: 459

( «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ، فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ» ) ، أَيْ حِلَابَهَا كُلَّهُ، (ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ) - بِكَسْرِ الْحَاءِ - (سَبْعِ شِيَاهٍ) ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَغَيْرِهِ «عَنْ جَهْجَاهٍ:" أَنَّهُ قَدِمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ، فَحَضَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ، قَالَ: يَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ جَلِيسِهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِي، وَكُنْتُ رَجُلًا عَظِيمًا طِوَالًا لَا يُقَدَّمُ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَذَهَبَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَنْزِلِهِ فَحَلَبَ لِي عَنْزًا، فَأَتَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى حَلَبَ لِي سَبْعَةَ أَعْنُزٍ، فَأَتَيْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ بِصَنِيعِ بُرْمَةٍ فَأَتَيْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: أَجَاعَ اللَّهُ مَنْ أَجَاعَ رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، قَالَ: مَهْ يَا أُمَّ أَيْمَنَ أَكَلَ رِزْقَهُ، وَرِزْقُنَا عَلَى اللَّهِ (ثُمَّ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ، فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا) » ، وَفِي حَدِيثِ جَهْجَاهٍ: "«فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَنْزِلِهِ، فَحُلِبَتْ لِي عَنْزٌ فَتَرَوَّيْتُ وَشَبِعْتُ، فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هَذَا ضَيْفَنَا؟ فَقَالَ: بَلَى "، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ) » مِنْ أَمْعَائِهِ السَّبْعَةِ، (وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) الَّتِي هِيَ جَمِيعُ أَمْعَائِهِ.

قَالَ عِيَاضٌ: عِنْدَ أَهْلِ التَّشْرِيحِ: إِنَّ أَمْعَاءَ الْإِنْسَانِ سَبْعَةٌ: الْمَعِدَةُ، ثُمَّ ثَلَاثَةُ أَمْعَاءٍ بَعْدَهَا مُتَّصِلَةٌ بِهَا الْبَوَّابُ، ثُمَّ الصَّائِمُ، ثُمَّ الرَّقِيقُ وَالثَّلَاثَةُ رِقَاقٌ، ثُمَّ الْأَعْوَرُ وَالْقَوْلُونُ وَالْمُسْتَقِيمُ وَطَرَفَةُ الدُّبُرِ، وَكُلُّهَا غِلَاظٌ، وَقَدْ نَظَمَهَا الْحَافِظُ زَيْنُ الدَّيْنِ الْعِرَاقِيُّ فِي قَوْلِهِ:

سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ لِكُلِّ آدَمِي

مَعِدَةٌ بَوَّابُهَا مَعْ صَائِمِ

ثُمَّ الرَّقِيقُ أَعْوَرُ قُولُونُ مَعْ

الْمُسْتَقِيمِ مَسْلَكُ الْمَطَاعِمِ

وَفِي الشُّرْبِ مَا سَبَقَ فِي الْأَكْلِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْعَشْرَةِ، وَفِيهِ كَسَابِقِهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْلِيلِ الْأَكْلِ.

وَقَدْ رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا:" «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ الْآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتِ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ، فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " شَرْحِ الْأَسْمَاءِ ": لَوْ سَمِعَ بِقْرَاطُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِبَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ، فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَلَامًا فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ أَحْكَمَ مِنْهُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: خَصَّ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَطْنِ سِوَاهَا.

وَهَلِ الْمُرَادُ الثُّلُثُ الْمُسَاوِي حَقِيقَةً، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ

ص: 460

أَوِ التَّقْسِيمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ ظَنُّهُ بِالثُّلُثِ الْحَقِيقِيِّ؟ مَحَلُّ احْتِمَالٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّحَ بِذِكْرِ الثُّلُثِ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْجَحُ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلُ، إِذْ هُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَالثَّانِي يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ.

وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 461

[باب الطعام والشراب]

[النَّهْيِ عَنْ الشَّرَابِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالنَّفْخِ فِي الشَّرَابِ]

بَابُ النَّهْيِ عَنْ الشَّرَابِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالنَّفْخِ فِي الشَّرَابِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ النَّهْيِ عَنِ الشَّرَابِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَالنَّفْخِ فِي الشَّرَابِ

1717 -

1667 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، (عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ، وُلِدَ فِي خِلَافَةِ جَدِّهِ، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) الثِّقَةِ، مَاتَ بَعْدَ السَّبْعِينَ (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هِنْدِ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ، (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ) ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ، مَرْفُوعًا:" مَنْ شَرِبَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ "، وَلَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ:" أَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ "، لَكِنْ تَفَرَّدَ ابْنُ مُسْهِرٍ بِقَوْلِهِ: يَأْكُلُ، (إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ) - بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ، وَفَتْحِ الْجِيمِ الْأُولَى، وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَآخِرُهُ رَاءٌ أَيْضًا، صَوْتُ تَرَدُّدِ الْبَعِيرِ فِي حَنْجَرَتِهِ إِذَا هَاجَ، وَصَبِّ الْمَاءِ فِي الْحَلْقِ، أَيْ يَجْرَعُهُ جَرْعًا مُتَدَارَكًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى كَسْرِ الْجِيمِ الثَّانِيَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُوَفَّقَ ابْنَ جَمْرَةَ، حَكَى فَتْحَهَا، وَكَذَا ابْنُ الْفِرْكَاحِ، وَابْنُ مَالِكٍ فِي الشَّوَاهِدِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْحُفَّاظِ رَوَاهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَيَبْعُدُ اتِّفَاقُ الْحُفَّاظِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى تَرْكِ رِوَايَةٍ ثَابِتَةٍ، وَأَيْضًا فَإِسْنَادُهُ إِلَى الْفَاعِلِ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِلَى الْمَفْعُولِ فَرْعٌ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِلَا فَائِدَةٍ.

(نَارَ جَهَنَّمَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ يُجَرْجِرُ عَلَى أَنَّ الْجَرْجَرَةَ بِمَعْنَى: الصَّبِّ، أَوِ التَّجَرُّعِ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ الشَّارِبِ، وَسَمَّاهُ وَبِالرَّفْعِ مُجَرْجَرًا لِلنَّارِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ هِيَ الَّتِي تُصَوِّتُ فِي الْبَطْنِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا

ص: 461

الرَّفْعُ فَمَجَازٌ ; لِأَنَّ جَهَنَّمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا تُجَرْجَرُ فِي جَوْفِهِ وَالْجَرْجَرَةُ: صَوْتُ الْبَعِيرِ عِنْدَ الْحَنْجَرَةِ، لَكِنَّهُ جَعَلَ صَوْتَ تَجَرُّعِ الْإِنْسَانِ لِلْمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي الْمَخْصُوصَةِ لِوُقُوعِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، بِجَرْجَرَةِ نَارِ جَهَنَّمَ فِي بَطْنِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَقَدْ يُجْعَلُ يُجَرْجِرُ بِمَعْنَى: يَصُبُّ، وَيَكُونُ نَارَ جَهَنَّمَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّ مَا كَافَّةٌ، أَوْ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَاسْمُهَا مَا الْمَوْصُولَةَ، وَلَا تُجْعَلُ حِينَئِذٍ كَافَّةً، وَفِيهِ حُرْمَةُ اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ، وَالْأَكْلِ بِمِلْعَقَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالتَّجَمُّرِ بِجَمْرَةٍ مِنْهُمَا، وَالْبَوْلِ فِي إِنَاءٍ، وَحُرْمَةُ الزِّينَةِ بِهِ وَاتِّخَاذِهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّحَلِّي لِمَا يُقْصَدُ فِي الْمَرْأَةِ مِنَ الزِّينَةِ لِلزَّوْجِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ، وَأَيُّوبُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجُ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ بِهِ فِي مُسْلِمٍ.

ص: 462

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ حَبِيبٍ مَوْلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ «كُنْتُ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ فَقَالَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فَاكَ ثُمَّ تَنَفَّسْ قَالَ فَإِنِّي أَرَى الْقَذَاةَ فِيهِ قَالَ فَأَهْرِقْهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1718 -

1668 - (مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ حَبِيبٍ) الزُّهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ (مَوْلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) ، ثِقَةٌ، رَوَى عَنْهُ أَيْضًا فُلَيْحٌ، وَعَبَّادُ بْنُ إِسْحَاقَ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، لَهُ مَرْفُوعًا فِي الْمُوَطَّأِ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، (عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى الْجُهَنِيِّ) الْمَدَنِيِّ، تَابِعِيٌّ مَقْبُولٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، (قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ) الْأُمَوِيِّ، (فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ) سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ (الْخُدْرِيُّ، فَقَالَ مَرْوَانُ) بْنُ الْحَكَمِ: (أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ؟)، قَالَ الْبَاجِيُّ: لِئَلَّا يَقَعَ مِنْ رِيقِهِ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُقْذِرُهُ، وَقَدْ بُعِثَ صلى الله عليه وسلم لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ الْمَاءُ مِنَ النَّفْخِ، لِكَوْنِهِ مُتَغَيِّرَ الْفَمِ بِمَأْكُولٍ، أَوْ كَثْرَةِ كَلَامٍ، أَوْ بَعُدَ عَهْدُهُ بِالسِّوَاكِ وَالْمَضْمَضَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَصْعَدُ بِبُخَارِ الْمَعِدَةِ فَتَعَافُهُ النُّفُوسُ.

(فَقَالَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ: نَعَمْ) ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَفِيهِ أَنَّ نَعَمْ تَقُومُ مَقَامَ الْإِخْبَارِ، وَزَادَهُ فِي الْجَوَابِ لِأَنَّهُ مِنْ مَعْنَى السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ:(فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ) - بِفَتْحَتَيْنِ - (وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَبِنْ) أَمْرٌ مِنَ الْإِبَانَةِ، أَيْ أَبْعِدِ (الْقَدَحَ) : الْإِنَاءَ الَّذِي تَشْرَبُ

ص: 462

مِنْهُ (عَنْ فِيكَ) عِنْدَ الشُّرْبِ نَدْبًا، وَلَا تَشْرَبْ كَالْبَعِيرِ، فَإِنَّهُ يَتَنَفَّسُ عِنْدَ الشُّرْبِ فِيهِ.

(ثُمَّ تَنَفَّسْ) فَإِنَّهُ أَحْفَظُ لِلْحُرْمَةِ وَأَنْفَى لِلنَّهْمَةِ، وَأَبْعَدُ عَنْ تَغَيُّرِ الْمَاءِ، وَأَصْوَنُ عَنْ سُقُوطِ الرِّيقِ فِيهِ، وَأَبْعَدُ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْبَهَائِمِ فِي كَرْعِهَا، فَالتَّشَبُّهُ بِهَا مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَطَبْعًا.

بَقِيَ هُنَا شَيْءٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِإِبَانَةِ الْقَدَحِ إِنَّمَا يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ لَمْ يَرْوَ مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ عَبٍّ، وَإِلَّا فَلَا إِبَانَةَ، قَالَهُ فِي الْمُفْهِمِ.

وَفِي التَّمْهِيدِ عَنْ مَالِكٍ: فِيهِ إِبَاحَةُ الشُّرْبِ مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْهَ الرَّجُلَ عَنْهُ، بَلْ قَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتَ لَا تَرْوَى مِنْ وَاحِدٍ، فَأَبِنِ الْقَدَحَ، انْتَهَى.

وَقِيلَ: يُكْرَهُ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ شُرْبُ الشَّيْطَانِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْبَهَائِمِ.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: " «لَا تَشْرَبُوا وَاحِدَةً كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثَلَاثَ، وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ، وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ» "، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ فِي نَفَسَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى كَوْنُهُ ثَلَاثًا.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا» "، وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ مَرَّتَيْنِ» "، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ، فَفَعَلَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِجَوَازِ النَّقْصِ عَنْ ثَلَاثٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَرَّتَيِ التَّنَفُّسِ الْوَاقِعَتَيْنِ أَثْنَاءَ الشُّرْبِ، وَأَسْقَطَ الثَّالِثَةَ، لِأَنَّهَا بَعْدَ الشُّرْبِ فَهِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاقِعِ، وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ:" «كَانَ شُرْبُهُ صلى الله عليه وسلم بِنَفَسِ وَاحِدٍ» "، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا:" «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَشْرَبْ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ» "، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، فَمَحْمُولَانِ عَلَى تَرْكِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ.

(قَالَ) الرَّجُلُ: (فَإِنِّي أَرَى الْقَذَاةَ) : عُودٌ أَوْ شَيْءٌ يَتَأَذَّى بِهِ الشَّارِبُ يَقَعُ (فِيهِ) ، أَيِ الْقَدَحِ.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَأَهْرِقْهَا) : صُبَّهَا مِنْهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 463

[مَا جَاءَ فِي شُرْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَائِمٌ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي شُرْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَائِمٌ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانُوا يَشْرَبُونَ قِيَامًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

- بَابُ مَا جَاءَ فِي شُرْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَائِمٌ

1720 -

1669 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ) وَبَلَاغُهُ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَسَبَقَ مِرَارًا: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانُوا يَشْرَبُونَ) حَالَ كَوْنِهِمْ (قِيَامًا) ، وَقَالَ

ص: 463

جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَشْرَبُ قَائِمًا، فَفِيهِ جَوَازُ ذَلِكَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَقَدْ صَحَّ: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَاقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ» .

ص: 464

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَا لَا يَرَيَانِ بِشُرْبِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ قَائِمٌ بَأْسًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1720 -

1670 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عَائِشَةَ - أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَا لَا يَرَيَانِ بِشُرْبِ الْإِنْسَانِ) الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، (وَهُوَ قَائِمٌ بَأْسًا) شِدَّةً، أَيْ كَرَاهَةً.

ص: 464

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَشْرَبُ قَائِمًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1721 -

1671 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَشْرَبُ قَائِمًا) ، وَلِجَوَازِهِ.

ص: 464

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ قَائِمًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1722 -

1672 - (مَالِكٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ قَائِمًا)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» "، وَفِي الْبُخَارِيِّ «عَنْ عَلِيٍّ:" أَنَّهُ شَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ» "، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ:" «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا» ".

وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» "، قَالَ فِي الْمُفْهِمِ: لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ، وَلَا الْتِفَاتَ لِابْنِ حَزْمٍ، وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِهَا، فَمِنَ السَّلَفِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، ثُمَّ مَالِكٌ تَمَسُّكًا بِشُرْبِهِ مِنْ زَمْزَمَ قَائِمًا، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْهُ مُتَأَخِّرًا عَنِ النَّهْيِ، فَإِنَّهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَهُوَ نَاسِخٌ، وَحَقَّقَ ذَلِكَ فِعْلُ خُلَفَائِهِ بِخِلَافَ النَّهْيَ، وَيَبْعُدُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ شِدَّةِ مُلَازَمَتِهِمْ لَهُ، وَتَشْدِيدِهِمْ فِي الدِّينِ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا لِلنَّسْخِ يَصْلُحُ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ، انْتَهَى.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ: النَّهْيُ إِمَّا تَنْزِيهٌ، أَوْ تَحْرِيمٌ، ثُمَّ نُسِخَ بِحَدِيثِ شُرْبِهِ مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَقَدْ أَعَلَّ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ

ص: 464

حَدِيثَ: " «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا» "، بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عُمَرَ بْنَ حَمْزَةَ الْعُمَرِيَّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ، وَغَايَةُ مَا أَجَابَ بِهِ فِي الْفَتْحِ بِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ، وَمِثْلُهُ يُخَرِّجُ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَقَدْ تَابَعَهُ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، فَالْحَدِيثُ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ صَحِيحٌ، انْتَهَى.

لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنْ مُسْلِمًا أَخْرَجَ لَهُ هُنَا أَصْلًا لَا مُتَابَعَةً.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ، وَكَرِهَهُ قَوْمٌ فَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: لَعَلَّ النَّهْيَ يَنْصَرِفُ لِمَنْ أَتَى أَصْحَابَهُ بِمَاءٍ، فَبَادَرَ لِشُرْبِهِ قَائِمًا قَبْلَهُمُ اسْتِبْدَادًا وَخُرُوجًا عَنْ كَوْنِ سَاقِي الْقَوْمِ آخِرَهُمْ شُرْبًا، وَأَيْضًا فَأُمِرَ بِالِاسْتِقَاءِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيءَ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا مَرْفُوعٌ، وَالْأَظْهَرُ لِي أَنَّ شُرْبَهُ قَائِمًا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَالنَّهْيُ يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى وَأَكْمَلُ ; لِأَنَّ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا ضَرَرًا مَا فَكُرِهَ مِنْ أَجْلِهِ، وَفَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَمْنِهِ مِنْهُ، وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ قَوْلُهُ:" فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ "، عَلَى أَنَّهُ يُحَرِّكُ خَلْطًا يَكُونُ الْقَيْءُ دَوَاءَهُ.

وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِدَاءِ الْبَطْنِ، انْتَهَى.

وَعَلَيْهِ فَالنَّهْيُ طِبِّيٌّ إِرْشَادِيٌّ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِلْمَرْءِ ثَمَانِيَةُ أَحْوَالٍ: قَائِمٌ مَاشٍ مُسْتَنِدٌ رَاكِعٌ سَاجِدٌ مُتَّكِئٌ قَاعِدٌ مُضْطَجِعٌ، كُلُّهَا يُمْكِنُ الشُّرْبُ فِيهَا، وَأَهْنَؤُهَا وَأَكْثَرُهَا اسْتِعْمَالًا الْقُعُودُ، وَأَمَّا الْقِيَامُ فَنُهِيَ عَنْهُ لِأَذِيَّتِهِ لِلْبَدَنِ.

وَلِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ:

إِذَا رُمْتَ تَشْرَبُ فَاقْعُدْ تَفُزْ

بِسُنَّةِ صَفْوَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ

وَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبَهُ قَائِمًا

وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ

ص: 465

[السُّنَّةِ فِي الشُّرْبِ وَمُنَاوَلَتِهِ عَنْ الْيَمِينِ]

بَابُ السُّنَّةِ فِي الشُّرْبِ وَمُنَاوَلَتِهِ عَنْ الْيَمِينِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ مِنْ الْبِئْرِ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ السُّنَّةِ فِي الشُّرْبِ، وَمُنَاوَلَتِهِ عَنِ الْيَمِينِ

1723 -

1673 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ) - بِضَمِّ أَوَّلِهِ - وَهُوَ فِي دَارِ أَنَسٍ (بِلَبَنٍ) حُلِبَ مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ (قَدْ شِيبَ) - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ - أَيْ خُلِطَ (بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ) الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ كَمَا بُيِّنَ هَذَا كُلُّهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.

(وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ) - لَمْ يُسَمَّ - وَزَعْمُ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، غَلَطٌ وَاضِحٌ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ

ص: 465

هُنَا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ صلى الله عليه وسلم وَخَالِدٌ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ فِي الْحَدِيثِ بَعْدُ، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ سُهَيْلٍ فِي الْأَشْيَاخِ الَّذِينَ مِنْهُمْ خَالِدٌ مَعَ الْغُلَامِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَبِي بَكْرٍ وَالْأَعْرَابِيِّ، وَهُمَا قِصَّتَانِ كَمَا بَيَّنَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَيْضًا لَا يُقَالُ لِخَالِدٍ أَعْرَابِيٌّ إِذْ هُوَ مِنْ أَجِلَّةِ قُرَيْشٍ.

(وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقُ رضي الله عنه (فَشَرِبَ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ)، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَقَالَ عُمَرُ - وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْأَعْرَابِيَّ - أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَكَ، فَأَعْطَاهُ الْأَعْرَابِيَّ عَنْ يَمِينِهِ، (وَقَالَ: الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ) ، ضُبِطَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَعْطِ الْأَيْمَنَ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: الْأَيْمَنُ أَحَقُّ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرَجَّحَ الرَّفْعَ بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ، قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ، أَيْ تَقْدِمَةُ الْأَيْمَنِ، وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ابْنُ حَزْمٍ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْأَيْمَنُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَقَى، قَالَ: ابْدَؤُوا بِالْكُبَرَاءِ، أَوْ قَالَ: بِالْأَكَابِرِ» "، فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ أَحَدٌ بَلْ كَانُوا كُلُّهُمْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ مَثَلًا.

وَفِيهِ أَنَّ خَلْطَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ لِلشُّرْبِ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَغِشٌّ، وَأَنَّ الْمَجْلِسَ عَنِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ سَوَاءٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الْفَضْلُ لِلْيَمِينِ لَمَا آثَرَ عليه الصلاة والسلام الْأَعْرَابِيَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقِيلَ: كَانَ الْأَعْرَابِيُّ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ فَلِذَا جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَبَقَ أَبَا بَكْرٍ، فَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ مِنْ مَجْلِسِ الْعَالِمِ أَوْلَى بِهِ مَنْ غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَأَنَّهُ لَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَجَمِيعِ الْأُمُورِ لِمَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الْيَمِينِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الْأَشْرِبَةِ، الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ مُتَابَعَاتٌ وَطُرُقٌ.

ص: 466

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلَامِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ الْغُلَامُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا قَالَ فَتَلَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1724 -

1674 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ) - بِالْمُهْمَلَةِ، وَالزَّايِ - سَلَمَةَ (بْنِ دِينَارٍ) الْأَعْرَجِ الْمَدَنِيِّ (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ) السَّاعِدِيِّ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ - (بِشَرَابٍ) ، أَيْ لَبَنٍ، فَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ: أُتِيَ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ (فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ) أَصْغَرُ الْقَوْمِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِهِ، (وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ) ، سَمَّى مِنْهُمْ خَالِدَ بْنَ

ص: 466

الْوَلِيدِ، (فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ) الَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّ الشَّرْبَةَ لَكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤْثِرَ بِهَا خَالِدًا "، (فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا) ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِمُؤْثِرٍ بِسُؤْرِكَ عَلَيَّ أَحَدًا "، (فَتَلَّهُ) - بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ وَضَعَهُ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ) ، أَيِ الْغُلَامِ، فَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ فِي الشُّرْبِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ صَغِيرًا أَوْ مَفْضُولًا، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَفَاضِلِ وَالْكِبَارِ، فَهُوَ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْحُقُوقِ فِي بَاقِي الْأَوْصَافِ، وَأَنَّ الْجُلَسَاءَ شُرَكَاءُ فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى جِهَةِ الْأَدَبِ وَالْفَضْلِ، لَا الْوُجُوبِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ لَا تَجِبُ لِأَحَدٍ.

وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا: " «جُلَسَاؤُكُمْ شُرَكَاؤُكُمْ فِي الْهَدِيَّةِ» "، بِإِسْنَادٍ فِيهِ لِينٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَإِنَّمَا اسْتَأْذَنَ الْغُلَامَ هُنَا، وَلَمْ يَسْتَأْذِنِ الْأَعْرَابِيَّ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ اسْتِئْلَافًا لِقَلْبِ الْأَعْرَابِيِّ، وَتَطْيِيبًا لِنَفْسِهِ، وَشَفَقَةً أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قَلْبِهِ شَيْءٌ يَهْلِكُ بِهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْغُلَامِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لِقَرَابَتِهِ وَسَنِّهِ دُونَ الْأَشْيَاخِ فَاسْتَأْذَنَهُ تَأَدُّبًا، وَلِئَلَّا يُوحِشَهُمْ بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْلِيمًا بِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ لِغَيْرِ الْأَيْمَنِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعْدٍ، وَيَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 467

[جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ]

بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ «قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ نَعَمْ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ لِلطَّعَامِ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا قَالَ فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَآدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ بِالدُّخُولِ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلًا أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ

1725 -

1675 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الْأَنْصَارِيِّ: (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ) زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ، زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةِ أَنَسٍ (لِأُمِّ سُلَيْمٍ) - بِضَمِّ السِّينِ - بِنْتِ مِلْحَانَ الْأَنْصَارِيَّةِ مِنَ الصَّحَابِيَّاتِ الْفَاضِلَاتِ اسْمُهَا: سَهْلَةُ، أَوْ رُمَيْلَةُ، أَوْ رُمَيْثَةُ، أَوْ مُلَيْكَةُ، أَوْ أُنَيْفَةُ، اشْتَهَرَتْ بِكُنْيَتِهَا، مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، قَالَ الْحَافِظُ: اتَّفَقَتِ الطَّرْقُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَخُوهُ لِأُمِّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:" «دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ» "، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي أَعَدَّهُ

ص: 467

- صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ فِيهِ حِينَ مُحَاصَرَةِ الْأَحْزَابِ لِلْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، ( «لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ» ) ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ صَوْتِهِ حِينَ تَكَلَّمَ الْفَخَامَةَ الْمَأْلُوفَةَ، فَحَمَلَهُ عَلَى الْجُوعِ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى دَعْوَى ابْنِ حِبَّانَ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِجُوعٍ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ رَبْطِ الْحَجَرِ مِنَ الْجُوعِ تَصْحِيفٌ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ:" «أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» "، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ صَحِيحَةٌ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى تَعَدُّدِ الْحَالِ، فَكَانَ أَحْيَانًا يَجُوعُ إِذَا لَمْ يُوَاصِلْ لِيَتَأَسَّى بِهِ أَصْحَابُهُ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ: " «جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُهُمْ، وَقَدْ عَصَبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ، فَسَأَلْتُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مِنَ الْجُوعِ، فَذَهَبْتُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ» "، فَكَأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ جَاءَ فَسَمِعَ صَوْتَهُ وَرَآهُ.

وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَآهُ صلى الله عليه وسلم طَاوِيًا.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " «رَأَى أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» "، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ:" «جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: أَعِنَدَكَ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُقْرِئُ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ سُورَةَ النِّسَاءِ، وَقَدْ رَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنَ الْجُوعِ» "، (فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ) يَأْكُلُهُ صلى الله عليه وسلم؟ (فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ) ، جَمْعُ قُرْصٍ بِالضَّمِّ قِطْعَةُ عَجِينٍ مَقْطُوعٍ مِنْهُ.

وَلِأَحْمَدَ: " عَمَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى نِصْفِ مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ، فَطَحَنَتْهُ "، وَلِلْبُخَارِيِّ: عَمَدَتْ إِلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ جَشَّتْهُ، ثُمَّ عَمِلَتْهُ عَصِيدَةً، وَفِي لَفْظٍ: خَطِيفَةً بِمُعْجَمَةٍ وَمُهْمَلَةٍ الْعَصِيدَةُ وَزْنًا وَمَعْنَى.

وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ: أَتَى أَبُو طَلْحَةَ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ، فَأَمَرَ فَصَنَعَ طَعَامًا، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا مُنَافَاةَ لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا بِأَنَّ الشَّعِيرَ فِي الْأَصْلِيِّ صَاعٌ، فَأَفْرَدَتْ نِصْفَهُ لِعِيَالِهِمْ، وَنِصْفَهُ لِلنَّبِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ مَا بَيْنَ الْعَصِيدَةِ وَالْخُبْزِ الْمَفْتُوتِ الْمَلْتُوتِ بِالسَّمْنِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ.

(ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا) - بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - لَهَا، (فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بَعْضَهُ) ، أَيِ الْخِمَارَ، (ثُمَّ دَسَّتْهُ) ، أَيْ أَدْخَلَتْهُ بِقُوَّةٍ (تَحْتَ يَدِي) - بِكَسْرِ الدَّالِ - أَيْ إِبِطِي، (وَرَدَّتْنِي) - بِشَدِّ الدَّالِ - (بِبَعْضِهِ) ، أَيْ جَعَلَتْهُ رِدَاءً لِي، وَلِلتِّنِّيسِيِّ: وَلَاثَتْنِي بَعْضَهُ بِمُثَلَّثَةٍ، فَفَوْقِيَّةٍ سَاكِنَةٍ، فَنُونٍ مَكْسُورَةٍ، أَيْ: لَفَّتْنِي، (ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) أَنَسٌ:(فَذَهَبْتُ بِهِ) بِالَّذِي أَرْسَلَتْنِي، (فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 468

جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ) الْمَوْضِعِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ الْخَنْدَقِ، (وَمَعَهُ نَاسٌ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آرْسَلَكَ) - بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ لِلِاسْتِفْهَامِ - (أَبُو طَلْحَةَ؟ قَالَ) أَنَسٌ: (فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: لِلطَّعَامِ؟)، أَيْ لِأَجْلِهِ (قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا) ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلِذَا قَالَ لِمَنْ عِنْدُهُ: قُومُوا.

وَأَوَّلُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ، وَأَبَا طَلْحَةَ أَرْسَلَا الْخُبْزَ مَعَ أَنَسٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا أَرَادَا بِإِرْسَالِ الْخُبْزِ مَعَ أَنَسٍ أَنْ يَأْخُذَهُ صلى الله عليه وسلم فَيَأْكُلَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ أَنَسٌ وَرَأَى كَثْرَةَ النَّاسِ حَوْلَهُ اسْتَحَى، وَأَظْهَرُهُ أَنَّهُ يَدْعُوهُ لِيَقُومَ مَعَهُ وَحْدَهُ إِلَى الْمَنْزِلِ لِيَحْصُلَ قَصْدُهُ مِنْ إِطْعَامِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِ مَنْ أَرْسَلَهُ، عَهِدَ إِلَيْهِ إِذَا رَأَى كَثْرَةَ النَّاسِ أَنْ يَسْتَدْعِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ خَشْيَةَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُمْ ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَدْ عَرَفُوا إِيثَارَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ تَقْتَضِي أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَاهُ، فَفِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ:" «بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَدْعُوهُ، وَقَدْ جَعَلَ طَعَامًا» "، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَنَسٍ:" «أَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ أَنْ تَصْنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَيْهِ» "، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ عَنْ أَنَسٍ:" «فَدَخَلَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى أُمِّي، فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، عِنْدِي كِسَرٌ مِنْ خُبْزٍ، فَإِنْ جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَحْدَهُ أَشْبَعْنَاهُ، وَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ مَعَهُ قَلَّ عَنْهُمْ» ".

وَجَمِيعُ ذَلِكَ فِي مُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: " «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: اعْجِنِيهِ وَأَصْلِحِيهِ عَسَى أَنْ نَدْعُوَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأْكُلَ عِنْدَنَا فَفَعَلَتْ فَقَالَتِ: ادْعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» "، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ:" «فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ فَقُمْ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا قَامَ فَدَعْهُ حَتَّى يَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ اتْبَعْهُ حَتَّى إِذَا قَامَ عِنْدَ عَتَبَةِ بَابِهِ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ» "، وَلِأَبِي يَعْلَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ:" اذْهَبْ فَادْعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ: " ثُمَّ بَعَثَنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَدَعَوْتُهُ "، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ: "«اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَغَدَّى عِنْدَنَا فَافْعَلْ» "، وَلِلْبَغَوَيِّ عَنْ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَنَسٍ: "«فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اذْهَبْ يَا بُنَيَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَادْعُهُ، فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ» "، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَنَسٍ: "«فَقَالَ: يَا بُنَيَّ اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَادْعُهُ وَلَا تَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَا تَفْضَحْنِي» "، قَالَهُ الْحَافِظُ، وَلَمْ يَتَنَزَّلْ لِلْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ

ص: 469

الْعَشْرِ وَبَيْنَ مُقْتَضَى أَوَّلِ حَدِيثِ الْبَابِ لِسُهُولَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ يَدْعُوهُ وَحْدَهُ وَأَرْسَلَ مَعَهُ الْخُبْزَ فَإِنْ جَاءَ قَدَّمُوهُ لَهُ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ لِمُحَاصَرَةِ الْأَحْزَابِ أَعْطَاهُ الْخُبْزَ سِرًّا.

وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِي أَنَّهُ أَقْرَاصٌ، أَوْ كِسَرٌ مِنْ خُبْزٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّهَا كَانَتْ أَقْرَاصًا مُكَسَّرَةً.

وَقَوْلُهُ: اعْجِنِيهِ وَأَصْلِحِيهِ يُحْمَلُ عَلَى تَلْيِينِهِ بِنَحْوِ مَاءٍ، أَوْ سَمْنٍ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهُ، كَأَنَّهُ كَانَ يَابِسًا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْكِسَرِ غَالِبًا.

(قَالَ: فَانْطَلَقَ) هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، (وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ عَنْ أَنَسٍ:" «فَلَمَّا قُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَعَالَوْا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَشَدَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا أَرْسَلَ وَأَنَا حَزِينٌ لِكَثْرَةِ مَنْ جَاءَ مَعَهُ» "، (حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ) بِمَجِيئِهِمْ.

وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ: " فَدَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَنَا مُنْدَهِشٌ "، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: يَا أَنَسُ فَضَحْتَنَا.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ: فَجَعَلَ يَرْمِينِي بِالْحِجَارَةِ.

( «فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ» ) ، أَيْ قَدْرُ مَا يَكْفِيهِمْ، (فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِمْ إِلَّا وَسَيُطْعِمُهُمْ، كَأَنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لِيُظْهِرَ الْكَرَامَةَ فِي تَكْثِيرِ الطَّعَامِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَرُجْحَانِ عَقْلِهَا.

(قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: " «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُرْصٌ عَمِلَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ» "، وَفِي أُخْرَى:" «إِنَّمَا أَرْسَلْتُ أَنَسًا يَدْعُوكَ وَحْدَكَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَا يُشْبِعُ مَنْ أَرَى، فَقَالَ: ادْخُلْ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُبَارِكُ فِيمَا عِنْدَكَ» "، (فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَا) ، وَقَعَدَ مَنْ مَعَهُ عَلَى الْبَابِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي) - بِالْيَاءِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: هَلُمَّ بِلَا يَاءٍ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ لَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا يُؤَنَّثُ، وَمِنْهُ:" هَلُمَّ إِلَيْنَا "، وَالْمُرَادُ: الطَّلَبُ، أَيْ هَاتِ (يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ) ، وَفِيهِ أَنَّ الصَّدِيقَ يَأْمُرُ فِي دَارِ صَدِيقِهِ بِمَا يُحِبُّ وَيُظْهِرُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ.

وَالتَّحَكُّمُ لِآمِرِهِ بِفَتِّ الْخُبْزِ، وَقَوْلُ: هَلُمِّي مَا عِنْدَكِ، وَهَذَا خُلُقٌ كَرِيمٌ رَفِيعٌ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْعَلَوِيُّ حِينَ افْتَخَرَ فَقَالَ:

يَسْتَأْنِسُ الضَّيْفُ فِي أَبْيَاتِنَا أَبَدًا

فَلَيْسَ يَعْرِفُ خَلْقٌ أَيَّنَا الضَّيْفُ

(فَأَتَتْ) بِذَلِكَ الْخُبْزِ الَّذِي كَانَتْ أَرْسَلَتْهُ مَعَ أَنَسٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهَا أَخَذَتْهُ مِنْهُ وَأَنَّهُ

ص: 470

كَانَ بَاقِيًا مَعَهُ، وَخَاطَبَهَا لِأَنَّهَا هِيَ الْمُتَصَرِّفَةُ، (فَأَمَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ) - بِضَمِّ الْفَاءِ، وَشَدِّ الْفَوْقِيَّةِ - أَيْ كُسِرَ، (وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا) - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَشَدِّ الْكَافِ -: إِنَاءٌ مِنْ جِلْدٍ مُسْتَدِيرٌ يُجْعَلُ فِيهِ السَّمْنُ غَالِبًا وَالْعَسَلُ.

وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ: " «فَقَالَ صلى الله عليه وسلم هَلْ مِنْ سَمْنٍ؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قَدْ كَانَ فِي الْعُكَّةِ شَيْءٌ فَجَاءَ بِهَا فَجَعَلَا يَعْصِرَانِهَا حَتَّى خَرَجَ» "، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا عَصَرَتْهَا لَمَّا أَتَتْ بِهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهَا وَعَصَرَاهَا اسْتِفْرَاغًا لِمَا بَقِيَ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُمَا ابْتَدَآ عَصْرَهَا، ثُمَّ حَاوَلَتْ بَعْدَ عَصْرِهِمَا إِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ، أَوْ ضَمِيرُ التَّثْنِيَةِ فِي: عَصَرَاهَا لَهَا وَلِأَبِي طَلْحَةَ، وَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى أَنَّهَا الَّتِي عَصَرَتْ لِابْتِدَائِهَا بِالْعَصْرِ وَسَاعَدَهَا زَوْجُهَا، (فَأَدَمَتْهُ) ، أَيْ صَيَّرَتْ مَا خَرَجَ مِنَ الْعُكَّةِ أُدْمًا لَهُ، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ:" فَمَسَحَهَا وَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ "، وَلِأَحْمَدَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَحْمَدَ:" «فَجِئْتُ بِهَا، أَيِ الْعُكَّةِ فَفَتَحَ رِبَاطَهَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَعْظِمْ فِيهَا الْبَرَكَةَ» "، وَلِأَحْمَدَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ:" «ثُمَّ مَسَحَ صلى الله عليه وسلم الْقُرْصَ فَانْتَفَخَ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَالْقُرْصُ يَنْتَفِخُ حَتَّى رَأَيْتُ الْقُرْصَ فِي الْجَفْنَةِ يَتَّسِعُ» "، وَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ الْخُبْزَ فُتَّ وَجُعِلَ عَلَيْهِ السَّمْنُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا وُضِعَ عَلَى الْفَتِّ اجْتَمَعَ فَصَارَ كَالْقُرْصِ الْوَاحِدِ.

وَمَرَّ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ عَبَّرَ عَنْهَا بِقُرْصٍ قَبْلَ فَتِّهَا لِقِلَّتِهَا، وَهَذَا غَيْرُ ذَلِكَ، (ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ بِالدُّخُولِ) ; لِأَنَّهُ أَرْفَقُ، وَلِضِيقِ الْبَيْتِ أَوْ لَهُمَا مَعًا، (فَأُذِنَ لَهُمْ) ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ وَحْدَهُ وَبِهِ صَرَّحَ.

وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ:" فَلَمَّا انْتَهَى صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَابِ قَالَ لَهُمُ: اقْعُدُوا وَدَخَلَ "، (فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا)، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ:" «فَوَضَعَ يَدَهُ وَبَسَطَ الْقُرْصَ، وَقَالَ: كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ فَأَكَلُوا مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ حَتَّى شَبِعُوا» "، وَفِي رِوَايَةٍ:" «فَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِي» "، (ثُمَّ خَرَجُوا)، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ:" «ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: قُومُوا، وَلْيَدْخُلْ عَشَرَةٌ مَكَانَكُمْ» "، (ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) ثَانِيَةٍ، ( «فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» ) ثَالِثَةٍ، (فَأَذِنَ لَهُمْ) ، فَدَخَلُوا ( «فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» ) رَابِعَةٍ فَمَا زَالَ يُدْخِلُهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً (حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ

ص: 471

وَشَبِعُوا) . وَلِمُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ: " «حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ:" «ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعَا بِالْبَرَكَةِ، فَعَادَ كَمَا كَانَ» "، (وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلًا، أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا) بِالشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي.

وَفِي مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَنَسٍ:" حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا بِالْجَزْمِ، وَزَادَ: «ثُمَّ أَكَلَ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُ الْبَيْتِ، وَتَرَكُوا سُؤْرًا، أَيْ فَضْلًا» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: " كَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ، قَالَ: وَأَفْضَلَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ مَا يُشْبِعُهُمْ.

وَلَا مُنَافَاةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَلْغَى الْكِسَرَ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ: " وَأُفْضَلُوا مَا بَلَّغُوا جِيرَانَهُمْ "، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ فِي مُسْلِمٍ:" وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَأَهْدَيْنَا لِجِيرَانِنَا "، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَنَسٍ:" حَتَّى أَهْدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِجِيرَانِهَا "، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً لِأَنَّهَا كَانَتْ قَصْعَةً وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْهَا مَعَ قِلَّةِ الطَّعَامِ، فَجُعِلُوا كَذَلِكَ لِيَنَالُوا مِنَ الْأَكْلِ، وَلَا يَزْدَحِمُوا، أَوْ لِضِيقِ الْبَيْتِ أَوْ لَهُمَا.

وَقَالَ الْحَافِظُ: سُئِلْتُ فِي مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ عَنْ حِكْمَةِ تَبْعِيضِهِمْ فَقُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَرَفَ قِلَّةَ الطَّعَامِ، وَأَنَّهُ فِي صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَلَّقَهَا ذَلِكَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ، فَقِيلَ: لِمَ لَا أَدْخَلَ الْكُلَّ وَيُنْظَرُ مَنْ لَمْ يَسَعْهُ التَّحَلُّقُ، وَكَانَ أَبْلَغَ فِي اشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُعْجِزَةِ بِخِلَافِ التَّبْعِيضِ بِطَرْقِهِ احْتِمَالَ تَكَرُّرِ وَضْعٍ فِي الطَّعَامِ لِصِغَرِ الصَّحْفَةِ؟ فَقُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ لِضِيقِ الْبَيْتِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ: " «أَنَّ أُمَّهُ عَمَدَتْ إِلَى مُدِّ شَعِيرٍ جَشَّتْهُ، وَجَعَلَتْ مِنْهُ خَطِيفَةً، وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَهَا، ثُمَّ بَعَثَتْنِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ، فَدَعَوْتُهُ قَالَ: وَمَنْ مَعِي؟ فَجِئْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ يَقُولُ وَمَنْ مَعِي، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ صَنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَدَخَلَ وَجِيءَ بِهِ وَقَالَ: أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَكَلَ، ثُمَّ قَامَ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ» "، وَلِأَحْمَدَ:" «حَتَّى أَكَلَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَبَقِيَتْ كَمَا هِيَ» "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَنَسٍ: " «أَدْخِلْ عَلَيَّ ثَمَانِيَةً ثَمَانِيَةً، فَمَا زَالَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ، ثُمَّ دَعَانِي وَدَعَا أُمِّي، وَأَبَا طَلْحَةَ فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا» "، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً سِوَى هَذِهِ.

وَلِأَبِي يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ: " «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ بَلَغَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم طَعَامٌ فَآجَرَ نَفْسَهُ بِصَاعٍ غَيْرِ شَعِيرٍ، فَعَمِلَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ذَلِكَ» "، ثُمَّ جَاءَ بِهِ. . . الْحَدِيثَ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَأَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ سِيرِينَ غَيْرُ الْقِصَّةِ الَّتِي رَوَاهَا غَيْرُهُ، وَكَذَا مَا بَيْنَ الْخُبْزِ الْمَفْتُوتِ الْمَلْتُوتِ بِالسَّمْنِ وَالْعَصِيدَةِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَعَدَّدَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً سَأَلَهَا فَوَجَدَ الْخُبْزَ فَفَعَلَ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَكَانُوا ثَمَانِينَ وَأَدْخَلَهُمْ

ص: 472

عَشَرَةً عَشَرَةً، وَمَرَّةً لَمْ يَسْأَلْهَا بَلْ آجَرَ نَفْسَهُ بِصَاعٍ، وَأَتَى بِهِ إِلَيْهَا، وَقَالَ: اعْجِنِيهِ وَأَصْلِحِيهِ فَجَعَلَتْهُ عَصِيدَةً وَدَعَاهُ فَجَاءَ وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ، وَأَدْخَلَهُمْ ثَمَانِيَةً ثَمَانِيَةً، وَبِهَذَا تَتَّضِحُ الرِّوَايَاتُ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ رِوَايَةَ يَعْقُوبَ الَّتِي قَالَ فِيهَا: أَدْخَلَهُمْ ثَمَانِيَةً ثَمَانِيَةً، فَفِيهَا أَنَّهُمْ ثَمَانُونَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ شَاذَّةً، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُمْ أَرْبَعُونَ لَكِنْ فِيهَا: أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً، وَفِي الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْأَطْعِمَةِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْوَلِيمَةِ.

ص: 473

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ طَعَامُ الْاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1726 -

1676 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: طَعَامُ الِاثْنَيْنِ» ) الْمُشْبِعُ لَهُمَا (كَافِي الثَّلَاثَةِ) لِقُوتِهِمْ (وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ) الْمُشْبِعُ لَهُمْ (كَافِي الْأَرْبَعَةِ) قُوتًا.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» "، وَفِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ:" «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَإِنَّ طَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ، وَالْأَرْبَعَةَ، وَإِنَّ طَعَامَ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الْخَمْسَةَ، وَالسِّتَّةَ» "، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْحَضُّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ، وَالتَّقَنُّعِ بِالْكِفَايَةِ، يَعْنِي: وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَصْرَ فِي مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمُوَاسَاةُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلِاثْنَيْنِ إِدْخَالُ ثَالِثٍ لِطَعَامِهِمَا، وَرَابِعٍ أَيْضًا بِحَسَبِ مَنْ يَحْضُرُ.

وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَا يُرْشِدُ إِلَى الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ، وَأَوَّلُهُ:" «كُلُوا جَمِيعًا، وَلَا تَفَرَّقُوا فَإِنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ» "، الْحَدِيثَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْكِفَايَةَ تَنْشَأُ عَنْ بَرَكَةِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ كُلَّمَا كَثُرَ زَادَتِ الْبَرَكَةُ.

وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ يَضَعُ مِنْ بَرَكَتِهِ فِيهِ مَا وَضَعَ لِنَبِيِّهِ فَيَزِيدُ حَتَّى يَكْفِيَهُمْ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا إِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ، وَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِهِ، فَإِنْ قَالُوا: لَا يَكْفِينَا قِيلَ لَهُمْ: الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ.

وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْأَمَالِي: إِنْ أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْوَاقِعِ فَمُشْكِلٌ ; لِأَنَّ طَعَامَ الِاثْنَيْنِ لَا يَكْفِي إِلَّا اثْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى آخَرُ فَمَا هُوَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ أَطْعِمُوا طَعَامَ الِاثْنَيْنِ الثَّلَاثَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقُوتُ الثَّلَاثَ، وَأَخْبَرَنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا نَجْزَعَ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الثَّانِيَ مَعْلُومٌ، انْتَهَى.

وَرَوَى الْعَسْكَرِيُّ فِي الْمَوَاعِظِ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «كُلُوا وَلَا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ، وَالْأَرْبَعَةَ كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ فِي الْجَمَاعَةِ» "، فَيُؤْخَذُ

ص: 473

مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّرْطَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَكْلِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ طَعَامُ الِاثْنَيْنِ إِذَا كَانَا مُفْتَرِقَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ إِذَا أَكَلُوا مُجْتَمِعِينَ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ اسْتِحْبَابُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَنْ لَا يَأْكُلَ الْمَرْءُ وَحْدَهُ، انْتَهَى.

وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُوَاسَاةَ إِذَا حَصَلَتْ حَصَلَ مَعَهَا الْبَرَكَةُ، فَتَعُمُّ الْحَاضِرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَسْتَحْقِرَ مَا عِنْدَهُ، فَيَمْتَنِعَ مِنْ تَقْدِيمِهِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ الِاكْتِفَاءُ بِمَعْنَى حُصُولِ قِيَامِ الْبِنْيَةِ لَا حَقِيقَةَ الشِّبَعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ عَامَ الرَّمَادَةِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُنْزِلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ مِثْلَ عَدَدِهِمْ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَهْلِكُ عَلَى مَلْءِ بَطْنِهِ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ السُّلْطَانَ فِي الْمَسْغَبَةِ يُفَرِّقُ الْفُقَرَاءَ عَلَى أَهْلِ السَّعَةِ بِقَدْرٍ لَا يَضُرُّ بِهِمْ.

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي الْأَطْعِمَةِ، الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْوَلِيمَةِ.

ص: 474

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَغْلِقُوا الْبَابَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ وَأَكْفِئُوا الْإِنَاءَ أَوْ خَمِّرُوا الْإِنَاءَ وَأَطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ غَلَقًا وَلَا يَحُلُّ وِكَاءً وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بَيْتَهُمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1727 -

1677 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ تَدْرُسَ (الْمَكِّيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَغْلِقُوا) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ - (الْبَابَ) حِرَاسَةً لِلنَّفْسِ، وَالْمَالِ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَلَا سِيَّمَا الشَّيْطَانُ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ: " «أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، (وَأَوْكُوا) » - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْوَاوِ وَضَمِّ الْكَافِ بِلَا هَمْزٍ - شُدُّوَا وَارْبُطُوا، (السِّقَاءَ) - بِكَسْرِ السِّينِ: الْقِرْبَةُ، أَيْ شُدُّوا رَأْسَهَا بِالْوِكَاءِ، وَهُوَ الْخَيْطُ.

زَادَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: " وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ "، أَيْ لِمَنْعِ الشَّيْطَانِ وَاحْتِرَازًا مِنَ الْوَبَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ فِي لَيْلَةٍ مِنَ السَّنَةِ كَمَا رُوِيَ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا فِي كَانُونَ الْأَوَّلِ.

(وَأَكْفِئُوا الْإِنَاءَ)، قَالَ عِيَاضٌ: بِقَطْعِ الْأَلِفِ، وَكَسْرِ الْفَاءِ رُبَاعِيٌّ، وَبِوَصْلِهَا، وَضَمِّ الْفَاءِ ثُلَاثِيٌّ، وَهُمَا صَحِيحَانِ، أَيِ اقْلِبُوهُ، وَلَا تَتْرُكُوهُ لِلَعْقِ الشَّيْطَانِ، وَلَحْسِ الْهَوَامِّ وَذَوَاتِ الْأَقْذَارِ.

(أَوْ خَمِّرُوا) - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ الثَّقِيلَةِ -: غَطُّوا

(الْإِنَاءَ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَفْظُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيِ اكْفُوهُ إِنْ كَانَ فَارِغًا، أَوْ خَمِّرُوهُ إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ: " وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ "، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ:" «وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهَا بِعُودٍ» "، (وَأَطْفِئُوا) - بِهَمْزَةِ قَطْعٍ، وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الْفَاءِ، ثُمَّ هَمْزَةٌ مَضْمُومَةٌ -، (الْمِصْبَاحَ) : السِّرَاجَ، زَادَ

ص: 474

فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: " إِذَا رَقَدْتُمْ "(فَإِنَّ الشَّيْطَانَ)، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ:" فَإِنَّ الْجِنَّ "، وَلَا تَضَادَّ بَيْنَهُمَا إِذْ لَا مَحْذُورَ فِي انْتِشَارِ الصِّنْفَيْنِ، إِذْ هُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ يَخْتَلِفَانِ بِالصِّفَاتِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ (لَا يَفْتَحُ غَلَقًا) - بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَاللَّامِ - إِذَا ذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: " «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا» ، (وَلَا يَحُلُّ) - بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَضَمِّ الْحَاءِ - (وِكَاءً) : خَيْطًا رُبِطَ بِهِ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

(وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً) غُطِّيَ أَوْ كُفِئَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

فَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " «وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ» "، وَفِي أَبِي دَاوُدَ:" «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا» "، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْغَلْقُ الْحَقِيقِيُّ.

وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: فَإِنَّهُمْ، أَيِ الشَّيَاطِينَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي التَّسَوُّرِ.

وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ وَالْأَرْبَعَةِ مَرْفُوعًا: " «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ، وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمْ» "، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُوَجَّهَ قَوْلُهُ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ، عَلَى عُمُومِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخُصَّ بِمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَنْعَ لِأَمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِجِسْمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِمَانِعٍ مِنَ اللَّهِ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ جِسْمِهِ، قَالَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ دُخُولِ الشَّيْطَانِ الْخَارِجِ، فَأَمَّا الشَّيْطَانُ الَّذِي كَانَ دَاخِلًا فَلَا يَدُلُّ الْخَبَرُ عَلَى خُرُوجِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِتَخْفِيفِ الْمَفْسَدَةِ لَا دَفْعِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْإِغْلَاقِ تَقْتَضِي طَرْدَ مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْإِغْلَاقِ إِلَى تَمَامِهِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ مَشْرُوعِيَّةَ غَلْقِ الْفَمِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْأَبْوَابِ، انْتَهَى.

(وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ) - بِتَصْغِيرِ التَّحْقِيرِ - (تُضْرِمُ) - بِضَمِّ التَّاءِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ - أَيْ تُوقِدُ (عَلَى النَّاسِ)، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ (بَيْتَهُمْ) ، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ " ثِيَابَهُمْ "، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: وَالْفُوَيْسِقَةُ تُضْرِمُ الْبَيْتَ عَلَى أَهْلِهِ، وَالضَّرَمَةُ بِالتَّحْرِيكِ النَّارُ وَالضِّرَامُ لَهَبُ النَّارِ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ: " «فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ، فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ» "، وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ، فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا، فَاحْتَرَقَ فِيهَا مَوْضِعُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتَحْرُقُكُمْ» "، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ يَزِيدِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ: " «أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا

ص: 475

سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، لِمَ سُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ الْفُوَيْسِقَةَ؟ قَالَ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَقَدْ أَخَذَتْ فَأْرَةٌ فَتِيلَةً لِتَحْرِقَ عَلَيْهِ الْبَيْتَ، فَقَامَ إِلَيْهَا وَقَتَلَهَا وَأَحَلَّ قَتْلَهَا لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ» "، فَفِي هَذَا بَيَانُ سَبَبِ الْأَمْرِ بِالْإِطْفَاءِ، وَالسَّبَبُ الْحَامِلُ لِلْفَأْرَةِ عَلَى جَرِّ الْفَتِيلَةِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَعِينُ وَهُوَ عَدُوُّ الْإِنْسَانِ بِعَدْوٍ آخَرَ وَهِيَ النَّارُ، وَالْأَوَامِرُ الْمَذْكُورَةُ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالِاسْتِحْبَابُ خُصُوصًا مَنْ يَنْوِي بِفِعْلِهَا الِامْتِثَالَ.

وَفِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا: " «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ» "، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْمِصْبَاحُ وَغَيْرُهُ.

وَأَمَّا الْقَنَادِيلُ الْمُعَلَّقَةُ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ خِيفَ حَرِيقٌ بِسَبَبِهَا دَخَلَتْ فِي الْأَمْرِ، وَإِنَّ أُمِنَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا صلى الله عليه وسلم وَإِذَا انْتَفَتِ الْعِلَّةُ زَالَ الْمَانِعُ.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ، وَزُهَيْرٌ، وَسُفْيَانُ كُلُّهُمْ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِنَحْوِهِ، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرٍ بِنَحْوِهِ.

ص: 476

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَضِيَافَتُهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1728 -

1678 - (مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كَيْسَانَ (الْمَقْبُرِيِّ) - بِضَمِّ الْبَاءِ، وَفَتْحِهَا - الْمَدَنِيِّ - (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ) - بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ - الْخُزَاعِيِّ، ثُمَّ (الْكَعْبِيِّ) نِسْبَةً إِلَى كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو بَطْنٍ مِنْ خُزَاعَةَ اسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقِيلَ عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَقِيلَ: هَانِئٌ وَقِيلَ: كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مَعَهُ لِوَاءُ خُزَاعَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ نَزَلَ الْمَدِينَةَ، وَلَهُ أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ)، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:(مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) الَّذِي خَلَقَهُ إِيمَانًا كَامِلًا، (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الَّذِي إِلَيْهِ مَعَادُهُ، وَفِيهِ جَزَاؤُهُ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ هُنَا وَفِيمَا بَعْدَهُ قَصْدًا إِلَى اسْتِمْرَارِ الْإِيمَانِ، وَتَجَدُّدِهِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ وَقْتًا فَوَقْتًا ; لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ لِكَوْنِهِ فِعْلًا يُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَالْحُدُوثَ، وَهَذَا مِنْ خِطَابِ التَّهْيِيجِ مِنْ قَبِيلِ:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 23) ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْمُؤْمِنِ، وَأَنَّ خِلَافَهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَلَوْ قِيلَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْغَرَضُ.

(فَلْيُقُلْ خَيْرًا) يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّفَكُّرِ، فِيمَا يُرِيدُ التَّكَلُّمَ بِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ قَالَهُ.

(أَوْ لِيَصْمُتْ)

ص: 476

- بِضَمِّ الْمِيمِ - أَيْ يَسْكُتْ عَنِ الشَّرِّ فَيَسْلَمْ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «مَنْ صَمَتَ نَجَا» "، قَالَهُ عِيَاضٌ، وَقَدْ ضَبَطَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ - بِضَمِّ الْمِيمِ - وَكَأَنَّهُ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ الطُّوفِيُّ: سَمِعْنَاهُ - بِكَسْرِهَا - وَهُوَ الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ قِيَاسَ فَعَلَ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - مَاضِيًا يَفْعِلُ - بِكَسْرِهَا - مُضَارِعًا نَحْوَ ضَرَبَ يَضْرِبُ، وَيَفْعُلُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - فِيهِ دَخِيلٌ كَمَا فِي الْخَصَائِصِ لِابْنِ جِنِّيٍّ، انْتَهَى.

أَيْ يَسْكُتُ عَنْ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَفَوَاتُهُمَا يُنَافِي حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَرَفَ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْنِ، وَلَا أَمَانَ لِمَنْ فَاتَهُ الْغَنِيمَةُ وَالسَّلَامَةُ.

وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ لِيَسْكُتْ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، لَكِنَّ الصَّمْتَ أَخَصُّ ; لِأَنَّهُ السُّكُوتُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، أَمَّا السُّكُوتُ مَعَ الْعَجْزِ لِفَسَادِ آلَةِ النُّطْقِ، فَهُوَ الْخَرَسُ، أَوْ لِتَوَقُّفِهَا فَهُوَ الْعِيُّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْمُتَرَتِّبَيْنِ عَلَى الْكَلَامِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يُحَصِّلُ لَهُ ثَوَابًا، أَوْ خَيْرًا فَيَغْنَمُ، أَوْ يَسْكُتَ عَنْ شَيْءٍ يَجْلِبُ لَهُ عِقَابًا، أَوْ شَرًّا فَيَسْلَمُ، فَـ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ فَيُسَنُّ لَهُ الصَّمْتُ حَتَّى عَنِ الْمُبَاحِ لِأَدَائِهِ إِلَى مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَبِفَرْضِ خُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَيَاعُ الْوَقْتِ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، قَالَ: وَأَفَادَ الْحَدِيثُ أَنَّ قَوْلَ الْخَيْرِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّمْتِ لِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ قَوْلِ الْخَيْرِ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي تَفْصِيلِ آفَاتِ الْكَلَامِ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ حَصْرٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ آفَاتِ اللِّسَانِ أَسْرَعُ الْآفَاتِ لِلْإِنْسَانِ وَأَعْظَمُهَا فِي الْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ، فَالْأَصْلُ مُلَازَمَةُ الصَّمْتِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْحُصُولُ عَلَى الْخَيْرَاتِ، فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مَخْطُومَةً وَبِأَزِمَّةِ التَّقْوَى مَزْمُومَةً، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلُّهُ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ أَوْ آيِلٌ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَدَخَلَ فِي الْخَيْرِ كُلُّ مَطْلُوبٍ مِنْ فَرْضٍ، وَنَفْلٍ فَأَذِنَ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَدَخَلَ فِيهِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا هُوَ شَرٌّ، أَوْ يَؤُولُ إِلَيْهِ، فَأُمِرَ بِالصَّمْتِ عَنْهُ، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ حَقَّ الْإِيمَانِ خَافَ وَعِيدَهُ وَرَجَا ثَوَابَهُ، وَمَنْ آمَنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ اسْتَعَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي فِعْلِ مَا يَدْفَعُ بِهِ أَهْوَالَهُ، فَيَأْتَمِرُ بِالْأَوَامِرِ وَيَنْتَهِي عَنِ النَّوَاهِي، وَيَتَقَرَّبُ لِمَوْلَاهُ بِمَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ مَا عَلَيْهِ ضَبْطَ جَوَارِحِهِ، وَمِنْ أَكْثَرِ الْمَعَاصِي عَدَدًا وَأَيْسَرِهَا فِعْلًا مَعَاصِي اللِّسَانِ، وَقَدِ اسْتَقْرَأَ الْمُحَاسِبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ آفَاتِ اللِّسَانِ، فَزَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ، وَأَرْشَدَ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ جُمْلَةً، فَقَالَ:«وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنْ آمَنَ بِذَلِكَ حَقَّ إِيمَانِهِ اتَّقَى اللَّهَ فِي لِسَانِهِ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانُ: مَا شَيْءٌ أَحَقُّ بِطُولِ السِّجْنِ مِنَ اللِّسَانِ.

(وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، أَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وُصِفَ بِهِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، أَوْ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْحِسَابَ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ، وَلَا يُقَالُ يَوْمٌ إِلَّا لِمَا بَعْدَهُ لَيْلٌ، أَيْ يُصَدِّقُ بِوُجُودِهِ مَعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَهْوَالِ، وَاكْتَفَى بِهِمَا عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ

ص: 477

وَالْكُتُبِ وَغَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِنُبُوءَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ.

( «فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» ) بِالْبِشْرِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَبَذْلِ النَّدَى وَكَفِّ الْأَذَى، وَتَحَمُّلِ مَا فَرَطَ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:" فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ "، وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَمَنْ كَانَ مَعَ هَذَا التَّأْكِيدِ الشَّدِيدِ مُضِرًّا لِجَارِهِ كَاشِفًا لِعَوْرَاتِهِ، حَرِيصًا عَلَى إِنْزَالِ الْبَوَائِقِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادٍ وَنِفَاقٍ، فَيَكُونُ كَافِرًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا عَلَى امْتِهَانِهِ بِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حُرْمَةِ الْجَارِ، وَمِنْ تَأْكِيدِ عَهْدِ الْجِوَارِ فَيَكُونُ فَاسِقًا فِسْقًا عَظِيمًا، وَمُرْتَكِبَ كَبِيرَةٍ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِالْكُفْرِ، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ بَرِيدُ الْكُفْرِ، فَيَكُونُ مِنَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ وَمَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُبَالِغُونَ فِي رِعَايَتِهِ وَحِفْظِ حَقِّهِ.

حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أَبَرَّ مِنْكُمْ بِالْجَارِ، هَذَا قَائِلُهُمْ قَالَ:

نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ

وَإِلَيْهِ قَبْلِي يَنْزِلُ الْقَدَرُ

مَا ضَرَّ جَارِيَ إِذْ أُجَاوِرُهُ

أَنْ لَا يَكُونَ لِبَابِهِ سَتْرُ

أَغُضُّ طَرْفِيَ إِذْ مَا جَارَتِي بَرَزَتْ

حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ

وَقَالَ آخَرُ:

أَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي

حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا

قَالَ الْحَافِظُ: وَاسْمُ الْجَارِ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ وَالْقَرِيبَ وَالْأَجْنَبِيَّ وَالْأَقْرَبَ دَارًا وَالْأَبْعَدَ، وَلَهُ مَرَاتِبُ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَأَعْلَى مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْأُوَلُ كُلُّهَا، ثُمَّ أَكْثَرُهَا وَهَلُمَّ جَرَّا إِلَى الْوَاحِدِ، وَعَكْسُهُ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْأُخْرَى، فَيُعْطَى كُلٌّ حَقَّهُ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَقَدْ تَتَعَارَضُ صِفَتَانِ فَتُرَجِّحُ أَوْ تُسَاوِي، وَقَدْ حَمَلَهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى الْعُمُومِ، فَأَمَرَ لَمَّا ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ أَنْ يُهْدَى مِنْهَا لِجَارِهِ الْيَهُودِيِّ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَوَرَدَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: " «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ رَحِمٌ؛ حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَالْجِوَارِ، وَالرَّحِمِ» ، وَالْأَمْرُ بِالْإِكْرَامِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ

ص: 478

مَنْدُوبًا، وَيَجْمَعُ الْجَمِيعَ أَنَّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَجَاءَ تَفْسِيرُ الْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَامِ لِلْجَارِ فِي أَخْبَارٍ أُخَرَ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْخَرَائِطِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، قُلْتُ:" «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ جَارِي عَلِيَّ؟ قَالَ: إِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ شَيَّعْتَهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِنَّ أَعْوَزَ سَتَرْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّيْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَلَا تَرْفَعْ بِنَاءَكَ فَوْقَ بِنَائِهِ فَتَسُدَّ عَلَيْهِ الرِّيحَ، وَلَا تُؤْذِيهِ بِرِيحِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا» "، وَرَوَى الْخَرَائِطِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ:«قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الْجَارِ عَلَى جَارِهِ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضَتْهُ، وَإِنِ اسْتَعَانَكَ أَعَنْتَهُ، وَإِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنِ احْتَاجَ أَعْطَيْتَهُ، وَإِنِ افْتَقَرَ عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّيْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ اتَّبَعَتْ جِنَازَتَهُ، وَلَا تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُؤْذِيهِ بِرِيحِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا "، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً، فَأَهْدِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرًّا، وَلَا تُخْرِجْ بِهَا وَلَدَكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ» "، وَرَوَاهُ الْخَرَائِطِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، وَأَسَانِيدُهُمْ وَاهِيَةٌ، لَكِنَّ تَعَدُّدَ مَخَارِجِهَا يُشْعِرُ بِأَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا.

قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَإِكْرَامُ الْجَارِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَالَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ وُجُوهِ، الْإِكْرَامُ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لَهُ، وَمَوْعِظَتُهُ بِالْحُسْنَى، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْهِدَايَةِ، وَتَرْكُ الْإِضْرَارِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا، إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْإِضْرَارُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَالَّذِي يَخُصُّ الصَّالِحَ هُوَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ، وَغَيْرَ الصَّالِحِ كَفُّهُ عَمَّا يَرْتَكِبُهُ بِالْحُسْنَى عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَعِظُ الْكَافِرَ بِعَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَإِظْهَارِ مَحَاسِنِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَالْفَاسِقَ بِمَا يَلِيقُ بِهِ بِرِفْقٍ، فَإِنْ أَفَادَ، وَإِلَّا هَجَرَهُ قَاصِدًا تَأْدِيبَهُ مَعَ إِعْلَامِهِ بِالسَّبَبِ، وَهُنَا تَنْبِيهٌ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أُمِرَ بِإِكْرَامِ الْجَارِ مَعَ الْحَائِلِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْعَى حَقَّ الْحَافِظَيْنِ اللَّذَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا جِدَارٌ، وَلَا حَائِلٌ، فَلَا يُؤْذِيهِمَا بِأَنْوَاعِ الْمُخَالَفَاتِ فِي مُرُورِ السَّاعَاتِ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمَا يُسَرَّانِ بِالْحَسَنَاتِ وَيَحْزَنَانِ بِالسَّيِّئَاتِ، فَيَنْبَغِي إِكْرَامُهُمَا وَرِعَايَةُ جَانِبِهِمَا بِالْإِكْثَارِ مِنْ عَمَلِ الطَّاعَاتِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَجَنُّبِ الْمَعَاصِي، فَهُمَا أَوْلَى بِالْإِكْرَامِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْجِيرَانِ اه.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدُّ الْجِوَارِ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ مَرْفُوعًا، إِلَى أَرْبَعِينَ دَارًا، وَلَمْ يَثْبُتْ، وَعَنَوْا بِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَهَذَا دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ عِنْدَ النَّظَرِ أَنَّ الْجَارَ لَهُ مَرَاتِبٌ: الْأَوَّلُ الْمُلَاصَقَةُ، وَالثَّانِي الْمُخَالَطَةُ بِأَنْ يَجْمَعَهُمَا مَسْجِدٌ، أَوْ مَجْلِسٌ، أَوْ بُيُوتٌ، وَيَتَأَكَّدُ الْحَقُّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَيَبْقَى أَصْلُهُ مَعَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْعَاصِي بِالتَّسَتُّرِ عَلَيْهِ اه.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: " «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» "، قَالَ الزَّوَاوِيُّ: هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذَا كَانَ الْمَشْيُ قَلِيلًا فَالْأَقْرَبُ بَابًا أَوْلَى بِهِ، فَأَمَّا مَعَ السَّعَةِ وَكَثْرَةِ مَا يُهْدَى فَلْيُهْدِ

ص: 479

إِلَى غَيْرِ وَاحِدٍ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ.

(وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إِيمَانًا كَامِلًا، ( «فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» ) بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَالْإِتْحَافِ وَالزِّيَادَةِ (جَائِزَتُهُ) - بِجِيمٍ، وَزَايٍ مَنْقُوطَةٍ - أَيْ مِنْحَتُهُ، وَعَطِيَّتُهُ وَإِتْحَافُهُ بِأَفْضَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، رُوِيَ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ (يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) ، وَبِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ ثَانِي لِيُكْرِمْ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى يُعْطِي، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِجَائِزَتِهِ، وَهِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَبَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ:" «فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ، قَالُوا: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» "، (وَضِيَافَتُهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) بِالْيَوْمِ الْأَوَّلِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، لَكِنْ فِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ:«الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: مَعْنَى جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ أَنْ يُتْحِفَهُ، وَيُكْرِمَهُ بِأَفْضَلِ مَا يَسْتَطِيعُهُ، وَضِيَافَتُهُ ثَلَاثَةٌ كَأَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ كَمَا يَتَكَلَّفُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضِّيَافَةَ لِمَنْ أَرَادَ الْجَوَازَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلِمَنْ أَرَادَ الْمَقَامَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ يَتَكَلَّفُ لَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَيُتْحِفُهُ وَيَزِيدُ فِي الْبِرِّ عَلَى مَا يُحْضِرُهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَفِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ يُقَدِّمُ لَهُ مَا حَضَرَ، فَإِذَا مَضَتِ الثَّلَاثُ فَقَدْ مَضَى حَقُّهُ.

(فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ) مِمَّا يُحْضِرُهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، (فَهُوَ صَدَقَةٌ) عَلَيْهِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِصَدَقَةٍ تَنْفِيرٌ عَنْهُ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا سِيَّمَا الْأَغْنِيَاءُ يَأْنَفُونَ غَالِبًا مِنْ أَكْلِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أَصْهَارِهِ، فَيَأْتِيهِ طَعَامُهُ مِنْ عِنْدِ دَارِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، فَيَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَقُولُ: احْبِسُوا عَنَّا صَدَقَتَكُمْ، وَيَقُولُ لِنَافِعٍ: أَنْفِقْ مِنْ عِنْدِكَ الْآنَ، أَخْرَجَهُ أَبُو عُمَرَ فِي التَّمْهِيدِ.

(وَلَا يَحِلُّ لَهُ) لِلضَّيْفِ (أَنْ يَثْوِيَ) - بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ يُقِيمَ (عِنْدَهُ) عِنْدَ مَنْ أَضَافَهُ (حَتَّى يُحْرِجَهُ) - بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ، وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَجِيمٍ - مِنَ الْحَرَجِ، وَهُوَ الضِّيقُ قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَيْ يُضَيِّقَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ حَتَّى يُؤَثِّمَهُ، وَهُوَ أَنْ يَضُرَّ بِهِ مَقَامَهُ، فَيَقُولَ أَوْ يَفْعَلَ مَا يُؤَثِّمُهُ، انْتَهَى.

وَلِمُسْلِمٍ: حَتَّى يُؤَثِّمَهُ، أَيْ يُوقِعَهُ فِي الْإِثْمِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَغْتَابُهُ لِطُولِ إِقَامَتِهِ، أَوْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُؤْذِيهِ، أَوْ يَظُنُّ بِهِ ظَنًّا سَيِّئًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ الْحَرَجُ جَازَتِ الْإِقَامَةُ بَعْدَ أَنْ يَخْتَارَ الْمُضِيفُ إِقَامَةَ الضَّيْفِ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الضَّيْفِ أَنَّ الْمُضِيفَ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْإِكْرَامِ لِلِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الضِّيَافَةَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الدِّينِ، وَخُلُقِ النَّبِيِّينَ لَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ: جَائِزَةُ، وَالْجَائِزَةُ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ لَا تَجِبُ اتِّفَاقًا، هَكَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ: تَجِبُ الضِّيَافَةُ لَيْلَةً وَاحِدَةً لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: " «لَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» "

ص: 480

وَحَدِيثُ الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا: " «إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» "، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَتَّى كَانَتِ الْمُوَاسَاةُ وَاجِبَةً، أَوْ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِقِلَّةِ الْأَزْوَادِ، ثُمَّ نُسِخَ، وَبِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُضْطَرِّينَ، فَإِنَّ ضِيَافَتَهُمْ وَاجِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الِاضْطِرَارِ، أَوْ مَخْصُوصٌ بِالْعُمَّالِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ الْإِمَامُ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةُ الْمَارَّةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا أَهْلُ الْحَضَرِ وَالْبَادِيَةِ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ وَسَحْنُونٍ: إِنَّمَا هِيَ عَلَى أَهْلِ الْبَوَادِي، لَا عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ لِوُجُودِ الْفَنَادِقِ وَغَيْرِهَا لِلنُّزُولِ فِيهَا، وَوُجُودِ الطَّعَامِ لِلْبَيْعِ فِيهَا.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِالْقِيَامِ بِكِفَايَتِهِ، فَلَوْ أَطْعَمَهُ بَعْضَ كِفَايَتِهِ لَمْ يُكْرِمْهُ لِانْتِفَاءِ جُزْءِ الْإِكْرَامِ، وَإِذَا انْتَفَى جُزْؤُهُ انْتَفَى كُلُّهُ.

وَفِي كِتَابِ الْمُنْتَخَبِ مِنَ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا:" «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ مَعَ الضَّيْفِ، فَلْيُلْقِمْهُ بِيَدِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كُتِبَ لَهُ بِهِ عَمَلُ سَنَةٍ صِيَامُ نَهَارِهَا، وَقِيَامُ لَيْلِهَا» "، وَمِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: مِنْ إِكْرَامِ الضَّيْفِ أَنْ يَضَعَ لَهُ مَا يَغْسِلُ بِهِ حِينَ يَدْخُلُ الْمَنْزِلَ، وَمِنْ إِكْرَامِهِ أَنْ يُرْكِبَهُ إِذَا انْقَلَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِنْ كَانَ بَعِيدًا، وَأَنْ يَجْلِسَ تَحْتَهُ.

وَرَوَى ابْنُ شَاهِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِرَفْعِهِ: " «مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ لُقْمَةَ حَلْوَةٍ، لَمْ يَذُقْ مَرَارَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، هَذَا وَمَحَلُّ الِاسْتِحْبَابِ فِيمَنْ وَجَدَ فَاضِلًا عَنْ مَنْ يُمَوِّنُهُ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَعَلَى زَوْجَتِهِ بِإِيثَارِهِمَا الضَّيْفَ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَصِبْيَانِهِمَا حَيْثُ نَوَّمَتْهُمْ أُمُّهُمْ حَتَّى أَكَلَ الضَّيْفُ، فَأُجِيبَ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ تَقْدِيمِ الضَّيْفِ عَلَى حَاجَةِ الصِّبْيَانِ بِأَنَّهُمْ لَمْ تَشْتَدَّ حَاجَتُهُمْ لِلْأَكْلِ، وَإِنَّمَا خَافَ أَبَوَاهُمَا أَنَّ الطَّعَامَ لَوْ قُدِّمَ لِلضَّيْفِ وَهُمْ مُنْتَبِهُونَ لَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْأَكْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا جِيَاعًا.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ تَجْمَعُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ الْفِعْلِيَّةَ وَالْقَوْلِيَّةَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ كَامِلَ الْإِيمَانِ مُتَّصِفٌ بِالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ قَوْلًا بِالْخَيْرِ، أَوْ سُكُوتًا عَنِ الشَّرِّ، أَوْ فِعْلًا لِمَا يَنْفَعُ، أَوْ تَرْكًا لِمَا يَضُرُّ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ مِنْ تَوَقُّفِ الْإِيمَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ، بَلِ الْمُرَادُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ كَمَا عُلِمَ، أَوْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِجْلَابِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَمَا تَقُولُ لِوَلَدِكَ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَأَطْعِمْنِي تَحْرِيضًا، وَتَهْيِيجًا عَلَى الطَّاعَةِ ; لِأَنَّهُ بِانْتِفَاءِ الطَّاعَةِ تَنْتَفِي وَلَدِيَّتُهُ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَإِسْمَاعِيلَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ نَحْوَهُ.

ص: 481

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ إِذْ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ وَخَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا فَقَالَ فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1729 -

1679 - (مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ) - بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ - (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا) - بِمِيمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِدُونِهَا - (رَجُلٌ) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ يُسَمَّ (يَمْشِي بِطَرِيقٍ)، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْمُوطَّآتِ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ مَالِكٍ:" يَمْشِي بِفَلَاةٍ "، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ:" يَمْشِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ "، (إِذِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ) مِنْهَا، (وَخَرَجَ) مِنَ الْبِئْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ:" ثُمَّ خَرَجَ "، (فَإِذَا كَلْبٌ)، وَفِي رِوَايَةٍ:" فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ "، (يَلْهَثُ) - بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَمُثَلَّثَةٍ - أَيْ يَرْتَفِعُ نَفَسُهُ بَيْنَ أَضْلَاعِهِ، أَوْ يُخْرِجُ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ حَالَ كَوْنِهِ (يَأْكُلُ الثَّرَى) - بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْقَصْرِ - التُّرَابَ النَّدِيَّ (مِنَ الْعَطَشِ) ، وَيَجُوزُ أَنَّ " يَأْكُلُ " خَبَرٌ ثَانٍ، (فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ) - بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ - (مِنَ الْعَطَشِ) الشَّدِيدِ الَّذِي أَصَابَهُ (مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ مِنِّي) ، وَفِي رِوَايَةٍ " بِي "، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ:" فَرَحِمَهُ "، وَ " مِثْلُ " ضَبَطَهُ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ بِالنَّصْبِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ بَلَغَ مَبْلَغًا مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ مِنِّي، قَالَ فِي الْمَصَابِيحِ: وَلَا يَتَعَيَّنُ لِجَوَازِ أَنَّ الْمَحْذُوفَ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ عَطَشًا، وَضَبَطَهُ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ وَغَيْرُهُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ يَبْلُغُ، فَهُمَا رِوَايَتَانِ، (فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ) مَاءً، (ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ) لِيَصْعَدَ مِنَ الْبِئْرِ لِعُسْرِ الرُّقِيِّ مِنْهَا، (حَتَّى رَقِيَ) - بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْقَافِ - كَصَعِدَ وَزَنًا وَمَعْنًى، وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ التِّينِ أَنَّ الرِّوَايَةَ رَقَى بِفَتْحِ الْقَافِ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَذَا وَقَعَ، وَصَوَابُهُ: رَقِيَ عَلَى وَزْنِ عَلِمَ، وَمَعْنَاهُ: صَعِدَ، قَالَ تَعَالَى:{أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93](سورة الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 93) ، وَأَمَّا رَقَى بِفَتْحِ الْقَافِ، فَمِنَ الرُّقْيَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَخَرَّجَهُ عَلَى لُغَةِ طَيٍّ فِي مِثْلِ: بَقَى يَبْقَى وَرَضَى يَرْضَى يَأْتُونَ بِالْفَتْحَةِ مَكَانَ الْكَسْرَةِ، فَتُقْلَبُ الْيَاءُ أَلِفًا، وَهَذَا دَأْبُهُمْ فِي كُلِّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، انْتَهَى.

قَالَ فِي الْمَصَابِيحِ: وَلَعَلَّ الْمُقْتَضِيَ لِإِيثَارِ الْفَتْحِ هُنَا - إِنْ صَحَّ - قَصْدُ الْمُزَاوَجَةِ بَيْنَ رَقَى وَسَقَى، وَهِيَ مِنْ مَقَاصِدِهِمُ الَّتِي يَعْتَمِدُونَ فِيهَا تَغْيِيرَ الْكَلِمَةِ عَنْ وَضْعِهَا الْأَصْلِيِّ.

(فَسَقَى الْكَلْبَ)، زَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ:" حَتَّى أَرْوَاهُ "، كَمَا

ص: 482

فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَيْ جَعَلَهُ رَيَّانَ، (فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ) ، أَثْنَى عَلَيْهِ، أَوْ قَبِلَ عَمَلَهُ ذَلِكَ، أَوْ أَظْهَرَ مَا جَازَاهُ بِهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ.

(فَغَفَرَ لَهُ) ، الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ قَبُولِهِ غَفَرَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ دِينَارٍ بَدَلَهُ:" فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ "، (فَقَالُوا) : أَيِ الصَّحَابَةُ، وَسُمِّيَ مِنْهُمْ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) الْأَمْرُ كَمَا قُلْتَ، (وَإِنَّ لَنَا فِي) سَقْيِ (الْبَهَائِمِ)، أَوْ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا (لَأَجْرًا) ثَوَابًا؟ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فِي كُلِّ كَبِدٍ) - بِفَتْحِ الْكَافِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ - وَيَجُوزُ سُكُونُهَا، وَكَسْرُ الْكَافِ، وَسُكُونُ الْمُوَحَّدَةِ -: رَطْبَةٍ بِرُطُوبَةِ الْحَيَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ، أَوْ لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ لَازِمَةٌ لِلْحَيَاةِ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْهَا، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ وَصْفِ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى لِمَنْ سَقَاهَا حَتَّى تَصِيرَ رَطْبَةً (أَجْرٌ) بِالرَّفْعِ، مُبْتَدَأٌ قُدِّمَ خَبَرُهُ، أَيْ حَاصِلٌ وَكَائِنٌ فِي إِرْوَاءِ كُلِّ ذِي كَبِدٍ حَيَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ " فِي " سَبَبِيَّةٌ كَقَوْلِكَ: فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمَعْنَى: فِي كُلِّ كَبِدٍ حَيٍّ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ، قَالَ الْأُبِّيُّ: حَتَّى الْكَافِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8](سورة الْإِنْسَانِ: الْآيَةُ 8) ; لِأَنَّ الْأَسِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ كَافِرًا، انْتَهَى.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَقَوْلُهُ: فِي كُلِّ كَبِدٍ، مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْبَهَائِمِ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِقَتْلِهِ كَالْخِنْزِيرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْوَى لِيَزْدَادَ ضَرَرُهُ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: عُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِالْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَمِ، وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُؤْمَرُ بِقَتْلِهِ فَيَحْصُلُ الثَّوَابُ بِسَقْيِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ إِطْعَامُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا يَمْنَعُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ، يَعْنِي: فَيَسْقِي، ثُمَّ يَقْتُلُ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نُحْسِنَ الْقِتْلَةَ، وَنُهِينَا عَنِ الْمُثْلَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ حَفْرِ الْآبَارِ فِي الصَّحْرَاءِ لِانْتِفَاعِ عَطْشَانَ وَغَيْرِهِ بِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ سَاغَ مَعَ مَظِنَّةِ الِاسْتِضْرَارِ بِهَا مِنْ سَاقِطٍ بِلَيْلٍ، أَوْ وُقُوعِ بَهِيمَةٍ، وَنَحْوِهَا فِيهَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ أَكْثَرَ وَمُتَحَقِّقَةً، وَالِاسْتِضْرَارُ نَادِرًا، أَوْ مَظْنُونًا غَلَبَ الِانْتِفَاعُ، وَسَقَطَ الضَّمَانُ، فَكَانَتْ جُبَارًا، فَلَوْ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ لَمْ يَجُزْ، وَضَمِنَ الْحَافِرُ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ وَأَنَّ سَقْيَ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشُّرْبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْمَظَالِمِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي الْأَدَبِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْحَيَوَانِ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْجِهَادِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 483

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَهُمْ ثَلَاثُ مِائَةٍ قَالَ وَأَنَا فِيهِمْ قَالَ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ قَالَ فَكَانَ يُقَوِّتُنَاهُ كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ وَلَمْ تُصِبْنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فَقُلْتُ وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حَيْثُ فَنِيَتْ قَالَ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلْعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا وَلَمْ تُصِبْهُمَا»

قَالَ مَالِكٌ الظَّرِبُ الْجُبَيْلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1730 -

1680 - (مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) الْقُرَشِيِّ مَوْلَاهُمْ أَبِي نُعَيْمٍ الْمَدَنِيِّ الْمُعَلِّمِ، ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا قِبَلَ) - بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ - جِهَةَ (السَّاحِلِ) ، أَيْ سَاحِلِ الْبَحْرِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" يَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ "، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ:" بَعَثَنَا إِلَى أَرْضِ جُهَيْنَةَ "، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ بَعْثَهُمْ إِلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ بِالْقَبْلِيَّةِ - بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ اللَّامِ، وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ - مِمَّا يَلِي سَاحِلَ الْبَحْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسُ لَيَالٍ، وَأَنَّهُمُ انْصَرَفُوا، وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا، أَيْ حَرْبًا، وَلَا مُنَافَاةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْبَعْثَ لِلْمُتَصَدِّينَ رَصَدَ عِيرَ قُرَيْشٍ، وَقَصَدَ مُحَارَبَةَ حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، قَالَ الْحَافِظُ: لَكِنَّ تَلَقِّيَ عِيرِ قُرَيْشٍ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ فِي الْهُدْنَةِ، بَلْ مُقْتَضَى مَا فِي الصَّحِيحِ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ فِي سَنَةِ سِتٍّ، أَوْ قَبْلَهَا قَبْلَ هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنَّ تَلَقِّيَهُمْ لِلْعِيرِ لَيْسَ لِحَرْبِهِمْ، بَلْ لِحِفْظِهِمْ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْخَبَرِ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَحَدًا، بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا نِصْفَ شَهْرٍ وَأَكْثَرَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، انْتَهَى.

وَقَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بَعْدَ نَكْثِ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ، وَقَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، انْتَهَى.

وَقَالَ فِي الْهُدَى: كَوْنُهُ فِي رَجَبٍ غَيْرَ مَحْفُوظٍ إِذْ لَمْ يُحْفَظْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَزَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَا أَغَارَ فِيهِ، وَلَا بَعَثَ فِيهِ سَرِيَّةً، قَالَ الْحَافِظُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْحَلَبِيُّ: هَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مَلِيحٌ لَكِنَّهُ عَلَى مُخْتَارِهِ مِنْ عَدَمِ نَسْخِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَشَيْخِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ تَبَعًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، وَعَطَاءٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ مِنْ نَسْخِهِ.

(فَأَمَّرَ) - بِشَدِّ الْمِيمِ - أَيْ جَعَلَ أَمِيرًا (عَلَيْهِمْ) ، أَيْ عَلَى الْبَعْثِ (أَبَا عُبَيْدَةَ) عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ الْجَرَّاحِ) الْقُرَشِيَّ الْفِهْرِيَّ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الْبَدْرِيَّ مِنَ السَّابِقِينَ، مَاتَ شَهِيدًا بِطَاعُونِ عَمْوَاسٍ سَنَةَ ثَمَانَ عَشْرَةَ أَمِيرًا عَلَى الشَّامِ مِنْ قِبَلِ عُمَرَ.

وَفِي رِوَايَةِ حَمْزَةَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ: " أَمَّرَ عَلَيْنَا قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ "، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْمَحْفُوظُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رِوَايَاتُ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَأَنَّ أَحَدَ رُوَاتِهِ ظَنَّ مِنْ صُنْعِ قَيْسٍ مِنْ نَحْرِ الْإِبِلِ الَّتِي اشْتَرَاهَا أَنَّهُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

(وَهُمْ) ، أَيِ الْجَيْشُ (ثَلَاثُمِائَةٍ) عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الرِّوَايَاتِ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَبِهِ جَزَمَ أَهْلُ السِّيَرِ كَابْنِ سَعْدٍ

ص: 484

قَائِلًا: مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا بِضْعَ عَشْرَةَ ثَلَاثَمِائَةٍ، فَإِنْ صِحَّتْ فَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ اسْتِسْهَالًا لِأَمْرِ الْكَسْرِ لِقِلَّتِهِ، لَكِنَّ الْأَخْذَ بِالزِّيَادَةِ مَعَ صِحَّتِهَا وَاجِبٌ ; لِأَنَّهُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ.

(قَالَ) جَابِرٌ: (وَأَنَا فِيهِمْ)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:" فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ "، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ وَهْبٍ:" نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا "، (فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ) الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ لِلتَّكَلُّمِ (فَنِيَ) - بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَكَسْرِ النُّونِ: فَرَغَ (الزَّادُ) جَوَّزَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَنِيَ: أَشْرَفَ عَلَى الْفَنَاءِ، (فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ) - بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَإِسْكَانِ الزَّايِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالدَّالِ - تَثْنِيَةَ مِزْوَدٍ بِالْكَسْرِ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الزَّادُ.

(قَالَ) جَابِرٌ: (فَكَانَ) أَبُو عُبَيْدَةَ (يُقَوِّتُنَاهُ) - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَبِضَمِّهِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّقْوِيتِ - (كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (حَتَّى فَنِيَ) مَا فِي الْمِزْوَدَيْنِ مِنَ التَّمْرِ، (وَلَمْ تُصِبْنَا) مِمَّا جُمِعَ ثَانِيًا مِنَ الْأَزْوَادِ الْخَاصَّةِ، (إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ) كُلَّ يَوْمٍ هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَنِيَ: أَشْرَفَ عَلَى الْفَنَاءِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ: ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ أَزْوَادٌ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ وَأَزْوَادٌ بِطَرِيقِ الْخُصُوصِ، فَلَمَّا فَنِيَ الَّذِي بِطَرِيقِ الْعُمُومِ اقْتَضَى رَأْيُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْ يَجْمَعَ الَّذِي بِطَرِيقِ الْخُصُوصِ لِقَصْدِ الْمُوَاسَاةِ بَيْنَهُمْ، فَفَعَلَ فَكَانَ جَمِيعُهُ مِزْوَدًا وَاحِدًا.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: " «فَزَوَّدَنَا صلى الله عليه وسلم جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً» "، وَظَاهِرُهُ يُخَالِفُ حَدِيثَ الْبَابِ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الزَّادَ الْعَامَّ كَانَ قَدْرَ جِرَابٍ، فَلَمَّا نَفِدَ وَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ الزَّادَ الْخَاصَّ اتَّفَقَ أَنَّهُ قُدِّرَ جِرَابٌ، وَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الرَّاوِيَيْنِ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ، وَأَمَّا تَفْرِقَتُهُ تَمْرَةً تَمْرَةً، فَكَانَ فِي ثَانِي الْحَالِ، انْتَهَى.

وَلَا بَأْسَ بِمَا قَالَ إِلَّا قَوْلَهُ: مِزْوَدًا وَاحِدًا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ هُنَا، وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ رُوِيَ بِالتَّثْنِيَةِ، وَقَوْلُ عِيَاضٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَزْوَادِهِمْ تَمْرٌ غَيْرُ الْجِرَابِ الْمَذْكُورِ، وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِأَنَّ حَدِيثَ وَهْبٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الَّذِي اجْتَمَعَ مِنْ أَزْوَادِهِمْ مِزْوَدَا تَمْرٍ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم زَوَّدَهُمْ جِرَابًا مَنْ تَمْرٍ، فَصَحَّ أَنَّ التَّمْرَ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ الْجِرَابِ، قَالَ: وَقَوْلُ غَيْرِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّ تَفْرِقَتَهُ عَلَيْهِمْ تَمْرَةً تَمْرَةً قَصْدًا لِبَرَكَتِهِ، وَكَانَ يُفَرِّقُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَزْوَادِ الَّتِي جُمِعَتْ أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ بَعِيدٌ مِنَ السِّيَاقِ، بَلْ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، فَقَلَّتْ أَزْوَادُنَا حَتَّى مَا كَانَ يُصِيبُ الرَّجُلَ مِنَّا إِلَّا تَمْرَةٌ، قَالَ وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ:(فَقُلْتُ) لِجَابِرٍ:

ص: 485

(وَمَا تُغْنِي) عَنْكُمْ (تَمْرَةٌ)، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ وَهْبٍ: وَأَيْنَ كَانَتِ التَّمْرَةُ تَقَعُ مِنَ الرَّجُلِ؟ (فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا) مُؤَثِّرًا (حَيْثُ فَنِيَتْ) ، لِأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءَ، إِذْ تُحَلِّي الْفَمَ وَتَرُدُّ بَعْضَ أَلَمِ الْجُوعِ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: " أَنَّهُ أَيْضًا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا، فَقُلْتُ: مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: نَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ فَيَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ "، وَزَادَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:" «فَأَقَمْنَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى فَنِيَ زَادُنَا، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ» " - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ - أَيْ وَرَقَ السَّلَمِ - بِفَتْحَتَيْنِ - شَجَرٌ عَظِيمٌ لَهُ شَوْكٌ كَالْعَوْسَجِ وَالطَّلْحِ، قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي أَكَلُوا وَرَقَهُ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: " «وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ وَنَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ» "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَابِسًا خِلَافًا لِزَعْمِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ كَانَ أَخْضَرَ رَطْبًا، وَلِهَذَا تُعْرَفُ بِسَرِيَّةِ الْخَبَطِ.

(قَالَ) جَابِرٌ: (فَانْتَهَيْنَا)، وَفِي رِوَايَةٍ:" ثُمَّ انْتَهَيْنَا "(إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ) : اسْمُ جِنْسٍ لِجَمِيعِ السَّمَكِ، وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِمَا عَظُمَ مِنْهُ، (مِثْلُ الظَّرِبِ) - بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَالَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَمُوَحَّدَةٍ، حَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ بِالْمُعْجَمَةِ السَّاقِطَةِ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ - الْجَبَلُ الصَّغِيرُ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ بِسُكُونِ الرَّاءِ إِذَا كَانَ مُنْبَسِطًا لَيْسَ بِالْعَالِي.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: " «فَوَقَعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ» "، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ:" فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ "، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَيْضًا:" فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ "، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعَنْبَرُ دَابَّةٌ بَحْرِيَّةٌ كَبِيرَةٌ يُتَّخَذُ مِنْ جِلْدِهَا التِّرْسَةُ، وَيُقَالُ إِنَّ الْعَنْبَرَ الْمَشْمُومَ رَجِيعُ هَذَا الدَّابَّةِ، وَقِيلَ: الْمَشْمُومُ يَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي أَجْوَافِ السَّمَكِ الَّذِي تَبْتَلِعُهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: رَأَيْتُ الْعَنْبَرَ نَابَتَا فِي الْبَحْرِ مُلْتَوِيًا مِثْلَ عُنُقِ الشَّاةِ، وَفِي الْبَحْرِ دَابَّةٌ تَأْكُلُهُ وَهُوَ سُمٌّ لَهَا فَيَقْتُلُهَا فَيَقْذِفُهُ الْبَحْرُ فَيَخْرُجُ الْعَنْبَرُ مِنْ بَطْنِهَا.

وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَنْبَرُ سَمَكَةٌ تَكُونُ بِالْبَحْرِ الْأَعْظَمِ يَبْلُغُ طُولُهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا، يُقَالُ لَهَا: بَالَةٌ وَلَيْسَتْ عَرَبِيَّةً.

(فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً)، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ:" فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ:" فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا "، قَالَ الْحَافِظُ: وَيُجْمَعُ بِأَنَّ مَنْ قَالَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ غَيْرُهُ، وَمَنْ قَالَ نِصْفَ شَهْرٍ، أَلْغَى الْكَسْرَ الزَّائِدَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَنْ قَالَ شَهْرًا جَبَرَ الْكَسْرَ، أَوْ ضَمَّ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ وِجْدَانِهِمُ الْحُوتَ إِلَيْهَا، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمٌ، وَلَعَلَّ الْجَمْعَ

ص: 486

الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَوْلَى.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ: اثْنَى عَشَرَ يَوْمًا وَهِيَ شَاذَّةٌ، وَأَشَدُّ مِنْهَا شُذُوذًا، رِوَايَةُ الْخَوْلَانِيِّ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، زَادَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ:" «وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا» " - بِمُثَلَّثَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ - أَيْ رَجَعَتْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ حَصَلَ لَهُمْ فَزَالَ مِنَ الْجُوعِ السَّابِقِ.

(ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ) - بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ اللَّامِ - (مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا) - بِالتَّذْكِيرِ - وَإِنْ كَانَتِ الضِّلَعُ مُؤَنَّثَةً لِأَنَّهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ فَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ.

(ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ) أَنْ تَرْحَلَ (فَرَحَلَتْ) - بِخِفَّةِ الْحَاءِ، وَشَدِّهَا - (ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا) الرَّاحِلَةُ لِعِظَمِهِمَا.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «فَعَمَدَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ فَمَرَّ تَحْتَهُ» "، وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:" «ثُمَّ أَمَرَ بِأَجْسَمِ بَعِيرٍ مَعَنَا فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَجْسَمَ رَجُلٍ مِنَّا، فَخَرَجَ مِنْ تَحْتِهَا وَمَا مَسَّتْهُ رَأَسُهُ» "، وَجَزَمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ بِأَنَّ الرَّجُلَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَقَالَ فِي الْفَتْحِ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَأَظُنُّهُ قَيْسًا فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ بِالطُّولِ، وَقِصَّتُهُ مَعَ مُعَاوِيَةَ مَعْرُوفَةٌ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ أَطْوَلَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَنَزَعَ لَهُ قِيسٌ سَرَاوِيلَهُ فَكَانَتْ طُولَ قَامَةِ الرُّومِيِّ بِحَيْثُ كَانَ طَرَفُهَا عَلَى أَنْفِهِ، وَطَرَفُهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَعُوتِبَ قَيْسٌ فِي نَزْعِ سَرَاوِيلِهِ فَقَالَ: أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودٌ وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ سَرَاوِيلُ عَادِيٍّ نَمَّتْهُ ثَمُودٌ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنَيْهِ بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالتَّوْرِ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنَيْهِ - بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَسُكُونِ الْقَافِ وَمُوَحَّدَةٍ - النُّقْرَةُ الَّتِي فِيهَا الْحَدَقَةُ، وَالْفِدَرُ - بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ - جَمْعُ فِدْرَةٍ - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ -: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ.

وَفِي رِوَايَةِ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ: " وَحَمَلْنَا مَا شِئْنَا مِنْ قَدِيدٍ وَوَدَكٍ فِي الْأَسْقِيَةِ وَالْغَرَائِرِ "، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ جَابِرٍ:" «فَأَتَيْنَا سَيْفَ الْبَحْرِ فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً، فَأَلْقَى دَابَّةً فَأَوْرَيْنَا عَلَى شِقِّهَا النَّارَ، فَأَطْبَخْنَا وَاشْتَوَيْنَا وَأَكَلْنَا وَشَبِعْنَا قَالَ جَابِرٌ: فَدَخَلْتُ أَنَا وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً فِي حِجَاجِ عَيْنِهَا مَا يَرَانَا أَحَدٌ حَتَّى خَرَجْنَا، وَأَخَذْنَا ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهَا فَقَوَّسْنَاهُ، وَدَعَوْنَا بِأَعْظَمِ رَجُلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ جَمَلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ، فَدَخَلَ تَحْتَهُ مَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ» " وَكِفْلٌ - بِكَسْرِ الْكَافِ، وَسُكُونِ الْفَاءِ وَلَامٍ - كِسَاءٌ يَجْعَلُهُ الرَّاكِبُ عَلَى سَنَامِهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ.

وَفِي رِوَايَةِ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ: " وَحَمَلْنَا مَا شِئْنَا مِنْ قَدِيدٍ وَوَدَكٍ "، وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: " «فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ، أَطْعِمُونَا

ص: 487

إِنْ كَانَ مَعَكُمْ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ بِعُضْوٍ مِنْهُ فَأَكَلَهُ» "، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: "«فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْ لَحْمِهِ فَتُطْعِمُونَا؟ فَكَانَ مَعَنَا مِنْهُ شَيْءٌ فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَأَكَلَ» "، وَلِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ: "«فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّا نُدْرِكُهُ لَمْ يُرْوِحْ لَأَحْبَبْنَا لَوْ كَانَ عِنْدَنَا مِنْهُ» "، قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا لَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ ازْدِيَادًا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ أَحْضَرُوا لَهُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْضِرُوا لَهُ مِنْهُ، وَكَانَ مَا أَحْضَرُوهُ لَمْ يُرْوِحْ فَأَكَلَ مِنْهُ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ:" «وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، أَيْ عِنْدَمَا جَاعُوا، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ بِالتَّكْرَارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» "، وَلِلْحُمَيْدِيِّ فِي مَسْنَدِهِ وَغَيْرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ «عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي وَكُنْتُ فِي جَيْشِ الْخَبَطَ أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ قَالَ: انْحَرْ، قُلْتُ: نَحَرْتُ ثُمَّ جَاعُوا، قَالَ: انْحَرْ، قُلْتُ: نَحَرْتُ ثُمَّ جَاعُوا، قَالَ: انْحَرْ، قُلْتُ: نَحَرْتُ ثُمَّ جَاعُوا، قَالَ: انْحَرْ، قُلْتُ: قَدْ نُهِيتُ» "، وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ «أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ جُوعٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ قَيْسٌ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تَمْرًا بِالْمَدِينَةِ بِجُزُرٍ هُنَا؟ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ، فَقَالَ: عَرَفْتُ نَسَبَكَ فَابْتَاعَ مِنْهُ خَمْسَ جَزَائِرَ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَامْتَنَعَ عُمَرُ لِكَوْنِ قَيْسٍ لَا مَالَ لَهُ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: مَا كَانَ سَعْدٌ لِيَخْنَى بِابْنِهِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ - بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَنُونٍ - أَيْ يُقَصِّرُ، قَالَ: وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا وَفِعْلًا شَرِيفًا، فَأَخَذَ قِيسٌ الْجُزُرَ فَنَحَرَ لَهُمْ ثَلَاثَةً كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ نَهَاهُ أَمِيرُهُ فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَنْحَرَ تُرِيدُ أَنْ تَخْفِرَ ذِمَّتَكَ وَلَا مَالَ لَكَ، قَالَ قَيْسٌ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَتُرَى أَبَا ثَابِتٍ يَعْنِي سَعْدًا أَبَاهُ يَقْضِي دُيُونَ النَّاسِ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ لَا يَقْضِي عَنِّي تَمْرًا لِقَوْمٍ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَلِينُ وَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: أَعْزِمُ فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَبَقِيَتْ جَزُورَانِ فَقَدِمَ بِهِمَا قَيْسٌ الْمَدِينَةَ ظَهْرًا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِمَا، وَبَلَغَ سَعْدًا مَجَاعَةُ الْقَوْمِ فَقَالَ: إِنْ يَكُ قَيْسٌ كَمَا أَعْرِفُ فَسَيَنْحَرُ لَهُمْ، فَلَمَّا لَقِيَهُ قَالَ: مَا صَنَعْتَ فِي مَجَاعَةِ الْقَوْمِ؟ قَالَ: نَحَرْتُ، قَالَ: أَصَبْتَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: نَحَرْتُ، قَالَ: أَصَبْتَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: نَحَرْتُ، قَالَ: أَصَبْتَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: نُهِيتُ، قَالَ: وَمَنْ نَهَاكَ؟ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرِي، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ لَا مَالَ لِي وَإِنَّمَا الْمَالُ لِأَبِيكَ، فَقَالَ: لَكَ أَرْبَعُ حَوَائِطَ أَدْنَاهَا تَجِدُ مِنْهُ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَقَدِمَ الْبَدَوِيُّ مَعَ قَيْسٍ فَأَوْفَاهُ أَوْسُقَهُ وَحَمَلَهُ وَكَسَاهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِعْلُ قَيْسٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ فِي قَلْبِ جُودٍ» .

وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْجُودَ مِنْ سِيمَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ» "، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ نَحَرَ أَوَّلًا سِتًّا مِمَّا مَعَهُ مِنَ الظَّهْرِ، ثُمَّ اشْتَرَى خَمْسًا نَحَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ نُهِيَ، فَاقْتَصَرَ مَنْ قَالَ ثَلَاثًا عَلَى مَا نَحَرَهُ مِمَّا

ص: 488

اشْتَرَاهُ، وَمَنْ قَالَ تِسْعًا ذَكَرَ جُمْلَةَ مَا نَحَرَهُ، فَإِنْ سَاغَ هَذَا وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يَتَنَزَّلِ الْحَافِظُ لِلْجَمْعِ، وَقَالَ: اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نَهْيِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَيْسًا أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى سِنَانِ الْجَيْشِ، فَقِيلَ: خِيفَةَ أَنْ تَفْنَى حُمُولَتُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ غَيْرِ الْعَسْكَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَسْتَدِينُ عَلَى ذِمَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ، فَأُرِيدَ الرِّفْقُ بِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ اه.

وَلَا نَظَرَ لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الْعَسْكَرِ بَعْدَ نَحْرِ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمُوَاسَاةِ بَيْنَ الْجَيْشِ عِنْدَ الْمَجَاعَةِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الطَّعَامِ يَسْتَدْعِي الْبَرَكَةَ فِيهِ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّرِكَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْمَغَازِي عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَهُمْ بِزِيَادَاتٍ قَدْ أَتَيْتُ عَلَى حَاصِلِهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقِ الْمُعِينِ.

(قَالَ مَالِكٌ: الظَّرِبُ) - بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَالَةِ - وَزْنُ كَتِفٍ (الْجُبَيْلُ) - بِضَمِّ الْجِيمِ - مُصَغَّرً إِشَارَةً إِلَى صِغَرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنٍ بُكَيْرٍ: الْجَبَلُ الصَّغِيرُ.

ص: 489

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ جَدَّتِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1731 -

1681 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْعَدَوِيِّ (عَنْ عَمْرٍو) - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - (ابْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ، إِذْ هُوَ عَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيُّ الْمَدَنِيُّ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ وَقَلَبَهُ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو: تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ.

(عَنْ جَدَّتِهِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ اسْمُهَا حَوَّاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا جَدَّةُ ابْنِ نُجِيدُ أَيْضًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ) قَالَ الْبَاجِيُّ: رُوِّينَاهُ بِالْمَشْرِقِ بِنَصْبِ نِسَاءٍ، وَخَفْضِ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى الْإِضَافَةِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ، أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ نِسَاءٍ بِفَاضِلَاتٍ، أَيْ فَاضِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا يُقَالُ: رِجَالُ الْقَوْمِ، أَيْ سَادَتُهُمْ وَأَفَاضِلُهُمْ، وَرُوِّينَاهُ بِبَلَدِنَا، بِرَفْعِ الْكَلِمَتَيْنِ: الْأُولَى عَلَى النِّدَاءِ وَالثَّانِيَةُ صِفَةٌ عَلَى اللَّفْظِ، أَيْ يَأَيُّهَا النِّسَاءُ الْمُؤْمِنَاتُ، وَيَجُوزُ رَفْعُ الْأُولَى، وَنَصْبُ الثَّانِيَةِ بِالْكَسْرَةِ نَعْتٌ عَلَى الْمَوْضِعِ، كَمَا يُقَالُ: يَا زَيْدٌ الْعَاقِلَ بِنَصْبِ الْعَاقِلَ وَرَفْعِهِ، وَتَعَقَّبَ الْأُبِّيُّ قَوْلَهُ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَتَأَوَّلُوا نَحْوَ مَسْجِدِ الْجَامِعِ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ، أَيْ مَسْجِدِ الْمَكَانِ الْجَامِعِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ النُّحَاةُ مَسْجِدَ الْجَامِعِ مِثَالًا لِإِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، لَا لِإِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، انْتَهَى.

وَمِثْلُ هَذَا

ص: 489

ظَاهِرٌ فَإِنَّمَا سَبَقَهُ الْقَلَمُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى صِفَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَطَغَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ، وَأَنْكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رِوَايَةَ الْإِضَافَةِ، وَرَدَّهُ ابْنُ السَّيِّدِ بِأَنَّهَا صَحَّتْ نَقْلًا وَسَاعَدَتْهَا اللُّغَةُ فَلَا مَعْنًى لِلْإِنْكَارِ.

(لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ) أَنْ تُهْدِيَ (لِجَارَتِهَا) شَيْئًا، (وَلَوْ) كَانَ (كُرَاعَ شَاةٍ) - بِضَمِّ الْكَافِ - مَا دُونَ الْعَقِبِ مِنَ الْمَوَاشِي، وَالدَّوَابِّ، وَالْإِنْسِ كَمَا فِي الْعَيْنِ، وَخَصَّ النَّهْيَ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ مَوَادُّ الْمَوَدَّةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَلِأَنَّهُنَّ أَسْرَعُ انْتِقَالًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا (مُحْرَقًا) ، نَعْتٌ لِكُرَاعٍ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، فَكَانَ حَقُّهُ مُحْرَقَةً إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ وَرَدَتْ هَكَذَا فِي الْمُوَطَّآتِ وَغَيْرِهَا.

وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يُذَكِّرُهُ فَلَعَلَّ الرِّوَايَةَ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِلْمُهْدِيَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُهْدَى إِلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي إِهْدَاءِ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَقَبُولِهِ لَا إِلَى حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِإِهْدَاءِ الْكُرَاعِ أَيْ لَا يَمْنَعُ جَارَةً مِنْ إِهْدَائِهَا لِجَارَتِهَا الْمَوْجُودَ عِنْدَهَا اسْتِقْلَالُهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَجُودَ لَهَا بِمَا تَيَسَّرَ، وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ، وَإِذَا تَوَاصَلَ الْقَلِيلُ صَارَ كَثِيرًا.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ تَهَادُوا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ، فَإِنَّهُ يُنْبِتُ الْمَوَدَّةَ وَيُذْهِبُ الضَّغَائِنَ» "، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ:" وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ " - بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ - وَهُوَ كَالْقَدَمِ لِلْإِنْسَانِ، وَبِلَفْظِ الْمُسْلِمَاتِ بَدَلَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، بَلْ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ:" يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ".

ص: 490

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ نُهُوا عَنْ أَكْلِ الشَّحْمِ فَبَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1732 -

1682 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) مُرْسَلًا، وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ:" «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمِيتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهُنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: هُوَ حَرَامٌ» "، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا خَلْفَ الْمَقَامِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ سَاعَةً، ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ قَالَ» "، (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ) ، أَيْ لَعَنَهُمْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَتَلَهُمْ، وَالْمُفَاعَلَةُ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: عَادَاهُمْ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَنْ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَجَبَ قَتْلُهُ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: قَاتَلَ أَيْ عَادَى، أَوْ قَتَلَ، وَأُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْمُغَالَبَةِ أَوْ

ص: 490

عَبَّرَ عَنْهُ بِمَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْهُ، فَإِنَّهُمْ بِمَا اخْتَرَعُوا مِنَ الْحِيلَةِ انْتَصَبُوا لِمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَمُقَاتَلَتِهِ، وَمَنْ حَارَبَهُ حُرِبَ وَمَنْ قَاتَلَهُ قُتِلَ.

( «نُهُوا عَنْ أَكْلِ الشَّحْمِ» ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146](سورة الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 146) ، (فَبَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ)، وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ:" جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ " - بِالْجِيمِ - أَيْ أَذَابُوهُ قَائِلِينَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الشَّحْمَ، وَهَذَا وَدَكٌ.

زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: " «وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» "، قَالَ عِيَاضٌ: كَثُرَ اعْتِرَاضُ مَلَاعِينِ الْيَهُودِ وَالزَّنَادِقَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ مَوْطُوءَةَ الْأَبِ بِالْمِلْكِ لِوَلَدِهِ بَيْعُهَا دُونَ وَطْئِهَا، وَهُوَ سَاقِطٌ لِأَنَّ مَوْطُوءَةَ الْأَبِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الِابْنِ مِنْهَا إِلَّا وَطْؤُهَا، فَجَمِيعُ مَنَافِعِهَا غَيْرُهُ حَلَالٌ لَهُ، وَشَحْمُ الْمَيْتَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْأَكْلُ وَهُوَ حَرَامٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَحُرْمَتُهُ عَامَّةٌ عَلَى كُلِّ الْيَهُودِ فَافْتَرَقَا.

وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَمَالِيهِ: الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنْ تَحْرِيمِ الشُّحُومِ، إِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا، لِأَنَّهَا مِنَ الْمَطْعُومَاتِ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا، مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ التَّحْرِيمِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا لَعَنَ الْيَهُودَ لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا غَيْرَ الْأَكْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ عُمُومُ مَنَافِعِهَا لَا خُصُوصُ أَكْلِهَا.

ص: 491

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْكُمْ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ وَالْبَقْلِ الْبَرِّيِّ وَخُبْزِ الشَّعِيرِ وَإِيَّاكُمْ وَخُبْزَ الْبُرِّ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقُومُوا بِشُكْرِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1732 -

1683 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَوْلَادَ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، (عَلَيْكُمْ بِالْمَاءِ الْقِرَاحِ) ، أَيِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يُمَازِجُهُ شَيْءٌ.

(وَالْبَقْلِ) : كُلُّ نَبَاتٍ خُضِّرَتْ بِهِ الْأَرْضُ، (الْبَرِّيِّ) نِسْبَةً إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَهِيَ الصَّحْرَاءُ.

(وَخُبْزِ الشَّعِيرِ) - بِفَتْحِ الشِّينِ، وَقَدْ تُكْسَرُ - (وَإِيَّاكُمْ وَخُبْزَ الْبُرِّ) : الْقَمْحِ، أَيِ احْذَرُوا أَكْلَهُ، (فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقُومُوا بِشُكْرِهِ) تَعْلِيلٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ.

ص: 491

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُمَا فَقَالَا أَخْرَجَنَا الْجُوعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَخْرَجَنِي الْجُوعُ فَذَهَبُوا إِلَى أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ الْأَنْصَارِيِّ فَأَمَرَ لَهُمْ بِشَعِيرٍ عِنْدَهُ يُعْمَلُ وَقَامَ يَذْبَحُ لَهُمْ شَاةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكِّبْ عَنْ ذَاتِ الدَّرِّ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً وَاسْتَعْذَبَ لَهُمْ مَاءً فَعُلِّقَ فِي نَخْلَةٍ ثُمَّ أُتُوا بِذَلِكَ الطَّعَامِ فَأَكَلُوا مِنْهُ وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1732 -

1684 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي سِيَاقِهِمُ اخْتِلَافٌ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ،

ص: 491

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ) النَّبَوِيَّ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ هَكَذَا بِالشَّكِّ.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ: فِي سَاعَةٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا، وَلَا يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ.

(فَوَجَدَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَسَأَلَهُمَا) فِي مُسْلِمٍ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ (فَقَالَا: أَخْرَجَنَا الْجُوعُ)، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ:" «فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: خَرَجْتُ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ، وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» "، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زَادَ مُسْلِمٌ:" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ "، (وَأَنَا أَخْرَجَنِي الْجُوعُ) ، قَالَهُ تَسْلِيَةً وَإِينَاسًا لَهُمَا لِمَا عَلِمَ مِنْ شِدَّةِ جُوعِهِمَا.

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " قَالَ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ "، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ الْفُتُوحِ ; لِأَنَّ إِسْلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، فَرِوَايَتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ فَتْحِهَا، وَلَا يُنَافِي صَنِيعَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَبْذُلُونَ مَا يُسْأَلُونَ، فَرُبَّمَا يَحْتَاجُونَ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَعَلَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ ذَاتَ يَوْمٍ، أَوْ لَيْلَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ رِوَايَتُهُ عَنْ مُشَاهَدَةٍ مَا تَرَدَّدَ.

وَأُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّ الشَّكَّ مِنْهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ مِنْ أَحَدِ رِجَالِ الْإِسْنَادِ.

(فَذَهَبُوا إِلَى أَبِي الْهَيْثَمِ) - بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَالْمُثَلَّثَةِ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ مِيمٌ - مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَاسْمُهُ مَالِكُ (ابْنُ التَّيِّهَانِ) - بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدَةٌ - يُقَالُ: إِنَّهُ لَقَبٌ وَاسْمُهُ أَيْضًا مَالِكُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زَعُورَا (الْأَنْصَارِيُّ) الْأَوْسِيُّ، وَزَعُورَا أَخُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ شَهِدَ بَدْرًا، وَالْمُشَاهِدَ كُلَّهَا، مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ، أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ قُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمْ أَرَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ وَلَا يُثْبِتُهُ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ قَائِلُهُ.

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " «فَانْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ النَّخْلِ وَالشِّيَاهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ» "، وَكَذَا عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَأَبِي يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا، وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا، وَابْنِ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ أَبُو أَيُّوبَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِصَّةَ اتَّفَقَتْ مَرَّةً مَعَ أَبِي الْهَيْثَمِ، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَمَرَّةً مَعَ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ بِالْإِبْهَامِ قَالَ: فَأَتَى بِهِمَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَذَهَابُهُمْ إِلَيْهِ لَا يُنَافِي كَمَالَ شَرَفِهِمْ، فَقَدِ اسْتَطْعَمَ قَبْلَهُمْ مُوسَى وَالْخَضِرُ لِإِرَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِتَسْلِيَةِ الْخَلْقِ بِهِمْ، وَأَنْ يُسْتَنَّ بِهِمُ السَّنَنَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ تَشْرِيعًا لِلْأُمَّةِ.

وَهَلْ خَرَجَ صلى الله عليه وسلم قَاصِدًا مِنْ أَوَّلِ

ص: 492

خُرُوجِهِ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا، أَوْ جَاءَ التَّعْيِينُ بِالِاتِّفَاقِ؟ احْتِمَالَانِ: قَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَصَحُّ أَنَّ أَوَّلَ خَاطِرٍ حَرَّكَهُ لِلْخُرُوجِ، لَمْ يَكُنْ إِلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ ; لِأَنَّ الْكُمَّلَ لَا يَعْتَمِدُونَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، زَادَ فِي مُسْلِمٍ: فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ فُلَانٌ؟ وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ، فَوَضَعَهَا، ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَفْدِيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ» .

وَفِي مُسْلِمٍ: «فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَجِدُ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي،» (فَأَمَرَ لَهُمْ بِشَعِيرٍ عِنْدَهُ يُعْمَلُ) خَبَزَا، (وَقَامَ يَذْبَحُ لَهُمْ شَاةً)، وَفِي مُسْلِمٍ: وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكِّبْ) - بِفَتْحِ النُّونِ، وَكَسْرِ الْكَافِ الثَّقِيلَةِ، وَمُوَحَّدَةٍ - أَيْ أَعْرِضْ (عَنْ ذَاتِ الدَّرِّ) ، أَيِ اللَّبَنِ.

وَفِي مُسْلِمٍ فَقَالَ لَهُ: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ» ، نَهَاهُ عَنْ ذَبْحِهَا شَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ بِانْتِفَاعِهِمْ بِلَبَنِهَا، مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِهَا، فَهُوَ نَهْيُ إِرْشَادٍ لَا كَرَاهَةٍ فِي مُخَالَفَتِهِ لِزِيَادَةِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ، لَكِنَّهُ امْتَثَلَ الْأَمْرَ، (فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً) عَنَاقًا، أَوْ جَدْيًا كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ بِالشَّكِّ، وَالْعَنَاقُ بِالْفَتْحِ أُنْثَى الْمَعْزِ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُتِمَّ سَنَةً، وَالْجَدْيُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ -: ذَكَرُ الْمَعْزِ لَمْ يَبْلُغْ سَنَةَ.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَةٍ، فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ، فَجَاءَ بِقِنْوٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: كُلُوا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَفَلَا تَنَقَّيْتَ لَنَا مَنْ رُطَبِهِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا» .

وَفِي رِوَايَةٍ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ تَمْرِهِ، وَبُسْرِهِ، وَرُطَبِهِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بِمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ الَّذِي تَيَسَّرَ فَوْرًا بِلَا كُلْفَةٍ لَا سِيَّمَا مَعَ تَحَقُّقِهِ حَاجَتَهُمْ، وَلِأَنَّ فِيهِ أَلْوَانًا ثَلَاثَةً، وَلِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ مِنَ الْحَلَاوَةِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مُقَوٍّ لِلْمَعِدَةِ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ هَضْمًا.

(وَاسْتَعْذَبَ لَهُمْ مَاءً) ، أَيْ جَاءَ لَهُمْ بِمَاءٍ عَذْبٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ مِيَاهِ الْمَدِينَةِ مَالِحَةً، وَفِيهِ حِلُّ اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ.

(فَعُلِّقَ فِي نَخْلَةٍ) لِيُصِيبَهُ بَرْدُ الْهَوَاءِ، فَيَصِيرُ عَذْبًا بَارِدًا.

(ثُمَّ أَتَوْا بِذَلِكَ الطَّعَامِ) خُبْزِ الشَّعِيرِ، وَالشَّاةِ، رُوِيَ أَنَّهُ شَوَى نِصْفَهُ، وَطَبَخَ نِصْفَهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بِهِ فَلَمَّا وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنَ الْجَدْيِ، فَوَضَعَهُ فِي رَغِيفٍ، وَقَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ: أَبْلِغْ بِهَذَا فَاطِمَةَ لَمْ تُصِبْ مِثْلَهُ مُنْذُ أَيَّامٍ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَيْهَا، (فَأَكَلُوا مِنْهُ وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ) الْعَذْبِ الْبَارِدِ، ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ» ) قِيلَ: سُؤَالُ امْتِنَانٍ لَا سُؤَالُ حِسَابٍ.

وَقِيلَ: سُؤَالُ حِسَابٍ دُونَ مُنَاقَشَةٍ حَكَاهُمَا الْبَاجِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذَا سُؤَالُ تَشْرِيفٍ

ص: 493

وَإِنْعَامٍ وَتَعْدِيدِ فَضْلٍ، لَا سُؤَالُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ وَمُحَاسَبَةٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُسْأَلُ عَنْ نَعِيمِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ هَلْ نَالَهُ مِنْ حِلِّهِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا خَلَصَ مِنْ ذَلِكَ، سُئِلَ هَلْ قَامَ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ فَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ أَمْ لَا؟ فَالْأَوَّلُ سُؤَالٌ عَنْ سَبَبِ اسْتِخْرَاجِهِ، وَالثَّانِي عَنْ مَحَلِّ صَرْفِهِ.

وَفِي مُسْلِمٍ: «فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا، وَرَوَوْا قَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» .

وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «فَقَالَ هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; ظِلٌّ بَارِدٌ وَرُطَبٌ طِيِّبٌ وَمَاءٌ بَارِدٌ» .

وَإِنَّمَا ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ إِرْشَادًا لِلْآكِلِينَ وَالشَّارِبِينَ إِلَى حِفْظِ أَنْفُسِهِمْ فِي الشِّبَعِ عَنِ الْغَفْلَةِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْحَدِيقَةِ وَالتَّنَعُّمِ عَنِ الْآخِرَةِ، أَوْ هُوَ تَسْلِيَةٌ لِلْحَاضِرِينَ الْمُفْتَقِرِينَ عَنْ فَقْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ وَإِنْ حُرِمُوا عَنِ التَّنَزُّهِ، فَقَدِ اتَّقَوُا السُّؤَالَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: «فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَصَارَ بِأَيْدِيكُمْ، فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا شَبِعْتُمْ فَقُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، فَإِنَّ هَذَا كَفَاءُ هَذَا، فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهَا الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: كِسْرَةٍ يَسُدُّ بِهَا الرَّجُلُ جُوعَهُ، أَوْ ثَوْبٍ يَسْتُرُ بِهَا عَوْرَتَهُ، أَوْ حُجْرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الْقُرِّ وَالْحَرِّ» .

ص: 494

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزًا بِسَمْنٍ فَدَعَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَتَّبِعُ بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ الصَّحْفَةِ فَقَالَ عُمَرُ كَأَنَّكَ مُقْفِرٌ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ سَمْنًا وَلَا لُكْتُ أَكْلًا بِهِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ عُمَرُ لَا آكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَحْيَا النَّاسُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْيَوْنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1735 -

1685 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزًا بِسَمْنٍ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ) - لَمْ يُسَمِّ - (فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَتَّبِعُ) - بِشَدِّ الْفَوْقِيَّةِ - (بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ) - بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ - وَسَخَ (الصَّحْفَةِ) : مَا يَعْلَقُ بِهِ مِنْ أَثَرِ السَّمْنِ، (فَقَالَ عُمَرُ: كَأَنَّكَ مُقْفِرٌ) - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَإِسْكَانِ الْقَافِ، وَكَسْرِ الْفَاءِ -: أَيْ لَا أُدْمَ عِنْدَكَ، (فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ سَمْنًا، وَلَا رَأَيْتُ أَكْلًا بِهِ مُنْدُ كَذَا وَكَذَا) مُدَّةً عَيَّنَهَا، (فَقَالَ عُمَرُ: لَا آكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَحْيَا النَّاسُ) ، أَيْ يُصِيبَهُمُ الْخَصْبُ، وَالْمَطَرُ (مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْيَوْنَ) حَتَّى لَا أَمْتَازَ عَلَيْهِمْ.

ص: 494

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُطْرَحُ لَهُ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ فَيَأْكُلُهُ حَتَّى يَأْكُلَ حَشَفَهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1736 -

1686 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ) عَمِّهِ (أَنَسِ بْنِ

ص: 494

مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، يُطْرَحُ) : يُلْقَى، (لَهُ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ فَيَأْكُلُهُ حَتَّى يَأْكُلَ حَشَفَهَا) : يَابِسَهَا الرَّدِيءَ.

ص: 495

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ الْجَرَادِ فَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي قَفْعَةً نَأْكُلُ مِنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1736 -

1687 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ) مَوْلَاهُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ الْجَرَادِ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدَنَا مِنْهُ قَفْعَةً) - بِفَتْحِ الْقَافِ، وَإِسْكَانِ الْفَاءِ، ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ - قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: شَيْءٌ شَبِيهٌ بِالزِّنْبِيلِ مِنَ الْخُوصِ، لَيْسَ لَهُ عُرَى، وَلَيْسَ بِالْكَبِيرِ، وَقِيلَ: شَيْءٌ كَالْقُفَّةِ تُتَّخَذُ وَاسِعَةَ الْأَسْفَلِ، ضَيِّقَةَ الْأَعْلَى (نَأْكُلُ مِنْهُ) لِإِذْهَابِهِ الْجُوعَ بِدُونِ تَرَفُّهٍ.

ص: 495

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خُثَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى دَوَابٍّ فَنَزَلُوا عِنْدَهُ قَالَ حُمَيْدٌ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اذْهَبْ إِلَى أُمِّي فَقُلْ إِنَّ ابْنَكِ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ وَيَقُولُ أَطْعِمِينَا شَيْئًا قَالَ فَوَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاصٍ فِي صَحْفَةٍ وَشَيْئًا مِنْ زَيْتٍ وَمِلْحٍ ثُمَّ وَضَعَتْهَا عَلَى رَأْسِي وَحَمَلْتُهَا إِلَيْهِمْ فَلَمَّا وَضَعْتُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَبَّرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا مِنْ الْخُبْزِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامُنَا إِلَّا الْأَسْوَدَيْنِ الْمَاءَ وَالتَّمْرَ فَلَمْ يُصِبْ الْقَوْمُ مِنْ الطَّعَامِ شَيْئًا فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ يَا ابْنَ أَخِي أَحْسِنْ إِلَى غَنَمِكَ وَامْسَحْ الرُّعَامَ عَنْهَا وَأَطِبْ مُرَاحَهَا وَصَلِّ فِي نَاحِيَتِهَا فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الثُّلَّةُ مِنْ الْغَنَمِ أَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ دَارِ مَرْوَانَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1737 -

1688 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ) - بِحَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ - الْمَدَنِيُّ (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خُثَيْمٍ) - بِمُعْجَمَةٍ، وَمُثَلَّثَةٍ - مُصَغَّرٌ، وَيُقَالُ مَالِكٌ جَدِّهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ) : مَحَلٌّ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ، (فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى دَوَابَّ فَنَزَلُوا عِنْدَهُ، قَالَ حُمَيْدٌ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّي) اسْمُهَا أُمَيْمَةُ - بِمِيمَيْنِ - مُصَغَّرٌ بِنْتُ صُبَيْحٍ أَوْ صُفَيْحٍ - بِمُوَحَّدَةٍ، أَوْ فَاءٍ - مُصَغَّرٌ صَحَابِيَّةٌ.

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي فَأَخْبَرْتُهُ وَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَتِهِ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٍ فَسَمِعَتْ أُمِّي حِسَّ قَدَمِي، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَأَعْجَلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ وَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ خَيْرًا» "، (فَقُلْ: إِنَّ ابْنَكِ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكِ

ص: 495

أَطْعِمِينَا شَيْئًا) ، يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ تَيَسَّرَ، (قَالَ: فَوَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاصٍ) مِنْ خُبْزٍ (فِي صَحْفَةٍ، وَشَيْئًا مِنْ زَيْتٍ وَمِلْحٍ، ثُمَّ وَضَعَتْهَا عَلَى رَأْسِي وَحَمَلْتُهَا) حَتَّى جِئْتُ بِهَا (إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَضَعْتُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَبَّرَ أَبُو هُرَيْرَةَ)، أَيْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، (وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا مِنَ الْخُبْزِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامُنَا إِلَّا الْأَسْوَدَيْنِ: الْمَاءَ وَالتَّمْرَ) ; فِيهِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا لَوْنَ لَهُ.

(فَلَمْ يُصِبِ الْقَوْمُ مِنَ الطَّعَامِ شَيْئًا) لِشِبَعٍ أَوْ غَيْرِهِ، (فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي) فِي الْإِسْلَامِ، (أَحْسِنْ إِلَى غَنَمِكَ، وَامْسَحِ الرُّعَامَ) - بِضَمِّ الرَّاءِ، وَإِهْمَالِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَشْهَرِ رِوَايَةً - مُخَاطٌ رَقِيقٌ يَجْرِي مِنْ أُنُوفِ الْغَنَمِ، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ، وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، أَيِ امْسَحِ التُّرَابَ عَنْهَا، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: رَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَا يَسِيلُ مِنَ الْأَنْفِ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِ وَالْمَرْوِيُّ بِعَيْنِ مُهْمِلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَسْحَ التُّرَابِ عَنْهَا رَعْيًا لَهَا، وَإِصْلَاحًا لِشَأْنِهَا اه.

أَيْ عَلَى رِوَايَةِ الْإِعْجَامِ، لَا مَا فَسَّرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْإِهْمَالِ.

(وَأَطِبْ) : نَظِّفْ (مُرَاحَهَا) - بِضَمِّ الْمِيمِ -: مَكَانَهَا الَّذِي تَأْوِي فِيهِ، وَالْأَمْرُ لِلْإِرْشَادِ وَالْإِصْلَاحِ، (وَصَلِّ فِي نَاحِيَتِهَا فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ) ، أَيْ نَزَلَتْ مِنْهَا أَوْ تَدْخُلُهَا بَعْدَ الْحَشْرِ، أَوْ مِنْ نَوْعِ مَا فِي الْجَنَّةِ بِمَعْنَى أَنَّ فِيهَا أَشْبَاهَهَا، وَشِبْهُ الشَّيْءِ يُكْرَمُ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «أَكْرِمُوا الْمِعْزَى، وَامْسَحُوا بِرُغَامِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ» "، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ يُقَوِّيهِ هَذَا الْمَوْقُوفُ الصَّحِيحُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «صَلُّوا فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ، وَامْسَحُوا بِرُغَامِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ» "، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَمَوْقُوفًا وَهُوَ أَصَحُّ.

(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الثُّلَّةُ) - بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ، وَشَدِّ اللَّامِ -: الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ الْمِائَةُ وَنَحْوُهَا (مِنَ الْغَنَمِ أَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ دَارِ مَرْوَانَ) بْنِ الْحَكَمِ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يُقَالُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ غَيْبٍ يَأْتِي.

ص: 496

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ وَمَعَهُ رَبِيبُهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1738 -

1689 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) التَّابِعِيِّ، (أَنَّهُ قَالَ) مُرْسَلًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَرَوَاهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَيَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ، فَقَالَا: عَنْ مَالِكٍ عَنْ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ مَوْصُولًا، أَخْرَجَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْأَوَّلُ النَّسَائِيُّ، وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ الْحَافِظُ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ إِرْسَالُهُ كَعَادَتِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عَنْ وَهْبٍ مُرْسَلًا كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يُصَرِّحْ بِوَصْلِهِ، وَلَعَلَّهُ وَصَلَهُ مَرَّةً فَحَفِظَ ذَلِكَ عَنْهُ خَالِدٌ، وَيَحْيَى وَهُمَا ثِقَتَانِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ سَمَاعِ وَهْبٍ مِنْ عُمَرَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ:(أُتِيَ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ - (رَسُولُ اللَّهِ بِطَعَامٍ وَمَعَهُ رَبِيبُهُ) ابْنُ زَوْجَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ (عُمَرُ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - (بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) الصَّحَابِيُّ ابْنُ الصَّحَابِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ:" «أَكَلْتُ يَوْمًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِي الصَّحْفَةِ» "، وَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ:" كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ "، (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : يَا غُلَامُ (سَمِّ اللَّهَ) طَرْدًا لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْعًا لَهُ مِنَ الْأَكْلِ فَتُسَنُّ التَّسْمِيَةُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: أَقَلُّهَا بِسْمِ اللَّهِ، وَأَفْضَلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَرَ لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَفْضَلِيَّةِ دَلِيلًا خَاصًّا.

وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَعَ اللُّقْمَةِ الْأُولَى: بِسْمِ اللَّهِ، وَالثَّانِيَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ، وَالثَّالِثَةِ: الْبَسْمَلَةَ بِتَمَامِهَا، فَإِنْ سَمَّى مَعَ كُلِّ لُقْمَةٍ، فَهُوَ أَحْسَنُ حَتَّى لَا يَشْغَلَهُ الْأَكْلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَيَزِيدُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتَنَا، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَيْضًا: لَمْ أَرَ لِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ دَلِيلًا، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ خِلَافُهُ، وَمِنْ أَصَرَحِهَا حَدِيثُ أَحْمَدَ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا قُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ» "، (وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) ، اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مِمَّا لَا يَلِي ; لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ مَوْضِعِ يَدِ صَاحِبِهِ سُوءُ عِشْرَةٍ، وَتَرْكُ مَوَدَّةٍ لِنُفُورِ النَّفْسِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَمْرَاقِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْحِرْصِ وَالنَّهَمِ وَسُوءِ الْأَدَبِ وَأَشْبَاهِهَا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ لَوْنٍ أَوْ تَمْرًا جَازَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ أَكَلَ مِمَّا يَلِيهِ، وَإِذَا أُتِيَ بِالتَّمْرِ جَالَتْ يَدُهُ فِيهِ» "، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ

ص: 497

وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: " «أَخَذَ بِيَدِي صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَأَتَيْنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدَكِ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا فَخَبَطْتُ بِيَدِي فِي نَوَاحِيهَا، وَأَكَلَ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَقَبَضَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدَيَّ الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ التَّمْرِ، أَوِ الرُّطَبِ، فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَجَالَتْ يَدُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّبَقِ، فَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَوْنٍ وَاحِدٍ» "، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ تُقَوِّيهِ.

زَادَ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ: " وَكُلْ بِيَمِينِكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ - بِكَسْرِ الطَّاءِ - أَيْ لَزِمْتُ ذَلِكَ وَصَارَ لِي عَادَةً "، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالضَّمِّ يُقَالُ: طُعْمٌ إِذَا أُكِلَ، وَالطُّعْمَةُ: الْأَكْلُ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ مَا مَرَّ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ، وَالْأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ، وَبَعْدُ بِالْبِنَاءِ عَلَى الضَّمِّ، أَيِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ صَنِيعِي فِي الْأَكْلِ.

ص: 498

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ إِنَّ لِي يَتِيمًا وَلَهُ إِبِلٌ أَفَأَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ إِبِلِهِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّةَ إِبِلِهِ وَتَهْنَأُ جَرْبَاهَا وَتَلُطُّ حَوْضَهَا وَتَسْقِيهَا يَوْمَ وِرْدِهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1739 -

1690 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ) الْأَنْصَارِيِّ: (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ) بْنِ الصِّدِّيقِ (يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي يَتِيمًا) أَقُومُ عَلَيْهِ، (وَلَهُ إِبِلٌ، أَفَأَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ إِبِلِهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ كُنْتَ تَبْغِي) : تَطْلُبُ (ضَالَّةَ إِبِلِهِ) ، أَيْ مَا ضَلَّ مِنْهَا، (وَتَهْنَأُ) - بِالْهَمْزِ -: تُطْلِي، (جَرْبَاهَا) بِالْهِنَاءِ بِزِنَةِ كِتَابٍ الْقَطِرَانُ، (وَتَلَطُّ) - بِفَتْحِ اللَّامِ، وَشَدِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ -:(حَوْضَهَا) ، أَيْ تُمَدِّدُهُ، وَتُطَيِّنُهُ، وَتُصْلِحُهُ، وَأَصْلُ اللَّوْطِ: اللُّصُوقُ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ، (وَتَسْقِيهَا يَوْمَ وِرْدِهَا) ، أَيْ شُرْبِهَا، (فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ) ، أَيْ بِوَلَدِهَا الرَّضِيعِ، (وَلَا نَاهِكٍ)، أَيْ مُسْتَأْصِلٍ (فِي الْحَلْبِ) : اللَّبَنَ حَتَّى يَضُرَّ بِهَا، قَالَ الْبَاجِيُّ: الْحَلَبُ - بِفَتْحِ اللَّامِ -: اللَّبَنُ، وَبِتَسْكِينِهَا: الْفِعْلُ.

وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: أَيْ وَلَا مُبَالِغٍ فِيهِ حَتَّى يَضُرَّ ذَلِكَ بِهَا، وَقَدْ نَهَكْتَ النَّاقَةَ حَلْبًا، إِذَا تَقَصَّيْتَهَا وَلَمْ تُبْقِ فِي ضَرْعِهَا لَبَنًا.

ص: 498

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْتَى أَبَدًا بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى الدَّوَاءُ فَيَطْعَمَهُ أَوْ يَشْرَبَهُ إِلَّا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَنَعَّمَنَا اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ أَلْفَتْنَا نِعْمَتُكَ بِكُلِّ شَرٍّ فَأَصْبَحْنَا مِنْهَا وَأَمْسَيْنَا بِكُلِّ خَيْرٍ فَنَسْأَلُكَ تَمَامَهَا وَشُكْرَهَا لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ إِلَهَ الصَّالِحِينَ وَرَبَّ الْعَالَمِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ تَأْكُلُ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ مَعَ غُلَامِهَا فَقَالَ مَالِكٌ لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ مَا يُعْرَفُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ مِنْ الرِّجَالِ قَالَ وَقَدْ تَأْكُلُ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا وَمَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُؤَاكِلُهُ أَوْ مَعَ أَخِيهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْلُوَ مَعَ الرَّجُلِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حُرْمَةٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1740 -

1691 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْتَى بِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ) مَاءٍ أَوْ

ص: 498

لَبَنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (حَتَّى الدَّوَاءُ فَيَطْعَمَهُ أَوْ يَشْرَبَهُ) - بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ - (إِلَّا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) ; لِأَنَّ الْحَمْدَ عَلَى النِّعَمِ يَرْتَبِطُ بِهِ الْعَبِيدُ، وَيُسْتَجْلَبُ بِهِ الْمَزِيدُ، فَلَحَظَ وَقْتَ حُضُورِ الْغَدَاءِ إِلَى أَجَلِّ النِّعَمِ، فَقَالَ:(الَّذِي هَدَانَا) ، إِذِ الْهِدَايَةُ لِلْإِيمَانِ أَعْظَمُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ، فَشُكْرُهُ عَلَيْهَا مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهَا، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالْحَامِدِ أَنْ لَا يُجَرِّدَ حَمْدَهُ إِلَى دَقَائِقِ النِّعَمِ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى جَلَائِلِهَا فَيَحْمَدُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَمْدَ مِنْ نَتَائِجِ الْهِدَايَةِ لِلْإِسْلَامِ.

(وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا) : قَدَّمَ الطَّعَامَ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، حَتَّى كَأَنَّ السَّقْيَ مِنْ تَتِمَتِّهِ، وَتَابِعٌ لَهُ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَسْتَدْعِي الشُّرْبَ.

(وَنَعَّمَنَا) بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى.

(اللَّهُ أَكْبَرُ) ، سُرُورًا بِهَذِهِ النِّعَمِ، (اللَّهُمَّ أَلْفَتْنَا) : وَجَدَتْنَا، (نِعْمَتُكَ بِكُلِّ شَرٍّ) مِنَ التَّقْصِيرِ فِي عِبَادَتِكَ وَشُكْرِكَ، (فَأَصْبَحْنَا مِنْهَا وَأَمْسَيْنَا بِكُلِّ خَيْرٍ) مِنْ فَضْلِكَ، وَلَمْ تُعَامِلْنَا بِتَقْصِيرِنَا.

(نَسْأَلُكَ تَمَامَهَا) ، لَعَلَّهُ اسْتَعْمَلَهُ بِمَعْنَى إِدَامَتِهَا، أَيِ النِّعَمِ، (وَشُكْرِهَا) فَإِنَّا لَا نَبْلُغُهُ إِلَّا بِفَضْلِكَ، إِذْ هُوَ نِعْمَةٌ تَسْتَدْعِي شُكْرًا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ.

(لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ) فَإِنَّهُ بِيَدِكَ دُونَ غَيْرِكَ.

(وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ) ، يُرْجَى لِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الشُّكْرِ.

(إِلَهَ) بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ الْأَدَاةِ، (الصَّالِحِينَ) الْمُسْلِمِينَ، (وَرَبَّ الْعَالَمِينَ) ، أَيْ مَالِكَ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالدَّوَابِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْهَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَالَمٌ يُقَالُ: عَالَمُ الْإِنْسِ، وَعَالَمُ الْجِنِّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَغَلَبَ فِي جَمْعِهِ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ أُولَى الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنَ الْعَلَامَةِ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى مُوجِدِهِ.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، جُمْلَةٌ قُصِدَ بِهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِمَضْمُونِهَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْحَمْدِ مِنَ الْخَلْقِ، وَمُسْتَحِقٌّ لِأَنْ يُحْمَدَ.

(وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)، أَتَى بِهِ إِشَارَةً إِلَى اسْتِحْبَابِ هَذَا الذِّكْرِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُعْجِبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39](سورة الْكَهْفِ: الْآيَةُ 39)، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ:" كَانَ مَالِكٌ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، قُلْتُ لَهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: أَلَا تَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ، وَتَلَا الْآيَةَ، وَجَاءَ مَرْفُوعًا: "«مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ، فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ» "، (اللَّهُمَّ بَارِكْ) : أَتِمَّ وَزِدْ (لَنَا فِيمَا رَزَقْتَنَا، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) بِعَدَمِ دُخُولِهَا.

ص: 499

(سُئِلَ مَالِكٌ، هَلْ تَأْكُلُ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا، أَوْ مَعَ غُلَامِهَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ) ، أَيْ يَجُوزُ (إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ مَا يُعْرَفُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ) بِأَنْ كَانَ ثَمَّ مَحْرَمٌ، كَمَا (قَالَ: وَقَدْ تَأْكُلُ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا، وَمَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُؤَاكِلُهُ، أَوْ مَعَ أَخِيهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَيُكْرَهُ) تَحْرِيمًا (لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْلُوَ مَعَ الرَّجُلِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حُرْمَةٌ) ، أَيْ قَرَابَةُ نَسَبٍ، أَوْ صِهْرٍ، أَوْ رَضَاعٍ.

ص: 500

[مَا جَاءَ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ]

باب مَا جَاءَ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ

1788 -

1742 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ فَإِنَّ لَهُ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

11 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ

1742 -

1692 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ) ، أَيِ اجْتَنِبُوا الْإِكْثَارَ مِنْ أَكْلِهِ، (فَإِنَّ لَهُ ضَرَاوَةً) - بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ - مَصْدَرُ ضَرِيَ كَعَلِمَ، (كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ) ، أَيْ عَادَةً يَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَشُقُّ تَرْكُهَا لِمَنْ أَلِفَهَا، فَلَا يَصْبِرُ عَنْهُ مَنِ اعْتَادَهُ.

ص: 500

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرِمْنَا إِلَى اللَّحْمِ فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1742 -

1693 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ) - بِكَسْرِ الْحَاءِ -: مَا حَمَلَهُ الْحَامِلُ، كَذَا ضَبَطَهُ السُّيُوطِيُّ، وَهُوَ فِي نُسَخٍ عَتِيقَةٍ: حَمَّالُ - بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْمِيمِ ثَقِيلَةً - أَيْ شَخْصٌ حَمَّالُ لَحْمٍ، فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ أَيْضًا.

(فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرِمْنَا) ، بِفَتْحِ الْقَافِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، فَمِيمٌ، أَيِ اشْتَدَّتْ شَهْوَتُنَا (إِلَى اللَّحْمِ) ، وَفِي

ص: 500

الْحَدِيثِ: كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْقَرْمِ بِمَعْنَى شِدَّةِ الشَّهْوَةِ إِلَى اللَّحْمِ حَتَّى لَا يَصْبِرَ عَنْهُ، يُقَالُ: قَرِمْتُ إِلَى اللَّحْمِ، وَعِمْتُ إِلَى اللَّبَنِ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ.

(فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا) - بِالْفَتْحِ، وَخِفَّةِ الْمِيمِ - (يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ، أَوِ ابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ تَذْهَبُ) : تَغِيبُ عَنْكُمْ (هَذِهِ الْآيَةُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف: 20] (بِاشْتِغَالِكُمْ بِلَذَّاتِكُمْ){فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ، أَيْ تَمَتَّعْتُمْ.

ص: 501

[مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْخَاتَمِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْخَاتَمِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَبَذَهُ وَقَالَ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا قَالَ فَنَبَذَ النَّاسُ بِخَوَاتِيمِهِمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

12 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْخَاتَمِ

1743 -

1694 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ (عَنْ) مَوْلَاهُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ» )، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَلَبِسَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» "، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ:" «أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَلْقَاهُ» "، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: مِنْ وَرِقٍ، وَهْمًا مِنَ الزُّهْرِيِّ، جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَفْظُ وَرِقٍ كَمَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَصَوَابُهُ: مِنْ ذَهَبٍ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ قَوْلَ أَنَسٍ: يَوْمًا وَاحِدًا، ظَرْفٌ لِرُؤْيَةِ أَنَسٍ لَا لِمُدَّةِ اللُّبْسِ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ظَرْفٌ لِمُدَّةِ اللُّبْسِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا وَهْمَ جُمِعَ بِأَنَّ مُدَّةَ لُبْسِ الذَّهَبِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَمُدَّةَ خَاتَمِ الْفِضَّةِ يَوْمٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ أَنَسٌ، وَلَا يُنَافِيهِ رِوَايَةُ الصَّحِيحِ:" «سُئِلَ أَنَسٌ، هَلِ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا؟ فَقَالَ: أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيضِ خَاتَمِهِ لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهِ بَقِيَّةَ يَوْمِهَا، ثُمَّ طَرَحَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ» "، أَفَادَهُ الْحَافِظُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَنَبَذَهُ) ، أَيْ طَرَحَهُ، (وَقَالَ: لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا) ، لِتَحْرِيمِ

ص: 501

لُبْسِ الذَّهَبِ حِينَئِذٍ عَلَى الرِّجَالِ، أَوْ لِكَرَاهَةِ مُشَارَكَتِهِمْ لَهُ أَوْ لِمَا رَأَى مِنْ زَهْوِهِمْ بِلُبْسِهِ.

(قَالَ: فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِمَهُمْ) ، تَبَعًا لَهُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ، فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ فَرَمَى بِهِ، وَقَالَ: لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِمَ الْفِضَّةِ» ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: " فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ.

وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ بِأَتَمَّ مِنْهُ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ.

ص: 502

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ لُبْسِ الْخَاتَمِ فَقَالَ الْبَسْهُ وَأَخْبِرْ النَّاسَ أَنِّي أَفْتَيْتُكَ بِذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1744 -

1695 - (مَالِكٌ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ) الْجَزَرِيِّ، نَزِيلِ مَكَّةَ ثِقَةٌ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ (أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ لُبْسِ الْخَاتَمِ) ، أَيْ خَاتَمِ الْفِضَّةِ، فَإِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ كَرِهَ لُبْسَهُ مُطْلَقًا، وَلَوْ لِذِي سُلْطَانٍ، (فَقَالَ: الْبَسْهُ، وَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنِّي أَفْتَيْتُكَ بِلُبْسِهِ) ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَيْحَانَةَ:" «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْخَاتَمِ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، فَضَعَّفَهُ مَالِكٌ لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ، وَكَذَا ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ.

ص: 502

[مَا جَاءَ فِي نَزْعِ الْمَعَالِيقِ وَالْجَرَسِ مِنْ الْعَيْنِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي نَزْعِ الْمَعَالِيقِ وَالْجَرَسِ مِنْ الْعَيْنِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ «أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ وَالنَّاسُ فِي مَقِيلِهِمْ لَا تَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ»

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِك يَقُولُ أَرَى ذَلِكَ مِنْ الْعَيْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

13 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي نَزْعِ الْمَعَالِيقِ، وَالْجَرَسِ مِنَ الْعُنُقِ

الْجَرَسُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ، ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، مَعْرُوفٌ وَحَكَى عِيَاضٌ إِسْكَانَ الرَّاءِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ بِفَتْحِهَا: اسْمُ الْآلَةِ، وَبِسُكُونِهَا: اسْمُ الصَّوْتِ.

1745 -

1696 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ التَّابِعِيِّ (عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ) الْمَازِنِيِّ التَّابِعِيِّ، وَقِيلَ: لَهُ رُؤْيَةٌ (أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ (الْأَنْصَارِيَّ) ، زَادَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ: السَّاعِدِيَّ، عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، فَمَنْ قَالَ

ص: 502

الْمَازِنِيُّ فِيهِ نَظَرٌ، شَهِدَ الْخَنْدَقَ.

وَذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِيمَنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ اسْمَهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ الْحُرَيْرِ بِمُهْمَلَاتٍ مُصَغَّرٌ ابْنُ عُمَرَ، وَعَاشَ إِلَى بَعْدَ السِّتِّينَ، وَشَهِدَ الْحَرَّةَ، وَجُرِحَ بِهَا، وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، يُقَالُ: جَازَ الْمِائَةَ.

(أَخْبَرَهُ) ، أَيَ عَبَّادٌ (أَنَّهُ) ، أَيْ أَبَا بَشِيرٍ (كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ)، قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمَا، (قَالَ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا) فِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ مَالِكٍ: " فَأَرْسَلَ زَيْدًا مَوْلَاهُ "، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِيمَا ظَهَرَ لِي، (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) شَيْخُ الْإِمَامِ:(حَسِبْتُ أَنَّهُ) ، أَيْ عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ، (قَالَ وَالنَّاسُ فِي مَقِيلِهِمْ) قَالَ الْحَافِظُ: كَأَنَّهُ شَكَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَمْ أَرَهَا مِنْ طَرِيقِهِ إِلَّا هَكَذَا، (لَا تَبْقَيَنَّ) بِفَوْقِيَّةٍ وَقَافٍ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ آخِرُهُ، نُونُ تَوْكِيدٍ، (فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ) ، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: رُبَّمَا صَحَّفَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ وَبَرٌ بِمُوَحَّدَةِ، يَعْنِي كَالدَّاوُدِيِّ فَإِنَّهُ جَزَمَ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَقَالَ: هُوَ مَا يُنْزَعُ عَنِ الْجِمَالِ يُشْبِهُ الصُّوفَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَصُحِّفَ، (أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ)، قَالَ الْحَافِظُ: أَوْ لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ.

وَفِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: وَلَا قِلَادَةٌ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْمُهَلَّبُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، أَيِ الشَّكَّ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقِلَادَةِ، فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ بِكَرَاهَتِهَا إِلَّا فِي الْوَتَرِ، (قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ مِنَ الْعَيْنِ) ، أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَلِّدُونَ الْإِبِلَ أَوْتَارًا لِئَلَّا تُصِيبَهَا الْعَيْنُ بِزَعْمِهِمْ، فَأُمِرُوا بِقَطْعِهَا إِعْلَامًا بِأَنَّ الْأَوْتَارَ لَا تَرُدُّ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا.

وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: " «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتَّمِيمَةُ: مَا عُلِّقَ مِنَ الْقَلَائِدِ خَشْيَةَ الْعَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِذَا اعْتَقَدَ الَّذِي قَلَّدَهَا أَنَّهَا تَرُدُّ الْعَيْنَ، فَقَدْ ظَنَّ أَنَّهَا تَرُدُّ الْقَدَرَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ.

وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا تَخْتَنِقَ الدَّابَّةُ بِهَا عِنْدَ الرَّكْضِ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَكَلَامُ أَبِي عُبَيْدٍ يُرَجِّحُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّوَابَّ تَتَأَذَّى بِهِ، وَتُضَيِّقُ عَلَيْهَا نَفَسَهَا وَرَعْيَهَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ بِشَجَرَةٍ فَاخْتَنَقَتْ أَوْ تَعَوَّقَتْ عَنِ السَّيْرِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَتَرِ: الْجَرَسُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَ الْأَجْرَاسَ فِيهَا، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْجَمَةُ الْإِمَامِ بِالْجَرَسِ، وَكَذَا رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ بِلَفْظِ:" «لَا تَبْقَيَنَّ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ وَلَا جَرَسٌ فِي عُنُقِ بَعِيرٍ إِلَّا قُطِعَ» "، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَبَانَ أَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا

ص: 503

فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا:" «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ» "، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ، فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِتَعْلِيقِ الْجَرَسِ فِي رِقَابِ الْخَيْلِ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجَيْشَانِيِّ رَفَعَهُ:" «ارْكَبُوا الْخَيْلَ، وَقَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ» "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لِلْإِبِلِ، وَحَمَلَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْأَوْتَارَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى النَّارِ كَالْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَعِيفٌ، وَإِلَى قَوْلِ النَّضْرِ جَنَحَ وَكِيعٌ فَقَالَ: الْمَعْنَى لَا تَرْكَبُوا الْخَيْلَ فِي الْفِتَنِ، فَإِنَّ مَنْ رَكِبَهَا لَمْ يَسْلَمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وَتَرٌ يُطْلَبُ بِهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ الْجُمْهُورُ: أَنَّ النَّهْيَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ: لِلتَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: يُمْنَعُ مِنْهُ بِلَا حَاجَةٍ وَيَجُوزُ لَهَا.

وَعَنْ مَالِكٍ: تَخْصِيصُ كَرَاهَةِ الْقَلَائِدِ بِالْوَتَرِ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِهَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ دَفْعَ الْعَيْنِ هَذَا كُلُّهُ فِي تَعْلِيقِ تَمَائِمَ وَغَيْرِهَا لَا قُرْآنَ فِيهَا وَنَحْوَهُ.

فَأَمَّا مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَلَا يُنْهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُجْعَلُ لِلْبَرَكَةِ بِهِ، وَالتَّعَوُّذِ بِأَسْمَائِهِ وَذِكْرِهِ، انْتَهَى.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي اللِّبَاسِ عَنْ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 504

[باب العين والمرض]

[الْوُضُوءِ مِنْ الْعَيْنِ]

كِتَابُ الْعَيْنِ

بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ الْعَيْنِ

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ «اغْتَسَلَ أَبِي سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ بِالْخَرَّارِ فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ قَالَ وَكَانَ سَهْلٌ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ قَالَ فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ عَذْرَاءَ قَالَ فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عَامِرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَلَّا بَرَّكْتَ إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ تَوَضَّأْ لَهُ فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

كِتَابُ الْعَيْنِ

1 -

بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الْعَيْنِ

1746 -

1697 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ - مُصَغَّرٌ الْأَنْصَارِيِّ الثِّقَةِ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ) أَبَا أُمَامَةَ، وَاسْمُهُ أَسْعَدُ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاسْمِ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ، وَكَنَّاهُ بِكُنْيَتِهِ لَمَّا وُلِدَ قَبْلَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بِسَنَتَيْنِ، وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ (يَقُولُ: اغْتَسَلَ أَبِي) سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْبَدْرِيُّ وَظَاهِرُهُ الْإِرْسَالُ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ أَبِيهِ، فَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ اغْتَسَلَ (بِالْخَرَّارِ) - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ الْأُولَى الشَّدِيدَةِ - مَوْضِعٌ قُرْبَ الْجُحْفَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: مِنْ أَوْدِيَتِهَا، انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِشِعْبِ الْخَرَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ، (فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْعَنْزِيُّ - بِسُكُونِ النُّونِ - حَلِيفُ الْخَطَّابِ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ، وَشَهِدَ بَدْرًا، مَاتَ لَيَالِيَ قَتْلِ عُثْمَانَ (يَنْظُرُ) إِلَيْهِ، (قَالَ) أَبُو أُمَامَةَ:(وَكَانَ سَهْلٌ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ) مَلِيحَ (الْجِلْدِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ عَذْرَاءَ)، أَيْ بِكْرٌ (قَالَ: فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ) قَوِيَ (وَعْكُهُ) ، أَيْ أَلَمُهُ.

وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِي: فَلُبِطَ، أَيْ صُرِعَ فَكَأَنَّهُ صُرِعَ مِنْ شِدَّةِ الْوَعْكِ.

(فَأُتِيَ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ - (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُخْبِرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) لِعَدَمِ

ص: 505

اسْتِطَاعَتِهِ بِشِدَّةِ الْوَعْكِ.

(فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) ، أَيْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْلِهِ مَا ذُكِرَ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، وَفِي رِوَايَةٍ: فَدَعَا عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، فَقَالَ (عَلَامَ) بِمَعْنَى لِمَ، وَفِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، (يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ) فِي الدِّينِ، زَادَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ قَتْلِهِ.

(أَلَّا) بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى هَلَّا، وَبِهَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ (بَرَّكْتَ)، أَيْ قُلْتَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْمَعْنَى الَّذِي يُخَافُ مِنَ الْعَيْنِ، وَيُذْهِبُ تَأْثِيرَهُ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَقُولُ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ أَنْ يُبَارِكَ، فَإِذَا دَعَا بِالْبَرَكَةِ صُرِفَ الْمَحْذُورُ لَا مَحَالَةَ، انْتَهَى.

وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: " «كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَافَ أَنْ يُصِيبَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَلَا تَضُرَّهُ» "، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ:" «مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ» "، ( «إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ» ) ، أَيِ الْإِصَابَةُ بِهَا شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْوُجُودِ مُقْضًى بِهِ فِي الْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ لَا شُبْهَةَ فِي تَأْثِيرِهِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْأُمَّةِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنْكَرَهُ قَوْمٌ مُبْتَدِعَةٌ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ، فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ أَدْخَلَتْهُ الْعَيْنُ الْقَبْرَ، وَكَمْ مِنْ جَمَلٍ أَدْخَلَتْهُ الْقِدْرَ لَكِنْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مُعْرِضٍ عَنِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ يَتَمَسَّكُ بِاسْتِبْعَادٍ لَا أَصْلَ لَهُ، فَإِنَّا نُشَاهِدُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَحْجَارِ، وَتَأْثِيرِ السِّحْرِ مَا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ، وَيُحَقِّقُ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ بِسَبَبِ كُلِّ سَبَبٍ، انْتَهَى.

(تَوَضَّأَ لَهُ) الْوُضُوءُ الْمَذْكُورُ فِي الطَّرِيقِ التَّالِيَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاغْتَسَلَ، لَيْسَ عَلَى صِفَةِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ، وَغَيْرِهِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي لِلْوُجُوبِ، وَيَبْعُدُ الْخِلَافُ فِيهِ إِذَا خَشِيَ عَلَى الْمَعِينِ الْهَلَاكَ، وَكَانَ وُضُوءُ الْعَائِنِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْبُرْءِ بِهِ، أَوْ كَانَ الشَّرْعُ أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا عَامًّا، وَلَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْهَلَاكِ إِلَّا بِوُضُوءِ الْعَائِنِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ نَفْسٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى الْهَلَاكِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ، فَهَذَا أَوْلَى، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ.

(فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ) عَلَى الصِّفَةِ الْآتِيَةِ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَهُ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى سَهْلٍ، (فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ) ، أَيْ شِدَّةٌ لِزَوَالِ وَعْكِهِ الَّذِي صَرَعَهُ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ النَّظَرِ إِلَى الْمُغْتَسِلِ مَا لَمْ تَكُنْ عَوْرَةٌ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ لِعَامِرٍ: لِمَ نَظَرْتَ إِلَيْهِ، إِنَّمَا لَامَهُ عَلَى تَرْكِ التَّبْرِيكِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ يَسْتَحِبُّ الْعُلَمَاءُ أَنْ لَا يَنْظُرَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْمُغْتَسِلِ خَوْفَ أَنْ

ص: 506

يَرَى عَوْرَتَهُ، وَإِنَّ مِنَ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ الْإِعْجَابَ بِالشَّيْءِ الْحَسَنِ، وَالْحَسَدَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلِذَا لَمْ يُعَاتَبْ عَامِرٌ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى تَرْكِ التَّبْرِيكِ الَّذِي فِي وُسْعِهِ، وَأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَقْتُلُ، وَتَوْبِيخُ مَنْ كَانَ مِنْهُ أَوْ بِسَبَبِهِ سُوءٌ، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ تَحْتَ الْقَدَرِ السَّابِقِ بِذَلِكَ كَالْقَاتِلِ يَقْتُلُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ يَمُوتُ بِأَجْلِهِ، وَأَنَّ الْعَيْنَ إِنَّمَا تَعْدُو إِذَا لَمْ يَبِرِّكْ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ أَنْ يُبَارِكَ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ أَتْلَفَ الْعَائِنُ شَيْئًا ضَمِنَهُ، وَلَوْ قَتَلَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ إِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالسَّاحِرِ الْقَاتِلِ بِسِحْرِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَقْتُلُهُ كُفْرًا، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَيُقْتَلُ، قَتَلَ بِسِحْرِهِ أَمْ لَا ; لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يُقْتَلُ الْعَائِنُ، وَلَا دِيَةَ، وَلَا كَفَّارَةَ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُنْضَبَطٍ عَامٍّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَبَعْضِ الْأَحْوَالِ مِمَّا لَا انْضِبَاطَ لَهُ، كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ وَتَمَنٍّ لِزَوَالِ النِّعْمَةِ، وَأَيْضًا فَالَّذِي يَنْشَأُ عَنِ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ حُصُولُ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ الشَّخْصِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ فِي إِزَالَةِ الْحَيَاةِ، فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَكْرُوهٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْعَيْنِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحُكْمُ بِقَتْلِ السَّاحِرِ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَسِرٌ.

وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُ الْعَائِنِ إِذَا عُرِفَ بِذَلِكَ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَيَأْمُرُهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَكْفِيهِ وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ آكِلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ الَّذِي مَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَهُ عُمَرُ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُ الِاخْتِلَاطَ بِالنَّاسِ، وَمِنْ ضَرَرِ الْمُؤْذِيَاتِ مِنَ الْمَوَاشِي الَّذِي يُؤْمَرُ بِإِبْعَادِهَا إِلَى حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهَا أَحَدٌ.

قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ.

ص: 507

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ قَالَ «رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَغْتَسِلُ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخْبَأَةٍ فَلُبِطَ سَهْلٌ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَقَالَ هَلْ تَتَّهِمُونَ لَهُ أَحَدًا قَالُوا نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ قَالَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَلَّا بَرَّكْتَ اغْتَسِلْ لَهُ فَغَسَلَ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1747 -

1698 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ) ، ظَاهِرُهُ الْإِرْسَالُ لَكِنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ وَالِدِهِ، فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ شَبَابَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَامِرًا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ (يَغْتَسِلُ) ، وَلِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ، وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوًا مَا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَرَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَانَ أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، (فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ) » - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، وَمُوَحَّدَةٍ، وَالْهَمْزِ - وَهِيَ

ص: 507

الْمُخَدَّرَةُ الْمَكْنُونَةُ الَّتِي لَا تَرَاهَا الْعُيُونُ، وَلَا تَبْرُزُ لِلشَّمْسِ فَتُغَيِّرُهَا، يَعْنِي أَنَّ جِلْدَ سَهْلٍ كَجِلْدِ الْمُخَبَّأَةِ إِعْجَابًا بِحُسْنِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ:

ذَكَّرَتْنِي الْمُخَبَّآتُ لَدَى الْحِجْ

رِ يُنَازِعْنَنِي سُجُوفَ الْحِجَالِ

وَمَرَّ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَبِي أُمَامَةَ: وَلَا جِلْدَ عَذْرَاءَ بَدَلَ مُخَبَّأَةٍ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، فَقَالَ: عَذْرَاءُ مُخَبَّأَةٌ فَاقْتَصَرَ كُلُّ رَاءٍ عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنْهُ، أَوْ إِحْدَاهُمَا بِالْمَعْنَى، لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّ مُخَبَّأَةً أَخَصُّ.

(فَلُبِطَ) - بِضَمِّ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ - أَيْ صُرِعَ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ (بِسَهْلٍ) ، يُقَالُ مِنْهُ لُبِطَ بِهِ يَلْبِطُ لَبَطًا.

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: لُبِطَ: وُعِكَ وَكَأَنَّهُ فَسَرَّهُ بِالرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا لِاتِّحَادِ الْقِصَّةِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لِجَوَازِ أَنَّ سُقُوطَهُ مِنْ شِدَّةِ وَعْكِهِ، كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَهَذَا أَوْلَى إِبْقَاءُ لِلَّفْظَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا.

زَادَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَتَّى مَا يَعْقِلَ لِشِدَّةِ الْوَجَعِ، ( «فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ» ) مِنْ شِدَّةِ الْوَعْكِ وَالصَّرَعِ، (فَقَالَ: هَلْ تَتَّهِمُونَ لَهُ أَحَدًا؟) عَانَهُ، (قَالُوا: نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ) ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ ذَهَبَ صلى الله عليه وسلم إِلَى سَهْلٍ لِتَثَبُّتِ الْخَبَرِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ:" فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ "، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الطَّرِيقِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَتَّهِمُونَ. . . إِلَخْ، فَفِي كُلٍّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ اخْتِصَارٌ.

(قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَامَ) ، أَيْ لِمَ (يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ) ، أَيْ يَكُونُ سَبَبًا فِي قَتْلِهِ بِالْعَيْنِ (أَلَّا)، وَفِي رِوَايَةٍ: هَلَّا (بَرَّكْتَ) ، أَيْ دَعَوْتَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ.

، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ:" «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ، فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ» "، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ السُّنِّيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ (اغْتَسِلْ لَهُ) وُجُوبًا ; لِأَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَتُهُ الْوُجُوبُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَخَاهُ مَا يَنْفَعُهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بِسَبَبِهِ، وَكَانَ هُوَ الْجَانِيَ عَلَيْهِ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْعَائِنِ الْغُسْلُ عَنْهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

(فَغَسَلَ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ)، وَفِي رِوَايَةٍ: بَدَلَ هَذَا، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، (وَمَرْفِقَيْهِ)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَغَسَلَ صَدْرَهُ، (وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ) ، هِيَ الْحَقْوُ تُجْعَلُ مِنْ تَحْتِ الْإِزَارِ فِي طَرَفِهِ، ثُمَّ يُشَدُّ عَلَيْهِ الْإِزْرَةُ، قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ: هِيَ الطَّرَفُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يَضَعُهُ الْمُؤْتَزِرُ أَوَّلًا عَلَى حَقْوِهِ الْأَيْمَنِ.

وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ الْجَانِبُ الْأَيْسَرُ مِنَ الْإِزَارِ الَّذِي تَعْطِفُهُ إِلَى يَمِينِكَ، ثُمَّ يُشَدُّ الْإِزَارُ قَالَهُ ابْنُ

ص: 508

عَبْدِ الْبَرِّ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرْجِ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ الطَّرَفُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يَلِي حَقْوَهُ الْأَيْمَنَ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِدَاخِلَةِ الْإِزَارِ مَا يَلِي الْجَسَدَ مِنَ الْمِئْزَرِ، وَقِيلَ: مَوْضِعُهُ مِنَ الْجَسَدِ، وَقِيلَ: مَذَاكِيرُهُ، كَمَا يُقَالُ: عَفِيفُ الْإِزَارِ، أَيِ الْفَرْجِ، وَقِيلَ: وِرْكُهُ إِذْ هُوَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ.

(قَدَحٍ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ، قَالَ: وَحَسِبْتُهُ قَالَ، وَأَمَرَ فَحَسَا مِنْهُ حَسَوَاتٍ، (ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ) لِزَوَالِ عِلَّتِهِ.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: هَذَا مِنَ الْعِلْمِ يَغْتَسِلُ الْعَائِنُ فِي قَدَحٍ مِنْ مَاءٍ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ، فَيُمَضْمِضُ وَيَمُجُّهُ فِي الْقَدَحِ، وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ فِيهِ، ثُمَّ يَصُبُّ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى كَفِّهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ بِالْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى، فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى مِرْفَقِ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى مِرْفَقِ يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ الْيُمْنَى فَيَغْسِلُ قَدَمَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى، فَيَغْسِلُ الرُّكْبَتَيْنِ، ثُمَّ يَأْخُذُ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَيَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ صَبَّةً وَاحِدَةً، وَيَضَعُ الْقَدَحَ حَتَّى يَفْرَغَ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ رَاوِي الْحَدِيثِ.

وَزَادَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي قَوْلِ الزُّهْرِيِّ هَذَا: يَصُبُّ مِنْ خَلْفِهِ صَبَّةً وَاحِدَةً يَجْرِي عَلَى جَسَدِهِ، وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ، وَيَغْسِلُ أَطْرَافَهُ الْمَذْكُورَةَ كُلَّهَا، وَدَاخِلَةُ الْإِزَارِ فِي الْقَدَحِ، قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ.

زَادَ فِي الْإِكْمَالِ: أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْعُلَمَاءَ يَصِفُونَهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ عُلَمَاؤُنَا وَمَضَى بِهِ الْعَمَلُ.

قَالَ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ رِوَايَةِ عَقِيلٍ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّ فِيهِ الِابْتِدَاءَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ، وَفِيهِ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ، أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ جَمِيعَهُمَا، وَإِنَّمَا قَالَ: ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ قَدَمِهِ الْيُمْنَى مِنْ عِنْدِ أُصُولِ أَصَابِعِهِ وَالْيُسْرَى كَذَلِكَ اه.

وَهُوَ أَقْرَبُ لِقَوْلِ الْحَدِيثِ: وَأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ، وَهَذَا الْغَسْلُ يَنْفَعُ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ النَّظْرَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْإِصَابَةِ بِهِ، وَقَبْلَ الِاسْتِحْكَامِ، فَقَدْ أَرْشَدَ الشَّارِعُ إِلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ: أَلَّا بَرَّكْتَ؟ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ، وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْعَقْلِ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِ جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَا يُرَدُّ لِكَوْنِهِ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ مُتَشَرِّعٌ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ عَضَّدَتْهُ التَّجْرِبَةُ، وَصَدَّقَتْهُ الْمُعَايَنَةُ، أَوْ مُتَفَلْسِفٌ فَالرَّدُّ عَلَيْهِ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ تَفْعَلُ بِقُوَاهَا بِمَعْنًى لَا يُدْرَكُ، وَيُسَمُّونَ مَا هَذَا سَبِيلُهُ الْخَوَاصَّ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا مَنْ أَنْكَرَهَا، وَلَا مَنْ سَخِرَ مِنْهَا، وَلَا مَنْ شَكَّ فِيهَا، أَوْ فَعَلَهَا مُجَرِّبًا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ وَإِذَا كَانَ فِي الطَّبِيعَةِ خَوَاصٌّ لَا تَعْرِفُ الْأَطِبَّاءُ عِلَلَهَا، بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ خَارِجَةٌ عَنِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا تُفْعَلُ بِالْخَاصِّيَّةِ، فَمَا الَّذِي يُنْكِرُهُ جَهَلَتُهُمْ مِنَ الْخَوَاصِّ الشَّرْعِيَّةِ؟ هَذَا مَعَ أَنَّ الْمُعَالَجَةَ بِالِاغْتِسَالِ مُنَاسَبَةٌ لَا تَلْقَاهَا الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ، فَهَذَا تِرْيَاقُ سُمِّ الْحَيَّةِ، يُؤْخَذُ مِنْ لَحْمِهَا، وَهَذَا عِلَاجُ النَّفْسِ الْغَضَبِيَّةِ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى بَدَنِ الْغَضْبَانِ، فَيَسْكُنُ فَكَانَ أَثَرُ تِلْكَ

ص: 509

الْعَيْنِ كَشُعْلَةِ نَارٍ وَقَعَتْ عَلَى جَسَدٍ، فَفِي الِاغْتِسَالِ إِطْفَاءٌ لِتِلْكَ الشُّعْلَةِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الْخَبِيثَةُ تَظْهَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الرَّقِيقَةِ مِنَ الْجَسَدِ لِشَدَّةِ الْمَنْفُوذِ فِيهَا، وَلَا شَيْءَ أَرَقُّ مِنَ الْمُعَايِنِ، فَكَانَ فِي غَسْلِهَا إِبْطَالٌ لِعَمَلِهَا، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ لِلْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ اخْتِصَاصًا، وَفِيهِ أَيْضًا وُصُولُ أَثَرِ الْغَسْلِ إِلَى الْقَلْبِ مِنْ أَرَقِّ الْمَوَاضِعِ وَأَسْرَعِهَا نَفَاذًا، فَتُطْفِئُ تِلْكَ النَّارَ الَّتِي أَثَارَتْهَا الْعَيْنُ بِهَذَا الْمَاءِ اه.

وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْعَائِنَ إِذَا عُرِفَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالِاغْتِسَالِ، وَأَنَّهُ مِنَ النُّشْرَةِ النَّافِعَةِ، وَأَنَّ الْعَيْنَ تَكُونُ مَعَ الْإِعْجَابِ بِغَيْرِ حَسَدٍ، وَلَوْ مِنَ الرَّجُلِ الْمُحِبِّ، وَمِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الَّذِي يُعْجِبُهُ الشَّيُ يُبَادِرُ إِلَى الدُّعَاءِ لِمَنْ أَعْجَبَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ رُقْيَةً مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ، وَأَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ قَدْ تَقْتُلُ، وَفِي الْقِصَاصِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

ص: 510

[الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ]

بَابُ الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ «دُخِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِحَاضِنَتِهِمَا مَا لِي أَرَاهُمَا ضَارِعَيْنِ فَقَالَتْ حَاضِنَتُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ تَسْرَعُ إِلَيْهِمَا الْعَيْنُ وَلَمْ يَمْنَعْنَا أَنْ نَسْتَرْقِيَ لَهُمَا إِلَّا أَنَّا لَا نَدْرِي مَا يُوَافِقُكَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَرْقُوا لَهُمَا فَإِنَّهُ لَوْ سَبَقَ شَيْءٌ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ

1748 -

1699 - (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ) الْقَارِئِ الْأَعْرَجِ: (أَنَّهُ قَالَ) مُعْضِلًا.

وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ بِهِ مُرْسَلًا، وَجَاءَ مَوْصُولًا مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، (دُخِلَ) - بِضَمِّ الدَّالِ - (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) الْهَاشِمِيِّ الْأَمِيرِ الْمُسْتَشْهَدِ بِمُؤْتَةَ، أَسَنُّ مِنْ شَقِيقِهِ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ، (فَقَالَ لِحَاضِنَتِهِمَا) ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُمُّهُمَا أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَهَا، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، (مَالِي أَرَاهُمَا ضَارِعَيْنِ) - بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ - أَيْ نَحِيلَيِ الْجِسْمِ، ( «فَقَالَتْ حَاضِنَتُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمَا الْعَيْنُ، وَلَمْ يَمْنَعْنَا أَنْ نَسْتَرْقِيَ لَهُمَا إِلَّا أَنَّا لَا نَدْرِي مَا يُوَافِقُكَ مِنْ ذَلِكَ» ) ، وَرَوَى قَاسِمُ بْنُ أَصْبُغَ عَنْ جَابِرٍ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: مَا شَأْنُ أَجْسَامِ بَنِي أَخِي ضَارِعَةٌ أَتُصِيبُهُمْ حَاجَةٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ أَفَنَرْقِيهِمْ؟ قَالَ: وَبِمَ ذَا؟ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ارْقِيهِمْ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 510

اسْتَرْقُوا) » - بِسُكُونِ الْقَافِ - مِنَ الرُّقْيَةِ، وَهِيَ الْعُوذَةُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - مَا يُرْقَى بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ: أَيِ اطْلُبُوا (لَهُمَا) مَنْ يَرْقِيهِمَا، (فَإِنَّهُ لَوْ سَبَقَ شَيْءٌ الْقَدَرَ) - بِفَتْحَتَيْنِ - أَيْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ لِشَيْءٍ قُوَّةً بِحَيْثُ يَسْبِقُ الْقَدَرَ، (لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) ، لَكِنَّهَا لَا تَسْبِقُ الْقَدَرَ فَكَيْفَ غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَلَوْ مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ إِصَابَةِ الْعَيْنِ جَرَى مَجْرَى التَّمْثِيلِ، إِذْ لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ سَابِقِ عَلَمِ اللَّهِ، وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ، وَلَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: لَأَطْلُبَنَّكَ وَلَوْ تَحْتَ الثَّرَى، وَلَوْ صَعِدْتَ السَّمَاءَ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ إِصَابَةَ الْعَيْنِ لَهَا تَأْثِيرٌ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُعَاجِلَ الْقَدَرَ شَيْءٌ، فَيُؤَثِّرَ فِي إِفْنَاءِ شَيْءٍ وَزَوَالِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، انْتَهَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَّتِي بَعْدَ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ بِالْأَنْفُسِ» "، قَالَ الرَّاوِي يَعْنِي بِالْعَيْنِ.

وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَصِحَّةُ أَمْرِ الْعَيْنِ، وَأَنَّهَا قَوِيَّةُ الضَّرَرِ، وَالْأَمْرُ بِالرُّقَى وَأَنَّهَا نَافِعَةٌ، وَلَا يُعَارِضُهُ النَّهْيُ عَنْهَا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ كَخَبَرِ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ ; لِأَنَّ الرُّقْيَةَ الْمَأْذُونَ فِيهَا مَا كَانَتْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، أَوْ بِمَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَيَجُوزُ شَرْعًا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا، بَلْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا مَا فُقِدَ فِيهَا شَرْعًا مِنْ ذَلِكَ.

ص: 511

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ صَبِيٌّ يَبْكِي فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ بِهِ الْعَيْنَ قَالَ عُرْوَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا تَسْتَرْقُونَ لَهُ مِنْ الْعَيْنِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1749 -

1700 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ، (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ الْمَدَنِيِّ)، وَفِيهِ رِوَايَةُ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ:(أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ) مُرْسَلًا، قَالَ أَبُو عُمَرَ عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَهُوَ صَحِيحٌ يُسْتَنَدُ مَعْنَاهُ مِنْ طُرُقٍ ثَابِتَةٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ:« (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ صَبِيٌّ) - لَمْ يُسَمَّ - (يَبْكِي فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ بِهِ الْعَيْنَ، قَالَ عُرْوَةُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تَسْتَرْقُونَ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ؟) » وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ، فَقَالَ: اسْتَرَقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا لَنَظْرَةً» ، " بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَضُمُّ، وَعَيْنٍ مُهْمِلَةٍ سَوَادٌ أَوْ حُمْرَةٌ يَعْلُوهَا سَوَادٌ أَوْ

ص: 511

صُفْرَةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّ السَّفْعَةَ أَدْرَكَتْهَا مِنْ جِهَةِ النَّظْرَةِ، وَبَادِئَ الرَّأْيِ أَنَّهَا قِصَّةٌ غَيْرُ مَا فِي الْمُوَطَّأِ، وَيُحْتَمَلُ اتِّحَادُهُمَا، وَهُوَ الْأَصْلُ لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ، وَالصَّبِيُّ يُطْلَقُ عَلَى الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، وَالْبُكَا عَنْ تَأَلُّمِهَا بِالسَّفْعَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْعَيْنِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِأَنَّ بِهِ الْعَيْنَ قَالَ: فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ تَصْدِيقًا لَهُمْ وَتَعْلِيلًا لِأَمْرِهِ بِالرُّقْيَةِ فَلَا خُلْفَ.

ص: 512

[مَا جَاءَ فِي أَجْرِ الْمَرِيضِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي أَجْرِ الْمَرِيضِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَقَالَ انْظُرَا مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ فَإِنْ هُوَ إِذَا جَاءُوهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ رَفَعَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ لِعَبْدِي عَلَيَّ إِنْ تَوَفَّيْتُهُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ أَنَا شَفَيْتُهُ أَنْ أُبْدِلَ لَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي أَجْرِ الْمَرِيضِ

1750 -

1701 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) ، وَصَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ الْمَكِّيِّ، قَالَ: وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ) الْمُسْلِمُ، أَيْ عَرَضَ لِبَدَنِهِ مَا أَخْرَجَهُ عَنْ الِاعْتِدَالِ الْخَاصِّ بِهِ، فَأَوْجَبَ الْخَلَلَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، (بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ، فَقَالَ: انْظُرُوا مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ) ، جَمْعُ عَائِدٍ (فَإِنْ هُوَ إِذَا جَاءُوهُ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ رَفَعَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَهُوَ أَعْلَمُ) بِذَلِكَ مِنْهُمَا، وَمِنْ غَيْرِهِمَا فَإِنَّمَا الصَّدُّ: الْحَثُّ عَلَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالْإِخْبَارُ بِجَزَاءِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ.

(فَيَقُولُ) اللَّهُ: (لِعَبْدِي عَلَيَّ إِنْ تَوَفَّيْتُهُ) أَمَتُّهُ، (أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) بِلَا عَذَابٍ، أَوْ مَعَ السَّابِقِينَ، (وَإِنْ أَنَا أَشَفَيْتُهُ) عَافَيْتُهُ مِنْ مَرَضِهِ، (أَنْ أُبْدِلَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ، وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ، وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) الصَّغَائِرَ كُلَّهَا، وَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ مِنْ شَرْطِ الصَّبْرِ، إِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الثَّوَابِ الْمَخْصُوصِ، فَلَا يُنَافِي خَبَرَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ:" «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» "، الْمُقْتَضَى تَرَتُّبُ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ عَلَى الْمَرَضِ سَوَاءٌ انْضَمَّ لَهُ صَبْرٌ أَمْ لَا.

وَاشْتِرَاطُ الْقُرْطُبِيِّ الصَّبْرَ مُنِعَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَاحْتِجَاجُهُ بِوُقُوعِ التَّقْيِيدِ بِالصَّبْرِ فِي أَخْبَارٍ لَا تَنْهَضُ ; لِأَنَّ مَا صَحَّ مِنْهَا مُقَيَّدٌ بِثَوَابٍ مَخْصُوصٍ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الصَّبْرُ لِحُصُولِهِ، وَلَنْ نَجِدَ حَدِيثًا صَحِيحًا تَرَتَّبَ فِيهِ مُطْلَقٌ

ص: 512

التَّكْفِيرِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَرَضِ مَعَ اعْتِبَارِ الصَّبْرِ، وَقَدِ اعْتُبِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّرَ لِي مَا ذَكَرْتُهُ، قَالَ الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: وَيَأْتِي لَهُ مَزِيدٌ فِي تَالِيهِ.

ص: 513

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ مُصِيبَةٍ حَتَّى الشَّوْكَةُ إِلَّا قُصَّ بِهَا أَوْ كُفِّرَ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» لَا يَدْرِي يَزِيدُ أَيُّهُمَا قَالَ عُرْوَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1751 -

1702 - (مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ) - بِتَحْتِيَّةٍ فَزَايٍ - (ابْنِ خُصَيْفَةَ) - بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ - مُصَغَّرٌ، نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ، وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُصَيْفَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ، (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ مُصِيبَةٍ) أَصْلُهَا الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: " أَصَابَ " يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ تَعَالَى:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} [التوبة: 50](سورة التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 50) ، الْآيَةَ.

وَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْخَيْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصَّوْبِ، وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَفِي الشَّرِّ مَأْخُوذَةٌ مِنْ إِصَابَةِ السَّهْمِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُصِيبَةُ لُغَةً: مَا يَنْزِلُ بِالْإِنْسَانِ مُطْلَقًا، وَعُرْفًا: مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ خَاصَّةً، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَيُونُسَ جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ: " مَا مِنْ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ "، وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ:" مَا مِنْ وَجَعٍ أَوْ مَرَضٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ "، (حَتَّى الشَّوْكَةُ) الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِ " شَاكَهُ " بِدَلِيلِ جَعْلِهَا غَايَةً لِلْمَعَانِي، وَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ: يُشَاكُهَا، وَلَوْ أَرَادَ الْوَاحِدَةَ مِنَ النَّبَاتِ، لَقَالَ: يُشَاكُ بِهَا، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ.

وَقَالَ الْحَافِظُ: جَوَّزُوا فِيهِ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَ، فَالْجَرُّ بِمَعْنَى الْغَايَةِ، أَيْ يَنْتَهِي إِلَى الشَّوْكَةِ، أَوْ عَطْفًا عَنْ لَفْظِ " مُصِيبَةٍ "، وَالنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ، أَيْ حَتَّى وِجْدَانِهِ الشَّوْكَةَ، وَالرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي " يُصِيبُ ".

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَيَّدَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَحَلِّ (إِلَّا قُصَّ) بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ أُخِذَ (بِهَا)، وَأَصْلُ الْقَصِّ: الْأَخْذُ، وَمِنْهُ الْقِصَاصُ، أَخْذُ حَقِّ الْمُقْتَصِّ لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ:" نُقِصَ " وَهُمَا مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى، قَالَهُ عِيَاضٌ.

(أَوْ كُفِّرَ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ، لَا يَدْرِي يَزِيدُ) بْنُ خُصَيْفَةَ (أَيُّهُمَا)، أَيُّ اللَّفْظَيْنِ: قُصَّ أَوْ كُفِّرَ، (قَالَ عُرْوَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ:" إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ "، أَيْ لِكَوْنِ ذَلِكَ عُقُوبَةً بِسَبَبِ مَا كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلِكَوْنِ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً "، قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا: حُصُولُ الثَّوَابِ، وَرَفْعُ الْعِقَابِ،

ص: 513

وَشَاهِدُهُ مَا لِلطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " «مَا ضُرِبَ عَلَى مُؤْمِنٍ عِرْقٌ قَطُّ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَهُ حَسَنَةً، وَرَفَعَ لَهُ دَرَجَةً» "، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ.

وَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْهَا: " إِلَّا كَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً "، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " أَوْ " شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ التَّنْوِيعُ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ بِهَا حَسَنَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَطَايَا، أَوْ حَطَّ عَنْهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ خَطَايَا، وَعَلَى هَذَا فَمُقْتَضَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ يُزَادُ فِي رَفْعِ دَرَجَتِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَالْفَضْلُ وَاسِعٌ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعَقُّبٌ عَلَى قَوْلِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: ظَنَّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّ الْمُصَابَ مَأْجُورٌ، وَهُوَ خَطَأٌ صَرِيحٌ، فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكَسْبِ، وَالْمَصَائِبُ لَيْسَتْ مِنْهَا، بَلِ الْأَجْرُ عَلَى الصَّبْرِ وَالرِّضَا، وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ صَرِيحَةٌ فِي ثُبُوتِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الصَّبْرُ وَالرِّضَا، فَقَدْرٌ زَائِدٌ يُمْكِنُ أَنْ يُثَابَ عَلَيْهِمَا زِيَادَةً عَلَى ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ.

قَالَ الشِّهَابُ الْقَرَافِيُّ: الْمَصَائِبُ كَفَّارَاتٌ جَزْمًا، سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهَا الرِّضَا، أَمْ لَا، لَكِنْ إِنِ اقْتَرَنَ الرِّضَا عَظُمَ التَّكْفِيرُ وَإِلَّا فَلَا، كَذَا قَالَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا وَبِالرِّضَا يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْبٌ عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يُوَازِيهِ.

وَزَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِلْمُصَابِ: جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً لِذَنْبِكَ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ جَعَلَهَا كَفَّارَةً، فَسُؤَالُ التَّكْفِيرِ طَلَبٌ لِحُصُولِ الْحَاصِلِ وَهُوَ إِسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَى الشَّارِعِ، وَتُعُقِّبَ بِمَا وَرَدَ مِنْ جَوَازِ الدُّعَاءِ بِمَا هُوَ وَاقِعٌ كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُؤَالِ الْوَسِيلَةِ لَهُ.

وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فَهُوَ مَشْرُوعٌ لِيُثَابَ مَنِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ.

وَلِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَيْبَةَ الْعَبْدَرِيِّ:" «أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَجَعٌ فَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ عَلَى فِرَاشِهِ وَيَشْتَكِي، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَوْ صَنَعَ هَذَا بَعْضُنَا لَوَجِدْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ الصَّالِحِينَ يُشَدَّدُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ نَكْبَةٌ مِنْ شَوْكَةٍ» "، الْحَدِيثَ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 514

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1752 -

1703 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) - بِمُهْمَلَاتٍ - الْمَازِنِيِّ الْمَدَنِيِّ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ) - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَخِفَّةِ الْمُوَحَّدَةِ -

ص: 514

(سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ) الْمَدَنِيَّ الثِّقَةَ الْمُتْقِنَ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ (يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا) ، أَيْ جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ، أَوْ خَيْرًا عَظِيمًا (يُصِبْ مِنْهُ) ، بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ، وَكَسْرِ الصَّادِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي الرِّوَايَةِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْتُ ابْنَ الْخَشَّابِ يَقْرَؤُهُ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَلْيَقُ.

قَالَ الطَّيْبِيُّ: أَلْيَقُ بِالْأَدَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80](سورة الشُّعَرَاءِ: الْآيَةُ 80) ، وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِرُوَاةٍ ثِقَاتٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَفَعَهُ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ مَحْمُودٍ مِنَ الْمُصْطَفَى وَلَفْظُهُ:" «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، مَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ» "، وَمَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ: يَنَلْ مِنْهُ بِالْمَصَائِبِ، وَيَبْتَلِيهِ بِهَا لِيُثِيبَهُ عَلَيْهَا، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ يُوَصِّلُ إِلَيْهِ الْمَصَائِبَ لِيُطَهِّرَهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَرْفَعَ دَرَجَتَهُ، وَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمَصَائِبِ طِبٌّ إِلَهِيٌّ يُدَاوَى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرَاضِ الذُّنُوبِ الْمُهْلِكَةِ، وَيَصِحُّ عَوْدُ ضَمِيرِ " يُصِبْ " إِلَى " مَنْ "، وَضَمِيرِ " مِنْهُ " إِلَى " اللَّهُ "، أَوْ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِيهِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ ذَكَرَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ ; لِأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ لِوُضُوحِهِ ; لِأَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ مُرَادٌ لِمَنْ يَحْصُلُ لَهُ مُخْتَارٌ مَرْضِيٌّ بِهِ إِذَا كَانَ بِإِرَادَةِ الْغَيْرِ لَا مِنْ نَفْسِهِ، فَلِأَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ وَرِضًا أَوْلَى، وَفِيهِ بُشْرَى عَظِيمَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ; لِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْفَكُّ غَالِبًا مِنْ أَلَمٍ بِسَبَبِ مَرَضٍ، أَوْ هَمٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الطِّبِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 515

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ الْمَوْتُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ هَنِيئًا لَهُ مَاتَ وَلَمْ يُبْتَلَ بِمَرَضٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيْحَكَ وَمَا يُدْرِيكَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُ بِمَرَضٍ يُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1753 -

1704 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ: (أَنَّ رَجُلًا) - لَمْ يُسَمَّ - (جَاءَهُ الْمَوْتُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ) - لَمْ يُسَمَّ - (هَنِيئًا لَهُ، مَاتَ وَلَمْ يُبْتَلَ بِمَرَضٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَيْحَكَ) كَلِمَةُ رَحْمَةٍ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا، كَمَا أَنَّ وَيْلَ كَلِمَةُ عَذَابٍ لِمَنْ

ص: 515

يَسْتَحِقُّهُ، وَهُمَا مَنْصُوبَانِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ (وَمَا يُدْرِيكَ) : يُعْلِمُكَ (لَوْ أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُ بِمَرَضٍ يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) فَإِنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ مُوَاقَعَةِ السَّيِّئَاتِ، فَالْمَرَضُ مُكَفِّرٌ لَهَا، أَوْ رَافِعٌ لِلدَّرَجَاتِ، وَكَاسِرٌ لِشَمَاخَةِ النَّفْسِ.

وَقَدْ رُوِيَ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ امْرَأَةً، فَوَصَفَهَا أَبُوهَا بِالْجَمَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَزِيدُكَ أَنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ قَطُّ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا لِهَذِهِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ خَيْرٍ» ".

ص: 516

[التَّعَوُّذِ وَالرُّقْيَةِ مِنْ الْمَرَضِ]

بَابُ التَّعَوُّذِ وَالرُّقْيَةِ مِنْ الْمَرَضِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ السَّلَمِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ «أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عُثْمَانُ وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَقُلْ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ قَالَ فَقُلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهَا أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ التَّعَوُّذِ وَالرُّقْيَةِ فِي الْمَرَضِ

1754 -

1705 - (مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (خُصَيْفَةَ) - بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَتْحِ الْفَاءِ -:(أَنَّ عَمْرَو) - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - (ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ) بْنِ مَالِكٍ (السَّلَمِيَّ) - بِفَتْحَتَيْنِ - الْأَنْصَارِيَّ الْمَدَنِيَّ الثِّقَةَ، (أَخْبَرَهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ) بْنِ مُطْعِمٍ الْقُرَشِيَّ النَّوْفَلِيَّ الْمَدَنِيَّ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ (أَخْبَرَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِي) الثَّقَفِيِّ الطَّائِفِيِّ، اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الطَّائِفِ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بِالْبَصْرَةِ.

(أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عُثْمَانُ: وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ) : قَارَبَ (يُهْلِكُنِي)، وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عُثْمَانَ:" أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ "، (قَالَ) عُثْمَانُ:( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: " «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِكَ» "، وَلِلطَّبَرَانِيِّ، وَالْحَاكِمِ:" «ضَعْ يَمِينَكَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَشْتَكِي، فَامْسَحْ بِهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ» "، (وَقُلْ)، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ:" بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا " قَبْلَ قَوْلِهِ (أَعُوذُ) : أَعْتَصِمُ ( «بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ» )، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ:" وَأُحَاذِرُ "، وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَالْحَاكِمِ: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَسْحَةٍ مِنَ السَّبْعِ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ:" «مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ مِنْ وَجَعِي هَذَا» "، (قَالَ) عُثْمَانُ:(فَقُلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي) مِنَ الْوَجَعِ، (فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهَا أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ) ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ

ص: 516

الْإِلَهِيَّةِ، وَالطِّبِّ النَّبَوِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَتَكْرَارُهُ يَكُونُ أَنْجَعَ وَأَبْلَغَ كَتَكْرَارِ الدَّوَاءِ الطَّبِيعِيِّ لِاسْتِقْصَاءِ إِخْرَاجِ الْمَادَّةِ.

وَفِي السَّبْعِ خَاصِّيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا.

وَقَدْ خَصَّ صلى الله عليه وسلم السَّبْعَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ بِشَرْطِ قُوَّةِ الْيَقِينِ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَظْهَرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ نَحْوَ طِفْلٍ أَنْ يَقُولَ مَنْ يُعَوِّذُهُ: مِنْ شَرِّ مَا يَجِدُ وَيُحَاذِرُ.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

ص: 517

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفِثُ قَالَتْ فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1755 -

1706 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى) أَيْ مَرِضَ، وَالشِّكَايَةُ: الْمَرَضُ، (يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ) - بِكَسْرِ الْوَاوِ - الْإِخْلَاصُ مُعَوِّذَةٌ تَغْلِيبًا، وَلِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ:" «كَانَ إِذَا اشْتَكَى قَرَأَ عَلَى نَفْسِهِ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» "، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي يُتَعَوَّذُ بِهَا مِنَ السُّورَتَيْنِ.

(وَيَنْفِثُ) - بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَضَمِّهَا بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ - أَيْ يُخْرِجُ الرِّيحَ مِنْ فَمِهِ فِي يَدِهِ مَعَ شَيْءٍ مِنْ رِيقِهِ وَيَمْسَحُ جَسَدَهُ.

قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ شِبْهُ الْبُزَاقِ بِلَا رِيقٍ، أَيْ يَجْمَعُ يَدَيْهِ، وَيَقْرَأُ فِيهِمَا، وَيَنْفِثُ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا عَلَى مَوْضِعِ الْأَلَمِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ: أَيْ يَتْفُلُ بِلَا رِيقٍ، أَوْ مَعَ رِيقٍ خَفِيفٍ، أَيْ يَقْرَأُ مَاسِحًا لِجَسَدِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا.

قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: يَنْفِثُ عَلَى يَدِهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، قَالَ عِيَاضٌ: وَفَائِدَةُ النَّفْثِ بِتِلْكَ الرُّطُوبَةِ، أَوِ الْهَوَاءِ الَّذِي مَسَّهُ الذِّكْرُ، كَمَا يُتَبَرَّكُ بِغُسَالَةِ مَا يُكْتَبُ مِنَ الذِّكْرِ، وَفِيهِ تَفَاؤُلٌ بِزَوَالِ الْأَلَمِ وَانْفِصَالِهِ كَانْفِصَالِ ذَلِكَ النَّفْثِ، وَخَصَّ الْمُعَوِّذَاتِ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.

فَفِي الْإِخْلَاصِ كَمَالُ التَّوْحِيدِ.

وَفِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ مَا يَعُمُّ الْأَشْبَاحَ وَالْأَرْوَاحَ، فَابْتَدَأَ بِالْعَامِّ فِي قَوْلِهِ:{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]، ثُمَّ ثَنَّى بِالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ:" {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ} [الفلق: 3] " ; لِأَنَّ انْبِثَاثَ الشَّرِّ فِيهِ أَكْثَرُ، وَالتَّجَوُّزَ مِنْهُ أَصْعَبُ، وَوَصَفَ الْمُسْتَعَاذَ بِهِ فِي الثَّالِثَةِ بِالرَّبِّ، ثُمَّ بِالْمَلِكِ، ثُمَّ بِالْإِلَهِ، وَأَضَافَهَا إِلَى النَّاسِ، وَكَرَّرَهُ، وَخَصَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ بِالْوَسْوَاسِ الْمَعْنَيُّ بِهِ الْمُوَسْوِسُ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَعُوذُ مِنْ شَرِّ الْمُوَسْوِسِ إِلَى النَّاسِ بِرَبِّهِمُ الَّذِي يَمْلِكُ عَلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ، وَهُوَ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ، كَمَا

ص: 517

يَسْتَغِيثُ بَعْضُ الْمَوَالِي إِذَا عَثَرَ بِهِمْ خَطْبٌ بِسَيِّدِهِمْ، وَمَخْدُومِهِمْ، وَوَالِي أَمْرِهِمْ.

(قَالَتْ) عَائِشَةُ: (فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ) فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، (كُنْتُ أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْهِ) الْمُعَوِّذَاتِ، (وَأَمْسَحُ عَلَيْهِ)، قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا لِيَحْيَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَأَمْسَحُ عَنْهُ (بِيَمِينِهِ) عَلَى جَسَدِهِ (رَجَاءَ بَرَكَتِهَا)، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ:" «فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي» ".

وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ:" «فَذَهَبْتُ أُعَوِّذُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» "، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى:" «فَأَفَاقَ وَهِيَ تَمْسَحُ صَدْرَهُ، وَتَدْعُو بِالشِّفَاءِ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْأَلُ اللَّهَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى هَذَا» "، وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ:" «كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، ثُمَّ يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ، وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» "، وَهَذِهِ مُغَايِرَةٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ، وَإِنِ اتَّحَدَ إِسْنَادُهُمَا، فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ إِثْبَاتُ الرُّقَى، وَالرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالرُّقَى بِالْقُرْآنِ، وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ ذِكْرٍ، وَإِبَاحَةُ النَّفْثِ فِيهِ، وَالْمَسْحُ بِالْيَدِ عِنْدَ الرُّقْيَةِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَسْحُهَا عَلَى كُلِّ مَا يُرْجَى بَرَكَتُهُ وَشِفَاؤُهُ وَخَيْرُهُ كَالْمَسْحِ عَلَى رَأْسِ الْيَتِيمِ، وَالتَّبَرُّكِ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ قِيَاسًا عَلَى فِعْلِ عَائِشَةَ، وَالتَّبَرُّكِ بِالْيُمْنَى دُونَ الشِّمَالِ، وَتَفْضِيلِهَا عَلَيْهَا، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى الْفَأْلِ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمُ عَنْ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الطِّبِّ، وَيُونُسُ عِنْدَهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَذَا تَابَعَهُ زِيَادٌ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا قَائِلًا: كُلُّهُمْ، وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِإِسْنَادِ مَالِكٍ نَحْوُ حَدِيثِهِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ " رَجَاءَ بَرَكَتِهَا " إِلَّا فِي حَدِيثِ مَالِكٍ، وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ، وَزِيَادَةُ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ» ".

ص: 518

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَشْتَكِي وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1756 -

1707 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِيَ تَشْتَكِي، وَيَهُودِيَّةٌ

ص: 518

تَرْقِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ) الْقُرْآنِ، إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهَا، أَوِ التَّوْرَاةِ إِنْ كَانَتْ مُعْرِبَةً بِالْعَرَبِيِّ، أَوْ أُمِنَ تَغْيِيرُهُمْ لَهَا، فَتَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِهِ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَبِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ بِشَرْطِ اعْتِقَادِ أَنَّ الرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِنَفْسِهَا، بَلْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ.

قَالَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رُقْيَةِ الْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ الْمُسْلِمَ، وَبِالْجَوَازِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

قَالَ الرَّبِيعُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الرُّقْيَةِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَرْقِيَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَبِمَا يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، قُلْتُ: أَيَرْقِي أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا رَقُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ الرُّقْيَةِ بِالْحَدِيدَةِ، وَالْمِلْحِ، وَعَقْدِ الْخَيْطِ، وَالَّذِي يَكْتُبُ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ.

ص: 519

[تَعَالُجِ الْمَرِيضِ]

بَابُ تَعَالُجِ الْمَرِيضِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابَهُ جُرْحٌ فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ فَنَظَرَا إِلَيْهِ فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا أَيُّكُمَا أَطَبُّ فَقَالَا أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الْأَدْوَاءَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ تَعَالُجِ الْمَرِيضِ

1757 -

1708 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) مُرْسَلٌ عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ، (أَنَّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابَهُ جُرْحٌ) - بِضَمِّ الْجِيمِ - (فَاحْتَقَنَ) ، أَيِ احْتَبَسَ الْجُرْحُ (الدَّمُ)، قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ فَاضَ وَخِيفَ عَلَيْهِ مِنْهُ، (وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَإِسْكَانِ النُّونِ، وَمِيمٍ - بَطْنٌ مِنَ الْعَرَبِ، (فَنَظَرَا إِلَيْهِ فَزَعَمَا)، أَيْ قَالَا:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا: أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟)، أَيْ أَعْلَمُ بِالطِّبِّ (فَقَالَا: أَوَفِي الطِّبِّ خَيْرٌ) ، مُثَلَّثُ الطَّاءِ: عِلَاجُ الْجِسْمِ، وَالنَّفْسِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَزَعَمَ)، أَيْ قَالَ (زَيْدُ) بْنُ أَسْلَمَ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنْزَلَ الدَّوَاءَ» ) : مَا يُتَدَاوَى بِهِ (الَّذِي أَنْزَلَ الْأَدْوَاءَ) ، جَمْعُ دَاءٍ، وَهُوَ الْمَرَضُ، أَيِ الْأَمْرَاضَ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ، فَقِيلَ: إِعْلَامُهُ عِبَادَهُ بِهِ، وَمُنِعَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِعُمُومِ الْإِنْزَالِ لِكُلِّ دَاءٍ، وَدَوَائِهِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِقَوْلِهِ: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ.

وَقِيلَ: إِنْزَالُهُمَا إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ

ص: 519

بِمُبَاشَرَةِ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ، فَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، فَيُخْبِرُونَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ مَثَلًا، أَوْ إِلْهَامٌ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: عَامَّةُ الْأَدْوَاءِ وَالْأَدْوِيَةِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْغَيْثِ الَّذِي تَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْأَغْذِيَةُ وَالْأَدْوِيَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ لُطْفِ الرَّبِّ بِخَلْقِهِ، فَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالْأَدْوَاءِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالْأَدْوِيَةِ، وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالذُّنُوبِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ.

وَفِي الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، وَدَاءُ الذُّنُوبِ الِاسْتِغْفَارُ» "، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ إِبَاحَةُ التَّدَاوِي، وَإِتْيَانُ الطَّبِيبِ إِلَى الْعَلِيلِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُمْرِضُ وَالشَّافِي، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْأَمْرَيْنِ، وَلِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْقِي، وَيَقُولُ:" «اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي يَا رَبِّ لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، اشْفِ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» "، وَهَذَا يُصَحِّحُ أَنَّ الْمُعَالَجَةَ إِنَّمَا هِيَ لِتَطْبِيبِ نَفْسِ الْعَلِيلِ، وَأُنْسِهِ لِلْعِلَاجِ، وَرَجَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الشِّفَاءِ كَالتَّسَبُّبِ بِطَلَبِ الرِّزْقِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْبُرْءَ لَيْسَ فِي وُسْعِ مَخْلُوقٍ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ حِينِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْأَطِبَّاءَ يُعَالِجُ أَحَدُهُمُ اثْنَيْنِ عِلَّتُهُمَا وَاحِدَةٌ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَسِنٍّ وَاحِدٍ، وَبَلَدٍ وَاحِدٍ، وَرُبَّمَا كَانَا تَوْأَمَيْنِ فَيُعَالِجُهُمَا بِعِلَاجٍ وَاحِدٍ، فَيَصِحُّ أَحَدُهُمَا، وَيَمُوتُ الْآخَرُ، أَوْ تَطُولُ عِلَّتُهُ، ثُمَّ يَصِحُّ عِنْدَ الْأَمَدِ الْمَعْدُودِ لَهُ، انْتَهَى.

ثُمَّ حَدِيثُ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا، لَكِنَّ شَوَاهِدَهُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْنَدَةٌ كَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» "، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ:" «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ» "، وَلِأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رَفَعَهُ:" «تَدَاوَوْا يَا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا: الْهَرَمُ» "، وَفِي لَفْظٍ:" إِلَّا السَّامَ " بِمُهْمَلَةٍ مُخَفَّفًا، أَيِ الْمَوْتَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَوَاءَ لَهُ، فَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ الْحَدِيثِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ دَوَاؤُهُ الطَّاعَةُ لَيْسَ شَيْءٌ، لِأَنَّهَا دَوَاءٌ لِلْمَرَضِ الْمَعْنَوِيِّ كَعُجْبٍ وَكِبْرٍ، لَا الْمَوْتِ.

وَفِي قَوْلِهِ: " بِإِذْنِ اللَّهِ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالدَّوَاءِ إِذَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ، بَلْ قَدْ يَنْقَلِبُ دَاءً.

ص: 520

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ بَلَغَنِي «أَنَّ سَعْدَ بْنَ زُرَارَةَ اكْتَوَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الذُّبْحَةِ فَمَاتَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1758 -

1709 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: بَلَغَنِي)، وَوَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ:(أَنَّ سَعْدَ) - بِسُكُونِ الْعَيْنِ - (ابْنَ زُرَارَةَ) بْنِ عَدَسٍ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، أَخُو أَسْعَدَ، بِأَلِفٍ أَوَّلَهُ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَالْعَدَوِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى النِّفَاقِ، وَلَعَلَّهُ تَابَ، (اكْتَوَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الذُّبَحَةِ) - بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ - قَالَ فِي الْقَامُوسِ: كَهُمَزَةٍ وَعِنَبَةٍ وَكِسْرَةٍ وَصُبْرَةٍ، وَجَعٌ فِي الْحَلْقِ، أَوْ دَمٌ يَخْنُقُ فَيَقْتُلُ.

وَفِي النِّهَايَةِ: بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ: وَجَعٌ

ص: 520

يَعْرِضُ فِي الْحَلْقِ مِنَ الدَّمِ، وَقِيلَ: قُرْحَةٌ تَظْهَرُ فِيهِ فَيَنْسَدُّ مَعَهَا، وَيَنْقَطِعُ النَّفَسُ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ: الذُّبْحَةُ وَجَعُ الْحَلْقِ.

وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: قُرْحَةٌ فِي حَلْقِ الْإِنْسَانِ مِثْلُ الزَّبِيبَةِ الَّتِي تَأْخُذُ الْحَمِيرَ، (فَمَاتَ) .

ص: 521

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اكْتَوَى مِنْ اللَّقْوَةِ وَرُقِيَ مِنْ الْعَقْرَبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1759 -

1710 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اكْتَوَى مِنَ اللَّقْوَةِ) - بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ، فَقَافٍ سَاكِنَةٍ - دَاءٌ يُصِيبُ الْوَجْهَ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ.

(وَرُقِيَ مِنَ الْعَقْرَبِ) لِإِذْنِ الْمُصْطَفَى، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ:" «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ يُرْقَى بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، قَالُوا: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ: "«لَدَغَتْ رَجُلًا مِنَّا عَقْرَبٌ، وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْقِي، قَالَ: مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» "، وَفِي الْمُوَطَّأِ، ابْنُ وَهْبٍ: أَنَّ الرَّجُلَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ مِنْ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ.

وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْكَيِّ، فَاكْتَوَيْنَا، فَمَا أَفْلَحْنَا، وَمَا أَنْجَحْنَا» "، وَهَذَا مَعَ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، أَوْ خِلَافِ الْأَوْلَى، إِذْ لَوْ حَمَلَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا اكْتَوَى، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِغَيْرِ التَّحْرِيمِ حَدِيثُ الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ:" «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» "، قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَرَ فِي أَثَرٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَوَى إِلَّا أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ نَسَبَ إِلَى كِتَابِ " أَدَبُ النُّفُوسِ " لِلطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ اكْتَوَى.

وَذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ بِلَفْظِ: " «رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اكْتَوَى لِلْجُرْحِ الَّذِي أَصَابَهُ بِأُحُدٍ» "، وَالثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ فَاطِمَةَ أَحْرَقَتْ حَصِيرًا، فَحَشَتْ بِهِ جُرْحَهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَيَّ الْمَعْهُودَ، وَجَزَمَ السَّفَاقُسِيُّ بِأَنَّهُ اكْتَوَى، وَابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكْتَوِ.

ص: 521

[الْغَسْلِ بِالْمَاءِ مِنْ الْحُمَّى]

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ وَقَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا أَخَذَتْ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا «وَقَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُبْرِدَهَا بِالْمَاءِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ مِنَ الْحُمَّى

هِيَ حَرَارَةٌ غَرِيبَةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ، وَتَنْتَشِرُ مِنْهُ بِتَوَسُّطِ الرُّوحِ وَالدَّمِ فِي الْعُرُوقِ إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ قِسْمَانِ: عَرَضِيَّةٌ، وَهِيَ الْحَادِثَةُ عَنْ وَرَمٍ، أَوْ حَرَكَةٍ، أَوْ إِصَابَةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، أَوِ الْقَبْضِ الشَّدِيدِ وَنَحْوِهَا، وَمَرَضِيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، وَتَكُونُ عَنْ مَادَّةٍ، ثُمَّ مِنْهَا مَا يُسَخِّنُ جَمِيعَ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ تَعَلُّقِهَا بِالرُّوحِ فَهِيَ حُمَّى يَوْمٍ، لِأَنَّهَا تُقْلِعُ غَالِبًا فِي يَوْمٍ، وَنِهَايَتُهَا إِلَى ثَلَاثٍ، وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْأَعْضَاءِ الْأَصْلِيَّةِ، فَهِيَ حُمَّى دَقٍّ، وَهِيَ أَخْطَرُهَا، وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْأَخْلَاطِ، سُمِّيَتْ عَفَنِيَّةً، وَهِيَ بِعَدَدِ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، وَتَحْتَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ.

1760 -

1711 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ) زَوْجَتِهِ بِنْتِ عَمِّهِ (فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ) بْنِ الزُّبَيْرِ: (أَنَّ) جَدَّتَهُمَا (أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ، (كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (بِالْمَرْأَةِ، وَقَدْ حُمَّتْ) - بِضَمِّ الْحَاءِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً - (تَدْعُو لَهَا، أَخَذَتِ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا) ، بَيْنَ الْمَحْمُومَةِ (وَبَيْنَ جَيْبِهَا) - بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ - قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: أَيْ بَيْنَ طَوْقِهَا وَجَسَدِهَا، (وَقَالَتْ:«إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا» ) - بِفَتْحِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً، (بِالْمَاءِ) الْبَارِدِ.

وَفِي فِعْلِ أَسْمَاءَ صِفَةُ التَّبْرِيدِ الْمُطْلَقِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ أَوْلَى مَا تُفَسَّرُ بِهِ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الَّتِي كَانَتْ تَلْزَمُ بَيْتَهُ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَتَشْكِيكُ بَعْضِ الضَّالِّينَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ غَسْلَ الْمَحْمُومِ مُهْلِكٌ، وَأَنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ فَعَلَهُ فَهَلَكَ، أَوْ كَادَ لِجَمْعِهِ الْمَسَامَّ، وَخَنْقِهِ الْبُخَارَ وَعَكْسِهِ الْحَرَارَةَ لِدَاخِلِ الْبَدَنِ، جَهْلٌ قَبِيحٌ نَشَأَ مِنْ عَدَمِ فَهْمِ كَلَامِ النُّبُوَّةِ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: " «إِذَا حُمَّ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنَ السَّحَرِ» "، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ: كُلُّ مَاءٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ لَا الصَّدَقَةُ بِهِ كَمَا ادَّعَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَإِنْ وُجِّهَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ،

ص: 522

فَكَمَا أَخْمَدَ لَهِيبَ الْعَطَشِ عَنِ الظَّمْآنِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَخْمَدَ اللَّهُ عَنْهُ لَهِيبَ الْحُمَّى جَزَاءً وِفَاقًا، وَهُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ.

قَالَ الْحَافِظُ: لَكِنَّ صَرِيحَ الْأَحَادِيثِ تَرُدُّهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَاءُ زَمْزَمَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ أَوْ بِمَاءِ زَمْزَمَ» " بِالشَّكِّ.

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ: بِمَاءِ زَمْزَمَ، بِدُونِ شَكٍّ، وَجَمْعٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ لِتَيَسُّرِهِ عِنْدَهُمْ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَكُلُّ مَاءٍ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ القَّعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

ص: 523

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1761 -

1712 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) مُرْسَلًا عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا مَعْنَ بْنَ عِيسَى، فَرَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَيْسَتْ رِوَايَتُهُ بِشَاذَّةٍ ; لِأَنَّهُ تَابَعَهُ ابْنُ وَهَبٍ وَهُوَ مَعْلُومُ الِاتِّصَالِ عِنْدَ أَصْحَابِ هِشَامٍ.

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَرْبَعَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحٍ» ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ.

وَفِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْبُخَارِيِّ: مِنْ فَوْحٍ، بِالْوَاوِ بَدَلَ الْيَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ عَنْهُ: مِنْ فَوْرٍ، بِالرَّاءِ بَدَلَ الْحَاءِ، وَالثَّلَاثَةُ بِمَعْنَى (جَهَنَّمَ) ، أَيْ سُطُوعِ حَرِّهَا وَفَوَرَانِهِ حَقِيقَةً، أُرْسِلَتْ إِلَى الدُّنْيَا نَذِيرًا لِلْجَاحِدِينَ، وَبَشِيرًا لِلْمُقَرَّبِينَ، لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِمْ، فَاللَّهَبُ الْحَاصِلُ فِي جِسْمِ الْمَحْمُومِ قِطْعَةٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ قَدَّرَ اللَّهُ ظُهُورَهَا بِأَسْبَابٍ يَقْضِيهَا، لِيَعْتَبِرَ الْعِبَادُ بِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ أَنْوَاعَ الْفَرَحِ وَاللَّذَّةِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، أَظْهَرَهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ عِبْرَةً وَدِلَالَةً، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ، شَبَّهَ اشْتِعَالَ حَرَارَةِ الطَّبِيعَةِ فِي كَوْنِهَا مُذِيبَةً لِلْبَدَنِ وَمُعَذِّبَةً لَهُ بِنَارِ جَهَنَّمَ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى شِدَّةِ حَرِّ النَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَالَ الطَّيْبِيُّ: " مِنْ " لَيْسَتْ بَيَانِيَّةً حَتَّى تَكُونَ تَشْبِيهًا كَقَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) ، فَهِيَ إِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ الْحُمَّى نَشَأَتْ وَحَصَلَتْ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ بَعْضٌ مِنْهَا، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ: " «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ» "، فَكَمَا أَنَّ حَرَارَةَ الصَّيْفِ أَثَرٌ مِنْ فَيْحِهَا، كَذَلِكَ الْحُمَّى، وَهِيَ حَرَارَةٌ غَرِيبَةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ، وَتَنْتَشِرُ مِنْهُ بِتَوَسُّطِ الرُّوحِ وَالدَّمِ فِي الْعُرُوقِ إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ.

(فَابْرُدُوهَا)، بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الرَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ: بَرَدْتُ الْحُمَّى أَبْرُدُهَا بَرْدًا بِوَزْنِ قَتَلْتُهَا أَقْتُلُهَا قَتْلًا، أَيْ

ص: 523

أَسْكَنْتُ حَرَارَتَهَا، وَحُكِيَ كَسْرُ الرَّاءِ مَعَ وَصْلِ الْهَمْزَةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ رِوَايَةً بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ، وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ: أَبْرَدَ الشَّيْءَ إِذَا عَاجَلَهُ فَصَيَّرَهُ بَارِدًا، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَقَوْلُ أَبِي الْبَقَاءِ: الصَّوَابُ وَصْلُ الْهَمْزَةِ وَضَمُّ الرَّاءِ، زَادَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ قَطْعَهَا، فِيهِ نَظَرٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا رِوَايَةً (بِالْمَاءِ) الْبَارِدِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ " شُرْبًا، وَغَسْلَ أَطْرَافٍ " ; لِأَنَّ الْمَاءَ الْبَارِدَ رَطْبٌ يَنْسَاغُ لِسُهُولَتِهِ فَيَصِلُ لِلَطَافَتِهِ إِلَى أَمَاكِنِ الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مُعَاوَنَةِ الطَّبِيعَةِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: اعْتَرَضَ بَعْضُ سُخَفَاءِ الْأَطِبَّاءِ الْحَدِيثَ بِأَنَّ اغْتِسَالَ الْمَحْمُومِ بِالْمَاءِ خَطَرٌ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْهَلَاكِ ; لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَسَامَّ، وَيَحْقِنُ الْبُخَارَ الْمُتَحَلِّلَ، وَيَعْكِسُ الْحَرَارَةَ إِلَى دَاخِلِ الْجِسْمِ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ، وَغَلَطَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ فَانْغَمَسَ بِالْمَاءِ، أَصَابَهُ الْحُمَّى فَاحْتَقَنَتِ الْحَرَارَةُ فِي بَاطِنِ بَدَنِهِ، فَأَصَابَتْهُ عِلَّةٌ صَعْبَةٌ كَادَتْ تُهْلِكُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِلَّتِهِ قَالَ قَوْلًا سَيِّئًا لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ، وَأوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ جَهْلُهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ، وَارْتِيَابُهُ فِي صِدْقِهِ، فَيُقَالُ لَهُ أَوَّلًا: مِنْ أَيْنَ حَمَلْتَ الْأَمْرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ الْكَيْفِيَّةِ فَضْلًا عَنِ اخْتِصَاصِهَا بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا أَرْشَدَ إِلَى تَبْرِيدِهَا بِالْمَاءِ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْوُجُودُ أَوِ اقْتَضَتْ صِنَاعَةُ الطِّبِّ أَنَّ إِغْمَاسَ كُلِّ مَحْمُومٍ فِي الْمَاءِ أَوْ صَبَّهُ إِيَّاهُ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ فَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ صلى الله عليه وسلم اسْتِعْمَالَهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْفَعُ فَيُبْحَثُ عَنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لِيَحْصُلَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ كَمَا أَمَرَ الْعَائِنَ بِالِاغْتِسَالِ وَأَطْلَقَ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ أَرَادَ الِاغْتِسَالَ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، لَا مُطْلَقِ الِاغْتِسَالِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُحْمَلُ عَلَى مَا بَيَّنَتْهُ أَسْمَاءُ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رَوَاهُ، فَهِيَ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ مِنْ غَيْرِهَا.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا شَكَّ أَنَّ عِلْمَ الطِّبِّ مِنْ أَكْثَرِ الْعُلُومِ احْتِيَاجًا إِلَى التَّفْصِيلِ، حَتَّى إِنَّ الْمَرِيضَ يَكُونُ الشَّيْءُ دَوَاءَهُ فِي سَاعَةٍ، ثُمَّ يَصِيرُ دَاءً لَهُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَلِيهَا لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ كَغَضَبٍ يُحْمِي مِزَاجَهُ مَثَلًا فَيَتَغَيَّرُ عِلَاجُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، فَإِذَا فُرِضَ وُجُودُ الشِّفَاءِ لِشَخْصٍ بِشَيْءٍ فِي حَالَةٍ لَمْ يَلْزَمْ وُجُودُ الشِّفَاءِ بِهِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَأَجْمَعَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ يَخْتَلِفُ عِلَاجُهُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ وَالزَّمَانِ وَالْعَادَةِ وَالْغِذَاءِ الْمُتَقَدَّمِ وَالتَّأْثِيرِ الْمَأْلُوفِ وَقُوَّةِ الطِّبَاعِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا مَرَّ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ الِاغْتِسَالُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي اطَّلَعَ عَلَيْهَا صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ، وَيَضْمَحِلُّ عِنْدَ ذَلِكَ كَلَامُ الْأَطِبَّاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَاكَ لِبَعْضِ الْحُمَّيَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا أَوْجَهُ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يُبَيِّنْ صلى الله عليه وسلم الصِّفَةَ وَالْحَالَةَ، فَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْغِمَاسَ، وَالْأَطِبَّاءُ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةَ يُبَرَّدُ صَاحِبُهَا بِسَقْيِ الْمَاءِ الْبَارِدِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، نَعَمْ، وَيَسْقُونَهُ الثَّلْجَ، وَيَغْسِلُونَ أَطْرَافَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُمَّى وَالْغَسْلَ عَلَى مِثْلِ مَا قَالُوهُ، أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، وَقَدْ

ص: 524

تَأَوَّلَتْ أَسْمَاءُ الْحَدِيثَ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ، وَقَدْ شَاهَدَتْهُ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى مَا عُلِمَ، انْتَهَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُمَّى أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَصْلُحُ لَهُ الْإِبْرَادُ بِالْمَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ، وَالَّذِي يَصْلُحُ إِبْرَادُهُ بِالْمَاءِ يَخْتَلِفُ أَيْضًا، فَمِنْهُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَشَّ بَيْنَ بَدَنِ الْمَحْمُومِ وَجَيْبِهِ، أَوْ يُقَطَّرَ عَلَى صَدْرِهِ مِنَ السِّقَاءِ فَلَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى صَبِّ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ بَدَنِهِ، أَوْ إِلَى انْغِمَاسِهِ فِي النَّهْرِ الْجَارِي مَرَّةً فَأَكْثَرَ، وَذَلِكَ بِاخْتِلَافِ نَوْعِ الْمَرَضِ، وَكَمَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ يَخْتَلِفُ أَيْضًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْفَصْلِ، وَالْقَطْرِ، وَالْمِزَاجِ، فَلَا يُسَوَّى بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَلَا بَيْنَ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَلَا بَيْنَ مِصْرَ وَالْحِجَازِ، وَلَا بَيْنَ مَنْ مِزَاجُهُ بَارِدٌ رَطْبٌ، وَبَيْنَ مَنْ مِزَاجُهُ حَارٌّ يَابِسٌ، وَلَا بَيْنَ مَنْ بِهِ نَزَلَاتٌ وَتَحَدُّرَاتٌ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، هَذَا هُوَ الْمُقَرَّرُ مِنْ قَوَاعِدِ الطِّبِّ.

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمُ الْحُمَّى، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ، يَسْتَنْقِعُ فِي نَهْرٍ جَارٍ، وَيَسْتَقْبِلُ جِرْيَتَهُ، وَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، وَصَدِّقْ رَسُولَكَ، بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلْيَنْغَمِسْ فِيهِ ثَلَاثَ غَمْسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فَخَمْسٌ، وَإِلَّا فَسَبْعٌ، وَإِلَّا فَتِسْعٌ، فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ» "، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، وَفِي سَنَدِهِ سَعِيدُ بْنُ زُرْعَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهَذَا يَنْزِلُ عَلَى مَنْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَنَزَلَ أَيْضًا بِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ الطِّبِّ دَخَلَ فِي قِسْمِ الْمُعْجِزَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِيهِ " صَدِّقْ رَسُولَكَ "، وَ " بِإِذْنِ اللَّهِ "؟ قَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: عَمِلْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَانْغَمَسْتُ فِي بَحْرِ النِّيلِ فَبَرِئْتُ مِنْهَا، قَالَ وَلَدُهُ: وَلَمْ يُحَمَّ بَعْدَهَا، وَلَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ.

ص: 525

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1761 -

1713 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ) ، حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَيُؤَيِّدُ الْحَقِيقَةَ حَدِيثُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنْ سَمُرَةَ يَرْفَعُهُ:" «الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ» "، وَمِثْلُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ:(فَأَطْفِئُوهَا) - بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَضْمُومَةٌ - أَمْرًا بِإِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا (بِالْمَاءِ) الْبَارِدِ شُرْبًا، وَغَسْلِ أَطْرَافِ، أَوْ جَمِيعِ الْجَسَدِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالزَّمَانِ وَالْمِزَاجِ وَالْمَكَانِ.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: " فَأَبْرِدُوهَا "، فَأَشَارَ أَبُو عُمَرَ إِلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا بِالْمَعْنَى، وَلَا يَتَعَيَّنُ لِجَوَازِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَطَقَ بِاللَّفْظَيْنِ ; لِأَنَّ الْمُخَرِّجَ مُخْتَلِفٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَابْنِ عُفَيْرٍ، وَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيِّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ نَافِعٍ بِهِ فِي مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ

ص: 525

عَبْدُ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَزَادَ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يُحَدِّثُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَكَذَا عَطَفَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَلَى حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

ص: 526

[عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالطِّيَرَةِ]

بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالطِّيَرَةِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا عَادَ الرَّجُلُ الْمَرِيضَ خَاضَ الرَّحْمَةَ حَتَّى إِذَا قَعَدَ عِنْدَهُ قَرَّتْ فِيهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالطِّيَرَةِ

أَصْلُ عِيَادَةٍ عِوَادَةٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، يُقَالُ: عُدْتُ الْمَرِيضَ أَعُودُهُ عِيَادَةً إِذَا زُرْتَهُ وَسَأَلْتَهُ عَنْ حَالِهِ، وَالطِّيَرَةُ - بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ -: التَّشَاؤُمُ بِالشَّيْءِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ لِحَاجَةٍ، فَإِنْ رَأَى الطَّيْرَ طَارَ عَنْ يَمِينِهِ تَيَمَّنَ بِهِ وَاسْتَمَرَّ، وَإِنْ طَارَ عَنْ يَسَارِهِ تَشَاءَمَ بِهِ وَرَجَعَ، وَرُبَّمَا هَيَّجُوا الطَّيْرَ لِيَطِيرَ فَيَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ، وَيَصِحُّ مَعَهُمْ فِي الْغَالِبِ لِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ ذَلِكَ، وَبَقِيَتْ بَقَايَا مِنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ مَرْفُوعًا: " «ثَلَاثَةٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ، وَالظَّنُّ، وَالْحَسَدُ، فَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَلَا تَرْجِعْ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تَحَقَّقْ» "، وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَلِابْنِ عَدِيِّ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَأَمْضُوا، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا» ، ولِلْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو:«مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الطِّيَرَةِ شَيْءٌ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» .

1714 -

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) أَخْرَجَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ، (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا عَادَ الرَّجُلُ الْمَرِيضَ خَاضَ الرَّحْمَةَ» ) ، شَبَّهَ الرَّحْمَةَ بِالْمَاءِ، إِمَّا فِي الطَّهَارَةِ، وَإِمَّا فِي الشُّيُوعِ وَالشُّمُولِ، وَنَسَبَ إِلَيْهَا مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنَ الْخَوْضِ (حَتَّى إِذَا قَعَدَ عِنْدَهُ قَرَّتْ) ، أَيْ ثَبَتَتْ (فِيهِ أَوْ نَحْوُ هَذَا) شَكٌّ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ جَابِرٍ:" قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا» "، وَلَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: " «عَائِدُ الْمَرِيضِ يَخُوضُ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ تَمَامِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ عَلَى يَدِهِ فَيَسْأَلُهُ كَيْفَ هُوَ، وَتَمَامُ تَحِيَّتِكُمْ بَيْنَكُمُ الْمُصَافَحَةُ» .

ص: 526

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا هَامَ وَلَا صَفَرَ وَلَا يَحُلَّ الْمُمْرِضُ عَلَى الْمُصِحِّ وَلْيَحْلُلْ الْمُصِحُّ حَيْثُ شَاءَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ أَذًى

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1715 -

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ بُكَيْرٍ) - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ - (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ) - بِالْجِيمِ - الْمَخْزُومِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، نَزِيلِ مِصْرَ مِنَ الثِّقَاتِ، مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا (عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ) ، كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى وَتَابَعَهُ قَوْمٌ.

وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَأَبُو مُصْعَبٍ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، أَيْ بِأَدَاةِ الْكُنْيَةِ، وَابْنُ عَطِيَّةَ اسْمُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطِيَّةَ، وَيُكَنَّى أَبَا عَطِيَّةَ، قِيلَ: هُوَ مَجْهُولٌ لَكِنَّ الْحَدِيثَ مَحْفُوظٌ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ بُكَيْرٍ فِي ذِكْرِهِ بِأَدَاةِ الْكُنْيَةِ، بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، لَكِنَّهُ خَالَفَهُ فِي صَحَابِيِّهِ، فَقَالَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْمُوَطَّآتِ، لَكِنَّهُ وَهْمٌ مِنْ أَبِي هَاشِمٍ الرِّفَاعِيِّ رَاوِيهِ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى» ) ، أَيْ لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا، أَيْ لَا يَسْرِي، وَلَا يَتَجَاوَزُ شَيْءٌ مِنَ الْمَرَضِ إِلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ بِهِ، يُقَالُ: أَعْدَى فُلَانٌ فَلَانًا مِنْ عِلَّةٍ بِهِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمُتَطَبِّبَةُ فِي الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالْجُدَرِيِّ وَالْحَصْبَاءِ وَالسِّحْرِ وَالرَّمَدِ وَالْأَمْرَاضِ الْوَبَائِيَّةِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ ذَلِكَ وَإِبْطَالُهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ.

(وَلَا هَامَ)، وَفِي لَفْظٍ:" وَلَا هَامَةَ " بِخِفَّةِ الْمِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ ; اسْمُ طَائِرٍ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِهِ، فَيَصُدُّهُمْ عَنْ مَقَاصِدِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ الْبُومَةُ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِهَا، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ هَامَةٌ عَلَى بَيْتٍ خَرَجَ مِنْهُ مَيِّتٌ، أَيْ لَا يُتَطَيَّرُ بِهِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْيُ زَعْمِهِمْ أَنَّهُ إِذَا قُتِلَ قَتِيلٌ خَرَجَ مِنْ رَأْسَهُ طَائِرٌ، فَلَا يَزَالُ يَقُولُ: اسْقُونِي حَتَّى يُقْتَلَ قَاتِلُهُ، فَيَطِيرُ، وَقِيلَ: كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ تَصِيرُ هَامَةً، وَقِيلَ: إِنَّ رُوحَهُ تَنْقَلِبُ هَامَةً فَتَطِيرُ وَيُسَمُّونَهَا: الصَّدَى، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا تَفْسِيرُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ النَّوْعَانِ، وَأَنَّهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَانِ.

(وَلَا صَفَرَ) : الشَّهْرُ الْمَعْرُوفُ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُهُ، وَتَسْتَحِلُّ الْمُحَرَّمَ، وَهُوَ النَّسِيءُ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِرَدِّ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُرْوَى عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ صَفَرَ حَيَّةٌ تَكُونُ فِي الْبَطْنِ تَهِيجُ عِنْدَ الْجُوعِ لِلنَّاسِ، وَالْمَاشِيَةِ، وَرُبَّمَا قَتَلَتْ صَاحِبَهَا، وَأَنَّهَا تُعْدِي أَقْوَى مِنَ الْجَرَبِ، فَالْحَدِيثُ لِنَفْيِ ذَلِكَ، أَوْ لِنَفْيِ الْعَدْوَى، بِهِ قَوْلَانِ، وَأُيِّدَ هَذَا التَّفْسِيرُ بِمَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عبدِ اللهِ فَسَّرَ الصَّفَرَ فَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: حَيَّاتُ الْبَطْنِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ نَفْيٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ شَهْرَ صَفَرٍ تَكْثُرُ فِيهِ الدَّوَاهِي.

(وَلَا يَحُلَّ) - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْحَاءِ - وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُورِدُ (الْمُمْرِضُ) - بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَفَتْحِهَا - مِنَ الْإِبِلِ

ص: 527

(عَلَى الْمُصِحِّ) - بِكَسْرِ الصَّادِ - مِنْهَا فَرُبَّمَا يُصَابُ بِذَلِكَ فَيَقُولُ الَّذِي أَوْرَدَهُ: لَوْ أَنِّي مَا أَحْلَلْتُهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحِلَّهُ لَأَصَابَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهُ فَنَهَى عَنْهُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ غَالِبًا مِنْ وُقُوعِهَا فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ» "، وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْجُذَامَ لَا يُعْدِي، لَكِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا نَفْرَةً وَكَرَاهِيَةً لِمُخَالَطَتِهِ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ» "، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ، فَكَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَجِيءُ الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ، فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيُجْرِبُهَا كُلَّهَا؟ قَالَ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ "، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "«فَمَا أَجْرَبَ الْأَوَّلَ؟ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ نَفْسٍ، وَكَتَبَ حَالَهَا، وَمُصَابَهَا، وَرِزْقَهَا» "، الْحَدِيثَ، فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [الحديد: 22](سورة الْحَدِيدِ: الْآيَةُ 22) ، الْآيَةَ.

وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ، فَمِنْ بَابِ اجْتِنَابِ الْأَسْبَابِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَجَعَلَهَا أَسْبَابًا لِلْهَلَاكِ، أَوِ الْأَذَى، وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِ الْبَلَاءِ إِذَا كَانَ فِي عَافِيَةٍ مِنْهَا.

وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِحَائِطٍ مَائِلٍ فَقَالَ: أَخَافُ مَوْتَ الْفَوَاتِ» "، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:(وَلْيَحْلُلِ الْمُصِحُّ حَيْثُ شَاءَ) ، فَلَهُ نُزُولُ مَحَلَّةِ الْمَرِيضِ إِنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَاحْتَمَلَتْهُ نَفْسُهُ.

(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ أَذًى) ، أَيْ يَتَأَذَّى بِهِ، لَا أَنَّهُ يُعْدِي، قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِإِبِلِهِ، أَوْ غَنَمِهِ الْجَرِبَةِ، فَيَحُلَّ بِهَا عَلَى مَاشِيَةٍ صَحِيحَةٍ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: سَمِعْتُ أَنَّ تَفْسِيرَهُ فِي رَجُلٍ يَكُونُ بِهِ الْجُذَامُ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الصَّحِيحِ يُؤْذِيهِ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْدِي، فَالْأَنْفُسُ تَكْرَهُهُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ أَذًى، يَعْنِي لَا لِلْعَدْوَى.

وَأَمَّا الصَّحِيحُ، فَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ مَحَلَّةَ الْمَرِيضِ إِنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَاحْتَمَلَتْهُ نَفْسُهُ.

ص: 528

[باب الشَّعْرِ]

[السُّنَّةِ فِي الشَّعْرِ]

كِتَابُ الشَّعَرِ

بَابُ السُّنَّةِ فِي الشَّعْرِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحَى»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

51 -

كِتَابُ الشَّعَرِ

1 -

بَابُ السُّنَّةِ فِي الشَّعَرِ

1764 -

1716 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ) الْعَدَوِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، صَدُوقٌ، يُقَالُ: اسْمُهُ عُمَرُ (عَنْ أَبِيهِ نَافِعٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ شَيْخِ الْإِمَامِ، رَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ) نَدْبًا وَقِيلَ: وُجُوبًا (بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ) ، أَيْ بِإِزَالَةِ مَا طَالَ مِنْهَا عَلَى الشَّفَتَيْنِ حَتَّى تَبِينَ الشَّفَةُ بَيَانًا ظَاهِرًا كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الْإِمَامُ فِيمَا مَرَّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ مَنَعَ حَلْقَ الشَّارِبِ، وَمَنْ قَالَ: يُنْدَبُ حَلْقُهُ، قَالَ: مَعْنَاهُ الِاسْتِئْصَالُ ; لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِلُّغَةِ لِأَنَّ الْإِحْفَاءَ أَصْلُهُ الِاسْتِقْصَاءُ، وَهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيثُ:" «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» "، فَدَلَّ التَّعْبِيرُ بِمِنِ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَأْصِلُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ شَارِبَهُ» "، وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ:" «ضِفْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ شَارِبِي وَفَى فَقَصَّهُ عَلَى سِوَاكٍ» "، وَفِي الْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ:" فَوَضَعَ السِّوَاكَ تَحْتَ الشَّارِبِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ "، وَفِي الْبَزَّارِ عَنْ عَائِشَةَ:" «أَبْصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا وَشَارِبُهُ طَوِيلٌ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِمِقَصٍّ وَسِوَاكٍ، فَجَعَلَ السِّوَاكَ عَلَى طَرَفِهِ، ثُمَّ أَخَذَ مَا جَاوَزَهُ» "، وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ: رَأَيْتُ خَمْسَةً مِنَ الصَّحَابَةِ يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ: أَبُو أُمُامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، وَعُتْبَةُ بْنُ هَوْنٍ السُّلَمِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَامِرٍ الثُّمَالِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ، وَلَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ حَلْقَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُحْفِي شَارِبَهُ كَأَخِي الْحَلْقِ، رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ ; لِأَنَّهُ رَاوِي الْحَدِيثِ مَعَ مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَنِ ; لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِقَوْلِهِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَدِيثِ الْقَصِّ كَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ.

أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

ص: 529

بْنِ أَبِي رَافِعٍ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنَ عُمَرَ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَأَبَا أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَسَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَأَبَا رَافِعٍ يُنْهِكُونَ شَوَارِبَهُمْ كَالْحَلْقِ، وَلِذَا ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى التَّخْيِيرِ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى قَوْلَ مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ، وَنَقَلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْإِحْفَاءَ: الِاسْتِئْصَالُ، قَالَ: دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَلَا تَعَارُضَ، فَالْقَصُّ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، وَالْإِحْفَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الْكُلِّ، فَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ، فَيُخَيَّرُ فِيمَا شَاءَ.

(وَإِعْفَاءِ اللِّحَى) ، بِكَسْرِ اللَّامِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَبِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ: جَمْعُ لِحْيَةٍ بِالْكَسْرِ فَقَطْ، اسْمٌ لِمَا يَنْبُتُ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَالذَّقَنِ، وَمَعْنَاهُ تَوَفُّرُهَا لِتَكْثُرَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ إِعْفَاءَهَا مِنَ الْإِحْفَاءِ ; لِأَنَّ كَثْرَتَهَا أَيْضًا لَيْسَ مَأْمُورًا بِتَرْكِهِ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ كَانَا يَأْخُذَانِ مِنَ اللِّحْيَةِ مَا فَضَلَ عَنِ الْقَبْضَةِ.

وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ اللِّحْيَةِ إِذَا طَالَتْ جِدًّا، قَالَ: أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا وَيُقَصَّ، انْتَهَى.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ.

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا بِالسَّوِيَّةِ» "، أَيْ لِيَقْرُبَ مِنَ التَّدْوِيرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; لِأَنَّ الِاعْتِدَالَ مَحْبُوبٌ، وَالطُّولَ الْمُفْرِطَ قَدْ يُشَوِّهُ الْخَلْقَ، وَيُطْلِقُ أَلْسِنَةَ الْمُغْتَابِينَ، فَفِعْلُ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى تَقْصِيصِ اللِّحْيَةِ، وَجَعْلِهَا طَاقَاتٍ فَيُكْرَهُ، أَوْ يَقْصِدُ الزِّينَةَ وَالتَّحْسِينَ لِنَحْوِ النِّسَاءِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَأَمْرِهِ ; لِأَنَّهُ فِي الْأَخْذِ مِنْهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَوْ لِنَحْوِ تَزَيُّنٍ، وَفِعْلُهُ فِيمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ لِتَشَعُّثٍ أَوْ إِفْرَاطِ طُولٍ يُتَأَذَّى بِهِ.

وَقَالَ الطَّيْبِيُّ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَصُّهَا كَالْأَعَاجِمِ، أَوْ وَصْلُهَا كَذَنَبِ الْحِمَارِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الِاسْتِئْصَالُ، أَوْ مَا قَارَبَهُ بِخِلَافِ الْأَخْذِ الْمَذْكُورِ.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى كِلَيْهِمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 530

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كَانَتْ فِي يَدِ حَرَسِيٍّ يَقُولُ «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1765 -

1717 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ حُمَيْدِ) - بِضَمِّ الْحَاءِ - (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزُّهْرِيِّ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ الثَّبْتِ الْحُجَّةِ: (أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ الْأُمَوِيَّ (عَامَ حَجَّ) ، سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) النَّبَوِيِّ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَوَّلُ حَجَّةٍ حَجَّهَا بَعْدَ الْخِلَافَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَآخِرُ حَجَّةٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، (وَتَنَاوَلَ) : أَخَذَ مُعَاوِيَةُ (قُصَّةً) - بِضَمِّ الْقَافِ، وَشَدِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - خُصْلَةً (مِنْ شَعَرٍ) تَزِيدُهَا الْمَرْأَةُ فِي شَعَرِهَا

ص: 530

لِتُوهِمَ كَثْرَتَهُ، (كَانَتِ) الْقُصَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ، أَيْ ذَلِكَ الشَّعَرُ (فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ) ، بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالرَّاءِ، وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَاتِ، وَتَحْتِيَّةٍ، مِنْ خَدَمِهِ الَّذِينَ يَحْرُسُونَهُ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: وَجَدْتُ هَذِهِ عِنْدَ أَهْلِي، وَزَعَمُوا أَنَّ النِّسَاءَ يَزِدْنَهُ فِي شُعُورِهِنَّ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْهُ: مَا كُنْتُ أَرَى يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ، (يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) ، أَيْ لِيُسَاعِدُوهُ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ، أَوْ لِيُنْكِرَ هُوَ عَلَيْهِمْ إِهْمَالَهُمْ إِنْكَارَ ذَلِكَ، وَعَدَمَ تَغْيِيرِهِمْ لِذَلِكَ الْمُنْكَرِ.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ) الْقُصَّةِ الَّتِي تَصِلُهُ الْمَرْأَةُ بِشَعَرِهَا، (وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا هَلَكَتْ)، وَلِمُسْلِمٍ: إِنَّمَا عُذِّبَ (بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ) ، أَيْ مِثْلَ هَذِهِ الْقُصَّةِ، وَوَصَلَهَا بِالشَّعَرِ (نِسَاؤُهُمْ) .

وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ مُعَاوِيَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ الزُّورَ» "، يَعْنِي الْوَصْلَةَ فِي الشَّعَرِ، أَيْ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَتَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ، وَالزُّورُ: الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: «أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ زِيَّ سُوءٍ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نَهَى عَنِ الزُّورِ» .

قَالَ: وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَلَا وَهَذَا الزُّورُ.

قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي مَا يُكَثِّرُ بِهِ النِّسَاءُ شُعُورَهُنَّ مِنَ الْخِرَقِ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ الِاعْتِبَارُ وَالْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ لِخَوْفِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْهَلَاكَ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَهُ اسْتَحَقَّهُ، أَوْ يَعْفُو اللَّهُ، وَوُجُوبُ اجْتِنَابِ عَمَلٍ هَلَكَ بِهِ قَوْمٌ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْقُصَّةَ لَمْ تُفْشَ فِيهِمْ حَتَّى أَعْلَنُوا بِالْكَبَائِرِ، فَكَأَنَّ الْقُصَّةَ عَلَامَةٌ لَا تَكَادُ تَظْهَرُ إِلَّا فِي أَهْلِ الْفِسْقِ، لَا أَنَّهَا فَعْلَةٌ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الْهَلَاكَ بِهَا دُونَ أَنْ يُجَامِعَهَا غَيْرُهَا.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ نُهُوا تَحْرِيمًا عَنْ ذَلِكَ، فَاتَّخَذُوهُ اسْتِخْفَافًا، فَهَلَكُوا.

وَالَّذِي مُنِعُوا مِنْهُ جَاءَ عَنْ نَبِيِّنَا مِثْلُهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا:" «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ» "، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَبَرٌ، فَيَكُونُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُعَاءٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَابْنِ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَائِلًا: غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ: «إِنَّمَا عُذِّبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ» .

ص: 531

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ «سَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ»

قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى شَعَرِ امْرَأَةِ ابْنِهِ أَوْ شَعَرِ أُمِّ امْرَأَتِهِ بَأْسٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1766 -

1718 - (مَالِكٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدِ) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ، نَزِيلِ مَكَّةَ، ثُمَّ الْيَمَنِ، ثِقَةٌ

ص: 531

ثَبْتٍ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ: كَانَ أَثْبَتَ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) شَيْخِ الْإِمَامِ، رَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ.

(أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ)، قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا أَرْسَلَهُ رُوَاةُ مَالِكٍ إِلَّا حَمَّادَ بْنَ خَالِدٍ الْخَيَّاطَ، فَأَسْنَدَهُ عَنْ أَنَسٍ فَأَخْطَأَ فِيهِ، وَالصَّوَابُ عَنْ مَالِكٍ، مُرْسَلٌ، وَالصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ:( «سَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ» ) ، أَيْ أَنْزَلَ شَعَرَهَا عَلَى جَبْهَتِهِ، (مَا شَاءَ اللَّهُ) مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ لِتَمَسُّكِهِمْ فِي زَمَانِهِ بِبَقَايَا شَرَائِعِ الرُّسُلِ، أَوْ لِاسْتِئْلَافِهِمْ كَمَا تَآلَفَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِمْ.

(ثُمَّ فَرَقَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ، رُوِيَ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، أَيْ أَلْقَى شَعَرَهُ إِلَى جَانِبَيْ رَأْسِهِ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى جَبْهَتِهِ.

وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: " ثُمَّ أُمِرَ بِالْفَرْقِ فَفَرَقَ "، وَكَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ (بَعْدَ ذَلِكَ) حِينَ أَسْلَمَ غَالِبُ الْوَثَنِيِّينَ، وَغَلَبَتِ الشِّقْوَةُ عَلَى الْيَهُودِ، وَلَمْ يَنْفَعْ فِيهِمْ الِاسْتِئْلَافُ فَخَالَفَهُمْ، وَأَمَرَ بِمُخَالَفَتِهِمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ:" «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» "، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ غَيْرُهُ: وَلِأَنَّهُ أَنْظَفُ وَأَبْعَدُ عَنِ السَّرَفِ فِي غَسْلِهِ، وَعَنْ مُشَابَهَةِ النِّسَاءِ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْفَرْقِ وَالسَّدْلِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ الشَّرْعُ بِهِ، لَكِنْ لَا وُجُوبًا ; لِأَنَّ مِنَ الصَّحْبِ مَنْ سَدَلَ بَعْدَهُ، فَلَوْ كَانَ الْفَرْقُ وَاجِبًا مَا سَدَلُوا، وَزَعْمُ نَسْخِهِ يَحْتَاجُ لِبَيَانِ نَاسِخِهِ وَتَأَخُّرِهِ عَنِ الْمَنْسُوخِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ نُسِخَ مَا فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَوَهُّمُ النَّسْخِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ أَصْلًا لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ، قَالَ: وَهَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ حُبَّهُ مُوَافَقَتَهُمْ، وَمُخَالَفَتَهُمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مَصْلَحَةً، وَحَدِيثُ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ: إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيقَتُهُ فَرَقَهَا، وَإِلَّا تَرَكَهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَالِبُ أَحْوَالِهِ ; لِأَنَّهُ ذُكِرَ مَعَ أَوْصَافِهِ الدَّائِمَةِ، وَجِبِلَّتِهِ الَّتِي كَانَ مَوْصُوفًا بِهَا، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْفَرْقَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، انْتَهَى.

وَقَالَ الْحَافِظُ: حَدِيثُ هِنْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ أَوَّلًا لِمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْدُلُ شَعْرَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدُلُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ» .

(قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى شَعَرِ امْرَأَةِ ابْنِهِ أَوْ شَعَرِ أُمِّ امْرَأَتِهِ بِأْسٌ) ، لِجَوَازِ ذَلِكَ بِلَا شَهْوَةٍ.

ص: 532

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْإِخْصَاءَ وَيَقُولُ فِيهِ تَمَامُ الْخَلْقِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1767 -

1719 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْإِخْصَاءَ)، قِيلَ: صَوَابُهُ الْخِصَاءُ بِ كَسْرِ الْخَاءِ، وَالْمَدِّ، مَصْدَرُ خَصِيَ: سَلَّ الْخُصْيَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ نَطَقَ بِذَلِكَ سَيِّدُ الْفُصَحَاءِ.

رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ يَرْفَعُهُ: " «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَنَالُهُمُ الْإِخْصَاءُ، فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا» "، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119](سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ 119)، قَالَ: هُوَ الْإِخْصَاءُ.

وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ مِثْلُهُ.

(وَيَقُولُ فِيهِ) ، أَيْ فِي إِبْقَائِهِ (تَمَامُ الْخَلْقِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي تَرْكِ الْخِصَاءِ تَمَامٌ، وَرُوِيَ: نَمَاءُ الْخَلْقِ ; يَعْنِي بِالنُّونِ مِنَ النُّمُوِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" «قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا تَخُصُّوا مَا يُنَمِّي خَلْقَ اللَّهِ» "، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْصَى أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ» "، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذِكْرِ هَذَا الْأَثَرِ فِي تَرْجَمَةِ السُّنَّةِ فِي الشَعَرِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخُصَّ نَبْتَ الشَّعَرِ، فَيُؤْمَرُ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهِ مَنْ لَهُ شَعَرٌ.

ص: 533

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ إِذَا اتَّقَى وَأَشَارَ بِإِصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1768 -

1720 - (مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) - بِضَمِّ السِّينِ - الْمَدَنِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّهْرِيِّ مَوْلَاهُمْ ثِقَةٌ مُفْتٍ عَابِدٌ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً، (أَنَّهُ بَلَغَهُ) : وَصَلَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أُنَيْسَةَ عَنْ أُمِّ سَعِيدٍ بِنْتِ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ عَنْ أَبِيهَا: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ» ) ، أَيْ لِلْقَيِّمِ بِأَمْرِهِ وَمَصَالِحِهِ هِبَةً مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، (لَهُ) بِأَنْ يَكُونَ جَدًّا أَوْ عَمًّا أَوْ أَخًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَارِبِ، أَوْ يَكُونَ أَبُو الْمَوْلُودِ قَدْ مَاتَ فَقَامَتْ أُمُّهُ مَقَامَهُ، أَوْ مَاتَتْ أُمُّهُ فَقَامَ أَبُوهُ فِي التَّرْبِيَةِ مَقَامَهَا.

(أَوْ لِغَيْرِهِ) بِأَنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ.

وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «مَنْ كَفَلَ يَتِيمًا ذَا قَرَابَةٍ، أَوْ لَا قَرَابَةَ لَهُ» ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ (فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ) ، إِذَا اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ، نَوَاهِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْيَتِيمِ، (وَأَشَارَ) عِنْدَ قَوْلِهِ: كَهَاتَيْنِ، قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا فِي الْمُوَطَّأِ بِإِبْهَامِ الْمُشِيرِ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ، وَأَشَارَ مَالِكٌ، وَفِي مُوَطَّأِ ابْنِ بُكَيْرٍ: وَأَشَارَ

ص: 533

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ( «بِإِصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ» ) ، أَيِ السَّبَّابَةِ، وَفِي مُوَطَّأِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ: بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفِي الْبُخَارِيِّ:" «وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا» "، أَيْ أَنَّ الْكَافِلَ فِي الْجَنَّةِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنَّ دَرَجَتَهُ لَا تَبْلُغُ دَرَجَتَهُ بَلْ تُقَارِبُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَقٌّ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِيَكُونَ رَفِيقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَّةِ، وَلَا مَنْزِلَةَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: قُرْبُ الْمَنْزِلَةِ حَالَ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تُبَادِرُنِي فَأَقُولُ مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ تَأَيَّمْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي» "، وَرُوَاتُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ: سُرْعَةُ الدُّخُولِ، وَعُلُوُّ الْمَنْزِلَةِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَفَعَهُ: " «أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى مَاتُوا، أَوْ بَانُوا» "، فَهَذَا فِيهِ قَيْدٌ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَنْ جَابِرٍ: " «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّ أَضْرِبُ مِنْهُ يَتِيمِي؟ قَالَ: مَا كُنْتَ ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ غَيْرَ وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ» "، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ:" «حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ» "، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلْكَفَالَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمَدًا، وَمُنَاسَبَةُ التَّشْبِيهِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا، يَعْنِي الْعِرَاقِيَّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى قَوْمٍ لَا يَعْقِلُونَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَيَكُونَ كَافِلًا لَهُمْ، وَمُرْشِدًا وَمُعَلِّمًا، وَكَافِلُ الْيَتِيمِ يَقُومُ بِكَفَالَةِ مَنْ لَا يَعْقِلُ أَمْرَ دِينِهِ، بَلْ وَلَا دُنْيَاهُ فَيُرْشِدُهُ، وَيُعَلِّمُهُ، وَيُحْسِنُ أَدَبَهُ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَلِمَالِكٍ فِي هَذَا إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الزُّهْدِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْغَيْثِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» "، وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ لَعَلَّ وَجْهَ إِيرَادِهِ فِي تَرْجَمَةِ السُّنَّةِ فِي الشَّعَرِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ كَفَالَةِ الْيَتِيمِ إِصْلَاحَ شَعَرِهِ، وَتَسْرِيحَهُ، وَدَهْنَهُ.

ص: 534

[إِصْلَاحِ الشَّعَرِ]

2 -

بَابُ إِصْلَاحِ الشَّعَرِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ لِي جُمَّةً أَفَأُرَجِّلُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ وَأَكْرِمْهَا فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَنَهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ لِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ وَأَكْرِمْهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1769 -

1721 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ) ، مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ

ص: 534

عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْمَقْدِسِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ (الْأَنْصَارِيَّ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِي جُمَّةً) - بِضَمِّ الْجِيمِ، وَشَدِّ الْمِيمِ -: شَعَرُ الرَّأْسِ إِذَا بَلَغَ الْمَنْكِبَيْنِ، (أَفَأُرَجِّلُهَا؟) - بِالْجِيمِ - أُسَرِّحُهَا، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ) ، رَجِّلْهَا، (وَأَكْرِمْهَا) بِصَوْنِهَا مِنْ نَحْوِ وَسَخٍ وَقَذَرٍ، وَبِتَعَاهُدِهَا بِالتَّنْظِيفِ وَالِادِّهَانِ.

(فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَنَهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ) لِتَشَعُّثِهَا بِعَمَلٍ، أَوْ غُبَارٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يُنَافِي النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْيَاءَ.

(لِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ)، أَيْ لِقَوْلِهِ:(صلى الله عليه وسلم نَعَمْ، وَأَكْرِمْهَا) ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَفَعَاهُ:" «إِذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ شَعَرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» ".

ص: 535

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ أَنْ اخْرُجْ كَأَنَّهُ يَعْنِي إِصْلَاحَ شَعَرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ فَفَعَلَ الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ ثَائِرَ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1770 -

1722 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ)، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِهِ، وَجَاءَ مَوْصُولًا بِمَعْنَاهُ عَنْ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ، (قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ» ) ، بِمُثَلَّثَةٍ، أَيْ شَعِثُهُ، (وَاللِّحْيَةِ) بِتَرْكِ تَعَاهُدِهِمَا بِمَا يُصْلِحُهُمَا مِنْ تَرْجِيلٍ وَغَيْرِهِ.

(فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ أَنِ اخْرُجْ) مِنَ الْمَسْجِدِ، (كَأَنَّهُ يَعْنِي) بِذَلِكَ (إِصْلَاحَ شَعَرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ) ، أَصْلَحَهُمَا، ( «ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ ثَائِرَ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ؟» ) ، فِي قُبْحِ الْمَنْظَرِ عَلَى عُرْفِ الْعَرَبِ فِي تَشْبِيهِ الْقَبِيحِ بِالشَّيْطَانِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرَى لِمَا أَوْقَعَ اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ طَلْعَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65](سورة الصَّافَّاتِ: الْآيَةُ 65) .

ص: 535

[مَا جَاءَ فِي صَبْغِ الشَّعَرِ]

3 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي صَبْغِ الشَّعَرِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَ وَكَانَ جَلِيسًا لَهُمْ وَكَانَ أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ قَالَ فَغَدَا عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ حَمَّرَهُمَا قَالَ فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ هَذَا أَحْسَنُ فَقَالَ إِنَّ أُمِّي عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَيَّ الْبَارِحَةَ جَارِيَتَهَا نُخَيْلَةَ فَأَقْسَمَتْ عَلَيَّ لَأَصْبُغَنَّ وَأَخْبَرَتْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ يَصْبُغُ

قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي صَبْغِ الشَّعَرِ بِالسَّوَادِ لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا مَعْلُومًا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّبْغِ أَحَبُّ إِلَيَّ قَالَ وَتَرْكُ الصَّبْغِ كُلِّهِ وَاسِعٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ ضِيقٌ

قَالَ وَسَمِعْت مَالِكا يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصْبُغْ وَلَوْ صَبَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَأَرْسَلَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1771 -

1723 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ) بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ، (قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ) الْقُرَشِيُّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ: (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ) بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ الزُّهْرِيَّ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَاتَ أَبُوهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَلِذَلِكَ عُدَّ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.

(قَالَ: وَكَانَ جَلِيسًا لَهُمْ، وَكَانَ أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَدْ حَمَّرَهَا) : صَبَغَهَا بِالْحُمْرَةِ، (قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: هَذَا أَحْسَنُ) مِنَ الْبَيَاضِ (قَالَ: إِنَّ أُمِّي عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَيَّ الْبَارِحَةَ جَارِيَتَهَا نُخَيْلَةَ) بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الْخَاءِ مُعْجَمَةً عِنْدَ يَحْيَى مُهْمَلَةً عِنْدَ غَيْرِهِ، وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ.

(فَأَقْسَمَتْ عَلَيَّ لَأَصْبُغَنَّ) - بِضَمِّ الْبَاءِ، وَكَسْرِهَا -، (وَأَخْبَرَتْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ - عَنْهُ كَانَ يَصْبُغُ) ، بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا وَفَتْحُهَا.

(قَالَ مَالِكٌ فِي صَبْغِ الشَّعَرِ بِالسَّوَادِ: لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الصَّبْغِ أَحَبُّ إِلَيَّ) كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، (وَتَرْكُ الصَّبْغِ كُلِّهِ وَاسِعٌ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَيْسَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ ضِيقٌ) خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: الصَّبْغُ بِغَيْرِ السَّوَادِ سُنَّةٌ.

ص: 536

(قَالَ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصْبُغْ، وَلَوْ صَبَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَأَرْسَلَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ) مَعَ قَوْلِهَا: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَصْبُغُ، أَوْ بِدُونِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَنَسٌ كَوْنَهُ صلى الله عليه وسلم صَبَغَ.

«وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ» .

وَقَالَ أَبُو رِمْثَةَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، وَلَهُ شَعَرٌ قَدْ عَلَاهُ الشَّيْبُ، وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ.

«وَسُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَلْ خَضَبَ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَوَافَقَ مَالِكٌ أَنَسًا عَلَى الْإِنْكَارِ.

وَتَأَوَّلَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِحَمْلِهِ عَلَى الثِّيَابِ لَا الشَّعَرِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «كَانَ يَصْبُغُ بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ حَتَّى عِمَامَتِهِ» "، وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُهُ أَيْضًا:" «كَانَ يُصَفِّرُ بِهِمَا لِحْيَتَهُ» "، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّا يَتَطَيَّبُ بِهِ لَا أَنَّهُ كَانَ يَصْبُغُ بِهِمَا.

وَحَمْلُ أَحَادِيثِ غَيْرِهِ إِنْ صَحَّتْ عَلَى أَنَّ تَلَوُّنَهُ مِنَ الطِّيبِ لَا مِنَ الصَّبْغِ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.

قَالَ رَبِيعَةُ: «رَأَيْتُ شَعَرًا مِنْ شَعَرِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ، فَسَأَلْتُ فَقِيلَ: أَحْمَرُ مِنَ الطِّيبِ» .

قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَعْرِفِ اسْمَ الْمَسْئُولِ الْمُجِيبِ بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْحَاكِمَ رَوَى «أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ لِأَنَسٍ: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ شَعَرًا مِنْ شَعَرِهِ قَدْ لُوِّنَ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا الَّذِي لُوِّنَ مِنَ الطِّيبِ الَّذِي كَانَ يُطَيِّبُ بِهِ شَعَرَهُ فَهُوَ الَّذِي غَيَّرَ لَوْنَهُ» .

فَيُحْتَمَلُ أَنَّ رَبِيعَةَ سَأَلَ أَنَسًا عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ.

وَفِي رِجَالِ مَالِكٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ وَالْغَرَائِبِ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَمَّا مَاتَ صلى الله عليه وسلم خَضَبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْئٌ مِنْ شَعَرِهِ، لِيَكُونَ أَبْقَى لَهَا "، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا اسْتَقَامَ إِنْكَارُ أَنَسٍ، وَيَقْبَلُ مَا أَثْبَتَهُ سِوَاهُ التَّأْوِيلَ، وَأُوِّلَ أَيْضًا بِأَنَّهُ صَبَغَ فِي وَقْتٍ حَقِيقَةً، وَتَرَكَ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ بِمَا رَأَى وَهُوَ صَادِقٌ، فَمَنْ أَثْبَتَهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ، وَيُحْمَلُ نَفْيُ أَنَسٍ عَلَى غَلَبَةِ الشَّيْبِ، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى خِضَابِهِ، وَلَمْ يُتَّفَقْ أَنَّهُ رَآهُ حِينَ خَضَبَ، وَغَايَةُ مَا يُفِيدُهُ هَذَا عَدَمَ الْحُرْمَةِ ; لِأَنَّهُ يَفْعَلُ الْمَكْرُوهَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ كَالْمُتَعَيَّنِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:" «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ» "، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ لِصِحَّتِهِ، وَلَا تَأْوِيلَ لَهُ، فِيهِ نَظَرٌ، إِذْ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلٌ لِلثِّيَابِ وَالشَّعَرِ، وَجَاءَ مَا يُعَيِّنُ الْأَوَّلَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَفْسِهِ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ حَتَّى عِمَامَتِهِ» "، وَلِذَا رَجَّحَهُ عِيَاضٌ.

ص: 537

[مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ التَّعَوُّذِ]

4 -

بَابُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ التَّعَوُّذِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ بَلَغَنِي «أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي أُرَوَّعُ فِي مَنَامِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بَابُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ التَّعَوُّذِ

1772 -

1724 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: بَلَغَنِي) أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ: (أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ) وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُسْنَدًا، لَكِنْ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ أَخُو خَالِدٍ:(قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُرَوَّعُ) ، أَيْ يَحْصُلُ لِي رَوْعٌ، أَيْ فَزَعٌ (فِي مَنَامِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ» ) ، أَيِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا نَقْصٌ، (مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ) مَخْلُوقَاتِهِ إِنْسًا وَجِنًّا وَغَيْرَهُمَا، (وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) : نَزَغَاتِهِمْ بِمَا يُوَسْوِسُونَ بِهِ أَنْ يُصِيبَنِي، (وَأَنْ يَحْضُرُونَ) ، أَيْ أَنْ يُصِيبُونِي بِسُوءٍ، وَيَكُونُوا مَعِي فِي مَكَانٍ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَحْضُرُونَ بِالسُّوءِ.

ص: 538

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ «أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَآهُ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ إِذَا قُلْتَهُنَّ طَفِئَتْ شُعْلَتُهُ وَخَرَّ لِفِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَى فَقَالَ جِبْرِيلُ فَقُلْ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ اللَّاتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَشَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَشَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1773 -

1725 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّهُ قَالَ) مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، السُّلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ، بِالْفَوْقِيَّةِ: الْحَافِظُ هَذَا لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْجِنِّ أَقْبَلَ عِفْرِيتٌ فِي يَدِهِ شُعْلَةٌ فَذَكَرَهُ، انْتَهَى.

وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ هِيَ لَيْلَةُ اسْتِمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ، وَهِيَ غَيْرُ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، فَهُمَا حَدِيثَانِ، وَإِنِ اتَّحَدَ لَفْظُ الِاسْتِعَاذَةِ فِيهِمَا.

( «أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى عِفْرِيتًا» ) ، هُوَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ (مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ) - بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ - (مِنْ نَارٍ) ، وَهِيَ شِبْهُ الْجَذْوَةِ - بِتَثْلِيثِ الْجِيمِ - الْجَمْرَةُ (كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَآهُ)

ص: 538

يَطْلُبُهُ لِقَصْدِ إِيذَائِهِ، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ، (فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ إِذَا قُلْتَهُنَّ طَفِئَتْ شُعْلَتُهُ وَخَرَّ) ، بِالْمُعْجَمَةِ، وَشَدِّ الرَّاءِ: سَقَطَ (لِفِيهِ) ، أَيْ عَلَيْهِ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَلَى) عَلِّمْنِي، (فَقَالَ جِبْرِيلُ: فَقُلْ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ) ، قَالَ الْبَاجِيُّ: قَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو بَكْرٍ: هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَارِي، أُمِرَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهَا.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمُحَارِبِيُّ: مَعْنَاهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ، (وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ) : صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ، وَقِيلَ: الْعِلْمُ لِأَنَّهُ أَعَمُّ الصِّفَاتِ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُضَافَ إِلَى الْمَعَارِفِ يَعُمُّ.

(التَّامَّاتِ) ، أَيِ الْكَامِلَةِ، فَلَا يَدْخُلُهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ، وَقِيلَ: النَّافِعَةُ، وَقِيلَ: الشَّافِيَةُ (اللَّاتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ)، لَا يَتَعَدَّاهُنَّ (بَرٌّ) - بِفَتْحِ الْبَاءِ - تَقِيٌّ (وَلَا فَاجِرٌ) : مَائِلٌ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ لَا يَنْتَهِي عِلْمُ أَحَدٍ إِلَى مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، (مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) مِنَ الْعُقُوبَاتِ كَالصَّوَاعِقِ، (وَشَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا) مِمَّا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ، وَهُوَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ.

(وَشَرِّ مَا ذَرَأَ) : خَلَقَ (فِي الْأَرْضِ) عَلَى ظَهْرِهَا.

(وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) مِمَّا خَلَقَهُ فِي بَطْنِهَا، (وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) الْوَاقِعَةِ فِيهِمَا، وَهُوَ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ.

(وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ) : حَوَادِثِهِ الَّتِي تَأْتِي لَيْلًا، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْآتِي نَهَارًا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّبَاعِ، (إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ) - بِضَمِّ الرَّاءِ - (بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ)، زَادَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ:" فَخَرَّ لَفِيهِ، وَطَفِئَتْ شُعْلَتُهُ ".

ص: 539

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ مَا نِمْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَقَالَ لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1774 -

1726 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ) - بِفَتْحٍ، فَسُكُونٍ: قَبِيلَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ، قَالَ فِيهَا صلى الله عليه وسلم:«أَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ» ، (قَالَ: مَا نِمْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟) لَمْ تَنَمْ (فَقَالَ: لَدَغَتْنِي) ، بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ فَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، (عَقْرَبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا) - بِالْفَتْحِ، وَخِفَّةِ الْمِيمِ - (إِنَّكَ) - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - إِنْ

ص: 539

جَعَلْتَ أَمَا بِمَعْنَى أَلَا الِاسْتِفْتَاحِيَّةِ، وَبِفَتْحِهَا، إِنْ جَعَلْتَ بِمَعْنَى: حَقًّا، قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ، (لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ)، أَيْ دَخَلْتَ فِي الْمَسَاءِ:(أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ)، وَفِي رِوَايَةٍ: التَّامَّةِ بِالْإِفْرَادِ، قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: وَهُمَا بِمَعْنًى، فَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: الْجُمْلَةُ، وَبِالْوَاحِدَةِ مَا تَفَرَّقَ فِي الْأُمُورِ فِي الْأَوْقَاتِ، وَصَفَهَا بِالتَّمَامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا خَالِصَةٌ مِنَ الرَّيْبِ وَالشُّبَهِ:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115](سورة الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 115)، {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] ، أَيْ مِنْ شَرِّ خَلْقِهِ، وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ إِثْمٍ، وَمُضَارَّةِ بَعْضٍ لِبَعْضٍ مِنْ نَحْوِ: ظُلْمٍ وَبَغْيٍ، وَقَتْلٍ وَضَرْبٍ وَشَتْمٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ نَحْوِ: لَدْغٍ وَنَهْشٍ وَعَضٍّ.

(لَمْ يَضُرَّكَ) بِأَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ، وَبَيْنَ كَمَالِ تَأْثِيرِهَا بِحَسَبِ كَمَالِ التَّعَوُّذِ، وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ ; لِأَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَمْنَعُ مِنَ الدَّاءِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَتَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ، وَإِنْ وَقَعَ لَمْ يَضُرَّ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَرَّبْتُ ذَلِكَ، فَوَجَدْتُهُ صِدْقًا، تَرَكْتُهُ لَيْلَةً فَلَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ فَتَفَكَّرْتُ، فَإِذَا أَنَا نَسِيتُ هَذَا التَّعَوُّذَ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: وَهَذَا، أَيِ التَّعَوُّذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مَقَامُ مَنْ بَقِيَ لَهُ الْتِفَاتٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَمَّا مَنْ تَوَغَّلَ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ بِحَيْثُ لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهَ، لَمْ يَسْتَعِذْ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَمْ يَلْتَجِئْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَا يَرْقَى مِنْ هَذَا الْمَقَامِ قَالَ: أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، وَالرَّجُلُ الْمُخَاطَبُ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 540

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَارًا فَقِيلَ لَهُ وَمَا هُنَّ فَقَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1775 -

1727 - (مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ) - بِضَمِّ السِّينِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَشَدِّ الْيَاءِ - (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنِ الْقَعْقَاعِ) - بِقَافَيْنِ، وَعَيْنَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ - (ابْنِ حَكِيمٍ) - بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ - (أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ) بِمَنْعِ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَوَزْنِ الْفِعْلِ، (حِمَارًا) مِنْ سِحْرِهِمْ (فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُنَّ؟ فَقَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ) ، بَلْ تَخْضَعُ كُلُّ الْعُظَمَاءِ لِعَظَمَتِهِ.

(وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ) ، أَيْ لَا يَتَعَدَّاهُنَّ مَنْ كَانَ ذَا بِرٍّ، وَذَا فُجُورٍ مِنْ إِنْسٍ وَغَيْرِهِمْ.

(وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا) ، مُؤَنَّثُ الْأَحْسَنِ، (مَا عَلِمْتُ مِنْهَا، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ)

ص: 540

قِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى خَلَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(30 {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] (سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 29)، وَقَالَ:{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون: 79](سورة الْمُؤْمِنُونَ: الْآيَةُ 79)، وَقَالَ:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 54) ، أَيْ خَالِقِكُمْ، فَذِكْرُهَا لِإِفَادَةِ اتِّحَادِ مَعْنَاهَا، وَقِيلَ: الْبَرْءُ وَالذَّرْءُ يَكُونُ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَالْخَلْقُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ.

ص: 541

[مَا جَاءَ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ]

5 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ لِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1776 -

1728 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ) بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ أَبِي طُوَالَةَ - بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ - الْمَدَنِيِّ قَاضِيهَا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثِقَةٌ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَيُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ.

(عَنْ أَبِي الْحُبَابِ) - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَمُوَحَّدَتَيْنِ - (سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ) الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ مُتْقِنٌ.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّمَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ)(سورة الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 4)، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ) ، نِدَاءُ تَنْوِيهٍ وَإِكْرَامٍ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، أَيِ اسْتِعْظَامٌ (لِجَلَالِي) ، أَيْ لِعَظَمَتِي، أَيْ لِأَجْلِ تَعْظِيمِ حَقِّي وَطَاعَتِي، لَا لِغَرَضِ دُنْيَا، فَخَصَّ الْجَلَالَ بِالذِّكْرِ لِدِلَالَتِهِ عَلَى الْهَيْبَةِ وَالسَّطْوَةِ، أَيِ الْمُنَزَّهُونَ عَنْ شَوَائِبِ الْهَوَى وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فِي الْمَحَبَّةِ، فَلَا تَحَابُّونَ إِلَّا لِأَجْلِي وَلِوَجْهِي، لَا لِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، قِيلَ: التَّحَابُّ لِلْجَلَالِ أَنْ لَا يَزِيدَ الْحُبُّ بِالْبِرِّ، وَلَا يَنْقُصَ بِالْجَفَاءِ، (الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي) قَالَ عِيَاضٌ: هِيَ إِضَافَةُ خَلْقٍ وَتَشْرِيفٍ لِأَنَّ الظِّلَالَ كُلَّهَا خَلْقُ اللَّهِ، وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي ظِلِّ عَرْشِي فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُظِلُّهُمْ حَقِيقَةً مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، وَوَهَجِ الْمَوْقِفِ، وَأَنْفَاسِ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْأَكْثَرِ.

وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: كِنَايَةٌ عَنْ كَنِّهِمْ مِنَ الْمَكَارِهِ، وَجَعْلِهِمْ فِي كَنَفِهِ وَسَتْرِهِ، وَمِنْهُ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.

وَقَوْلُهُمْ: فُلَانٌ فِي ظِلِّ فُلَانٍ، أَيْ فِي كَنَفِهِ وَعِزَّتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الظِّلُّ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الرَّاحَةِ، وَالتَّنَعُّمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَيْشٌ ظَلِيلٌ، (يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) أَيْ

ص: 541

ظِلُّ عَرْشِي بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ الْمُتَقَدِّمِ، أَيْ لَا يَكُونُ مَنْ لَهُ ظِلٌّ مَجَازًا كَمَا فِي الدُّنْيَا.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ حَدِيثُ: " «الْمَرْءُ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ» "، وَحَدِيثُ:" «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ» "، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِيَامَةِ ظِلَالًا غَيْرَ ظِلِّ الْعَرْشِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ فِيهَا ظِلَالًا بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ تَقِي أَصْحَابَهَا حَرَّ الشَّمْسِ وَالنَّارِ وَأَنْفَاسِ الْخَلَائِقِ، وَلَكِنْ ظِلُّ الْعَرْشِ أَعْظَمُهَا وَأَشْرَفُهَا يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا ظِلُّ الْعَرْشِ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ أَجْمَعُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الظِّلَالُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْأَعْمَالِ، وَكَانَتِ الْأَعْمَالُ تَخْتَلِفُ، حَصَلَ لِكُلِّ عَامِلٍ ظِلٌّ يَخُصُّهُ مِنْ ظِلِّ الْعَرْشِ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، وَسَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ شُرَكَاءُ فِي ظِلِّهِ، وَهَذَا كُلُّه عَلَى أَنَّ الِاسْتِظْلَالَ حَقِيقِيٌّ، وَتَقَدَّمَ مَا لِابْنِ دِينَارٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الْبِرِّ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 542

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ إِمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1777 -

1729 - (مَالِكٌ عَنْ خُبَيْبِ) ، بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، وَمُوَحَّدَتَيْنِ، مُصَغَّرٌ (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ حَبِيبٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ أَبِي الْحَارِثِ، ثِقَةٌ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.

(عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ) بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعُمَرِيِّ التَّابِعِيِّ الثِّقَةِ.

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) بِالشَّكِّ لِرُوَاةِ الْمُوَطَّأِ إِلَّا مُصْعَبًا الزُّبَيْرِيَّ، وَمُوسَى بْنَ طَارِقٍ، فَجَعَلَاهُ عَنْهُمَا بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَشَذَّ فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، قَالَهُ الْحَافِظُ.

وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّ أَبَا مُعَاذٍ الْبَلْخِيَّ عَنْ مَالِكٍ، تَابَعَهُمَا فِي رِوَايَتِهِ بِالْوَاوِ، قَالَ: وَرَوَاهُ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْوَقَّادُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ حَفْصٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَحْدَهُ، وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ خَالِهِ خُبَيْبٍ عَنْ جَدِّهِ حَفْصٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحْدَهُ.

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْأَمَالِي: الْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ بِالشَّكِّ وَرِوَايَةُ زَكَرِيَّا خَطَأٌ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحْدَهُ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ، وَخُبَيْبٌ خَالُهُ وَحَفْصٌ جَدُّهُ، وَلَمْ يَشُكَّ فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى، وَتَابَعَهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ خُبَيْبٍ، أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ.

وَقَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ حَفِظَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَشُكَّ فِيهِ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِهِ وَجَدِّهِ (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَبْعَةٌ) مِنَ الْأَشْخَاصِ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ:(يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ) ، إِضَافَةُ مِلْكٍ، وَكُلُّ ظِلٍّ فَهُوَ مِلْكُهُ، كَذَا قَالَ عِيَاضٌ، وَحَقُّهُ أَوْ يَقُولُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِيَحْصُلَ امْتِيَازُ هَذَا عَنْ غَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ

ص: 542

لِلْكَعْبَةِ بَيْتُ اللَّهِ مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا مِلْكُهُ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَرَامَتُهُ وَرَحْمَتُهُ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي ظِلِّ الْمَلِكِ، وَهُوَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ، وَقَوَّاهُ عِيَاضٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ ظِلُّ عَرْشِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَلْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ:" «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ» "، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ اسْتَلْزَمَ كَوْنَهُمْ فِي كَنَفِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَهُوَ أَرْجَحُ، وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْحُدُودِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ ظِلُّ طُوبَى، أَوْ ظِلُّ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّ ظِلَّهُمَا إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لِجَمِيعِ مَنْ يَدْخُلُهَا، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى امْتِيَازِ أَصْحَابِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ، فَتَرَجَّحَ أَنَّ الْمُرَادَ ظِلُّ الْعَرْشِ.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ عَادِلٌ» " قَالَهُ الْحَافِظُ.

(يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ) ، أَيْ ظِلُّ عَرْشِهِ كَمَا عُلِمَ، وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ كَنَاقَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظِّلِّ إِذْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ، (إِمَامٌ عَادِلٌ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَدْلِ، كَمَا رَوَاهُ وَالْأَكْثَرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَنْ كَانَ فِي إِخْوَانِهِ غَيْرَ عَادِلٍ

فَمَا أَحَدٌ فِي الْعَدْلِ مِنْهُ بِطَامِعِ

وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: عَدْلٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُسَمَّى نَفْسَهُ عَدْلًا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُ أَمْرَ اللَّهِ بِوَضْعِ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ بِغَيْرِ إِفْرَاطٍ، وَلَا تَفْرِيطٍ، أَوِ الْجَامِعُ لِلْكَمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ: الْحِكْمَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالْعِفَّةُ الَّتِي هُوَ أَوْسَاطُ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ: الْعَقْلِيَّةُ، وَالْغَضَبِيَّةُ، وَالشَّهْوَانِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ صَاحِبُ الْوِلَايَةِ الْعُظْمَى، وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَعَدَلَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَرَفَعَهُ:" «أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَمَا وَلُوا» "، وَقَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ نَفْعَهُ أَعَمُّ.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «الْإِمَامُ الْعَادِلُ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُ» "، (وَشَابٌّ نَشَأَ) نَبَتَ وَابْتَدَأَ (فِي عِبَادَةِ اللَّهِ) ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْوَةٌ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " بِعِبَادَةِ اللَّهِ "، بِالْبَاءِ بِمَعْنَى فِي، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْجَوْزَقِيِّ: حَتَّى تُوُفِّيَ عَلَى ذَلِكَ.

وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ: " أَفْنَى شَبَابَهُ، وَنَشَاطَهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ "، وَخَصَّ الشَّبَابَ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى، فَإِنَّ مُلَازَمَةَ الْعِبَادَةِ مَعَ ذَلِكَ أَشَدُّ، وَأَدَلُّ عَلَى غَلَبَةِ التَّقْوَى.

( «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ» ) بِفَوْقِيَّةٍ بَعْدَ الْمِيمِ، وَكَسْرِ اللَّامِ، مِنَ الْعَلَاقَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الْحُبِّ (بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ) ، زَادَ فِي

ص: 543

حَدِيثِ سَلْمَانَ: " مِنْ حُبِّهَا "، وَعِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ إِيَّاهَا» "، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا آثَرَ طَاعَةَ اللَّهِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّهُ صَارَ قَلْبُهُ مُلْتَفِتًا إِلَى الْمَسْجِدِ، لَا يُحِبُّ الْبَرَاحَ عَنْهُ، لِوِجْدَانِهِ فِيهِ رُوحَ الْقُرْبَةِ، وَحَلَاوَةَ الطَّاعَةِ.

وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ حَبِيبٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مُعَلَّقٌ بِدُونِ تَاءٍ، قَالَ الْحَافِظُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ فِي الْمَسْجِدِ كَالْقِنْدِيلِ، إِشَارَةً إِلَى طُولِ الْمُلَازَمَةِ بِقَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ جَسَدُهُ خَارِجًا عَنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْجَوْزَقِيِّ:" «كَأَنَّمَا قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِدِ» "، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَلَاقَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الْحُبِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَحْمَدَ:" «مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ» "، وَكَذَا رِوَايَةُ " مُتَعَلِّقٌ " بِزِيَادَةِ الْفَوْقِيَّةِ، زَادَ سَلْمَانُ: مِنْ حُبِّهَا، ( «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا» ) بِشِدَّةِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَصْلُهُ تَحَابَبَا أَيِ اشْتَرَكَا فِي جِنْسِ الْمَحَبَّةِ، وَأَحَبَّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ حَقِيقَةً لَا إِظْهَارًا فَقَطْ.

وَفِي رِوَايَةِ الْجَوْزَقِيِّ: " «وَرَجُلَانِ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ» "، فَصَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَنَحْوِهِ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ.

(فِي اللَّهِ) ، أَيْ فِي طَلَبِ رِضَاهُ، أَوْ لِأَجْلِهِ لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، (اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ) الْحُبِّ الْمَذْكُورِ، (وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)، كَمَا زِيدَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: أَيِ اسْتَمَرَّا عَلَى الْمَحَبَّةِ الدِّينِيَّةِ، وَلَمْ يَقْطَعَاهَا بِعَارِضٍ دُنْيَوِيٍّ سَوَاءٌ اجْتَمَعَا حَقِيقَةً، أَمْ لَا حَتَّى فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ يَحْفَظَانِ الْحُبَّ فِيهِ فِي الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ.

وَوَقَعَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ: اجْتَمَعَا عَلَى خَيْرٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ، وَهِيَ عِنْدِي تَحْرِيفٌ، وَعُدَّتْ هَذِهِ الْخَصْلَةُ وَاحِدَةً مَعَ أَنَّ مُتَعَاطِيَهَا اثْنَانِ ; لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِاثْنَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُتَحَابَّانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَغْنَى عَدُّ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ عَدُّ الْخِصَالِ لَا عَدُّ جَمِيعِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا.

(وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ) بِقَلْبِهِ مِنَ التَّذَكُّرِ، أَوْ لِسَانِهِ مِنَ الذِّكْرِ، (خَالِيًا) مِنَ الْخَلْوَةِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، أَوْ خَالِيًا مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ فِي مَلَأٍ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ: ذَكَرَ اللَّهَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةٌ لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ، أَيْ مَوْضِعٍ خَالٍ وَهِيَ أَصَحُّ.

(فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) ، أَيْ فَاضَتِ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنِهِ، وَأَسْنَدَ الْفَيْضَ إِلَى الْعَيْنِ مُبَالَغَةً كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي فَاضَتْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفَيْضُ الْعَيْنِ بِحَسَبِ حَالَةِ الذَّاكِرِ، وَبِحَسَبِ مَا يَنْكَشِفُ لَهُ، فَفِي حَالِ أَوْصَافِ الْجَلَالِ يَكُونُ الْبُكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَفِي حَالِ أَوْصَافِ الْجَمَالِ يَكُونُ مِنَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ، قَالَ الْحَافِظُ: قَدْ خُصَّ بِالْأَوَّلِ فِي رِوَايَةِ الْجَوْزَقِيِّ، والْبَيْهَقِيِّ: فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.

وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْضَ مِنْ

ص: 544

دُمُوعِهِ لَمْ يُعَذَّبْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

(وَرَجُلٌ دَعَتْهُ) ، أَيْ طَلَبَتْهُ، وَبِهِ عُبِّرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:(ذَاتُ) بَيَّنَ الْمَوْصُوفَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ فَقَالَ: امْرَأَةٌ ذَاتُ (حَسَبٍ) ، أَيْ أَصْلٍ أَوْ مَالٍ ; لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: ذَاتُ مَنْصِبٍ، أَيْ أَصْلٍ أَوْ شَرَفٍ، (وَجَمَالٍ) ، أَيْ مَزِيدِ حُسْنٍ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: إِلَى نَفْسِهَا.

وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ "، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى الْفَاحِشَةِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى التَّزْوِيجِ بِهَا، فَخَافَ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالِافْتِتَانِ بِهَا، أَوْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ بِحَقِّهَا لِشُغْلِهِ بِالْعِبَادَةِ عَنِ التَّكَسُّبِ بِمَا يَلِيقُ بِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ إِلَى نَفْسِهَا، وَلَوْ أُرِيدَ التَّزْوِيجُ لَصَرَّحَ بِهِ.

(فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ:" رَبَّ الْعَالَمِينَ "، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، إِمَّا لِيَزْجُرَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ، أَوْ لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَهُ بِقَلْبِهِ، قَالَهُ عِيَاضٌ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ هَذَا عَنْ شِدَّةِ خَوْفٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَتِينِ تَقْوَى وَحَيَاءٍ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ; لِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَوْصُوفَةِ بِأَكْمَلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِمَزِيدِ الرَّغْبَةِ لِمَنْ هِيَ فِيهَا، وَهُوَ الْحَسَبُ وَالْمَنْصِبُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْجَاهِ وَالْمَالِ مَعَ الْجَمَالِ، وَقَلَّ مَنْ يَجْتَمِعُ ذَلِكَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ مِنْ أَكْمَلِ الْمَرَاتِبِ، لِكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِي مِثْلِهَا، وَعُسْرِ تَحْصِيلِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَغْنَتْ مِنْ مَشَاقِّ التَّوَصُّلِ إِلَيْهَا بِمُرَاوَدَةٍ وَنَحْوِهَا.

( «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا» ) ، أَيْ كَتَمَهَا عَنِ النَّاسِ، وَنَكِرَهَا لِيَشْمَلَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَظَاهِرُهُ يَشْمَلُ الْمَنْدُوبَةَ وَالْمَفْرُوضَةَ، لَكِنْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ إِظْهَارَ الْمَفْرُوضَةِ أَوْلَى مِنْ إِخْفَائِهَا (حَتَّى لَا تَعْلَمَ)، بِفَتْحِ الْمِيمِ نَحْوَ: سِرْتُ حَتَّى مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَضَمِّهَا نَحْوَ: مَرِضَ حَتَّى لَا يَرْجُونَهُ، (شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ) ، أَيْ لَوْ قَدَّرْتَ شِمَالَهُ رَجُلًا مُتَيَقِّظًا لَمَا عَلِمَ صَدَقَةَ الْيَمِينِ، ذَكَرَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الْإِخْفَاءِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا لِقُرْبِهِمَا وَمُلَازَمَتِهِمَا، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْجَوْزَقِيِّ: تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ كَأَنَّمَا أَخْفَى يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ، أَوْ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَيْ مَلَكُ شِمَالِهِ، أَوْ مَنْ عَلَى شِمَالِهِ مِنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُجَاوِرُ شِمَالِهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِشِمَالِهِ نَفْسُهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ، فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ نَفْسُهُ مَا تُنْفِقُ نَفْسُهُ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا يُرَائِي بِصَدَقَتِهِ، وَلَا يَكْتُبُهَا كَاتِبُ الشِّمَالِ.

وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الضَّعِيفِ الْمُكْتَسِبُ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ لِتَرْوِيجِ سِلْعَتِهِ، أَوْ رَفْعِ قِيمَتِهَا، وَاسْتَحْسَنَهُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ إِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مُرَادُ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ صُوَرِ الصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ فَمُسَلَّمٌ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ:" «حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ» "، قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ

ص: 545

مُسْلِمٍ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْنَا، وَهُوَ مَقْلُوبٌ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الصَّدَقَةِ إِعْطَاؤُهَا بِالْيَمِينِ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي الزَّكَاةِ " بَابُ الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ "، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنَّ الْوَهْمَ فِيهِ مِمَّنْ دُونَ مُسْلِمٍ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا نُوَزِعَ فِيهِ، وَعَارَضَهُ الْحَافِظُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ دُونَهُ وَلَا مِنْهُ، بَلْ مِنْ شَيْخِهِ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، أَوْ شَيْخِ شَيْخِهِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو حَامِدِ بْنُ السُّرَاقِيِّ، وَفِي جَزْمِهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ فِي الْبُخَارِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ يَحْيَى عَلَى الصَّوَابِ، وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ.

وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْحَدِيدُ، قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ النَّارُ، قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْمَاءُ، قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ الرِّيحُ، قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ ابْنُ آدَمَ، يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، فَيُخْفِيهَا عَنْ شِمَالِهِ» "، وَذِكْرُ الرَّجُلِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ فَالْمَرْأَةُ وَالْخُنْثَى مِثْلُهُ، إِلَّا فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَيُمْكِنُ دُخُولُ الْمَرْأَةِ فِي الْإِمَامِ الْعَادِلِ حَيْثُ تَكُونُ رَبَّةَ عِيَالٍ، فَتَعْدِلُ فِيهِمْ وَإِلَّا فِي مُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالْمُشَارَكَةُ حَاصِلَةٌ لَهُنَّ، حَتَّى الَّذِي دَعَتْهُ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي امْرَأَةٍ دَعَاهَا مَلِكٌ جَمِيلٌ مَثَلًا، فَامْتَنَعَتْ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ مَعَ حَاجَتِهَا، أَوْ شَابٌّ جَمِيلٌ دَعَاهُ مَلِكٌ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ مَثَلًا، فَخَشِيَ أَنْ يَرْتَكِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَةَ، فَامْتَنَعَ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُ السَّبْعَةِ الْمَذْكُورِينَ، وَوَجَّهَهُ الكِرْمَانِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الطَّاعَةَ إِمَّا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، فَالْأَوَّلُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الذَّاكِرُ، أَوْ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ أَوْ بِالْبَدَنِ، وَهُوَ النَّاشِىءُ بِالْعِبَادَةِ.

وَالثَّانِي عَامٌّ وَهُوَ الْعَادِلُ، أَوْ خَاصٌّ بِالْقَلْبِ وَهُوَ التَّحَابُّ، أَوْ بِالْمَالِ وَهُوَ الصَّدَقَةُ، أَوْ بِالْبَدَنِ وَهُوَ الْعِفَّةُ، انْتَهَى.

لَكِنْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ بَدَلَ " «وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ» "،:«وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ مَعَ قَوْمٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَانْكَشَفُوا فَحَمَى آثَارَهُمْ» ، وَفِي لَفْظٍ: أَدْبَارَهُمْ حَتَّى نَجَوْا أَوْ نَجَا أَوِ اسْتُشْهِدَ، قَالَ الْحَافِظُ: حَسَنٌ غَرِيبٌ جِدًّا.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، والْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَبْدَلَ الشَّابَّ بِقَوْلِهِ:«وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي صِغَرِهِ، فَهُوَ يَتْلُوهُ فِي كِبَرِهِ» .

وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْقُوفًا، وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ، إِذْ لَا يُقَالُ رَأْيًا، فَقَالَ بَدَلَ الْإِمَامِ وَالشَّابِّ: وَرَجُلٌ يُرَاعِي الشَّمْسَ لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَرَجُلٌ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَنْ حِلْمٍ.

وَلِابْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: «أَرْبَعَةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ، فَقَدْ عَدَّ الشَّابَّ، وَالْمُتَصَدِّقَ، وَالْإِمَامَ، قَالَ: وَرَجُلٌ تَاجِرٌ اشْتَرَى، وَبَاعَ فَلَمْ يَقُلْ إِلَّا

ص: 546

حَقًّا» ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ عَنْهُ مَرْفُوعًا:«التَّاجِرُ الصَّدُوقُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» "، وَفِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ عَنْ عُثْمَانَ رَفَعَهُ:" «أَظَلَّ اللَّهُ عَبْدًا فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ تَرَكَ لِغَارِمٍ» "، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ شَدَّادٍ رَفَعَهُ:" «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ أَسْهَلُ مِنَ الْوَضْعِ عَنْهُ فَهِيَ غَيْرُهَا.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «أَظَلَّ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ أَعَانَ أَخْرَقَ» "، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَالْأَخْرَقُ مَنْ لَا صَنْعَةَ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَعَلَّمَ صَنْعَةً.

وَلِأَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ، وَغَيْرِهِمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رَفَعَهُ:" «مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ لَهُ إِلَّا ظِلُّهُ» "، وَإِعَانَةُ الْغَارِمِ غَيْرُ التَّرْكِ لَهُ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْ إِعَانَتِهِ فَهَذِهِ عِشْرُونَ.

وَلِابْنِ عَدِيٍّ، وَصَحَّحَهُ الضِّيَاءُ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ أَظَلَّ رَأْسَ غَازٍ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، وَلِأَبِي الشَّيْخِ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ:" «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْوُضُوءُ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ، وَإِطْعَامُ الْجَائِعِ» "، قَالَ الْحَافِظُ: غَرِيبٌ وَفِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ فِي التَّرْغِيبِ فِي كُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَحَادِيثُ قَوِيَّةٌ.

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: " «مَنْ أَطْعَمَ الْجَائِعَ حَتَّى يَشْبَعَ أَظَلَّهُ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ» "، وَإِشْبَاعُ الْجَائِعِ أَخَصُّ مِنْ طَلْقِ إِطْعَامِهِ.

وَلِأَبِي الشَّيْخِ عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا: " «فَمَنْ لَزِمَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، فَلَا يَذُمُّ إِذَا اشْتَرَى، وَلَا يَحْمَدُ إِذَا بَاعَ، وَلْيَصْدُقِ الْحَدِيثَ، وَيُؤَدِّ الْأَمَانَةَ، وَلَا يَتَمَنَّى لِلْمُؤْمِنِينَ الْغَلَاءَ» "، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَحَدَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الصِّدْقِ، فَيُمْكِنُ أَنَّهَا خَصْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهِيَ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنَّ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِي» "، وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا:" «وَمَنْ كَفَلَ يَتِيمًا أَوْ أَرْمَلَةً، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ: " «أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُ إِلَى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» "، قَالَ الْحَافِظُ: غَرِيبٌ وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ.

وَلِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: " «الْحَزِينُ فِي ظِلِّ اللَّهِ» " غَرِيبٌ وَفِيهِ ضَعْفٌ.

وَلِابْنِ شَاهِينَ وَغَيْرِهِ عَنِ الصِّدِّيقِ رَفَعَهُ: " «الْوَالِي الْعَادِلُ ظِلُّ اللَّهِ وَرُمْحُهُ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ نَصَحَهُ فِي نَفْسِهِ، وَفِي عِبَادِ اللَّهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ بِظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» "، وَلِأَبِي الشَّيْخِ وَغَيْرِهِ عَنِ الصِّدِّيقِ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ بِظِلِّهِ، فَلَا يَكُنْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غَلِيظًا، وَلْيُكَنْ بِالْمُؤْمِنِينَ

ص: 547

رَحِيمًا» "، وَلِابْنِ السُّنِّيِّ، وَالدَّيْلَمِيِّ بِإِسْنَادٍ وَاهٍ عَنِ الصِّدِّيقِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَا: "«قَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ: مَا جَزَاءُ مَنْ عَزَّى الثَّكْلَى؟ قَالَ: أُظِلُّهُ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي» "، وَلِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: " بَلَغَنِي أَنَّ مُوسَى قَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ يُظَلُّ تَحْتَ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَعُودُونَ الْمَرْضَى، وَيُشَيِّعُونَ الْهَلْكَى، وَيُعَزُّونَ الثَّكْلَى "، وَلِأَبِي سَعِيدٍ السُّكَّرِيِّ بِإِسْنَادٍ وَاهٍ جِدًّا عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: "«السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طُوبَى لَهُمْ، قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: شِيعَتُكَ يَا عَلِيُّ وَمَحِبُّوكَ» "، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "«قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ مَنْ يَسْتَظِلُّ بِظِلِّكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ بِأَعْيُنِهِمُ الزِّنَى، وَلَا يَبْتَغُونَ فِي أَمْوَالِهِمُ الرِّبَا، وَلَا يَأْخُذُونَ عَلَى أَحْكَامِهِمُ الرِّشَا» "، قَالَ الْحَافِظُ: غَرِيبٌ لَيْسَ فِي رُوَاتِهِ مَنِ اتَّفَقَ عَلَى تَرْكِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَهُ الرَّفْعُ ; لِأَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَالتَّيْمِيُّ فِي تَرْغِيبِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «ثَلَاثَةٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ آمِنِينَ، وَالنَّاسُ فِي الْحِسَابِ: رَجُلٌ لَمْ يَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَرَجُلٌ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَرَجُلٌ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى مَا حَرُمَ عَلَيْهِ» "، وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الصَّقْرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" «مَنْ قَرَأَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ أَوَّلَ الْأَنْعَامِ إِلَى وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ نَزَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ أَعْمَالِهِمْ» " الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:" «فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ: امْشِ فِي ظِلِّي» ".

وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ:" «ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: وَاصِلُ الرَّحِمِ، وَامْرَأَةٌ مَاتَ زَوْجُهَا وَتَرَكَ أَيْتَامًا صِغَارًا، فَقَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُ حَتَّى يَمُوتُوا أَوْ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ، وَعَبْدٌ صَنَعَ طَعَامًا، فَأَطَابَ صُنْعَهُ، وَأَحْسَنَ نَفَقَتَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ فَأَطْعَمَهُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ» "، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ:" «ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ حَيْثُ تَوَجَّهَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ إِلَى نَفْسِهَا، فَتَرَكَهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ يُحِبُّ النَّاسَ لِجَلَالِ اللَّهِ فِيهِ» "، مَتْرُوكٌ.

وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ مِمَّنْ يُظَلُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، وَأَفْرَدَ الْمُؤَذِّنَ عَنْ مُرَاعِي الشَّمْسِ ; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ مُؤَذِّنًا.

وَالدَّيْلَمِيُّ بِلَا سَنَدٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «ثَلَاثٌ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: مَنْ فَرَّجَ عَنْ مَكْرُوبٍ مِنْ أُمَّتِي، وَأَحْيَا سُنَّتِي، وَأَكْثَرَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ» "، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ فِي ظِلِّ اللَّهِ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ» "، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ حَمَلَهُ كَوْنُهُ تَعَلَّمَهُ فِي صِغَرِهِ فَهِيَ غَيْرُ السَّابِقَةِ.

وَلِأَبِي يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: " «إِنَّ الْمَرِيضَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» ".

وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «أَهْلُ الْجُوعِ فِي الدُّنْيَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ يَسْتَظِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ:" «يُوضَعُ لِلصَّائِمِينَ مَوَائِدُ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْعَرْشِ» "، وَفِي أَمَالِي ابْنِ نَاصِرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: " «مَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ

ص: 548

يَوْمًا وَضَعَ اللَّهُ لَهُ مَائِدَةً فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» "، وَهُوَ شَدِيدُ الْوَهَى، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: "«مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْمَغْرِبِ قَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ الْفَاتِحَةَ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا يُحْجَبُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى ظِلِّ الْعَرْشِ» "، وَهَذَا مُنْكَرٌ.

وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ» "، وَالطَّبَرَانِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنَهُ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ» "، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ وَهْبٍ:" «قَالَ مُوسَى: إِلَهِي مَنْ ذَكَرَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ؟ قَالَ: أُظِلُّهُ بِظِلِّ عَرْشِي» "، وَلِابْنِ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" «إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى: الَّذِي لَا يَحْسُدُ النَّاسَ، وَلَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ، وَلَا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» "، وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ:" «أَنَّ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ مَنْ تُؤْوِيهِ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ؟ قَالَ: هُمُ الطَّاهِرَةُ قُلُوبُهُمُ الْبَرِيَّةُ أَبْدَانُهُمْ، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرُوا بِي، وَإِذَا ذُكِرُوا ذُكِرْتُ بِهِمْ، الَّذِينَ يُنِيبُونَ إِلَى ذِكْرِي وَيَغُضُّونَ لِمَحَارِمِي، وَيَكْلَفُونَ بِحُبِّي» "، زَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ:" «الَّذِينَ يَعْمُرُونَ مَسَاجِدِي، وَيَسْتَغْفِرُونِي بِالْأَسْحَارِ» "، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ:" «إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى: الَّذِينَ أَذْكُرُهُمْ وَيَذْكُرُونِي فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي» "، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «يَقُولُ اللَّهُ: قَرِّبُوا أَهْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ ظِلِّ عَرْشِي، فَإِنِّي أُحِبُّهُمْ» "، وَالْمُرَادُ: خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ.

وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: " «الشُّهَدَاءُ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» "، وَلِأَبِي دَاوُدَ صَحِيحًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» "، وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:" «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُعَلِّمِينَ، وَأَطِلْ أَعْمَارَهُمْ، وَأَظِلَّهُمْ تَحْتَ ظِلِّكَ، فَإِنَّهُمْ يُعَلِّمُونَ كِتَابَكَ» "، قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: مَوْضُوعٌ.

وَلِأَبِي الشَّيْخِ، وَالدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوعًا:" «ثَلَاثَةٌ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ: الْقُرْآنُ يُحَاجُّ الْعِبَادَ، وَالْأَمَانَةُ، وَالرَّحِمُ يُنَادِي أَلَا مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» "، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ عَنِ التَّوْرَاةِ:" مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى طَاعَتِي، فَلَهُ صُحْبَتِي فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْقَبْرِ، وَفِي الْقِيَامَةِ ظِلِّي "، وَفِي أَمَالِي ابْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا:" «أَنَا فِي ظِلِّ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، وَيُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنَاقِبِ عَلِيٍّ رضي الله عنه:" أَنَّهُ يَسِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِوَاءِ الْحَمْدِ وَهُوَ حَامِلُهُ، وَالْحَسَنُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْحُسَيْنُ عَنْ يَسَارِهِ، حَتَّى يَقِفَ بَيْنَهُ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ "، وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ:" «أَنَا وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قُبَّةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ» "، وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَّ نَبِيِّنَا وَإِبْرَاهِيمَ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحُسَيْنِ، لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَصْفِيَاءِ، كَمَا أَنَّ عَدَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِهِ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الشُّهَدَاءِ، هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي مُؤَلَّفِهِ قَائِلًا: هَذَا مَا يَسَّرَ اللَّهُ لِيَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ فِي

ص: 549

مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَصْرِ فِيهِ، بَلْ بَابُ الْفَضْلِ مَفْتُوحٌ، وَوَقَفَ بِهَا السُّيُوطِيُّ إِلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ، وَنَظَمَهَا، وَاعْتَرَضَهُ السَّخَاوِيُّ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَا لَا تَصْرِيحَ فِيهِ بِالْمُرَادِ مِنْهُ فِي أَحَادِيثِهِ، وَإِنْ أَشْعَرَتْ بِهِ كَالزُّهْدِ، وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَصَالِحِ الْعَبِيدِ، وَالْإِمَامِ الْمُرْتَضَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ أُرِيدَ اسْتِيفَاءُ مَا شَابَهَ ذَلِكَ لَزَادَتْ كَثِيرًا، وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ، وَقَدْ كُنْتُ لَخَّصْتُ تَأْلِيفَ السَّخَاوِيِّ فِي وُرَيْقَاتٍ، وَنَظَمْتُ هَذِهِ الْخِصَالَ تَذْيِيلًا عَلَى بَيْتِ أَبِي شَامَةَ، وَأَبْيَاتِ الْحَافِظِ فَقُلْتُ:

أَتَى فِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ سَبْعَةٌ

يُظِلُّهُمُ اللَّهُ الْكَرِيمُ بِظِلِّهِ

أَشَارَ لَهُمْ نَظْمًا إِمَامُ زَمَانِهِ

أَبُو شَامَةَ إِذْ قَالَ فِي بَيْتِ وَصْلِهِ

مُحِبٌّ عَفِيفٌ نَاشِىءٌ مُتَصَدِّقٌ

وَبَاكٍ مُصَلٍّ وَالْإِمَامُ بِعَدْلِهِ

وَزَادَ عَلَيْهِ الْعَسْقَلَانِيُّ بَعْدَهُ

ثَلَاثًا مِنَ السَّبْعَاتِ نَظْمًا بِقَوْلِهِ

وَزِدْ سَبْعَةً إِظْلَالُ غَازٍ وَعَوْنُهُ

وَإِنْظَارُ ذِي عُسْرٍ وَتَخْفِيفُ حَمْلِهِ

وَحَامِي غُزَاةٍ حِينَ وَلَّوْا وَعَوْنُ ذِي

غَرَامَةِ حَقٍّ مَعَ مُكَاتَبِ أَهْلِهِ

وَزِدْ مَعَ ضَعْفٍ سَبْعَتَيْنِ إِعَانَةً

لَا خَرْقَ مَعَ أَخْذِ الْحَقِّ وَبَذْلِهِ

وَكُرْهُ وُضُوءٍ ثُمَّ مَشْيٌ لِمَسْجِدٍ

وَتَحْسِينُ خُلْقٍ ثُمَّ مُطْعِمُ فَضْلِهِ

وَكَافِلُ ذِي يُتْمٍ وَأَرْمَلَةٍ وَهَتْ

وَتَاجِرُ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ

وَحُزْنٌ وَتَصْبِيرٌ وَنُصْحٌ وَرَأْفَةٌ

تُرَبَّعُ بِهَا السَّبْعَاتُ مِنْ فَيْضِ فَضْلِهِ

وَقَدْ زَادَهَا سِتًّا بِضَعْفٍ وَلَمْ تَقَعْ

مُنَظَّمَةً مِنْهُ فَخُذْ نَظْمَ جُمَلِهِ

فَحُبُّ عَلِىٍّ ثُمَّ تَرْكُ الرِّشْوَةِ

زِنًا وَرِبًا حُكْمٌ لِغَيْرٍ كَمِثْلِهِ

وَمِنْ أَوَّلِ الْأَنْعَامِ آيٍ ثَلَاثَةٍ

عَقِيبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ غَايَةُ نَفْلِهِ

وَأَوْصَلَهَا الشَّيْخُ السَّخَاوِيُّ أَرْبَعًا

وَتِسْعِينَ مَعَ ضَعْفٍ لِإِسْنَادِ جُلِّهِ

مُرَاقِبُ شَمْسٍ لِلْمَوَاقِيتِ سَاكِتٌ

بِحِلْمٍ وَعَنْ عِلْمٍ يَقُولُ وَعَقْلِهِ

وَمَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ حَالَةَ صِغَرِهِ

وَفِي كِبَرٍ يَتْلُو وَحَامِلُ كُلِّهِ

مَرِيضٌ وَتَشْيِيعٌ لِمَيْتٍ عِيَادَةٌ

شَهِيدٌ وَمَنْ فِي أُحُدٍ فَازَ بِقَتْلِهِ

ص: 550

وَعَلِمَ بِأَنَّ اللَّهَ مَعَهُ وَتَاجِرٌ

أَمِينٌ بِلَا مَدْحٍ وَذَمٍّ لِرَحْلِهِ

وَمَنْ لَمْ يَمُدَّ الْيَدَ نَحْوَ مُحَرَّمٍ

عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى غَيْرِ حِلِّهِ

مُحْسِنٌ طَعِمٌ لِلْفَقِيرِ مُصَدِّقٌ

عَلَى مُعْسِرٍ تَرَكَ الْغَرِيمَ لِعُسْرِهِ

وَكَافِلَةٌ أَيْتَامَهَا بَعْدَ زَوْجِهَا

وَمُشْبِعُ جُوعٍ ثُمَّ وَاصِلُ أَهْلِهِ

مُحِبُّ الْأَنَاسِيِّ لِلْجَلَالِ مُؤَذِّنٌ

وَمَنْ لَمْ يَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمًا لِعَدْلِهِ

كَذَا رَحِمٌ ثُمَّ الْأَمَانَةُ بَعْدَهَا

خِيَارُ ذَوِي التَّوْحِيدِ طَيِّبُ فِعْلِهِ

مُفَرِّجُ كُرَبٍ ثُمَّ مُحْيٍ لِسُنَّةٍ

مُصَلٍّ عَلَى الْهَادِي كَثِيرًا بِأَجْلِهِ

قِرَانٌ وَأَهْلُ الْجُوعِ خَوْفًا وَصَائِمٌ

ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ رَجَبِ حَوْلِهِ

وَمَنْ يَقْرَأِ الْإِخْلَاصَ مِنْ بَعْدِ مَغْرِبٍ

ثَلَاثِينَ فِي ثِنْتَيْنِ مِنْ بَعْدِ نَفْلِهِ

وَأَطْفَالُ ذِي الْإِيمَانِ نَجْلِ نَبِيِّنَا

وَغَيْرُ حَسُودٍ لَا يَعُقُّ لِأَصْلِهِ

وَطَاهِرُ قَلْبٍ لَيْسَ يَمْشِي نَمِيمَةً

بَرِيءٌ وَمَكْلُوفٌ بِحُبٍّ لِرَبِّهِ

مُنِيبٌ وَمَذْكُورٌ بِذِكْرِ إِلَهِهِ

لِحُرْمَتِهِ غَضْبَانُ دَاعٍ لِسُبْلِهِ

وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ لِمُنْكَرٍ

وَذِكْرٌ بِقَلْبٍ مَعَ لِسَانٍ لِنُبْلِهِ

وَمُسْتَغْفِرُ الْأَسْحَارِ عَمَّارُ مَسْجِدٍ

كَذَلِكَ سَوَّامٌ مُعَلِّمُ طِفْلِهِ

وَمَنْ يَذْكُرُ الرَّحْمَنَ مَعَ ذِكْرِهِمْ لَهُ

كَذَا أَنْبِيَاءُ اللَّهِ مَعَ أَهْلِ صَفْوِهِ

خَلِيلُ إِلَهِ الْعَرْشِ فَاطِمَةٌ كَذَا

عَلِيٌّ وَنَجْلَاهُ وَخَاتَمُ رُسْلِهِ

عَلَيْهِ صَلَاةٌ مَعَ سَلَامٍ بِهِ نَرَى

بِحُرْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامِ بِظِلِّهِ

ص: 551

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ قَالَ لِجِبْرِيلَ قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ الْعَبْدَ»

قَالَ مَالِكٌ لَا أَحْسِبُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1778 -

1730 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ) - بِضَمِّ السِّينِ - (ابْنِ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ» ) ، أَيْ رضي الله عنه، وَأَرَادَ بِهِ خَيْرًا وَهَدَاهُ وَوَفَّقَهُ، قَالَ عِيَاضٌ: الْمَحَبَّةُ: الْمَيْلُ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، فَالْمَعْنَى إِرَادَةُ الْخَيْرِ لَهُ، وَإِيصَالُهُ إِلَيْهِ، انْتَهَى.

فَيَرْجِعُ الْأَوَّلُ إِلَى صِفَةِ مَعْنًى، هِيَ الْإِرَادَةُ، وَالثَّانِي إِلَى صِفَةِ فِعْلٍ، هِيَ الْإِيصَالُ.

(قَالَ لِجِبْرِيلَ: قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ) أَنْتَ يَا جِبْرِيلُ، بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ، وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَفَتْحِ

ص: 551

الْمُوَحَّدَةِ، ثَقِيلَةٍ بِإِدْغَامِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ، وَالْأَصْلُ: فَأَحْبِبْهُ.

(فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي) بِأَمْرِ اللَّهِ، إِذْ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا مَا يُؤْمَرُونَ (فِي أَهْلِ السَّمَاءِ)، زَادَ فِي مُسْلِمٍ: فَيَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ» ) ، مَا قَابَلَ الْأَرْضَ، فَالْمُرَادُ: السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا إِعْلَامٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمْرُهُ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِهِ وَتَشْرِيفٌ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَلَأِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ.

قَالَ عِيَاضٌ: مَحَبَّةُ جِبْرِيلَ، وَالْمَلَائِكَةِ تَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْمَيْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا ثَنَاؤُهُمْ عَلَيْهِ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ.

(ثُمَّ يَضَعُ لَهُ الْقَبُولَ) - بِفَتْحِ الْقَافِ -: الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَى، وَمَيْلُ النَّفْسِ (فِي) أَهْلِ (الْأَرْضِ) ، أَيْ يُحْدِثُ لَهُ فِي الْقُلُوبِ مَوَدَّةً، وَيَزْرَعُ لَهُ فِيهَا مَهَابَةً، فَتُحِبُّهُ الْقُلُوبُ، وَتَرْضَى عَنْهُ النُّفُوسُ مِنْ غَيْرِ تَوَدُّدٍ مِنْهُ، وَلَا تَعَرُّضٍ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ مِنْ قَرَابَةٍ، أَوْ صَدَاقَةٍ، أَوِ اصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِرَاعٌ مِنْهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً، تَخْصِيصًا مِنْهُ لِأَوْلِيَائِهِ بِكَرَامَةٍ خَاصَّةٍ، كَمَا يَقْذِفُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ الرُّعْبَ وَالْهَيْبَةَ إِعْظَامًا لَهُمْ، وَإِجْلَالًا لِمَكَانِهِمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ يَبْتَدِئُ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96](سورة مَرْيَمَ: الْآيَةُ 96)، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إِلَى النَّاسِ، انْتَهَى.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَنْشَأُ عِنْدَهُمْ هَيْبَتُهُ وَإِعْزَازُهُمْ لَهُ:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8](سورة الْمُنَافِقُونَ: الْآيَةُ 8)، قَالَ الْأَبِيُّ: وَلَا يُشْكَلُ عَلَى الْحَدِيثِ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا يَعْرِفُ فَضْلًا عَنْ وَضْعِ الْقَبُولِ لَهُ بِدَلِيلِ خَبَرِ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ» ; لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا أَحَبَّهُ قَدْ يَضَعُ، فَالْقَضِيَّةُ مُهْمَلَةٌ فِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ ; لِأَنَّ " إِذَا وَإِنْ " إِهْمَالٌ فِي الشَّرْطِيَّاتِ، لَا كُلِّيَّةٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَنْطِقِ.

( «وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ الْعَبْدَ» ) ، أَيْ أَرَادَ بِهِ شَرًّا وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْهِدَايَةِ،

(قَالَ مَالِكٌ: لَا أَحْسِبُهُ) ، لَا أَظُنُّ سُهَيْلًا (إِلَّا قَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ تَخْتَلِفْ رِوَايَةُ مَالِكٍ فِيمَا عَلِمْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ سُهَيْلٍ جَمَاعَةٌ لَمْ يَشُكُّوا، مِنْهُمْ: مَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرِ الْبُغْضَ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ عَنْ سُهَيْلٍ بِسَنَدِهِ فَقَالَ: " «وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» "، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ

ص: 552

الْقَارِيِّ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَالْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: كُلُّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ بْنِ الْمُسَيَّبِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبُغْضِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ: كُنَّا بِعَرَفَةَ فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ، فَقَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ إِنِّي أَرَى اللَّهَ يُحِبُّ عُمَرَ، قَالَ وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: لِمَا لَهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، قَالَ: بِأَبِيكَ! أَنْتَ سَمِعْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ سُهَيْلٍ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ بِدُونِ ذِكْرِ الْبُغْضِ.

ص: 553

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ «دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَإِذَا فَتًى شَابٌّ بَرَّاقُ الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ قَوْلِهِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي قَالَ فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ فَقَالَ أَللَّهِ فَقُلْتُ أَللَّهِ فَقَالَ أَللَّهِ فَقُلْتُ أَللَّهِ فَقَالَ أَللَّهِ فَقُلْتُ أَللَّهِ قَالَ فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1779 -

1731 (مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ) - بِمُهْمَلَةٍ، وَزَايٍ - سَلَمَةَ (ابْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ) ، اسْمُهُ عَائِذُ اللَّهِ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ، ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ (الْخَوْلَانِيِّ) التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ، وُلِدَ عَامَ حُنَيْنٍ، (أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ) ، بِكَسْرِ الدَّالِّ، وَفَتْحِ الْمِيمِ بِالشَّامِ، (فَإِذَا فَتًى شَابٌّ بَرَّاقُ الثَّنَايَا) ، أَيْ أَبْيَضُ الثَّغْرِ حَسَنُهُ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: كَثِيرُ التَّبَسُّمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ، وَفِي أُخْرَى: وَضِيءُ الْوَجْهِ أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ، وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عِشْرُونَ، وَفِي أُخْرَى: ثَلَاثُونَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ فَوْقَ الْعِشْرِينَ وَدُونَ ثَلَاثِينَ.

(إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ)، أَيْ صَعِدُوا إِلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقِفُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَأْخُوذٌ، مِنْ أَسْنَدَ إِلَى الْجَبَلِ إِذَا صَعِدَ فِيهِ، وَفِيهِ لُطْفٌ هُنَا ; لِأَنَّهُ جَبَلُ عِلْمٍ بِنَصِّ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " «أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» "، (وَصَدَرُوا عَنْ قَوْلِهِ)، وَلِقَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ: فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَقَالَ قَوْلًا، انْتَهَوْا إِلَى قَوْلِهِ.

(فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقِيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ) ، أَيِ التَّبْكِيرِ إِلَى كُلِّ صَلَاةٍ، لِحَدِيثِ:" «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ» "، وَلَمْ يُرِدِ الْخُرُوجَ فِي الْهَاجِرَةِ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: وَهِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ.

(وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، قَالَ: فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ) ، أَيْ أَتَمَّهَا، (ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ) : جِهَةِ (وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ) لَا

ص: 553

لِغَرَضٍ (فَقَالَ: آللَّهِ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ، وَالْخَفْضِ، (فَقُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ) أَبُو إِدْرِيسَ، (فَقَالَ مُعَاذٌ) ثَانِيًا:(آللَّهِ، فَقُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ) أَبُو إِدْرِيسَ: (فَأَخَذَ) مُعَاذٌ (بِحُبْوِ رِدَائِي) - بِضَمِّ الْحَاءِ، وَإِسْكَانِ الْبَاءِ - أَيْ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُحْتَبَى بِهِ مِنَ الرِّدَاءِ، فَالْحُبْوَةُ: ضَمُّ السَّاقَيْنِ إِلَى الْبَطْنِ بِثَوْبٍ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مَالِكٍ: فَأَخَذَ بِحُبْوَتِي، لَمْ يَقُلْ: رِدَائِي، (فَجَبَذَنِي)، تَقْدِيمُ الْبَاءِ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ بِمَعْنَى: جَذَبَنِي بِتَقْدِيمِ الذَّالِ، وَلَيْسَتْ مَقْلُوبَةً كَمَا زَعَمَ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ، فَقَالَ: لَيْسَ أَحَدُهُمَا مَأْخُوذًا مِنَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُتَصَرِّفٌ فِي نَفْسِهِ، أَيْ جَرَّنِي وَسَحَبَنِي.

(وَقَالَ: أَبْشِرْ) ، بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ، أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، ( «فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: وَجَبَتْ» ) ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ: حَقَّتْ (مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ) ، بِلَفْظِ الْجَمْعِ هُنَا، وَفِيمَا بَعْدَهُ (فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ) ، أَيْ يَتَجَالَسُونَ فِي مَحَبَّتِي بِذِكْرِي، وَكَانَ الْجُنَيْدُ مَشْغُولًا فِي خَلْوَتِهِ، فَإِذَا جَاءَ إِخْوَانُهُ خَرَجَ وَقَعَدَ مَعَهُمْ، وَيَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ مُجَالَسَتِكُمْ مَا خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ لِمُجَالَسَةِ الْخَوَاصِّ أَثَرًا فِي صَفَاءِ الْحُضُورِ، وَنَشْرِ الْعُلُومِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ.

(وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ)، قَالَ الْبَاجِيُّ: الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ يَبْذُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ نَفْسَهُ، وَمَالَهُ فِي مُهِمَّاتِهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ فِي اللَّهِ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ بِبَذْلِ نَفْسِهِ لَيْلَةَ الْغَارِ، وَبَذْلِ مَالِهِ.

(وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ) ، لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَلَا أُخْرَوِيٍّ.

زَاد الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: وَالْمُتَصَادِقِينَ فِيَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَهَتْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ، فَتَعَلَّقَتْ بِتَوْحِيدِهِ فَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِرُوحِهِ، وَرُوحُ الْجَلَالِ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنْ أَنْ يُوصَفَ، فَإِذَا وَجَدَتْ قُلُوبُهُمْ نَسِيمَ رُوحِ الْجَلَالِ كَادَتْ تَطِيرُ فِي أَمَاكِنِهَا شَوْقًا إِلَيْهِ، فَهُمْ مَحْبُوسُونَ بِهَذَا الْهَيْكَلِ، فَصَارُوا فِي اللِّقَاءِ يَهِشُّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ائْتِلَافًا، وَتَلَذُّذًا، وَشَوْقًا لِمَحْبُوبِهِمُ الْأَعْظَمِ، فَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ لَهُمُ الْحُبُّ فَفَازُوا بِكَمَالِ الْقُرْبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، قَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ لِقَاءُ أَبِي إِدْرِيسَ لِمُعَاذٍ، وَأَنْكَرَتْهُ طَائِفَةٌ لِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ: أَدْرَكْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا وَفَاتَنِي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِذَا قَالَ قَوْمٌ وَهِمَ مَالِكٌ، فَأَسْقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ، وَزَعَمُوا أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ مُعَاذٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: غَلِطَ أَبُو حَازِمٍ فِي قَوْلِهِ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ مُعَاذٍ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ

ص: 554

الصَّامِتِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَخَرُّصٌ، وَظَنٌّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، فَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ سَوَاءً مِنْهُمُ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَجَاءَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى غَيْرِ أَبِي حَازِمٍ مِنْهُمُ: الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، كِلَاهُمَا عِنْدَ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ، وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: حَدَّثَنِي عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَتَحَابُّونَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ لَقِيَ مُعَاذًا، وَسَمِعَ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ فِي هَذَا عَلَى مَالِكٍ، وَلَا عَلَى أَبِي حَازِمٍ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ: فَاتَنِي مُعَاذٌ، عَلَى فَوَاتِ لُزُومٍ وَطُولِ مُجَالَسَتِهِ، أَوْ فَاتَنِي فِي حَدِيثِ كَذَا، أَوْ مَعْنَى كَذَا، وَلَيْسَ سَمَاعُهُ مِنْهُ بِمُنْكَرٍ، فَإِنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَمَاتَ مُعَاذٌ بِالشَّامِ سَنَةَ ثَمَانَ عَشْرَةَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ عَنْ عُبَادَةَ، لِجَوَازِ أَنَّ عُبَادَةَ وَمُعَاذًا وَغَيْرَهُمَا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

ص: 555

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ السَّمْتِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1780 -

1732 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ) مَوْقُوفًا، وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، إِذْ هُوَ لَا يُقَالُ رَأْيًا.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرَخْسَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْقَصْدُ) أَيِ التَّوَسُّطُ فِي الْأُمُورِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، (وَالتُّؤَدَةُ) ، بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ، وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَيِ الرِّفْقُ وَالتَّأَنِّي، (وَحُسْنُ السَّمْتِ) : الْهَيْئَةُ وَالْمَنْظَرُ، وَأَصْلُ السَّمْتِ: الطَّرِيقُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلزِّيِّ الْحَسَنِ، وَالْهَيْئَةِ الْمُثْلَى فِي الْمَلْبَسِ وَغَيْرِهِ، (جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَصِفَاتِهِمُ الَّتِي طُبِعُوا عَلَيْهَا، وَأُمِرُوا بِهَا، وَجُبِلُوا عَلَى الْتِزَامِهَا، قَالَ: وَنَعْتَقِدُ هَذِهِ التَّجْزِئَةَ، وَلَا نَدْرِي وَجْهَهَا، يَعْنِي: لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّةِ، فَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ، وَالِاسْتِنْبَاطُ مَسْدُودٌ.

ص: 555

[باب الرُّؤْيَا]

كِتَابُ الرُّؤْيَا

بَابُ مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَا

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

52 -

كِتَابُ الرُّؤْيَا

1 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَا

بِالْقَصْرِ مَصْدَرٌ كَالْبُشْرَى مُخْتَصَّةٌ غَالِبًا بِشَيْءٍ مَحْبُوبٍ يُرَى مَنَامًا كَذَا قَالَهُ جَمْعٌ.

وَقَالَ آخَرُونَ: الرُّؤْيَا كَالرُّؤْيَةِ جُعِلَتْ أَلِفُ التَّأْنِيثِ فِيهَا مَكَانَ تَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ وَالْيَقْظَانُ.

1781 -

1733 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ)، زَيْدٍ (الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ) ، أَيِ الصَّادِقَةُ، أَوِ الْمُبَشِّرَةُ احْتِمَالَانِ لِلْبَاجِيِّ (مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ) ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ اتِّفَاقًا، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَالْمُرَادُ غَالِبُ رُؤْيَا الصَّالِحِينَ، وَإِلَّا فَالصَّالِحُ قَدْ يَرَى الْأَضْغَاثَ، وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ لِقِلَّةِ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ.

(جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) ، مَجَازًا لَا حَقِيقَةً ; لِأَنَّ النُّبُوَّةَ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم وَجُزْءُ النُّبُوَّةِ لَا يَكُونُ نُبُوَّةً، كَمَا أَنَّ جُزْءَ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ صَلَاةً، نَعَمْ إِنْ وَقَعَتْ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ حَقِيقَةً، وَقِيلَ: إِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِهِ، فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا، وَإِنِ انْقَطَعَتْ فَعِلْمُهَا بَاقٍ، وَتُعِقِّبَ بِقَوْلِ مَالِكٍ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حِينَ سُئِلَ: أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ؟ ثُمَّ قَالَ: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا نُبُوَّةٌ بَاقِيَةٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتِ النُّبُوَّةَ مِنْ جِهَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا بِلَا عِلْمٍ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا نُبُوَّةٌ مِنْ جِهَةِ الِاطِّلَاعِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ الرُّؤْيَا بِالنُّبُوَّةِ، وَجُزْءُ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ وَصْفِهِ لَهُ، كَمَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَافِعًا صَوْتَهُ لَا يُسَمَّى مُؤَذِّنًا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَفْهُومُهُ أَنَّهَا مِنْ غَيْرِ الصَّالِحِ لَا يُقْطَعُ بِأَنَّهَا كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَرَجَ

ص: 556

عَلَى جَوَابِ سَائِلٍ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ الْآتِي: يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ، أَوْ تُرَى لَهُ، فَعَمَّ قَوْلُهُ يَرَى الصَّالِحُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ الرُّؤْيَا نَوْعٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ نَوْعًا مِنْ نُزُولِ الْوَحْيِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَلَى ضُرُوبٍ، وَأَنْ تَكُونَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ ; لِأَنَّ فِيهَا مَا يُعْجِزُ كَالطَّيَرَانِ، وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ، وَذَلِكَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ النُّبُوَّةِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ ; لِأَنَّ الرَّائِيَ يُخْبِرُ بِعِلْمِ مَا غَابَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَأَشْبَهُ بِالْأُصُولِ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إِلَّا مَلِكٌ، أَوْ نَبِيٌّ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ الَّذِي أَرَادَ صلى الله عليه وسلم بَيَانَهُ أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ فِيهَا اطِّلَاعًا عَلَى الْغَيْبِ مِنْ وَجْهٍ مَا، وَأَمَّا تَفْصِيلُ النِّسْبَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ دَرَجَةُ النُّبُوَّةِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ مِمَّا أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَالِمَ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ شَيْءٍ جُمْلَةً، وَتَفْصِيلًا، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْعَالِمِ حَدًّا يَقِفُ عِنْدَهُ، فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ الْمُرَادُ بِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا، وَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السَّفَاقُسِيِّ: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ فِي الْمَنَامِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَقَظَةً بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْوَحْيِ فِي الْمَنَامِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا لِأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى الصَّحِيحِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا بَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَبْقَى حَدِيثُ سَبْعِينَ جُزْءًا لَا مَعْنَى لَهُ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا تَحْتَمِلُهُ قِسْمَةُ الْحِسَابِ، وَالْعَدَدِ، فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى قَائِلِهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ خَبَرًا، وَلَمْ نَسْمَعْ فِيهِ أَثَرًا، وَلَا ذَكَرَ مُدَّعِيهِ فِيهِ خَبَرًا، فَكَأَنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ يَلْزَمُنَا حُجَّتُهُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَأَيَّامِ الصِّيَامِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ فَإِنَّا لَا نَصِلُ مِنْ عِلْمِهَا إِلَى أَمْرٍ يُوجِبُ حَصْرَهَا تَحْتَ أَعْدَادِهَا، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي مُوجِبِ اعْتِقَادِنَا لِلِزُومِهَا، قَالَ: وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَحْسُوبَةٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ بِهَا سَائِرُ الْأَوْقَاتِ الَّتِي أُوحِيَ إِلَيْهِ فِيهَا مَنَامًا فِي طُولِ الْمُدَّةِ، كَرُؤْيَا أُحُدٍ وَدُخُولِ مَكَّةَ، فَتُلَفَّقُ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةٌ أُخْرَى تُزَادُ فِي الْحِسَابِ، فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا.

وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ عَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ، وَحْيُ الْمَنَامِ الْمُتَابِعُ، فَمَا وَقَعَ فِي غُضُونِ وَحْيِ الْيَقَظَةِ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَحْيِ الْيَقَظَةِ، فَهُوَ مَغْمُورٌ فِي جَانِبِ وَحْيِهَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرُوا مُنَاسَبَاتٍ غَيْرَ ذَلِكَ يَطُولُ ذِكْرُهَا.

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ "، وَلَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا "، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ:" مِنْ سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ "، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

وَعِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: " جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ "، وَعِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ "، وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي رَزِينٍ:" جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ "، وَلِابْنِ جَرِيرٍ عَنْ عُبَادَةَ:

ص: 557

" جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ "، وَابْنِ النَّجَّارِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ "، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: وَفِي رِوَايَةِ عُبَادَةَ: " مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ "، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَصْحِيفًا، فَالْجُمْلَةُ عَشْرُ رِوَايَاتٍ، وَالْمَشْهُورُ " سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ "، وَهُوَ مَا فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ اخْتِلَافِ الْأَعْدَادِ بِأَنَّهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّثَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ لَمَّا أَكْمَلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ مَجِيءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، حَدَّثَ بِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ إِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، وَلَمَّا أَكْمَلَ عِشْرِينَ حَدَّثَ بِأَرْبَعِينَ، وَلَمَّا أَكْمَلَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، حَدَّثَ بِأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ بَعْدَهَا بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ حَدَّثَ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ فَضَعِيفٌ.

وَرِوَايَةُ خَمْسِينَ يُحْتَمَلُ جَبْرُ الْكَسْرِ وَالسَبْعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَعَبَّرَ بِالنُّبُوَّةِ دُونَ الرِّسَالَةِ لِأَنَّهَا تَزِيدُ بِالتَّبْلِيغِ بِخِلَافِ النُّبُوَّةِ، فَاطِّلَاعٌ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا نَصِيبٌ كَرُؤْيَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ مَعَ يُوسُفَ، وَرُؤْيَا مَلِكِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ جَالِينُوسَ عَرَضَ لَهُ وَرَمٌ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَّصِلُ مِنْهُ بِالْحِجَابِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ فِي الْمَنَامِ بِفَصْدِ الْعِرْقِ الضَّارِبِ مِنْ كَفِّهِ الْيُسْرَى فَبَرَأَ.

بِأَنَّ الْكَافِرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لَهَا، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِخَيْرِ دُنْيَاهُ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ لَيْسَ مَحَلًّا لَهَا، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ دُنْيَوِيٍّ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي الرُّؤْيَا ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: الْأَنْبِيَاءُ وَرُؤْيَاهُمْ كُلُّهَا صِدْقٌ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ.

وَالصَّالِحُونَ، وَالْغَالِبُ عَلَى رُؤْيَاهُمُ الصِّدْقُ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ، وَمَا عَدَاهُمْ يَقَعُ فِي رُؤْيَاهُمُ الصِّدْقُ.

وَالْأَضْغَاثُ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ مَسْتُورُونَ، فَالْغَالِبُ اسْتِوَاءُ الْحَالِ فِي حَقِّهِمْ، وَفَسَقَةٌ وَالْغَالِبُ عَلَى رُؤْيَاهُمُ الْأَضْغَاثُ وَيَقِلُّ فِيهَا الصِّدْقُ، وَكُفَّارٌ وَيَنْدُرُ فِيهَا الصِّدْقُ جِدًّا.

وَيُرْشِدُ لِذَلِكَ خَبَرُ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: " «وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا» "، وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 558

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1781 -

1734 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ) ، الَّذِي رَوَاهُ إِسْحَاقُ عَنْ أَنَسٍ، وَالْحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ جَاءَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

ص: 558

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ زُفَرَ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَقُولُ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا وَيَقُولُ لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1782 -

1735 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ زُفَرَ) ، بِضَمِّ الزَّايِ، وَفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ، (ابْنِ صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ) ، وَهُمَا ثِقَتَانِ مَدَنِيَّانِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ لِزُفَرَ وَلَا لِأَبِيهِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ

وَفِي رِوَايَةِ مَعْنٍ عَنْ زُفَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْقَاطٍ عَنْ أَبِيهِ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ كَمَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ) - بِالْمُعْجَمَةِ - أَيِ الصُّبْحِ (يَقُولُ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟)، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ:" فَنَقُصُّ عَلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقَصَّ ".

وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: " أَنَّهُ أَقَامَ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَرَكَ السُّؤَالَ، فَكَانَ يَعْبُرُ لِمَنْ قَصَّ مُتَبَرِّعًا "، قِيلَ: سَبَبُ تَرْكِهِ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا رَأَيْتُ كَأَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ، وَأَبُو بَكْرٍ فَرَجَحْتَ أَنْتَ بِأَبِي بَكْرٍ، وَوُزِنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَحَ عُمَرُ، ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ فَرَأَيْنَا الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم» - "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَالُوا: فَمِنْ حِينَئِذٍ لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا إِيثَارًا لِسَتْرِ الْعَوَاقِبِ، وَإِخْفَاءِ الْمَرَاتِبِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا كَاشِفَةً لِمَنَازِلِهِمْ، مُبَيِّنَةً لِفَضْلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي التَّعْيِينِ، خَشِيَ أَنْ يَتَوَاتَرَ وَيَتَوَالَى مَا هُوَ أَبْلَغُ فِي الْكَشْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ فِي سَتْرِ خَلْقِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَمَشِيئَةٌ نَافِذَةٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

(وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ) أَلْ عَهْدِيَّةٌ، أَيْ نُبُوَّتِهِ، (إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) ، أَيِ الْحَسَنَةُ، أَوِ الصَّادِقَةُ الْمُنْتَظِمَةُ الْوَاقِعَةُ عَلَى شُرُوطِهَا الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ مَا فِيهِ بِشَارَةٌ، أَوْ تَنْبِيهٌ عَلَى غَفْلَةٍ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الصَّالِحَةُ صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِلرُّؤْيَا لِأَنَّ غَيْرَهَا يُسَمَّى بِالْحُلْمِ، أَوْ مُخَصِّصَةٌ وَالصَّلَاحُ بِاعْتِبَارِ صَوْتِهَا، أَوْ تَعْبِيرِهَا، وَفِيهِ نَدْبُ التَّعْبِيرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيَرُدُّ قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ التَّعْبِيرِ: الْمُسْتَحَبُّ أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِهَا إِلَى الرَّابِعَةِ، وَمِنَ الْعَصْرِ إِلَى قُرْبِ الْمَغْرِبِ.

وَرَدٌّ عَلَى مَا لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ، قَالَ: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلَا تُخْبِرْ بِهَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.

قَالَ الْمُهَلَّبُ: تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِحِفْظِ صَاحِبِهَا لَهَا، لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِهَا قَبْلَ مَا يَعْرِضُ لَهُ نِسْيَانُهَا، وَلِحُضُورِ ذِهْنِ الْعَابِرِ، وَقِلَّةِ شُغْلِهِ بِالْفِكْرَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعَاشِهِ، وَلِيَعْرِفَ الرَّائِي مَا يَعْرِضُ لَهُ بِسَبَبِ رُؤْيَاهُ فَيَسْتَبْشِرَ

ص: 559

بِالْخَيْرِ وَيَحْذَرَ مِنَ الشَّرِّ وَيَتَأَهَّب لِذَلِكَ، فَرُبَّمَا كَانَ فِيهَا تَحْذِيرٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ فَيَكُفُّ عَنْهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ إِنْذَارًا لِأَمْرٍ فَيَكُونُ لَهُ مُتَرَقِّبًا، قَالَ: فَهَذِهِ عِدَّةُ فَوَائِدَ لِتَعْبِيرِهَا أَوَّلَ النَّهَارِ اه.

ص: 560

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنْ يَبْقَى بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ فَقَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1783 -

1736 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) مُرْسَلٌ، وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَنْ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ» ) - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ - جَمْعُ مُبَشِّرَةٍ، اسْمُ فَاعِلٍ لِلْمُؤَنَّثِ مِنَ الْبِشْرِ، وَهُوَ إِدْخَالُ السُّرُورِ، وَالْفَرَحِ عَلَى الْمُبَشَّرِ بِالْفَتْحِ، وَلَيْسَ جَمْعَ الْبُشْرَى لِأَنَّهَا اسْمٌ بِمَعْنَى الْبِشَارَةِ.

وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: " لَمْ " الَّتِي تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمُضِيِّ بَدَلَ لَنْ، لَكِنَّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ.

قَالَ فِي الْمَصَابِيحِ: الْمَقَامُ مُقْتَضٍ لِلنَّفْيِ بِلَنْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، يَعْنِي أَنَّ الْوَحْيَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ اه.

وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ، وَاللَّامُ عَهْدِيَّةٌ وَالْمُرَادُ: نُبُوَّتُهُ، أَيْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ الْمُخْتَصَّةِ بِي إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَلَفْظُهُ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَشَفَ السِّتَارَةَ وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلَفَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» "، وَلِلنَّسَائِيِّ أَنَّهُ:" «لَيْسَ بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» "، وَهَذَا يُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ.

وَلِأَبِي يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «أَنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، وَلَا نَبِيَّ وَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَكِنْ بَقِيَتِ الْمُبَشِّرَاتُ "، (فَقَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ) بِنَفْسِهِ، (أَوْ تُرَى لَهُ) » - بِضَمِّ التَّاءِ - أَيْ يَرَاهَا لَهُ غَيْرُهُ، (جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) ، ظَاهِرُ هَذَا مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الرُّؤْيَا نُبُوَّةٌ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ أَمْرِ الرُّؤْيَا بِالنُّبُوَّةِ ; لِأَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ وَصْفِهِ كَمَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَافِعًا صَوْتَهُ لَا يُسَمَّى مُؤَذِّنًا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَذَّنَ وَإِنْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ الْأَذَانِ، وَكَذَا لَوْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَائِمٌ، لَا يُسَمَّى مُصَلِّيًا وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ جُزْءًا مِنَ الصَّلَاةِ.

وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أُمِّ كُرْزٍ - بِضَمِّ الْكَافِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ - الْكَعْبِيَّةِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ وَبَقِيَتِ الْمُبَشِّرَاتُ» "، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.

قَالَ الْمُهَلَّبُ مَا

ص: 560

حَاصِلُهُ: التَّعْبِيرُ بِالْمُبَشِّرَاتِ خَرَجَ مَخْرِجَ الْأَغْلَبِ، فَإِنَّ مِنَ الرُّؤْيَا مَا تَكُونُ مُنْذِرَةً وَهِيَ صَادِقَةٌ يُرِيهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ رِفْقًا بِهِ، لِيَسْتَعِدَّ لِمَا يَقَعُ قَبْلَ وُقُوعِهِ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْوَحْيَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَبْقَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُ مَا سَيَكُونُ إِلَّا الرُّؤْيَا، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْإِلْهَامُ، فَإِنَّ فِيهِ إِخْبَارًا بِمَا سَيَكُونُ، وَهُوَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَحْيِ كَالرُّؤْيَا، وَيَقَعُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ، قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى مُحَدَّثُونَ، وَفُسِّرَ الْمُحَدَّثُ - بِفَتْحِ الدَّالِّ - بِالْمُلْهَمِ - بِفَتْحِ الْهَاءِ - وَقَدْ أَخْبَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ فَكَانَتْ كَمَا أَخْبَرُوا.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَصْرَ فِي الْمَنَامِ لِكَوْنِهِ يَشْمَلُ آحَادَ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ الْإِلْهَامِ، فَيَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ، وَمَعَ اخْتِصَاصِهِ فَإِنَّهُ نَادِرٌ، فَإِنَّمَا ذُكِرَ الْمَنَامُ لِشُمُولِهِ وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» "، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي نَدُورِ الْإِلْهَامِ فِي زَمَنِهِ، وَكَثْرَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ غَلَبَةُ الْوَحْيِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَقَظَةِ، وَإِرَادَةُ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ مِنْهُ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ لَا يَقَعَ لِغَيْرِهِ فِي زَمَانِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا انْقَطَعَ الْوَحْيُ بِمَوْتِهِ وَقَعَ الْإِلْهَامُ لِمَنِ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ لِلْأَمْنِ مِنَ اللَّبْسِ فِي ذَلِكَ، وَفِي إِنْكَارِ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَتِهِ وَاشْتِهَارِهِ، مُكَابَرَةٌ مِمَّنْ أَنْكَرَهُ، قَالَهُ الْحَافِظُ.

ص: 561

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ يَقُولُ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الشَّيْءَ يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِذَا اسْتَيْقَظَ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قَالَ أَبُو سَلَمَةَ إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا هِيَ أَثْقَلُ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَلَمَّا سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا كُنْتُ أُبَالِيهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1784 -

1737 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ، (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ:(أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ) الْحَارِثَ، أَوِ النُّعْمَانَ، أَوْ عَمْرَو (بْنَ رِبْعِيٍّ) ، بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَتَحْتِيَّةٍ الْأَنْصَارِيَّ (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) الْمُنْتَظِمَةُ الْوَاقِعَةُ عَلَى شُرُوطِهَا الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ مَا فِيهَا بِشَارَةٌ، أَوْ تَنْبِيهٌ عَلَى غَفْلَةٍ.

وَقَالَ الكِرْمَانِيُّ: الصَّالِحَةُ صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ ; لِأَنَّ غَيْرَهَا يُسَمَّى بِالْحُلْمِ، أَوْ مُخَصِّصَةٌ وَالصَّلَاحُ بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا أَوْ تَعْبِيرِهَا.

وَقَالَ عِيَاضٌ تَبَعًا لِلْبَاجِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَى الصَّالِحَةِ وَالْحَسَنَةِ حُسْنُ ظَاهِرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ صِحَّتُهَا، (مِنَ اللَّهِ) ، أَيْ بُشْرَى وَتَحْذِيرٌ وَإِنْذَارٌ.

(وَالْحُلْمُ) ، بِضَمِّ الْحَاءِ، وَسُكُونِ اللَّامِ أَوْ ضَمِّهَا كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا: الرُّؤْيَةُ حَسَنَةٌ، أَوْ مَكْرُوهَةٌ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا.

قَالَ عِيَاضٌ: وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ سُوءَ التَّأْوِيلِ (مِنَ الشَّيْطَانِ) ، أَيْ مِنْ إِلْقَائِهِ يُخَوِّفُ وَيُحْزِنُ الْإِنْسَانَ بِهَا، قَالَ عِيَاضٌ: إِضَافَةٌ أَيْ نِسْبَةُ الرُّؤْيَا إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَكْرِيمٍ وَتَشْرِيفٍ لِطَهَارَتِهَا مِنْ حُضُورِ الشَّيْطَانِ، وَإِفْسَادِهِ لَهَا، وَسَلَامَتِهَا مِنَ الْأَضْغَاثِ، أَيِ التَّخْلِيطِ، وَجَمْعِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَضَادَّةِ بِخِلَافِ الْمَكْرُوهَةِ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِإِرَادَتِهِ، وَلَا فِعْلَ

ص: 561

لِلشَّيْطَانِ فِيهَا لَكِنَّهُ يَحْضُرُهَا وَيَرْتَضِيهَا وَيُسَرُّ بِهَا فَلِذَا نُسِبَتْ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى طَبْعِهِ مِنَ التَّحْذِيرِ، وَالْكَرَاهَةِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، أَوْ لِأَنَّهَا تُوَافِقُهُ وَيَسْتَحْسِنُهَا لِمَا فِيهَا مِنْ شُغْلِ بَالِ الْمُسْلِمِ وَتَضَرُّرِهِ بِهَا.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالتَّحْذِيرُ وَإِنْ كَانَ غَالِبًا مِنَ الشَّيْطَانِ فَقَدْ يَكُونُ فِي الصَّالِحَةِ إِنْذَارٌ مِنَ اللَّهِ، وَاعْتِنَاءٌ مِنْهُ بِعَبْدِهِ لِئَلَّا يَفْجَأَهُ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ وَأُهْبَةٍ، كَمَا أَنَّ رُؤْيَا الصَّالِحِينَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الصِّحَّةُ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا أَضْغَاثٌ نَادِرَةُ الْعَوَارِضِ مِنْ وَسْوَسَةِ نَفْسٍ، وَحَدِيثِهَا، أَوْ غَلَبَةِ خَاطِرٍ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الرُّؤْيَا وَالْحُلْمُ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ خَصَّ الْخَيْرَ بِاسْمِ الرُّؤْيَا، وَالشَّرَّ بِاسْمِ الْحُلْمِ.

وَقَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: الْحُلْمُ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الرُّؤْيَا، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُعْطَهَا بَلِيغٌ، وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهَا حَكِيمٌ، بَلْ سَنَّهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُسَمِّيَ مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ بِاسْمٍ وَاحِدٍ، فَجَعَلَ الْحُلْمَ عِبَارَةً عَمَّا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ لَمْ تُسْتَعْمَلْ إِلَّا فِيمَا يُخَيَّلُ لِلْحَالِمِ فِي نَوْمِهِ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ.

(فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الشَّيْءَ يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ) - بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا - طَرْدًا لِلشَّيْطَانِ الَّذِي حَضَرَ الرُّؤْيَا الْمَكْرُوهَةَ تَحْقِيرًا لَهُ وَاسْتِقْذَارًا (عَنْ يَسَارِهِ) ، لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْأَقْذَارِ وَنَحْوِهَا، (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) لِلتَّأْكِيدِ.

وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ: " فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ "، وَفِي أُخْرَى:" فَلْيَتْفُلْ "، قَالَ عِيَاضٌ: اخْتُلِفَ فِي التَّفْلِ وَالنَّفْثِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَلَا يَكُونَانِ إِلَّا بِرِيقٍ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ فِي التُّفْلِ رِيقٌ يَسِيرٌ، وَلَا يَكُونُ فِي النَّفْثِ وَقِيلَ: عَكْسُهُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ فَلْيَنْفُثْ، وَهُوَ النَّفْخُ اللَّطِيفُ بِلَا رِيقٍ، فَيَكُونُ التَّفْلُ وَالْبَصْقُ مَحْمُولَيْنِ عَلَيْهِ مَجَازًا، وَتَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ طَرْدُ الشَّيْطَانِ، وَإِظْهَارُ احْتِقَارِهِ وَاسْتِقْذَارِهِ كَمَا نَقَلَهُ هُوَ عَنْ عِيَاضٍ كَمَا مَرَّ، فَالَّذِي يَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ الْحَمْلُ عَلَى التَّفْلِ، فَإِنَّهُ نَفْخٌ مَعَهُ رِيقٌ لَطِيفٌ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى النَّفْخِ قِيلَ لَهُ: نَفْثٌ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى التَّفْلِ قِيلَ لَهُ: بَصْقٌ، (إِذَا اسْتَيْقَظَ) مِنْ نَوْمِهِ، (وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا)، زَادَ فِي رِوَايَةِ:" وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ "، قَالَ الْحَافِظُ: وَرَدَ فِي صِفَةِ التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ الرُّؤْيَا أَثَرٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ:" «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُلْ إِذَا اسْتَيْقَظَ: أَعُوذُ بِمَا عَاذَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ مِنْ شَرِّ رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنْ يُصِيبَنِي فِيهَا مَا أَكْرَهُ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ» "، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَرَدَ أَنَّهُ يَقُولُ: " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَسَيِّئَاتِ الْأَحْلَامِ» "، رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، زَادَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: " وَلَا

ص: 562

يُحَدِّثُ بِهَا أَحَدًا "، وَزَادَ مُسْلِمُ عَنْ جَابِرٍ: " وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ "، وَزَادَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ "، (فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَا ذُكِرَ سَبَبًا لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمُتَرَقَّبِ مِنَ الرُّؤْيَا، كَمَا جَعَلَ الصَّدَقَةَ وِقَايَةً لِلْمَالِ، وَأَنَّهَا تَدْفَعُ الْبَلَاءَ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مُصَدِّقًا مُتَّكِلًا عَلَى اللَّهِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ.

وَأَمَّا التَّحَوُّلُ فَلِلتَّفَاؤُلِ بِتَحَوُّلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا وَيَعْمَلَ بِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا أَجْزَأَتْهُ فِي دَفْعِ ضَرَرِهَا، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ، وَتَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدٍ، ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ أَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ كَافِيَةٌ فِي دَفْعِ شَرِّهَا، انْتَهَى.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ; لِأَنَّهُ إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ، وَبَصَقَ وَنَفَثَ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَاسْتَعَاذَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فِي أَقْرَبِ الْأَحْوَالِ إِلَيْهِ، فَيَكْفِيهِ اللَّهُ شَرَّهَا.

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ مُسْتَنَدًا، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ:" وَلَا يَقْرُبُكَ شَيْطَانٌ "، فَمُتَّجِهٌ قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا فِي صِلَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ.

وَقَدْ زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ: " فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ، فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ "، وَفِي التِّرْمِذِيِّ:" لَا يُحَدِّثُ بِهَا إِلَّا لَبِيبًا أَوْ حَبِيبًا "، أَيْ لِأَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ بِهَا مَنْ لَا يُحِبُّ قَدْ يُفَسِّرُهَا بِمَا لَا يُحِبُّ، إِمَّا بُغْضًا، وَإِمَّا حَسَدًا، فَقَدْ يَقَعُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، أَوْ يَتَعَجَّلُ لِنَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ حُزْنًا وَنَكَدًا، فَأُمِرَ بِتَرْكِ تَحْدِيثِ مَنْ لَا يُحِبُّ لِسَبَبِ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا:" «الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ» "، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ رَفَعَهُ:" «الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلٍ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ» "، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ الْعَابِرُ الْأَوَّلُ عَالِمًا، فَعَبَرَ وَأَصَابَ وَجْهَ التَّعْبِيرِ، وَإِلَّا فَهِيَ لِمَنْ أَصَابَ بَعْدَهُ، إِذْ لَيْسَ الْمَدَارُ إِلَّا عَلَى إِصَابَةِ الصَّوَابِ فِي تَعْبِيرِ الْمَنَامِ، لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا ضَرَبَ مِنَ الْمَثَلِ، فَإِذَا أَصَابَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ فَلْيُسْأَلِ الثَّانِيَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا عِنْدَهُ، وَيَبَيِّنَ مَا جَهِلَ الْأَوَّلُ، وَفِيهِ بَحْثٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ.

(قَالَ أَبُو سَلَمَةَ) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (إِنْ كُنْتُ لَأَرَى) - بِاللَّامِ - (الرُّؤْيَا هِيَ أَثْقَلُ عَلَيَّ مِنَ الْجَبَلِ) - بِالْجِيمِ - وَاحِدُ الْجِبَالِ، (فَلَمَّا سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ) مِنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ، أَيْ خَفَّ عَلَيَّ مَا أَرَاهُ، (فَمَا كُنْتُ أُبَالِيهَا) ، أَيْ لَا أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَلَا أُلْقِي لَهَا بَالًا.

وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ رَبِّهِ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: وَأَنَا

ص: 563

كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فَذَكَرَهُ.

وَتَابَعَ مَالِكًا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ أَخُوهُ عَبْدُ رَبِّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، كُلُّ ذَلِكَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، نَحْوَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 564

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] قَالَ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1785 -

1738 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] )(سورة يُونُسَ: الْآيَةَ: 64) ، بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، (قَالَ: هِيَ) ، أَيِ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا، (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ، أَوْ تُرَى لَهُ)، وَهَذَا قَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ:" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ "، وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّهُ قَالَ: " «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي، أَوْ أَحَدٌ قَبْلَكَ تِلْكَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الصَّالِحُ، أَوْ تُرَى لَهُ» "، وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُسَرُّ بِهَا الْمُؤْمِنُ "، وَعِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] قَالَ: هِيَ فِي الدُّنْيَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْعَبْدُ، أَوْ تُرَى لَهُ وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ» ".

ص: 564

[فِي النَّرْدِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي النَّرْدِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي النَّرْدِ

بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ بِلُغَةِ الْفُرْسِ: حُلْوٌ، وَيُسَمَّى الْكِعَابَ وَالْأَرِقَ والنَّرْدَشِيرَ، قِيلَ: إِنَّ الْأَوَائِلَ لَمَّا نَظَرُوا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَجَدُوهَا عَلَى أُسْلُوبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَجْرِي بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، فَوَضَعُوا لَهُ النَّرْدَ لِتَشْعُرَ النَّفْسُ بِهِ.

وَالثَّانِي: مَا يَجْرِي بِحُكْمِ السَّعْيِ، وَالتَّحَيُّلِ، فَوَضَعُوا لَهُ الشَّطْرَنْجَ، لِتَشْعُرَ النَّفْسُ بِذَلِكَ، وَتَنْهَضَ الْخَوَاطِرُ إِلَى عَمَلِ مِثْلِهِ مِنَ الْمَطْلُوبَاتِ، وَيُقَالُ: إِنَّ وَاضِعَ النَّرْدِ وَضَعَهُ عَلَى رَأْيِ أَصْحَابِ الْجَبْرِ، وَوَاضِعَ الشَّطْرَنْجِ وَضَعَهُ عَلَى رَأْيِ الْقَدَرِيَّةِ.

ص: 564

1786 -

1739 - (مَالِكٌ عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ) الدِّيلِيِّ - بِكَسْرِ الدَّالِّ، وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ - مَوْلَاهُمْ أَبِي عُرْوَةَ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ، أَثْنَى عَلَيْهِ مَالِكٌ وَوَصَفَهُ بِالْفَضْلِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.

(عَنْ سَعِيدِ) - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - (ابْنِ أَبِي هِنْدٍ) الْفَزَارِيِّ، ثِقَةٌ، مَاتَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا.

(عَنْ أَبِي مُوسَى) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ (الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ) - بِفَتْحِ النُّونِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَدَالٍ مُهْمَلَتَيْنِ - قِطَعٌ مُلَوَّنَةٌ مِنْ خَشَبِ الْبَقْسِ، وَعَظْمِ الْفِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، (فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهَ) ; لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ، وَالْبَغْضَاءَ، وَيَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَيَشْغَلُ الْقَلْبَ، فَيَحْرُمُ اللَّعِبُ بِهِ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ، بَلْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ وَنُوزِعَ.

وَقِيلَ: سَبَبُ حُرْمَتِهِ أَنَّ وَاضِعَهُ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ أَوَّلُ مُلُوكِ سَاسَانَ، شَبَّهَ رُقْعَتَهُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ، وَالتَّقْسِيمَ الرُّبَاعِيَّ بِالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَالشُّخُوصَ الثَلَاثِينَ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالسَّوَادَ وَالْبَيَاضَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْبُيُوتَ الِاثْنَيْ عَشَرَ بِشُهُورِ السَّنَةِ، وَالْكِعَابَ الثَّلَاثَةَ بِالْأَقْضِيَةِ السَّمَاوِيَّةِ فِي مَا لِلْإِنْسَانِ وَعَلَيْهِ، وَمَا لَيْسَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَالْخِصَالَ بِالْأَغْرَاضِ الَّتِي يَسْعَى الْإِنْسَانُ لِأَجْلِهَا، وَاللَّعِبَ بِهَا بِالْكَسْبِ، فَصَارَ مَنْ يَلْعَبُ بِهِ حَقِيقًا بِالْوَعِيدِ لِاجْتِهَادِهِ فِي إِحْيَاءِ سُنَّةِ الْمَجُوسِ الْمُسْتَكْبِرَةِ عَلَى اللَّهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ.

وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَوَهِمَ مَنْ عَزَاهُ لِمُسْلِمٍ.

إِنَّمَا رُوِيَ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ» "، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ فِي حَالِ أَكْلِهِ مِنْهُ، فَشَبَّهَ اللَّعِبَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِهِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَذْكِيَتِهِ، وَهِيَ حَرَامٌ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِهِ، وَهُوَ نَصُّ حَدِيثِ مَالِكٍ:" فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ".

ص: 565

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا سُكَّانًا فِيهَا وَعِنْدَهُمْ نَرْدٌ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ لَئِنْ لَمْ تُخْرِجُوهَا لَأُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ دَارِي وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1786 -

1740 - (مَالِكٌ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ) الْعَلَّامَةِ الثِّقَةِ (عَنْ أُمِّهِ) مَرْجَانَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ، مَقْبُولَةٌ (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا سُكَّانًا فِيهَا، وَعِنْدَهُمْ نَرْدٌ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ لَئِنْ لَمْ تُخْرِجُوهَا) ، أَيِ النَّرْدَ، (لَأُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ دَارِي، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ) ; لِأَنَّهُ حَرَامٌ.

ص: 565

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ضَرَبَهُ وَكَسَرَهَا

قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِك يَقُولُ لَا خَيْرَ فِي الشَّطْرَنْجِ وَكَرِهَهَا وَسَمِعْتُهُ يَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْبَاطِلِ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1787 -

1741 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ضَرَبَهُ) ، تَعْزِيرًا عَلَى فِعْلِهِ الْحَرَامِ (وَكَسَرَهَا) ، لِئَلَّا يَعُودَ إِلَى اللَّعِبِ بِهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ.

(قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي الشَّطْرَنْجِ) ، بِكَسْرِ السِّينِ، وَفَتْحِهَا مَعَ الْإِعْجَامِ وَالْإِهْمَالِ، أَرْبَعُ لُغَاتٍ حَكَاهَا ابْنُ مَالِكٍ، فَالْإِعْجَامُ مِنَ الْمُشَاطَرَةِ، كَأَنَّ كُلَّ لَاعِبٍ لَهُ شَطْرٌ مِنَ الْقِطَعِ، وَالْإِهْمَالِ مِنْ تَسْطِيرِ الرُّقْعَةِ بُيُوتًا عِنْدَ التَّعْبِيَةِ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ ابْنُ بَرِّيٍّ بِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَا تُشْتَقُّ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِأَنَّهَا خُمَاسِيَّةٌ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الشَّطْرِ يُوجِبُ أَنَّهَا ثُلَاثِيَّةٌ، فَتَكُونُ النُّونُ وَالْجِيمُ زَائِدَتَيْنِ، وَهَذَا بَيِّنُ الْفَسَادِ.

(وَكَرِهَهَا) تَحْرِيمًا، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَنُوزِعَ صَاحِبُ الْبَيَانِ فِي إِبْقَاءِ الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ.

(وَسَمِعْتُهُ يَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ) اسْتِدْلَالًا: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] ، اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، أَيْ لَيْسَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ، فَمَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ وَقَعَ فِي الضَّلَالِ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ الشَّطْرَنْجِ، وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.

وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: فَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ فَهُوَ غَالِطٌ، فَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَعْلَمُ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ يَنْقُلُ أَقْوَالًا بِلَا إِسْنَادٍ، وَإِجْمَاعُهُمْ كَافٍ فِي الْحُجَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ وَإِرْسَالٌ، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِهِ وَالِاعْتِبَارِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ الطُّرُقِ وَاشْتِهَارِهَا، فَمَا كَانَ مِنْهَا صَالِحًا فَهُوَ حُجَّةٌ بِانْفِرَادِهِ، وَمَا كَانَ مُعَلَّلًا فَإِنَّهُ يَقْوَى بِتَعَدُّدٍ طُرُقِهِ، وَتَغَايُرِ شُيُوخِ مُرْسِلِهِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى النَّرْدِ بِجَامِعِ الضِّدِّ، بَلْ هُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَمَالِكٌ، وَغَيْرُهُمَا شَرٌّ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي إِفْسَادِ الْقُلُوبِ مِنَ النَّرْدِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى فِكْرٍ، وَتَقْدِيرٍ وَحِسَابِ النَّقَلَاتِ قَبْلَ النَّقْلِ، بِخِلَافِ النَّرْدِ يَلْعَبُ صَاحِبُهُ ثُمَّ يَحْسِبُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى كَرَاهَتِهِ تَنْزِيهًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، مَا لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا، وَتُعْتَبَرْ بِالْعُرْفِ، وَلَمْ يَلْعَبْ مَعَ مُعْتَقِدِ تَحْرِيمِهِ، أَوْ يَكُنْ عَلَى شَكْلِ الْحَيَوَانِ، أَوْ يَهْذِي عَلَيْهَا، بَلْ حَفِظَ اللِّسَانَ عَنِ الْخَنَا، وَالْفُحْشِ، وَالسَّفَهِ، وَمَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ قِمَارٌ، وَلَمْ يَلْعَبْهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُؤَخِّرْ بِهِ صَلَاةً، وَإِلَّا حُرِّمَ فِي الْجَمِيعِ، زَادَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَمَا لَمْ يَلْعَبْهُ مَعَ الْأَرَاذِلِ، وَلَمْ يُؤْثِرْ نَحْوَ حِقْدٍ، أَوْ ضَغِينَةٍ، أَوْ يُؤَدِّي إِلَى إِشَارَةٍ لِلَّفْظِ لَا يُرْضِي.

ص: 566

[باب السلام]

[الْعَمَلِ فِي السَّلَامِ]

كِتَابُ السَّلَامِ

بَابُ الْعَمَلِ فِي السَّلَامِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَإِذَا سَلَّمَ مِنْ الْقَوْمِ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنْهُمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

53 -

كِتَابُ السَّلَامِ

1 -

بَابُ الْعَمَلِ فِي السَّلَامِ

1788 -

1742 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) مُرْسَلٌ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُسَلِّمُ) ، أَيْ لِيُسَلِّمْ (الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي) ، أَيْ يَبْدَؤُهُ بِالسَّلَامِ لِئَلَّا يَتَكَبَّرَ بِرُكُوبِهِ، فَيَرْجِعَ إِلَى التَّوَاضُعِ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لِأَنَّ لِلرَّاكِبِ مَزِيَّةً عَلَى الْمَاشِي فَعُوِّضَ أَنْ يَبْدَأَهُ الرَّاكِبُ احْتِفَاظًا عَلَيْهِ مِنَ الزَّهْوِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ وَضْعَ السَّلَامِ إِنَّمَا هُوَ لِحِكْمَةِ إِزَالَةِ الْخَوْفِ مِنَ الْمُلْتَقِيَيْنِ، إِذَا الْتَقَيَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ لِمَعْنَى التَّوَاضُعِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ ; لِأَنَّ السَّلَامَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا اكْتِسَابُ وُدٍّ، أَوِ اسْتِدْفَاعُ مَكْرُوهٍ، وَهَذَا مَوْصُولٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا بِزِيَادَةِ:" وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ".

(وَإِذَا سَلَّمَ مِنَ الْقَوْمِ) الرَّاكِبِينَ، أَوِ الْمَاشِينَ، أَوِ الْقَلِيلِينَ، أَوِ الصِّغَارِ (وَاحِدٌ) مِنْهُمْ (أَجْزَأَ عَنْهُمْ) فِي تَحْصِيلِ السُّنَّةِ فَهُوَ أَصْلٌ لِلْإِجْمَاعِ، عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالسَّلَامِ سُنَّةُ كِفَايَةٍ إِذَا سَلَّمَ وَاحِدٌ، كَفَى.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمُرَادُ بِالسَّلَامِ هُنَا الرَّدُّ ; لِأَنَّ الرَّادَّ مُسْلِمٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: أَجَزَأَ فِيمَا وَاجِبٌ، وَالِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ سُنَّةٌ، وَالرَّدُّ وَاجِبٌ اتِّفَاقًا فِيهِمَا، فَبَطَلَ تَأْوِيلُ الطَّحَاوِيِّ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ ابْتَدَأَ السَّلَامَ نُصْرَةً لِمَذْهَبِهِ أَنَّ رَدَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا:" «يُجْزِئُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرَّتْ أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْقُعُودِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ» "، فَسَوَّى بَيْنَ الِابْتِدَاءِ، وَالرَّدِّ أَنَّهُمَا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ لَا مُعَارِضَ لَهُ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الرَّدَّ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَشَبَّهَهُ الشَّافِعِيُّ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، والتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالْجِهَادِ، وَتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ، وَمَعْنَى إِجْزَائِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فِي تَحْصِيلِ السُّنَّةِ لِلْإِجْمَاعِ، عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهِ سُنَّةٌ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَا فَهِمَهُ الطَّحَاوِيُّ، لَكِنْ

ص: 567

يُحْمَلُ قَوْلُهُ: أَجْزَأَ، أَيْ فِي السُّنَّةِ، كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ أَبُو عُمَرَ آخِرًا، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ فِيهِ أَنَّ الرَّدَّ فَرْضُ عَيْنٍ.

وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 568

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ثُمَّ زَادَ شَيْئًا مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا الْيَمَانِي الَّذِي يَغْشَاكَ فَعَرَّفُوهُ إِيَّاهُ قَالَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ

قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يُسَلَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ أَمَّا الْمُتَجَالَّةُ فَلَا أَكْرَهُ ذَلِكَ وَأَمَّا الشَّابَّةُ فَلَا أُحِبُّ ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1789 -

1743 - (مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) الْقُرَشِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ) الْقُرَشِيِّ الْقَبَّارِيِّ الْمَدَنِيِّ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ: تَكَلَّمَ فِيهِ الْقَطَّانُ، (أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ زَادَ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا) ، لَمْ يُبَيِّنْهُ، (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ -: مَنْ هَذَا؟) الَّذِي زَادَ عَلَى التَّحِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، (قَالُوا: هَذَا الْيَمَانِيُّ الَّذِي يَغْشَاكَ، فَعَرَّفُوهُ إِيَّاهُ قَالَ) مُحَمَّدٌ:(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ)، أَيْ قَوْلُهُ: وَبَرَكَاتُهُ فَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا ابْتِدَاعًا.

(سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يُسَلَّمُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ الرَّجُلُ (عَلَى الْمَرْأَةِ) الْأَجْنَبِيَّةِ؟ (فَقَالَ: أَمَّا الْمُتَجَالَّةُ) - بِالْجِيمِ -: الْعَجُوزُ الَّتِي انْقَطَعَ أَرَبُ الرِّجَالِ مِنْهَا، (فَلَا أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الشَّابَّةُ، فَلَا أُحِبُّ ذَلِكَ) خَوْفَ الْفِتْنَةِ بِسَمَاعِ رَدِّهَا السَّلَامَ.

ص: 568

[مَا جَاءَ فِي السَّلَامِ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ]

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُلْ عَلَيْكَ»

قَالَ يَحْيَى وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ سَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ هَلْ يَسْتَقِيلُهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّلَامِ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ

كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذِكْرِ النَّصْرَانِيِّ مَعَ أَنَّ حَدِيثَهَا اقْتَصَرَ عَلَى الْيَهُودِ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» "، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

ص: 568

1790 -

1744 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْيَهُودَ) جَمْعُ يَهُودِيٍّ كَرُومٍ وَرُومِيٍّ، (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ، فَإِنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ) ، أَيِ الْمَوْتُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:" «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ إِلَّا السَّامَ، قِيلَ: وَمَا السَّامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:. الْمَوْتُ» "، (فَقُلْ: عَلَيْكَ) بِلَا وَاوٍ، وَلِجَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ التِّنِّيسِيِّ بِالْوَاوِ، وَجَاءَتِ الْأَحَادِيثُ فِي مُسْلِمٍ بِحَذْفِهَا وَإِثْبَاتِهَا، وَهُوَ أَكْثَرُ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَبِيبٍ الْحَذْفَ ; لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي إِثْبَاتَهَا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَصِحَّ الْعَطْفُ، فَيَدْخُلُ مَعَهُمْ فِيمَا دَعَوْا بِهِ، وَقِيلَ: هِيَ لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَيْكَ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الذَّمِّ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّهُ قَالَ: وَالسَّامُ عَلَيْكَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعِيدٌ، وَالْأَوْلَى أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا لِلْعَطْفِ، غَيْرَ أَنَّا نُجَابُ فِيهِمْ، وَلَا يُجَابُونَ فِينَا كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَرِوَايَةُ الْحَذْفِ أَحْسَنُ مَعْنًى، وَالْإِثْبَاتُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ جَوَازُ الْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ أَجْوَدُ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ ; لِأَنَّ السَّامَ: الْمَوْتُ، وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، فَلَا ضَرَرَ فِيهِ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فِي الْعَطْفِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ وَأَقُولُ: عَلَيْكُمْ مَا تُرِيدُونَ بِنَا، أَوْ مَا تَسْتَحِقُّونَ، وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى عَلَيْكُمْ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِلَّا لَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْدِيرَ دُعَائِهِمْ، وَلِذَا قَالَ: عَلَيْكَ بِلَا وَاوٍ، وَرُوِيَ بِالْوَاوِ أَيْضًا.

قَالَ عِيَاضٌ: وَقَالَ قَتَادَةُ مُرَادُهُمْ بِالسَّامِ: السَّآمَةُ، أَيْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ، مَصْدَرُ سَئِمْتُ سَآمَةً وسَآمًا مِثْلُ: رَضَاعًا، وَقَدْ جَاءَ هَكَذَا مُفَسَّرًا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى هَذَا فَرِوَايَةُ حَذْفِ الْوَاوِ أَحْسَنُ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمُ " السِّلَامُ " بِكَسْرِ السِّينِ، أَيِ الْحِجَارَةُ، قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِهِ ; لِأَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَرْدُودِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِلَفْظِ السَّلَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47](سورة مَرْيَمَ: الْآيَةُ: 47)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89](سورة الزُّخْرُفِ: الْآيَةَ: 89)، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذَا السَّلَامِ التَّحِيَّةَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْمُبَاعَدَةَ، وَالْمُتَارَكَةَ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: أَوْجَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ رَدَّ سَلَامِهِمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ.

وَرَوَى أَشْهَبُ، وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَالْآيَةُ وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصَانِ بِسَلَامِ الْمُسْلِمِ، وَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِلَفْظِ السَّلَامِ الْمَشْرُوعِ، بَلْ نَقُولُ عَلَيْكَ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ.

وَفِي

ص: 569

اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَسُفْيَانُ قَالَ: وَعَلَيْكَ بِالْوَاوِ.

(سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ سَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ) ، سَهْوًا، أَوْ عَمْدًا، أَوْ جَهْلًا بِالنَّهْيِ (هَلْ يَسْتَقِيلُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا) يَسْتَقِيلُهُ بَلْ يَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ إِنْ كَانَ عَمْدًا.

ص: 570

[جَامِعِ السَّلَامِ]

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ وَاحِدٌ فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَّمَا فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابٌ: جَامِعُ السَّلَامِ

1791 -

1745 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ النَّجَّارِيِّ (عَنْ أَبِي مُرَّةَ) - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَشَدِّ الرَّاءِ - اسْمُهُ يَزِيدُ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ (مَوْلَى عَقِيلٍ) - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - (ابْنِ أَبِي طَالِبٍ) الْهَاشِمِيِّ قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْلَى أُخْتِهِ أُمِّ هَانِىءٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ: أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ أَخْبَرَهُ (عَنْ أَبِي وَاقِدٍ) - بِقَافٍ مَكْسُورَةٍ، وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ - اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: ابْنُ عَوْفٍ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ اللَّيْثِيُّ بِمُثَلَّثَةٍ " الْبَدْرِيُّ " فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهُ إِلَّا أَبُو مُرَّةَ.

وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مُرَّةَ: أَنَّ أَبَا وَاقِدٍ حَدَّثَهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا) - بِزِيَادَةِ مَا - (هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ) النَّبَوِيِّ، (وَالنَّاسُ مَعَهُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، (إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ) - بِفَتْحِ النُّونِ، وَالْفَاءِ - (ثَلَاثَةٌ)، قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ عَلَى تَسْمِيَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: نَفَرٌ هُمْ ثَلَاثَةٌ، إِذِ النَّفَرُ: الرِّجَالُ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ.

(فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ وَاحِدٌ) ، هُمَا أَقْبَلَا كَأَنَّهُمْ أَقْبَلُوا أَوَّلًا مِنَ الطَّرِيقِ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ مَارِّينَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالْحَاكِمِ، فَإِذَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ اثْنَانِ مِنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ الثَّالِثُ ذَاهِبًا.

(فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَّمَا) ، أَيْ عَلَى مَجْلِسِهِ، أَوْ " عَلَى "، بِمَعْنَى " عِنْدَ "

ص: 570

قَالَهُ الْحَافِظُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا لَمْ تَجِئْ بِمَعْنَاهَا، وَجَوَابُهُ أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ تَنُوبُ عَنِ الْأَسْمَاءِ، وَتَأْتِي بِمَعْنَاهَا، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19](سورة الِانْشِقَاقِ: الْآيَةَ: 19) ، أَيْ بَعْدَ طَبَقٍ فَعَنْ نَائِبٌ عَنْ الِاسْمِ، وَفِيهِ أَنَّ الدَّاخِلَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ وَأَنَّ الْقَائِمَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَلَمْ يُذَكَرْ رَدُّ السَّلَامِ عَلَيْهِمَا اكْتِفَاءً بِشُهْرَتِهِ، وَأَنَّ الْمُسْتَغْرِقَ فِي الْعِبَادَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّدُّ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُمَا صَلَّيَا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ، أَوْ كَانَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ تَنَفُّلٍ، قَالَهُ عِيَاضٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ: أَنَّهَا لَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ.

(فَأَمَّا) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَشَدِّ الْمِيمِ - (أَحَدُهُمَا) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (فَرَأَى) دَخَلَتْهُ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ أَمَّا مَعْنَى الشَّرْطِ، (فُرْجَةً) - بِضَمِّ الْفَاءِ، وَفَتْحِهَا - مَعًا، هِيَ الْخَلَلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، (فِي الْحَلْقَةِ) بِإِسْكَانِ اللَّامِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَدِيرٍ خَالِي الْوَسَطِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا، وَهُوَ نَادِرٌ، وَالْجَمْعُ حَلَقٌ بِفَتْحَتَيْنِ.

(فَجَلَسَ فِيهَا) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّحْلِيقِ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ، وَأَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ كَانَ أَحَقَّ بِهِ.

(وَأَمَّا الْآخَرُ) - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - أَيِ الثَّانِي، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرِ لِإِطْلَاقِهِ هُنَا عَلَى الثَّانِي.

(فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ.

(وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ) حَالَ كَوْنِهِ (ذَاهِبًا) أَيْ أَدْبَرَ مُسْتَمِرًّا فِي ذَهَابِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ، وَإِلَّا فَأَدْبَرَ بِمَعْنَى: مَرَّ ذَاهِبًا.

(فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -) مِمَّا كَانَ مُشْتَغِلًا بِهِ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ، أَوِ الذِّكْرِ، أَوِ الْخُطْبَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، (قَالَ: أَلَا) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالتَّخْفِيفِ - حَرْفُ تَنْبِيهٍ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَمَعْنَاهَا التَّنْبِيهُ وَالِاسْتِفْتَاحُ مَحَلُّهَا، فَهِيَ حِرَفٌ يُسْتَفْتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى ذَلِكَ لِتَأَكُّدِ مَضْمُونِهِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ، (أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى) - بِالْقَصْرِ - لَجَأَ (إِلَى اللَّهِ) تَعَالَى، (فَآوَاهُ) - بِالْمَدِّ - (اللَّهُ) إِلَيْهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ بِقَصْرِ الْأَوَّلِ، وَمَدِّ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} [الكهف: 10](سورة الْكَهْفِ: الْآيَةَ: 10)، بِالْقَصْرِ:{وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50](سورة الْمُؤْمِنُونَ: الْآيَةَ: 50) بِالْمَدِّ، وَحُكِيَ الْقَصْرُ وَالْمَدُّ مَعًا، فِيهِمَا لُغَةٌ، وَمَعْنَى أَوَى إِلَى اللَّهِ: لَجَأَ، أَوْ عَلَى الْحَذْفِ، أَيْ إِلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعْنَى آوَاهُ: جَازَاهُ بِنَظِيرِ فِعْلِهِ بِأَنْ ضَمَّهُ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَرِضْوَانِهِ، أَوْ يُؤْوِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى ظِلِّ عَرْشِهِ، فَنِسْبَةُ الْإِيوَاءِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي حَقِّهِ ; لِأَنَّهُ الْإِنْزَالُ مَعَهُ فِي مَكَانٍ حِسِّيٍّ، فَالْمُرَادُ لَازَمَهُ وَهُوَ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْمَجَازُ مَجَازَ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ.

وَفِي التَّمْهِيدِ: أَوَى إِلَى اللَّهِ يَعْنِي فَعَلَ مَا يُرْضِي اللَّهَ فَحَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ،

ص: 571

وَمِثْلُهُ خَبَرُ: " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا أَوَى إِلَى اللَّهِ» "، يَعْنِي مَا كَانَ لِلَّهِ وَرَضِيَهُ.

(وَأَمَّا الْآخَرُ) - بِالْفَتْحِ - أَيِ الثَّانِي، (فَاسْتَحْيَا) أَيْ تَرَكَ الْمُزَاحَمَةَ كَمَا فَعَلَ رَفِيقُهُ حَيَاءًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَهُ عِيَاضٌ.

وَقَالَ الْحَافِظُ: أَيِ اسْتَحْيَا مِنَ الذَّهَابِ عَنِ الْمَجْلِسِ، كَمَا فَعَلَ الثَّالِثُ، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَسٌ سَبَبَ اسْتِحْيَاءِ هَذَا الثَّانِي، فَلَفْظُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ: وَمَضَى الثَّانِي قَلِيلًا، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، (فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ) ، أَيْ رَحِمَهُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ فَجَازَاهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، وَهَذَا أَيْضًا مُشَاكَلَةٌ ; لِأَنَّ الْحَيَاءَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُذَمُّ بِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ، فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ تَرْكِ الْعِقَابِ مِنْ ذِكْرِ الْمَلْزُومِ، وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ.

(وَأَمَّا الْآخَرُ) - بِالْفَتْحِ - أَيِ الثَّالِثُ، (فَأَعْرَضَ) عَنْ مَجْلِسِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، بَلْ وَلَّى مُدْبِرًا، (فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) ، أَيْ جَازَاهُ بِأَنْ سَخِطَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضًا مُشَاكَلَةٌ ; لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَجَازٌ عَنِ السُّخْطِ وَالْغَضَبِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ لَا لِعُذْرٍ، هَذَا إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَأُطْلِعَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ قَوْلَهُ:" فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ " إِخْبَارٌ وَدُعَاءٌ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: " فَاسْتَغْنَى فَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ "، وَهَذَا يُرَشِّحُ أَنَّهُ خَبَرٌ.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، إِذْ لَا يُعْرِضُ غَالِبًا عَنْ مَجْلِسِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مُنَافِقٌ، بَلْ بَانَ لَنَا بِقَوْلِهِ:" فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ "، أَنَّهُ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْرَضَ لِحَاجَةٍ، مَا قَالَ فِيهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَأَحْوَالِهِمْ لِلزَّجْرِ عَنْهَا - وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ غَيْبَةً -، مُلَازِمَةُ حَلَقِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَجُلُوسُ الْعَالِمِ وَالذَّاكِرِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُسْتَحِي وَالْمُزَاحِمِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، وَاسْتِحْبَابُ الْأَدَبِ فِي الْمَجْلِسِ، وَفَضْلُ سَدِّ الْحَلْقَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي سَدِّ خَلَلِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ، وَجَوَازُ التَّخَطِّي لِسَدِّ الْخَلَلِ مَا لَمْ يُؤْذِ، فَإِنْ خَشِيَ اسْتُحِبَّ الْجُلُوسُ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ كَمَا فَعَلَ الثَّانِي، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْعِلْمِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَفِي الصَّلَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 572

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَرَدَّ عليه السلام ثُمَّ سَأَلَ عُمَرُ الرَّجُلَ كَيْفَ أَنْتَ فَقَالَ أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ فَقَالَ عُمَرُ ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُ مِنْكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1792 -

1746 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ) عَمِّهِ (أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ) - جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ - (فَرَدَّ) عُمَرُ عليه السلام، ثُمَّ سَأَلَ

ص: 572

عُمَرُ الرَّجُلَ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟) أَيْ مَا حَالُكَ (فَقَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ: ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُ مِنْكَ) ; لِأَنَّ الْحَمْدَ عَلَى النِّعَمِ يَسْتَدْعِي زِيَادَتَهَا {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7](سورة إِبْرَاهِيمَ: الْآيَةَ: 7) ، وَقَدِ اقْتَدَى عُمَرُ بِالْمُصْطَفَى فِي ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا فُلَانُ؟ فَقَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُ مِنْكَ» ".

ص: 573

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ قَالَ فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَاطٍ وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ وَلَا مِسْكِينٍ وَلَا أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ قَالَ الطُّفَيْلُ فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ فَقُلْتُ لَهُ وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيِّعِ وَلَا تَسْأَلُ عَنْ السِّلَعِ وَلَا تَسُومُ بِهَا وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ قَالَ وَأَقُولُ اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ قَالَ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَا أَبَا بَطْنٍ وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1793 -

1747 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّ الطُّفَيْلَ) - بِضَمِّ الطَّاءِ، وَفَتْحِ الْفَاءِ - (ابْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، ثِقَةٌ، يُقَالُ: وُلِدَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، (أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ، (فَيَغْدُو) - بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ - (مَعَهُ إِلَى السُّوقِ، قَالَ: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمْرُرْ) بِالْفَكِّ، وَفِي نُسْخَةٍ:" يَمُرَّ " بِالْإِدْغَامِ (عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى سَقَّاطٍ) - بِفَتْحِ السِّينِ، وَالْقَافِ - بَائِعٌ رَدِيءُ الْمَتَاعِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: سَقَطِيٌّ، وَالْمَتَاعُ الرَّدِيءُ: سَقَطٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَسْقَاطٍ، (وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ) - بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ - قَالَ الْهَرَوِيُّ: مِنَ الْبَيْعِ كَالرِّكْبَةِ، وَالشِّرْبَةِ، وَالْقِعْدَةِ، وَالسَّقَّاطُ: بَيَّاعُ السَّقَطِ، (وَلَا مِسْكِينٍ وَلَا أَحَدٍ) عَامٌّ قُدِّمَ عَلَيْهِ الْخَاصُّ اهْتِمَامًا بِهِ، (إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، قَالَ الطُّفَيْلُ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا) ، أَيْ فِي يَوْمٍ، (فَاسْتَتْبَعَنِي) : طَلَبَ مِنِّي أَنْ أَتْبَعَهُ (إِلَى السُّوقِ فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيِّعِ) - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ - مَكْسُورَةً مِثْلَ بَائِعٍ، (وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ) ، جَمْعُ سِلْعَةٍ، (وَلَا تَسُومُ بِهَا، وَلَا تَجْلِسُ فِي) مَجَالِسِ (السُّوقِ؟ وَقَالَ الطُّفَيْلُ: وَأَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ) ، وَلَا نَذْهَبُ إِلَى السُّوقِ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ لَهُ، (قَالَ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطْنٍ، وَكَانَ الطُّفَيْلُ

ص: 573

ذَا بَطْنٍ) عَظِيمٍ، فَكَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو بَطْنٍ لِعِظَمِ بَطْنِهِ، (إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا)، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «أَفْشُوا السَّلَامَ، فَإِنَّهُ لِلَّهِ رِضًا» "، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: الْأَمْرُ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ؛ وَلِقَوْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ: " «أَيُّ خِصَالِ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» " كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَضَعَهُ فِي الْأَرْضِ، فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضَلُ دَرَجَةٍ ; لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ "، أَسْنَدَهُ أَبُو عُمَرَ.

ص: 574

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَلَيْكَ أَلْفًا ثُمَّ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ إِذَا دُخِلَ الْبَيْتُ غَيْرُ الْمَسْكُونِ يُقَالُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1794 -

1748 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ)، قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: مَعْنَاهُ الَّتِي تَغْدُو وَتَرُوحُ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ الْحَفَظَةَ الْغَادِيَةَ الرَّائِحَةَ، لِتَكْتُبَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ.

(فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَعَلَيْكَ أَلْفًا) مَا قُلْتَ، (ثُمَّ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ) ; لِأَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ عَلَى الشَّرْعِ.

وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: " «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَى آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ: وَعَلَيْكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَتَاكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَسَلَّمَا عَلَيْكَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنَّك لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] (سورة النِّسَاءِ: الْآيَةَ: 86) ، فَرَدَدْنَا عَلَيْكَ» .

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ غَيْرَ الْمَسْكُونِ يُقَالُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) .

ص: 574

[باب الْاسْتِئْذَانِ والصور والتماثيل وغيرها من القضايا]

كِتَابُ الِاسْتِئْذَانِ

1 -

بَابُ الِاسْتِئْذَانِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي فَقَالَ نَعَمْ قَالَ الرَّجُلُ إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا فَقَالَ الرَّجُلُ إِنِّي خَادِمُهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً قَالَ لَا قَالَ فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

54 -

كِتَابُ الِاسْتِئْذَانِ

1 -

بَابُ الِاسْتِئْذَانِ

أَيْ طَلَبُ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27](سورة النُّورِ: الْآيَةَ: 27) ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.

1796 -

1749 - (مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) - بِضَمِّ السِّينِ - (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) ، قَالَ أَبُو عُمَرَ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ لَا أَعْلَمُهُ يَسْتَنِدُ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَلَا صَالِحٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ) يُرِيدُ أَنَّهُمَا سَاكِنَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ يَقُولُ:{غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27](سورة النُّورِ: الْآيَةَ: 27)، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) ، لِعَدَمِ اخْتِصَاصِك بِسُكْنَى الْبَيْتِ.

(فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا) ، زِيَادَةً عَلَى كَوْنِي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ وَكَوْنِهَا أُمِّي.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: - اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) ثُمَّ لَمَّا رَآهُ مُجَادِلًا نَبَّهَهُ عَلَى مَا غَفَلَ عَنْهُ مِمَّا يَقْطَعُ حُجَّتَهُ، فَقَالَ:(أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟) - بِضَمٍّ فَسُكُونٍ - (قَالَ: لَا) أُحِبُّ ذَلِكَ، (قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) ، لِأَنَّك إِنْ دَخَلْتَ بِدُونِهِ قَدْ تَكُونُ عُرْيَانَةً فَتَرَاهَا.

ص: 575

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ وَإِلَّا فَارْجِعْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1796 -

1750 - (مَالِكٌ عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ)، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ إِنَّهُ مَخْرَمَةَ بْنَ بُكَيْرٍ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرٍ، يَعْنِي فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَمْرٌو (عَنْ بُكَيْرٍ) - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ - (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ) - بِمُعْجَمَةٍ، وَجِيمٍ - الْمَخْزُومِيِّ، مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيُّ، نَزِيلُ مِصْرَ مِنَ الثِّقَاتِ، (عَنْ بُسْرِ) - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ - (ابْنِ سَعِيدٍ) - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - الْمَدَنِيِّ الْعَابِدِ الثِّقَةِ الْحَافِظِ، (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ (الْخُدْرِيِّ) الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ، (عَنْ أَبِي مُوسَى) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ (الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الِاسْتِئْذَانُ) لِلدُّخُولِ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْإِذْنِ، أَيْ طَلَبُهُ (ثَلَاثٌ) مِنَ الْمَرَّاتِ، (فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ وَإِلَّا فَارْجِعْ) ; لِأَنَّهُ سبحانه وتعالى، قَالَ:{فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28](سورة النُّورِ: الْآيَةَ: 28)، قَالَ الْمَازِرِيُّ: صُورَةُ الِاسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَدْخُلُ؟ ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ أَوْ لَا.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَتَعَيَّنُ هَذَا اللَّفْظُ، وَبَيَّنَ حِكْمَةَ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْأَفْرَادِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا:" «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ: فَالْأُولَى تُسْمِعُونَ، وَالثَّانِيَةُ: يَسْتَصْلِحُونَ، وَالثَّالِثَةُ: يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ» "، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فِي الِاسْتِئْذَانِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا لَمْ يَسْمَعْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدُوا.

وَرَوَى سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثٍ إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ.

وَقِيلَ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ الثَّلَاثِ لِلْإِبَاحَةِ وَالتَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسْتَأْذِنِ، فَمَنِ اسْتَأْذَنَ أَكْثَرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، انْتَهَى.

ص: 576

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ «جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا ثُمَّ رَجَعَ فَأَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي أَثَرِهِ فَقَالَ مَا لَكَ لَمْ تَدْخُلْ فَقَالَ أَبُو مُوسَى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الْاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ وَإِلَّا فَارْجِعْ فَقَالَ عُمَرُ وَمَنْ يَعْلَمُ هَذَا لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ كَذَا وَكَذَا فَخَرَجَ أَبُو مُوسَى حَتَّى جَاءَ مَجْلِسًا فِي الْمَسْجِدِ يُقَالُ لَهُ مَجْلِسُ الْأَنْصَارِ فَقَالَ إِنِّي أَخْبَرْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الْاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ وَإِلَّا فَارْجِعْ فَقَالَ لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَعْلَمُ هَذَا لَأَفْعَلَنَّ بِكَ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَلْيَقُمْ مَعِي فَقَالُوا لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قُمْ مَعَهُ وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ أَصْغَرَهُمْ فَقَامَ مَعَهُ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي مُوسَى أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1798 -

1751 - (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخَ الْمَدَنِيِّ (عَنْ غَيْرِ) ، أَيْ أَكْثَرَ مِنْ (وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ)، وَصَلَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ:(أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: " كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ

ص: 576

الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى، كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ "، وَلِمُسْلِمٍ: " كُنَّا فِي مَجْلِسٍ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَأَتَى أَبُو مُوسَى مُغْضَبًا "، وَلِأَبِي دَاوُدَ: " فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا، فَقُلْنَا لَهُ: مَا أَفْزَعَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُهُ "، (فَاسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا، ثُمَّ رَجَعَ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَفَرَغَ عُمَرُ - أَيْ: مِمَّا كَانَ مَشْغُولًا بِهِ - فَقَالَ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ائْذَنُوا لَهُ؟ قِيلَ: إِنَّهُ رَجَعَ.

(فَأَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي أَثَرِهْ) ، بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرٍ، فَسُكُونٍ، أَيْ: قُرْبَ رُجُوعِهِ، (فَقَالَ: مَا لَكَ لَمْ تَدْخُلْ؟) ، وَفِي رِوَايَةٍ:" مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي وَقَدْ دَعَوْتُكَ "؟ فَقَالَ (أَبُو مُوسَى) : زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعَتُ "، ( «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ» ) مِنَ الْمَرَّاتِ، (فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ وَإِلَّا فَارْجِعْ)، قِيلَ: لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كُرِّرَ ثَلَاثًا سُمِعَ وَفِهِمَ غَالِبًا.

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ بُرْدَةَ: " جَاءَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا أَبُو مُوسَى، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْأَشْعَرِيُّ، ثُمَّ انْصَرَفَ "، قَالَ الْحَافِظُ: يُؤْخَذُ مِنْ صَنِيعِ أَبِي مُوسَى حَيْثُ ذَكَرَ اسْمَهُ أَوَّلًا وَكُنْيَتَهُ ثَانِيًا، وَنِسْبَتَهُ ثَالِثًا، أَنَّ الْأُولَى هِيَ الْأَصْلُ، وَالثَّانِيَةُ إِذَا جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْتَبَسَ عَلَى مَنِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثَةُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ عَرَفَهُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا فَعَلَهُ أَبُو مُوسَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَوْقِيفًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوْقِيفًا فَقَوْلُ رَاوِي الْحَدِيثِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ، انْتَهَى.

وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، فَقَالَ: يَسْتَأْذِنُ أَبُو مُوسَى، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: يَسْتَأْذِنُ الْأَشْعَرِيُّ، ثُمَّ ثَالِثًا: يَسْتَأْذِنُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْكُنْيَةِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: جَمَعَ بَيْنَ الْكُنْيَةِ وَالنِّسْبَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: جَمَعَ بَيْنَ النِّسْبَةِ وَالِاسْمِ، وَالتَّقْصِيرُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ، إِمَّا لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ الْمَتْرُوكَ، فَرَوَى مَا تَحَقَّقَ، أَوْ لِأَنَّ أَبَا مُوسَى حَدَّثَ تَارَةً بِكَذَا، وَأُخْرَى بِكَذَا بِاعْتِبَارِ مَا يَرَاهُ أَهَمَّ وَقْتَ التَّحْدِيثِ فَرَوَى عَنْهُ كُلُّ رَاوٍ مَا حَدَّثَ بِهِ.

(فَقَالَ عُمَرُ: وَمَنْ يَعْلَمُ هَذَا) مَعَكَ (لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ) غَيْرَكَ، (لَأَفْعَلَنَّ بِكَ كَذَا وَكَذَا) فِي مُسْلِمٍ:" لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ "، وَلَهُ أَيْضًا:" فَوَاللَّهِ لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ، أَوْ لِتَأْتِيَنِّي بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا، وَفِي رِوَايَةٍ: " لَأَجْعَلَنَّكَ عِظَةً "، (فَخَرَجَ أَبُو مُوسَى حَتَّى جَاءَ مَجْلِسًا فِي الْمَسْجِدِ يُقَالُ لَهُ مَجْلِسُ الْأَنْصَارِ)، لِجُلُوسِهِمْ فِيهِ (فَقَالَ: إِنِّي أَخْبَرْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

ص: 577

الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ وَإِلَّا فَارْجِعْ، فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَعْلَمُ هَذَا لَأَفْعَلَنَّ بِكَ كَذَا وَكَذَا) يَتَوَعَّدُهُ، (فَإِنْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَلْيَقُمْ مَعِي، فَقَالُوا)، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ:" فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ "، وَلِمُسْلِمٍ:" فَقَالَ أُبَيٌّ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثُنَا سِنًّا، قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ "، فَكَأَنَّ أُبَيًّا ابْتَدَأَ ذَلِكَ، وَوَافَقُوا عَلَيْهِ فَنُسِبَ لِلْجَمِيعِ، فَقَالُوا:(لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: قُمْ مَعَهُ، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ أَصْغَرَهُمْ) ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ لِكِبَارِهِمْ وَصِغَارِهِمْ، حَتَّى أَنَّ أَصْغَرَهُمْ يَحْفَظُهُ وَسَمِعَهُ مِنَ الْمُصْطَفَى، (فَقَامَ مَعَهُ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ:" فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ "، يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِأَجْلِ الْكَسْبِ لِعِيَالِهِ، وَالتَّعَفُّفِ عَنِ النَّاسِ، فَفِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ الْخَاصَّ قَدْ يَخْفَى عَنِ الْأَكَابِرِ، فَيَعْلَمُهُ مَنْ دُونَهُمْ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَذَلِكَ يَصْدُقُ فِي وَجْهِ مَنْ يُطْلِقُ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، إِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ فَيَقُولُ: لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَعَلِمَهُ فُلَانٌ، فَإِذَا أُخْفِيَ ذَلِكَ عَلَى أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى.

قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ تَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ زَعَمَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْبَلُ خَبَرًا لِوَاحِدٍ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ خَبَرَ أَبِي سَعِيدٍ الْمُطَابِقِ لِخَبَرِ أَبِي مُوسَى، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَتَثَبَّتَ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ مَذْهَبِهِ.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بُرْدَةَ: " فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ لِعُمَرَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ " عِنْدَ مُسْلِمٍ وَعِنْدَ غَيْرِهِ: " يَا عُمَرُ لَا تَكُنْ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عُمَرَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ "، (فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى: أَمَّا إِنِّي لَا أَتَّهِمُكَ) ، بِمَا قَلْتُهُ لَكَ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْأَلْفَاظِ، (وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ) : يَكْذِبَ (النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ، فَخَشِيَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَخْتَلِقُ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةِ طَلَبًا لِلْخُرُوجِ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ إِعْلَامَهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

زَادَ غَيْرُهُ: فَأَرَادَ عُمَرُ سَدَّ هَذَا الْبَابِ وَرَدْعَ غَيْرِ أَبِي مُوسَى لَا شَكًّا فِي رِوَايَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ دُونَهُ إِذَا بَلَغَتْهُ قِصَّتُهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، أَوْ أَرَادَ وَضْعَ حَدِيثٍ خَافَ مِنْ مِثْلِ قَضِيَّةِ أَبِي مُوسَى فَالْمُرَادُ غَيْرُهُ.

وَفِي الْقِصَّةِ دَلِيلٌ

ص: 578

عَلَى مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَوْلِ الْحَقِّ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَقَبُولِهِ، فَإِنَّ أُبَيًّا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ تَهْدِيدَ أَبِي مُوسَى، وَخَاطَبَهُ مَعَ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بِيَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَوْ يَا عُمَرُ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِنْكَارٍ.

ص: 579

[التَّشْمِيتِ فِي الْعُطَاسِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَقُلْ إِنَّكَ مَضْنُوكٌ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ لَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ التَّشْمِيتِ فِي الْعُطَاسِ

1799 -

1752 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرٍ اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ وَاحِدٌ مُرْسَلًا، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنْ عَطَسَ) ، بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَمُضَارِعُهُ بِكَسْرِهَا، وَالِاسْمُ الْعُطَاسُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - (فَشَمِّتْهُ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُهْمَلَةٍ لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، قَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ أَبْعَدَ اللَّهُ عَنْكَ الشَّمَاتَةَ، وَجَنَّبَكَ مَا يُشْمَتُ بِهِ عَلَيْكَ، وَبِالْمُهْمَلَةِ جَعَلَكَ اللَّهُ عَلَى سَمْتٍ حَسَنٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ بِمُعْجَمَةٍ، مِنَ الشَّوَامِتِ وَهِيَ الْقَوَائِمُ، هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.

وَرُوِيَ بِمُهْمَلَةٍ مِنَ السَّمْتِ، وَهُوَ قَصْدُ الشَّيْءِ، وَصَفَتِهِ، أَيْ: ادْعُ اللَّهَ لَهُ بِأَنْ يَرُدَّ شَوَامِتَهُ، أَيْ: قَوَائِمَهُ، أَوْ سَمْتَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعُطَاسَ يَحُلُّ مَرَابِطَ الْبَدَنِ، وَيَفْصِلُ مَعَاقِدَهُ، فَمَعْنَى رَحِمَكَ اللَّهُ: أَعْطَاكَ رَحْمَةً تَرْجِعُ بِهَا إِلَى حَالِكَ الْأُولَى، وَيَرْجِعُ بِهَا كُلُّ عُضْوٍ إِلَى سَمْتِهِ.

(ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ) ، إِذَا حَمِدَ، (ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَقُلْ: إِنَّكَ مَضْنُوكٌ) - بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ - أَيْ: مَزْكُومٌ، وَالضُّنَاكُ بِالضَّمِّ: الزُّكَامُ يُقَالُ: أَضَنَكَهُ اللَّهُ وَأَزْكَمَهُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَالْقِيَاسُ مُضْنَكٌ وَمُزْكَمٌ، لَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى ضَنُكَ وَزَكَمَ.

(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ: لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ) وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَأَبِي يَعْلَى، وَابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيُشَمِّتْهُ جَلِيسُهُ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ثَلَاثٍ، فَهُوَ مَزْكُومٌ، وَلَا يُشَمَّتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ» "، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ بِالْعَافِيَةِ؛ لِأَنَّ الزَّكْمَةَ عِلَّةٌ، وَإِشَارَةٌ إِلَى الْحَثِّ عَلَى تَدَارُكِ هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَلَا يُهْمِلُهَا فَيَعْظُمُ أَمْرُهَا، وَكَلَامُهُ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ.

وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ:" «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَشَمِّتُوهُ، وَإِذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ» ".

ص: 579

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ قَالَ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1800 -

1753 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا عَطَسَ، فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ، وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ)، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: " «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلْيَقُلْ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.

وَلْيَقُلْ هُوَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ» "، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مَرْفُوعًا: "«إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ وَصَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» "، وَلِلطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: "«إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا قَالَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ» "، وَقَدْ رُجِّحَ الْجَمْعُ بَيْنَ الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ، وَيَهْدِيكُمُ اللَّهُ. . . إِلَخْ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ بِالْهِدَايَةِ لِلْمُسْلِمِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَمُنِعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الدُّعَاءَ بِالْهِدَايَةِ لِلْإِيمَانِ الْمُتَلَبِّسِ بِهِ، بَلْ مَعْرِفَةُ تَفَاصِيلِ أَجْزَائِهِ وَإِعَانَتِهِ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَحْتَاجُ ذَلِكَ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَمِنْ ثَمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى أَنْ يَسْأَلَ الْهِدَايَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.

ص: 580

[مَا جَاءَ فِي الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ رَافِعَ بْنَ إِسْحَقَ مَوْلَى الشِّفَاءِ أَخْبَرَهُ قَالَ «دَخَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ نَعُودُهُ فَقَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ أَوْ تَصَاوِيرُ» شَكَّ إِسْحَقُ لَا يَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الصُّوَرِ

بِضَمِّ الصَّادِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ، جَمْعُ صُورَةٍ، وَهِيَ مَا يُصْنَعُ عَلَى مِثْلِ الْحَيَوَانِ.

1801 -

1754 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) زَيْدٍ الْخَزْرَجِيِّ: (أَنَّ رَافِعَ) - بِالرَّاءِ - (ابْنَ إِسْحَاقَ) الْمَدَنِيَّ التَّابِعِيَّ الثِّقَةَ، (مَوْلَى الشِّفَاءِ) - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ - بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الصَّحَابِيَّةِ، وَيُقَالُ: مَوْلَى أَبِي طَلْحَةَ، وَيُقَالُ: مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ (أَخْبَرَهُ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ) زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ وَالِدُ إِسْحَاقَ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ أُمَّهُ أُمُّ سَلِيمٍ لَمَّا وَلَدَتْهُ، قَالَتْ: «يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيُحَنِّكْهُ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُهُ صلى الله عليه وسلم وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ فَجَعَلَ يَتَمَلَّظُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

ص: 580

حُبُّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ» .

قَالَ ابْنُ سَعْدٍ، ثِقَةٌ جَلِيلٌ.

الْحَدِيثُ رُوِيَ عَنْ أَبِيهِ وَأَخِيهِ لِأُمِّهِ أَنَسٍ، وَعَنْهُ ابْنَاهُ إِسْحَاقُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ ابْنِهِ يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُمْ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَاسْتُشْهِدَ بِفَارِسَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ (عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ نُعُودُهُ) مِنْ مَرَضٍ بِهِ، (فَقَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمَلَائِكَةَ) ، قِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَلَكٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَلَائِكَةُ الْوَحْيِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، (لَا تَدْخُلُ بَيْتًا)، أَيْ: مَكَانًا يَسْتَقِرُّ إِلَيْهِ الشَّخْصُ سَوَاءٌ كَانَ بَيْتًا، أَوْ خَيْمَةً، أَوْ غَيْرَهُمَا، (فِيهِ تَمَاثِيلُ)، أَيْ: تَصَاوِيرُ، جَمْعُ تِمْثَالٍ وَهُوَ الصُّورَةُ مِمَّا يُشْبِهُ صُورَةَ الْحَيَوَانِ التَّامِّ التَّصَوُّرِ، وَلَمْ تُقْطَعْ رَأْسُهُ وَيُمْتَهَنْ، أَوْ عَامٌّ فِي كُلِّ الصُّوَرِ، وَسَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ كَوْنُهَا مَعْصِيَةً فَاحِشَةً؛ إِذْ فِيهَا مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللَّهِ، وَبَعْضُهَا فِي صُورَةِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

(أَوْ تَصَاوِيرُ. شَكَّ إِسْحَاقُ لَا يَدْرِي أَيَّتَهُمَا)، أَيِ: اللَّفْظَيْنِ، (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) : وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَعْنَى، وَلَوْلَا جَزْمُ الرَّاوِي بِأَنَّهُ شَكَّ، لَأَمْكَنَ جَعْلُ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَتَفْسِيرُ التَّمَاثِيلِ بِالْأَصْنَامِ، وَالتَّصَاوِيرِ بِالْحَيَوَانِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُهُ إِسْنَادًا، انْتَهَى، أَيْ: مِنْ أَصَحِّهِ وَأَحْسَنِهِ.

ص: 581

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ «يَعُودُهُ قَالَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فَدَعَا أَبُو طَلْحَةَ إِنْسَانًا فَنَزَعَ نَمَطًا مِنْ تَحْتِهِ فَقَالَ لَهُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ لِمَ تَنْزِعُهُ قَالَ لِأَنَّ فِيهِ تَصَاوِيرَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مَا قَدْ عَلِمْتَ فَقَالَ سَهْلٌ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ قَالَ بَلَى وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِي»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1802 -

1755 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) - بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ - سَالِمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - بِفَتْحِهَا - (ابْنِ عُتْبَةَ) - بِضَمِّهَا، وَإِسْكَانِ الْفَوْقِيَّةِ - (ابْنِ مَسْعُودٍ) أَحَدِ الْفُقَهَاءِ (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ) زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ (الْأَنْصَارِيِّ) الْخَزْرَجَيِّ (يَعُودُهُ) لِمَرَضٍ، (قَالَ: فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ) - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ النُّونِ - الْأَنْصَارِيَّ الْبَدْرِيَّ، (فَدَعَا أَبُو طَلْحَةَ إِنْسَانًا، فَنَزَعَ نَمَطًا) - بِفَتْحِ النُّونِ، وَالْمِيمِ، وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ -: ضَرْبٌ مِنَ الْبُسُطِ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ (مِنْ تَحْتِهِ، فَقَالَ لَهُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: لِمَ تَنْزِعُهُ؟ قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ تَصَاوِيرَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مَا قَدْ عَلِمْتَ)

ص: 581

يَا سَهْلُ إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ صُوَرٌ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ؟ (قَالَ سَهْلٌ: أَلَمْ يَقُلْ إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا) - بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْقَافِ - أَيْ: نَقْشًا وَوَشْيًا (فِي ثَوْبٍ؟ قَالَ: بَلَى)، أَيْ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، (وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِي) لِلْبُعْدِ عَنِ الصُّوَرِ مِنْ حَيْثُ هِيَ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَاصِلُ مَا فِي اتِّخَاذِ الصُّوَرِ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ أَجْسَامٍ حَرُمَ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَتْ رَقْمًا فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا حَتَّى الرَّقْمُ وَالتَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ ثَابِتَةَ الْهَيْئَةِ قَائِمَةَ الشَّكْلِ حَرُمَ، وَإِنْ قُطِعَتِ الرَّأْسُ، وَتَفَرَّقَتِ الْأَجْزَاءُ جَازَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْتَهَنُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا فَلَا، انْتَهَى.

وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مَحَلُّهُ فِي غَيْرِ لِعَبِ الْبَنَاتِ.

وَكَذَا رَجَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ الْآثَارَ لَمْ تَتَعَارَضْ، وَهَذَا أَوْلَى مَا اعْتُقِدَ فِيهِ.

قَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَتْنِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يَلْقَ أَبَا طَلْحَةَ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ قَالَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرْوِي حَدِيثَ مَالِكٍ هَذَا، وَأَظُنُّهُ لِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ السِّيَرِ مَاتَ أَبُو طَلْحَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَصِحُّ لَهُ السَّمَاعُ وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَلْحَةَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ لِمَا صَحَّ عَنْ أَنَسٍ، سَرَدَ أَبُو طَلْحَةَ الصَّوْمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، فَسَمَاعُ عُبَيْدٍ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ، وَقَدْ ثَبَتَ هُنَا صَحِيحًا فَكَيْفَ يُنْكَرُ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ إِنْكَارِهِ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، مَرْفُوعًا:" «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ» "، فَقَالَ: خَالَفَ الْأَوْزَاعِيُّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ، فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي النَّضْرِ اسْتَثْنَى مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ.

وَجَمَعَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مَعَ أَبِي طَلْحَةَ، وَلَيْسَ هَذَانِ فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ فَهُوَ غَيْرُ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخُهُمَا وَاحِدًا، وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَحَدِيثُ ابْنُ شِهَابٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِإِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ رِوَايَةَ الْأَوْزَاعِيِّ بِإِسْقَاطِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي النَّضْرِ إِنْ كَانَ وَاحِدًا.

ص: 582

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ فَعَرَفَتْ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَمَاذَا أَذْنَبْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ قَالَتْ اشْتَرَيْتُهَا لَكَ تَقْعُدُ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1803 -

1756 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ) ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ

ص: 582

(عَنْ) عَمَّتِهِ (عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً) ، بِضَمِّ النُّونِ، وَالرَّاءِ، وَبِكَسْرِهِمَا، رِوَايَتَانِ بَيْنَهُمَا مِيمٌ سَاكِنَةٌ، وَقَافٌ مَفْتُوحَةٌ، وَحُكِيَ تَثْلِيثُ النُّونِ وِسَادَةٌ صَغِيرَةٌ (فِيهَا تَصَاوِيرُ)، أَيْ: تَمَاثِيلُ حَيَوَانٍ، (فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ) الْحُجْرَةَ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:" وَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ "، (فَعَرَفَتْ) عَائِشَةُ (فِي وَجْهِهِ) الْوَجِيهِ (الْكَرَاهِيَةَ) - بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَخِفَّةِ الْيَاءِ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَإِسْقَاطِ الْيَاءِ، (وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ) فِيهِ التَّوْبَةُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ إِجْمَالًا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَحْضِرِ التَّائِبُ خُصُوصَ الذَّنْبِ الَّذِي حَصَلَتْ بِهِ مُؤَاخَذَاتُهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ حُسْنُ أَدَبٍ مِنَ الصِّدِّيقَةِ حَيْثُ قَدَّمَتِ التَّوْبَةَ عَلَى اطِّلَاعِهَا عَلَى الذَّنْبِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتْ: مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ أَيْ: مَا اطَّلَعَتْ عَلَى الذَّنْبِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟) مَا شَأْنُهَا فِيهَا تَمَاثِيلُ، (قَالَتْ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ تَقْعُدُ عَلَيْهَا، وَتَوَسَّدُهَا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْأَصْلُ: وَتَتَوَسَّدُهَا.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّورَةِ) الْحَيَوَانِيَّةِ الَّذِينَ يَصْنَعُونَهَا يُضَاهِئُونَ بِهَا خَلْقَ اللَّهِ، (يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا) - بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ، وَضَمِّ الْيَاءِ - (مَا خَلَقْتُمْ) صَوَّرْتُمْ كَصُورَةِ الْحَيَوَانِ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْجِيزِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْخِ الرُّوحِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي صَوَّرُوهَا، فَيَدُومُ تَعْذِيبُهُمْ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ» "، أَيْ: أَبَدًا فَهُوَ مُعَذَّبٌ دَائِمًا لِأَنَّهُ جَعَلَ غَايَةَ عَذَابِهِ إِلَى أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَافِخٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْلِيدَهُ فِي النَّارِ، لَكِنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ كَفَرَ بِالتَّصْوِيرِ، أَمَّا غَيْرُهُ وَهُوَ الْعَاصِي يَفْعَلُ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهُ، وَلَا قَاصِدٍ أَنْ يَعْبَدَ، فَيُعَذَّبُ إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ عَذَابًا يَسْتَحِقُّهُ، ثُمَّ يَخْلُصُ مِنْهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الزَّجْرُ الشَّدِيدُ بِالْوَعِيدِ بِعِقَابِ الْكَافِرِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِارْتِدَاعِ، وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ إِلَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْإِحْيَاءِ، وَقَوْلُهُ: كُلِّفَ لَا يُنَافِي أَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ تَكْلِيفُ عَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، فَأَمَّا مِثْلُ هَذَا التَّكْلِيفِ، فَلَا يَمْتَنِعُ؛ لِأَنَّهُ نَفْسَهُ عَذَابٌ.

(ثُمَّ قَالَ: إِنِ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ) الْحَيَوَانِيَّةُ، فَلَا بَأْسَ بِصُورَةِ الْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِقَوْلِ ابْنِ

ص: 583

عَبَّاسٍ لِرَجُلٍ: " إِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ فَاعِلًا، فَاصْنَعِ الشَّجَرَةَ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(لَا تُدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ) الْحَفَظَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَوْ مَلَائِكَةُ الْوَحْيِ كَجِبْرِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ قَصْرُ النَّفْيِ عَلَى زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ بَعْدَهُ، وَبِانْقِطَاعِهِ يَنْقَطِعُ نُزُولُهُمْ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِالرَّحْمَةِ، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيُعَاقَبُ مُتَّخِذُهَا بِحِرْمَانِ دُخُولِهِمْ بَيْتَهُ، وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُ، أَمَّا الْحَفَظَةُ فَلَا يُفَارِقُونَ الْمُكَلَّفَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، إِلَّا عِنْدَ الْجِمَاعِ وَالْخَلَاءِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَضَعَّفَهُ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِجَوَازِ أَنْ لَا يَدْخُلُوا، بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى بَابِ الْبَيْتِ مَثَلًا، وَيُطْلِعُهُمُ اللَّهُ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ وَيُسْمِعُهُمْ قَوْلَهُ، وَقَدْ زَادَ بَعْضُ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَتْ عَائِشَةُ:" فَأَخَذْتُهُ فَجَعَلْتُهُ مِرْفَقَيْنِ، فَكَانَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا فِي الْبَيْتِ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَيْعِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي النِّكَاحِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَفِي اللِّبَاسِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ فِي اللِّبَاسِ عَنْ يَحْيَى، الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، السِّتَّةُ عَنْ نَافِعٍ نَحْوَهُ.

ص: 584

[مَا جَاءَ فِي أَكْلِ الضَّبِّ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَإِذَا ضِبَابٌ فِيهَا بَيْضٌ وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا فَقَالَتْ أَهْدَتْهُ لِي أُخْتِي هُزَيْلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كُلَا فَقَالَا أَوَلَا تَأْكُلُ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ إِنِّي تَحْضُرُنِي مِنْ اللَّهِ حَاضِرَةٌ قَالَتْ مَيْمُونَةُ أَنَسْقِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ لَبَنٍ عِنْدَنَا فَقَالَ نَعَمْ فَلَمَّا شَرِبَ قَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا فَقَالَتْ أَهْدَتْهُ لِي أُخْتِي هُزَيْلَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتِكِ جَارِيَتَكِ الَّتِي كُنْتِ اسْتَأْمَرْتِينِي فِي عِتْقِهَا أَعْطِيهَا أُخْتَكِ وَصِلِي بِهَا رَحِمَكِ تَرْعَى عَلَيْهَا فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي أَكْلِ الضَّبِّ

بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَشَدِّ الْمُوَحِّدَةِ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ كَبِيرُ الْقَدِّ، قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ، وَإِنَّ لَحْمَهُ يُذْهِبُ الْعَطَشَ، وَأَنَّهُ يَعِيشُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ فَأَزْيَدَ، وَلَا يَسْقُطُ لَهُ سِنٌّ، وَيَبُولُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَطْرَةً.

1804 -

1757 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَازِنِيِّ مِنَ الثِّقَاتِ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) - بِتَحْتِيَّةٍ، وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ - أَحَدِ الْفُقَهَاءِ التَّابِعِيِّ، (أَنَّهُ قَالَ) : مُرْسَلًا، وَقَدْ رَوَاهُ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مَيْمُونَةَ: « (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ) الْهِلَالِيَّةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، (فَإِذَا ضِبَابٌ) - بِالْكَسْرِ - جَمْعُ

ص: 584

ضَبٍّ (فِيهَا بَيْضٌ، وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ) ابْنِ أُخْتِ مَيْمُونَةَ لُبَابَةَ الصُّغْرَى.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: (مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ فَقَالَتْ) مَيْمُونَةُ: (أَهْدَتْهُ لِي أُخْتِي هُزَيْلَةُ) » - بِضَمِّ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الزَّايِ، فَتَحْتِيَّةٍ فَلَامٍ - (بِنْتُ الْحَارِثِ) الْهِلَالِيَّةُ صَحَابِيَّةٌ تُكَنَّى أُمُّ حُفَيْدٍ - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْفَاءِ - تَزَوَّجَتْ فِي الْأَعْرَابِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَهَدَتْ خَالَتِي أُمُّ حُفَيْدٍ بِنْتُ الْحَارِثِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا وَأَقِطًا وَضِبَابًا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ السَّمْنِ وَالْأَقِطِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ تُقَذُّرًا "، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَكَلْنَا مِنَ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَتِهِ صلى الله عليه وسلم» - وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ.

وَفِي لَفْظٍ: " فَدَعَا بِهِنَّ صلى الله عليه وسلم فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، ( «فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: كُلَا، فَقَالَا: أَوَ لَا تَأْكُلُ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي تَحْضُرُنِي مِنَ اللَّهِ حَاضِرَةٌ» )، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الضِّبَابِ وَالْبَيْضِ رَائِحَةٌ مُتَكَرِّهَةٌ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثَّوْمِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْمَلَكَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ، وَلَا يَصْلُحُ لِمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ارْتِكَابَ الْمُشْتَبِهَاتِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَاهُ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي:" «لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» "، كَذَا قَالَ وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى.

« (قَالَتْ مَيْمُونَةُ: أَنَسْقِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ لَبَنٍ عِنْدَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا شَرِبَ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟) : اللَّبَنُ، (قَالَتْ: أَهْدَتْهُ لِي أُخْتِي هُزَيْلَةُ) » - بِضَمِّ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الزَّايِ - (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتِكِ) - بِكَسْرِ التَّاءِ، وَالْكَافِ - أَيْ: أَخْبِرِينِي عَنْ شَأْنِ (جَارِيَتَكِ) ، وَكَانَتْ سَوْدَاءَ كَمَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا (الَّتِي كُنْتِ اسْتَأْمَرْتِينِي) بِدُونِ يَاءٍ لِلتَّخْفِيفِ، كَقَوْلِهِ: فَلَوْ أَنَّكِ فِي يَوْمِ الرَّخَا سَأَلْتِنِي.

وَفِي نُسْخَةٍ: سَأَلْتِينِي اسْتَأْمَرْتِينِي بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، (فِي عِتْقِهَا أَعْطِيهَا أُخْتَكِ) هُزَيْلَةَ الْمَذْكُورَةَ، (وَصِلِي بِهَا رَحِمَكِ تَرْعَى عَلَيْهَا مَوَاشِيَهَا فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكِ) مِنْ عِتْقِهَا لِتَعَدِّي النَّفْعُ، فَفِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ لِذَوِي الرَّحِمِ أَفْضَلُ مِنَ الْعِتْقِ كَمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، لَكِنْ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ

ص: 585

يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ بَيَّنَ وَجْهَ الْأَفْضَلِيَّةِ هُنَا بِقَوْلِهِ: تَرْعَى عَلَيْهَا.

وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: " «أَفَلَا فَدَيْتِ بِهَا بِنْتَ أُخْتِكِ مِنْ رِعَايَةِ الْغَنَمِ» "، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ أَفْضَلُ مِنَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ، ثُمَّ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مَيْمُونَةَ:" «أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً، وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي، قَالَ: أَوَ فَعَلْتِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخَوَاتِكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ» "؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا اسْتَأْمَرَتْهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَأَعْتَقَتْهَا بِدُونِ اسْتِئْذَانٍ ظَنًّا أَنَّ سُكُوتَهُ رِضًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا وَقَدَّمَتْ لَهُ الْهَدِيَّةَ، وَشَرِبَ مِنَ اللَّبَنِ، وَسَأَلَهَا، وَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ هَدِيَّةٌ، أَمَرَهَا بِأَنْ تُعْطِيَهَا الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا أَعْتَقَتْهَا، فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخَوَاتِكِ. . . إِلَخْ، وَهُوَ بِالْفَوْقِيَّةِ جَمْعُ أُخْتٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِاللَّامِ جَمْعُ خَالٍ، وَرَجَّحَ عِيَاضٌ الْفَوْقِيَّةَ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ: أُخْتَكِ، وَجُمِعَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ ذَلِكَ.

ص: 586

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ «أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ فَقِيلَ هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ يَدَهُ فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1805 -

1758 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أَسْعَدَ (بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) الْأَنْصَارِيِّ لَهُ رِوَايَةٌ، وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ بَدْرِيٌّ، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) الْحَبْرِ التُّرْجُمَانِ (عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ) الْمَخْزُومِيِّ سَيْفِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى الْقَعْنَبِيُّ، وَابْنُ الْقَاسِمِ وَجَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ: أَنَّهُمَا دَخَلَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بَيْتَ مَيْمُونَةَ، وَتَابَعَهُ قَوْمٌ، وَكَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، انْتَهَى.

وَمِنَ الْقَوْمِ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ مِثْلُ الْأَوَّلِينَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَيْفُ اللَّهِ أَخْبَرَهُ، (أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ - (بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ) - بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ النُّونِ، فَوَاوٍ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ -: مَشْوِيٍّ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ، يُقَالُ: حَنِيذٍ وَمَحْنُوذٍ، كَقَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ:" «أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى مَيْمُونَةَ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا قَدْ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا أُمُّ حُفَيْدَةَ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدِّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ» "، (فَأَهْوَى) - بِإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ - أَيْ: مَدَّ (إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ) لِيَأْخُذَهُ

ص: 586

(فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ) - لَمْ يُسَمِّ النِّسْوَةَ - وَالْقَائِلُ: هِيَ مَيْمُونَةُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، (أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، فَقِيلَ هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ)، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْأَصَمِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ "، (فَرَفَعَ يَدَهُ) عَنِ الضَّبِّ، قَالَ خَالِدٌ:(فَقُلْتُ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي) » مَكَّةَ أَصْلًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا كَثِيرًا فِيهَا فَلَمْ يَأْكُلُوهُ.

وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ: " هَذَا لَحْمٌ لَمْ آكُلْهُ قَطُّ "، (فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ) - بِعَيْنِ مُهْمَلَةٍ، وَفَاءِ مُضَارِعٍ، عِفْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: أَجِدُ نَفْسِي تَكْرَهُهُ، وَمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَيْسَ بِحَرَامٍ، قِيلَ: وَلِمَ لَا تَأْكُلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي أَجِدُنِي.

(وَقَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ) - بِجِيمٍ سَاكِنَةٍ، فَفَوْقِيَّةٍ، فَرَاءٍ مُكَرَّرَةٍ - أَيْ: جَرَرْتُهُ (فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ) إِلَيَّ، فَأَكْلُهُ حَلَالٌ بِنَصِّهِ وَإِقْرَارِهِ عَلَى أَكْلِهِ عِنْدَهُ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ بِلَا كَرَاهَةٍ، كَمَا رَجَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ خِلَافًا لِقَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكْرَهُهُ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ لَمَّا سَأَلَتْهْ عَنْ أَكْلِهِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ.

وَحَكَى عِيَاضٌ تَحْرِيمَهُ عَنْ قَوْمٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ مِنْهُ مَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا النُّفُوسُ تَعَافُ مَا لَمْ تَعْهَدْ، وَحَلَّ الضَّبُّ، وَإِنَّ مِنَ الْحَلَالِ مَا تَعَافُهُ النَّفْسُ، وَأَنَّ الْحُرْمَةَ، وَالْحِلَّ لَيْسَا مَرْدُودَيْنِ إِلَى الطِّبَاعِ، وَإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، أَوْ كَانَ فِي مَعْنَى مَا حَرَّمَهُ أَحَدُهُمَا، قَالَ: وَدُخُولُ خَالِدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ الْبَيْتَ، وَفِيهِ النِّسْوَةُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ، انْتَهَى.

وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، إِذْ يَجُوزُ أَنَّهُ بَعْدَهُ وَهُنَّ مَسْتُورَاتٌ.

وَأَمَّا مَيْمُونَةُ فَخَالَطَتْهُمَا.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 587

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي الضَّبِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَسْتُ بِآكِلِهِ وَلَا بِمُحَرِّمِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1806 -

1759 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) الْمَدَنِيِّ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا.

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا) فِي التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ جَزْءٍ - بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَإِسْكَانِ الزَّايِ -

ص: 587

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي الضَّبِّ؟ الْحَدِيثَ، « (نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي الضَّبِّ؟) هَلْ يُؤْكَلُ أَمْ لَا؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَسْتُ بِآكِلِهِ) » - بِمَدِّ الْهَمْزَةِ - (وَلَا بِمُحَرِّمِهِ) لِأَنَّهُ حَلَالٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «كُلُوهُ فَإِنَّهُ حَلَالٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي» "، زَادَ خُزَيْمَةُ بْنُ جَزْءٍ فَقُلْتُ: إِنِّي آكُلُ مَا لَمْ تُحَرِّمْهُ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: لَسْتُ بِمُحِلِّهِ، وَلَا بِمِحَرِّمِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ خَطَأٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ رَدَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: لَمْ يُبْعَثْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا آمِرًا أَوْ نَاهِيًا وَمُحِلًّا أَوْ مُحَرِّمًا، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا، لَمْ يُؤْكَلْ عَلَى مَائِدَتِهِ، انْتَهَى.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ، قَالَ رَجُلٌ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضٍ مُضِبَّةٍ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسِخَتْ، فَلَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَنْهَ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَمْسُوخٍ نَسْلًا» .

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ، وَتَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ دِينَارٍ، وَتَابَعَهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ نَافِعٍ اللَّيْثُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَأَيُّوبُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَأُسَامَةُ اللَّيْثِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، أَخْرَجَ ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْلِمٌ، وَلِذَا قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا.

ص: 588

[مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْكِلَابِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ نَاسًا مَعَهُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ قَالَ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِي وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْكِلَابِ

1807 -

1760 - (مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ) - بِتَحْتِيَّةٍ فَزَايٍ - (ابْنِ خُصَيْفَةَ) - بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ - مُصَغَّرٌ، نَسَبُهُ لِجَدِّهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ ابْنُ أَخِي السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا مُحَدِّثًا مُحْسِنًا، لَمْ أَقِفْ لَهُ عَلَى وَفَاةٍ.

رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ: (أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ) الْكِنْدِيَّ، صَحَابِيٍّ صَغِيرٍ، وَحُجَّ بِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ سُوقَ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: قَبْلَهَا.

(أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ) - بِضَمِّ الزَّايِ - قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَخَلِيفَةٌ اسْمُ أَبِيهِ الْفَرْدُ، وَقِيلَ: نُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، وَيُقَالُ لَهُ النُّمَيْرِيُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدَ النَّمِرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ زَهْرَانَ

ص: 588

نَزَلَ الْمَدِينَةَ، (وَهُوَ رَجُلٌ مَنْ أَزْدِ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الزَّايِ، فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ (شَنُوءَةَ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ، بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ - ابْنُ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، (وَهُوَ يُحَدِّثُ نَاسًا مَعَهُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ) النَّبَوِيِّ، (فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنِ اقْتَنَى) - بِالْقَافِ - افْتِعَالٌ مِنَ الْقِنْيَةِ - بِالْكَسْرِ - وَهِيَ الِاتِّخَاذُ، أَيْ: مَنِ اتَّخَذَ (كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ)، أَيْ: لَا يَحْفَظُ لَهُ (زَرْعًا، وَلَا ضَرْعًا) - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ - كِنَايَةً عَنِ الْمَوَاشِي، وَفِي الْقَامُوسِ: الضَّرْعُ مَعْرُوفٌ لِلظِّلْفِ وَالْخُفِّ، أَوْ لِلشَّاةِ وَالْبَقْرِ وَنَحْوِهَا، قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِكَلْبِ الزَّرْعِ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنَ الْوَحْشِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَا الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنَ السَّارِقِ، وَكَلْبُ الْمَاشِيَةِ الَّذِي يَسْرَحُ مَعَهَا، لَا الَّذِي يَحْفَظُهَا مِنَ السَّارِقِ، وَقَدْ أَجَازَ مَالِكٌ اتِّخَاذَهَا لِلْحِفْظِ مِنَ السَّارِقِ، انْتَهَى.

يَعْنِي إِلْحَاقًا لِمَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِهِ، كَمَا أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَأْذُونَ فِي اتِّخَاذِهِ هُوَ مَا لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ الْجَائِزُ اتِّخَاذَهُ؛ لِأَنَّ فِي مُلَابَسَتِهِ مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَالْإِذْنُ فِي اتِّخَاذِهِ إِذَنٌ فِي مُكَمِّلَاتِ مَقْصُودِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لَوَازِمِهِ مُنَاسِبٌ لِلْمَنْعِ مِنْهُ، وَاسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ لَا يُعَارِضُهُ إِلَّا عُمُومُ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إِذَا سَوَّغَهُ الدَّلِيلُ، قَالَهُ فِي الْفَتْحِ، يَعْنِي تَخْصِيصَ عُمُومِ حَدِيثِ الْوُلُوغِ الْمُقْتَضِي لِنَجَاسَتِهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ مَا أُذِنَ فِي اتِّخَاذِهِ لِأَحَادِيثِ الْإِذْنِ الْمُسَوِّغَةِ لِتَخْصِيصِهِ، فَلَيْسَ مُرَادُ الْجَوَابِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا تَوَهَّمَ بَلْ تَقْوِيَتُهُ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَدِيثَ الْوُلُوغِ يَقْتَضِي النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّهُ تَعَبُّدِيٌّ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ، (نَقَصَ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ) ، قَدْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

(قَالَ) السَّائِبُ لِسُفْيَانَ يَتَثَبَّتُ مِنْهُ الْحَدِيثَ: (أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِي) - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ - حَرْفُ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ، فَيَكُونُ لِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ، وَإِعْلَامِ الْمُسْتَخْبِرِ، وَلِوَعْدِ الطَّالِبِ، وَيُوصَلُ بِالْيَمِينِ كَمَا هُنَا، أَيْ: نَعَمْ سَمِعْتُهُ (وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ) ، أَقْسَمَ تَأْكِيدًا، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ: وَرَبِّ هَذِهِ الْقِبْلَةِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمِثْلِهِ مَنْ أَجَازَ بِيعَ الْكَلْبِ الْمُتَّخَذِ لِزَرْعٍ وَمَاشِيَةٍ وَصَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَكُلُّ مَا انْتُفِعَ بِهِ جَازَ شِرَاؤُهُ، وَبَيْعُهُ وَلَزِمَ قَاتِلَهُ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنْفَعَةَ أَخِيهِ اه.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمُزَارِعَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

ص: 589

يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْبَيْعِ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

ص: 590

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبًا ضَارِيًا أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1808 -

1761 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ)، زَادَ الْقَعْنَبِيُّ: وَابْنُ وَهْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ كِلَاهُمَا (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنِ اقْتَنَى) ، أَيِ: اتَّخَذَ (إِلَّا كَلْبًا) ، كَذَا لِيَحْيَى، وَقَالَ غَيْرُهُ:" «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبًا» "، (ضَارِيًا) - بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَبِالْيَاءِ وَالنَّصْبِ - أَيْ: مُعَلَّمًا لِلصَّيْدِ مُعْتَادًا لَهُ.

وَرُوِيَ: ضَارٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَحْذِفُ الْأَلِفَ مِنَ الْمَنْقُوصِ حَالَةَ النَّصْبِ، فَيَجُوزُ اتِّخَاذُهُ حَتَّى لِمَنْ لَا يَصِيدُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، أَوْ مَعْنَاهُ: لِصَائِدٍ بِهِ، فَيُنْهَى عَنْهُ مَنْ لَا يَصِيدُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: إِلَّا كَلْبٌ قَوْلَانِ، قَالَهُ عِيَاضٌ.

(أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ) ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّرْدِيدِ، قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يَسْرَحُ مَعَهَا، لَا الَّذِي يَحْفَظُهَا مِنَ السَّارِقِ، (نَقْصَ مِنْ أَجْرِ) عَمَلِهِ (كُلَّ يَوْمٍ) مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي اقْتَنَاهُ فِيهَا (قِيرَاطَانِ)، أَيْ: قَدْرًا مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُخَالِفُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ: قِيرَاطٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلزَّائِدِ لِكَوْنِ رَاوِيهِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَوَّلًا بِنَقْصِ قِيرَاطٍ وَاحِدٍ، فَسَمِعَهُ الرَّاوِي الْأَوَّلُ، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِنَقْصِ قِيرَاطَيْنِ زِيَادَةً فِي التَّأْكِيدِ فِي التَّنْفِيرِ مِنْ ذَلِكَ، فَسَمِعَهُ الرَّاوِي الثَّانِي، أَوْ يَنْزِلُ عَلَى حَالَيْنِ: فَنَقْصُ الْقِيرَاطَيْنِ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْإِضْرَارِ بِاتِّخَاذِهِ، وَالْقِيرَاطِ بِاعْتِبَارِ قِلَّتِهِ، أَوِ الْقِيرَاطَانِ لِمَنِ اتَّخَذَهُ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ خَاصَّةً، وَالْقِيرَاطُ بِمَا عَدَاهَا، أَوْ يَلْحَقُ بِالْمَدِينَةِ سَائِرُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى، وَيَخْتَصُّ الْقِيرَاطُ بِأَهْلِ الْبَوَادِي، وَهُوَ مُلْتَفِتٌ إِلَى مَعْنَى كَثْرَةِ التَّأَذِّي وَقِلَّتِهِ، وَكَذَا مَنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي نَوْعَيْنِ مِنَ الْكِلَابِ، فَفِي مَا لَابَسَهُ أَوْ نَحْوِهِ قِيرَاطَانِ، وَفِيمَا دُونَهُ قِيرَاطٌ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْقِيرَاطَ الَّذِي يَنْقُصُ أَجْرُ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَوَاتِ الْأَكْبَادِ الرَّطْبَةِ أَوِ الْحُرَّةِ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّقْصِ أَنَّ الْإِثْمَ الْحَاصِلَ بِاتِّخَاذِهِ يُوَازِنُ قَدْرَ قِيرَاطٍ أَوْ قِيرَاطَيْنِ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ، فَيَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِ الْمُتَّخِذِ قَدْرُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ بِاتِّخَاذِهِ، وَهُوَ قِيرَاطٌ أَوْ قِيرَاطَانِ، وَقِيلَ: سَبَبُ النَّقْصِ امْتِنَاعُ الْمَلَائِكَةِ مِنْ دُخُولِ بَيْتِهِ، أَوْ مَا يَلْحَقُ الْمَارِّينَ مِنَ الْأَذَى، أَوْ لِأَنَّ بَعْضَهَا شَيَاطِينُ، أَوْ عُقُوبَةٌ لِمُخَالَفَةِ النَّهْيِ، أَوْ وُلُوغُهَا فِي الْأَوَانِي عِنْدَ غَفْلَةِ صَاحِبِهَا، فَرُبَّمَا يُنَجِّسُ الطَّاهِرَ مِنْهَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الْعِبَادَةِ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الطَّاهِرِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهَا، أَوْ طَهَارَتِهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِي أَفْوَاهِهَا نَجَاسَةٌ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذْهُ لَكَانَ عَمَلُهُ كَامِلًا، فَإِذَا اقْتَنَاهُ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ عَمَلٍ مَضَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ

ص: 590

عَمَلُهُ فِي الْكَمَالِ عَمَلَ مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ، وَنُوزِعَ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ بِأَنَّ الرُّويَانِيَّ فِي الْبَحْرِ حَكَى الْخِلَافَ، هَلْ يَنْقُصُ مِنَ الْعَمَلِ الْمَاضِي، أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي مَحَلِّ نُقْصَانِ الْقِيرَاطَيْنِ؟ فَقِيلَ: مِنْ عَمِلِ النَّهَارِ قِيرَاطٌ، وَمِنْ عَمِلِ اللَّيْلِ قِيرَاطٌ، وَقِيلَ: مِنَ الْفَرْضِ قِيرَاطٌ، وَمِنَ النَّفْلِ آخَرُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْقِيرَاطَيْنِ: هَلْ هُمَا كَقِيرَاطَيْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاتِّبَاعِهَا أَوْ دُونَهُمَا؛ لِأَنَّ الْجِنَازَةَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ، وَبَابُ الْفَضْلِ أَوْسَعُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الشَّارِعِ تَعْظِيمُ الْحَسَنَاتِ، وَتَخْفِيفُ مُقَابِلِهَا كَرَمًا مِنْهُ، وَلَوْ تَعَدَّدَتِ الْكِلَابُ هَلْ تَتَعَدَّدُ الْقَرَارِيطُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؟ أَوْ لَا تَتَعَدَّدُ كَمَا فِي غَسَلَاتِ الْوُلُوغِ؟ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ الْأَبِيُّ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: يَظْهَرُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ بِكُلِّ كَلْبٍ، لَكِنْ يَتَعَدَّدُ الْإِثْمُ، فَإِنَّ اقْتِنَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ: تَتَعَدَّدُ الْقَرَارِيطُ.

هَذَا وَقَدْ زَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ، كَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ.

وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ عَمِلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ، إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ» "، وَاسْتُشْكِلَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَصْرَيِ الْحَدِيثَيْنِ، إِذْ مُقْتَضَاهُمَا التَّضَادُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: الْحَصْرُ فِي الْمَاشِيَةِ وَالصَّيْدِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ إِخْرَاجُ كَلْبِ الزَّرْعِ، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحَصْرُ فِي الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ إِخْرَاجُ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَأَجَابَ فِي الْكَوَاكِبِ بِأَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الْحَصْرِ عَلَى الْمَقَامَاتِ، وَاعْتِقَادَ السَّامِعِينَ لَا عَلَى مَا فِي الْوَاقِعِ، فَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ اقْتَضَى اسْتِثْنَاءَ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَالثَّانِي اقْتَضَى اسْتِثْنَاءَ كَلْبِ الزَّرْعِ، فَصَارَا مُسْتَثْنَيَيْنِ، وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ» "، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ عُمَرَ زِيَادَةَ الزَّرْعِ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ» "، فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا.

لَكِنْ قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَقُلِ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ تَوْهِينًا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بَلْ تَصْحِيحًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ اعْتَنَى بِحِفْظِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ دُونَهُ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ احْتَاجَ إِلَى تَعَرُّفِ أَحْوَالِهِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا رِوَايَةُ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي مُسْلِمٍ كَابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنْهُ، وَلَعَلَّهُ لَمَّا سَمِعَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَحَقَّقَهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَهَا فِي حَدِيثِهِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ حَافِظٍ، وَكَرَاهَةُ اتِّخَاذِهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ كَاتِّخَاذِهَا لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ قِيَاسًا، فَتَمَحَّضَ كَرَاهَةَ اتِّخَاذِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيعِ النَّاسِ، وَامْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ دُخُولِ بَيْتِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ، أَيْ: مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَهَا لَيْسَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ يُمْنَعُ اتِّخَاذُهُ سَوَاءٌ نَقَصَ مِنَ الْأَجْرِ أَمْ لَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا

ص: 591

حَرَامٌ.

قَالَ: وَوَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُتَعَبَّدَ بِهَا فِي الْكِلَابِ مِنْ غَسْلِ الْإِنَاءِ سَبْعًا، لَا يَكَادُ يَقُومُ بِهَا الْمُكَلَّفُ، وَلَا يَتَحَفَّظُ مِنْهَا، فَرُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِهَا مَا يَنْقُصُ أَجْرَهُ مِنْ ذَلِكَ.

وَيُرْوَى أَنَّ الْمَنْصُورَ سَأَلَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ سَبَبِ الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُنْجِ الضَّيْفَ، وَيُرَوِّعُ السَّائِلَ، انْتَهَى.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ التَّحْرِيمِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَقَعُ بِعَدَمِ التَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ بِمِقْدَارِ قِيرَاطٍ، أَوْ قِيرَاطَيْنِ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ لَمْ يَتَّخِذِ الْكَلْبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الِاتِّخَاذَ حَرَامٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّقْصِ أَنَّ الْإِثْمَ بِاتِّخَاذِهِ يُوَازِنُ قَدْرَ قِيرَاطٍ أَوْ قِيرَاطَيْنِ مِنْ أَجْرِهِ، فَيَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهِ قَدْرُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ بِاتِّخَاذِهِ، وَهُوَ قِيرَاطٌ أَوْ قِيرَاطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى تَكْثِيرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا يَنْقُصُهَا، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَسْبَابِ الزِّيَادَةِ فِيهَا وَالنَّقْصِ مِنْهَا لِتُجْتَنَبَ أَوْ تُرْتَكَبَ، وَبَيَانُ لُطْفِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ فِي إِبَاحَةِ مَا لَهُمْ فِيهِ نَفْعٌ، وَتَبْلِيغُ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ أُمُورَ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَتَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ لِاسْتِثْنَاءِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِمَّا حَرُمَ اتِّخَاذُهُ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّيْدِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْبُيُوعِ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 592

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1809 -

1762 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ» )، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ» ، وَزَادَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: " ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ» ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَالضَّرْعِ وَالزَّرْعِ "، وَلَهُ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ: "«عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» "، قَالَ عِيَاضٌ: أَخْذَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ بِالْحَدِيثِ فِي قَتْلِهَا إِلَّا مَا اسْتَثْنَى، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ اتِّخَاذِهِ، وَنَسْخِ الْقَتْلِ وَالنَّهْيِ عَنِ الِاقْتِنَاءِ إِلَّا فِي الْأَسْوَدِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي تَنْزِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ظَوَاهِرَهَا أَوَّلًا تَقْتَضِي عُمُومَ الْقَتْلِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الِاقْتِنَاءِ، ثُمَّ نَسْخَ هَذَا الْعُمُومِ بِقَصْرِ الْقَتْلِ عَلَى الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ، وَمَنْعَ الِاقْتِنَاءِ إِلَّا فِي الثَّلَاثَةِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي عَدَمِ قَتْلِهَا، هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ مِنَ الْعَامِّ الْأَوَّلِ، أَوْ كَانَ مُخَصَّصًا عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ؟ قَالَ الْأَبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ، وَأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَقَعْ فِي الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، هُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ.

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ» "، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَيَّدَةٌ، وَالْأُولَى مُطْلَقَةٌ

ص: 592

وَالْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ، فَيَجِبُ رَدُّ الْمُطْلَقِ إِلَى الْمُقَيَّدِ بِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، فَلَمْ يَتَنَاوَلِ الثَّلَاثَةَ، فَإِخْرَاجُهَا إِنَّمَا هُوَ لِتَخْصِيصٍ مُتَّصِلٍ، وَالتَّخْصِيصُ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ، فَالْمُتَّصِلُ كَالتَّخْصِيصِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ، وَالْمُنْفَصِلُ مَا سِوَى ذَلِكَ نَحْوُ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، انْتَهَى.

وَاتُّفِقَ عَلَى قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِ مُطْلَقًا أَوْ لَا مُطْلَقًا قَوْلَانِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْبَيْعِ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ.

ص: 593

[مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْغَنَمِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْغَنَمِ

1810 -

1763 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) - بِكَسْرِ الزَّايِ، وَخِفَّةِ النُّونِ - عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رَأَسُ الْكُفْرِ» ) ، أَيْ: مَنْشَؤُهُ وَابْتِدَاؤُهُ، أَوْ مُعْظَمُهُ وَشِدَّتُهُ، (نَحْوَ الْمَشْرِقِ) بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فَارِسَ، وَأَنْ يُرِيدَ أَهْلَ نَجْدٍ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ فِتَنِ الْإِسْلَامِ ظَهَرَتْ مِنْ جِهَتِهِ كَفِتْنَةِ الْجَمَلِ، وَصِفِّينَ، وَالنَّهْرَوانِ، وَقَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَقَتْلِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَفِتْنَةِ الْجَمَاجِمِ، يُقَالُ: قُتِلَ فِيهَا خَمْسُمِائَةٍ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَإِثَارَةُ الْفِتَنِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كُفْرَ الْجُحُودِ، وَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى وَقْعَةِ التَّتَارِ الَّتِي اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، فَفِي خَبَرٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشْرِقِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا ذَمَّ الْمَشْرِقَ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْوَى الْكُفْرِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، وَمَحَلَّ الْفِتَنِ، ثُمَّ عَمَّهُ الْإِيمَانُ، وَأَيَّمَّا كَانَ فَالْحَدِيثُ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ غَيْبٍ وَقَدْ وَقَعَ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى شِدَّةِ كُفْرِ الْمَجُوسِ؛ لِأَنَّ مَمْلَكَةَ الْفُرْسِ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانُوا فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ حَتَّى مَزَّقَ مَلِكُهُمْ كِتَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، وَاسْتَمَرَّتِ الْفِتَنُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ.

(وَالْفَخْرُ) - بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ - ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِ، وَالشَّرَفِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ، وَمِنْهُ الْإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ.

(وَالْخُيَلَاءُ) ، بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْمَدِّ، الْكِبْرُ، وَاحْتِقَارُ الْغَيْرِ.

( «فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ» ) بَدَلٌ

ص: 593

مِنْ أَهْلِ، بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ الرِّوَايَةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ جَمْعُ فَدَّادٍ، وَهُوَ مَنْ يَعْلُو صَوْتُهُ فِي إِبِلِهِ وَخَيْلِهِ وَحَرْثِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: الْفَدَّادِينُ الْإِبِلُ الْكَبِيرَةُ مِنْ مِائَتَيْنِ إِلَى أَلْفٍ، وَقِيلَ: مَنْ سَكَنَ الْفَدَافِدَ، جَمْعُ فَدْفَدٍ وَهِيَ الْبَرَارِي وَالصَّحَارِي، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَحُكِيَ تَخْفِيفُ الدَّالِ جَمْعُ فَدَانٍ، وَالْمُرَادُ: الْبَقَرُ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: آلَةُ الْحَرْثِ وَالسِّكَّةِ، فَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْفَدَّادِينَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ: وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا ذَمَّ هَؤُلَاءِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِمُعَالَجَةِ مَا هُمْ فِيهِ عَنْ أُمُورِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى قَسَاوَةِ الْقَلْبِ.

وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْحَدِيثِ: «الْجَفَاءُ وَالْقَسْوَةُ فِي الْفَدَّادِينَ» : أَصْحَابُ الْحُرُوثِ وَالْمَوَاشِي.

(أَهْلِ الْوَبَرِ) - بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَالْمُوَحَّدَةِ - أَيْ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدَرِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الْحَضَرِ بِأَهْلِ الْمَدَرِ، وَعَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِأَهْلِ الْوَبَرِ، فَلَا يُشْكِلُ ذِكْرُ الْوَبَرِ بَعْدَ الْخَيْلِ، وَلَا وَبَرَ لَهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيِّنَتُهُ، زَادَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، أَيْ: فِي الْفَدَّادِينَ مِنْهُمْ.

(وَالسَّكِينَةُ) فَعِيلَةٌ دُونَ أَهْلِ الْإِبِلِ فِي التَّوَسُّعِ وَالْكَثْرَةِ مِنَ السُّكُونِ، أَيِ: الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالتَّوَاضُعُ، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لَا نَظِيرَ لَهَا، أَيْ: فِي وَزْنِهَا إِلَّا قَوْلَهُمْ عَلَى فُلَانٍ قَرِيبَةٌ، أَيْ: خَرَاجٌ مَعْلُومٌ (فِي أَهْلِ الْغَنَمِ) ؛ لِأَنَّهُمْ غَالِبًا، وَهُمَا سَبَبُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ.

وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِمْ أَهْلَ الْيَمَنِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ مَوَاشِيهِمُ الْغَنَمُ بِخِلَافِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ إِبِلٍ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «اتَّخِذِي الْغَنَمَ فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَةً» "، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْإِيمَانِ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 594

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1811 -

1764 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيُّ، ثُمَّ الْمَازِنِيُّ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، (عَنْ أَبِيهِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ مِنْ ثِقَاتِ تَابِعِي الْحِجَازِ، قَالَ الْحَافِظُ: فَسَقَطَ الْحَارِثُ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَالْحَارِثُ صَحَابِيٌّ شَهِدَ أُحُدًا، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) ، اسْمُهُ سَعْدٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: سِنَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ بِأُحُدٍ (الْخُدْرِيِّ) - بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ - مِنَ الْمُكْثِرِينَ (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: يُوشِكُ) - بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتُفْتَحُ

ص: 594

فِي لُغَةٍ رَدِيَّةٍ، أَيْ: يَقْرُبُ « (أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ) » ، نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْأَشْهَرِ فِي الرِّوَايَةِ اسْمُ يَكُونَ مُؤَخَّرًا، وَخَيْرَ مَالِ خَبَرُهَا مُقَدَّمًا، وَفَائِدَةُ تَقْدِيمِهِ الِاهْتِمَامُ، إِذِ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ الِاعْتِزَالُ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْغَنَمِ، فَلِذَا أَخَّرَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: بِرَفْعِ " خَيْرُ " اسْمٌ، وَنَصْبُ غَنَمًا خَبَرٌ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ يُقَدَّرُ فِي يَكُونَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، قَالَ الْحَافِظُ: لَكِنْ لَمْ تَجِئْ بِهِ الرِّوَايَةُ.

(يَتَّبِعُ بِهَا) - بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ - افْتِعَالٌ مِنِ اتَّبَعَ اتِّبَاعًا، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا مِنْ تَبِعَ - بِالْكَسْرِ - يَتْبَعُ بِالْفَتْحِ، أَيْ: بِالْغَنَمِ، (شَعَفَ) ، بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، فَفَاءٍ، أَيْ: رُءُوسَ (الْجِبَالِ) - بِالْجِيمِ - وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى شَعَبَ، بِمُوَحَّدَةٍ بَدَلَ الْفَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا يَرْوِيهِ النَّاسُ شَعَفَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُهْمَلَةِ، وَفَاءٍ، جَمْعُ شَعَفَةٍ، كَأَكَمٍ وَأَكَمَةٍ، وَهِيَ رُءُوسُ الْجِبَالِ.

(وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ)، أَيِ: الْمَطَرِ بِالنَّصْبِ عَلَى شَعَفَ، أَيْ: بُطُونَ الْأَوْدِيَةِ وَالصَّحَارِي؛ إِذْ هُمَا مَوَاضِعُ الرَّعْيِ حَالَ كَوْنِهِ (يَفِرُّ بِدِينِهِ)، أَيْ: بِسَبَبِهِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ مَعَ دِينِهِ (مِنَ الْفِتَنِ) ، طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ لَا لِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ، وَفِيهِ فَضْلُ الْعُزْلَةِ لِلْخَائِفِ عَلَى دِينِهِ، إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِزَالَتِهَا، فَتَجِبُ الْخُلْطَةُ عَيْنًا، أَوْ كِفَايَةً بِحَسَبِ الْحَالِ وَالْإِمْكَانِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَاطَ أَوْلَى لِاكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهَا، كَإِعَانَةٍ وَإِغَاثَةٍ وَعِبَادَةٍ، وَفَضَّلَ قَوْمٌ الْعُزْلَةَ، لِتَحَقُّقِ السَّلَامَةِ بِشَرْطِ مَعْرِفَةِ مَا يَتَعَيَّنُ، وَلِيَعْمَلَ بِمَا عَلِمَ، وَيَأْنَسَ بِدَوَامِ الذِّكْرِ.

نَعَمْ تَجِبُ الْعُزْلَةُ عَلَى مَنْ لَا يَسْلَمُ دِينُهُ بِالصُّحْبَةِ، وَتَجِبُ الصُّحْبَةُ لِمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ فَاتَّبَعَهُ، وَالْبَاطِلَ فَاجْتَنَبَهُ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ لِيَعْمَلَهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِيمَانِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَفِي الْفِتَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ الْمَاجِشُونُ، وَهُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَهُ فِي الْأَدَبِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْ مُسْلِمٍ، نَعَمْ أَخْرَجَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ:" «أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» "، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْفِتَنِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ مِنْ حَافِظٍ فَيُقَيَّدُ بِهَا الْمُطْلَقُ، وَلَهَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ مَالِكٍ الْبَهْزِيَّةِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ سُكْنَى الْبَوَادِي، وَالسِّيَاحَةِ، وَالْعُزْلَةِ اهـ.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 595

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ وَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ فَلَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1812 -

1765 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ) فِي مُوَطَّأِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مَالِكٌ أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ) صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْمُوَطَّآتِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: لَا يَحْتَلِبَنَّ) - بِفَوْقِيَّةٍ، فَلَامٍ مَكْسُورَةٍ - قَالَ الْحَافِظُ: وَفِي أَكْثَرِ الْمُوَطَّآتِ لَا يَحْلُبَنَّ بِدُونِ تَاءٍ وَضَمِّ اللَّامِ: (أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ) ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمَاشِيَةُ تَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْغَنَمِ أَكْثَرُ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، مَاشِيَةَ رَجُلٍ، وَهُوَ كَالْمِثَالِ فَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِالرَّجُلِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِلَفْظِ: مَاشِيَةَ أَخِيهِ، وَقَالَ هُوَ لِلْغَالِبِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَبِإِثْبَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يَحْتَلِبَ مَوَاشِيَ النَّاسِ (بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مُشْرُبَتُهُ) - بِضَمِّ الرَّاءِ، وَقَدْ تُفْتَحُ، أَيْ: غُرْفَتُهُ (فَتُكْسَرَ) - بِضَمِّ التَّاءِ، وَفَتْحِ السِّينِ، وَالنَّصْبُ عَطْفٌ عَلَى تُؤْتَى (خِزَانَتُهُ) - بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَالرَّفْعِ، نَائِبُ الْفَاعِلِ مَكَانُهُ، أَوْ وِعَاؤُهُ الَّذِي يُخَزِّنُ فِيهِ مَا يُرِيدُ حِفْظَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَيُكْسَرَ بَابُهَا، (فَيُنْتَقَلَ) - بِالنَّصْبِ - (طَعَامُهُ) - بِضَمِّ الْيَاءِ، وَنُونٍ وَقَافٍ - مِنَ النَّقْلِ، أَيْ: يُحَوَّلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، كَذَا فِي أَكْثَرِ الْمُوَطَّآتِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ رُوحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، بِلَفْظِ: فَيُنْتَثَلَ - بِمُثَلَّثَةٍ بَدَلَ الْقَافِ - وَالنَّثْلُ: الْأَخْذُ مَرَّةً وَاحِدَةً بِسُرْعَةٍ، وَقِيلَ: الِاسْتِخْرَاجُ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْلِ.

وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَيُّوبَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ نَافِعٍ، وَرَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ بِالْقَافِ، (وَإِنَّمَا تَخْزُنُ) - بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَضَمِّ الزَّايِ - (ضُرُوعُ) جَمْعُ ضَرْعٍ لِلْبَهِيمَةِ كَالثَّدْيِ لِلْمَرْأَةِ، (مَوَاشِيهِمْ أَطَعِمَاتِهِمْ) نُصِبَ بِالْكَسْرَةِ مَفْعُولٌ لِضُرُوعٍ، وَهُوَ جَمْعُ أَطْعِمَةٍ، وَهِيَ جَمْعُ طَعَامٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا: اللَّبَنُ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ، فَشَبَّهَ ضُرُوعَ الْمَوَاشِي فِي ضَبْطِهَا الْأَلْبَانَ عَلَى أَرْبَابِهَا بِالْخِزَانَةِ الَّتِي تَحْفَظُ مَا أُودِعَتْهُ مِنْ مَتَاعٍ وَغَيْرِهِ، ( «فَلَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ» ) ، أَعَادَهُ بَعْدَ ضَرْبِ الْمِثَالِ زِيَادَةً فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ لِلْمُسْلِمِ شَيْئًا، إِلَّا بِإِذْنِهِ الْخَاصِّ، أَوِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّبَنَ بِالذِّكْرِ لِتَسَاهُلِ النَّاسِ فِيهِ، فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَبِهَذَا أَخَذَ الْجُمْهُورُ، وَاسْتَثْنَى كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مَا إِذَا عَلِمَ بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ

ص: 596

مِنْهُ إِذَنٌ خَاصٌّ، وَلَا عَامٌّ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ سَوَاءٌ عَلِمَ طِيبَ نَفْسِهِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، وَالْحُجَّةُ لَهُمْ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا:" «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ مَاشِيَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا فِيهَا، فَيُصَوِّتُ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلَّا فَلْيَحْلِبْ وَلِيَشْرَبْ، وَلَا يَحْمِلْ» "، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى الْحَسَنِ.

فَمَنْ صَحَّحَ سَمَاعَهُ مِنْ سَمُرَةَ صَحَّحَهُ، وَمَنْ لَا أَعَلَّهُ بِالِانْقِطَاعِ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ مِنْ أَقْوَاهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا:" «إِذَا أَتَيْتَ عَلَى رَاعٍ فَنَادِي ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلَّا فَاشْرَبْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُفْسِدَ، وَإِذَا أَتَيْتَ عَلَى حَائِطِ بُسْتَانٍ» "، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالطَّحَاوِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ أَصَحُّ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُعْمَلَ بِهِ، وَبِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِلْقَوَاعِدِ الْقَطْعِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ مَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا حَمْلُ الْإِذْنِ عَلَى مَا إِذَا عَلِمَ طِيبَ نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَالنَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ.

وَمِنْهَا: تَخْصِيصُ الْإِذْنِ بِابْنِ السَّبِيلِ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ بِالْمُضْطَّرِّ، أَوْ بِحَالِ الْمَجَاعَةِ مُطْلَقًا، وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: أَنَّ حَدِيثَ الْإِذْنِ كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدِيثَ النَّهْيِ أَشَارَ إِلَى مَا سَيَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ التَّشَاحِّ، وَتَرْكِ الْمُوَاسَاةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَالِكُ أَحْوَجَ مِنَ الْمَارِّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، إِذْ رَأَيْنَا إِبِلًا مَصْرُورَةً فَثُبْنَا إِلَيْهَا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذِهِ الْإِبِلَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ قُوتُهُمْ، أَيَسُرُّكُمْ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ فَوَجَدْتُمْ مَا فِيهَا قَدْ ذَهَبَ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ» "، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: فَابْتَدَرَهَا الْقَوْمُ لِيَحْلِبُوهَا، قَالُوا: فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْإِذْنِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَصْرُورَةٍ، وَالنَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ مَصْرُورَةً لِهَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي آخِرِهِ:" «فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ، فَاشْرَبُوا، وَلَا تَحْمِلُوا» "، فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ الْإِذْنِ فِي الْمَصْرُورَةِ وَغَيْرِهَا، لَكِنْ بِقَيْدِ عَدَمِ الْحَمْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْحَمْلَ عَلَى الْعَادَةِ، قَالَ: وَكَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَغَيْرُهُمُ الْمُسَامِحَةُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ بَلَدِنَا، قَالَ: وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مَهْمَا كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ لَا يُعْدَلُ إِلَيْهِ، وَلَا يُقْصَدُ جَازَ لِلْمَارِّ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَصْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُجْتَازِ.

وَأَشَارَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ إِلَى قَصْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي الْغَزْوِ، وَآخَرُونَ إِلَى قَصْرِ الْإِذْنِ عَلَى مَا كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالنَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاسْتُؤْنِسَ بِمَا شَرَطَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ.

وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُسَافِرِ يَنْزِلُ بِالذِّمِّيِّ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ، قِيلَ لَهُ: فَالضِّيَافَةُ الَّتِي جُعِلَتْ عَلَيْهِمْ، قَالَ: كَانُوا يَوْمَئِذٍ فَخُفِّفَ عَنْهُمْ بِسَبَبِهَا، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا.

وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إِلَى

ص: 597

نَسْخِ الْإِذْنِ وَحَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، قَالُوا: وَكَانَتِ الضِّيَافَةُ حِينَئِذٍ وَاجِبَةً، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلتَّقْرِيبِ لِلْأَفْهَامِ، وَتَمْثِيلِ مَا قَدْ يَخْفَى بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ، وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي النَّظَائِرِ، وَذُكِرَ الْحُكْمُ بِعِلَّتِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعِلَّةِ، تَأْكِيدًا أَوْ تَقْرِيرًا، وَأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ مُسَاوَاةُ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتْ لِلْأَصْلِ مَزِيَّةٌ لَا يَتَمَيَّزُ سُقُوطُهَا فِي الْفَرْعِ، إِذَا شَارَكَ فِي أَصْلِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرْعَ لَا يُسَاوِي الْخِزَانَةَ فِي الْخَزْنِ، كَمَا أَنَّ الضَّرْعَ لَا يُسَاوِي الْفِعْلَ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَلْحَقَ الشَّارِعُ الْمَصْرُورَ فِي الْحُكْمِ بِالْخِزَانَةِ الْمُقْفَلَةِ فِي تَحْرِيمِ تَنَاوُلِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ خَزْنِ الطَّعَامِ، وَاحْتِكَارِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، خِلَافًا لِغُلَاةِ الْمُتَزَهِّدَةِ الْمَانِعِينَ مِنَ الِادِّخَارِ مُطْلَقًا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَنَّ اللَّبَنَ يُسَمَّى طَعَامًا، وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي اللُّقَطَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْقَضَاءِ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ نَافِعٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 598

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ رَعَى غَنَمًا قِيلَ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَأَنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1812 -

1766 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) مِمَّا صَحَّ مَوْصُولًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ رَعَى غَنَمًا» ) ، اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي إِلْهَامِهِمْ رَعْيِهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ لِيَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى مَا يُكَلَّفُونَ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا زِيَادَةُ الْحِلْمِ وَالشَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى مَشَقَّةِ الرَّعْيِ، وَدَفَعُوا عَنْهَا السِّبَاعَ الضَّارِيَةَ، وَالْأَيْدِي الْخَاطِفَةَ، وَعَلِمُوا اخْتِلَافَ طِبَاعِهَا وَتَفَاوُتَ إِدْرَاكِهَا، وَعَرَفُوا ضَعْفَهَا وَاحْتِيَاجَهَا إِلَى النَّقْلِ مِنْ مَرْعًى إِلَى مَرْعًى، وَمِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَرَاحٍ، رَفَقُوا بِضَعِيفِهَا وَأَحْسَنُوا تَعَاهُدَهَا، فَهُوَ تَوْطِئَةٌ لِتَعْرِيفِهِمْ سِيَاسَةَ أُمَمِهِمْ، وَلِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوَاضُعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - وَخَصَّ الْغَنَمَ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنْ غَيْرِهَا.

(قِيلَ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَأَنَا) رَعَيْتُهَا.

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: وَأَنَا كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ» "، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ:" «كُنْتُ أَرْعَاهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ» "، قَالَ سُوَيْدٌ شَيْخُ ابْنِ مَاجَهْ: يَعْنِي كُلَّ شَاةٍ بِقِيرَاطٍ يَعْنِي الْقِيرَاطَ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ.

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ: قَرَارِيطُ اسْمُ مَوْضِعٍ بِمَكَّةَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَابْنُ نَاصِرٍ، وَأَيَّدَهُ مُغْلَطَايَ بِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ الْقِيرَاطَ، قَالَ الْحَافِظُ: لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَعْرِفُ بِهَا مَكَانًا يُقَالُ

ص: 598

لَهُ الْقَرَارِيطُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الْقَرَارِيطَ الَّذِي هُوَ مِنَ النَّقْدِ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الصَّحِيحِ:" «تَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ» "، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ لَهَا أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ، وَفِي ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَشْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالتَّصْرِيحِ بِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ.

ص: 599

[بَابُ مَا جَاءَ فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ]

ِ، وَالْبَدْءِ بِالْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَرَّبُ إِلَيْهِ عَشَاؤُهُ فَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يَعْجَلُ عَنْ طَعَامِهِ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، وَالْبَدْءِ بِالْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ

1814 -

1767 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَرَّبُ إِلَيْهِ عَشَاؤُهُ، فَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يَعْجَلُ) - بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْجِيمِ - (عَنْ طَعَامِهِ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ) عَمَلًا بِرِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَأُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا تَعْجَلْ حَتَّى تَفْرُغَ مِنْهُ» "، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ص: 599

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ انْزِعُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1815 -

1768 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - بِفَتْحِهَا - (ابْنِ عُتْبَةَ) - بِضَمِّهَا، وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ - (ابْنِ مَسْعُودٍ) الْفَقِيهِ، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ) خَالَتِهِ (مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ، هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى، فَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ، وَأَتْقَنَهُ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ كَابْنِ مَهْدِيٍّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ نَافِعٍ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْقَاطِ مَيْمُونَةَ، وَأَشْهَبُ، وَغَيْرُهُ بِتَرْكِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مُصْعَبٍ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ بِإِسْقَاطِهِمَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ يَحْيَى وَمَنْ تَابَعَهُ، وَكَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ ابْنِ شِهَابٍ، فَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمُعْمَرٌ عَنْهُ عَلَى الصَّوَابِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ عَنْهُ فَأَسْقَطَ مَيْمُونَةَ، وَعُقَيْلٌ عَنْهُ مُرْسَلًا بِإِسْقَاطِهِمَا، انْتَهَى.

وَفِي الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَعْنٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ مَا لَا أُحْصِيهِ، يَقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ مَالِكًا كَانَ يَصِلُهُ تَارَةً، وَيُرْسِلُهُ تَارَةً، وَرِوَايَةُ الْوَصْلِ عَنْهُ مُقَدَّمَةٌ، إِذْ قَدْ سَمِعَهَا عَنْهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى مِرَارًا، وَتَابَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَهُوَ مِنْ أَسَانِيدِ مَيْمُونَةَ: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ

ص: 599

الْفَأْرَةِ» ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَالسَّائِلُ مَيْمُونَةُ كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَجُوَيْرِيَّةَ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِإِسْنَادِهِ:«أَنَّ مَيْمُونَةَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفَأْرَةِ (تَقَعُ فِي السَّمْنِ) » الْجَامِدِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ وَالْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِدُونِهَا، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: فَمَاتَتْ (فَقَالَ: انْزِعُوهَا)، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ: أَلْقَوْهَا، وَمَعْنِ بْنِ عِيسَى: خُذُوهَا، أَيِ: الْفَأْرَةَ، (وَمَا حَوْلَهَا) مِنَ السَّمْنِ (فَاطْرَحُوهُ)، زَادَ إِسْمَاعِيلُ:" وَكُلُوا سَمْنَكُمْ "، أَيِ: الْبَاقِي.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، قَالَ: إِذَا كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» "، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ إِنْكَارُهُ عَلَى مَعْمَرٍ إِسْنَادَهُ، وَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِرَارًا مِنَ الزُّهْرِيِّ مَا قَالَ إِلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ.

وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ هَذِهِ خَطَأٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّهَا وَهْمٌ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، الطَّرِيقَانِ عِنْدَنَا مَحْفُوظَانِ، لَكِنَّ طَرِيقَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَشْهَرُ، وَقَدْ أَخَذَ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ مَعْمَرٍ الدَّالِّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْجَامِدَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ مَيْتَةٌ طُرِحَتْ، وَمَا حَوْلَهَا إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَجْزَائِهَا لَمْ يَصِلْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُ.

وَأَمَّا الْمَائِعُ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُنَجَّسُ كُلُّهُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَخَالَفَ فَرِيقٌ مِنْهُمِ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ، وَفِي الذَّبَائِحِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَهُ أَيْضًا، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ص: 600

[الشُّؤْمِ]

بَابُ مَا يُتَّقَى مِنَ الشُّؤْمِ

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنْ كَانَ فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَسْكَنِ يَعْنِي الشُّؤْمَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ مَا يُتَّقَى مِنَ الشُّؤْمِ

1816 -

1769 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ) سَلَمَةَ (بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فِيهِمَا - (السَّاعِدِيِّ) نِسْبَةً إِلَى سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ كَانَ فَفِي

ص: 600

الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَسْكَنِ؛ يَعْنِي الشُّؤْمَ» ) - بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ - وَقَدْ تُسَهَّلُ فَتَصِيرُ وَاوًا هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الْمُوَطَّآتِ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ، وَالتِّنِّيسِيُّ:" إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ "، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَرَّانِيُّ عَنْ مَالِكٍ:" «إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ» "، أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ إِسْمَاعِيلُ فِي شَيْءٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَذَكَرَهُ.

وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَ الشُّؤْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنْ بَعْضِ الْعَادَةِ، فَإِنَّمَا يَخْلُقُهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

الْمَازِرِيُّ: مَحْمَلُهُ إِذَا كَانَ الشُّؤْمُ حَقًّا، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَحَقُّ بِهِ؛ بِمَعْنَى أَنَّ النُّفُوسَ يَقَعُ فِيهَا التَّشَاؤُمُ بِهَذِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَقَعُ بِغَيْرِهَا.

وَقَالَ عِيَاضٌ: يَعْنِي إِنْ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي شَيْءٍ، لَكَانَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْبَلُ الْأَشْيَاءَ لَهَا، لَكِنْ لَا وُجُودَ لَهُ فِيهَا، فَلَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، انْتَهَى.

أَيْ: إِنْ كَانَ شَيْءٌ يُكَرَهُ وَيُخَافُ عَاقِبَتُهُ فَفِي هَذِهِ الثَّلَاثِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَلَيْهِ فَالشُّؤْمُ مُحْمَلٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي سَبُبُهَا مَا فِي الْأَشْيَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ كَمَا قِيلَ: شُؤْمُ الدَّارِ: ضِيقُهَا وَسُوءُ جِيرَانِهَا، وَشُؤْمُ الْمَرْأَةِ: عُقْمُهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا، وَشُؤْمُ الْفَرَسِ أَنْ لَا يَغْزُو عَلَيْهَا، فَالشُّؤْمُ فِيهَا عَدَمُ مُوَافَقَتِهَا لَهُ طَبْعًا وَشَرْعًا.

وَقِيلَ: هَذَا إِرْشَادٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ لَهُ دَارٌ يُسْكُنُهَا، أَوِ امْرَأَةٌ يَكْرَهُ عِشْرَتَهَا، أَوْ فَرَسٌ لَا يُوَافِقُهُ أَنْ يُفَارِقَهَا بِنَقْلِهِ، وَطَلَاقُ وَدَوَاءُ مَا لَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ تَعْجِيلُ الْفِرَاقِ وَالْبَيْعِ، فَلَا يَكُونُ بِالْحَقِيقَةِ مِنَ الطِّيَرَةِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَجْهُ تَخْصِيصِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ مَعَ جَرْيِ هَذَا فِي كُلِّ مُتَطَيَّرٍ لَهُ بِمُلَازَمَتِهَا لِلْإِنْسَانِ، وَأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا يَتَشَاءَمُ بِهِ.

قَالَ: وَمُقْتَضَى سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا لِوُجُودِ الشُّؤْمِ فِي الثَّلَاثِ، لَمَّا تَكَلَّمَ بِهَذَا، ثُمَّ عَلِمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْحَدِيثِ التَّالِي، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ، وَمُسْلِمٌ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي النِّكَاحِ عَنِ التِّنِّيسِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ.

ص: 601

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1817 -

1770 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ) الْعُمَرِيِّ الْمَدَنِيِّ شَقِيقِ سَالِمٍ، تَابِعِيٍّ، ثِقَةٍ مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ.

(وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) ، وَاقْتَصَرَ شُعَيْبٌ، وَيُونُسَ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْهُ كِلَاهُمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ، قَالَ: لَمْ يَرْوِ الزُّهْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا عَنْ سَالِمٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ حَصْرٌ مَرْدُودٌ، فَقَدْ حَدَّثَ بِهِ مَالِكٌ عَنْهُ عَنْ حَمْزَةَ، وَسَالِمٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ، وَلَا سِيَّمَا فِي

ص: 601

الزُّهْرِيِّ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبُو أُوَيْسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عِنْدَ النَّسَائِيِّ السِّتَّةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ نَفْسِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي رُجُوعَ سُفْيَانَ عَنْ ذَلِكَ الْحَصْرِ، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَحْمَدُ عَنْ مَعْمَرٍ، خَمْسَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ وَحْدَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يَجْمَعُهُمَا تَارَةً، وَيُفْرِدُ أَحَدَهُمَا أُخْرَى، وَلَهُ أَصْلٌ عَنْ حَمْزَةَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ حَمْزَةَ، (عَنْ) أَبِيهِمَا (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الشُّؤْمُ» ) الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْيُمْنِ، يُقَالُ: تَشَاءَمْتُ بِكَذَا، وَتَيَمَّنْتُ بِكَذَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاوُهُ هَمْزَةٌ خُفِّفَتْ، فَصَارَتْ وَاوًا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهَا التَّخْفِيفُ حَتَّى لَمْ يُنْطَقْ بِهَا مَهْمُوزَةً، انْتَهَى.

وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْحَافِظِ خِلَافُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَقَدْ تُسَهَّلُ فَتَصِيرُ وَاوًا.

( «فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ» )، أَيْ: كَائِنٌ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا، فَالْحَصْرُ فِيهَا كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَادَةِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخِلْقَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِطُولِ مُلَازَمَتِهَا.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْيُمْنُ وَالشُّؤْمُ عَلَامَتَانِ لِمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ ظُرُوفٌ جُعِلَتْ مَوَاقِعَ لِأَقْضِيَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَنْفُسِهَا وَطَبَائِعِهَا فِعْلٌ، وَلَا تَأْثِيرَ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَعَمَّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَقْتَنِيهَا الْإِنْسَانُ، وَكَانَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ دَارٍ يَسْكُنُهَا، وَزَوْجَةٍ يُعَاشِرُهَا، وَفَرَسٍ مُرْتَبِطَةٍ، وَلَا يَخْلُو عَنْ عَارِضٍ مَكْرُوهٍ فِي زَمَانِهِ أُضِيفَ الْيُمْنُ وَالشُّؤْمُ إِلَيْهَا إِضَافَةَ مَكَانٍ، وَهُمَا صَادِرَانِ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ عز وجل انْتَهَى.

وَاتَّفَقَتْ طُرُقُ الْحَدِيثِ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَرَوَى جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، وَسَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْهَا: وَالسَّيْفُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَعْضُ الْمُبْهَمُ بَيِّنٌ فِي ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ عَنْ أُمِّهِ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا: أَنَّهَا حَدَّثَتْ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَزَادَتْ: وَالسَّيْفِ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَقِيلَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْرِيَ اللَّهُ الْعَادَةَ بِذَلِكَ فِي هَؤُلَاءِ، كَمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّ مَنْ شَرِبَ السُّمَّ مَاتَ، وَمَنْ قُطِعَ رَأْسُهُ مَاتَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: كَمْ مِنْ دَارٍ سَكَنَهَا نَاسٌ فَهَلَكُوا.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: فَحَمَلَهُ مَالِكٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ قَدَرَ اللَّهِ رُبَّمَا وَافَقَ مَا يَكَرَهُ عِنْدَ سُكْنَى الدَّارِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ، فَيَتَشَاءَمُ فِي إِضَافَةِ الشُّؤْمِ إِلَيْهِ اتِّسَاعًا.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يُرِدْ مَالِكٌ إِضَافَةَ الشُّؤْمِ إِلَى الدَّارِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَرْيِ الْعَادَةِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي الْخُرُوجُ عَنْهَا صِيَانَةً لِاعْتِقَادِهِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْبَاطِلِ، وَكَذَا حَمَلَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ

ص: 602

وَغَيْرُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يُظَنُّ بِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى مُعْتَقَدِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ بِذَاتِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ أَكْثَرُ مَا يُتَطَيَّرُ بِهِ، فَمَنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْهَا أُبِيحَ لَهُ تَرْكُهُ، وَيَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يَطُولُ تَعْذِيبُ الْقَلْبِ بِهَا مَعَ كَرَاهِيَةِ أَمْرِهَا لِمُلَازَمَتِهَا بِالسُّكْنَى وَالصُّحْبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْإِنْسَانُ الشُّؤْمَ فِيهَا، فَأَشَارَ الْحَدِيثُ إِلَى الْأَمْرِ بِفِرَاقِهَا لِيَزُولَ التَّعْذِيبُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْأَوْلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ مَالِكٍ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ مَعَ صِحَّةِ نَفْيِ الْعَدْوَى، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ حَسْمُ الْمَادَّةِ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يُوَافِقَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْقَدَرَ، فَيَعْتَقِدُ مَنْ وَقَعَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَدْوَى، أَوْ مِنَ الطِّيرَةِ، فَيَقَعُ فِي اعْتِقَادِ مَا نُهِيَ عَنِ اعْتِقَادِهِ، فَأُشِيرَ إِلَى اجْتِنَابِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَالطَّرِيقُ فِيمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ مَثَلًا أَنْ يُبَادِرَ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى بَقِيَ فِيهَا رُبَّمَا حَمَلَهُ اعْتِقَادُ صِحَّةِ الطِّيرَةِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَقِيلَ: شُؤْمُ الدَّارُ: ضِيقُهَا وَسُوءُ جِوَارِهَا، وَبُعْدُهَا مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يُسْمَعُ فِيهَا الْأَذَانُ، وَالْمَرْأَةُ: أَنْ لَا تَلِدَ، وَسُوءُ خُلُقِهَا، أَوْ غَلَاءُ مَهْرِهَا، أَوْ عَدَمُ قَنْعِهَا، أَوْ بَسْطُ لِسَانِهَا، وَالْفَرَسُ: أَنْ لَا يَغْزُو عَلَيْهَا، أَوْ حُرُونُهَا.

وَرَوَى الدِّمْيَاطِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: " «إِذَا كَانَ الْفَرَسُ حَرُونًا، فَهُوَ مَشْئُومٌ، وَإِذَا حَنَّتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَعْلِهَا الْأَوَّلِ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ، وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ بَعِيدَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، لَا يُسْمَعُ مِنْهَا الْأَذَانُ، فَهِيَ مَشْئُومَةٌ» "، وَلِلطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ:" «أَنَّ مِنْ شَقَاءِ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا، سُوءُ الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّابَّةِ» "، وَفِيهِ:" «سُوءُ الدَّارِ ضِيقُ سَاحَتِهَا، وَخُبْثُ جِيرَانِهَا، وَسُوءُ الدَّابَّةِ مَنْعُ ظَهْرِهَا، وَسُوءُ طَبْعِهَا، وَسُوءُ الْمَرْأَةِ عُقْمُ رَحِمِهَا، وَسُوءُ خُلُقِهَا» "، وَرَوَى أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا:" «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شَقَاءِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ: الْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ:" «الْمَرْكَبُ الْهَنِيُّ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ:" «وَثَلَاثَةٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْمَرْأَةُ تَرَاهَا تَسُوءُكَ، وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْكَ، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ قُطُوفًا، فَإِذَا ضَرَبَتْهَا تَعِبَتْ، وَإِنْ تَرَكْتَهَا لَمْ تَلْحَقْ أَصْحَابَكَ، وَالدَّارُ تَكُونُ ضَيِّقَةً قَلِيلَةَ الْمَرَافِقِ» "، وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ بَعْضٍ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: يَكُونُ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِقَدَرِ اللَّهِ.

وَقَالَ الْمُهَلَّبُ مَا حَاصِلُهُ: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: الشُّؤْمُ مَنِ الْتَزَمَ التَّطَيُّرَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُلَازِمُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَانْزِعُوهَا عَنْكُمْ، وَلَا تُعَذِّبُوا أَنْفُسَكُمْ بِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَصْدِيرُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِنَفْيِ الطِّيَرَةِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ:" «لَا طِيرَةَ، وَالطِّيرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ» "، وَقِيلَ: الْحَدِيثُ سِيقَ لِبَيَانِ اعْتِقَادِ النَّاسِ فِي

ص: 603

ذَلِكَ لَا أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثُبُوتِ ذَلِكَ، وَسِيَاقُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِبُعْدِهِ، بَلْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْعَثْ لِيُخْبِرَ النَّاسَ عَنْ مُعْتَقَدَاتِهِمُ الْمَاضِيَةِ، أَوِ الْحَاصِلَةِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُعَلِّمَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ، وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ:" سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا شُؤْمَ، وَقَدْ يَكُونُ الْيُمْنُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّابَّةِ وَالْفَرَسِ» "، فَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِيسِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ «قِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ.

فَقَالَتْ: لَمْ يُحْفَظْ أَنَّهُ دَخَلَ، وَهُوَ يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ يَقُولُونَ: الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ» ، فَسَمِعَ آخَرَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، فَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ عَائِشَةَ، لَكِنْ رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الشُّؤْمُ فِي الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّابَّةِ، فَغَضِبَتْ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَتْ مَا قَالَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ» .

قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، مَعَ مُوَافَقَةِ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [الحديد: 22](سورة الْحَدِيدِ: الْآيَةُ 22) الْآيَةَ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، لَا سِيَّمَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، خُصُوصًا وَقَدْ وَرَدَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ نَفْيُ التَّطَيُّرِ، ثُمَّ إِثْبَاتُهُ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، " «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ، وَإِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ» "، فَذَكَرَهَا.

وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: " «لَا هَامَةَ، وَلَا عَدْوَى، وَلَا طِيرَةَ "، وَإِنْ تَكُنِ الطِّيرَةُ فِي شَيْءٍ، فَفِي الدَّارِ وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ، وَالطِّيرَةُ وَالشُّؤْمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ» ، انْتَهَى.

وَقَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَسَابِقِهِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن: 14](سورة التَّغَابُنِ: الْآيَةُ 14) ، إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ الشُّؤْمِ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا الْعَدَاوَةُ، وَالْفِتْنَةُ لَا كَمَا يَفْهَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ التَّشَاؤُمِ بِكَعْبِهَا، وَإِنَّ لَهَا تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى مَنْ نَسَبَ الْمَطَرَ إِلَى النَّوْءِ الْكُفْرَ، فَكَيْفَ مَنْ نَسَبَ مَا يَقَعُ مِنَ الشَّرِّ إِلَى الْمَرْأَةِ مِمَّا لَيْسَ لَهَا فِيهِ مَدْخَلٌ؟ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ مُوَافِقُ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ، فَتَنْفِرُ النَّفْسُ مِنْ ذَلِكَ، فَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَتْرُكَهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا، انْتَهَى.

ثُمَّ لَا يُشْكِلُ هَذَا مَعَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي الْجِهَادِ: " «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» "، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الشُّؤْمَ فِي غَيْرِ الَّتِي رُبِطَتْ لِلْجِهَادِ وَالَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ هِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، أَوْ يُقَالُ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهُ فَسَرَّ الْخَيْرَ بِالْأَجْرِ وَالْمَغْنَمِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفُرْسُ مِمَّا يُتَشَاءَمُ بِهِ أَوْ

ص: 604

الْمُرَادُ جِنْسُ الْخَيْرِ، أَيْ: أَنَّهَا بِصَدَدِ أَنَّ فِيهَا الْخَيْرَ، فَلَا يُنَافِي حُصُولَ غَيْرِهِ عَارِضٌ، قَالَهُ عِيَاضٌ.

وَسَأَلَ بَعْضُهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّارِ يُبَاحُ الِانْتِقَالُ مِنْهَا، وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْوَبَاءِ يُنْهَى عَنِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ؟ وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: الْأُمُورُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَمْ يَقَعْ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا اطَّرَدَتْ بِهِ الْعَادَةُ كَصَرِيخِ بُومٍ عَلَى دَارٍ، وَنَعِيقِ غُرَابٍ فِي سَفَرٍ، فَهَذَا لَا يُصْغَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ الشَّرْعُ الِالْتِفَاتَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَطَيَّرُ بِهِ.

وَثَانِيهَا: مَا يَقَعُ بِهِ الطِّيرَةُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعُمُّ كَالدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ، فَيُبَاحُ لِصَاحِبِ ذَلِكَ أَنْ يُفَارِقَ، وَلِمَا مَرَّ مِنْ وَجْهِ اسْتِثْنَائِهَا.

الثَّالِثُ: مَا يَقَعُ وَيَعُمُّ، وَلَا يَخُصُّ وَيَنْدُرُ، وَلَا يَتَكَرَّرُ كَالْوَبَاءِ، هَذَا لَا يُقَدَمُ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا، وَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ.

قَالَ: فَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ يُشِيرُ إِلَى الْفَرْقِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَيَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 605

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَارٌ سَكَنَّاهَا وَالْعَدَدُ كَثِيرٌ وَالْمَالُ وَافِرٌ فَقَلَّ الْعَدَدُ وَذَهَبَ الْمَالُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعُوهَا ذَمِيمَةً»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1818 -

1771 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّهُ قَالَ) مُنْقَطِعًا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ مَحْفُوظٌ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ.

وَعِنْدَهُ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ - بِمُهْمَلَةٍ - مُصَغَّرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السَّائِلُ قَالَ: « (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَارٌ سَكَنَّاهَا) ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هِيَ دَارُ مُكْمِلٍ - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْكَافِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ - وَهُوَ ابْنُ عَوْفٍ أَخُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، (وَالْعَدَدُ كَثِيرٌ، وَالْمَالُ وَافِرٌ) : زَائِدٌ (فَقَلَّ الْعَدَدُ، وَذَهَبَ الْمَالُ) رَأْسًا، (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهَا ذَمِيمَةً) » ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَيْ: مَذْمُومَةً يَقُولُ: دَعُوهَا، وَأَنْتُمْ لَهَا ذَامُّونَ، وَكَارِهُونَ لِمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ شُؤْمِهَا، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَهُ خَشْيَةً عَلَيْهِمِ الْتِزَامَ الطِّيرَةِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، لَكِنَّ الْخَالِقَ جَعَلَ ذَلِكَ وَقْتًا لِظُهُورِ قَضَائِهِ، وَأَمْرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، لِئَلَّا يَقَعَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ فَيَسْتَمِرُّ اعْتِقَادُهُمْ، وَأَفَادَ وَصْفُهَا بِقَوْلِهِ: ذَمِيمَةً جَوَازَ ذَلِكَ، وَإِنَّ ذِكْرَهَا بِقَبِيحِ مَا وَقَعَ فِيهَا سَائِغٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَمُّ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهَ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْهُ شَرْعًا، كَمَا يُذَمُّ الْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 605

[مَا يُكْرَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلَقْحَةٍ تُحْلَبُ مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا اسْمُكَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ مُرَّةُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اجْلِسْ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا اسْمُكَ فَقَالَ حَرْبٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اجْلِسْ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا اسْمُكَ فَقَالَ يَعِيشُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْلُبْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ

1819 -

1772 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) مُرْسَلٌ، أَوْ مُعْضِلٌ، وَصَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ يَعِيشَ الْغِفَارِيِّ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلَقْحَةٍ) - بِكَسْرِ اللَّامِ، وَتُفْتَحُ - نَاقَةٌ ذَاتُ لَبَنٍ، ( «تُحْلَبُ مَنْ يَحْلُبُ» ) - بِضَمِّ اللَّامِ - ( «هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مُرَّةَ» ) - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَشَدِّ الرَّاءِ - صَحَابِيٌّ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، ( «فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اجْلِسْ» ) لَا تَحْلِبْهَا، ( «ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ» ) اسْمِي (حَرْبٌ) ، بِمُهْمَلَةٍ، فَرَاءٍ، فَمُوَحَّدَةٍ صَحَابِيٌّ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنِ سَعْدٍ جَمْرَةُ - بِجِيمٍ، وَمِيمٍ - فَكَأَنَّ أَحَدَهُمَا اسْمٌ، وَالْآخَرَ لَقَبٌ، ( «فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اجْلِسْ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ» ؟) اللِّقْحَةَ، « (فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ: يَعِيشُ» ) بِلَفْظِ مُضَارِعِ عَاشَ، ابْنُ طِخْفَةَ الْغِفَارِيُّ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: شَامِيٌّ مُخْرِجٌ حَدِيثَهُ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ، ( «فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احْلُبْ» ) - بِضَمِّ اللَّامِ - قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الطِّيرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ، وَيَفْعَلُهُ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ الْفَالِ الْحَسَنِ، وَقَدْ كَانَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ سَيِّئِ الْأَسْمَاءِ أَنَّهُ حَرْبٌ وَمُرَّةُ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَتَسَمَّى بِهِمَا أَحَدٌ.

ص: 606

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرَجُلٍ مَا اسْمُكَ فَقَالَ جَمْرَةُ فَقَالَ ابْنُ مَنْ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ مِمَّنْ قَالَ مِنْ الْحُرَقَةِ قَالَ أَيْنَ مَسْكَنُكَ قَالَ بِحَرَّةِ النَّارِ قَالَ بِأَيِّهَا قَالَ بِذَاتِ لَظًى قَالَ عُمَرُ أَدْرِكْ أَهْلَكَ فَقَدْ احْتَرَقُوا قَالَ فَكَانَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1820 -

1773 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) ، مُنْقَطِعٌ وَصْلَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بِشْرٍ، أَنَّ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، (قَالَ) عُمَرُ (لِرَجُلٍ: مَا

ص: 606

اسْمُكَ؟ قَالَ: جَمْرَةُ) - بِالْجِيمِ، وَالرَّاءِ - (فَقَالَ ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ شِهَابِ) ابْنِ طَرْمِ بْنِ مَالِكٍ الْجُهَنِيُّ نَسَبَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ، مُخَضْرَمٌ، (قَالَ: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنَ الْحُرَقَةِ) - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَافٍ - بَطْنٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، (قَالَ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قَالَ: بِحَرَّةِ) - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَالرَّاءِ - (النَّارِ، قَالَ: بِأَيِّهَا؟ قَالَ: بِذَاتِ لَظَى، قَالَ عُمَرُ: أَدْرِكْ أَهْلَكَ، فَقَدِ احْتَرَقُوا، فَكَانَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ بَشْرَانَ: فَرَجَعَ فَوَجَدَ أَهْلَهُ قَدِ احْتَرَقُوا.

قَالَ الْبَاجِيُّ: كَانَتْ هَذِهِ حَالُ هَذَا الرَّجُلِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَا احْتَرَقَ أَهْلُهُ، وَلَكِنْ شَيْءٌ يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْمُتَفَائِلِ عِنْدَ سَمَاعِ الْفَأْلِ، وَيُلْقِيهِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ، فَيُوَافِقُ مَا قَدَّرَ اللَّهُ.

ص: 607

[الْحِجَامَةِ وَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحِجَامَةِ، وَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحِجَامَةِ، وَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ

1821 -

1774 - (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ الطَّوِيلِ) الْخُزَاعِيِّ الْبَصْرِيِّ، (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» -) مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، وَلِأَحْمَدَ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ، فَيَمْكُثُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ، وَكَانَ يَحْتَجِمُ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.

وَلِابْنِ عَدِيٍّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: «الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ تَنْفَعُ مِنَ الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَالنُّعَاسِ، وَالصُّدَاعِ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ وَالْعَيْنِ» "، وَقَدْ زَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ» "، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: "«خَيْرُ الدَّوَاءِ الْحِجَامَةُ، وَالْفَصْدُ» "، لَكِنَّ فِي سَنَدِهِ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ كَذَّبَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: " «لَا يَبْلُغُ الرَّجُلُ أَرْبَعِينَ سَنَّةً، ثُمَّ يَحْتَجِمُ» "، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ فِي انْتِقَاصٍ مِنْ عُمْرِهِ، وَانْحِلَالٍ مَنْ قُوَاهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَهُ وَهَنًا بِإِخْرَاجِ الدَّمِ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدَّهُ أَيْ: لِاحْتِجَامِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَاخِرِ عُمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَادَهُ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ.

ص: 607

(حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ) ، بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُوَحِّدَةِ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، وَاسْمُهُ نَافِعٌ عَلَى الصَّحِيحِ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ السَّكَنِ عَنْ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ:«أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ حَجَّامٌ يُقَالُ لَهُ: نَافِعٌ أَبُو طَيْبَةَ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ عَنْ خَرَاجِهِ» ، الْحَدِيثَ.

وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ اسْمَهُ دِينَارٌ، وَوَهَمُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دِينَارَ الْحَجَّامَ تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِي طَيْبَةَ، لَا أَنَّهُ أَبُو طَيْبَةَ نَفْسُهُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ الْحَجَّامِ «عَنْ أَبِي طَيْبَةَ قَالَ: " حَجَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» - الْحَدِيثَ.

وَذَكَرَ الْبَغْوَيُّ فِي الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَنَّ اسْمَ أَبِي طَيْبَةَ مَيْسَرَةُ، وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:" «خَرَجَ عَلَيْنَا أَبُو طَيْبَةَ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقُلْنَا لَهُ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: حَجَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ) » ، وَلِابْنِ السَّكَنِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "«كُنَّا جُلُوسًا بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا أَبُو طَيْبَةَ بِشَيْءٍ يَحْمِلُهُ فِي ثَوْبِهِ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: حَجَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي أَجْرِي» (وَأَمَرَ أَهْلَهُ)، أَيْ: سَيِّدَهُ مُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَمَرَ مَوَالِيَهُ بِالْجَمْعِ مَجَازًا، (أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ) - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - مَا يُقَرِّرُهُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ شَهْرٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَ خَرَاجُهُ ثَلَاثَةَ آصُعٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا، كَمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ جَوَازُ الْحِجَامَةِ، وَأَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

" «احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الَّذِي حَجَمَهُ» "، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهْ، وَالْكَرَاهَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلْحَجَّامِ، لَا لِلْمُسْتَعْمِلِ لِضَرُورَتِهِ إِلَى الْحِجَامَةِ، وَعَدَمِ ضَرُورَةِ الْحَجَّامِ، وَلَوْ تَوَاطَأَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ لَأَضَرَّ بِهِمْ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْأَجِيرِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ أُجْرَةٍ، وَإِعْطَاءِ قَدْرِهَا وَأَكْثَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَدْرَهَا كَانَ مَعْلُومًا، فَوَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى الْعَادَةِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَيْعِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَشُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ عِنْدَهُ فِي الْإِجَارَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عِنْدَهُ فِي الطِّبِّ الثَّلَاثَةُ عَنْ حُمَيْدٍ نَحْوَهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ زِيَادَةٌ قَدْ عُلِمَتْ.

ص: 608

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنْ كَانَ دَوَاءٌ يَبْلُغُ الدَّاءَ فَإِنَّ الْحِجَامَةَ تَبْلُغُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1821 -

1775 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) مِمَّا صَحَّ بِمَعْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: « (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنْ كَانَ دَوَاءً) مُفْرَدُ أَدْوِيَةٍ: مَا يُتَدَاوَى بِهِ (يَبْلُغُ الدَّاءَ) : الْمَرَضَ

ص: 608

(فَإِنَّ الْحِجَامَةَ تُبْلُغُهُ) » ، تَصِلُ إِلَيْهِ، أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الْمُؤْذِنِ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْخَبَرِ إِيذَانًا بِتَحْقِيقِهِ لِلسَّامِعِينَ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَحَقَّقْتُمْ أَنَّ مِنَ الدَّوَاءِ مَا يَبْلُغُ الدَّاءَ، فَتَحَقَّقُوا أَنَّ الْحِجَامَةَ تَبْلُغُهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:" «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةِ نَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» "، فَجَزَمَ بِأَنَّ فِي الْحَجْمِ الشِّفَاءَ، أَوِ الشَّرْطُ عَلَى حَقِيقَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ، فَلَمَّا عَلِمَ جَزَمَ نَظِيرَ مَا مَرَّ.

ص: 609

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ مُحَيِّصَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ «أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِجَارَةِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى قَالَ اعْلِفْهُ نُضَّاحَكَ يَعْنِي رَقِيقَكَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1823 -

1776 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ مُحَيِّصَةَ) - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ - (أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ) - بِمُهْمَلَةٍ، وَمُثَلَّثَةٍ - مِنَ الْخَزْرَجِ (أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ غَلَطٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ لِسَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ صُحْبَةٌ فَكَيْفَ لِابْنِهِ حَرَامٍ؟ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هُوَ حَرَامُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَمُطَرِّفٌ، وَابْنُ نَافِعٍ، وَالْقَعْنَبِيُّ، وَالْأَكْثَرُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرْسِلُ، وَتَابَعَهُ فِي قَوْلِهِ عَنْ أَبِيهِ يُونُسُ، وَمَعْمَرُ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَلَمْ يَتَّصِلْ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْهُ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ:«أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (فِي إِجَارَةِ الْحَجَّامِ) » ؛ لِأَنَّ غُلَامَهُ أَبَا طَيْبَةَ كَانَ حَجَّامًا، وَكَانَ جَعَلَ عَلَيْهِ خَرَاجًا كَمَا مَرَّ، (فَنَهَاهُ عَنْهَا) تَنْزِيهًا، ( «فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى قَالَ: اعْلِفْهُ نُضَّاحَكَ» ) - بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ - جَمْعُ نَاضِحٍ، وَلِلْقَعْنَبِيِّ: نَاضِحَكَ بِالْإِفْرَادِ، وَهُوَ الْجَمَلُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ الْمَاءُ، (رَقِيقَكَ) كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى الْقَعْنَبِيُّ بِلَا وَاوٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ بِالْوَاوِ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَحْمَدُ، وَمُوَافِقُوهُ فَمَنَعُوا الْحُرَّ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْحِجَامَةِ، وَأَبَاحُوا لَهُ إِنْفَاقَهَا عَلَى عَبْدِهِ وَدَوَابِّهِ، وَأَبَاحُوهَا لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

ص: 609

[فِي الْمَشْرِقِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَشْرِقِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ وَيَقُولُ هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

11 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَشْرِقِ

بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الْأَكْثَرِ، وَبِفَتْحِهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنَّهُ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ جِهَةَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ مَشْرِقِيٌّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا.

1824 -

1777 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) الْعَدَوِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ» ) ، وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ابْنِ عُمَرَ:" أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ "، وَفِي التِّرْمِذِيِّ:" قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ "، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ:" قَامَ عِنْدَ بَابِ حَفْصَةَ "، وَفِي لَفْظٍ:" عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ "، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ بَابِ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَبَابَاهُمَا مُتَقَارِبَانِ، فَأَشَارَ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا، فَعَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِبَابِ حَفْصَةَ، وَأُخْرَى بِبَابِ عَائِشَةَ، ثُمَّ مَشَى إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ، فَأَشَارَ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ فَأَشَارَ، فَإِنْ سَاغَ هَذَا، وَإِلَّا فَيُطْلَبُ جَمْعٌ غَيْرُهُ، وَلَا يُجْمَعُ بِتَعَدُّدِ الْقِصَّةِ لِاتِّحَادِ الْمُخْرِجِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ.

(وَيَقُولُ) : زَادَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْمَشْرِقَ "، (هَا) بِالْقَصْرِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ حَرْفُ تَنْبِيهٍ، (إِنَّ الْفِتْنَةَ) - بِكَسْرِ الْفَاءِ -: الْمِحْنَةُ، وَالْعِقَابُ، وَالشِّدَّةُ، وَكُلُّ مَكْرُوهٍ، وَآيِلٍ إِلَيْهِ كَالْكُفْرِ، وَالْإِثْمِ وَالْفَضِيحَةِ وَالْفُجُورِ وَالْمُصِيبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللَّهِ فَهُنَّ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ، فَمَذْمُومَةٌ، فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِإِيقَاعِ الْفِتْنَةِ كَقَوْلِهِ:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 191)، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] (سورة الْبُرُوجِ: الْآيَةُ 10) ، الْآيَةَ

(هَاهُنَا إِنَّ الْفِتْنَةَ) زَادَ الْقَعْنَبِيُّ: هَاهُنَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ بِالتَّكْرَارِ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: «إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مَرَّةً وَاحِدَةً» .

(مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ) - بِضَمِّ اللَّامِ - (قَرْنُ الشَّيْطَانِ) بِالْإِفْرَادِ، أَيْ: حِزْبُهُ وَأَهْلُ وَقْتِهِ وَزَمَانِهِ وَأَعْوَانُهُ، وَنَسَبَ الطُّلُوعَ لِقَرْنِهِ مَعَ أَنَّ الطُّلُوعَ لِلشَّمْسِ لِكَوْنِهِ مُقَارِنًا لَهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ، وَكَذَا سَالِمٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، لَكِنْ بِالشَّكِّ قَرْنُ الشَّيْطَانِ، أَوْ قَالَ: قَرْنُ الشَّمْسِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ سَالِمٍ:" «مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ» "، بِالتَّثْنِيَةِ وَبِدُونِ شَكٍّ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ لَهُ قَرْنَيْنِ حَقِيقَةً، وَقِيلَ: هُمَا جَانِبَا رَأْسِهِ أَنَّهُ يَقْرِنُ رَأْسَهُ

ص: 610

بِالشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا لِيَقَعَ سَجْدَةُ عَبَدَتِهَا لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَثْلٌ أَيْ: حِينَئِذٍ يَتَحَرَّكُ الشَّيْطَانُ، وَيَتَسَلَّطُ، أَوْ قَرْنُهُ أَهْلُ حِزْبِهِ، وَإِنَّمَا أَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَشْرِقِ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ يَوْمَئِذٍ أَهْلُ كُفْرٍ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفِتْنَةَ تَكُونُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَكَذَا وَقَعَ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ الْجَمَلِ، وَصَفِّينَ، ثُمَّ ظُهُورُ الْحَجَّاجِ فِي نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ وَمَا وَرَاءَهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ فِي شَيْخِهِ ابْنِ دِينَارٍ نَافِعٌ، وَسَالِمٌ، عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ نَحْوُهُ.

ص: 611

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ لَا تَخْرُجْ إِلَيْهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ بِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارِ السِّحْرِ وَبِهَا فَسَقَةُ الْجِنِّ وَبِهَا الدَّاءُ الْعُضَالُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1824 -

1778 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ) - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - قَالَ الْمَجَرُ: بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ عَبَادَانِ إِلَى الْمَوْصِلِ طُولًا، وَمِنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ عَرْضًا، وَتُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ، وَسَمَّيَتْ بِهَا لِتَوَاشُجِ عِرَاقِ النَّخْلِ، وَالشَّجَرِ فِيهَا، أَوْ لِأَنَّهُ اسْتَكَفَّ أَرْضَ الْعَرَبِ، أَوْ سُمِّيَ بِعِرَاقِ الْمَزَادَةِ لِجِلْدَةٍ تُجْعَلُ عَلَى مُلْتَقَى طَرَفَيِ الْجِلْدِ إِذَا خُرِزَ فِي أَسْفَلِهَا؛ لِأَنَّ الْعِرَاقَ بَيْنَ الرِّيفِ وَالْبَرِّ، أَوْ لِأَنَّهُ عَلَى عِرَاقِ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، أَيْ: شَاطِئِهِمَا، أَوْ مُعَرَّبَةٌ إِيرَانُ شَهْرٍ، وَمَعْنَاهُ: كَثِيرَةُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ.

(فَقَالَ لَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَا تَخْرُجْ إِلَيْهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ بِهَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ السِّحْرِ) ، وَبَابِلُ مِنْ جُمْلَةِ بِلَادِهَا، (وَبِهَا فَسَقَةُ الْجِنِّ، وَبِهَا الدَّاءُ الْعُضَالُ) ، بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ هُوَ الَّذِي يَعْنِي الْأَطِبَّاءَ أَمْرُهُ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ؛ لِأَنَّ كَعْبًا حَبْرَهَا.

ص: 611

[فِي قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَمَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ]

قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَمَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الْحَيَّاتِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

12 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي قَتْلِ الْحَيَّاتِ، وَمَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ

جَمْعُ حَيَّةٍ تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَإِنَّمَا دَخَلَتْهَا الْهَاءُ؛ لِأَنَّهَا وَاحِدٌ مِنْ جِنْسٍ كَبَطَّةٍ عَلَى أَنَّهُ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ: رَأَيْتُ حَيًّا عَلَى حَيَّةٍ، أَيْ: ذَكَرًا عَلَى أُنْثَى، وَالْحَيُّوتُ: ذَكَرُ الْحَيَّاتِ، أَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ:

وَيَأْكُلُ الْحَيَّةَ وَالْحَيُّوتَا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ الْكَبِيرُ: الْحَيَّةُ الذَّكَرُ.

وَعَنْ غَيْرِهِ: الثُّعْبَانُ مِنَ الْحَيَّاتِ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى.

1826 -

1779 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، الثِّقَةِ، الثَّبْتِ، الْفَقِيهِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ

ص: 611

وَمِائَةٍ، أَوْ بَعْدَهَا (عَنْ أَبِي لُبَابَةَ) - بِضَمِّ اللَّامِ، وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ - صَحَابِيٍّ مَشْهُورٍ اسْمُهُ بَشِيرٌ - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ - وَقِيلَ مُصَغَّرٌ، وَقِيلَ: بِتَحْتِيَّةٍ، وَمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ، وَقِيلَ: اسْمُهُ رِفَاعَةُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَرِفَاعَةُ، وَبَشِيرٌ أَخَوَاهُ، وَاسْمُ جَدِّهِ زَنْبَرٌ بِزَايٍ، وَنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَزْنُ جَعْفَرٍ، وَهُوَ أَوْسِيٌّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَشَذَّ مَنْ قَالَ: اسْمُهُ مَرْوَانُ، وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ، وَشَهِدَ أُحُدًا، وَيُقَالُ: شَهِدَ بَدَرًا، وَاسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ مَعَهُ رَايَةُ قَوْمِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَمَاتَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ، كَذَا فِي الْفَتْحِ.

وَفِي الْإِصَابَةِ: مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ.

وَقَالَ خَلِيفَةُ: مَاتَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَيُقَالُ: عَاشَ إِلَى بَعْدِ الْخَمْسِينَ.

رَوَى عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُهُ سَالِمٌ وَمَوْلَاهُ نَافِعٌ وَغَيْرُهُمْ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الْحَيَّاتِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ» ) ، يَعْنِي دُونَ إِنْذَارٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ تَتَمَثَّلُ بِهَا.

قَالَ الْحَافِظُ: وَظَاهِرُهُ تَعْمِيمُ جَمِيعِ الْبُيُوتِ.

وَعَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصُهُ بِبُيُوتِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِبُيُوتِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهُوَ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، فَتُقْتَلُ فِي الْبَرَارِي وَالصَّحَارِي مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَنَّهَا الْحَيَّةُ الَّتِي تَكُونُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ، وَلَا تَلْتَوِي فِي مِشْيَتِهَا، انْتَهَى.

وَفِي الْأَبِيِّ: أَنَّ مَالِكًا نَهَى عَنْ قَتْلِ حَيَّاتِ بُيُوتِ غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا بِلَا إِنْذَارٍ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَهُ فِي بُيُوتِ الْمَدِينَةِ آكَدُ.

وَقَصَرَهُ ابْنُ نَافِعٍ عَلَى بُيُوتِ الْمَدِينَةِ، وَرَأَى أَنَّ حَيَّاتَ غَيْرِهَا بِخِلَافِهَا لِحَدِيثِ:" «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ» "، وَإِنَّهَا إِحْدَى الْخَمْسُ الَّتِي يَقْتُلُهَا الْمُحْرِمُ، وَالْحَلَالُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَامِ، وَلَمْ يُذْكَرْ إِنْذَارٌ، فَحَدِيثُ الْمَدِينَةِ مُخَصِّصٌ لِهَذَا الْعُمُومِ.

ص: 612

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَائِبَةَ مَوْلَاةٍ لِعَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ إِلَّا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَخْطِفَانِ الْبَصَرَ وَيَطْرَحَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1827 -

1780 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (عَنْ سَائِبَةَ مَوْلَاةٍ لِعَائِشَةَ) مُرْسَلٌ، وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي لُبَابَةَ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ» ) - بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَفَتْحِ النُّونِ الثَّقِيلَةِ - جَمْعُ جَانٍّ، وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، وَقِيلَ: الرَّفِيعَةُ الْخَفِيفَةُ، وَقِيلَ: الرَّقِيقَةُ الْبَيْضَاءُ، وَقِيلَ: مَا لَا يَتَعَرَّضُ لِإِذَايَةِ النَّاسِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجِنَّانُ مَسْخُ الْجِنِّ، كَمَا مُسِخَتِ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هِيَ عَوَامِرُ الْبُيُوتِ، فَتُمَثَّلُ فِي صِفَةِ حَيَّةٍ رَقِيقَةٍ بِالْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا، وَهِيَ الَّتِي نَهَى عَنْ قَتْلِهَا حَتَّى تُنْذَرَ.

وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: إِنَّمَا يُقْتَلُ مِنَ الْحَيَّاتِ الَّتِي تَكُونُ رَقِيقَةً كَأَنَّهَا فِضَّةٌ، وَلَا تَلْتَوِي فِي مَشْيِهَا، قَالَهُ عِيَاضٌ.

قَالَ الْأَبِيُّ: لَوْلَا تَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرَ الْجِنَّانَ بِالْحَيَّاتِ عُمُومًا، لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ لَا يُنْذَرُ

ص: 612

مِنْ جِنَّانِ الْبُيُوتِ إِلَّا الصَّغِيرُ عَلَى مَنْ فَسَّرَ الْجِنَّانَ بِالصَّغِيرِ، (الَّتِي فِي الْبُيُوتِ) عُمُومًا أَوْ بُيُوتٍ خَاصَّةٍ عَلَى مَا مَرَّ حَتَّى تُنْذَرَ، وَيُقْتَلُ مَا وُجِدَ فِي الصَّحَارِي بِلَا إِنْذَارٍ.

قَالَ مَالِكٌ: وَيُقْتَلُ مَا وُجِدَ مِنْهَا فِي الْمَسَاجِدِ، (إِلَّا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ) - بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْفَاءِ - تَثْنِيَةُ طُفْيَةٍ، وَهُوَ خُوصَةُ الْمُقَلِ شَبَّهَ بِهِ الْخَطَّيْنِ الَّذِينَ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ، قَالَهُ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُقَالُ إِنَّ ذَا الطُّفْيَيْنِ جِنْسٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يَكُونُ عَلَى ظَهْرِهِ خَطَّانِ أَبْيَضَانِ.

(وَالْأَبْتَرُ) مَقْطُوعُ الذَّنَبِ، أَوِ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الذَّنَبِ.

وَقَالَ الدَّاوُدِيِّ: هُوَ الْأَفْعَى الَّتِي قَدْرُ شِبْرٍ، أَوْ أَكْثَرُ قَلِيلًا، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ بَيْنَهُمَا.

وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ: " «لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ» "، وَظَاهِرُهُ اتِّحَادُهُمَا لَكِنَّهُ لَا يَنْفِي الْمُغَايِرَةَ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، لَا بَيْنَ الذَّاتَيْنِ فَالْمَعْنَى: اقْتُلُوا الْحَيَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَ الْأَبْتَرِيَّةِ، وَكَوْنِهَا ذَاتَ طُفْيَتَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الْكَرِيمِ، وَالنَّسَمَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا بَيْنَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ مَا اتَّصَفَ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ، وَبِقَتْلِ مَا اتَّصَفَ بِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّ الصِّفَتَيْنِ قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِيهَا، وَقَدْ يَفْتَرِقَانِ.

(فَإِنَّهُمَا يَخْطَفَانِ) - بِفَتْحِ الطَّاءِ - الْبَصَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَطْمِسَانِ (الْبَصَرَ)، أَيْ: يَمْحُوَانِ نُورَهُ، ( «وَيَطْرَحَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ» ) مِنَ الْحَمْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَيُسْقِطَانِ الْحَبَلَ - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ - قَالَ الْأَبِيُّ: إِمَّا لِلْفَزَعِ، أَوْ لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِمَا، وَقَدْ تَكُونُ الْخَاصِّيَّةُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ نَرَى ذَلِكَ مِنْ سُمِّهِمَا.

قَالَ الْحَافِظُ: زَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ أُذِنَ فِي قَتْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَانَّ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِمَا، وَإِنَّمَا يَتِمُّ إِنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ رَدٌّ عَلَيْهِ، انْتَهَى.

وَبِهِ عُلِمَ قَوْلُ السَّيُوطِيِّ، إِنَّمَا اسْتُثْنِيَا؛ لِأَنَّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ لَا يَتَصَوَّرُونَ فِي صُوَرِهِمَا لِأَذِيَّتِهِمَا بِنَفْسِ رُؤْيَتِهِمَا، وَإِنَّمَا يَتَصَوَّرُ مُؤْمِنُوا الْجِنِّ بِصُورَةِ مَنْ لَا تَضُرُّ رُؤْيَتُهُ، فَإِنَّ هَذَا كَلَامَ الدَّاوُدِيِّ، وَقَدْ عُلِمَ مَا فِيهِ، وَأَيْضًا تَعْلِيلُهُ بِهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ تَعْلِيلِهِ، صلى الله عليه وسلم.

ص: 613

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ صَيْفِيٍّ مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا تَحْتَ سَرِيرٍ فِي بَيْتِهِ فَإِذَا حَيَّةٌ فَقُمْتُ لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ أَنْ اجْلِسْ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَالَ أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ فَتًى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ فَبَيْنَا هُوَ بِهِ إِذْ أَتَاهُ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي أُحْدِثُ بِأَهْلِي عَهْدًا فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَانْطَلَقَ الْفَتَى إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَائِمَةً بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعُنَهَا وَأَدْرَكَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالَتْ لَا تَعْجَلْ حَتَّى تَدْخُلَ وَتَنْظُرَ مَا فِي بَيْتِكَ فَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِحَيَّةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ فَرَكَزَ فِيهَا رُمْحَهُ ثُمَّ خَرَجَ بِهَا فَنَصَبَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ الْحَيَّةُ فِي رَأْسِ الرُّمْحِ وَخَرَّ الْفَتَى مَيِّتًا فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْفَتَى أَمْ الْحَيَّةُ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1828 -

1781 - (مَالِكٌ عَنْ صَيْفِيِّ) بْنِ زِيَادٍ الْأَنْصَارِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ مِنَ الثِّقَاتِ، (مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ) بِالْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ (عَنِ ابْنِ السَّائِبِ) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، يُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ تَابِعِيٌّ، ثِقَةٌ (مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ) - بِضَمِّ الزَّايِ - « (أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) بَيْتَهُ

ص: 613

، (فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى قَضَى)، أَيْ: أَتَمَّ (صَلَاتَهُ فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا تَحْتَ سَرِيرٍ فِي بَيْتِهِ، فَإِذَا حَيَّةٌ فَقُمْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ أَنِ اجْلِسْ) ، وَلَا تَقْتُلْهَا، (فَلَمَّا انْصَرَفَ) مِنَ الصَّلَاةِ، (أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ قَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، أَرَاهُ (قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ فَتًى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ) فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، (فَبَيْنَمَا هُوَ بِهِ، إِذْ أَتَاهُ يَسْتَأْذِنُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور: 62](سورة النُّورِ: الْآيَةُ 62) الْآيَةَ، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي أُحْدِثُ بِأَهْلِي) ، أَيِ امْرَأَتِي (عَهْدًا، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي الذَّهَابِ إِلَى أَهْلِهِ، (وَقَالَ: خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ بَنِي قُرَيْظَةَ) » ، يَقْتَضِي أَنَّ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالْخَنْدَقِ خَلَاءً يَخْشَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ، قَالَهُ الْأَبِيُّ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: وَكَانَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِنْصَافِ النَّهَارِ، فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ: خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ. . . إِلَخْ.

قَالَ عِيَاضٌ: رَوَيْنَا أَنْصَافَ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ - أَيْ: بِنِصْفَيِ النَّهَارِ، وَهُوَ آخِرُ نِصْفِهِ الْأَوَّلِ، وَأَوَّلُ الثَّانِي، وَجُمِعَ مَعَ الْإِضَافَةِ إِلَى النَّهَارِ، كَمَا قَالَ ظُهُورُ التُّرْسَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْصَافُ مَصْدَرَ نِصْفِ النَّهَارِ، إِذَا بَلَغَ نِصْفَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُقَالُ: نِصْفُ النَّهَارِ، إِذَا بَلَغَ نِصْفَهُ، وَلَا يُقَالُ: أَنْصَفَ رُبَاعِيًّا، (فَانْطَلَقَ)، وَلِابْنِ وَهْبٍ: «فَأَخَذَ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ (الْفَتَى إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَائِمَةً بَيْنَ الْبَابَيْنِ) ، خَوْفًا مِنَ الْحَيَّةِ، فَظَنَّ هُوَ سَيِّئًا، (فَأَهْوَى) مَدَّ يَدَهُ (إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعُنَهَا) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - (وَأَدْرَكَتْهُ غَيْرَةٌ) - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ - عَطْفُ عِلَّةٍ عَلَى مَعْلُولٍ، (فَقَالَتْ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى تَدْخُلَ، وَتَنْظُرَ مَا فِي بَيْتِكَ) ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ فَقَالَتْ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُلْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، (فَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِحَيَّةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ، فَرَكَّزَ فِيهَا رُمْحَهُ)، وَلِابْنِ وَهْبٍ: فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ

ص: 614

(ثُمَّ خَرَجَ بِهَا، فَنَصَبَهُ)، أَيِ: الرُّمْحَ (فِي الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتِ الْحَيَّةُ فِي رَأْسِ الرُّمْحِ وَخَرَّ) : سَقَطَ (الْفَتَى مَيِّتًا، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْفَتَى، أَمِ الْحَيَّةُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، وَلِابْنِ وَهْبٍ:" فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَيِّيَهُ لَنَا فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ» "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالُوا ذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَعُمُومِ بَرَكَتِهِ.

(فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا» )، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَذَا أَسْلَمَ بِغَيْرِهَا، فَيَلْزَمُ الْمُسَاوَاةُ فِي مَنْعِ الْقَتْلِ إِلَّا بِإِذْنٍ.

وَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ الْفَتَى مُسْلِمٌ، وَأَنَّ الْجِنَّ قَتَلَتْهُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ، وَإِنْ شُرِعَ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لَكِنَّ شَرْطَهُ الْعَمْدُ، وَالْفَتَى لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَ نَفْسٍ مَسْلَمَةٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ مُؤْذِيًا يَسُوغُ لَهُ قَتَلُ نَوْعِهِ شَرْعًا، فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ خَطَأً، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَسَقَةَ الْجِنَّ قَتَلَتْهُ بِصَاحِبِهِمْ عُدْوَانًا، وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا لِيُبَيِّنَ طَرِيقًا يَحْصُلُ بِهَا التَّحَرُّزُ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ، وَيُسَلِّطُ بِهِ عَلَى قَتْلِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ.

( «فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» )، قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ أَنَّ الْإِنْذَارَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي يَوْمٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يُنْذَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، انْتَهَى.

وَصِفَةُ الْإِنْذَارِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي لَيْلَى قَالَ:" قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ظَهَرَتِ الْحَيَّةُ فِي الْمَسْكَنِ، فَقُولُوا لَهَا: نَسْأَلُكِ بِعَهْدِ نُوحٍ، وَبِعَهْدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ لَا تُؤْذِينَا، فَإِنْ عَادَتْ فَاقْتُلُوهَا» "، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ:" أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «سُئِلَ عَنْ جِنَّانِ الْبُيُوتِ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ، فَقُولُوا: أُنْشِدُكُمُ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نُوحٌ، أُنْشِدُكُمُ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانَ أَنْ لَا تُؤْذُونَا، فَإِنْ عُدْنَ فَاقْتُلُوهُنَّ» "، وَقَالَ مَالِكٌ: يَكْفِي أَنْ يُقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ لَا تَبْدُوا لَنَا، وَلَا تُؤْذُونَا.

قَالَ عِيَاضٌ: أَظُنُّهُ أَخْذَهُ مِنْ رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فَقَالَ:«إِنْ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا، فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا» .

وَقَالَ فِي الْفَتْحِ: مَعْنَاهُ أَنْ يُقَالَ لَهُنَّ: أَنْتُنَّ فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ إِنْ لَبِثَتْ عِنْدَنَا، أَوْ ظَهَرْتَ لَنَا، أَوْ عَدْتَ إِلَيْنَا.

( «فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» )، وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ:" فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ "، قَالَ عِيَاضٌ: لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْإِنْذَارِ بَانَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُمَّارِ الْبُيُوتِ، وَلَا مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَأَنَّهُ شَيْطَانٌ فَقَتْلُهُ مُبَاحٌ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ سَبِيلًا إِلَى الِاقْتِصَاصِ مِمَّنْ قَتَلَهُ، كَمَا فَعَلَ بِجِنَّانِ الْبَيْتِ، وَمَنْ أَسْلَمَ لَمْ يُنْذَرْ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَمْرُ

ص: 615

فِي ذَلِكَ لِلْإِرْشَادِ إِلَّا يُحَقِّقُ الضَّرَرَ فَيَجِبُ رَفْعُهُ.

قَالَ الْأَبِيُّ: هَلِ الْمُوجِبُ لِلِاسْتِئْذَانِ الْإِسْلَامُ، أَوْ خَوْفُ مِثْلِ مَا وَقَعَ لِلْفَتَى، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَخَوْفُ وُقُوعِهِ مِمَّنْ لَا يُسْلِمُ أَقْوَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَنْ يُسْلِمُ دُونَ الْكَافِرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ كَافِرٌ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ، انْتَهَى.

وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ كَمَا رَأَيْتَ، وَهُوَ مَدْلُولُ الْحَدِيثِ، فَالْمُوجِبُ لِلِاسْتِئْذَانِ الْإِسْلَامُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ بَعْدَ أَسْطُرٍ نَقَلَ كَلَامَ عِيَاضٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ عَلِمْتُهَا، وَتَابَعَهُ فِي ذَلِكَ شَيْخُهُ صَيْفِيُّ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي السَّائِبِ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَائِلًا نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ صَيْفِيٍّ، وَقَالَ فِيهِ:" فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا، فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ» ، وَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ "، وَتَابَعَهُ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ بِدُونِ الْقِصَّةِ ابْنُ عَجْلَانِ عَنْ صَيْفِيٍّ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا نَحْوُهُ.

ص: 616

[باب السفر ومعاملة الأرقاء]

[مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ فِي السَّفَرِ]

‌مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ فِي السَّفَرِ

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَهُوَ يُرِيدُ السَّفَرَ يَقُولُ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الْأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَمِنْ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَمِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

13 -

بَابُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي السَّفَرِ

1782 -

(مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ) مِمَّا صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ:« (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ) - بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، ثُمَّ زَايٍ مَنْقُوطَةٍ، أَيِ: الرِّكَابِ، (وَهُوَ يُرِيدُ السَّفَرَ، يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ) أُسَافِرُ (اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ) » ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَخْلُو مَكَانٌ مِنْ أَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، فَيَصْحَبُ الْمُسَافِرَ فِي سَفَرِهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُ، وَيَرْزُقَهُ، وَيُعِينَهُ وَيُوَفِّقَهُ وَيَخْلُفَهُ فِي أَهْلِهِ بِأَنْ يَرْزُقَهُمْ، وَيَعْصِمَهُمْ، فَلَا حُكْمَ لِأَحَدٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا فِي السَّمَاءِ غَيْرُهُ.

(اللَّهُمَّ ازْوِ) ، بِالزَّايِ مَنْقُوطَةٍ، أَيِ: اطْوِ (لَنَا الْأَرْضَ) الطَّرِيقَ، وَقَرِّبْهُ وَسَهِّلْهُ، (وَهَوِّنْ) : يَسِّرْ، وَخَفِّفْ (عَلَيْنَا السَّفَرَ) ، فَلَا نَنَالُ فِيهِ مَزِيدَ مَشَقَّةٍ.

(اللَّهُمَّ إِنِّي أُعَوِّذُ بِكَ) ، الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ الْمَعْنَوِيِّ التَّخْصِيصِيِّ كَأَنَّهُ خَصَّ الرَّبَّ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أُعُوذُ بِاللَّهِ، وَلَمْ يُسْمَعْ: بِاللَّهِ أَعُوذُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ تَفَنُّنٌ وَانْبِسَاطٌ، وَالِاسْتِعَاذَةُ حَالَ خَوْفٍ وَقَبْضٍ، بِخِلَافِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ؛ لِأَنَّهُ حَالُ شُكْرٍ وَتَذَكُّرِ إِحْسَانٍ وَنِعَمٍ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ.

(مِنْ وَعْثَاءِ) - بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ، وَمُثَلَّثَةٍ، وَالْمَدِّ -

ص: 616

أَيْ: شِدَّةِ (السَّفَرِ) وَخُشُونَتِهِ، (وَمِنْ كَآبَةِ) - بِفَتْحِ الْكَافِ، وَالْهَمْزَةِ، وَالْمَدِّ - أَيْ: حُزْنِ (الْمُنْقَلَبِ) ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْقَلِبَ الرَّجُلُ، وَيَنْصَرِفَ مِنْ سَفَرِهِ إِلَى أَمْرِ حَزِنَهُ وَيَكْتَئِبَ مِنْهُ.

( «وَمِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ» ) - بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ - ( «فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ» ) ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَسُوءُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَسَمَاعُهُ فِيهِمَا.

ص: 617

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ فَإِنَّهُ لَنْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1783 -

(مَالِكٌ عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ) أَبِي يُوسُفَ الْمَدَنِيِّ مَوْلَى قُرَيْشٍ، ثِقَةٍ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، بِلَفْظِ الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورِ، (عَنْ بُسْرٍ) - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ - (ابْنِ سَعِيدٍ) - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) مَالِكِ الزُّهْرِيِّ أَحَدِ الْعَشْرَةِ (عَنْ خَوْلَةَ) - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - (بِنْتِ حَكِيمِ) ابْنِ أُمَيَّةَ السَّلَمِيَّةِ، يُقَالُ لَهَا: أُمُّ شَرِيكٍ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: خُوَيْلَةُ بِالتَّصْغِيرِ صَحَابِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ، يُقَالُ: إِنَّهَا الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ قَبْلُ تَحْتَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا) ، مَظِنَّةً لِلْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا يُؤْذِي، وَلَوْ فِي غَيْرِ سَفَرٍ، (فَلْيَقُلْ) نَدَبًا لِدَفْعِ شَرِّهًا، (أَعُوذُ) : أَعْتَصِمُ (بِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، أَيْ: صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ الَّتِي بِهَا ظَهَرَ الْوُجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَبِهَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ، وَقِيلَ: هِيَ الْعِلْمُ لِأَنَّهُ أَعَمُّ الصِّفَاتِ، وَقِيلَ: هِيَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هِيَ جَمِيعُ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُضَافَ إِلَى الْمَعَارِفِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَوَصَفَهَا بِقَوْلِهِ:(التَّامَّاتِ)، أَيِ: الَّتِي لَا يَعْتَرِيهَا نَقْصٌ، وَلَا خَلَلٌ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ شَرَفِهَا، وَخُلُوِّهَا عَلَى كُلِّ نَقْصٍ، إِذْ لَا شَيْءَ إِلَّا وَهُوَ تَابِعٌ لَهَا يُعْرَفُ بِهَا، فَالْوُجُودُ كُلُّهُ بِهَا ظَهْرَ وَعَنْهَا وُجِدَ، انْتَهَى.

وَقَالَ عِيَاضٌ: قِيلَ التَّامَّاتُ: الْكَامِلَةُ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا عَيْبٌ، وَلَا نَقْصٌ، كَمَا يَدْخُلُ كَلَامَ النَّاسِ، وَقِيلَ: هِيَ النَّافِعَةُ الشَّافِيَةُ.

وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: الْكَلِمَةُ لُغَةً تَقَعُ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ اسْمًا أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا، وَعَلَى الْأَلْفَاظِ الْمَنْطُوقَةِ، وَعَلَى الْمَعَانِي الْمَجْمُوعَةِ، وَالْكَلِمَاتُ هُنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا يَصِحُّ، وَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا، وَوَصَفَهَا بِالتَّمَامِ لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعَوَائِقِ، وَالْعَوَارِضِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي كَلَامِهِمْ، وَاللَّهْجَةِ، وَأَسَالِيبِ الْقَوْلِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَابَلَهُ آخَرُ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ

ص: 617

إِنَّ أَحَدَهُمْ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ مُعَارَضَةٍ، أَوْ خَطَأٍ، أَوْ سَهْوٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَأَعْظَمُ النَّقَائِصِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا أَنَّهَا كَلِمَاتٌ مَخْلُوقَةٌ تَكَلَّمَ بِهَا مَخْلُوقٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى أَدَوَاتٍ وَمَخَارِجَ، وَهَذِهِ نَقِيصَةٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا كَلَامُ مَخْلُوقٍ، وَكَلِمَاتُ اللَّهِ مُتَعَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْقَوَادِحِ، فَهِيَ الَّتِي لَا يَتْبَعُهَا نَقْصٌ، وَلَا يَعْتَرِيهَا اخْتِلَالٌ، (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) ، عَبَّرَ بِمَا لِلتَّعْمِيمِ، (فَإِنَّهُ لَنْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ) مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ (حَتَّى يَرْتَحِلَ) عَنْهُ، وَشَرْطُ نَفْعِ ذَلِكَ الْحُضُورُ وَالنِّيَّةُ، وَهِيَ اسْتِحْضَارُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَهُ إِلَى التَّحَصُّنِ بِهِ، وَأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، فَلَوْ قَالَهُ أَحَدٌ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ ضَرَّهُ شَيْءٌ، فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ بِنِيَّةٍ وَقُوَّةِ يَقِينٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِمَنَازِلِ السَّفَرِ، بَلْ عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَلَسَ فِيهِ، أَوْ نَامَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَهَا عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلسَّفَرِ، أَوْ عِنْدَ نُزُولِهِ لِلْقِتَالِ الْجَائِزَةِ، قَالَهُ الْأَبِيُّ.

وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ ثَانٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ يَعْقُوبَ حَدَّثَاهُ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ بُسْرٍ عَنْ سَعْدٍ عَنْ خَوْلَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:" «إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلًا فَلْيَقُلْ» "، فَذَكَرَهُ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ يَقْرَأُ مَعَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29](سورة الْمُؤْمِنُونَ: الْآيَةُ 29)، وَ {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] (سورة الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ 80) الْآيَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ عِنْدَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَنْزِلِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَالَهُ لِنُوحٍ حِينَ نَزَلَ مِنَ السَّفِينَةِ.

ص: 618

[فِي الْوَحْدَةِ فِي السَّفَرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

14 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْوَحْدَةِ فِي السَّفَرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

الْوَحْدَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتُكْسَرُ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ.

1831 -

1784 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ) بْنِ عَمْرِو الْأَسْلَمِيِّ الْمَدَنِيِّ صَالِحِ الْحَدِيثِ لَا بَأْسَ بِهِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ،

(عَنْ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ شُعَيْبٍ) الْقُرَشِيِّ صَدُوقٍ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَدُوقٍ، ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْ جَدِّهِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:(عَنْ جَدِّهِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَلِشُعَيْبٍ وَإِنْ كَانَ لِعُمَرَ، وَحُمِلَ عَلَى الْجَدِّ الْأَعْلَى عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيِّ هَذَا

ص: 618

الْأَكْثَرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَيْ: لَا احْتِجَاجَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الرَّاكِبُ) الْوَاحِدُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِي مَعْنَاهُ الرَّاجِلُ الْوَاحِدُ، (شَيْطَانٌ)، أَيْ: بَعِيدٌ عَنِ الْخَيْرِ فِي الْأُنْسِ وَالرِّفْقِ، وَهَذَا أَصْلُ الْكَلِمَةِ لُغَةً، يُقَالُ: بِئْرٌ شَطُونٌ، أَيْ: بَعِيدَةٌ، انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: بِمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَطْمَعُ فِي الْوَاحِدِ، كَمَا يَطْمَعُ فِيهِ اللِّصُّ، وَالسَّبُعُ، فَإِذَا خَرَجَ وَحْدَهُ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ بِهِ، فَكَانَ شَيْطَانًا.

( «وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ» ) ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَعَرِّضٌ لِذَلِكَ، سُمِّيَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَبِيلَيْنِ يَسْلُكُ سَبِيلَ الشَّيْطَانِ فِي اخْتِيَارِهِ الْوَحْدَةُ فِي السَّفَرِ.

وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: شَيْطَانٌ، أَيْ: عَاصٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112](سورة الْأَنْعَامِ: الْآيَةُ 112) ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ عُصَاتُهُمْ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: سُمِّيَ الْوَاحِدُ وَالْاثْنَيْنِ شَيْطَانًا لِمُخَالَفَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّوَحُّدِ فِي السَّفَرِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْآفَاتِ الَّتِي لَا تَنْدَفِعُ إِلَّا بِالْكَثْرَةِ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ تَنْبُو عَنْهُ الْجَمَاعَةُ، وَتَعْسُرُ عَلَيْهِ الْمَعِيشَةُ، وَلَعَلَّ الْمَوْتَ يُدْرِكُهُ فَلَا يَجِدُ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ بِإِيفَاءِ دُيُونِ النَّاسِ، وَأَمَانَاتِهِمْ، وَسَائِرِ مَا يَجِبُ، أَوْ يُسَنُّ عَلَى الْمُحْتَضِرِ أَنْ يُوصِيَ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مِنْ يَقُومُ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذَا زَجْرُ أَدَبٍ وَإِرْشَادٍ لِمَا يَخَافُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْوَحْشَةِ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، فَالسَّائِرُ وَحْدَهُ بِفَلَاةٍ وَالْبَايِتُ فِي بَيْتٍ وَحْدَهُ، لَا يَأْمَنُ الِاسْتِيحَاشَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ ذَا فِكْرَةٍ رِدِيَّةٍ، وَقَلْبٍ ضَعِيفٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ، فَوَقَعَ الزَّجْرُ لِحَسْمِ الْمَادَّةِ، فَيُكْرَهُ الِانْفِرَادُ سَدًّا لِلْبَابِ، وَالْكَرَاهَةُ فِي الِاثْنَيْنِ أَخَفُّ مِنْهَا فِي الْوَاحِدِ.

وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ ذَلِكَ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ، فَأَمَّا مَنْ قَصُرَ عَنْهُ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْفَرِدَ الْوَاحِدُ فِيهِ.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ تَخْتَلِفِ الْآثَارُ فِي كَرَاهَةِ السَّفَرِ لِلْوَاحِدِ، وَاخْتُلِفَ فِي الِاثْنَيْنِ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ إِنْ مَرِضَ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُمَرِّضُهُ، وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَنَحْوُ هَذَا.

(وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ) لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ، وَحُصُولِ الْأُنْسِ، وَانْقِطَاعِ الْأَطْمَاعِ عَنْهُمْ، وَخُرُوجِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي بَكْرٍ مُهَاجِرِينَ لِضَرُورَةِ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ لِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم عَدَمُ كَرَاهَةِ الِانْفِرَادِ فِي السَّفَرِ وَحْدَهُ، لِأَمْنِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ.

وَأَنْكَرَ مُجَاهِدٌ رَفْعَ الْحَدِيثِ وَقَالَ: لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَعَثَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَخَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ سِرِّيَّةً، وَبَعْثَ دِحْيَةَ سِرِّيَّةً وَحْدَهُ، وَلَكِنْ قَالَ عُمَرُ يَحْتَاطُ لِلْمُسْلِمِينَ: كُونُوا فِي أَسْفَارِكُمْ ثَلَاثَةً، إِنْ مَاتَ وَاحِدٌ وَلِيَهُ اثْنَانِ، الْوَاحِدُ شَيْطَانٌ وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: لَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ؛ لِأَنَّ الثِّقَاتَ نَقَلُوهُ مَرْفُوعًا، انْتَهَى.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ الْبَرِيدَ وَحْدَهُ لِضَرُورَةِ طَلَبِ السُّرْعَةِ فِي إِبْلَاغِ مَا أُرْسِلَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْضَمَّ فِي الطَّرِيقِ بِالرُّفَقَاءِ، وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمَا.

ص: 619

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشَّيْطَانُ يَهُمُّ بِالْوَاحِدِ وَالْاثْنَيْنِ فَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَمْ يَهُمَّ بِهِمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1832 -

1785 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ) : قَالَ أَبُو عُمَرَ مُرْسَلٌ، بِاتِّفَاقِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَوَصْلَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الشَّيْطَانُ) : إِبْلِيسُ، أَوْ أَعَمُّ، (يَهُمُّ) - بِضَمِّ الْهَاءِ - (بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ)، أَيْ: بِاغْتِيَالِهِ، وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ، أَوْ بِغَيِّهِ وَصَرْفِهِ عَنِ الْحَقِّ وَإِغْوَائِهِ بِالْبَاطِلِ.

احْتِمَالَانِ لِلْبَاجِيِّ.

( «فَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَمْ يَهُمَّ بِهِمْ» ) ؛ لِأَنَّهُمْ رَكْبٌ وَصَحْبٌ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مِنَ الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ» "، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَتَّصِلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ حِسَانٍ، وَأَوْرَدَ مِنْهَا جُمْلَةً.

ثُمَّ أَخْرَجَ لَهُ سَبَبًا «عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَافَرَ مَرَّةً فَمَرَّ بِقَبْرٍ جَاهِلِيٍّ، فَخَرَجَ مِنْهُ رَجُلٌ يَتَأَجَّجُ نَارًا فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ، وَمَعِيَ إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اسْقِنِي، فَقُلْتُ: عَرِّفْنِي أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَقُولُهَا الْعَرَبُ، فَخَرَجَ عَلَى أَثَرِهِ رَجُلٌ مِنَ الْقَبْرِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْقِهِ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ أَخَذَ السِّلْسِلَةَ فَاجْتَذَبَهُ فَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ، ثُمَّ أَضَافَنِي اللَّيْلُ إِلَى بَيْتِ عَجُوزٍ إِلَى جَانِبِهَا قَبْرٌ، فَسَمِعْتُ مِنْهُ صَوْتًا يَقُولُ: بَوْلٌ وَمَا بَوْلُ شَنٍّ، وَمَا شَنَّ، فَقُلْتُ لِلْعَجُوزِ: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: كَانَ زَوْجًا لِي، وَكَانَ لَا يَتَّقِي الْبَوْلَ، وَأَقُولُ لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّ الْجَمَلَ إِذَا بَالَ تَفَاجَّ، فَيَأْبَى فَهُوَ يُنَادِي مِنْ يَوْمِ مَاتَ بَوْلٌ، وَمَا بَوْلُ، قُلْتُ: فَمَا الشَّنُّ؟ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ عَطْشَانُ فَقَالَ: اسْقِنِي، فَقَالَ: دُونَكَ الشَّنُّ، فَإِذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَخَرَّ الرَّجُلُ مَيِّتًا، فَهُوَ يُنَادِي شَنٌّ، وَمَا شَنٌّ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ فَنَهَى أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ» ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوَاتُهُ مَجْهُولُونَ لَمْ أُورِدْهُ لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَكِنْ لِلِاعْتِبَارِ، وَمَا لَا حُكْمَ فِيهِ يُسَامَحُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الضُّعَفَاءِ.

ص: 620

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1833 -

1786 - (مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كِيسَانَ (الْمَقْبُرِيِّ) - بِضَمِّ الْبَاءِ، وَفَتْحِهَا - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا لِمُعْظَمِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَرَوِيُّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ

ص: 620

عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَا اخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْهُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَبَّابَةَ عَنْهُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَصَوَّبَ الدَّارَقُطْنِيُّ رِوَايَةَ إِسْقَاطِ عَنْ أَبِيهِ لِاتِّفَاقِ مَالِكٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَسُهَيْلٍ عَلَى إِسْقَاطِهِ، وَانْتَقَدَ عَلَى الشَّيْخَيْنِ إِخْرَاجَهُمَا رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَلَى مُسْلِمٍ إِخْرَاجَهُ رِوَايَةَ اللَّيْثِ بِإِثْبَاتٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ لَا يَقْدَحُ، فَإِنَّ سَمَاعَ سَعِيدٍ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَفْسِهِ فَحَدَّثَ بِهِ عَنِ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ، فَقَالَ: سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ سَعِيدُ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَالطَّرِيقَانِ جَمِيعًا مَحْفُوظَانِ اهـ.

وَيُؤَيِّدُهُ أَنْ سَعِيدًا لَيْسَ بِمُدَلِّسٍ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ) : يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَيَّدَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يَسْتَمِرُّ لِلْمُتَّصِفِ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَنْقَادُ لَهُ، أَوْ أَنَّ الْوَصْفَ ذُكِرَ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهَا إِذَا سَافَرَتْ بِلَا مَحْرَمٍ خَالَفَتْ شَرْطَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الْمُقْتَضِي الْمَوْقُوفَ عِنْدَمَا نُهِيَتْ عَنْهُ، أَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ إِخْرَاجُ الْكَافِرَةِ كِتَابِيَّةً، أَوْ حَرْبِيَّةً كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَمَسُّكًا بِالْمَفْهُومِ.

(تُسَافِرُ) هَكَذَا الرِّوَايَةُ بِدُونِ أَنْ، نَظِيرُ قَوْلِهِمْ تَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، فَتَسْمَعُ مَوْضِعُهُ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَتُسَافِرُ مَوْضِعُهُ رَفْعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَيَجُوزُ رَفْعُهُ وَنَصْبُهُ بِإِضْمَارِ أَنْ، قَالَهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ، (مَسِيرَةَ) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى السَّيْرِ، بِمَعِيشَةَ؛ بِمَعْنَى الْعَيْشِ، وَلَيْسَتِ التَّاءُ فِيهِ لِلْمَرَّةِ.

( «يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» )، بِفَتْحِ الْمِيمِ - أَيْ: حَرَامٍ (مِنْهَا) بِنَسَبٍ، أَوْ صِهْرٍ أَوْ رَضَاعٍ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ تَنْزِيهًا سَفَرَهَا مَعَ ابْنِ زَوْجِهَا لِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَحَدَاثَةِ الْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى النَّفْرَةِ عَنِ امْرَأَةِ الْأَبِ، لَيْسَ كَالدَّاعِي إِلَى النَّفْرَةِ عَنْ سَائِرِ الْمَحَارِمِ، وَالْمَرْأَةُ فِتْنَةٌ إِلَّا فِيمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ النَّفْرَةِ عَنْ مَحَارِمِ النَّسَبِ، وَعَلَّلَهُ الْبَاجِيُّ بِعَدَاوَةِ الْمَرْأَةِ لِرَبِيبِهَا، وَعَدَمِ شَفَقَتِهِ عَلَيْهَا، وَصَوَّبَ غَيْرُهُ التَّعْلِيلَ الْأَوَّلَ، زَادَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَوْ زَوْجٍ، وَفِي مَعْنَاهُ السَّيِّدُ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ الزَّوْجِ، لِقَيْسَ عَلَى الْمَحْرَمِ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَلَفْظُ امْرَأَةٍ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ.

وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ، لَا عَنِ الْبَاجِيِّ، كَمَا زَعَمَ أَنَّهُ فِي الشَّابَّةِ، أَمَّا الْكَبِيرَةُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، فَتُسَافِرُ فِي

ص: 621

كُلِّ الْأَسْفَارِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا حَرَامٌ، وَمَا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهَا غَالِبًا عَوْرَةٌ، فَالْمَظِنَّةُ مَوْجُودَةٌ فِيهَا، وَالْعُمُومُ صَالِحٌ لَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْهُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَرْأَةُ مَظِنَّةُ الطَّمَعِ فِيهَا، وَمَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ، وَلَوْ كَبِيرَةً، وَقَدْ قَالُوا: لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ، وَيَجْتَمِعُ فِي الْأَسْفَارِ مِنْ سُفَهَاءِ النَّاسِ وَسَقْطِهِمْ مَنْ لَا يَتَرَفَّعُ عَنِ الْفَاحِشَةِ بِالْعَجُوزِ، وَغَيْرِهَا، لِغَلَبَةِ شَهْوَتِهِ وَقِلَّةِ دَيْنِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَحَيَائِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ اه.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: " «أَنْ تُسَافِرَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا» "، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَبِي دَاوُدَ:" «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» "، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الْمَذْكُورَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «تُسَافِرُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ» "، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: يَوْمٍ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ بَرِيدٍ بَدَلُ يَوْمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَوْمَيْنِ، وَفِي أُخْرَى إِطْلَاقُ السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَجَمَعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَعِيَاضٌ، وَغَيْرُهُمْ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ لِلْعُلَمَاءِ بِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ السَّائِلِينَ، فَسُئِلَ مَرَّةً عَنْ سَفَرِهَا لَيْلَةً، فَقَالَ: لَا، وَأُخْرَى عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا، فَقَالَ: لَا، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْدِيدٌ، قَالَ الْأَبِيُّ: وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ جَوَابًا لِسَائِلَيْنِ، فَلَا مَفْهُومَ لِأَحَدِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفِقْهُ جَمَعَ أَحَادِيثَ الْبَابِ، فَحَقُّ النَّاظِرِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ جَمِيعَهَا، وَيَنْظُرَ أَخَصَّهَا فَيُنِيطُ الْحُكْمَ بِهِ، وَأَخَصُّهَا بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ يَوْمٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ فِيهِ امْتَنَعَ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ، ثُمَّ أَخَصُّ مِنْ يَوْمٍ وُصْفُ السَّفَرِ الْمَذْكُورِ فِي جَمِيعِهَا، فَيُمْنَعُ فِي أَقَلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ، ثُمَّ أَخَصُّ مِنَ اسْمِ السَّفَرِ الْخَلْوَةُ بِهَا، فَلَا تُعَرِّضُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِالْخَلْوَةِ مَعَ أَحَدٍ، وَإِنْ قَلَّ الْزَمْنُ لِعَدَمِ الْأَمْنِ لَا سِيَّمَا مَعَ فَسَادِ الزَّمَنِ، وَالْمَرْأَةُ فِتْنَةٌ إِلَّا فِيمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ النُّفْرَةِ مِنْ مَحَارِمِ النَّسَبِ، وَقَدِ اتَّقَى بَعْضُ السَّلَفِ الْخَلْوَةَ بِالْبَهِيمَةِ، وَقَالَ: شَيْطَانٌ مُغْوِيٌّ، وَأُنْثَى حَاضِرَةٌ اه.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا بِأَنَّ الْيَوْمَ الْمَذْكُورَ بِمَعْنَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْمَجْمُوعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مِنَ اللَّيْلِ، وَاللَّيْلَ مِنَ الْيَوْمِ، وَيَكُونُ ذِكْرُهُ يَوْمَيْنِ مُدَّةَ مَغِيبِهَا فِي هَذَا السَّفَرِ فِي السَّيْرِ، وَالرُّجُوعِ، فَأَشَارَ مَرَّةً لِمَسَافَةِ السَّفَرِ وَمَرَّةً لِمُدَّةِ الْمَغِيبِ، وَهَكَذَا فِي ذِكْرِ الثَّلَاثِ، فَقَدْ يَكُونُ الْيَوْمُ الْوَسَطُ بَيْنَ السَّيْرِ وَالرُّجُوعِ الَّذِي تَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهَا، حَيْثُ سَافَرَتْ لَهُ فَتَتَّفِقُ الْأَحَادِيثُ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلًا بِأَقَلِّ الْأَعْدَادِ، إِذِ الْوَاحِدُ أَوَّلُ الْعَدَدِ، وَالِاثْنَانِ أَوَّلُ الْكَثِيرِ وَأَقَلُّهُ، وَالثَّلَاثَةُ أَقَلُّ الْجَمْعِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي قِلَّةِ الزَّمَانِ لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ فِيهِ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ فَكَيْفَ بِمَا زَادَ؟ وَبِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا اه.

وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ، أَوِ الزَّوْجَ شَرْطٌ فِي اسْتِطَاعَةِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ، فَإِنَّهُ حَرُمَ عَلَيْهَا السَّفَرُ إِلَّا مَعَ أَحَدِهِمَا، وَالْحَجُّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْفَارِ، فَيَكُونُ حَرَامًا عَلَيْهَا فَلَا يَجِبُ.

وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ

ص: 622

فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا، وَطَائِفَةٌ لَا يُشْتَرَطُ الْمَحْرَمُ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا تَحُجُّ مَعَ مَنْ تَثِقُ بِهِ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَاخْتُلِفَ هَلْ مُرَادُهُ مَجْمُوعُ الصِّنْفَيْنِ، أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا؟ وَأَكْثَرُ مَا نُقِلَ عَنْهُ اشْتِرَاطُ النِّسَاءِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحُجُّ مَعَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ مَسْلَمَةٍ ثِقَةٍ، وَاعْتَرَضَهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ ذَا مَحْرَمٍ مِنْهَا، فَإِبَاحَةُ الْخُرُوجِ مَعَهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي حَجِّ الْفَرْضِ، فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا تَخْرُجُ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِحَمْلِهِ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ، لَا الْفَرْضِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي الْكَافِرَةِ، إِذَا أَسْلَمَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ مِنْهَا، وَإِنْ بِلَا مَحْرَمٍ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْهِجْرَةِ.

وَتَعَقَّبَهُ الْمَازِرِيُّ، وَغَيْرُهُ بِأَنَّ إِقَامَتَهَا فِي دَارِ الْكُفْرِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهَا تَخْشَى عَلَى دِينِهَا وَنَفْسِهَا، وَلَا كَذَلِكَ تَأْخِيرُ الْحَجِّ لِلْخِلَافِ فِي فَوْرِيَّتِهِ، وَتَرَاخِيهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ مُخَالَفَةُ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97](سورة آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ 97) ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الِاسْتِطَاعَةُ بِالْبَدَنِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ عَلَيْهِ بِبَدَنِهِ، وَمَنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا قَادِرَةٌ بِبَدَنِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا تَعَارَضَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَجَمَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنْ جَعَلَ الْحَدِيثَ مُبَيِّنًا لِلِاسْتِطَاعَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَرَأَى مَالِكٌ، وَمُوَافِقُوهُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْأَمْنِيَّةُ بِنَفْسِهَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْأَسْفَارِ الْوَاجِبَةِ، وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا بِحَمْلِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الطَّرِيقُ أَمْنًا.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُمْكِنُ أَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا خَرَجَ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الْخَلْوَةِ، وَانْكِشَافِ عَوْرَاتِهِنَّ غَالِبًا، فَإِذَا أُمِنَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَكُونُ فِي الرُّفْقَةِ نِسَاءٌ تَنْحَاشُ إِلَيْهِنَّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهَذَا عِنْدِي فِي الِانْفِرَادِ وَالْعَدَدِ الْيَسِيرِ، فَأَمَّا فِي الْقَوَافِلِ الْعَظِيمَةِ، فَهِيَ كَالْبِلَادِ يَصِحُّ فِيهَا سَفَرُهَا دُونَ نِسَاءٍ، وَدُونَ مَحْرَمٍ، انْتَهَى.

وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ هَذَا الْقَيْدَ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَمَحَلُّ هَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ كَوُجُودِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مُنْقَطِعَةٍ مَثَلًا، فَلَهُ أَنْ يَصْحَبَهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا خَافَ عَلَيْهَا لَوْ تَرَكَهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ أُخَرُ لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا.

وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنُّفَيْلِيِّ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ يُدَوِّنُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَذَا رَوَاهُ مُعْظَمُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، انْتَهَى. وَفِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَبِيهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ، وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ.

ص: 623

[مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ فِي السَّفَرِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ يَرْفَعُهُ «إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

15 -

بَابُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ فِي السَّفَرِ

1834 -

1787 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) - بِضَمِّ الْعَيْنِ - الْمُذْحَجِيِّ (مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ) بْنِ مَرْوَانَ الْأُمَوِيِّ وَحَاجِبِهِ، قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقِيلَ: حَيٌّ أَوْ حَيِيٌّ أَوْ حَوِيٌّ، ثِقَةٍ، مَاتَ بَعْدَ الْمِائَةِ (عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) الْكَلَاعِيِّ الْحِمْصِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، ثِقَةٍ عَابِدٍ يُرْسِلُ كَثِيرًا، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا (يَرْفَعُهُ) لَفْظُهُ: يَسْتَعْمِلُهَا الْمُحْدِّثُونَ بَدَّلَ قَالَ صلى الله عليه وسلم ( «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ» )، أَيْ: لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ، فَيُكَلِّفُهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، بَلْ يُسَامِحُهُمْ وَيَلْطُفُ بِهِمْ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الرَّفِيقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْمًا؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ هُنَا عَلَى قَصْدِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ تَمْهِيدًا لِلْحُكْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ جَوَازُ تَسْمِيَتِهِ تَعَالَى رَفِيقًا وَغَيْرَهُ مِمَّا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، (يُحِبُّ الرِّفْقَ) - بِالْكَسْرِ - لِينُ الْجَانِبِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْأَخْذُ بِأَيْسَرِ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنِهَا، أَيْ: يُحِبُّ أَنْ يَرْفُقَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ مَا يُحَاوِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ: يُحِبُّ أَنْ يَرْفُقَ بِعِبَادِهِ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ، (وَيَرْضَى بِهِ) يُثَبِّتُ فَاعِلَهُ، (وَيُعِينُ عَلَيْهِ) بِتَسْهِيلِهِ عَلَى قَاصِدِهِ، (مَا لَا يُعِينُ)، وَفِي رِوَايَةٍ:«وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي (عَلَى الْعُنْفِ) » - بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَسُكُونِ النُّونِ -: الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ، نَبَّهَ بِهِ عَلَى وَطَاءَةِ الْأَخْلَاقِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَكَمَالِ الْمُجَامَلَةِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الرِّفْقَ أَنْجَحُ الْأَسْبَابِ وَأَنْفَعُهَا بِأَسْرَارِهَا، وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَلَا مَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» "، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ: وَالرِّفْقُ مَطْلُوبٌ مَعَ الْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ.

( «فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ» ) - بِضَمٍّ فَسُكُونٍ - جَمْعُ عَجْمَاءَ، وَهِيَ الْبَهِيمَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ، ( «فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا» ) جَمْعُ مَنْزِلٍ، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي اعْتِيدَ النُّزُولُ فِيهَا، أَيْ: أَرِيحُوهَا فِيهَا لِتَقْوَى عَلَى السَّيْرِ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «فَاعْطُوهَا

ص: 624

حَظَّهَا مِنَ الْمَنَازِلِ، وَلَا تَكُونُوا عَلَيْهَا شَيَاطِينَ» "، أَيْ: لَا تَرْكَبُوهَا رُكُوبَهُمْ، وَلَا تَسْتَعْمِلُوهَا اسْتِعْمَالَهُمْ فِي عَدَمِ مُرَاعَاةِ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ.

(فَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ) الَّتِي تَسِيرُونَ فِيهَا (جَدْبَةً) - بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ - (فَانْجُوا عَلَيْهَا) بِنُونٍ وَجِيمٍ، أَيْ: أَسْرِعُوا، وَالنَّجَا بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ السُّرْعَةُ، أَيِ: اطْلُبُوا النَّجَا مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ بِسُرْعَةِ السَّيْرِ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ (بِنِقْيِهَا) - بِكَسْرِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْقَافِ - شَحْمِهَا فَإِنَّكُمْ إِنْ أَبْطَأْتُمْ عَلَيْهَا فِي أَرْضٍ جَدْبَةٍ ضَعُفَتْ، وَهَزَلَتْ.

( «وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ» ) بِبِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا، لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ سُبْحَانَهُ، شَبَّهَ سُهُولَةَ السَّيْرِ لَيْلًا بِثَوْبٍ مَطْوِيٍّ يَسْهُلُ حَمْلُهُ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوعًا: " «إِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ، فَانْجُوا عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَتْ سَنَةً فَانْجُوا، وَعَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّمَا يَطْوِيهَا اللَّهُ» "، أَيْ: لَا يَطْوِي الْأَرْضَ لِلْمُسَافِرِ فِيهَا لَيْلًا إِلَّا اللَّهُ إِكْرَامًا لِلْمُسَافِرِ، حَيْثُ أَتَى بِهَذَا الْأَدَبِ الشَّرْعِيِّ.

( «وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ» )، أَيِ: النُّزُولَ أَخِرَ اللَّيْلِ لِنَحْوِ نَوْمٍ (عَلَى الطَّرِيقِ)، وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ عَلَى: جَوَادِّ الطَّرِيقِ، وَالصَّلَاةَ عَلَيْهَا، بِشَدِّ الدَّالِّ جَمْعُ جَادَّةٍ، أَيْ: مُعْظَمِ الطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ: نَفْسُهَا، ( «فَإِنَّهَا طَرِيقُ الدَّوَابِّ، وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ» ) وَغَيْرِهَا، كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:" «وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ» "، أَيْ: مَحَلُّ تَرَدُّدِهَا بِاللَّيْلِ لِتَأْكُلَ مَا فِيهَا مِنْ رِمَّةٍ، وَتَلْتَقِطُ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْمَارَّةِ مِنْ نَحْوِ مَأْكُولٍ.

زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: " «وَقَضَاءَ الْحَاجَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا اللَّاعِنُ» "، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهُ حَدِيثٌ، وَأَخْذٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُسْنَدٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ أَحَادِيثُ شَتَّى مَحْفُوظَةٌ، انْتَهَى.

وَفِي مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ، فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْجَدَبِ، فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ، وَبَادِرُوا بِهَا نَفْيَهَا، وَإِذَا عَرَّسْتُمْ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ» .

ص: 625

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1835 -

1788 - (مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ) - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ - (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ) ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيِّ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: انْفَرَدَ بِهِ مَالِكٌ، وَسُمَيٌّ، فَلَا يَصِحُّ لِغَيْرِهِ عَنْهُ، وَانْفَرَدَ بِهِ سُمَيٌّ أَيْضًا فَلَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ هَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ.

ص: 625

وَقَالَ الْحَافِظُ: كَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ.

وَصَرَّحَ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ مَالِكٍ بِتَحْدِيثِ سُمَيٍّ لَهُ، وَشَذَّ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، فَقَالَ: مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلٍ بَدَلُ سُمَيٍّ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلٍ، وَأَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ رِوَايَةً عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ، فَقَالَ عَنْ سُمَيٍّ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ سُمَيٍّ غَيْرُ مَالِكٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: مَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونِي عَنْ حَدِيثِ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ» ؟ فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ سُمَيٍّ أَحَدٌ غَيْرَكَ، فَقَالَ: لَوْ عَرَفْتُ مَا حَدَّثْتُ بِهِ، وَكَانَ مَالِكٌ: رُبَّمَا أَرْسَلَهُ، انْتَهَى.

وَفِي التَّمْهِيدِ رَوَاهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَبُسْرُ بْنُ مَعْمَرٍ عَنْ مَالِكٍ مُرْسَلًا، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ نَشَاطِ الْمُحَدِّثِ وَكَسَلِهِ، أَحْيَانًا يَنْشَطُ فَيُسْنِدُ، وَأَحْيَانًا يَكْسُلُ فَيُرْسِلُ عَلَى حَسَبِ الْمُذَاكَرَةِ، وَالْحَدِيثُ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ احْتَاجَ النَّاسُ فِيهِ إِلَى مَالِكٍ، انْتَهَى.

وَرَوَاهُ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَوُهِمَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَالِكٍ، وَرَوَاهُ رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ سُمَيٍّ. . . إِلَخْ، فَزَادَ فِيهِ إِسْنَادًا آخَرَ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَخْطَأَ فِيهِ رَوَّادُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَيْسَ رَوَّادٌ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُصْعَبٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ فِي حَدِيثِ سُهَيْلٍ أَصْلًا، وَأَنْ سُمَّيًّا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانِ الزَّيَّاتِ، وَرَوَاهُ حَمَدٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ جَهْمَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَبُو صَالِحٍ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَيْضًا، فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، بَلْ فِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَجَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ.

( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ» )، أَيْ: جُزْءٌ (مِنَ الْعَذَابِ)، أَيِ: الْأَلَمِ النَّاشِئِ عَنِ الْمَشَقَّةِ لِمَا يَحْصُلُ فِي الرُّكُوبِ، وَالْمَشْيِ مِنْ تَرْكِ الْمَأْلُوفِ، كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْخَوْفِ وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ وَالْفِرَاقِ لِلْأَحْبَابِ، سُئِلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ حِينَ جَلَسَ مَوْضِعَ أَبِيهِ: لِمَ كَانَ السَّفَرُ قِطْعَةً مِنَ الْعَذَابِ؟ فَأَجَابَ عَلَى الْفَوْرِ: لِأَنَّ فِيهِ فِرَاقَ الْأَحْبَابِ، ( «يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ) ، بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ كَأَعْطَى، وَفَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ اسْتِئْنَافًا كَالْجَوَابِ لِمَنْ قَالَ: لِمَ كَانَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُ أَيْ: وَجْهُ التَّشْبِيهِ الِاشْتِمَالُ عَلَى الْمَشَقَّةِ.

وَقَدْ جَاءَ التَّعْلِيلُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ وَلَفْظُهُ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ» ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُشْغَلُ فِيهِ عَنْ صَلَاتِهِ، وَصِيَامِهِ، فَذَكَرَ

ص: 626

الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ مَنْعُ الْكَمَالِ لَا الْأَصْلِ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ: لَا يَهِنُ أَحَدُكُمْ نَوْمَهُ، وَلَا طَعَامَهُ وَلَا شَرَابَهُ.

وَلِابْنِ عَدِيٍّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ إِلَّا سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَالْمُرَادُ مَنْعُهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِمَسِيرِهِ.

( «فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ» ) - بِفَتْحِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْهَاءِ - قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَضَبَطْنَاهُ أَيْضًا بِكَسْرِ النُّونِ، أَيْ: حَاجَتَهُ بِأَنْ بَلَغَ هِمَّتَهُ، (مِنْ وَجْهِهِ)، أَيْ: مِنْ مَقْصَدِهِ.

وَلِابْنِ عَدِيٍّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ وَطَرَهُ مِنْ سَفَرِهِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ رَوَاهُ:" «فَإِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ حَاجَتِهِ» "، (فَلْيُعَجِّلْ) - بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ، وَكَسْرِ الْجِيمِ مُشَدَّدَةٍ - الرُّجُوعَ (إِلَى أَهْلِهِ) ، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ، وَفِي رِوَايَةِ عَتِيقٍ:" «فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ» "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ:" «فَلْيُعَجِّلِ الْكَرَّةَ إِلَى أَهْلِهِ» "، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ:" «فَلْيُعَجِّلِ الرِّحْلَةَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ» "، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: زَادَ فِيهِ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ عَنْ مَالِكٍ: " «وَلِيَتَّخِذْ لِأَهْلِهِ هَدِيَّةً» ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا حَجَرًا فَلْيَنْقُلْهُ فِي مِخْلَاتِهِ "، وَالْحِجَارَةُ يَوْمَئِذٍ يُضْرَبُ بِهَا الْقِدَاحُ، يَعْنِي حَجْرَ الزِّنَادِ، قَالَ: وَهِيَ زِيَادَةٌ مُنْكَرَةٌ لَا تَصِحُّ.

وَفِي الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ التَّغَرُّبِ عَنِ الْأَهْلِ بِلَا حَاجَةٍ، وَنَدْبُ اسْتِعْجَالِ الرُّجُوعِ لَا سِيَّمَا مَنْ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ، وَلِمَا فِي الْإِقَامَةِ فِي الْأَهْلِ مِنَ الرَّاحَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَحْصِيلِ الْجَمَاعَاتِ وَالْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «سَافِرُوا تَصِحُّوَا» "؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصِّحَّةِ بِالسَّفَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّيَاضَةِ أَنْ لَا يَكُونَ قِطْعَةً مِنَ الْعَذَابِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَصَارَ كَالدَّوَاءِ الْمُرِّ الْمُعَقِّبِ لِلصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي تَنَاوُلِهِ كَرَاهَةٌ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْخَطَّابِيُّ تَغْرِيبَ الزَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِتَعْذِيبِهِ، وَالسَّفَرُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْحَجِّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي الْجِهَادِ عَنِ التِّنِّيسِيِّ، وَفِي الْأَطْعِمَةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ، وَمُسْلِمٌ فِي الْمَغَازِي عَنْ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ، وَالْقَعْنَبِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَبِي مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ، وَمَنْصُورِ بْنِ أَبِي مُزَاحِمٍ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، الثَّمَانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَوَرَدَ عَلَى سُؤَالٍ مِنَ الشَّامِ: هَلْ وَرَدَ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ سَقَرٍ؟ كَمَا هُوَ دَارِجٌ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَإِذَا قُلْتُمْ: لَمْ يُرِدْ، هَلْ تَجُوزُ رِوَايَتُهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:" «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ» "، فَأُجِيبَ: لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الدَّارِجِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْحَافِظَانِ: السَّخَاوِيُّ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مَعَ ذِكْرِهِمَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمَذْكُورَ، فَلَعَلَّ هَذَا اللَّفْظَ مِمَّا حَدَّثَ بَعْدَهُمَا، وَلَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ، إِذْ مِنْ شَرْطِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ بِجَوَازِهَا؛ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ أَدَّى بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ، وَ " قِطْعَةٌ مِنْ سَقَرٍ " لَا يُؤَدِّي مَعْنَى " قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ " بِمَعْنَى التَّأَلُّمِ مِنَ الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ سَقَرٍ كَوْنُهُ تَشْبِيهًا بَلِيغًا، أَوِ اسْتِعَارَةً يَقْتَضِي قُوَّةَ الْمَشَقَّةِ جِدًّا، فَفِي التَّنْزِيلِ:{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} [الرعد: 34](سورة الرَّعْدِ: الْآيَةُ 34) ، فَلَا يُؤَدِّي عَلَى طَرِيقِ الْقَطْعِ مَعْنَى

ص: 627

الْعَذَابِ الْمَجْهُولِ عَلَى مَشَقَّاتِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 628

[الْأَمْرِ بِالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

16 -

بَابُ الْأَمْرِ بِالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ

1838 -

1789 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمَمْلُوكِ) الرَّقِيقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، (طَعَامُهُ وَكُسْوَتُهُ) اللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ: طَعَامُ الْمَمْلُوكِ وَكُسْوَتُهُ حَقٌّ لَهُ عَلَى سَيِّدِهِ، فَقَدَّمَ الْخَبَرَ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، إِذِ الْمَقَامُ بِصَدَدِ تَمْلِيكِهِ مَا ذَكَرَ (بِالْمَعْرُوفِ)، أَيْ: بِلَا إِسْرَافٍ، وَلَا تَقْتِيرٍ عَلَى اللَّائِقِ بِأَمْثَالِهِ، قَالَ الْحَافِظُ: مُقْتَضَاهُ الرَّدُّ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعُرْفِ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا، فَالْوَاجِبُ مُطْلَقُ الْمُوَاسَاةِ لَا الْمُوَاسَاةُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَمَنْ أَخَذَ بِالْأَكْمَلِ فَعَلَ الْأَفْضَلَ مِنْ عَدَمِ اسْتِئْثَارِهِ عَلَى عَيَّالِهِ، وَإِنْ جَازَ.

(وَلَا يُكَلَّفُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ) الدَّوَامَ عَلَيْهِ، أَيْ: لَا يُكَلِّفُهُ إِلَّا جِنْسُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَالنَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْمَمَالِيكِ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَأُلْحِقَ بِهِمْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَجِيرٍ وَنَحْوِهِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

ص: 628

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْعَوَالِي كُلَّ يَوْمِ سَبْتٍ فَإِذَا وَجَدَ عَبْدًا فِي عَمَلٍ لَا يُطِيقُهُ وَضَعَ عَنْهُ مِنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1838 -

1790 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْعَوَالِي) : الْقُرَى الْمُجْتَمِعَةُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةٍ نَجْدِهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا قِبَاءُ، (كُلَّ يَوْمِ سَبْتٍ) اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى قِبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا، وَمَاشِيًا، (فَإِذَا وَجَدَ عَبَدَا فِي عَمَلٍ لَا يُطِيقُهُ) عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ إِلَّا بِمَزِيدِ مَشَقَّةٍ، (وَضَعَ عَنْهُ مِنْهُ)، أَيْ: نَقَصَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا لَا يُطَاقُ أَصْلًا لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ.

ص: 628

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ لَا تُكَلِّفُوا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الْكَسْبَ فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا ذَلِكَ كَسَبَتْ بِفَرْجِهَا وَلَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ وَعِفُّوا إِذْ أَعَفَّكُمْ اللَّهُ وَعَلَيْكُمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1838 -

1791 - (مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) - بِضَمِّ السِّينِ - نَافِعٍ (بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مَالِكِ بْنِ أَبِي

ص: 628

عَامِرٍ الْأَصْبَحِيِّ: (أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) - أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - (وَهُوَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا تُكَلِّفُوا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الْكَسْبَ، فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا ذَلِكَ كَسَبَتْ بِفَرْجِهَا)، أَيْ: زَنَتْ فَتَدْخُلُوا فِي آيَةِ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33](سورة النُّورِ: الْآيَةُ 33) ، (وَلَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ) ، لِعَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ، وَقَدْ كَلَّفْتُمُوهُ بِهِ، (وَعِفُّوا) - بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَشَدِّ الْفَاءِ الْمَضْمُومَةِ - أَمْرٌ مَنْ عَفَّ يَعِفُّ كَضَرَبَ يَضْرِبُ، أَيْ: تَنَزَّهُوا، وَاسْتَغْنُوا عَنْ تَكْلِيفِ الْأَمَةِ، وَالصَّغِيرِ الْمَذْكُورَيْنِ (إِذَا) (أَعَفَّكُمُ اللَّهُ) : أَغْنَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمَا فَتَحَهُ عَلَيْكُمْ، وَوَسَّعَهُ فِي الرِّزْقِ، (وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا)، أَيْ: حَلَّ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ.

ص: 629

[فِي الْمَمْلُوكِ وَهِبَتِهِ]

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَمْلُوكِ وَهِبَتِهِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1839 -

1792 17 - بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَمْلُوكِ وَهِبَتِهِ

- (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعَبْدُ)، أَيِ: الرَّقِيقُ (إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ) بِزِيَادَةِ اللَّامِ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: قَامَ بِمَصَالِحِهِ عَلَى وَجْهِ الْخُلُوصِ، وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ، وَتَجَنَّبَ نَهْيَهُ.

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: " «الْعَبْدُ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ، لَهُ أَجْرَانِ» "، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَةُ الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَهُوَ إِرَادَةُ صَلَاحِ حَالِهِ، وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْخَلَلِ، وَتَصْفِيَتِهِ مِنَ الْغِشِّ.

(وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ) الْمُتَوَجِّهَةُ عَلَيْهِ بِأَنْ أَقَامَهَا بِشُرُوطِهَا، وَوَاجِبَاتِهَا، وَمَا يُمْكِنُهُ مِنْ مَنْدُوبَاتِهَا بِأَنْ لَمْ يُفَوِّتْ حَقَّ سَيِّدِهِ، (فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) لِقِيَامِهِ بِالْحَقَّيْنِ، وَانْكِسَارِهِ بِالرِّقِّ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَلَيْسَ الْأَجْرَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ أَوْجَبُ مِنْ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ، وَرَدَّهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّ طَاعَةَ الْمَخْلُوقِ هُنَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، انْتَهَى.

وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ الْبَاجِيِّ: أَيْ: لَهُ أَجْرُ أَجْرِ عَامِلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَعَامِلٌ بِطَاعَةِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ وَاجِبَانِ

ص: 629

طَاعَةُ رَبِّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَطَاعَةُ سَيِّدِهِ فِي الْمَعْرُوفِ، فَقَامَ بِهِمَا جَمِيعًا كَانَ لَهُ ضِعْفَا أَجْرِ الْمُطِيعِ بِطَاعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَاوَاهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَفُضِّلَ عَلَيْهِ بِطَاعَةِ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ.

قَالَ: وَمِنْ هُنَا أَقُولُ: إِنَّ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَرْضَانِ فَأَدَّاهُمَا أَفْضَلَ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا فَرْضٌ وَاحِدٌ فَأَدَّاهُ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَزَكَاةٌ، فَقَامَ بِهِمَا، فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَقَطْ، وَبِمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ فُرُوضٌ فَلَمْ يُؤَدِّ مِنْهَا شَيْئًا، كَانَ عِصْيَانُهُ أَكْبَرَ مِنْ عِصْيَانِ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْضُهَا، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَزِيدَ الْفَضْلِ لِلْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَتَيْنِ، لِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ مَشَقَّةِ الرِّقِّ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّضْعِيفُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ جِهَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَخْتَصَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ يُضَاعَفُ لَهُ، وَقِيلَ: سَبَبُ التَّضْعِيفِ أَنَّهُ ازْدَادَ لِسَيِّدِهِ نُصْحًا، وَفِي عِبَادَةِ اللَّهِ إِحْسَانًا، فَكَانَ لَهُ أَجْرُ الْوَاجِبَيْنِ، وَأَجْرُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا، قَالَ: وَالظَّاهِرُ خِلَافُ هَذَا وَأَنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْجُورٍ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ، وَمَا ادَّعَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ لَا يُنَافِي مَا نَقَلَهُ قَبْلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ أَنَّ أَجْرَ الْمَمَالِيكِ ضِعْفُ أَجْرِ السَّادَاتِ، أَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ: بِأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، أَوْ يَكُونُ أَجْرُهُ مُضَاعَفًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ جِهَاتٌ أُخَرُ يَسْتَحِقُّ بِهَا أَضْعَافَ أَجْرِ الْعَبْدِ، أَوِ الْمُرَادُ تَرْجِيحُ الْعَبْدِ الْمُؤَدِّي لِلْحَقَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُؤَدِّي لِأَحَدِهِمَا، قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ مُخْتَصًّا بِالْعَمَلِ الَّذِي يَتَّحِدُ فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ، وَطَاعَةُ السَّيِّدِ فَيَعْمَلُ عَمَلًا وَاحِدًا، وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَجْرَيْنِ بِالْاعْتَبَارَيْنِ.

وَأَمَّا الْعَمَلُ الْمُخْتَلِفُ الْجِهَةِ، فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِتَضْعِيفِ الْأَجْرِ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْرَارِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا جِهَادَ عَلَيْهِ، وَلَا حَجَّ فِي حَالِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَفِيهِ إِطْلَاقُ السَّيِّدِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ نَحْوُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ:" «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» "، وَحَدِيثِ:" «سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجُمُوحِ» "، وَفِي أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ النَّهْيُ عَنْ إِطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ، وَالْإِذْنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَأْخُذُ بِهَذَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُ أَحَدٌ، أَوْ يَكْتُبَ لَفْظَ سَيِّدٍ، وَيَتَأَكَّدَ إِذَا كَانَ الْمُخَاطِبُ غَيْرَ تَقِيٍّ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ عَنْ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي مَنْ يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ جَمَعَ مِنْهَا الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ نَظَمَهَا فِي قَوْلِهِ:

وَجَمْعٌ أَتَى فِيمَا رَوَيْنَاهُ أَنَّهُمْ

يُثْنَّى لَهُمْ أَجْرٌ حَوَوْهُ مُحَقَّقَا

فَأَزْوَاجُ خَيْرِ الْخَلْقِ أَوَّلُهُمْ وَمَنْ

عَلَى زَوْجِهَا أَوْ لِلْقَرِيبِ تَصَدَّقَا

وَقَارٍ بِجُهْدٍ وَاجْتِهَادٍ أَصَابَ وَالْـ

وُضُوءُ اثْنَتَيْنِ وَالْكِتَابِيُّ صَدَّقَا

وَعَبْدٌ أَتَى حَقَّ الْإِلَهِ وَسَيِّدٍ وَعَابِرٌ

يُسَرُّ مَعَ غَنِيِّ لَهُ تُقَى

ص: 630

وَمَنْ أَمَةً يَشْرِي فَأَدَّبَ مُحْسِنًا

وَيَنْكِحُهَا مِنْ بَعْدِهِ حِينَ أَعْتَقَا

وَمَنْ سَنَّ خَيْرًا أَوْ أَعَادَ صَلَاتَهُ

كَذَاكَ جَبَانٌ إِذْ يُجَاهِدُ ذَا شَقَا

كَذَاكَ شَهِيدٌ فِي الْبِحَارِ وَمَنْ أَتَى

لَهُ الْقَتْلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأُلْحِقَا

وَطَالِبُ عِلْمٍ مُدْرَكٌ ثُمَّ مُسْبِغٌ

وَضَوْءًا لَدَى الْبَرْدِ الشَّدِيدِ مُحَقِّقَا

وَمُسْتَمِعٌ فِي خُطْبَةٍ قَدْ دَنَا وَمَنْ

بِتَأْخِيرِ صَفٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ وَقَا

وَحَافِظُ عَصْرٍ مَعْ إِمَامٍ مُؤَذِّنٍ

وَمَنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْفَسَادِ مُوَفَّقَا

وَعَامِلُ خَيْرٍ مُخْفِيًا ثُمَّ إِنْ بَدَا يُرَى

فَرِحًا مُسْتَبْشِرًا بِالَّذِي ارْتَقَى

وَمُغْتَسِلٌ فِي جُمُعَةٍ عَنْ جَنَابَةٍ

وَمِنْ فِيهِ حَقًّا قَدْ غَدًا مُتَصَدِّقَا

وَمَاشٍ يُصَلِّي جُمُعَةً ثُمَّ مَنْ أَتَى

بِذَا الْيَوْمِ خَيْرًا مَا فَضِعْفُهُ مُطْلَقَا

وَمَنْ حَتْفُهُ قَدْ جَاءَ مِنْ سِلَاحِهِ

وَنَازِعُ نَعْلٍ إِنْ لِخَيْرٍ تَسَبَّقَا

وَمَاشٍ لَدَى تَشْيِيعِ مَيْتٍ وَغَاسِلٍ

بَدَا بَعْدًا كَلٍّ وَالْمُجَاهِدُ حَقَّقَا

وَمُتَّبِعٌ مَيْتًا حَيَاءً مِنَ اهْلِهِ

وَمُسْتَمِعُ الْقُرْآنِ فِيمَا رَوَى الثِّقَا

وَفِي مُصْحَفٍ يَقْرَا وَقَارِيهِ مُعْرِبًا

بِتَفْهِيمِ مَعْنَاهُ الشَّرِيفِ مُحَقِّقَا

وَذَيَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِثَلَاثَةٍ:

إِمَامٌ مُطِيعٌ يَا لَهَا مِنْ سَعَادَةٍ

وَحَجَّةُ حَاجٍّ مِنْ عُمَانَ فَأَلْحَقَا

وَمِنْ أَمَةٍ تُشْتَرَى أَوْ يُشْرَطُ لَهَا

فَلَا هِبَةَ لَا بَيْعَ لَا مَهْرَ مُطْلَقَا

وَهِيَ حُرَّةٌ إِنْ مِتَّ صَلَّى إِلَهُنَا

عَلَى الْمُصْطَفَى الْمَبْعُوثِ بِالْحَقِّ وَالتُّقَا

ص: 631

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَمَةً كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَدْ تَهَيَّأَتْ بِهَيْئَةِ الْحَرَائِرِ فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ جَارِيَةَ أَخِيكِ تَجُوسُ النَّاسَ وَقَدْ تَهَيَّأَتْ بِهَيْئَةِ الْحَرَائِرِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1839 -

1793 - (مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَمَةً كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَدْ تَهَيَّأَتْ بِهَيْئَةِ الْحَرَائِرِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ) - أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - (فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ جَارِيَةَ أَخِيكِ تَجُوسُ النَّاسَ) - بِالْجِيمِ، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - أَيْ: تَتَخَطَّاهُمْ، وَتَخْتَلِفُ عَلَيْهِمْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كُلُّ مَوْضِعٍ خَالَطَتْهُ، وَوَطَأَتْهُ فَقَدْ جَسَتْهُ وَحَسَتْهُ؛ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ، (وَأَنَّهَا قَدْ تَهَيَّأَتْ) : تَمَثَّلَتْ وَتَصَوَّرَتْ (بِهَيْئَةِ الْحَرَائِرِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ) رضي الله عنه لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُرَّةِ.

ص: 631

[كِتَابُ الْبَيْعَةِ]

[بَاب مَا جَاءَ فِي الْبَيْعَةِ]

‌باب مَا جَاءَ فِي الْبَيْعَةِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ «كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

55 -

كِتَابُ الْبَيْعَةِ

1 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبَيْعَةِ

1841 -

1794 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) الْعَدُوِّيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ: (أَنَّ) مَوْلَاهُ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ) لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، (وَالطَّاعَةِ) لِلَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَلِوُلَاةِ الْأُمُورِ، (يَقُولُ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ) مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ، وَتَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

ص: 632

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ أَنَّهَا قَالَتْ «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ بَايَعْنَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ قَالَتْ فَقُلْنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا هَلُمَّ نُبَايِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِثْلِ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1842 -

1795 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الْمَدَنِيِّ الْفَاضِلِ، الثِّقَةِ (عَنْ أُمَيْمَةَ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ، وَمِيمٍ وَهَاءِ - تَأْنِيثٍ (بِنْتِ رُقَيْقَةَ) - بِقَافَيْنِ - مُصَغَّرٍ بِنْتِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ أُخْتِ خَدِيجَةَ - أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - فَهِيَ خَالَةُ أُمَيْمَةَ بِنْتِ بِجَاهٍ - بِمُوَحَّدَةٍ، وَجِيمٍ، وَهَاءٍ - بِنْتِ نِجَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَيُقَالُ: بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِجَادٍ الْقُرَشِيَّةُ التَّمِيمِيَّةُ، (قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي) جُمْلَةِ (نِسْوَةٍ بَايَعْنَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا) عَامٌّ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ كَالنَّفْيِ، وَقُدِّمَ عَلَى مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، (وَلَا نَسْرِقَ) حُذِفَ الْمَفْعُولُ دَلَالَةً عَلَى الْعُمُومِ كَانَ فِيهِ قَطْعٌ أَمْ لَا، (وَلَا نَزْنِي) ، كَانَ فِيهِ الرَّجْمُ، أَوِ الْجَلْدُ، (وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا) خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَالِبًا يَقْتُلُونَهُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ، وَلِأَنَّهُ

ص: 632

قَتْلٌ، وَقَطِيعَةُ رَحِمٍ، فَصَرْفُ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ أَكْثَرُ.

(وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ)، أَيْ: بِكَذِبٍ يُبْهِتُ سَامِعَهُ، أَيْ: يُدْهِشَهُ لَفْظًا عَنْهُ كَالرَّمْيِ بِالزِّنَى وَالْفَضِيحَةِ وَالْعَارِ، (نَفْتَرِيهِ) نَخْتَلِقُهُ (بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا)، أَيْ: مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا، فَكَنَّى بِالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ عَنِ الذَّاتِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَفْعَالِ بِهِمَا، أَوْ أَنَّ الْبُهْتَانَ نَاشِئٌ عَمَّا يَخْتَلِقُهُ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، ثُمَّ يُبْرِزُهُ بِلِسَانِهِ، أَوِ الْمَعْنَى: لَا نُبْهِتُ النَّاسَ بِالْمَعَايِبِ كِفَاحًا مُوَاجَهَةً، (وَلَا نَعْصِيكَ فِي مَعْرُوفٍ) ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالتَّقْيِيدُ بِهِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ؛ إِذْ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِهِ، أَوْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ طَاعَةُ مَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ هُنَا أَنْ لَا يَنُحْنَ عَلَى مَوْتَاهُنَّ، وَلَا يَخْلُونَ بِالرِّجَالِ فِي الْبُيُوتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا، أَسْنَدَهُ أَبُو عُمَرَ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ) ، لَا فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَمِّلْ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَا لَا طَاقَةَ لَهَا بِهِ، (قَالَتْ) أُمَيْمَةُ:(فَقُلْنَ)، أَيِ: النِّسْوَةُ ( «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا هَلُمَّ نُبَايِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ) ، مُصَافَحَةً بِالْيَدِ كَمَا يُصَافِحُ الرِّجَالُ عِنْدَ الْبَيْعَةِ، وَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أُمَيْمَةَ فَقُلْنَ: ابْسُطْ يَدَكَ نُصَافِحْكَ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -:«إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ» ) ، لَا أَضَعُ يَدَيَّ فِي أَيْدِيهِنَّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَجَاءَتْ أَخْبَارٌ أُخْرَى أَنَّهُنَّ كُنَّ يَأْخُذْنَ بِيَدِهِ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ مِنْ فَوْقِ ثَوْبِهِ، أَخْرَجَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ:" «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَايَعَ لَمْ يُصَافِحِ النِّسَاءَ، إِلَّا وَعَلَى يَدِهِ ثَوْبٌ» "، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ:" «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا يُشْرِكْنَ، وَمَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ إِلَّا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا» "، « (إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ) قَالَ (مِثْلِ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) » ، شَكُّ الرَّاوِيِّ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحَرِّي لِلْمَسْمُوعِ، إِذِ الْمَعْنَى وَاحِدٌ فَلَمَّا شَكَّ لَمْ يَقْنَعْ بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ، وَالْحَدِيثُ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ عَنْ بَيْعَةِ النِّسَاءِ، قَالَتْ:" «مَا مَسَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ، إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَخَذَ عَلَيْهَا فَأَعْطَتْهُ قَالَ: اذْهَبِي فَقَدْ بَايَعْتُكِ» ".

ص: 633

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأُقِرُّ لَكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1843 -

1796 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ)، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: شَهِدْتُ ابْنَ عُمَرَ حِينَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، يَعْنِي بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَانْتِظَامِ الْمُلْكِ لَهُ، وَمُبَايَعَةِ النَّاسِ لَهُ، (فَكَتَبَ إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ: وَكَانَ إِذَا كَتَبَ يَكْتُبُهَا، (أَمَّا بَعْدُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ) ، لَعَلَّهُ قَدَّمَ الْوَصْفَ بِعَبْدِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يُغَيَّرُ بِالْمُلْكِ، وَلَا يَتَجَبَّرُ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ عَبِيدِ اللَّهِ، وَإِنْ وَلِيَ الْمُلْكَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النَّصِيحَةِ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ عَظَّمَهُ بِالْوَصْفِ بِقَوْلِهِ:(أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ)، أَيْ: أُنْهِي إِلَيْكَ حَمْدَ اللَّهِ (الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأُقِرُّ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ الْقَافِ، وَشَدِّ الرَّاءِ -: أَعْتَرِفُ (لَكَ بِالسَّمْعِ) ، فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، (وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ)، أَيْ: قَدْرَ اسْتِطَاعَتِي، زَادَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ: وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَالسَّلَامُ.

ص: 634

[كِتَابُ الْكَلَامِ]

[باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ]

‌باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

56 -

كِتَابُ الْكَلَامِ

1 -

بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْكَلَامِ

1844 -

1797 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) ، وَلِابْنِ وَهْبٍ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ صَحِيحٌ لِمَالِكٍ عَنْهُمَا (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ) فِي الْإِسْلَامِ: (كَافِرٌ) بِالتَّنْوِينِ، (فَقَدْ بَاءَ) - بِمُوَحَّدَةٍ مَمْدُودٍ -: رَجَعَ (بِهَا)، أَيْ: بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ (أَحَدُهُمَا) ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَائِلُ صَادِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالْمَرْمِيُّ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَقَدْ جَعَلَ الرَّامِيَ الْإِيمَانَ كُفْرًا فَقَدْ كَفَرَ، كَذَا حَمَلَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْكُفْرِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى الزَّجْرِ، وَالتَّغْلِيظِ فَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ: إِنَّ الْمَقُولَ لَهُ كَافِرٌ، فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا خِيفَ عَلَى الْقَائِلِ أَنْ يَصِيرَ كَافِرًا.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَيِ احْتَمَلَ الذَّنْبَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ أَحَدُهُمَا.

وَقَالَ أَشْهَبُ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: أَرَى ذَلِكَ فِي الْحَرُورِيَّةِ، قِيلَ: أَتَرَاهُمْ بِذَلِكَ كُفَّارًا؟ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 635

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1845 -

1798 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ) - بِضَمِّ السِّينِ - (ابْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ) ذَكْوَانَ الزَّيَّاتِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا سَمِعْتُ الرَّجُلَ) جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَالْمُرَادُ الْإِنْسَانُ، وَلَوْ أُنْثَى (يَقُولُ) ، وَلِيَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ (هَلَكَ النَّاسُ) إِعْجَابًا بِنَفْسِهِ، وَتِيَهًا بِعِلْمِهِ، أَوْ عِبَادَتِهِ، وَاحْتِقَارًا لِلنَّاسِ، (فَهُوَ أُهْلَكُهُمْ) - بِضَمِّ الْكَافِ - عَلَى الْأَشْهُرِ فِي الرِّوَايَةِ، أَيْ: أَشَدُّهُمْ

ص: 635

هَلَاكًا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْإِثْمِ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، أَوْ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ لِذَمِّهِ لِلنَّاسِ، وَذِكْرِ عُيُوبِهِمْ وَتَكَبُّرِهِ، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا، فِعْلٌ مَاضٍ، أَيْ: أَنَّهُ هُوَ نَسَبَهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ لَا أَنَّهُمْ هَلَكُوا حَقِيقَةً، أَوْ لِأَنَّهُ أَقْنَطَهُمْ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَآيَسَهُمْ مِنْ غُفْرَانِهِ، وَأَيَّدَ الرَّفْعَ بِرِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ، فَهُوَ مَنْ أَهْلَكَهُمْ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الذَّمَّ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِزْرَاءِ عَلَى النَّاسِ وَاحْتِقَارِهِمْ،

وَتَفْضِيلِ نَفْسِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَقْبِيحِ أَحْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ سِرَّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَهُ تَحَزُّنًا لِمَا يَرَى فِي نَفْسِهِ، وَفِي النَّاسِ مِنَ النَّقْصِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَنَسٌ: لَا أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا، هَكَذَا فَسَّرَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَتَابَعَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَعِيبُ النَّاسَ، وَيَذْكُرُ مُسَاوِيَهُمْ، وَيَقُولُ: فَسَدَ النَّاسُ وَهَلَكُوا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ، أَيُ: أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُمْ بِمَا يُلْحِقُهُ مِنَ الْإِثْمِ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْعُجْبِ بِنَفْسِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْوَعْظِ، وَالتَّذْكِيرِ لِيَقْتَدِيَ اللَّاحِقُ بِالسَّابِقِ، فَيَجْتَهِدُ الْمُقَصِّرُ، وَيَتَدَارَكُ الْمُفَرِّطُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا لَوْ رَأَوْكُمْ لَقَالُوا: لَا يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ مُسْلِمٍ أَيْضًا.

ص: 636

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1846 -

1799 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَقُلْ) بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَقُولَنَّ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، (أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ) ، بِمُعْجَمَةٍ، وَمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، وَهِيَ الْحِرْمَانُ وَالْخُسْرَانُ.

( «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» )، أَيِ: الْمُدَبِّرُ لِلْأُمُورِ الْفَاعِلُ مَا تَنْسُبُونَهُ إِلَى الدَّهْرِ مِنْ جَلْبِ الْحَوَادِثِ وَدَفْعِهَا، كَانَ شَأْنُ الْجَاهِلِيَّةِ ذَمَّ الدَّهْرِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ، أَوْ عَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ، فَقَالَ ذَلِكَ رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ.

وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ، أَيْ: فَإِنَّ جَالِبَ الْحَوَادِثِ وَمُتَوَلِّيهَا هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: صَاحِبُ الدَّهْرِ، أَيِ الْخَالِقُ لَهُ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ مَقَلِّبُ الدَّهْرِ، وَلِذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ: بِيَدَيِ اللَّهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ سَبِّهِ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ فَاعِلٌ لِلْمَكْرُوهِ فَسَبَّهُ أَخْطَأَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ، فَإِذَا سَبَّهُ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ.

كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ:" «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ» "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ يُخَاطِبُنِي مِنَ الْقَوْلِ

ص: 636

بِمَا يَتَأَذَّى بِهِ مَنْ يَجُوزُ فِي حَقِّهِ التَّأَذِّي، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْأَذَى، وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَرَّضَ لِسُخْطِ اللَّهِ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ الدَّهْرَ مُدَّةُ زَمَانِ الدُّنْيَا، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ أَمَدُ مَفْعُولَاتٍ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِعْلُهُ لِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ، قَالَ: وَقَدْ تَمَسَّكَ الْجَهَلَةُ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ، وَالْمُعَطِّلَةِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى مَنْ لَا رُسُوخَ لَهُ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ بِنَفْسِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الدَّهْرَ عِنْدَهُمْ حَرَكَاتُ الْفَلَكِ، وَأَمَدُ الْعَالَمِ، وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا صَانِعَ سِوَاهُ، وَكَفَى فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، فَكَيْفَ يُقَلِّبُ الشَّيْءُ نَفْسَهُ؛ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.

قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَنْ نَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَى الدَّهْرِ حَقِيقَةً كَفَرَ، وَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ غَيْرُ مُعْتَقَدٍ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِتَشَبُّهِهِ بِأَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْإِطْلَاقِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّنْعَةَ فَقَدْ سَبَّ صَانِعَهَا، فَمَنْ سَبَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَقْدَمَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ بِغَيْرِ مَعْنًى، وَمَنْ سَبَّ مَا يَجْرِي فِيهَا مِنَ الْحَوَادِثِ، وَذَلِكَ هُوَ أَغْلَبُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ، حَيْثُ نَفَى عَنْهُمَا التَّأْثِيرَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا ذَنْبَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَمِنْهَا مَا يَجْرِي بِوَاسِطَةِ الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ، فَهَذَا يُضَافُ شَرْعًا وَلُغَةً إِلَى الَّذِي أُجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ، وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ لِكَوْنِهِ بِتَقْدِيرِهِ، فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنَ اكْتِسَابِهِمْ، وَلِذَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَهِيَ فِي الِابْتِدَاءِ خَلْقُ اللَّهِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي بِلَا وَاسِطَةٍ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى قُدْرَةِ الْقَادِرِ، وَلَيْسَ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عَقْلًا، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ مَا يَجْرِي مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْعَاقِلِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ تَنْبِيهٌ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، فَلَا يَسُبُّ شَيْئًا مُطْلَقًا إِلَّا مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَيْضًا مَنْعُ الْحِيلَةِ فِي الْبَيْعِ مِثْلَ الْعِينَةِ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَجَعَلَهُ سَبًّا لِخَالِقِهِ، انْتَهَى.

وَتَابَعَ مَالِكًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ.

ص: 637

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَقِيَ خِنْزِيرًا بِالطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ انْفُذْ بِسَلَامٍ فَقِيلَ لَهُ تَقُولُ هَذَا لِخِنْزِيرٍ فَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانِي الْمَنْطِقَ بِالسُّوءِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1847 -

1800 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ - صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ -: لَقِيَ خِنْزِيرًا بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ لَهُ: انْفُذْ) - بِضَمِّ الْفَاءِ، وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ -: امْضِ وَاذْهَبْ (بِسَلَامٍ) سَلَامَةً مِنِّي، فَلَا أُوذِيكَ، (فَقِيلَ لَهُ: تَقُولُ هَذَا لِخِنْزِيرٍ؟ فَقَالَ عِيسَى: إِنِّي أَخَافُ أَنَّ أُعَوِّدَ لِسَانِي النُّطْقَ بِالسُّوءِ) لَوْ قُلْتُ لَهُ غَيْرَ هَذَا، وَهَذَا مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ، وَلَا يَدْعُ فَهُوَ صَادِرٌ مِمَّنْ تَوَلَّى اللَّهُ تَأْدِيبَهُ.

ص: 638

[بَاب الأمر بالتَّحَفُّظِ فِي الْكَلَامِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ التَّحَفُّظِ فِي الْكَلَامِ

1848 -

1801 - (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو) - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - (بْنِ عَلْقَمَةَ) بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ الْمَدَنِيِّ صَدُوقٍ، مِنْ رِجَالِ الْجَمِيعِ مَقْبُولٍ رُوِيَ لَهُ فِي السُّنَنِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَابَعَ مَالِكًا عَلَى ذَلِكَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، لَمْ يَقُولُوا عَنْ جَدِّهِ، رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَآخَرُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ بِلَالٍ قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَإِلَيْهِ مَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو سُفْيَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَدِ رَبِّهِ السُّكَّرِيُّ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ عَنْ جَدِّهِ (عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ) الْمُزَنِيِّ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيِّ، صَحَابِيٌّ أَقْطَعُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَقِيقَ، وَكَانَ يَسْكُنُ وَرَاءَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ) الْوَاحِدَةِ، وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، فَالْمُرَادُ الْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مَا يُفْهِمُ الْخَيْرَ أَوِ الشَّرَّ طَالَ أَوْ قَصُرَ، كَمَا يُقَالُ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَكَمَا يُقَالُ: لِلْقَصِيدَةِ كَلِمَةُ فُلَانٍ حَالَ كَوْنِهَا، (مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ)، أَيْ: كَلَامٌ فِيهِ رِضَاهُ تَعَالَى، كَلِمَةٌ يَدْفَعُ بِهَا مَظْلَمَةً.

(مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ) لِقِلَّتِهَا، (يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) ، يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْغَايَةُ بِهِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ لَا يَسْخَطُ عَلَيْهِ أَبَدًا، (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: مِنَ الْكَلَامِ الْمُسْخِطِ، أَيِ: الْمُغْضِبِ لِلَّهِ الْمُوجِبِ عِقَابَهُ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْكَلِمَةِ، أَوْ صِفَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّامَ جِنْسِيَّةٌ، فَلَكَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى، وَاعْتِبَارُ اللَّفْظِ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّجُلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي " لَيَتَكَلَّمُ " أَوْ صِفَةٌ لَهَا بِالِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، (مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ)

ص: 638

مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا (يَكْتُبُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هِيَ الْكَلِمَةُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَالْأُولَى: لِيَرُدَّهُ بِهَا عَنْ ظُلْمٍ، وَالثَّانِيَةُ: لِيَجُرَّهُ بِهَا إِلَى ظُلْمٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي تَفْسِيرِهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ قَصْرُهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ: كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَيُضْحِكُهُمْ، فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ: وَيْحَكَ لِمَ تَدْخُلْ عَلَى هَؤُلَاءِ فَتُضْحِكُهُمْ، سَمِعْتُ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ فَذَكَرَهُ، قَالَ مَالِكٌ: قَالَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ: لَقَدْ مَنَعَنِي هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ كَلَامٍ كَثِيرٍ.

ص: 639

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1849 -

1802 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (السَّمَانِ) بَائِعِ السَّمْنِ:(أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ) مَوْقُوفًا، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الرِّقَاقِ، وَأَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إِنَّ الرَّجُلَ)، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: إِنِ الْعَبْدَ، فَالْمُرَادُ الْإِنْسَانُ حُرًّا، أَوْ قِنًّا (لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ) عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ جَائِرٍ مُرِيدًا بِهَا هَلَاكَ مُسْلِمٍ، أَوِ الْمُرَادُ يَتَكَلَّمُ غَيْرَ حَسْنَاءَ، وَيُعَرِّضُ بِمُسْلِمٍ بِكَبِيرَةٍ أَوْ بِمُجُونٍ أَوِ اسْتِخْفَافٍ بِشَرِيعَةٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ (مَا يُلْقِي) ، بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْقَافِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، (لَهَا بَالًا)، أَيْ: لَا يَتَأَمَّلُهَا بِخَاطِرِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي عَاقِبَتِهَا، وَلَا يَظُنُّ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15](سورة النُّورِ: الْآيَةُ 15) ، (يَهْوِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَكَسْرِ الْوَاوِ (فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، قَالَ عِيَاضٌ: أَيْ: يَنْزِلُ فِيهَا سَاقِطًا، وَجَاءَ بِلَفْظِ: يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ دَرَكَاتِ النَّارِ إِلَى أَسْفَلَ، فَهُوَ نُزُولُ سُقُوطٍ، وَقِيلَ: أَهْوَى مِنْ قَرِيبٍ، وَهَوَى مِنْ بَعِيدٍ.

(وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ) بِالْكَلَامِ الْمُفِيدِ رِضْوَانَ اللَّهِ، مَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى (مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ)، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: دَرَجَاتٌ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْكَلِمَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي يَقُولُهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، زَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: بِالْبَغْيِ، أَوْ بِالسَّعْيِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْقَائِلُ ذَلِكَ، لَكِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَيْهِ فَيُكْتَبُ

ص: 639

عَلَى الْقَائِلِ إِثْمُهَا، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي يُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ، وَيُكْتَبُ بِهَا الرِّضْوَانُ هِيَ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلَمَةً، أَوْ يُفَرِّجُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَنْصُرُ بِهَا مَظْلُومًا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأُولَى هِيَ الْكَلِمَةُ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ يُرْضِيهِ بِهَا فِيمَا يَسْخَطُ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ.

وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: التَّلَفُّظُ بِالسُّوءِ وَالْفُحْشِ مَا لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الدِّينِ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْخَنَا وَالرَّفَثِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُسْلِمِ بِكَبِيرَةٍ، أَوْ مُجُونٍ، أَوِ اسْتِخْفَافٍ بِحَقِّ النُّبُوَّةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ قَائِلُهَا حُسْنَهَا مِنْ قُبْحِهَا قَالَ: فَيَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْرِفُ حُسْنَهُ مِنْ قُبْحِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ حِفْظُ اللِّسَانِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْطِقَ أَنْ يَتَدَبَّرَ مَا يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَكَلَّمَ، وَإِلَّا أَمْسَكَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: عَلَيْكَ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، فَقَدْ يَكُونُ فِي جَزَعٍ وَتَسَخُّطٍ، فَتَظُنُّهُ تَضَرُّعًا وَابْتِهَالًا، وَيَكُونُ فِي رِيَاءٍ مَحْضٍ، وَتَحْسَبُهُ حَمْدًا وَشُكْرًا، أَوْ دَعْوَةً لِلنَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ، فَتَعُدُّ الْمَعَاصِي طَاعَاتٍ، وَتَحْسِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ فِي مَوْضِعِ الْعُقُوبَاتِ، فَتَكُونُ فِي غُرُورٍ شَنِيعٍ، وَغَفْلَةٍ قَبِيحَةٍ مُغْضِبَةٍ لِلْجَبَّارِ مُوقِعَةٍ فِي النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارِ.

ص: 640

[بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا أَوْ قَالَ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ

1850 -

1803 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْفَقِيهِ الْعُمَرِيِّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) ، وَأَسْقَطَهُ يَحْيَى، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا أَظُنُّهُ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْقَعْنَبِيُّ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ بُكَيْرٍ، وَابْنُ نَافِعٍ، وَالتِّنِّيسِيُّ، وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ الصَّوَابُ (أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ) جِهَةِ (الْمَشْرِقِ) ، وَكَانَ سُكْنَى بَنِي تَمِيمٍ فِي جِهَةِ الْعِرَاقِ، وَهِيَ فِي شَرْقِ الْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُمَا الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَذَا فِي التَّمْهِيدِ، وَنَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ يُقَالُ إِنَّهُمَا الزِّبْرِقَانُ وَعَمْرٌو، وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الرَّجُلَيْنِ صَرِيحًا، وَزَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُمَا الزِّبْرِقَانُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " «جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ

ص: 640

فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا سَيِّدُ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ، وَالْمُجَابُ لَدَيْهِمْ، أَمْنَعُهُمْ مِنَ الظُّلْمِ، وَآخُذُ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَهَذَا، أَيْ عَمْرٌو، يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ، مَانِعٌ لِجَانِبِهِ، مُطَاعٌ فِي أَدْنَيْهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ، وَمَا مَنَعَهُ إِلَّا الْحَسَدُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَحْسُدُكَ! وَاللَّهِ إِنَّكَ لَئِيمُ الْخَالِ، حَدِيثُ الْمَالِ، أَحْمَقُ الْوَالِدِ، مُضَيَّعٌ فِي الْعَشِيرَةِ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ فِي الْأُولَى، وَمَا كَذَبْتُ فِي الْأُخْرَى، لَكِنِّي رَجُلٌ إِذَا رَضِيتُ قُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ قُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتُ، وَلَقَدْ صَدَقْتُ فِي الْأُولَى، وَالْأُخْرَى جَمِيعًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» "، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ تَمِيمٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَا هُمَا الْمُرَادَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو وَحْدَهُ، وَكَانَ كَلَامُهُ فِي مُرَاجَعَةِ الزِّبْرِقَانِ، فَلَا يَصِحُّ نِسْبَةُ الْخُطْبَةِ إِلَيْهِمَا، إِلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ.

(فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ) مِنْهُمَا لِبَيَانِهِمَا، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» ) ; يَعْنِي أَنَّ مِنْهُ لَنَوْعًا يَحُلُّ مِنَ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ فِي التَّمْوِيهِ مَحَلَّ السِّحْرِ، فَإِنَّ السَّاحِرَ بِسِحْرِهِ يُزَيِّنُ الْبَاطِلَ فِي عَيْنِ الْمَسْحُورِ، حَتَّى يَرَاهُ حَقًّا، فَكَذَا الْمُتَكَلِّمُ بِمَهَارَتِهِ فِي الْبَيَانِ، وَتَقَلُّبِهِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَتَرْصِيفُ النَّظْمِ يَسْلُبُ عَقْلَ السَّامِعِ، وَيَشْغَلُهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيهِ وَالتَّدَبُّرِ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِ الْبَاطِلُ حَقًّا، وَالْحَقُّ بَاطِلًا، فَتُسْتَمَالُ بِهِ الْقُلُوبُ كَمَا تُسْتَمَالُ بِالسِّحْرِ، فَشُبِّهَ بِهِ تَشَبُّهًا بَلِيغًا بِحَذْفِ الْأَدَاةِ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَصْلُهُ: إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ كَالسِّحْرِ، لَكِنَّهُ جَعَلَ الْخَبَرَ مُبْتَدَأً مُبَالَغَةً فِي جَعْلِ الْأَصْلِ فَرْعًا، وَالْفَرْعِ أَصْلًا.

(أَوْ قَالَ: «إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ» ) ، شَكَّ الرَّاوِي فِي اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ، قَالَ الْبَاجِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ قَوْمٌ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ ; لِأَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ سِحْرٌ، أَوْ هُوَ مَذْمُومٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِيمَا يُكْرَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَالَ قَوْمٌ: خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ ; لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ " {خَلَقَ الْإِنْسَانَ - عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 14 - 4] "، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم أَبْلَغَ النَّاسِ، وَأَفْضَلَهُمْ بَيَانًا، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَإِنَّمَا جَعَلَهُ سِحْرًا لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّفْسِ، وَمَيْلِهَا إِلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ: حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، إِذَا كَانَ فِي تَزْيِينِ الْحَقِّ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَكْثَرُ مَا يُقَالُ لَيْسَ ذَمًّا لِلْبَيَانِ كُلِّهِ، وَلَا مَدْحًا ; لِأَنَّهُ أَتَى بِـ " مِنْ " الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ قَالَ: وَكَيْفَ نَذُمُّهُ، وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ - عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4](سورة الرَّحْمَنِ: الْآيَةُ 3، 4)، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْآيَةِ مَا يَقَعُ بِهِ الْإِبَانَةُ عَنِ الْمُرَادِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، لَا خُصُوصُ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَدْحِ الْإِيجَازِ وَالْإِتْيَانِ

ص: 641

بِالْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ، وَعَلَى مَدْحِ الْإِطْنَابِ فِي مَقَامِ الْخِطَابِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْبَيَانِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، نَعَمْ، الْإِفْرَاطُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَذْمُومٌ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ التِّينِ: الْبَيَانُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَقَعُ بِهِ الْإِبَانَةُ عَنِ الْمُرَادِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَالْآخَرُ مَا دَخَلَتْهُ صَنْعَةُ تَحْسِينِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يَرُوقُ لِلسَّامِعِينَ، وَيَسْتَمِيلُ قُلُوبَهُمْ، وَهَذَا الَّذِي يُشَبَّهُ بِالسِّحْرِ ; لِأَنَّهُ صَرَفَ الشَّيْءَ عَنْ حَقِيقَتِهِ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا طَلَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَاجَةً كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِسْعَافُهُ بِهَا، فَاسْتَمَالَ قَلْبَهُ بِالْكَلَامِ، فَأَنْجَزَهَا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ السِّحْرُ الْحَلَالُ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ سَارَ هَذَا الْحَدِيثُ سَيْرَ الْمَثَلِ فِي النَّاسِ، إِذَا سَمِعُوا كَلَامًا يُعْجِبُهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَرُبَّمَا قَالُوا: السِّحْرُ الْحَلَالُ، وَمِنْهُمْ أَخَذَ الْقَائِلُ:

وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوْ أَنَّهُ

لَمْ يَجْرِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ الْمُتَحَرِّزِ

إِنْ طَالَ لَمْ يُمْلِلْ وَإِنْ هِيَ أَوْجَزَتْ

وَدَّ الْمُحَدَّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِ

شَرَكُ الْعُقُولِ وَنُزْهَةٌ مَا مِثْلُهَا

السَّامِعِينَ وَغَفْلَةُ الْمُسْتَوْفِزِ

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الطِّبِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ مَوْصُولًا، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْأَدَبِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْبِرِّ.

ص: 642

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَة

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1850 -

1804 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام كَانَ يَقُولُ: لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَتَقْسُوَ) - بِالنَّصْبِ - (قُلُوبَكُمْ) ، فَلَا يَنْفَعُهَا عِظَةٌ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا حِكْمَةٌ، (فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) ذَلِكَ، وَهَذَا قَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

(وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ) ، جَمْعُ رَبٍّ، (وَ) لَكِنِ (انْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ) يَخَافُونَ اطِّلَاعَ سَادَاتِهِمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ، فَيَحْذَرُونَ مِنْهَا، (فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى) بِالذُّنُوبِ، (وَمُعَافًى) مِنْهَا، (فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ) بِنَحْوِ الدُّعَاءِ بِرَفْعِهِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ النَّظَرِ إِلَى ذُنُوبِهِمْ وَهَتْكِهِمْ بِهَا، عِظُوهُمْ بِلِينٍ وَرِفْقٍ، (وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ) لِيُدِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

ص: 642

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تُرْسِلُ إِلَى بَعْضِ أَهْلِهَا بَعْدَ الْعَتَمَةِ فَتَقُولُ أَلَا تُرِيحُونَ الْكُتَّابَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1850 -

1805 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تُرْسِلُ إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ الْعَتَمَةِ) - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْفَوْقِيَّةِ - الْعِشَاءِ، (فَتَقُولُ: أَلَا تُرِيحُونَ الْكُتَّابَ) الْمَلَائِكَةَ الْكِرَامَ مِنْ كَتْبِ الْكَلَامَ الَّذِي لَا ثَوَابَ فِيهِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: أَرَادَتْ بِذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَصْحَابَ الشِّمَالِ، لِأَنَّهَا كَارِهَةٌ لِأَعْمَالِ ابْنِ آدَمَ السَّيِّئَةِ فَإِذَا تَرَكَهَا فَقَدْ أَرَاحَهَا مِنْ كَرَاهَتِهَا، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ عَنِ الْيَمِينِ، فَهُمْ يُسَرُّونَ بِعَمَلِ ابْنِ آدَمَ الصَّالِحِ، فَلَا تَعُودُ الْإِرَاحَةُ عَلَيْهِمْ.

ص: 643

[بَاب مَا جَاءَ فِي الْغِيبَةِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ أَنَّ الْمُطَّلِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبَ الْمَخْزُومِيَّ أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا الْغِيبَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَذْكُرَ مِنْ الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَسْمَعَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قُلْتَ بَاطِلًا فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

4 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغِيبَةِ

1853 -

1806 - (مَالِكٌ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ) الْمَدَنِيِّ أَخِي عِمَارَةَ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَلَا تَرْجَمَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَكَفَى بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ تَوْثِيقًا، (أَنَّ الْمُطَّلِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ الْمُطَّلِبِ (بْنَ حَنْطَبٍ) - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ آخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ - ابْنِ الْحَارِثِ (الْمَخْزُومِيِّ) ، صَدُوقٌ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ بُكَيْرٍ، وَالْقَعْنَبِيُّ، وَغَيْرُهُمْ " حَنْطَبٍ "، وَوَقَعَ لِيَحْيَى " حُوَيْطَبٍ "، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ:(أَخْبَرَهُ) مُرْسَلًا، وَقَدْ وَصَلَهُ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْمُطَّلِبُ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ، وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:(أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا الْغِيبَةُ)، أَيْ مَا حَقِيقَتُهَا الَّتِي نُهِينَا عَنْهَا بِقَوْلِهِ:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12](سورة الْحُجُرَاتِ: الْآيَةُ 12)، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ تَذْكُرَ) بِلَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ رَمْزٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ مُحَاكَاةٍ (مِنَ الْمَرْءِ) فِي غَيْبَتِهِ (مَا يَكْرَهُ أَنْ يَسْمَعَ) لَوْ بَلَغَهُ، فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ خُلُقِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ خَادِمِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ حَرَكَتِهِ أَوْ طَلَاقَتِهِ أَوْ عُبُوسَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ

ص: 643

(قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا) ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ بِهِ، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا قُلْتَ بَاطِلًا فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ» ) ، أَيِ الْكَذِبُ، وَهُوَ أَوْلَى مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ:" «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ حَقِيقَةً، وَشَدِّ التَّاءِ لِإِدْغَامِ تَاءِ الْخِطَابِ فِي تَاءِ لَامِ الْكَلِمَةِ، يُقَالُ: بَهَتَ فُلَانًا: كَذَبَ عَلَيْهِ فَبُهِتَ، أَيْ تَحَيَّرَ، وَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ قُطِعَتْ حُجَّتُهُ، فَتَحَيَّرَ، وَالْبُهْتَانُ الْبَاطِلُ الَّذِي يُتَحَيَّرُ فِيهِ.

قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَوْلَى فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ مِنَ الْبُهْتَانِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، فَيَجُوزُ، وَيُنْدَبُ فِيمَا كَانَتْ مِنْهُ زَلَّةُ التَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ ; لِأَنَّهُ يَهْتِكُ حِجَابَ الْهَيْبَةِ، ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِهِ " مِنَ الْمَرْءِ " وَلَوْ كَافِرًا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ " أَخَاكَ " تَخْصِيصُ الْغِيبَةِ بِالْمُسْلِمِ، إِذِ الْمُرَادُ الْأَخُ فِي الدِّينِ، وَصَرَّحَ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَا غَيْبَةَ فِي كَافِرٍ، وَيُوَافِقُ الْأَوَّلُ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«نَصْرَانِيَّيْنِ لَوْلَا الْغِيبَةُ أَخْبَرْتُكُمْ أَيَّهُمَا طَبٌّ» .

قَالَ الْأَبِيُّ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ " أَخَاكَ " خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، أَوْ يَخْرُجُ بِهِ الْكَافِرُ ; لِأَنَّهُ لَا غِيبَةَ فِيهِ بِكُفْرِهِ، بَلْ بِغَيْرِهِ، وَاسْتَثْنَى مَسَائِلَ تَجُوزُ فِيهَا الْغِيبَةُ، مَعْلُومَةً.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ الْقَعْنَبِيِّ فِي الْمُوَطَّأِ، وَهُوَ عِنْدُهُ فِي الزِّيَادَاتِ، وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ فِي مُوَطَّأِ ابْنِ بُكَيْرٍ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدِ.

ص: 644

[بَاب مَا جَاءَ فِيمَا يُخَافُ مِنْ اللِّسَانِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ الْجَنَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُخْبِرْنَا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ لَا تُخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَالَ الرَّجُلُ لَا تُخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا ثُمَّ ذَهَبَ الرَّجُلُ يَقُولُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى فَأَسْكَتَهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ الْجَنَّةَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

5 -

بَابُ مَا جَاءَ فِيمَا يُخَافُ مِنَ اللِّسَانِ

1854 -

1807 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) مُرْسَلًا بِلَا خِلَافٍ أَعْلَمُهُ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مَوْصُولًا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْعَسْكَرِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى كُلُّهُمْ بِمَعْنَاهُ: « (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

ص: 644

مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ) ، أَيْ دَخَلَ (الْجَنَّةَ) » مَعَ السَّابِقِينَ، أَوْ بِغَيْرِ عَذَابٍ، (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُخْبِرْنَا) ، كَذَا لِيَحْيَى، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَغَيْرِهِمَا بِلَفْظِ النَّهْيِ، قَالَ الْبَاجِيُّ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ: خَشِيَ إِذَا أَخْبَرَهُمْ أَنْ يَثْقُلَ عَلَيْهِمُ الِاحْتِرَاسُ مِنْهَا، وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ: أَلَا تُخْبِرُنَا؟ بِلَفْظِ الْعَرْضِ (فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى) : مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ. . . . إِلَى آخِرِهِ.

(فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ) الْمَذْكُورُ: (لَا تُخْبِرْنَا) بِالْجَزْمِ نَهْيًا، وَالْقَعْنَبِيُّ: أَلَا تُخْبِرُنَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا تُخْبِرْنَا) نَهْيًا أَوْ عَرْضًا (يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا، ثُمَّ ذَهَبَ الرَّجُلُ يَقُولُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا قَالَ يَحْيَى: لَا تُخْبِرْنَا عَلَى لَفْظِ النَّهْيِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَ الْكَلَامَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَتَابَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ عَلَى لَفْظِ: لَا تُخْبِرْنَا عَلَى النَّهْيِ إِلَّا أَنَّ إِعَادَةَ الْكَلَامِ عِنْدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ: أَلَا تُخْبِرُنَا عَلَى لَفْظِ الْعَرْضِ، وَالْقِصَّةُ مُعَادَةٌ عِنْدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَيْضًا، وَكُلُّهُمْ قَالَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، (فَأَسْكَتَهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ) تَفْوِيضًا لَهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يُرِيدُ مِنَ الْإِخْبَارِ وَتَرْكِهِ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ) ، أَيْ دَخَلَ (الْجَنَّةَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ) ، بِفَتْحِ اللَّامِ، وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ مُثَنًّى، هُمَا الْعَظْمَانِ فِي جَانِبِ الْفَمِ، وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ اللِّسَانُ، (وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ) فَرْجُهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ اسْتِهْجَانًا لَهُ، وَاسْتِحْيَاءً ; لِأَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْبِكْرِ فِي خِدْرِهَا، (مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ) ، ذَكَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ: الْفَمُ بِتَمَامِهِ فَتَنَاوَلَ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، وَسَائِرَ مَا يَتَأَتَّى بِالْفَمِ، أَيْ مِنَ النُّطْقِ وَالْفِعْلِ كَتَقْبِيلٍ وَعَضٍّ وَشَتْمٍ، قَالَ: وَمَنْ يَحْفَظُ مِنْ ذَلِكَ أَمِنَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَخَفَى عَلَيْهِ أَنَّهُ بَقِيَ الْبَطْشُ بِالْيَدَيْنِ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ أَصْلٌ فِي حُصُولِ كُلِّ مَطْلُوبٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إِلَّا فِي خَيْرٍ

ص: 645

سَلِمَ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ الْبَلَايَا عَلَى الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا لِسَانُهُ وَفَرْجُهُ، فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهُمَا، وُقِيَ أَعْظَمَ الشَّرِّ، انْتَهَى.

فَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ مَعْدُودٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ.

ص: 646

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1855 -

1808 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ يَجْبِذُ) - بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ - (لِسَانَهُ) بِيَدِهِ، (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَهْ) : اكْفُفْ (غَفَرَ اللَّهُ لَكَ) دُعَاءٌ لَهُ، (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هَذَا) اللِّسَانَ (أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ) الَّتِي يُخْشَى عَاقِبَتُهَا.

ص: 646

[بَاب مَا جَاءَ فِي مُنَاجَاةِ اثْنَيْنِ دُونَ وَاحِدٍ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ «عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُقْبَةَ الَّتِي بِالسُّوقِ فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ وَلَيْسَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلًا آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَاهُ اسْتَأْخِرَا شَيْئًا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

6 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي مُنَاجَاةِ اثْنَيْنِ دُونَ وَاحِدٍ

الْمُنَاجَاةُ الْمُسَارَّةُ، تَنَاجَى الْقَوْمُ وَانْتَجَوْا، أَيْ سَارَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

1856 -

1809 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، (قَالَ: كُنْتُ أَنَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُقْبَةَ) - بِالْقَافِ - ابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الْقُرَشِيِّ الْأُمَوِيِّ، صَحَابِيٌّ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، زَعَمَ ابْنُ الْحَذَّاءِ أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ جِنَازَةَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ غَيْرُهُ، وَرُدَّ بِمَا جَاءَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِي الْأُمَوِيَّ صَلَّى عَلَيْهِ، قَدَّمَهُ الْحُسَيْنُ، لِكَوْنِهِ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ (الَّتِي بِالسُّوقِ) ، أَيْ سُوقِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، (فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ) ، يُسَارِرَهُ، (وَلَيْسَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدٌ غَيْرِي، وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ، فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلًا آخَرَ حَتَّى كُنَّا)، أَيْ صِرْنَا (أَرْبَعَةً فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَاهُ: اسْتَأْخِرَا شَيْئًا) ، قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعَانِ التَّنَاجِيَ، (فَإِنِّي سَمِعْتُ

ص: 646

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَتَنَاجَى) بِأَلِفٍ لَفْظًا مَقْصُورَةٍ، ثَابِتَةٍ فِي الْكِتَابَةِ تَحْتِيَّةٍ سَاقِطَةٍ فِي الدَّرْجِ، لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ (اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ) ; لِأَنَّهُ يُوقِعُ الرُّعْبَ فِي قَلْبِهِ، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا تُوجِبُهُ الصُّحْبَةُ مِنَ الْأُلْفَةِ، وَالْأُنْسِ، وَعَدَمِ التَّنَافُرِ، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا سَرَرْتَ فِي مَجْلِسٍ فَإِنَّكَ فِي أَهْلِهِ مُتَّهَمٌ، وَتَخْصِيصُ النَّهْيِ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَنَاجَوْنَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ رُدَّ بِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ بِالْعَدَدِ مَعْنًى، وَخَصَّهُ عِيَاضٌ بِالسَّفَرِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ، وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ وَتَخْصِيصٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْخَبَرُ عَامُّ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَالْعِلَّةُ الْحُزْنُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّهُمَا، وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لَكِنَّ مَحَلَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا خَشِيَا أَنَّ صَاحِبَهُمَا يَظُنُّ أَنَّ تَنَاجِيَهُمَا فِي غَدْرِهِ، وَإِلَّا كُرِهَ حَضَرًا وَسَفَرًا فِي الْقِسْمَيْنِ، وَفِي مَعْنَى التَّنَاجِي مَا لَوْ تَحَدَّثَا بِلِسَانٍ لَا يُفْهَمُ.

ص: 647

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1857 -

1810 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا كَانَ) ، أَيْ وُجِدَ (ثَلَاثَةٌ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ " كَانَ " التَّامَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً، رُوِيَ بِنَصْبِهِ خَبَرُ " كَانَ " وَاسْمُهَا الْمُتَصَاحِبُونَ، وَبِرَفْعِهِ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَتَمَامِ " كَانَ ". ( «فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ» ) ، أَيْ لَا يَتَسَارَّا وَيَتْرُكَاهُ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ نَجْوَاهُمَا هِيَ لِسُوءِ رَأْيِهِمَا فِيهِ وَاحْتِقَارِهِ عَنْ أَنْ يُدْخِلَاهُ فِي نَجْوَاهُمْ، أَوْ إِنَّمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى غَائِلَةٍ تَحْصُلُ لَهُ مِنْهُمَا.

قَالَ الْحَافِظُ: وَأَرْشَدَ هَذَا التَّعْلِيلُ إِلَى أَنَّ الْمُنَاجِيَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ إِذَا خَصَّ أَحَدًا بِمُنَاجَاتِهِ أَحْزَنَ الْبَاقِينَ امْتِنَاعُ ذَلِكَ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ لَا يَقْدَحُ فِي الدِّينِ.

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ وَاحِدٍ، وَلَا عَشَرَةٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ يُتْرَكَ وَاحِدٌ، قَالَ: وَهَذَا مُسْتَنْبَطٌ مِنَ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِلْوَاحِدِ كَتَرْكِ الِاثْنَيْنِ لِلْوَاحِدِ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ لِئَلَّا يَتَبَاغَضُوا وَيَتَقَاطَعُوا، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: فَلَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْوَاحِدِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً فَتَنَاجَى اثْنَيْنِ دُونَ اثْنَيْنِ، فَلَا بَأْسَ بِالْإِجْمَاعِ، انْتَهَى. وَاخْتُلِفَ إِذَا انْفَرَدَ جَمَاعَةٌ دُونَ جَمَاعَةٍ قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ، وَحَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ فِي مَلَإٍ فَسَارَرْتُهُ فِيهِ دَلَالَةٌ

ص: 647

عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ يَرْتَفِعُ إِذَا بَقِيَ جَمَاعَةٌ لَا يَتَأَذَّوْنَ بِالسِّرَارِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ أَصْلِ الْحُكْمِ كَمَا مَرَّ مَا إِذَا أَذِنَ مَنْ يَبْقَى سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا، أَمْ أَكْثَرَ لِلِاثْنَيْنِ فِي التَّنَاجِي دُونَهُ أَوْ دُونَهُمْ، فَإِنَّ الْمَنْعَ يَرْتَفِعُ لِأَنَّهُ حَقُّ مَنْ يَبْقَى، وَأَمَّا إِذَا تَنَاجَيَا ابْتِدَاءً، وَثَمَّ ثَالِثٌ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُمَا لَوْ تَكَلَّمَا جَهْرًا، فَأَتَى لِيَسْتَمِعَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُمَا أَصْلًا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُتَنَاجِيَيْنِ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمَا.

قَالَ غَيْرُهُ: وَلَا يَنْبَغِي لِلدَّاخِلِ الْقُعُودُ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ تَبَاعَدَ عَنْهُمَا إِلَّا بِإِذْنِهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَمَّا افْتَتَحَا حَدِيثَهُمَا سِرًّا، وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا أَحَدٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمَا أَنْ لَا يَطَّلِعَ أَحَدٌ عَلَى كَلَامِهِمَا، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا جَهُورًا بِأَلَّا يَتَأَتَّى لَهُ إِخْفَاءُ كَلَامِهِ مِمَّنْ حَضَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةُ فَهْمٍ بِحَيْثُ إِذَا سَمِعَ بَعْضَ الْكَلَامِ اسْتَدَلَّ عَلَى بَاقِيهِ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى تَرْكِ مَا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ مَطْلُوبَةٌ، وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْمَرَاتِبُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَإِسْمَاعِيلُ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ.

ص: 648

[بَاب مَا جَاءَ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْذِبُ امْرَأَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

7 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ

1859 -

1811 - (مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) - بِضَمِّ السِّينِ - الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ عَابِدٌ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، فَهُوَ مُرْسَلٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَحْفَظُهُ مُسْنَدًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا، (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكْذِبُ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِغْنَاءً بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ، (امْرَأَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ) ، بَلْ هُوَ شَرٌّ كُلُّهُ، (فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعِدُهَا) ، بِتَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، (وَأَقُولُ لَهَا) أَفْعَلُ لَكِ كَذَا وَكَذَا، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا جُنَاحَ) : لَا حَرَجَ (عَلَيْكَ) ، قَالَ الْبَاجِيُّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْوَعْدِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَاضٍ، وَهَذَا مُسْتَقْبَلٌ قَدْ يُمْكِنُهُ تَصْدِيقُ خَبَرِهِ فِيهِ.

ص: 648

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ صَدَقَ وَبَرَّ وَكَذَبَ وَفَجَرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1859 -

1812 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ) ، وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ) ، أَيِ الْزَمُوهُ، وَدَاوِمُوا عَلَيْهِ، أَيِ الْقَوْلِ الْحَقِّ، وَهُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ نَحْوُ صَدَقَ فُلَانٌ فِي الْقِتَالِ، إِذَا أَوْفَاهُ حَقَّهُ، (فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي) - بِفَتْحَ أَوَّلِهِ - أَيْ يُوَصِّلُ صَاحِبَهُ (إِلَى الْبَرِّ) ، أَيْ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْخَالِصِ، وَالْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَقِيلَ اكْتِسَابُ الْحَسَنَاتِ.

(وَالْبِرَّ يَهْدِي) - بِفَتْحَ أَوَّلِهِ - يُوَصِّلُ صَاحِبَهُ (إِلَى الْجَنَّةِ) ، يَعْنِي أَنَّ الصِّدْقَ الَّذِي هُوَ بِرٌّ يَدْعُو إِلَى مَا يَكُونُ بِرًّا مِثْلَهُ، وَذَلِكَ يَدْعُو إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَهُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِهَا، وَمِصْدَاقُهُ:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13](سورة الِانْفِطَارِ: الْآيَةُ 13)، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ كُلِّهِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَحَرَّاهُ لَمْ يَعْصِ أَبَدًا ; لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْرِقَ، أَوْ يَزْنِيَ، أَوْ يُؤْذِيَ أَحَدًا خَافَ أَنْ يُقَالَ لَهُ زَنَيْتَ أَوْ سَرَقْتَ، فَإِنْ سَكَتَ جَرَّ الرِّيبَةَ إِلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا، كَذَبَ، وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَسَقَ، وَسَقَطَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَذَهَبَتْ حُرْمَتُهُ.

زَادَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: «وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صَادِقًا» .

( «وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ» ) ، أَيِ احْذَرُوا الْإِخْبَارَ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ، ( «فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ» ) ، أَيْ يُوَصِّلُ إِلَى الْمَيْلِ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ وَالِانْبِعَاثِ فِي الْمَعَاصِي، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَرٍّ.

(وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ) ، أَيْ يُوَصِّلُ إِلَى مَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِهَا، وَذَلِكَ دَاعٍ لِدُخُولِهَا، زَادَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ:" «وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» "، (أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ صَدَقَ وَبَرَّ وَكَذَبَ وَفَجَرَ) اسْتِظْهَارٌ ; لِأَنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَالْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا فِي الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ; لِأَنَّ الْإِمَامَ ذَكَرَهُ مَوْقُوفًا، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ نَفْعًا، وَلِذَا عَلَتْ رُتْبَتُهُ عَلَى رُتْبَةِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّهُ إِيمَانٌ وَزِيَادَةٌ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119](سورة التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 119) ، وَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا، فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَعُرِفَ بِهِ، فَلَا يُعْتَمَدُ نُطْقُهُ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَيَنْسَلِخُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ لِخُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِالنُّطْقِ إِلَى الْبَهِيمِيَّةِ، فَيَصِيرُ هُوَ وَالْبَهِيمَةُ سَوَاءٌ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مِنْهَا، لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ نُطْقُهَا، لَا يَضُرُّ، وَالْكَاذِبُ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ.

ص: 649

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى يُرِيدُونَ الْفَضْلَ فَقَالَ لُقْمَانُ صِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1859 -

1813 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ)، قِيلَ: إِنَّهُ حَبَشِيٌّ، وَقِيلَ: نُوبِيٌّ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ كَانَ صَالِحًا أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا.

وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: إِنْ لُقْمَانَ خُيِّرَ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: خِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ وَالِدِهِ عَنْقَاءُ بْنُ شَرْوَانَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ لُقْمَانُ بْنُ بَاعُورَا بْنِ نَاصِرِ بْنِ آزَرَ، فَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ.

وَذَكَرَ وَهْبٌ فِي الْمُبْتَدَأِ أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِ أَيُّوبَ، وَقِيلَ: ابْنُ خَالَتِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي عَصْرِ دَاوُدَ، وَقِيلَ: كَانَ يُفْتِي قَبْلَ بَعْثِهِ، وَقِيلَ: عَاصَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَالْمُصْطَفَى، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ: عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ الْتَبَسَ عَلَيْهِ بِلُقْمَانَ بْنِ عَادٍ.

(مَا بَلَغَ بِكَ مَا تَرَى) ، يُرِيدُونَ الْفَضْلَ الَّذِي يُشَاهِدُونَهُ مِنْهُ، (فَقَالَ لُقْمَانُ: صِدْقُ الْحَدِيثِ) ، إِذْ هُوَ أَصْلُ الْمَحْمُودَاتِ، وَرُكْنُ النُّبُوَّاتِ، وَنَتِيجَةُ التَّقْوَى، وَلَوْلَاهُ لَبَطَلَتْ أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ، (وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ) إِلَى أَهْلِهَا، (وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.

ص: 650

وَحَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَتُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ كُلُّهُ فَيُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَاذِبِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1859 -

1814 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ) مَوْقُوفًا، وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلرَّأْيِ، (لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَتُنْكَتُ) ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَوْ تَحْتِيَّةٍ ضُبِطَ بِهِمَا (فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ) ، أَيْ أَثَرٌ صَغِيرٌ، (سَوْدَاءُ حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ كُلُّهُ) ، لِتَعَدُّدِ النُّكْتَةِ بِتَعَدُّدِ الْكَذِبِ، (فَيُكْتَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكَاذِبِينَ) ، أَيْ يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ، وَيَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِهِ، وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ، فَالْمُرَادُ إِظْهَارُهُ لِخَلْقِهِ بِالْكِتَابَةِ، لِيَشْتَهِرَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَيُلْقَى فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيُوضَعَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا يُوضَعُ الْقَبُولُ وَالْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا أَفَادَهُ الْحَافِظُ، وَغَيْرُهُ، وَكَفَاهُ ذَلِكَ إِهَانَةً.

وَقَدْ رَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَا يَكْذِبُ الْكَاذِبُ إِلَّا مِنْ مَهَانَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ» ".

ص: 650

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا فَقَالَ لَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1862 -

1815 - (مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ: أَنَّهُ قَالَ) مُرْسَلٌ، أَوْ مُعْضَلٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا

ص: 650

أَحْفَظُهُ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ مُرْسَلٌ، ( «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: - أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟» ) أَيْ ضَعِيفَ الْقَلْبِ، (فَقَالَ: نَعَمْ) ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْإِيمَانَ، (فَقِيلَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا) بُخْلًا لُغَوِيًّا، وَهُوَ مَنْعُ السَّائِلِ مَا يَغْفَلُ عَنْهُ، (فَقَالَ: نَعَمْ) لِعَدَمِ مُنَافَاتِهِ الْإِيمَانَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْبُخْلَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ مَنْعُ الْوَاجِبِ لِمُنَافَاتِهِ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ، (فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟) بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، أَيْ كَثِيرَ الْكَذِبِ، (فَقَالَ: لَا) يَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا، أَيِ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ إِيمَانُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا: " «إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ» "، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَصَوَّبَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقْفَهُ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ الصِّدِّيقِ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ الصِّدِّيقِ مَوْقُوفًا، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ:" «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَلْ يَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قَالَ: هَلْ يَكْذِبُ؟ قَالَ: لَا» "، وَلِلْبَزَّارِ، وَأَبِي يَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ: " «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقِهِ غَيْرَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ» ، وَضَعَّفَ الْبَيْهَقِيُّ رَفْعَهُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، قَالَ غَيْرُهُ: وَمَعَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، انْتَهَى.

ص: 651

[بَاب مَا جَاءَ فِي إِضَاعَةِ الْمَالِ وَذِي الْوَجْهَيْنِ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

8 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَذِي الْوَجْهَيْنِ

1863 -

1816 - (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ) - بِضَمِّ السِّينِ - (بْنِ أَبِي صَالِحٍ) ذَكْوَانَ (عَنْ أَبِيهِ)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا أَرْسَلَهُ يَحْيَى، وَابْنُ وَهْبٍ، وَالْقَعْنَبِيُّ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَعْنٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ، فَلَمْ يَقُولُوا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَسْنَدَهُ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَأَبُو مُصْعَبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَمُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ، وَهُوَ مَحْفُوظٌ وَغَيْرُهُ مُسْنَدًا، هَكَذَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا) مِنَ الْخِصَالِ، (وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا) ، يَعْنِي يَأْمُرُكُمْ بِثَلَاثٍ، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ إِذِ

ص: 651

الرِّضَا عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِهِ، وَالْأَمْرُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا، فَهُوَ كِنَايَةٌ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي السُّخْطِ، وَأَتَى بِاللَّامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ: يَرْضَى عَنْكُمْ بِثَلَاثٍ، وَيَسْخَطُ مِنْكُمْ رَمَزًا إِلَى أَنَّ فَائِدَةَ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَائِدَةٌ إِلَى عِبَادِهِ (يَرْضَى) ، فَصَلَهُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ، كَأَنَّهُ قِيلَ مَا الثَّلَاثُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَيَرْضَى بِفَاءِ التَّفْسِيرِ (لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ; لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا، لَمْ يَعْبُدْهُ، فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ " ثِنْتَانِ " مُتَعَقَّبٌ.

(وَ) الثَّانِيَةُ: (أَنْ تَعْتَصِمُوا) : تَتَمَسَّكُوا (بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ:" وَلَا تَفَرَّقُوا "، أَيْ لَا تَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ الِاعْتِصَامِ، كَمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَهُوَ نَفْيٌ عُطِفَ عَلَى " تَعْتَصِمُوا "، أَوْ هُوَ نَهْيٌ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ قَبْلَهُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ اعْتَصِمُوا، وَلَا تَفَرَّقُوا.

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِحَبْلِ اللَّهِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ الْقُرْآنُ وَرُجِّحَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ» "، وَفِي لَفْظٍ:" «الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» "، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِخِلَافِهِ غَفْلَةٌ، إِذْ لَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ.

وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا، وَغَيْرُهُ: هُوَ عَهْدُ اللَّهِ وَأَمْرُهُ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ الْجَمَاعَةُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَدِيثِ، وَالْأَشْبَهُ بِسِيَاقِهِ.

وَأَمَّا الْقُرْآنُ، فَمَأْمُورٌ بِالِاعْتِصَامِ بِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَغَيْرِ مَا حَدِيثٍ، أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْجَمَاعَةُ عَلَى إِمَامٍ يُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ، فَيَكُونُ وَلِيَّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ فِي نِكَاحٍ، وَتَقْدِيمِ قَضَائِهِ لِلْعَقْدِ عَلَى أَيْتَامٍ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَيُقِيمُ الْجُمُعَةَ، وَالْعِيدَ، وَيَأْمَنُ بِهِ السُّبُلَ، وَيَنْتَصِفُ بِهِ الْمَظْلُومُ، وَيُجَاهِدُ عَنِ الْأُمَّةِ عَدُوَّهَا، وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا ; لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالْفُرْقَةَ هَلَكَةٌ، وَالْجَمَاعَةَ نَجَاةٌ، قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي مَعْنًى مُتَدَاخِلٌ مُتَقَارِبٌ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَأْمُرُ بِالْأُلْفَةِ، وَيَنْهَى عَنِ الْفُرْقَةِ.

(وَ) الثَّالِثَةُ: (أَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ) ، وَهُوَ الْإِمَامُ، وَنُوَّابُهُ بِمُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتِهِ فِيهِ، وَأَمْرِهِمْ بِهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَبِتَأَلُّفِ قُلُوبِ النَّاسِ لِطَاعَتِهِمْ، وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ، وَالْجِهَادِ مَعَهُمْ، وَأَدَاءِ الصَّدَقَاتِ لَهُمْ، وَأَنْ لَا يُطْرُوا بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ، وَأَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالصَّلَاحِ، وَقِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ، فَنَصِيحَتُهُمْ قَبُولُ مَا رَوَوْهُ، وَتَقْلِيدُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِحْسَانُ الظَّنِّ بِهِمْ.

(وَيَسْخَطُ)، وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَكْرَهُ (لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ)، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْإِكْثَارُ مِنَ الْكَلَامِ نَحْوِ قَوْلِ النَّاسِ: قَالَ فُلَانٌ، وَفَعَلَ فُلَانٌ، وَالْخَوْضُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، فَهُمَا مَصْدَرَانِ أُرِيدَ بِهِمَا الْمُقَاوَلَةُ، وَالْخَوْضُ فِي أَخْبَارِ النَّاسِ، وَقِيلَ: فِعْلَانِ مَاضِيَانِ.

(وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) بِصَرْفِهِ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَعْرِيضِهِ لِلتَّلَفِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ; لِأَنَّهُ إِذَا ضَاعَ مَالُهُ، تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ.

وَحَكَى أَبُو عُمَرَ فِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ

ص: 652

الْحَيَوَانُ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَلَا يُضَيِّعُهُ مَالِكُهُ فَيَهْلِكُ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ عَامَّةَ الْوَصِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّلَاةُ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.

وَالثَّانِي: تَرْكُ إِصْلَاحِهِ، وَالنَّظَرِ فِيهِ وَكَسْبِهِ.

وَالثَّالِثُ: إِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالسَّرَفُ، انْتَهَى، بِاخْتِصَارٍ.

(وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَعْنَاهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ التَّكْثِيرُ مِنَ الْمَسَائِلِ النَّوَازِلِ، وَالْأُغْلُوطَاتِ، وَتَشْقِيقِ الْمَوْلُودَاتِ، وَقِيلَ سُؤَالُ الْمَالِ، وَالْإِلْحَاحُ فِيهِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ لِعَطْفِهِ عَلَى إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَدْرِي أَهْوَ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، أَمْ هُوَ مَسْأَلَةُ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ؟ إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْحَدِيثِ كَرَاهَةَ السُّؤَالِ عَنِ الْمَسَائِلِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِكْثَارُ لَا عَلَى الْحَاجَةِ عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ بَيْنَ كَثِيرَةٍ وَقَلِيلَةٍ، وَكَانَ أَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ أَشْيَاءَ، وَيُلِحُّونَ فِيهَا فَيَنْزِلُ تَحْرِيمُهَا، قَالَ - تَعَالَى -:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 101) الْآيَةَ، وَالسُّؤَالُ الْيَوْمَ لَا يُخَافُ مِنْهُ نُزُولُ تَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ، فَمَنْ سَأَلَ مُسْتَفْهِمًا رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ بَاحِثًا عَنْ مَعْنًى يَجِبُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ، فَشِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْجِدَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَمَنْ سَأَلَ مُتَعَنِّتًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَلِيلُ السُّؤَالِ، وَلَا كَثِيرُهُ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَثْرَةُ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ عَنْ حَالِهِ، وَتَفَاصِيلِ أَمْرِهِ، فَيَدْخُلُ فِي سُؤَالِهِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَيَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْحَرَجِ فِي حَقِّ الْمَسْئُولِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُحِبُّ إِخْبَارَهُ بِأَحْوَالِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَبَ فِي الْإِخْبَارِ، أَوْ تَكَلَّفَ التَّعْرِيضَ لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّةُ، وَإِنْ أَهْمَلَ جَوَابَهُ ارْتَكَبَ سُوءَ الْأَدَبِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا بِهِ، وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ الْأَكْثَرِ عَنْ مَالِكٍ مَوْصُولًا، وَلَعَلَّهُ حَدَّثَ بِالْوَجْهَيْنِ: الْوَصْلُ وَالْإِرْسَالُ.

ص: 653

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1864 -

1817 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ شَرِّ النَّاسِ) ، كُلِّهِمْ، وَحَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَنْ ذُكِرَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ خَاصَّةً، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: مِنْ شَرِّ خَلْقِ اللَّهِ.

وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.

(ذُو الْوَجْهَيْنِ) مَجَازٌ عَنِ الْجِهَتَيْنِ، مِثْلُ الْمِدْحَةِ وَالْمَذَمَّةِ لَا حَقِيقَةٌ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ:(الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ) الْقَوْمَ، (بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ) الْقَوْمَ، (بِوَجْهٍ) فَيُظْهِرُ عِنْدَ كُلٍّ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَمُخَالِفٌ لِلْآخَرِ مُبْغِضٌ لَهُمْ.

وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ

ص: 653

بِحَدِيثِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ هَؤُلَاءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا كَانَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ; لِأَنَّ حَالَهُ - حَالُ الْمُنَافِقِينَ، إِذْ هُوَ يَتَمَلَّقُ بِالْبَاطِلِ وَبِالْكَذِبِ - مَدْخَلٌ لِلْفَسَادِ بَيْنَ النَّاسِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا، فَيُظْهِرُ لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا، وَمُخَالِفٌ لِضِدِّهَا، وَصَنِيعُهُ نِفَاقٌ مَحْضٌ، وَكَذِبٌ وَخِدَاعٌ، وَتَحَيُّلٌ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: فَأَمَّا مَنْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْإِصْلَاحَ الْمُرَغَّبَ فِيهِ، فَيَأْتِي لِكُلٍّ بِكَلَامِ فِيهِ صَلَاحٌ وَاعْتِذَارٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَنِ الْآخَرِ، وَيَنْقُلُ لَهُ الْجَمِيلَ، فَمَحْمُودٌ مُرَغَّبٌ فِيهِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذُو الْوَجْهَيْنِ فِي الْإِصْلَاحِ مَحْمُودٌ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ؛ يَقُولُ خَيْرًا، وَيَنْمِي خَيْرًا» "، وَبَيَّنَ تَعْبِيرَهُ بِـ " مِنْ " أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ» "، مَحْمُولٌ عَلَى رِوَايَةِ " مِنْ "، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَمُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي زُرْعَةَ، الثَّلَاثَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ.

ص: 654

[بَابُ مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْعَامَّةِ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ]

حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

9 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْعَامَّةِ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ

1866 -

1818 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ) هِنْدَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟)، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33](سورة الْأَنْفَالِ: الْآيَةُ 33) ، اعْتَقَدَتْ عَامَّةً كُلَّ قَوْمٍ فِيهِمْ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَمَّنْ سِوَاهُمْ، كَذَا قَالَ الْبَاجِيُّ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُوَحَّدَةِ، فَمُثَلَّثَةٍ - الْفُسُوقُ وَالشَّرُّ، وَقِيلَ: أَوْلَادُ الزِّنَى، وَرَجَّحَ الْحَافِظُ الْأَوَّلَ ; لِأَنَّهُ قَابَلُهُ بِالصَّلَاحِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُعْرَفُ لِأُمِّ سَلَمَةَ، إِلَّا مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَحْفُوظٌ، انْتَهَى.

وَهُوَ كَمَا قَالَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ «عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ مِنَ النَّوْمِ مُحْمَرًّا، وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمُ مِنْ رَدْمِ يَأُجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلُ هَذِهِ، قَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ:

ص: 654

نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» "، لَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ سَأَلَتْ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِهَا مَقَالٌ ; لِأَنَّهُ اعْتَضَدَ بِبَلَاغِ مَالِكٍ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ بَلَاغَهُ صَحِيحٌ كُلَّهُ.

ص: 655

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ كَانَ يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ وَلَكِنْ إِذَا عُمِلَ الْمُنْكَرُ جِهَارًا اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ كُلُّهُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1866 -

1819 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ) الْقُرَشِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَدَنِيِّ، (أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) خِتَامَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، (يَقُولُ: كَانَ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ) ، أَيْ عُمُومَ النَّاسِ (بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ) ، إِذْ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، (وَلَكِنْ إِذَا عُمِلَ الْمُنْكَرُ جِهَارًا اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ كُلَّهُمْ) ، وَشَاهِدُهُ الْحَدِيثُ قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 79) ، انْتَهَى.

ص: 655

[بَابُ مَا جَاءَ فِي التُّقَى]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَخٍ بَخٍ وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

10 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي التُّقَى

1867 -

1820 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) - أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - (وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا) ، أَيْ بُسْتَانًا (فَسَمِعْتُهُ، وَهُوَ يَقُولُ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ، وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ) ، أَيْ دَاخِلَ الْبُسْتَانِ، (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - بَخٍ بَخْ) ، أَيْ عَظُمَ الْأَمْرُ، وَفُخِّمَ الْأَوَّلُ مُنَوَّنٌ، وَالثَّانِي مُسَكَّنٌ، وَتَسْكِينُهُمَا وَتَشْدِيدُهُمَا، وَيُقَالُ: مُفْرَدَةٌ سَاكِنَةٌ وَمَكْسُورَةٌ وَمُنَوَّنَةٌ وَمَضْمُومَةٌ مُنَوَّنَةٌ، كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الرِّضَا، وَالْإِعْجَابِ بِالشَّيْءِ، أَوِ الْفَخْرِ، وَالْمَدْحِ، قَالَهُ الْمَجْدُ الشِّيرَازِيُّ.

(وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ) تَخَافُهُ وَتَحْذَرُ عِقَابَهُ، (أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ) ، فَلَا تَغْتَرَّ بِالْخِلَافَةِ.

ص: 655

قَالَ مَالِكٌ وَبَلَغَنِي أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ كَانَ يَقُولُ أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَمَا يَعْجَبُونَ بِالْقَوْلِ قَالَ مَالِكٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَمَلَ إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى عَمَلِهِ وَلَا يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1867 -

1821 - (مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، كَانَ يَقُولُ أَدْرَكْتُ النَّاسَ) ، أَيِ الصَّحَابَةَ، (وَمَا يُعْجَبُونَ) يَرْضَوْنَ (بِالْقَوْلِ قَالَ مَالِكٌ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَمَلَ) ، أَيْ إِنَّهُ إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى عَمَلِهِ، (وَلَا يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِهِ) ، إِذِ الْعِبْرَةُ إِنَّمَا هِيَ بِالْأَعْمَالِ لَا الْأَقْوَالِ.

ص: 656

[بَابُ الْقَوْلِ إِذَا سَمِعْتَ الرَّعْدَ]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ثُمَّ يَقُولُ إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ شَدِيدٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

11 -

بَابُ الْقَوْلِ إِذَا سَمِعْتَ الرَّعْدَ

1869 -

1822 - (مَالِكٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ الْأَسَدِيِّ الْمَدَنِيِّ الثِّقَةِ الْعَابِدِ، (أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ) الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِسَوْقِ السَّحَابِ، (تَرَكَ الْحَدِيثَ) الَّذِي كَانَ فِيهِ، (وَيَقُولُ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) ، أَوْ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، (وَ) يُسَبِّحُ (الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ، أَيِ اللَّهِ تَعَالَى، (ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ شَدِيدٌ) ، رَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالضِّيَاءُ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «أَقْبَلَتِ الْيَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ بِيَدَيْهِ مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ، لِيَسُوقَهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ، قَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ؟ قَالَ: صَوْتُهُ، قَالَ: صَدَقْتَ» "، انْتَهَى.

ص: 656

[بَاب مَا جَاءَ فِي تَرِكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَيَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُنَّ عَائِشَةُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

12 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي تَرِكَةِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم

" تَرِكَةِ "، بِفَتْحِ التَّاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَتُخَفَّفُ بِكَسْرِ الْأَوَّلِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ مِثْلُ كَلِمَةٍ وَكِلْمَةٍ، مَا خَلَّفَهُ الْمَيِّتُ، وَالْجَمْعُ تَرِكَاتٌ.

ص: 656

1870 -

1823 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ - أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -) وَهَلْ يُقَالُ لَهُنَّ أَيْضًا: أَمُّ الْمُؤْمِنَاتِ، أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ مُرَجَّحَانِ:(أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ (حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَيَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ الثُّمُنُ عَمَلًا بِعُمُومِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ.

(فَقَالَتْ لَهُنَّ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ:«فَقُلْتُ لَهُنَّ: أَلَا تَتَّقِينَ اللَّهَ، أَلَمْ تَعْلَمْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: (لَا نُورَثُ) » - بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ - مُخَفَّفَةً، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَرْفُوعًا:" «إِنَّا مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ» "، ( «مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ» ) بِالرَّفْعِ قَطْعًا خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: فَهُوَ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ مَا تَرَكْنَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ:" مَا تَرَكْنَا " صَدَقَةً، بِإِسْقَاطِ:" فَهُوَ " بِرَفْعِ " صَدَقَةٌ "، كَمَا تَوَارَدَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مَا تَرَكْنَا، الْكَلَامُ جُمْلَتَانِ: الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ اسْمِيَّةٌ، وَادَّعَى بَعْضُ الرَّافِضَةِ أَنَّ الصَّوَابَ قِرَاءَةُ: لَا " يُورَثُ " بِتَحْتِيَّةٍ أَوَّلَهُ، وَنَصْبِ " صَدَقَةٌ " عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ خِلَافُ الرِّوَايَةِ، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى بَعْضِ الْإِمَامِيَّةِ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ احْتَجَّ بِهِ عَلَى فَاطِمَةَ، وَهُمَا مِنْ أَفْصَحِ الْفُصَحَاءِ، وَأَعْلَمُ بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الرَّوَافِضُ، لَمْ يَكُنْ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حُجَّةٌ، وَلَا كَانَ جَوَابُهُ مُطَابِقًا لِسُؤَالِهَا، وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ أَنْصَفَ كَمَا فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَقَالَ فِي تَخْرِيجِهِ لِأَحَادِيثِ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُوجَدْ بِلَفْظِ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَوُجِدَ بِلَفْظِ: إِنَّا، وَمُفَادُهُمَا وَاحِدٌ، فَلَعَلَّ مَنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ: نَحْنُ، ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنِ الصِّدِّيقِ بِلَفْظِ:" «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» "، انْتَهَى.

وَذَهَبَ النَّحَّاسُ إِلَى صِحَّةِ نَصْبِ " صَدَقَةٌ " عَلَى الْحَالِ، وَأَنْكَرَهُ عِيَاضٌ لِتَأْيِيدِهِ مَذْهَبَ الْإِمَامِيَّةِ، لَكِنْ قَدَّرَهُ ابْنُ مَالِكٍ: مَا تَرَكْنَا مَتْرُوكٌ صَدَقَةً، فَحُذِفَ الْخَبَرُ، وَبَقِيَ الْحَالُ كَالْعِوَضِ مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ " وَنَحْنُ عُصْبَةً " بِالنَّصْبِ، انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ بِالنَّصْبِ حَتَّى يَتَعَسَّفَ لَهُ هَذَا التَّوْجِيهَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَذْفُ الْخَبَرِ، بَلْ يُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ الْإِمَامِيَّةُ، وَلِذَا أَنْكَرَهُ عِيَاضٌ، وَإِنْ صَحَّ فِي نَفْسِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُمْ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يُورَثُونَ، أَنَّهُمْ لَوْ وُرِّثُوا لَظُنَّ أَنَّ لَهُمْ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا لِوَارِثِهِمْ

ص: 657

فَيَهْلِكُ الظَّانُّ، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، أَوْ لِئَلَّا يَتَمَنَّى وَرَثَتُهُمْ مَوْتَهُمْ فَيَهْلِكُونَ، أَوْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَالْأَبِ لِأُمَّتِهِ، فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِلْجَمِيعِ، وَهُوَ مَعْنَى الصَّدَقَةِ الْعَامَّةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16](سورة النَّمْلِ: الْآيَةُ 16)، وَقَوْلُهُ عَنْ زَكَرِيَّا:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5 - 6](سورة مَرْيَمَ: الْآيَةُ 5، 6) ، فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ.

وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ خَوْفَ زَكَرِيَّا مِنْ مَوَالِيهِ كَانَ عَلَى مَالِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَلَى النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهَا فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُعْطِيهَا مَنْ شَاءَ، فَلَزِمَ أَنَّهُ يُورَثُ، مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ خَوْفَهُ مِنْهُمْ لِاحْتِمَالِ سُرْعَتِهِمْ مِنْ جِهَةِ تَغْيِيرِ أَحْكَامِ شَرْعِهِ، فَطَلَبَ وَلَدًا يَرِثُ نُبُوَّتَهُ لِيَحْفَظَهَا.

قَالَ الْبَاجِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.

وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: إِنَّ ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا خَاصَّةً.

وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ: جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ يُورَثُونَ، وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّخْلِيطِ لَا شُبْهَةَ فِيهَا مَعَ وُرُودِ هَذَا النَّصِّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْفَرَائِضِ، وَمُسْلِمٌ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ فِي الْمَغَازِي عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْخَرَاجِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَرَائِضِ.

ص: 658

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دَنَانِيرَ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1871 -

1824 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقْسِمُ» ) بِفَوْقِيَّةٍ أَوَّلَهُ، وَتَحْتِيَّةٍ رِوَايَتَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِتَاءٍ بَعْدَ الْقَافِ، وَأُخْرَى بِحَذْفِهَا، (وَرَثَتِي)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الرِّوَايَةُ بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى الْخَبَرِ - يَعْنِي الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ - فَفِي فَتْحِ الْبَارِي بِإِسْكَانِ الْمِيمِ عَلَى النَّهْيِ، وَبِضَمِّهَا عَلَى النَّفْيِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يُعَارِضَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْ مَا لَا يُورَثُ عَنْهُ، وَتَوْجِيهُ رِوَايَةِ النَّهْيِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ لَا يُخَلِّفُ شَيْئًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، فَنَهَاهُمْ عَنْ قِسْمَةِ مَا يُخَلِّفُ إِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ خَلَّفَ، وَسَمَّاهُمْ وَرَثَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ بِالْقُوَّةِ، لَكِنْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» "، انْتَهَى، يَعْنِي لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يُورَثُ، زَادَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ: أَوِ الْمُرَادُ لَا يُقْسَمُ مَالٌ تَرَكْتُهُ لِجِهَةِ الْإِرْثِ، فَأَتَى بِلَفْظِ: وَرَثَتِي لِيَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِمَا بِهِ الِاشْتِقَاقُ، وَهُوَ الْإِرْثُ، فَالْمَنْفِيُّ قَسْمُهُمْ بِالْإِرْثِ عَنْهُ (دَنَانِيرَ) ، كَذَا لِيَحْيَى بِالْجَمْعِ، وَلِسَائِرِ الرُّوَاةِ دِينَارًا بِالْإِفْرَادِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ الصَّوَابُ، انْتَهَى.

قِيلَ: وَهُوَ تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى.

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: وَلَا دِرْهَمًا، وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ، تَابَعَهُ عَلَيْهَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، فَيَتَّحِدُ مَعْنَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ رِوَايَةِ الرَّفْعِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُخَلِّفُ شَيْئًا مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِقَسْمِهِ

ص: 658

كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنَّ الَّذِي يُخَلِّفُهُ مِنْ غَيْرِهِمَا لَا يُقْسَمُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، بَلْ يُقْسَمُ مَنَافِعُهُ لِمَنْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ، ( «مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي» ) وَيَدْخُلُ فِيهِ كِسَوْتُهُنَّ، وَسَائِرُ اللَّوَازِمِ كَالْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ عَنِ الزَّوَاجِ بِسَبَبِهِ، أَوْ لِعِظَمِ حُقُوقِهِنَّ لِفَضْلِهِنَّ، وَقِدَمِ هِجْرَتِهِنَّ وَكَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِأَنَّهُنَّ كَمَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي مَعْنَى الْمُعْتَدَّاتِ: لِأَنَّهُنَّ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَبَدًا، فَجَرَتْ لَهُنَّ النَّفَقَةُ، وَتُرِكَتْ حُجَرُهُنَّ لَهُنَّ يَسْكُنَّهَا.

(وَمُؤْنَةِ عَامِلِي)، قِيلَ: هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْمُوَافِقُ لِمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ عَلَى النَّخْلِ، وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ، وَأَبْعَدُ مَنْ قَالَ هُوَ حَافِرُ قَبْرِهِ، وَقِيلَ: خَادِمُهُ وَقِيلَ: عَامَلُ الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا كَالْأَجِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أُجْرَةِ الْقَاسِمِ، قَالَهُ الْحَافِظُ.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْمُرَادُ كُلُّ عَامِلٍ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ خَلِيفَةٍ، أَوْ غَيْرِهِ، قَامَ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِشَرِيعَتِهِ فَهُوَ عَامِلٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم فَلَا بُدَّ أَنْ يُكْفَى مُؤْنَتَهُ، وَإِلَّا ضَاعَ.

(فَهُوَ) ، أَيِ الْمَتْرُوكُ بَعْدَمَا ذُكِرَ (صَدَقَةٌ) ، مَعْنَى لِأَنِّي لَا أُورَثُ، أَوْ لَا أُخَلِّفُ مَالًا، فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ النِّسَاءِ بِالنَّفَقَةِ، وَالْمُؤْنَةِ لِلْعَامِلِ، وَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ أَجَابَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ، كَمَا فِي الْفَتْحِ بِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي اللُّغَةِ: الْقِيَامُ بِالْكِفَايَةِ، وَالْإِنْفَاقُ بَدَلَ الْقُوتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ النَّفَقَةَ دُونَ الْمُؤْنَةِ، وَالسِّرُّ فِي التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَزْوَاجَهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، كَانَ لَا بُدَّ لَهُنَّ مِنَ الْقُوتِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْعَامِلُ لَمَّا كَانَ فِي صُورَةِ الْأَجِيرِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَا يَكْفِيهِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُرْوَةَ: فَكَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ بِيَدِ عَلِيٍّ مَنَعَهَا عَلِيٌّ عَبَّاسًا، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا، أَيْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَتَحْصِيلِ غَلَّاتِهَا لَا بِتَخْصِيصِ الْحَاصِلِ لِنَفْسِهِ، قَالَ: ثُمَّ بِيَدِ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ بِيَدِ حُسَيْنٍ، ثُمَّ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَحَسَنِ بْنِ حَسَنٍ كِلَاهُمَا كَانَا يَتَدَاوَلَانِهَا، ثُمَّ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ حَسَنٍ، وَهِيَ صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقًّا.

زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: ثُمَّ كَانَتْ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، حَتَّى وَلَّى هَؤُلَاءِ ; يَعْنِي بَنِي الْعَبَّاسِ، فَقَبَضُوهَا.

وَزَادَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: أَنَّ إِعْرَاضَ الْعَبَّاسِ عَنْهَا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ شُعْبَةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الْمَدَنِيَّ أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ مَكَثَتْ فِي عَهْدِهِ يُوَلِّي عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِهِ مَنْ يَقْبِضُهَا، وَيُفَرِّقُهَا فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْحَافِظُ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ، ثُمَّ تَغَيَّرَتِ الْأُمُورُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْوَصَايَا، وَالْخَمْسُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْفَرَائِضِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمٌ فِي الْمَغَازِي عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْخَرَاجِ.

ص: 659

[كتاب جهنم]

[بَاب مَا جَاءَ فِي فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ]

بَاب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي يُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً قَالَ إِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

57 -

كِتَابُ جَهَنَّمَ

1 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ

هِيَ وَالْجَنَّةُ مَخْلُوقَتَانِ الْآنَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصَرَحِهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعَزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعَزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

1872 -

1825 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي يُوقِدُونَ» ) فِي الدُّنْيَا، فَيَنْتَفِعُونَ بِهَا فِيهَا، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ: نَارُكُمْ هَذِهِ (جُزْءٌ)، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَاحِدٌ ( «مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» )، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْكَثْرَةِ، لَا الْعَدَدُ الْخَاصُّ، أَوِ الْحُكْمُ لِلزَّائِدِ، (فَقَالُوا) ، أَيِ الْحَاضِرُونَ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَسْمَاؤُهُمْ:(يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ إِنَّهَا (كَانَتْ) نَارُ بَنِي آدَمَ، (لَكَافِيَةً) مُجْزِيَةً فِي إِحْرَاقِ الْكُفَّارِ، وَتَعْذِيبِ الْفُجَّارِ، فَهَلَّا اكْتَفَى بِهَا؟ (قَالَ: إِنَّهَا فُضِّلَتْ) - بِضَمِّ الْفَاءِ، وَشَدِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ - (عَلَيْهَا) عَلَى نَارِ بَنِي آدَمَ (بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا)، قَالَ الطِّيبِيُّ مَا حَاصِلُهُ: أَعَادَ حِكَايَةَ تَفْضِيلِ

ص: 660

نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى نَارِ الدُّنْيَا إِشَارَةً إِلَى الْمَنْعِ مِنْ دَعْوَى الْإِجْزَاءِ، أَيْ لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ لِيَتَمَيَّزَ عَذَابُ اللَّهِ عَلَى الْمَخْلُوقِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: نَارُ الدُّنْيَا لَا تُنَاسِبُ نَارَ جَهَنَّمَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَشَدُّ عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ هَذِهِ النَّارِ، عُرِفَ عَذَابُ جَهَنَّمَ بِهَا، وَهَيْهَاتَ لَوْ وَجَدَ أَهْلُ الْجَحِيمِ مِثْلَ هَذِهِ النَّارِ، لَخَاضُوهَا هَرَبًا مِمَّا هُمْ فِيهِ.

زَادَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ: كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا، أَيْ حَرَارَةُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، مِثْلُ حَرَارَةِ نَارِكُمْ، وَنِكَايَتِهَا، وَسُرْعَةِ اشْتِعَالِهَا.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَلِذَا تَتَّقِدُ فِيمَا لَا تَتَّقِدُ فِيهِ نَارُ الدُّنْيَا كَالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ.

وَزَادَ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا انْتَفَعَ بِهَا أَحَدٌ.

وَنَحْوُهُ لِابْنِ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ وَزَادَ:«فَإِنَّهَا لَتَدْعُو اللَّهَ أَنْ لَا يُعِيدَهَا فِيهَا» .

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «هَذِهِ النَّارُ ضُرِبَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا انْتَفَعَ بِهَا أَحَدٌ» "، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سِمَاكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ مُسْلِمٍ كِلَاهُمَا بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ.

ص: 661

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ أَتُرَوْنَهَا حَمْرَاءَ كَنَارِكُمْ هَذِهِ لَهِيَ أَسْوَدُ مِنْ الْقَارِ وَالْقَارُ الزِّفْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1873 -

1826 - (مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) - بِضَمِّ السِّينِ - نَافِعٍ (بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتُرَوْنَهَا) - بِضَمِّ التَّاءِ -: «أَتَظُنُّونَهَا نَارَ جَهَنَّمَ (حَمْرَاءَ كَنَارِكُمْ هَذِهِ، لَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ وَالْقَارُ) » بِالْقَافِ: (الزِّفْتُ) قَالَ الْبَاجِيُّ: مِثْلُ هَذَا لَا يَعْلَمُهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، يَعْنِي لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ مَغِيبٍ فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ.

ص: 661

[كِتَابُ الصَّدَقَةِ]

[بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ]

‌باب التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا كَانَ إِنَّمَا يَضَعُهَا فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ يُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

58 -

كِتَابُ الصَّدَقَةِ

1 -

بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ

1874 -

1827 - (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الْأَنْصَارِيِّ (عَنْ أَبِي الْحُبَابِ) - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَمُوَحَّدَتَيْنِ مُخَفَّفًا - (سَعْدِ بْنِ يَسَارٍ) - بِتَحْتِيَّةٍ، وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ - مُرْسَلًا عِنْدَ يَحْيَى وَأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَأَسْنَدَهُ مَعْنٌ، وَابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي الْحُبَابِ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ» ) ، أَيْ مَكْسُوبٍ، وَالْمُرَادُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ تَعَاطِي التَّكَسُّبِ، أَوْ حُصُولِ الْمَكْسُوبِ بِغَيْرِ تَعَاطٍ كَالْمِيرَاثِ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الْكَسْبَ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ: الْحَلَالُ لِأَنَّهُ صِفَةُ كَسْبٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ الطَّيِّبِ الْمُسْتَلَذُّ بِالطَّبْعِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ الْحَلَالُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمَحْضُ أَوِ الْمُتَشَابِهُ بِهِ ; لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الْحَلَالِ عَلَى أَشْبَهِ الْأَقْوَالِ لِلْأَدِلَّةِ.

( «وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا» ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، التَّقْدِيرُ مَا قَبْلَهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ» "، أَيِ الْحَلَالُ، أَوِ الْمُتَشَابِهُ لَا الْحَرَامُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمُتَصَدِّقِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَهُوَ قَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ، فَلَوْ قَبِلَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.

وَقَالَ الْأَبِيُّ: الْقَبُولُ حُصُولُ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، إِذِ الْمَعْنَى لَا يُثِيبُ اللَّهُ مَنْ تَصَدَّقَ بِحَرَامٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْحَجُّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ الْقَبُولَ أَخَصُّ مِنَ الصِّحَّةِ، لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْفِعْلِ مُسْقِطًا لِلْفَرْضِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيُ الْأَعَمِّ، فَالْحَجُّ بِالْحَرَامِ صَحِيحٌ، إِذْ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَبَّلٌ، أَيْ لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَلَا يُتَعَقَّبُ هَذَا بِأَنَّهُ لَا وَاجِبَ إِلَّا وَفِيهِ ثَوَابٌ ; لِأَنَّ رَدَّ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ وَاجِبٌ، وَلَا ثَوَابَ فِيهِ، وَلَا يُشْكَلُ صِحَّةُ الْحَجِّ بِالْحَرَامِ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي النِّكَاحِ بِالْمَالِ الْحَرَامِ: أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ الزِّنَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَإِلَّا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ.

( «فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَضَعُهَا فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ» ) ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ

ص: 662

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ ثُمَيْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ» "، قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَشِبْهُهُ إِنَّمَا عُبِّرَ بِهِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ فِي خِطَابِهِمْ لِيَفْهَمُوا عَنْهُ، فَكَنَّى عَنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ وَبِالْكَفِّ، وَعَنْ تَضْعِيفِ أَجْرِهَا بِالتَّرْبِيَةِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْتَضَى يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ، وَيُؤْخَذُ بِهَا اسْتُعْمِلَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَاسْتُعِيرَ لِلْقَبُولِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ

تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

لَمَّا اسْتَعَارَ لِلْمَجْدِ الرَّايَةَ، اسْتَعَارَ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِهَا التَّلَقِّيَ بِالْيَمِينِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْجَارِحَةَ، وَقِيلَ الْيَمِينُ كِنَايَةٌ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ، إِذِ الشِّمَالُ تُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَفِّ الرَّحْمَنِ وَيَمِينِهِ: كَفُّ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَيَمِينُهُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ مِلْكٍ وَاخْتِصَاصٍ، لِوَضْعِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي كَفِّ الْآخِذِ وَيَمِينِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ سُرْعَةُ الْقَبُولِ، وَقِيلَ: حُسْنُهُ، وَلَعَلَّهُ يَصِحُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَفِّ: كِفَّةُ الْمِيزَانِ، وَكَفُّ كُلِّ شَيْءٍ كَفُّهُ وَكِفَّتُهُ.

وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْكِنَايَةُ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ بِالتَّلَقِّي بِالْيَمِينِ وَالْكَفِّ، لِتَثْبِيتِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَحْقِيقِهَا فِي النُّفُوسِ تَحْقِيقَ الْمَحْسُوسَاتِ، أَيْ لَا يَتَشَكَّكُ فِي الْقَبُولِ، كَمَا لَا يَتَشَكَّكُ مَنْ عَايَنَ التَّلَقِّيَ لِلشَّيْءِ بِيَمِينِهِ، لَا أَنَّ التَّنَاوُلَ كَالتَّنَاوُلِ الْمَعْهُودِ، وَلَا أَنَّ التَّنَاوُلَ بِجَارِحَةٍ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا نَتَوَهَّمُ فِيهَا تَشْبِيهًا، وَلَا نَقُولُ كَيْفَ هِيَ هَكَذَا، رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، انْتَهَى.

وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ، (يُرَبِّيهَا) ، أَيْ يُنَمِّيهَا لِصَاحِبِهَا بِمُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الْكَمِّيَّةِ، قَالَهُ عِيَاضٌ: وَقَدْ يَصِحُّ أَنَّ التَّرْبِيَةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنَّ ذَاتَهَا تَعْظُمُ، يُبَارِكُ اللَّهُ فِيهَا، وَيَزِيدُهَا مِنْ فَضْلِهِ، لِتَعْظُمَ فِي الْمِيزَانِ، وَتُثْقِلَهُ، ( «كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ» ) - بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ، وَشَدِّ الْوَاوِ - مُهْرَهُ لِأَنَّهُ يُفْلَى أَيْ يُفْطَمُ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ فَطِيمٍ مِنْ حَافِرٍ، وَالْجَمْعُ أَفْلَاءٌ كَعَدُوٍّ وَأَعْدَاءٍ، وَحُكِيَ كَسْرُ الْفَاءِ، وَسُكُونُ اللَّامِ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: إِذَا فَتَحْتَ الْفَاءَ شَدَّدْتَ الْوَاوَ، وَإِذَا كَسَرْتَهَا سَكَّنْتَ اللَّامَ، وَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ لِأَنَّهُ يَزِيدُ زِيَادَةً بَيِّنَةً، وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ نِتَاجُ الْعَمَلِ، وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ النِّتَاجُ إِلَى التَّرْبِيَةِ إِذَا كَانَ فَطِيمًا، فَإِذَا أَحْسَنَ الْعِنَايَةَ، انْتَهَى إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ ابْنِ آدَمَ لَا سِيَّمَا الصَّدَقَةُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ بِكَسْبٍ طَيِّبٍ، لَا يَزَالُ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهَا بِكَسْبِهَا نَعْتَ الْكَمَالِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى نِصَابٍ تَقَعُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ نِسْبَةَ مَا بَيْنَ التَّمْرَةِ إِلَى الْجَبَلِ.

(أَوْ فَصِيلَهُ) ، وَهُوَ وَلَدُ النَّاقَةِ ; لِأَنَّهُ فُصِلَ عَنْ رَضَاعِ أُمِّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَوْ قَلُوصَهُ، وَهِيَ النَّاقَةُ الْمُسِنَّةُ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ: مُهْرَهُ، أَوْ وَصَيْفَهُ، أَوْ فَصِيلَهُ،

ص: 663

وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَلُوَّهُ، أَوْ قَالَ: فَصِيلَهُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ " أَوْ " لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي.

( «حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» ) ، لِتُثْقِلَ فِي مِيزَانِهِ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ:" «حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ» "، وَلَهُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ:" «حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ» "، وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ:" «حَتَّى يُوَافَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ» "، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 276)، وَلِلتِّرْمِذِيِّ:" «حَتَّى أَنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ» "، قَالَ الْحَافِظُ: فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَيْنَهَا تَعْظُمُ لِتُثْقِلَ فِي الْمِيزَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ثَوَابِهَا، وَفِي التَّمْهِيدِ: قِيلَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، وَإِنَّا نَرَى أَصْحَابَ الرِّبَا تُنْمَى أَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا حَيْثُ يُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَيُضَعِّفُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إِلَى أَعْمَالِهِ نَظَرَهَا مَمْحُوقَةً، أَوْ مُضَاعَفَةً، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ، انْتَهَى.

وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ.

ص: 664

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1875 -

1828 - (مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ) زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْخَزْرَجِيُّ (أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ) ، أَيْ أَكْثَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ، فَهُوَ مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى التَّفْضِيلِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ (بِالْمَدِينَةِ مَالًا) ، تَمْيِيزٌ أَيْ مِنْ حَيْثُ الْمَالُ (مِنْ نَخْلٍ) بَيَانٌ لِمَالٍ، (وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ) ، هِيَ حَوَائِطُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَتْ دَارُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَالدَّارُ الَّتِي تَلِيهَا حَوَائِطَ لِأَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ حَائِطًا لَهُ، يُقَالُ لَهَا: بَيْرُحَاءُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَمُرَادُهُ بِدَارِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّتِي صَارَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعُرِفَتْ بِهِ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ، وَقَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ - بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ - مُصَغَّرٌ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ بِجِيمٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَنُسِبَ إِلَيْهِ بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ، وَإِلَّا فَالَّذِي بَنَاهُ مُعَاوِيَةُ، لَمَّا اشْتَرَى حِصَّةَ حَسَّانَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، لِيَكُونَ لَهُ حِصْنًا، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا شَارِعٌ عَلَى خَطِّ بَنِي حُدَيْلَةَ، وَالْآخَرُ فِي الزَّاوِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَالَّذِي بَنَاهُ لِمُعَاوِيَةَ الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شَبَّةَ، وَغَيْرُهُ (بَيْرُحَاءَ)، قَالَ الْبَاجِيُّ: قَرَأْنَاهُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ

ص: 664

وَالْخَفْضِ وَالْجَمْعِ وَاللَّفْظَانِ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ، وَلَيْسَتْ مُضَافَةً إِلَى مَوْضِعٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ: إِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالرَّاءِ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَأَبُو ذَرٍّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ عَلَى أَنَّ مَنْ رَفَعَ الرَّاءَ حَالَ الرَّفْعِ، فَقَدْ غَلِطَ، وَعَلَى ذَلِكَ كُنَّا نَقْرَؤُهُ عَلَى شُيُوخِ بَلَدِنَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْمَشْرِقِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ بِقَصْرِ بَنِي حُدَيْلَةَ قِبْلِيَّ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.

وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: بَيْرَحَاءَ، بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ، وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، وَجَاءَ فِي ضَبْطِهَا أَوْجُهٌ، جَمَعَهَا فِي النِّهَايَةِ، فَقَالَ: يُرْوَى بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةٌ.

وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ بَرَيْحَا - بِفَتْحِ وَكَسْرِ الرَّاءِ - مُقَدَّمَةً عَلَى التَّحْتِيَّةِ.

وَفِي أَبِي دَاوُدَ: بَأَرْيَحَاءَ مِثْلُهُ، لَكِنْ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَفْصَحُهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ مَقْصُورٌ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الصَّغَانِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ فَعَيْلَا مِنَ الْبَرَاحِ، قَالَ: وَمَنْ ذَكَرَهُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، فَظَنَّ أَنَّهَا بِئْرٌ مِنْ آبَارِ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ صَحَّفَ، انْتَهَى.

وَتُعُقِّبَ فِيمَا نَسَبَهُ لِلنِّهَايَةِ بِأَنَّ الَّذِي فِيهَا إِنَّمَا هُوَ خَمْسٌ فَقَطْ، فَنَصَبَهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَالْمَدِّ فِيهَا، وَبِفَتْحِهِمَا وَالْقَصْرِ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: رُوِّينَا بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَالرَّاءِ وَبِكَسْرِ الْبَاءِ مَعَ فَتْحِ الرَّاءِ، وَضَمِّهَا، يُسَمَّى بِهِ، وَلَيْسَ اسْمَ بِئْرٍ، وَجَزَمَ التَّيْمِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْبُسْتَانُ، قَالَ: لِأَنَّ بَسَاتِينَ الْمَدِينَةِ تُدْعَى بِآبَارِهَا، أَيِ الْبُسْتَانَ الَّذِي فِيهِ بَيْرُحَاءُ، وَجَزَمَ الصَّغَانِيُّ بِأَنَّهَا اسْمُ أَرْضٍ لَا بِئْرٍ، قَالَ فِي اللَّامِعِ: وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَرْضَ أَوِ الْبُسْتَانَ تُسَمَّى بَاسِمِ الْبِئْرِ الَّتِي فِيهِ، وَصَوَّبَ الصَّغَانِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْمَجْدُ الشِّيرَازِيُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَتْحَ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنَّهَا الْمَسْمُوعَةُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ.

قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاخْتُلِفَ فِي حَاءٍ هَلْ هِيَ اسْمُ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ مَكَانٍ، أُضِيفَتْ إِلَيْهِ الْبِئْرُ، أَوْ هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ لِلْإِبِلِ؟ فَكَأَنَّ الْإِبِلَ كَانَتْ تَرْعَى هُنَاكَ وَتُزْجَرُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَأُضِيفَتِ الْبِئْرُ إِلَى اللَّفْظَةِ الْمَذْكُورَةِ.

(وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ) النَّبَوِيِّ، أَيْ مُقَابِلَتَهُ قَرِيبَةً مِنْهُ، (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَيَسْتَظِلُّ فِيهَا، (وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا) ، أَيْ فِي بَيْرُحَاءَ (طَيِّبٍ) بِالْجَرِّ صِفَةُ مَاءٍ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ، وَتَفْضِيلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَإِبَاحَةُ الشُّرْبِ مِنْ دَارِ الصَّدِيقِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا إِذَا عُلِمَ طِيبُ نَفْسِهِ، وَاتِّخَاذُ الْحَوَائِطِ وَالْبَسَاتِينِ، وَدُخُولُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ فِيهَا، وَالِاسْتِظْلَالُ بِظِلِّهَا، وَالرَّاحَةُ وَالتَّنَزُّهُ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قُصِدَ بِهِ إِجْمَامُ النَّفْسِ مِنْ تَعَبِ الْعِبَادَةِ، وَتَنْشِيطُهَا فِي الطَّاعَةِ.

(قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ» ) ، أَيْ لَا تَبْلُغُوا حَقِيقَةَ الْبِرِّ الَّذِي هُوَ كَمَالُ الْخَيْرِ، أَوْ لَنْ تَنَالُوا بِرَّ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَةُ وَالرِّضَا وَالْجَنَّةُ، (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ،

ص: 665

أَيْ بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ مِنَ الْمَالِ، أَوْ مَا يَعُمُّهُ وَغَيْرُهُ، كَبَذْلِ الْجَاهِ فِي مُعَاوَنَةِ النَّاسِ، وَالْبَدَنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهْجَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

(قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ)، زَادَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، ( «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبَرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ» ) - بِشَدِّ الْيَاءِ - (بَيْرُحَاءُ) خَبَرُ إِنَّ، ( «وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا» ) ، أَيْ خَيْرَهَا، (وَذُخْرَهَا) بِضَمِّ الذَّالِ، وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، أَيْ أُقَدِّمُهَا فَأَدَّخِرُهَا لِأَجِدَهَا (عِنْدَ اللَّهِ) تَعَالَى.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ لَمَّا أُنْزِلَتِ الْآيَةُ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ:«أَرَى رَبَّنَا يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا فَأَسْتَشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي جَعَلْتُ أَرْضِي بَيْرُحَاءَ لِلَّهِ، (فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ) » ، وَلِلتَّنِّيسِيِّ، وَالْقَعْنَبِيِّ: حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَوَّضَ أَبُو طَلْحَةَ تَعْيِينَ مَصْرِفِهَا لَهُ، صلى الله عليه وسلم.

لَكِنْ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ بِأَنَّهُ جَعَلَهَا وَقْفًا، وَلِذَا قِيلَ: لَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لِشَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْوَقْفِ.

(قَالَ) أَنَسٌ: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَبَخْ) ، بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ تُنَوَّنُ مَعَ التَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ بِالْكَسْرِ وَبِالرَّفْعِ وَالسُّكُونِ، وَيَجُوزُ التَّنْوِينُ، لُغَاتٌ، وَلَوْ كُرِّرَتْ فَالْمُخْتَارُ تَنْوِينُ الْأُولَى، وَتَسْكِينُ الثَّانِيَةِ، وَمَعْنَاهُ تَفْخِيمُ الْأَمْرِ وَالْإِعْجَابُ بِهِ، قَالَهُ الْحَافِظُ:(ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ) مَرَّتَيْنِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: رَوَاهُ يَحْيَى، وَجَمَاعَةٌ بِتَحْتِيَّةٍ وَجِيمٍ، أَيْ يَرُوحُ ثَوَابُهُ فِي الْآخِرَةِ، انْتَهَى.

وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، رَوَاهُ يَحْيَى، وَجَمَاعَةٌ " رَابِحٌ " مِنَ الرِّبْحِ، أَيْ رَابِحٌ صَاحِبُهُ وَمُعْطِيهِ.

وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ بِتَحْتِيَّةٍ، أَيْ يَرُوحُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى عِنْدِي، انْتَهَى.

وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الدَّانِيِّ فِي أَطْرَافِ الْمُوَطَّأِ، رَوَاهُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ بِالشَّكِّ، انْتَهَى.

وَمَعْنَى رَابِحٍ - بِمُوَحَّدَةٍ -: ذُو رِبْحٍ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ، أَيْ يَرْبَحُ صَاحِبُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَالٌ مَرْبُوحٌ فِيهِ، وَمَعْنَاهُ بِتَحْتِيَّةٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الرَّوَاحِ نَقِيضُ الْغَدِ، وَأَنَّهُ قَرِيبُ الْفَائِدَةِ يَصِلُ نَفْعُهُ إِلَى صَاحِبِهِ كُلَّ رَوَاحٍ، لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَتَكَلَّفَ فِيهِ إِلَى مَشَقَّةٍ وَسَيْرٍ، أَوْ يَرُوحُ بِالْأَجْرِ، وَيَغْدُو بِهِ، وَاكْتَفَى بِالرَّوَاحِ عَنِ الْغُدُوِّ لِعِلْمِ السَّامِعِ، أَوْ مَنْ شَأْنُهُ الرَّوَاحُ، وَهُوَ

ص: 666

الذَّهَابُ وَالْفَوَاتُ، فَإِذَا ذَهَبَ فِي الْخَيْرِ فَهُوَ أَوْلَى، وَادَّعَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ رِوَايَةَ التَّحْتِيَّةِ تَصْحِيفٌ.

(وَقَدْ سَمِعْتُ) أَنَا (مَا قُلْتَ) أَنْتَ (فِيهِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: قَبِلْنَاهُ مِنْكَ، وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ فَاجْعَلْهُ فِي الْأَقْرَبِينَ، (فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ) - بِضَمِّ اللَّامِ مُضَارِعٌ - (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) ، عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: «فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيٍّ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِي مِنْهَا، فَبَاعَ حَسَّانُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَبِيعُ صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ؟ فَقَالَ: أَلَا أَبِيعُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بِصَاعٍ مِنْ دَرَاهِمَ» ؟ وَفِي مُرْسَلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: فَرَدَّهُ عَلَى أَقَارِبِهِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَخِيهِ، أَوِ ابْنِ أَخِيهِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَنُبَيْطِ بْنِ جَابِرٍ، فَتَقَاوَمُوهُ فَبَاعَ حَسَّانُ حِصَّتَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَيْ بَعْدِ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: «فَقَسَمَهَا صلى الله عليه وسلم فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ، أَيْ أَقَارِبِ أَبِي طَلْحَةَ» ، وَإِضَافَةُ الْقَسْمِ إِلَى الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، وَإِنْ شَاعَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَفِيهِ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ ; لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ فَهِمْ مِنَ الْآيَةِ تَنَاوُلَ ذَلِكَ الْجَمْعِ أَفْرَادَهُ، فَلَمْ يَقِفْ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ الْبَيَانَ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ بَلْ بَادَرَ إِلَى إِنْفَاقِ مَا يُحِبُّهُ وَأَقَرَّهُ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي طَلْحَةَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتِ الْحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنَ الْمَحْبُوبِ، فَتَرَقَّى هُوَ إِلَى إِنْفَاقِ أَحَبِّ الْمَحْبُوبِ فَصَوَّبَهُ صلى الله عليه وسلم وَشَكَرَ فِعْلَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَهُ، وَكَنَّى عَنْ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بَخْ، وَزِيَادَةُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى نِصَابِ الزَّكَاةِ، خِلَافًا لِمَنْ قَيَّدَهَا بِهِ، وَصَدَقَةُ الصَّحِيحِ بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِهِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلْ أَبَا طَلْحَةَ عَنْ قَدْرِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ، وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ:«الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ، وَفِيهِ جَوَازُ حُبِّ الْمَالِ لِلرَّجُلِ الْفَاضِلِ الْعَالِمِ، وَأَنَّهُ لَا نَقْصَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْإِنْسَانِ بِقَوْلِهِ:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8](سورة الْعَادِيَاتِ: الْآيَةُ 8)، وَالْخَيْرُ: الْمَالُ اتِّفَاقًا وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الزَّكَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْوِكَالَةِ عَنْ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ، وَفِي الْوَقْفِ، وَفِي الْأَشْرِبَةِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَفِي التَّفْسِيرِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَمُسْلِمٌ فِي الزَّكَاةِ عَنْ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ عَنْ إِسْحَاقَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.

ص: 667

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1876 -

1829 - « (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَعْطُوا السَّائِلَ) الَّذِي يَسْأَلُ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ (وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ) » ; يَعْنِي لَا تَرُدُّوهُ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى حَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى غِنَاهُ كَرُكُوبِ فَرَسٍ، فَإِنَّهُ لَوْلَا حَاجَتُهُ لِلسُّؤَالِ مَا بَذَلَ وَجْهَهُ، بَلْ هَذَا وَشِبْهُهُ مِنَ الْمَسْتُورِينَ الَّذِينَ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.

وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعَثَ مَالًا يُفَرَّقُ بِالرِّقَّةِ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي بَعَثَ مَعَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَبْعَثُنِي إِلَى قَوْمٍ لَا أَعْرِفُهُمْ، وَفِيهِمْ غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ، فَقَالَ كُلُّ مَنْ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْكَ فَأَعْطِهِ.

وَزُعِمَ أَنَّ الْمُرَادَ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ يَطْلُبُ عَلَفَهُ وَطَعَامَهُ، تَعَسُّفٌ رَكِيكٌ.

قَالَ الْحَرَّانِيُّ: وَلَوْ فِي مِثْلِهِ تَجِيءُ مُنَبِّهَةً عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، وَمَا بَعْدَهَا جَاءَ نَصًّا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَا تَنْدَرِجُ فِيمَا قَبْلَهَا، فَكَوْنُهُ عَلَى فَرَسٍ يُؤْذِنُ بِغِنَاهُ فَلَا يَلِيقُ إِعْطَاؤُهُ دَفْعًا لِلتَّوَهُّمِ.

وَقَالَ أَبُو حَيَّانِ: هَذِهِ الْوَاوُ لِعَطْفِ حَالٍ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ تَضَمَّنَهَا السَّابِقُ، وَالْمَعْنَى أَعْطُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَلَا تَجِيءُ هَذِهِ الْحَالُ إِلَّا مُنَبِّهَةً عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ عُمُومِ الْحَالِ الْمَحْذُوفَةِ، فَأُدْرِجَ تَحْتَهُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَعْطِ السَّائِلَ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، انْتَهَى.

وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى إِعْطَاءِ السَّائِلِ وَإِنْ جَلَّ، وَلَوْ مَا قَلَّ كَمَا يُفِيدُهُ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ، لَكِنْ إِذَا وَجَدَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَهَمُّ، وَإِلَّا فَلَا ضَيْرَ فِي رَدِّهِ كَمَا يُفِيدُهُ أَحَادِيثُ أُخَرُ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ فِي إِرْسَالِ هَذَا الْحَدِيثِ خِلَافًا عَنْ مَالِكٍ، وَلَيْسَ فِيهِ مُسْنَدٌ يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا أَعْلَمُ، انْتَهَى.

وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ ضَعِيفٌ، نَعَمْ لَهُ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا:" «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» "، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، قَالَهُ الْعِرَاقِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: سَنَدُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.

وَجَاءَ بِلَفْظِ الْمُوَطَّأِ وَجْهٌ آخَرُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ، وَضَعَّفَهُ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرْسَلَ صَحِيحٌ، وَتَتَقَوَّى رِوَايَةُ الْوَصْلِ بِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ، وَاعْتِضَادِهَا بِالْمُرْسَلِ.

ص: 668

وَحَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهَا قَالَتْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ أَنْ تُهْدِيَ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1877 -

1830 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْعَدَوِيِّ (عَنْ عَمْرِو) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (بْنِ مُعَاذِ) بْنِ

ص: 668

سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ (الْأَشْهَلِيِّ الْأَنْصَارِيِّ) الْأَوْسِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيِّ (عَنْ جَدَّتِهِ) يُقَالُ: اسْمُهَا حَوَّاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ صَحَابِيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ، (أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ) ، رُوِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُنَادًى مُفْرَدٌ الْمُؤْمِنَاتِ صِفَةٌ لَهُ، فَيُرْفَعُ عَلَى اللَّفْظِ، وَيُنْصَبُ بِالْكَسْرَةِ عَلَى الْمَحَلِّ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُنَادًى مُفْرِدٌ مُضَافٌ، وَ " الْمُؤْمِنَاتِ " صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نِسَاءَ النُّفُوسِ، أَوِ الطَّائِفَةِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَخَرَجَ عَنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنَّهَا مِنْهَا بِتَأْوِيلِ نِسَاءٍ بِفَاضِلَاتٍ، أَيْ فَاضِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رِوَايَةَ الْإِضَافَةِ، وَرَدَّهُ ابْنُ السَّيِّدِ بِأَنَّهَا قَدْ صَحَّتْ نَقْلًا، وَسَاعَدَتْهَا اللُّغَةُ، فَلَا مَعْنَى لِلْإِنْكَارِ.

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: «يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ (لَا تُحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ أَنْ تُهْدِيَ لِجَارَتِهَا) شَيْئًا (وَلَوْ) كَانَ (كُرَاعَ شَاةٍ) » - بِضَمِّ الْكَافِ - مَا دُونُ الْعَقِبِ، وَخَصَّ النِّسَاءَ لِأَنَّهُنَّ مَوَادُّ الْمَوَدَّةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَلِأَنَّهُنَّ أَسْرَعُ انْتِقَالًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، (مُحْرَقًا) نَعْتٌ لِـ " كُرَاعَ "، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ فَحَقُّهُ مُحْرَقَةً، لَكِنْ وَرَدَتِ الرِّوَايَةُ هَكَذَا فِي الْمُوَطَّآتِ وَغَيْرِهَا، وَقَلَّ أَنْ تُعَرِّضَ الْعَرَبُ بِذِكْرِهِ، فَلَعَلَّ الرِّوَايَةَ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِلْمُهْدَى إِلَيْهَا، قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَمَرَّ هَذَا الْحَدِيثُ سَنَدُهُ وَمَتْنُهُ فِي جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُطْعَمُ، وَإِنْ قَلَّ، وَأَعَادَهُ هُنَا إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ، وَإِنْ قَلَّتْ، وَالنَّهْيُ عَنِ احْتِقَارِهَا فَلَا تَكْرَارَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِي ذِكْرِ الْقَلِيلِ تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ الْكَثِيرِ لِمَنْ فَهِمَ مَعْنَى الْخِطَابِ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:

افْعَلِ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْتَ وَإِنْ

كَانَ قَلِيلًا، فَلَنْ تُطِيقَ لِكُلِّهِ.

وَمَتَى تَفْعَلُ الْكَثِيرَ مِنَ الْخَيْرِ

إِذَا كُنْتَ تَارِكًا لِأَقَلِّهِ

وَأَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقِ:

لَوْ قَدْ رَأَيْتَ الصَّغِيرَ مَنْ عَمِلَ الْـ

ـخَيْرِ ثَوَابًا عَجِبْتَ مِنْ كِبَرِهِ

أَوْ قَدْ رَأَيْتَ الْحَقِيرَ مِنْ عَمَلِ

الشَّرِّ جَزَاءً شَفَقْتَ مِنْ شَرِّهِ

ص: 669

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِسْكِينًا سَأَلَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ وَلَيْسَ فِي بَيْتِهَا إِلَّا رَغِيفٌ فَقَالَتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا أَعْطِيهِ إِيَّاهُ فَقَالَتْ لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ أَعْطِيهِ إِيَّاهُ قَالَتْ فَفَعَلْتُ قَالَتْ فَلَمَّا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٌ مَا كَانَ يُهْدِي لَنَا شَاةً وَكَفَنَهَا فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ كُلِي مِنْ هَذَا هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1877 -

1831 - (مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ: عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ مِسْكِينًا سَأَلَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ

ص: 669

وَلَيْسَ فِي بَيْتِهَا إِلَّا رَغِيفٌ) وَاحِدٌ (فَقَالَتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا) - لَمْ تُسَمَّ -: (أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، فَقَالَتْ: لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، قَالَتْ:) الْمُوَلَّاةُ (فَفَعَلْتُ) أَعْطَيْتُهُ الرَّغِيفَ (قَالَتْ: فَلَمَّا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٍ) شَكَّتْ (مَا كَانَ يُهْدِي لَنَا) شَيْئًا قَبْلَ ذَلِكَ (شَاةً) مَفْعُولُ أَهْدَى، (وَكَفَنَهَا) أَيْ مَطْبُوخَةً لِلْأَكْلِ (فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ فَقَالَتْ: كُلِي مِنْ هَذَا) ، أَيْ لَحْمِ الشَّاةِ (هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ) الرَّغِيفِ الَّذِي أَرَدْتِ مَنْعِي عَنْ إِعْطَائِهِ لِلسَّائِلِ.

ص: 670

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ مِسْكِينًا اسْتَطْعَمَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيْهَا عِنَبٌ فَقَالَتْ لِإِنْسَانٍ خُذْ حَبَّةً فَأَعْطِهِ إِيَّاهَا فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَعْجَبُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَتَعْجَبُ كَمْ تَرَى فِي هَذِهِ الْحَبَّةِ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1877 -

1832 - (مَالِكٌ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مِسْكِينًا اسْتَطْعَمَ عَائِشَةَ - أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - وَبَيْنَ يَدَيْهَا عِنَبٌ، فَقَالَتْ لِإِنْسَانٍ: خُذْ حَبَّةً فَأَعْطِهِ إِيَّاهَا فَجَعَلَ) ذَلِكَ الْإِنْسَانُ (يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَتَعَجَّبُ) ، إِذْ لَا تَقَعُ حَبَّةُ عِنَبٍ مَوْقِعًا مِنَ الْمُسْتَطْعِمِ، (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَتَعْجَبُ كَمْ تَرَى فِي هَذِهِ الْحَبَّةِ مِنْ مِثْقَالِ) ، أَيْ زِنَةِ (ذَرَّةٍ)، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47](سورة الْأَنْبِيَاءِ: الْآيَةُ 47) ، أَيْ مِنْ نَقْصِ حَسَنَةٍ، أَوْ زِيَادَةِ سَيِّئَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا.

ص: 670

[بَاب مَا جَاءَ فِي التَّعَفُّفِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ]

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ ثُمَّ قَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

2 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ

أَيْ فِي كُلِّ شَيْءٍ غَيْرِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ.

1880 -

1833 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) - بِتَحْتِيَّةٍ فَزَايٍ -

ص: 670

(اللِّيثِيِّ) بِمُثَلَّثَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقِيلَ: مَوْلَاهُمْ (الْمَدَنِيِّ) نَزِيلُ الشَّامِ مِنَ الثِّقَاتِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَمِائَةٍ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ أُنَاسًا) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ - (مِنَ الْأَنْصَارِ) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ يَتَعَيَّنْ لِي أَسْمَاؤُهُمْ إِلَّا أَنَّ فِي النَّسَائِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الرَّاوِيَ مِنْهُمْ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: أَنَّهُ خُوطِبَ بِبَعْضِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ أَنْصَارِيًّا إِلَّا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، « (سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ) ثَانِيًا (فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ) » بِكَسْرِ الْفَاءِ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ فَرَغَ (مَا عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ) مَا مَوْصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ، (فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ) بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ لَنْ أَجْعَلَهُ دَخِيرَةً لِغَيْرِكُمْ، أَوْ لَنْ أَحْبِسَهُ، وَأَخْبَأَهُ وَأَمْنَعَهُ إِيَّاهُ، (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ) بِفَاءَيْنِ، أَيْ يَطْلُبِ الْعِفَّةَ عَنِ السُّؤَالِ (يُعِفَّهُ اللَّهُ) ، بِنَصْبِ الْفَاءِ، أَيْ يَصُونَهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ يَرْزُقَهُ الْعِفَّةَ، أَيِ الْكَفِّ عَنِ الْحَرَامِ، (وَمَنْ يَسْتَغْنِ) يُظْهِرِ الْغِنَى بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْيَسِيرِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ (يُغْنِهِ اللَّهُ) ، أَيْ يَمُدَّهُ بِالْغِنَى مِنْ فَضْلِهِ.

(وَمَنْ يَتَصَبَّرْ) يُعَالِجِ الصَّبْرَ وَيَتَكَلَّفْهُ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَكَارِهِ الدُّنْيَا، (يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) : يَرْزُقُهُ اللَّهُ الصَّبْرَ، وَيُعِينُهُ عَلَيْهِ، وَيُوَفِّقُهُ لَهُ، (وَمَا أُعْطِيَ) ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (أَحَدٌ) نَائِبَهُ (عَطَاءً) ، نُصِبَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأُعْطِيَ، (هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ) ، لِجَمْعِهِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَلِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْبَاجِيُّ: أَمْرٌ يَدُومُ لَهُ الْغِنَى بِهِ لَا يَفْنَى، وَمَعَ عَدَمِهِ لَا يَدُومُ لَهُ الْغِنَى وَإِنْ كَثُرَ، وَرُبَّمَا يَغْنَى، وَيَمْتَدُّ الْأَمَلُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ الصَّبْرِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ نَفْسِهِ الْعِفَّةَ عَنِ السُّؤَالِ، وَلَمْ يُظْهِرْ الِاسْتِغْنَاءَ يُعِفَّهُ اللَّهُ، أَيْ يُصَيِّرُهُ عَفِيفًا، وَمَنْ تَرَقَّى عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ إِظْهَارِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْخَلْقِ، لَكِنْ إِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا لَمْ يَرُدَّهُ، يَمْلَأُ اللَّهُ قَلْبَهُ غِنًى، وَمَنْ فَازَ بِالْقَدَحِ الْمُعَلَّى وَتَصَبَّرَ، وَلَمْ يَسْأَلْ وَإِنْ أُعْطِيَ لَمْ يَقْبَلْ، فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَامِعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، انْتَهَى.

وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ السَّخَاءِ، وَإِنْفَاذِ أَمْرِ اللَّهِ، وَإِعْطَاءِ السَّائِلِ مَرَّتَيْنِ، وَالِاعْتِذَارِ إِلَى السَّائِلِ، وَالْحَضِّ عَلَى التَّعَفُّفِ، وَجَوَازِ السُّؤَالِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ وَالصَّبْرَ حَتَّى يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ بِلَا مَسْأَلَةٍ.

وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الزَّكَاةِ، وَالْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 671

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1881 -

1834 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ» ) جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَقَعَتْ حَالًا، (وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ) ، أَيْ يَحُضُّ عَلَيْهَا الْأَغْنِيَاءَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ اسْمِيَّةٌ أَيْضًا، وَلِلْقَعْنَبِيِّ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْحَالِيَّةِ، (وَ) يَذْكُرُ (التَّعَفُّفَ) بِفَاءَيْنِ (عَنِ الْمَسْأَلَةِ) ، أَيْ يَحُضُّ الْفَقِيرَ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنْهَا، أَوْ يَحُضُّهُ عَلَى التَّعَفُّفِ، وَيَذُمُّ الْمَسْأَلَةَ، ( «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» )، قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا، سُمِّيَتْ يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا ; لِأَنَّهُ أَرْفَعُ دَرَجَةً وَمَحَلًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

(وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ) ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَنْفَقَ، هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَذَا قَالَ الْأَكْثَرُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ، وَقَالَ وَاحِدٌ عَنْهُ: الْمُتَعَفِّفَةُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ الْحَافِظُ الْوَاحِدُ الْقَائِلُ " الْمُتَعَفِّفَةُ " بِعَيْنٍ وَفَاءَيْنِ هُوَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَتَابَعَهُ أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ، فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا مَوْصُولَةً، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادٍ بِلَفْظِ: وَالْيَدُ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: الْمُتَعَفِّفَةُ فَقَدْ صَحَّفَ، انْتَهَى.

وَرَجَّحَ الْخَطَّابِيُّ الثَّانِيَةَ بِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّعَفُّفِ عَنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَجْوِيزُ تَرْجِيحِهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ. . . إِلَخْ، كَلَامٌ مُجْمَلٌ فِي مَعْنَى الْعِفَّةِ عَنِ السُّؤَالِ، وَقَوْلُهُ: الْيَدُ الْعُلْيَا بَيَانٌ لَهُ، وَهُوَ أَيْضًا مُبْهَمٌ، فَيَنْبَغِي تَفْسِيرُهُ بِالْعِفَّةِ لِيُنَاسِبَ الْمُجْمَلَ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْمُنْفِقَةِ لَا يُنَاسِبُ الْمُجْمَلَ، لَكِنْ إِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِقَوْلِهِ:(وَ) الْيَدُ (السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ) لِدَلَالَتِهَا عَلَى عُلُوِّ الْمُنْفِقَةِ، وَسَفَالَةِ السَّائِلَةِ، وَرَذَالَتِهَا، وَهِيَ مَا يُسْتَنْكَفُ مِنْهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْفِقَةِ أَرْجَحُ نَقْلًا وَدِرَايَةً، انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رِوَايَةُ مَالِكٍ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِالْأُصُولِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ:«قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا» ، قَالَ الْحَافِظُ: وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا:" «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ: فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى» "، وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ مَرْفُوعًا:" «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ يَدِ الْمُعْطِي، وَيَدُ الْمُعْطِي فَوْقَ يَدِ الْمُعْطَى، وَيَدُ الْمُعْطَى أَسْفَلُ الْأَيْدِي» "، وَلِأَحْمَدَ وَالْبَزَّارُ عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ:" «الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ هِيَ الْعُلْيَا، وَالسَّائِلَةُ هِيَ السُّفْلَى» "، فَهَذِهِ

ص: 672

الْأَحَادِيثُ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ الْمُعْطِيَةُ، وَأَنَّ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْ تَبَعًا لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا التَّفْسِيرُ نَصٌّ مِنَ الشَّارِعِ يَدْفَعُ الْخِلَافَ فِي نَوَائِلِهِ، وَادَّعَى أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّانِي فِي أَطْرَافِ الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ مُدْرَجٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مُسْتَنَدًا، نَعَمْ فِي الصَّحَابَةِ لِلْعَسْكَرِيِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ:«إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَلَا أَحْسَبُ الْيَدَ السُّفْلَى إِلَّا السَّائِلَةَ، وَلَا الْعُلْيَا إِلَّا الْمُعْطِيَةَ» ، فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّفْسِيرَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، لَكِنْ يُؤَيَّدُ لِرَفْعِ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَقِيلَ: الْيَدُ السُّفْلَى الْآخِذَةُ سَوَاءٌ كَانَ بِسُؤَالٍ، وَبِلَا سُؤَالٍ، وَقَوَّاهُ قَوْمٌ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ يَدِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: التَّحْقِيقُ أَنَّ السُّفْلَى يَدُ السَّائِلِ، وَأَمَّا يَدُ الْآخِذِ فَلَا ; لِأَنَّ يَدَ اللَّهِ هِيَ الْمُعْطِيَةُ، وَهِيَ الْآخِذَةُ، وَكِلْتَاهُمَا يَمِينٌ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْبَحْثَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَيْدِي الْآدَمِيِّينَ، أَمَّا يَدُ اللَّهِ فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَالِكَ كُلِّ شَيْءٍ نُسِبَتْ يَدُهُ إِلَى الْإِعْطَاءِ، وَبِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ لِلصَّدَقَةِ وَرِضَاهُ بِهَا، نُسِبَتْ إِلَى الْأَخْذِ، وَيَدُهُ الْعُلْيَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا يَدُ الْآدَمِيِّ فَأَرْبَعَةٌ: يَدُ الْمُعْطِي وَقَدْ تَظَافَرَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهَا عُلْيَا، وَيَدُ السَّائِلِ وَقَدْ تَظَافَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّهَا السُّفْلَى، سَوَاءٌ أَخَذَتْ أَمْ لَا، وَهَذَا مُوَافِقٌ بِكَيْفِيَّةِ الْإِعْطَاءِ وَالْأَخْذِ غَالِبًا.

ثَالِثُهَا: يَدُ الْمُتَعَفِّفِ عَنِ الْأَخْذِ وَلَوْ بَعْدَ مَدِّ يَدِ الْمُعْطِي مَثَلًا، وَهَذِهِ تُوصَفُ بِأَنَّهَا عُلْيَا عُلُوًّا اعْتِبَارِيًّا، رَابِعُهَا: يَدُ الْآخِذِ بِلَا سُؤَالٍ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّهَا سُفْلَى نَظَرًا إِلَى الْمَحْسُوسِ، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَلَا يَطَّرِدُ فَقَدْ تَكُونُ عُلْيَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهَا عُلْيَا.

وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْعُلْيَا الْمُعْطِيَةُ، وَالسُّفْلَى الْمَانِعَةُ، وَلَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ أَنَّ الْيَدَ الْآخِذَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُعْطِيَةِ مُطْلَقًا، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَا أَرَى هَؤُلَاءِ إِلَّا قَوْمًا اسْتَطَابُوا السُّؤَالَ، فَهُمْ يَحْتَجُّونَ لِلدَّنَاءَةِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَكَانَ الْمَوْلَى مِنْ فَوْقُ هُوَ الَّذِي كَانَ رَقِيقًا فَأُعْتِقُ، وَالْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلَ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي أَعْتَقَ، وَفِي مَطْلَعِ الْفَوَائِدِ لِلْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ نُبَاتَةَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ مَعْنًى آخَرَ أَنَّ الْيَدَ هُنَا النِّعْمَةُ، فَكَانَ الْمَعْنَى: الْعَطِيَّةُ الْجَزِيلَةُ خَيْرٌ مِنَ الْعَطِيَّةِ الْقَلِيلَةِ، فَهَذَا حَثٌّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَبْقَتْ غِنًى، أَيْ مَا حَصَلَ بِهِ لِلسَّائِلِ غِنًى عَنْ سُؤَالِهِ، كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَلْفٍ، فَلَوْ أَعْطَاهَا لِمِائَةِ إِنْسَانٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمِ الْغِنَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْطَاهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْيَدِ عَلَى الْجَارِحَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَمِرُّ، إِذْ قَدْ يَأْخُذُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ يُعْطِي.

قُلْتُ: التَّفَاضُلُ هُنَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِعْطَاءِ وَالْأَخْذِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي أَفْضَلَ مِنَ الْآخِذِ عَلَى

ص: 673

الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ فِي مَسْنَدِهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، أَنَّهُ قَالَ:" «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْيَدُ الْعُلْيَا؟ قَالَ: الَّتِي تُعْطِي، وَلَا تَأْخُذُ» "، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْآخِذَةَ لَيْسَتْ بِعُلْيَا، وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَعَسَّفَةِ تَضْمَحِلُّ عِنْدَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْمُرَادِ، فَأَوْلَى مَا فُسِّرَ الْحَدِيثُ بِالْحَدِيثِ، وَمُحَصَّلُ مَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ أَعْلَى الْأَيْدِي الْمُنْفِقَةُ، ثُمَّ الْمُتَعَفِّفَةُ عَنِ الْأَخْذِ، ثُمَّ الْآخِذَةُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَأَسْفَلَ الْأَيْدِي السَّائِلَةُ وَالْمَانِعَةُ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْكَلَامِ لِلْخَطِيبِ بَلْ كُلُّ مَا يَصْلُحُ مِنْ مَوْعِظَةٍ وَعِلْمٍ وَقُرْبَةٍ، وَالْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الطَّاعَةِ، وَتَفْضِيلُ الْغِنَى مَعَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ عَلَى الْفَقْرِ ; لِأَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْغِنَى، وَفِيهِ كَرَاهَةُ السُّؤَالِ، وَالتَّنْفِيرُ عَنْهُ وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ مِنْ خَوْفِ هَلَاكٍ وَنَحْوِهِ.

وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «مَا الْمُعْطِي مِنْ سِعَةٍ بِالْأَفْضَلِ مِنَ الْآخِذِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا» "، انْتَهَى.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 674

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَطَاءٍ فَرَدَّهُ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَ رَدَدْتَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ خَيْرًا لِأَحَدِنَا أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا ذَلِكَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ يَرْزُقُكَهُ اللَّهُ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَأْتِينِي شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلَّا أَخَذْتُهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1882 -

1835 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) مُرْسَلًا، قَالَ أَبُو عُمَرَ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ: يَتَّصِلُ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ عُمَرَ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَطَاءٍ» ) ، بِالْمَدِّ أَيْ بِسَبَبِ الْعِمَالَةِ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ، لَا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَلَيْسَ الْعَطَاءُ الْمَذْكُورُ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ، وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ عَنِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْعَطَاءَ مَا يُفَرِّقُهُ الْإِمَامُ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ، (فَرَدَّهُ عُمَرُ) زُهْدًا، وَعَدَمَ حِرْصٍ عَلَى التَّكْثِيرِ مِنَ الْمَالِ وَإِيثَارًا لِلْغَيْرِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كَانَ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، « (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -: لِمَ رَدَدْتَهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ خَيْرًا) أَفْضَلَ (لِأَحَدِنَا أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا ذَلِكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ) » السُّؤَالِ لِلنَّاسِ، (فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ يَرْزُقُكَهُ اللَّهُ)

ص: 674

زَادَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: " «فَخُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ» "، أَيِ اقْبَلْهُ، وَأَدْخِلْهُ فِي مِلْكِكَ وَمَالِكَ.

(فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَا) - بِالْفَتْحِ، وَخِفَّةِ الْمِيمِ - ( «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا يَأْتِينِي شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلَّا أَخَذْتُهُ» ) اتِّبَاعًا لِلْأَمْرِ النَّبَوِيِّ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّ رَدَّ عَطِيَّةِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ، وَلَا سِيَّمَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7](سورة الْحَشْرِ: الْآيَةُ 7) ، وَإِنَّمَا رَدَّهَا عُمَرُ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي أَزَالَهَا صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَحَبٌّ، وَاخْتُلِفَ فِي إِعْطَاءِ غَيْرِهِ دُونَ مَسْأَلَةٍ، وَالْمُعْطَى مَنْ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ، فَقِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ أَيْضًا كَانَ الْمُعْطِي سُلْطَانًا أَوْ غَيْرَهُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، يَعْنِي بِالشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ لِعُمَرَ: إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُسْرِفٍ، وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ سَمُرَةَ فِي السُّنَنِ:" «إِلَّا أَنْ تَسْأَلَهُ ذَا سُلْطَانٍ» "، قَالَ: وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لَا مِنْهُ فَحَرَامٌ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْبَلُ عَطِيَّةَ السُّلْطَانِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْرَهُ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى عَطِيَّةِ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ، وَالْكَرَاهَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَرَعِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ تَصَرُّفِ السَّلَفِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ عُلِمَ حِلُّ مَالِهِ لَا يُرَدُّ عَطِيَّتُهُ، أَوْ حُرْمَتُهُ فَيَحْرُمُ عَطِيَّتُهُ، وَمَنْ شَكَّ فِيهَا فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ، وَهُوَ الْوَرَعُ وَمَنْ أَبَاحَهُ أَخَذَ بِالْأَصْلِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: احْتَجَّ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42](سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ 42) ، وَقَدْ رَهَنَ الشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ ثَمَنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ.

ص: 675

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1883 -

1836 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) - بِكَسْرِ الزَّايِ، وَخِفَّةِ النُّونِ - عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ، أَوْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ قَوْلَانِ مُرَجَّحَانِ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ الْحَلِفُ عَلَى الشَّيْءِ الْمَقْطُوعِ بِصِدْقِهِ لِتَأْكِيدِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، (لَيَأْخُذُ)، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا فِي جُلِّ الْمُوَطَّآتِ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْنٍ، وَابْنِ نَافِعٍ: لَأَنْ يَأْخُذَ (أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَحْبُلَهُ بِالْجَمْعِ

ص: 675

(فَيَحْتَطِبَ) - بِكَسْرِ الطَّاءِ - أَيْ يَجْمَعَ الْحَطَبَ (عَلَى ظَهْرِهِ)، وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ:" «فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ» "، وَذَلِكَ مُرَادٌ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْحَافِظُ، عَلَى أَنَّ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «فَيَجْعَلَهَا عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا» "، وَلَهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنِ النَّاسِ» "، (خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا)، وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ:" «مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ» "، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ (أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، صِفَةُ " رَجُلٍ "(فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ) ، لِحَمْلِهِ ثِقَلَ الْمِنَّةِ مَعَ ذُلِّ السُّؤَالِ، (أَوْ مَنَعَهُ) ، فَاكْتَسَبَ الذُّلَّ، وَالْخَيْبَةَ وَالْحِرْمَانَ، وَخَيْرٌ لَيْسَتْ بِمَعْنَى أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، بَلْ هِيَ هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24](سورة الْفُرْقَانِ: الْآيَةُ 24) ، إِذْ لَا خَيْرَ فِي السُّؤَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِحَسَبِ اعْتِقَادِ السَّائِلِ تَسْمِيَةَ مَا يُعْطَاهُ خَيْرًا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ شَرٌّ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْهَا، وَلَوِ امْتَهَنَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَارْتَكَبَ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ.

وَعِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عُمَرَ: " مَكْسِبَةٌ فِيهَا بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيْرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ "، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَوْلَا قُبْحُ الْمَسْأَلَةِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، لَمْ يُفَضِّلْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى السَّائِلِ مِنْ ذُلِّ السُّؤَالِ، وَمِنَ الرَّدِّ إِذَا لَمْ يُعْطَ، وَلِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنَ الضِّيقِ فِي مَالِهِ إِنْ أَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ، وَفِيهِ فَضْلُ الِاكْتِسَابِ بِعَمَلِ الْيَدِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ الْمَكَاسِبِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 676

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ «نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَقَالَ لِي أَهْلِي اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْأَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ فَتَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ وَهُوَ يَقُولُ لَعَمْرِي إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لَا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا قَالَ الْأَسَدِيُّ فَقُلْتُ لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ قَالَ مَالِكٌ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا قَالَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ فَقُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ بِشَعِيرٍ وَزَبِيبٍ فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ عز وجل»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1884 -

1837 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ) ، وَإِبْهَامُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ لِعَدَالَةِ جَمِيعِهِمْ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، (أَنَّهُ قَالَ: نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ) - بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ - (الْغَرْقَدِ) - بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَقَافٍ - مَقْبَرَةِ الْمَدِينَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشَجَرِ غَرْقَدٍ كَانَ هُنَاكَ، وَهُوَ شَجَرٌ عَظِيمٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ الْعَوْسَجُ، ( «فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْأَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مَنْ حَاجَتِهِمْ» ) مَا يَأْكُلُونَ، (فَذَهَبْتُ

ص: 676

إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لِأَسْأَلَهُ، ( «فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ فَتَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ» ) ، لِعَدَمِ الْعَطَاءِ، (وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرِي) ، أَيْ حَيَاتِي، (إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ) ، وَلَعَلَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ مِنْ أَجْلَافِ الْعَرَبِ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَ مُنَافِقًا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لَا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ» ) ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي الْغَضَبَ بِوَجْهٍ، ( «مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ» ) ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَشَدِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، (أَوْ عَدْلُهَا) - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهَا مِنْ غَيْرِ الْفِضَّةِ، (فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا) ، أَيْ إِلْحَاحًا، وَهُوَ أَنْ يُلَازِمَ الْمَسْئُولَ حَتَّى يُعْطِيَهُ، يُقَالُ: لَحَفَنِي مِنْ فَضْلِ لِحَافِهِ، أَيْ أَعْطَانِي مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ، فَخَالَفَ ثَنَاءَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273](سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 273) ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ، وَإِنْ سَأَلُوا عَنْ ضَرُورَةٍ لَمْ يُلِحُّوا، وَقِيلَ هُوَ نَفْيُ السُّؤَالِ وَالْإِلْحَاحِ مَعًا كَقَوْلِهِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي لِمَنَارِهِ.

فَمُرَادُهُ نَفْيُ الْمَنَارِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ وَالْإِلْحَاحِ أَدْخَلُ فِي التَّعَفُّفِ.

(قَالَ الْأَسَدِيُّ: فَقُلْتُ) عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ، (لَلِقْحَةٌ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَوْ جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وَكَسْرِ اللَّامِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ تُفْتَحُ، وَسُكُونِ الْقَافِ، أَيْ نَاقَةٌ (لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ) بِالْأَلْفِ قَالَ:(وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنَ الْوِقَايَةِ ; لِأَنَّ الْمَالَ مَخْزُونٌ مَصُونٌ، أَوْ لِأَنَّهُ يَقِي الشَّخْصَ مِنَ الضَّرُورَةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي السُّؤَالِ دُونَ الْأَخْذِ، فَتَحِلُّ لِمَنْ لَهُ خَمْسُ أَوَاقٍ، وَإِنْ كَانَ تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا إِذَا كَانَ ذَا عِيَالٍ.

وَفِي التِّرْمِذِيَّ وَغَيْرِهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا:" «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ، وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ» "، وَفِي إِسْنَادِهِ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ رَفَعَهُ:" «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ فَقَالُوا: وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ» "، (قَالَ) الْأَسَدِيُّ:(فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ) يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ فَهْمِهِ ; لِأَنَّهُ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ.

(فَقُدِمَ) - بِضَمِّ الْقَافِ، وَكَسْرِ الدَّالِّ - (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ بِشَعِيرٍ وَزَبِيبٍ فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ) صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ قَسَمَهُ كُلَّهُ وَأَعْطَاهُمْ بَعْضَهُ، (حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ) ; لِأَنَّ مَنْ يَسْتَغْنِي

ص: 677

يُغْنِيهِ اللَّهُ، وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:" «أَسْرَحَتْنِي أُمِّي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي لِأَسْأَلَهُ مِنْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فَأَتَيْتُهُ، وَقَعَدْتُ فَاسْتَقْبَلَنِي، فَقَالَ: مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ سَأَلَ، وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ، فَقَدْ أَلْحَفَ، فَقُلْتُ: نَاقَتِي خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالضِّيَاءُ.

ص: 678

وَعَنْ مَالِك عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ عَبْدٌ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ قَالَ مَالِكٌ لَا أَدْرِي أَيُرْفَعُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1885 -

1838 - (مَالِكٌ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) ابْنِ يَعْقُوبَ الْمَدَنِيِّ، ثِقَةٌ صَدُوقٌ، (أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ:«مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» ) ، بَلْ يَزِيدُ اللَّهُ فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَإِنْ نَقَصَ فَلَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْأَجْرِ مَا يَجْبُرُ ذَلِكَ النَّقْصَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ الْأَمْرَانِ، قَالَهُ عِيَاضٌ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ " مِنْ " زَائِدَةٌ، أَيْ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مَالًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا صِلَةٌ لِـ " نَقَصَتْ "، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا نَقَصَتْ شَيْئًا مِنْ مَالٍ، بَلْ يَزِيدُ فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ فِيهِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُ وَالْإِخْلَافِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَجْدَى، وَأَنْفَعُ، وَأَكْثَرُ، وَأَطْيَبُ، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِإِجْزَالِ الْأَجْرِ وَتَضْعِيفِهِ، أَوْ فِيهِمَا وَذَلِكَ جَائِزٌ لِإِضْعَافِ ذَلِكَ النَّقْصِ، بَلْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ نَقْصًا، قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ، فَوَزَنَهَا فَلَمْ تَنْقُصْ قَالَ: وَأَنَا وَقَعَ لِي ذَلِكَ.

وَقَوْلُ الْكَلَابَاذِيِّ يُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الْفَرْضُ، وَبِإِخْرَاجِهَا مَا لَمْ يَنْقُصْ مَالُهُ لِكَوْنِهَا دَيْنًا - فِيهِ بُعْدٌ لَا يَخْفَى.

(وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ) ، أَيْ تَجَاوُزٍ عَنْ الِانْتِصَارِ (إِلَّا عِزًّا) ، أَيْ رِفْعَةً فِي الدُّنْيَا فَمَنْ عُرِفَ بِالصَّفْحِ سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوبِ، فَيَزِيدُ عِزَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِأَنْ يَعْظُمَ ثَوَابُهُ، أَوْ فِيهِمَا قَالَهُ عِيَاضٌ.

(وَمَا تَوَاضَعَ عَبْدٌ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رَقَا عُبُودِيَّةً لِلَّهِ فِي الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ نَهْيِهِ، وَمُشَاهَدَتِهِ لِحَقَارَةِ نَفْسِهِ، وَنَفْيِ الْعُجْبِ عَنْهَا، فَفِي لَفْظِ " عَبْدٌ " إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ، وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ (إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ) ، فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُثَبِّتَ لَهُ فِي الْقُلُوبِ الْمُحِبَّةَ وَالْمَكَانَةَ، أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُنِيلَهُ الرِّفْعَةَ فِيهَا لِتَوَاضُعِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِيهِمَا، وَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ رَدُّ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الصَّبْرُ وَالْحُلْمُ الذُّلُّ، وَمَنْ قَالَهُ مِنَ الْأَجِلَّةِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِ الِانْتِصَارِ، قَالَهُ عِيَاضٌ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: التَّوَاضُعُ انْكِسَارٌ، وَالتَّذَلُّلُ ضِدُّ التَّكَبُّرِ، فَالتَّوَاضُعُ إِنْ كَانَ لِلَّهِ، أَوْ لِرَسُولِهِ، أَوْ لِلْحَاكِمِ، أَوْ لِلْعَالِمِ، فَهَذَا وَاجِبٌ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَأَمَّا لِسَائِرِ الْخَلْقِ فَإِنْ قُصِدَ بِهِ

ص: 678

وَجْهُ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ قَدْرَ صَاحِبِهِ فِي الْقُلُوبِ، وَيُطَيِّبُ ذِكْرَهُ فِي الْأَفْوَاهِ، وَيَرْفَعُ قَدْرَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَلَا عِزَّ مَعَهُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي تَحَمُّلِ مُؤْنَةِ خَلْقِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ مَا يَرْفَعُهُ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ مِمَّنْ دُونَهُ قَبِلَ اللَّهِ مِنْهُ مَدْحُورَ طَاعَتِهِ، وَنَفَعَهُ بِقَلِيلِ حَسَنَاتِهِ، وَزَادَ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِهِ، وَحَفِظَهُ بِمُعَقِّبَاتِ رَحْمَتِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ الشُّحَّ بِالْمَالِ، وَمُشَايَعَةَ السَّبُعِيَّةِ مِنْ إِيثَارِ الْغَضَبِ، وَالِانْتِقَامَ وَالِاسْتِرْسَالَ فِي الْكِبْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ نَتَائِجِ الشَّيْطَنَةِ، فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْلَعَهَا، فَحَثَّ أَوَّلًا عَلَى الصَّدَقَةِ لِيَتَحَلَّى بِالسَّخَاءِ وَالْكَرَمِ، وَثَانِيًا عَلَى الْعَفْوِ لِيَتَعَزَّزَ بِعِزِّ الْحُكْمِ وَالْوَقَارِ، وَثَالِثًا عَلَى التَّوَاضُعِ لِيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِ فِي الدَّارَيْنِ.

(قَالَ) مَالِكٌ: (لَا أَدْرِي أَيَرْفَعُ) الْعَلَاءُ (هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا؟) شَكَّ فِي رَفْعِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ رَأْيًا، وَأَسْنَدَهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَهُوَ مَحْفُوظٌ مُسْنَدٌ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَحَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَشُعْبَةُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا أَسْنَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي التَّمْهِيدِ.

ص: 679

[بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ]

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

3 -

بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ

1887 -

1839 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ:) ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، وَقَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ» ) ، بَنِي هَاشِمٍ فَقَطْ عِنْدَ مَالِكٍ رضي الله عنه وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى آلَ أَبِي لَهَبٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ، (إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ) ، وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ، لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ ذُلِّ الْآخِذِ، وَعِزِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ لِحَدِيثِ:" «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» "

ص: 679

وَأُبْدِلُوا بِالْفَيْءِ الْمَأْخُوذِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، الْمُنْبِئِ عَنْ عِزِّ الْآخِذِ، وَذُلِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ.

وَتَعَقَّبَ ابْنُ الْمُنِيرِ هَذَا التَّعْلِيلَ بِأَنَّهَا مَذَلَّةٌ بِأَنَّ مُقْتَضَاهُ تَحْرِيمُ الْهِبَةِ لَهُمْ، وَلَا قَائِلَ بِهِ وَلِأَنَّ الْوَاهِبَ لَهُ أَيْضًا الْيَدُ الْعُلْيَا، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ: الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ، وَهِيَ الْمُتَصَدِّقَةُ فَيُدْخِلُ الْهِبَاتِ، انْتَهَى.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ أَمْوَالَهُمْ، وَتُكَفِّرُ ذُنُوبَهُمْ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفَرْضِ دُونَ التَّطَوُّعِ: " لِقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَشْرَبُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ "، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: مَحَلُّ حُرْمَةِ الْفَرْضِ مَا لَمْ يَكُونُوا بِمَوْضِعٍ يُسْتَبَاحُ فِيهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ لَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ مُسْنَدِ مَالِكٍ خَارِجِ الْمُوَطَّأِ، قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَا الضُّبَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرَةُ بْنُ أَسْمَا عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ:" «اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَا: وَاللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ، قَالَ لِي، وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَاهُ، وَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ، قَالَ: فَبَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَفْعَلَا فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ، فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذِهِ إِلَّا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا، فَوَاللَّهِ لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ، قَالَ: أَرْسِلُوهُمَا، وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ سَبَقْنَاهُ إِلَى الْحُجْرَةِ، فَقُمْنَا عِنْدَهَا حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِآذَانِنَا، ثُمَّ قَالَ: اخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ، ثُمَّ دَخَلَ وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَ: فَتَوَاكَلْنَا الْكَلَامَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ أَبِرُّ النَّاسِ، وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ، فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كَمَا تُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ، قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلًا حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ، وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ إِلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَنْ لَا تُكَلِّمَاهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ادْعُو إِلَيَّ مَحْمِيَةَ، وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَجَاءَ فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَأَنْكَحَهُ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنْكِحُ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ لِي فَأَنْكَحَ لِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا» "، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ يُسَمِّهِ.

وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ:" «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» "، قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَمَ مَنْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ

ص: 680

رَوَاهُ الْحَافِظُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي زَنْبَرٍ - بِفَتْحِ الزَّايِ، وَالْمُوَحَّدَةِ، بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ - صَدُوقٌ لَهُ عَنْ مَالِكٍ مَنَاكِيرُ، لَكِنَّهُ هُنَا مُتَابِعٌ لِجُوَيْرِيَةَ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ جُوَيْرِيَةُ كَمَا ادَّعَاهُ النَّسَائِيُّ.

ص: 681

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ سَأَلَهُ إِبِلًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ وَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ أَنْ تَحْمَرَّ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي مَا لَا يَصْلُحُ لِي وَلَا لَهُ فَإِنْ مَنَعْتُهُ كَرِهْتُ الْمَنْعَ وَإِنْ أَعْطَيْتُهُ أَعْطَيْتُهُ مَا لَا يَصْلُحُ لِي وَلَا لَهُ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَسْأَلُكَ مِنْهَا شَيْئًا أَبَدًا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1887 -

1840 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ» ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ -: بَطْنٌ مِنَ الْأَوْسِ (فِي الصَّدَقَةِ) ، أَيْ عَلَيْهَا، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، ( «فَلَمَّا قَدِمَ سَأَلَهُ إِبِلًا مِنَ الصَّدَقَةِ» ) يُعْطِيهَا لَهُ، قَالَ الْبَاجِيُّ زِيَادَةً: عَلَى أُجْرَةِ عَمَلِهِ ( «فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ» ) الْوَجِيهِ، ( «وَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ أَنْ تَحْمَرَّ عَيْنَاهُ» ) لِشِدَّةِ الْغَضَبِ وَكَانَ يَكْظِمُهُ (ثُمَّ قَالَ: إِنِ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي) أَنْ أُعْطِيَهُ (مَا لَا يَصْلُحُ لِي وَلَا لَهُ، فَإِنْ مَنَعْتُهُ كَرِهْتُ الْمَنْعَ) ; لِأَنَّهُ مَجْبُولٌ عَلَى الْجُودِ وَعَدَمِ الْمَنْعِ (وَإِنْ أَعْطَيْتُهُ أَعْطَيْتُهُ مَا لَا يَصْلُحُ لِي وَلَا لَهُ) لِعَدَمِ حِلِّهِ.

(فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَسْأَلُكَ مِنْهَا شَيْئًا أَبَدًا) وَفَّقَهُ اللَّهُ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بِبَرَكَتِهِ، صلى الله عليه وسلم.

ص: 681

وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ ادْلُلْنِي عَلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَطَايَا أَسْتَحْمِلُ عَلَيْهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْتُ نَعَمْ جَمَلًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ أَتُحِبُّ أَنَّ رَجُلًا بَادِنًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ غَسَلَ لَكَ مَا تَحْتَ إِزَارِهِ وَرُفْغَيْهِ ثُمَّ أَعْطَاكَهُ فَشَرِبْتَهُ قَالَ فَغَضِبْتُ وَقُلْتُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَتَقُولُ لِي مِثْلَ هَذَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ يَغْسِلُونَهَا عَنْهُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1888 -

1841 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ) بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ صَحَابِيٌّ مَعْرُوفٌ وَلَّاهُ عُمَرُ بَيْتَ الْمَالِ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ.

(ادْلُلْنِي عَلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَطَايَا) جَمْعُ مَطِيَّةٍ، الْإِبِلُ الَّتِي تُرْكَبُ

ص: 681

(أَسَتَحْمِلُ عَلَيْهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) عُمَرَ أَيْ أَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْمِلَنِي عَلَيْهِ، (فَقُلْتُ: نَعَمْ، جَمَلًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ: أَتُحِبُّ أَنَّ رَجُلًا بَادِنًا) - بِنُونٍ - أَيْ سَمِينًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيْ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ عَدَمُ النَّظَافَةِ (فِي يَوْمٍ حَارٍّ غَسَلَ لَكَ مَا تَحْتَ إِزَارِهِ وَرُفْغَيْهِ) - بِضَمِّ الرَّاءِ، وَإِسْكَانِ الْفَاءِ، وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ - تَثْنِيَةُ رُفْغٍ - بِضَمِّ الرَّاءِ - فِي لُغَةِ الْعَالِيَةِ، وَالْحِجَازِ، وَالْجَمْعُ أَرْفَاغٍ مِثْلُ قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ، وَالْجَمْعُ رُفُوغٌ وَأَرْفُغٌ، كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ أَصْلُ الْفَخِذِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: أَصْلُ الْفَخِذِ وَسَائِرُ الْمَغَابِنِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ اجْتَمَعَ فِيهِ الْوَسَخُ، فَهُوَ رُفْغٌ.

« (ثُمَّ أَعْطَاكَهُ فَشَرِبْتَهُ؟ قَالَ) أَسْلَمُ (فَغَضِبْتُ وَقُلْتُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَتَقُولُ لِي مِثْلَ هَذَا) » الْكَلَامِ الْفَظِيعِ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ أَوْسَاخُ النَّاسِ) ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (يَغْسِلُونَهَا عَنْهُمْ) ، فَلَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهَا لِغَيْرِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَقَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا:" «إِنَّهَا دَاءٌ فِي الْبَطْنِ وَصُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ» "، وَكَانَ مُرَادُ ابْنِ الْأَرْقَمِ أَنَّ أَسْلَمَ يَدُلُّهُ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ غَيْرِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ يَطْلُبُهُ مَنْ عُمَرَ، فَلَمَّا دَلَّهُ عَلَى حِمْلِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، ضَرَبَ لَهُ هَذَا الْمِثَالَ، لِيُنَبِّهَهُ عَلَى مَا غَفَلَ عَنْهُ، انْتَهَى.

ص: 682

[كِتَابُ الْعِلْمِ]

[بَابُ مَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ]

‌بَابُ مَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ أَوْصَى ابْنَهُ فَقَالَ يَا بُنَيَّ جَالِسْ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ كَمَا يُحْيِي اللَّهُ الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ بِوَابِلِ السَّمَاءِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

59 -

كِتَابُ الْعِلْمِ

1 -

بَابُ مَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ

قَدْ جَاءَ فِي طَلَبِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَرْفُوعَةٌ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ لَمْ يَذْكُرِ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْهَا فَتَبِعْتُهُ، وَحَسْبُكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا:" «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ".

1842 -

(مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ) الْحَبَشِيَّ، أَوِ النَّوْبِيَّ الْعَبْدَ الصَّالِحَ كَانَ فِي عَصْرِ دَاوُدَ عَلَى الصَّحِيحِ مَرَّ بَعْضُ تَرْجَمَتِهِ قَرِيبًا، (أَوْصَى ابْنَهُ)، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: اسْمُهُ بَارٌ بِمُوَحَّدَةٍ، وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَقِيلَ فِيهِ بِالدَّالِ فِي أَوَّلِهِ، وَقِيلَ: اسْمُهُ أَنْعَمُ، وَقِيلَ: شَكُورٌ، وَقِيلَ: أَسْلَمُ كَمَا فِي الْفَتْحِ.

(قَالَ: يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ، وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ) عِبَارَةً عَنْ مَزِيدِ الْقُرْبِ مِنْهُمْ.

(فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ) ، هِيَ تَحْقِيقُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12](سورة لُقْمَانَ: الْآيَةُ 12)، قَالَ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ صَفَا لَنَا مِنْهَا أَنَّهَا الْعِلْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، مَعَ نَفَاذِ الْبَصِيرَةِ، وَتَهْذِيبِ النَّفْسِ، وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ لِلْعَمَلِ، وَالْكَفِّ عَنْ ضِدِّهِ، وَالْحَكِيمُ مَا حَازَ ذَلِكَ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(كَمَا يُحْيِي) - بِضَمِّ أَوَّلِهِ - (اللَّهُ) تَعَالَى (الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ) بِالنَّصْبِ، وَالتَّخْفِيفِ، وَيُثَقَّلُ

ص: 683

(بِوَابِلِ السَّمَاءِ) ، بِالْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْمَطَرِ الْخَفِيفِ، وَهَذَا الْبَلَاغُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ عَلَيْكَ بِمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ، وَاسْمَعْ كَلَامَ الْحُكَمَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيُحْيِي الْقَلْبَ الْمَيِّتَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ» "، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: سَنَدُهُ حَسَّنَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ مَوْقُوفٌ، انْتَهَى.

وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْعَسْكَرِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَفَعَهُ:" «جَالِسُوا الْعُلَمَاءَ، وَسَائِلُوا الْكُبَرَاءَ، وَخَالِطُوا الْحُكَمَاءَ» "، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ نُجَالِسُ، أَوْ قَالَ: أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمُ الْآخِرَةَ عَمَلُهُ» "، وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ:" قِيلَ لِعِيسَى: يَا رُوحَ اللَّهِ مَنْ نُجَالِسُ؟ فَقَالَ: مَنْ يَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَيُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ، وَيُرَغِّبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُهُ "، رَوَاهُمَا الْعَسْكَرِيُّ.

ص: 684

[كِتَابُ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ]

[بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ دَعْوَةِ لْمَظْلُومِ]

بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ

حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى فَقَالَ يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنْ النَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى زَرْعٍ وَنَخْلٍ وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُ يَأْتِنِي بِبَنِيهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لَا أَبَا لَكَ فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ وَمِيَاهُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

60 -

كِتَابُ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ

1 -

بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ

جَاءَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَرْفُوعَةٌ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ يَعْنِي لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» " الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: "«وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» "، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَصَحَّحَهُ الضِّيَاءُ عَنِ ابْنِ ثَابِتٍ رَفَعَهُ: " «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ يَقُولُ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرُنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» "، وَلِلْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ كَأَنَّهَا شَرَارَةٌ» "، وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى وَصَحَّحَهُ الضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهُ حِجَابٌ» .

1890 -

1843 - (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) فِي خِلَافَتِهِ (اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى) : يُسَمَّى (هُنَيًّا) ، بِضَمِّ الْهَاءِ، وَفَتْحِ النُّونِ، وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ، وَقَدْ تُهْمَزُ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ مَعَ إِدْرَاكِهِ، وَوَجَدْتُ لَهُ رِوَايَةً عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِي، رَوَى عَنْهُ ابْنَهُ عُمَيْرٌ، وَشَيْخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَغَيْرُهُمَا، وَشَهِدَ صِفَّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ تَحَمَّلَ إِلَى عَلِيٍّ لَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ، وَفِي كِتَابِ مَكَّةَ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ أَنَّ آلَ هُنَيٍّ يُنْسَبُونَ فِي هَمْدَانَ، وَهُمْ مَوَالِي آلِ عُمَرَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ النُّبَلَاءِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ، لِمَا اسْتَعْمَلَهُ عُمَرَ (عَلَى الْحِمَى) - بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ - مَقْصُورٌ مَوْضِعٌ يُعَيِّنُهُ الْإِمَامُ لِنَحْوِ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، مَمْنُوعًا مِنَ الْغَيْرِ، وَلِابْنِ سَعْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ هُنَيٍّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى حِمَى الرَّبْذَةِ، (فَقَالَ) عُمَرُ (لَهُ: يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ النَّاسِ) ، أَيِ اكْفُفْ يَدَكَ عَنْ ظُلْمِهِمْ.

وَلِلْأُوَيْسِيِّ عَنْ مَالِكٍ فِي غَرَائِبِ الدَّارَقُطْنِيِّ: اضْمُمْ جَنَاحَكَ لِلنَّاسِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ اسْتُرْهُمْ بِجَنَاحِكَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ

ص: 685

عَنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ.

(وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ) ، أَيِ اجْتَنِبِ الظُّلْمَ لِئَلَّا يَدْعُوَ عَلَيْكَ مَنْ تَظْلِمُهُ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَجَنُّبِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ عَلَى أَبْلَغِ دَرَجَةٍ، وَأَوْجَزِ إِشَارَةٍ، وَأَفْصَحِ عِبَارَةٍ كَأَنَّهُ إِذَا اتَّقَى دُعَاءَ الْمَظْلُومِ، لَمْ يَظْلِمْ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ لَوْ قَالَ: لَا تَظْلِمْ، ( «فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ» ) ، أَيْ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا:" «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا، فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ» "، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، «وَإِنْ كَانَ كَافِرًا» ، كَمَا مَرَّ فِي خَبَرِ أَنَسٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50](سورة غَافِرٍ: الْآيَةُ 50) فَذَاكَ فِي دُعَائِهِمْ لِلنَّجَاةِ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ، أَمَّا دُعَاؤُهُمْ لِطَلَبِ الِانْتِصَافِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ فَلَا تُنَافِيهِ الْآيَةُ.

(وَأَدْخِلْ) ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، حُذِفَ مُتَعَلِّقُهُ، أَيْ فِي الرَّعْيِ، (رَبَّ) ، أَيْ صَاحِبَ (الصُّرَيْمَةِ) ، بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، الْقِطْعَةُ الْقَلِيلَةُ مِنَ الْإِبِلِ نَحْوُ الثَّلَاثِينَ، وَقِيلَ: مِنْ عِشْرِينَ إِلَى أَرْبَعِينَ.

(وَالْغُنَيْمَةِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ النُّونِ تَصْغِيرُ غَنَمٍ، قِيلَ: إِنَّهَا أَرْبَعُونَ، وَالْمُرَادُ الْقَلِيلُ مِنْهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّصْغِيرُ، (وَإِيَّايَ وَنَعَمَ) عُثْمَانَ (بْنِ عَفَّانَ وَ) نَعَمَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (بْنِ عَوْفٍ) ، وَفِيهِ تَحْذِيرُ الْمُتَكَلِّمِ نَفْسَهُ، وَهُوَ شَاذٌّ عِنْدَ النُّحَاةِ كَذَا قِيلَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الشُّذُوذَ فِي لَفْظِهِ، وَإِلَّا فَالْمُرَادُ فِي التَّحْقِيقِ، إِنَّمَا هُوَ تَحْذِيرُ الْمُخَاطَبِ، وَكَأَنَّهُ بِتَحْذِيرِ نَفْسِهِ حَذَّرَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَكُونُ أَبْلَغَ، وَنَحْوُهُ نَهْيُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، وَمُرَادُهُ نَهْيُ مَنْ يُخَاطِبُهُ قَالَهُ الْحَافِظُ، قَالَ: وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ عَلَى طَرِيقِ الْمِثَالِ لِكَثْرَةِ نَعَمِهِمَا، لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُرِدْ مَنْعَهُمَا الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْمَحْ لِرَعْيِ نَعَمِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَنَعَمُ الْمُقِلِّينَ أَوْلَى، فَنَهَى عَنْ إِيثَارِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، أَوْ تَقْدِيمِهِمَا قَبْلَ غَيْرِهِمَا، وَبَيَّنَ حِكْمَةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ) - بِكَسْرِ اللَّامِ - (مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ) إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمَا مِنْ (زَرْعٍ وَنَخْلٍ) ، وَغَيْرِهِمَا، (وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُ يَأْتِنِي) مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ (بِبَنِيهِ) بِنُونٍ فَتَحْتِيَّةٍ، جَمْعُ ابْنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِتَحْتِيَّةٍ فَفَوْقِيَّةٍ مُفْرَدُ بُيُوتٍ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ (فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) مَرَّتَيْنِ، وَحُذِفَ الْمَقُولُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي لَفْظٍ، أَيْ أَنَا فَقِيرٌ أَنَا أَحَقُّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

(أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا)، اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ مَعْنَاهُ: لَا أَتْرُكُهُمْ مُحْتَاجِينَ، وَلَا أُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ لِي مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَهُمْ بَدَلَ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، (لَا أَبَا لَكَ) ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْمُوَحَّدَةِ

ص: 686

بِلَا تَنْوِينٍ ; لِأَنَّهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْمُضَافِ، وَأَصْلُهُ لَا أَبَ لَكَ، وَظَاهِرُهُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ عَلَى مَجَازِهِ لَا حَقِيقَتِهِ.

(فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَيْسَرُ) أَهْوَنُ (عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ) الْفِضَّةِ، أَيْ مِنْ إِنْفَاقِهِمَا لَهُمْ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُعَارِضُهُ عَارِضٌ فِي مُهِمٍّ آخَرَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ عُمَرُ مِنَ التُّقَى، وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُدَاهِنْ عُثْمَانَ، وَلَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَلَا آثَرَ الضُّعَفَاءَ وَالْمَسَاكِينِ، وَبَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ، وَامْتَثَلَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:" «لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» "، يَعْنِي إِبِلَ الصَّدَقَةِ.

(وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ) ، أَيْ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي الْقَلِيلَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَرَأَهَا (لَيُرَوْنَ) ، بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ يَظُنُّونَ، وَبِفَتْحِهَا، أَيْ يَعْتَقِدُونَ (أَنْ قَدْ ظَلَمْتُهُمْ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي الْكَثِيرَةِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي الْقَلِيلَةِ لِأَنَّهُمُ الْمُعْظَمُ وَالْأَكْثَرُ، وَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ بَوَادِي الْمَدِينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ:(إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ وَمِيَاهُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ) ، فَكَانَتْ لَهُمْ، وَإِنَّمَا سَاغَ لِعُمَرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَوَاتًا، فَحَمَاهُ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ، وَلِمَصْلَحَةِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِلَادُنَا قَاتَلْنَا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمْنَا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ، بِمَ تُحْمَى عَلَيْنَا؟ فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْفُخُ وَيَفْتِلُ شَارِبَهُ.

وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِنَحْوِهِ، وَزَادَ: فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ. . . إِلَخْ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ قَالَ: الْمَالُ مَالُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَدْخُلِ ابْنُ عَفَّانَ، وَلَا ابْنُ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَالْكَلَامُ عَائِدٌ عَلَى عُمُومِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا عَلَيْهِمَا.

وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَسْلَمُوا عَفْوًا، فَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ لَهُمْ، وَلِذَا سَاوَمَ صلى الله عليه وسلم بَنِي النَّجَّارِ بِمَكَانِ مَسْجِدِهِ، قَالَ: فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الصُّلْحِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْعَنْوَةِ، فَأَرْضُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ غُلِبُوا عَلَى بِلَادِهِمْ، كَمَا غُلِبُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الصُّلْحِ فِي ذَلِكَ.

وَفِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ، إِلَّا أَرْضَهُ وَعَقَارَهُ فَفَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ، فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ، وَالْمُهَلَّبُ وَمَنْ بَعْدَهُ حَمَلُوا الْأَرْضَ عَلَى أَرْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا، وَهِيَ فِي مِلْكِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ حَمَى عُمَرُ بَعْضَ الْمَوَاتِ مِمَّا فِيهِ نَبَاتٌ مِنْ غَيْرِ مُعَالِجَةِ أَحَدٍ، وَخَصَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ، وَخُيُولَ الْمُجَاهِدِينَ

ص: 687

وَأَذِنَ لِمَنْ كَانَ مُقِلًّا أَنْ يَرْعَى فِيهِ مَوَاشِيَهُ رِفْقًا بِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُرَوْنَ أَنْ قَدْ ظَلَمْتُهُمْ فَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهَا، لَا أَنَّهُمْ مُنِعُوا حَقَّهَمُ الْوَاجِبَ لَهُمْ، انْتَهَى.

(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ) أَيِ الْإِبِلُ وَالْخَيْلُ الَّتِي كَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَنْ لَا يَجِدُ مَا يَرْكَبُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الْجِهَادِ (مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا)، وَجَاءَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ عِدَّةَ مَا كَانَ فِي الْحِمَى فِي عَهْدِ عُمَرَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ إِبِلٍ وَخَيْلٍ وَغَيْرِهِمَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: مَا كَانَ عَلَيْهِ عُمَرُ مِنَ الْقُوَّةِ، وَجَوْدَةِ النَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَوَقَعَ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي الْمُوَطَّأِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، انْتَهَى.

وَإِنَّ هَذَا لِشَيْءٌ عُجَابٌ نَفَى كَوْنَهُ فِي الْمُوَطَّأِ، لَكِنَّ الْجَوَادَ قَدْ يَكْبُو، وَالْكَمَالُ لِلَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 688

[كِتَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

[بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

‌بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

كِتَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم

أَيِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي لَمْ يَتَّسِمْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ، جَمْعُ اسْمٍ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ لِلتَّمْيِيزِ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ، قَالَ ابْنُ الْقِيَمِ: وَأَسْمَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَامٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ هِيَ أَوْصَافُ مَدْحٍ، فَلَا يُضَادُّ فِيهَا الْعَلَمِيَّةُ الْوَصْفِيَّةَ، فَمُحَمَّدٌ عَلَمٌ وَصِفَةٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَمًا مَحْضًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، انْتَهَى، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الِاتِّفَاقَ، وَأَقَرَّهُ غَيْرُهُ عَلَى مَنْعِ تَسْمِيَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِاسْمٍ لَمْ يُسَمِّهِ بِهِ أَبُوهُ، وَلَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ يَعْنِي وَلَوْ دَلَّ عَلَى صِفَةِ كَمَالٍ، وَلَا يَرِدُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وُجُودُ الْخِلَافِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ عز وجل، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ اللَّائِقَةُ بِهِ بِالْبَشَرِ، فَلَوْ جَازَتْ تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ لَرُبَّمَا وُصِفَ بِأَوْصَافٍ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ - تَعَالَى - دُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ، فَيَقَعُ الْوَاصِفُ فِي مَحْظُورٍ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ هَذَا، وَلَعَلَّ الْإِمَامَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَتَمَ الْكِتَابَ بِالْأَسْمَاءِ النَّبَوِيَّةِ بَعْدَ مَا ابْتَدَأَهُ بِالْبَسْمَلَةِ مَحْفُوظًا بِأَسْمَائِهِ عز وجل وَأَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَاءَ قَبُولِهِ.

1891 -

1844 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ الْقُرَشِيِّ الزُّهْرِيِّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) الْقُرَشِيِّ النَّوْفَلِيِّ الثِّقَةِ، الْعَالِمِ بِالْأَنْسَابِ مَاتَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا أَرْسَلَهُ يَحْيَى، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ، وَأَسْنَدَهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى، وَأَبُو مُصْعَبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ شَرُوسٍ الصَّنْعَانِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، وَآخَرُونَ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرٍ، بِجِيمٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ ابْنِ مُطْعَمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الصَّحَابِيِّ الْعَالِمِ بِالْأَنْسَابِ، أَسْلَمَ بَيْنَ

ص: 689

الْحُدَيْبِيَةِ، وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَقِيلَ أَسْلَمَ فِي الْفَتْحِ، وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَرِوَايَةُ الْإِرْسَالِ لَا تَضُرُّ فِي رِوَايَةِ الْوَصْلِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَالِكًا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ مَعْلُومُ الِاتِّصَالِ عِنْدَ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ وَشُعَيْبٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَمَعْمَرٍ وَعَقِيلٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ خَمْسَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، مَوْصُولًا.

وَرَوَاهُ عَنْ جُبَيْرٍ وَلَدُهُ الْآخَرُ نَافِعٌ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ فِي التَّارِيخِ، وَابْنِ سَعْدٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِي: خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ» ) يَعْنِي اخْتَصَّ بِهَا لَمْ يَتَّسِمْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ، أَوْ مُعَظَّمَةٍ أَوْ مَشْهُورَةٍ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَحَكَاهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَسْمَاءَهُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةٍ، وَيُدْفَعُ بِقَوْلِهِ مَشْهُورَةٍ ; لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْهَا خَمْسَةٌ فَقَطْ، مَا يُقَالُ الْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْجَارِّ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ: لِلَّهِ سبحانه وتعالى أَلْفُ اسْمٍ، وَلَهُ صلى الله عليه وسلم أَلْفُ اسْمٍ بَعْضُهَا فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَبَعْضُهَا فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ، فَمَجِيءُ الرِّوَايَاتِ بِأَكْثَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حَصْرًا مُطْلَقًا، بَلْ حَصْرَ تَقْيِيدٍ بِمَا ذُكِرَ، وَأَجَابَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْعَزَفِيُّ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِالْفَاءِ بِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ عَلَى بَقِيَّةِ أَسْمَائِهِ.

وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: خُصَّتْ لِعِلْمِ السَّامِعِ بِمَا سِوَاهَا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَفْظُ " خَمْسَةُ " لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا مَالِكٌ، بَلْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَهِيَ زِيَادَةُ ثِقَةٍ حَافِظٍ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ فَيَجِبُ قَبُولُهَا، وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ هِيَ سِتَّةٌ، فَزَادَ الْخَاتَمَ، فَوَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ تَفْسِيرُ الْعَاقِبِ، كَمَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، لَا اسْمًا بِرَأْسِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ، وَيَأْتِي بَسْطُهُ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَسَاكِرَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي بِالْمَعْنَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ لَفْظِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ يَعْنِي الْمُطْلَقَ، فَتَعَقَّبَ ابْنُ دِحْيَةَ وَالْحَافِظُ احْتِمَالَهُ الْأَوَّلَ بِأَنَّ تَصْرِيحَهُ فِي الْحَدِيثِ بِهَا بِقَوْلِهِ: لِي، وَنَصُّهُ عَلَى عِدَّتِهَا قَبْلَ ذِكْرِهَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْ لَفْظِهِ صلى الله عليه وسلم فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ لِي خَمْسَةٌ أَخْتَصُّ بِهَا لَمْ يَتَّسِمْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، أَوْ مُعَظَّمَةٌ، أَوْ مَشْهُورَةٌ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَصْرَ فِيهَا، يَعْنِي كَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ كَمَا مَرَّ. (أَنَا مُحَمَّدٌ) ، مَنْقُولٌ مِنْ صِفَةِ الْحَمْدِ، وَهُوَ مَحْمُودٌ وَفِيهِ الْمُبَالَغَةُ ; لِأَنَّ الْمُحَمَّدَ لُغَةً هُوَ الَّذِي حُمِدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ كَالْمَدْحِ أَوِ الَّذِي تَكَامَلَتْ فِيهِ الْخِصَالُ الْمَحْمُودَةُ، قَالَ الْأَعْشَى:

ص: 690

إِلَيْكَ - أَبَيْتَ اللَّعْنَ - كَانَ وَجِيفُهَا إِلَى

الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ أَبُو طَالِبٍ يَقُولُ:

وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِحَسَّانَ، فَإِمَّا أَنَّهُ تَوَارَدَ مَعَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ، أَوْ ضَمَّنَهُ شِعْرَهُ، سُمِّيَ بِهِ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - «لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرُؤْيَا رَآهَا أَنَّ سِلْسِلَةَ فِضَّةٍ خَرَجَتْ مِنْ ظَهْرِهِ، لَهَا طَرَفٌ فِي السَّمَاءِ، وَطَرَفٌ فِي الْأَرْضِ، وَطَرَفٌ فِي الْمَشْرِقِ، وَطَرَفٌ فِي الْمَغْرِبِ، ثُمَّ عَادَتْ كَأَنَّهَا شَجَرَةٌ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْهَا نُورٌ، قَالَ: وَمَا رَأَيْتُ نُورًا أَزْهَرَ مِنْهَا أَعْظَمَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَهِيَ تَزْدَادُ كُلَّ سَاعَةٍ عِظَمًا وَنُورًا وَارْتِفَاعًا، وَرَأَيْتُ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ لَهَا سَاجِدِينَ، وَنَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ تَعَلَّقُوا بِهَا، وَقَوْمًا مِنْهُمْ يُرِيدُونَ قَطْعَهَا، فَإِذَا دَنَوْا مِنْهَا أَخَذَهُمْ شَابٌّ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ وَجْهًا، وَلَا أَطْيَبَ رِيحًا، فَيَكْسِرُ أَظْهُرَهُمْ، وَيَقْلَعُ أَعْيُنَهُمْ، فَرَفَعْتُ يَدَيَّ لِأَتَنَاوَلَ مِنْهَا، فَلَمْ أَنَلْ، وَقِيلَ لِي: النَّصِيبُ لِلَّذِينَ تَعَلَّقُوا بِهَا، فَقَصَصْتُهَا عَلَى كَاهِنَةِ قُرَيْشٍ، فَعَبَّرَتْ بِمَوْلُودٍ مِنْ صُلْبِهِ يَتْبَعُهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَيَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» ، رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ «مَعَ مَا حَدَّثَتْهُ بِهِ أُمُّهُ آمِنَةُ حِينَ قِيلَ لَهَا: إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا وَضَعَتَيْهِ فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا» .

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «لَمَّا وُلِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَارِثِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ سَمَّيْتَهُ مُحَمَّدًا، وَلَمْ تُسَمِّهِ بِاسْمِ آبَائِهِ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَحْمَدَهُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَيَحْمَدَهُ النَّاسُ فِي الْأَرْضِ» "، (وَأَنَا أَحْمَدُ) عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنْ صِفَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الْمُنْبِئَةِ عَنِ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا مُنْتَهًى، وَمَعْنَاهُ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ بِمَحَامِدَ لَمْ يُفْتَحْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ حَامِدُونَ، وَهُوَ أَحْمَدُهُمْ، أَيْ أَكْثَرُهُمْ حَمْدًا، وَأَعْظَمُهُمْ فِي صِفَةِ الْحَمْدِ، فَهُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ أَنْ يُحْمَدَ، فَيَكُونُ كَمُحَمَّدٍ فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْكَثِيرُ الْخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَأَحْمَدُ هُوَ الَّذِي يُحْمَدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ، فَمُحَمَّدٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْكَمِّيَّةِ، وَأَحْمَدُ فِي الصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَيَسْتَحِقُّ مِنَ الْحَمْدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ، أَيْ أَفْضَلَ حَمْدٍ حَمِدَهُ الْبَشَرُ، فَالِاسْمَانِ وَاقِعَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ.

قَالَ عِيَاضٌ: كَانَ صلى الله عليه وسلم أَحْمَدَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدًا، كَمَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ ; لِأَنَّ تَسْمِيَةَ أَحْمَدَ وَقَعَتْ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَتَسْمِيَتُهُ مُحَمَّدًا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَمِدَ رَبَّهُ قَبْلَ أَنْ يَحْمَدَ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ يَحْمَدُ رَبَّهُ فَيُشَفِّعُهُ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ، وَقَدْ خُصَّ بِصُورَةِ الْحَمْدِ وَبِلِوَاءِ الْحَمْدِ، وَبِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَشُرِعَ لَهُ

ص: 691

الْحَمْدُ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَبَعْدَ الشُّرْبِ، وَبَعْدَ الدُّعَاءِ، وَبَعْدَ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ، وَسُمِّيَتْ أُمَّتُهُ الْحَامِدِينَ فَجُمِعَتْ لَهُ مَعَانِي الْحَمْدِ وَأَنْوَاعُهُ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.

وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ السُّهَيْلِيِّ: لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ حَمِدَ رَبَّهُ فَنَبَّأَهُ وَشَرَّفَهُ فَلِذَا يُقَدَّمُ أَحْمَدُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَكَّلَاهُمَا صَرِيحٌ فِي سَبْقِيَّةِ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَزَعَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ سَبْقِيَّةَ مُحَمَّدٍ، وَنَسَبَ الْقَائِلَ بِسَبْقِيَّةِ أَحْمَدَ إِلَى الْغَلَطِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ فِي التَّوْرَاةِ تَسْمِيَتُهُ ماذمان، وَصَرَّحَ بَعْضُ شُرَّاحِهَا مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مُحَمَّدٌ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عِيسَى أَحْمَدَ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِهِ وَقَعَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ تَسْمِيَتِهِ بِمُحَمَّدٍ فِي التَّوْرَاةِ، وَمُتَقَدِّمَةً عَلَى تَسْمِيَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ التَّسْمِيَتَيْنِ مَحْفُوفَةً بِهِمَا، وَأَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ:«إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ مُحَمَّدًا قَبْلَ الْخَلْقِ بِأَلْفِ عَامٍ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ» .

وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: " «أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ» "، الْحَدِيثَ.

( «وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ» ) ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ بُكَيْرٍ، وَمَعْنٍ وَغَيْرِهِمَا بِيَ (الْكُفْرَ) يُزِيلُهُ ; لِأَنَّهُ بُعِثَ وَالدُّنْيَا مُظْلِمَةٌ بِغَيَاهِبِ الْكُفْرِ، فَأَتَى بِالنُّورِ السَّاطِعِ حَتَّى مَحَاهُ، قَالَ عِيَاضٌ: أَيْ مِنْ مَكَّةَ، وَبِلَادِ الْعَرَبِ، وَمَا زُوِيَ لَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَوُعِدَ أَنَّهُ يَبْلُغُهُ مُلْكُ أُمَّتِهِ، قَالَ: أَوْ يَكُونُ الْمَحْوُ عَامًّا بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.

وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: اسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ مَا يُمْحَى مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَأُجِيبَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْأَغْلَبِ، أَوْ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، أَوْ أَنَّهُ يُمْحَى بِسَبَبِهِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ فِي زَمَنِ عِيسَى، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَيُجَابُ بِجَوَازِ أَنْ يَرْتَدَّ بَعْضُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ عِيسَى، وَتُرْسَلُ الرِّيَاحُ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى إِلَّا الشِّرَارُ.

وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: " وَأَنَا الْمَاحِي "، فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحِي بِهِ سَيِّئَاتِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي، انْتَهَى، أَيْ بِمَغْفِرَتِهَا لَهُ بِلَا سَبَبٍ، أَوْ بِإِلْهَامِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ لِمَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ، وَقَبُولِهَا:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25](سورة الشُّورَى: الْآيَةُ 25) ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا تَفْسِيرَهُ بِمَحْوِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّ مَحْوَ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ مَحْوَ الْآخَرِ، فَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِلْمَاحِي بِخِلَافِ مَا فَسَّرَهُ بِهِ الشَّارِعُ ; لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَصَّ الْكُفْرَ لِظُهُورِ مَحْوِهِ بِرِسَالَتِهِ.

(وَأَنَا الْحَاشِرُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْحَشْرِ، وَهُوَ الْجَمْعُ ( «الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» ) ، بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَخِفَّةِ الْيَاءِ بِالْإِفْرَادِ، وَبِشَدِّ الْيَاءِ مَعَ فَتْحِ الْمِيمِ مُثَنًّى رِوَايَتَانِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَيْ قُدَّامِي، وَأَمَامِي أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، وَيَنْضَمُّونَ حَوْلَهُ، وَيَكُونُونَ أَمَامَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَرَاءَهُ.

قَالَ الْخَلِيلُ: حَشَرْتُ النَّاسَ إِذَا ضَمَمْتَهُمْ مِنَ الْبَوَادِي.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ وَعِيَاضٌ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى عَلَى قَدَمِي، فَقِيلَ: عَلَى زَمَانِي وَعَهْدِي، أَيْ لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ، وَقِيلَ: لِمُشَاهَدَتِي كَمَا قَالَ: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]

ص: 692

(سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 143)، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ عَلَى أَثَرِي، أَيْ أَنَّهُ يَقْدُمُهُمْ، وَهُمْ خَلْفَهُ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَيَتْبَعُونَهُ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى رِوَايَةُ: عَلَى عَقِبِي، وَقِيلَ: عَلَى أَثَرِي، بِمَعْنَى أَنَّ السَّاعَةَ عَلَى أَثَرِهِ أَيْ قَرِيبَةً مِنْ مَبْعَثِهِ كَمَا قَالَ:" «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» "، وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: أَيْ عَلَى أَثَرِي، أَيْ أَنَّهُ يُحْشَرُ قَبْلَ النَّاسِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى:" «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي» "، بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مُخَفَّفًا عَلَى الْإِفْرَادِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالتَّشْدِيدِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدَمِ: الزَّمَانُ، أَيْ وَقْتَ قِيَامِي عَلَى قَدَمِي بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْحَشْرِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، وَلَا شَرِيعَةٌ، وَاسْتُشْكِلَ هَذَا التَّفْسِيرُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَحْشُورٌ، فَكَيْفَ يُفَسَّرُ بِهِ حَاشِرٌ اسْمُ فَاعِلٍ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ إِضَافَةٌ، وَالْإِضَافَةُ تَصِحُّ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَلَمَّا كَانَ لَا أُمَّةَ بَعْدَ أُمَّتِهِ ; لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، نُسِبَ الْحَشْرُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَقَعُ عَقِبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُحْشَرُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:" «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» " وَقِيلَ مَعْنَى الْقَدَمِ: السَّبَبُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: عَلَى مُشَاهَدَتِي قَائِمًا لِلَّهِ شَاهِدًا عَلَى الْأُمَمِ.

وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: " «وَأَنَا حَاشِرٌ بُعِثْتُ مَعَ السَّاعَةِ» "، وَهُوَ يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ.

(وَأَنَا الْعَاقِبُ) ، أَيْ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَفَ بَعْدَ شَيْءٍ فَهُوَ عَاقِبٌ، وَلِذَا قِيلَ لِوَلَدِ الرَّجُلِ بَعْدَهُ: هُوَ عَقِبُهُ، وَكَذَا آخِرُ كُلِّ شَيْءٍ.

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَيْ مَعْنَى الْعَاقِبِ خَتَمَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ، وَخَتَمَ بِمَسْجِدِهِ هَذَا الْمَسَاجِدَ، يَعْنِي مَسَاجِدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ زَادَ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ سَمَّاهُ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى آخِرِ مَا فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ ".

وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، فَظَاهِرُهُ الْإِدْرَاجُ أَيْضًا، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ:«الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ» .

وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّهُ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلرَّفْعِ وَالْوَقْفِ، انْتَهَى.

وَجَزَمَ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّهُ مُدْرَجٌ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ لِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَا الْعَاقِبُ، قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: «مَا الْعَاقِبُ؟ قَالَ: الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ» .

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ سُفْيَانُ: الْعَاقِبُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، انْتَهَى.

وَلَا يُنَافِيهِ رِوَايَةُ: بَعْدِي بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهَا قَدْ تَرِدُ عَلَى لِسَانِ الرَّاوِي حِكَايَةً عَنْ لِسَانِ مَنْ فَسَّرَ كَلَامَهُ إِذَا قَوِيَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ نَطَقَ بِهِ.

وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَابْنِ سَعْدٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحْصِي أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ يَعُدُّهَا؟ قَالَ نَعَمْ هِيَ سِتَّةٌ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَخَاتَمٌ وَحَاشِرٌ وَعَاقِبٌ وَمَاحٍ.

قَالَ الْحَافِظُ:

ص: 693

لَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ، وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَأَنَا الْعَاقِبُ، قَالَ: يَعْنِي الْخَاتَمَ، انْتَهَى.

وَكَأَنَّهُ أَرَادَ: زِيَادَةُ الْخَاتَمِ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثِ جُبَيْرٍ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ تَفْسِيرًا لِلْعَاقِبِ لَا اسْمًا بِرَأْسِهِ، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ:«لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ» ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، بَلْ فِي وُرُودِهِ فِي حَدِيثِ جُبَيْرٍ، وَفِي مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ:«سَمَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْمَاءً، مِنْهَا مَا حَفِظْنَا، وَمِنْهَا مَا لَمْ نَحْفَظْ، فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقْتَفِي وَالْحَاشِرُ (وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ) وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ» .

وَلِابْنِ عَدِيٍّ عَنْ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ لِي عِنْدَ رَبِّي عَشَرَةَ أَسْمَاءٍ، فَذَكَرَ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَنَا رَسُولُ الرَّحْمَةِ وَرَسُولُ التَّوْبَةِ وَرَسُولُ الْمَلَاحِمِ، وَأَنَا الْمُقْتَفِي، قَفَّيْتُ النَّبِيِّينَ عَامَّةً، وَأَنَا قَيِّمٌ» "، وَالْقَيِّمُ الْكَامِلُ الْجَامِعُ.

وَلِأَبِي نُعَيْمٍ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ مَرْفُوعًا:" «لِي عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ عِنْدَ رَبِّي أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْفَاتِحُ وَالْخَاتَمُ وَأَبُو الْقَاسِمِ وَالْحَاشِرُ وَالْعَاقِبُ وَالْمَاحِي وَيَس وَطه» ".

قَالَ الْحَافِظُ: وَمِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْقُرْآنِ بِاتِّفَاقٍ: الشَّاهِدُ الْمُبَشِّرُ النَّذِيرُ الْمُبِينُ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ وَالْمُذَكِّرُ وَالرَّحْمَةُ وَالنِّعْمَةُ وَالْهَادِي وَالشَّهِيدُ وَالْأَمِينُ وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ.

وَفِي حَدِيثِ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي: الْمُتَوَكِّلُ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْمَشْهُورَةِ: الْمُخْتَارُ وَالْمُصْطَفَى وَالشَّفِيعُ وَالصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَلَّغَهَا ابْنُ دِحْيَةَ ثَلَاثَمِائَةِ اسْمٍ، وَغَالِبُهَا صِفَاتٌ وُصِفَ بِهَا، انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ هُنَا سَوَاءٌ يَعْنِي لِأَنَّ كَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى الصِّفَاتِ لِلتَّقْلِيبِ، أَوْ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَعْرِيفِ الذَّاتِ وَتَمْيِيزِهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ خَمْسَمِائَةٍ قَالَ: مَعَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا نَظَرًا، قَالَ عِيَاضٌ: حَمَى اللَّهُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْخَمْسَةَ، أَيِ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنْ يَتَسَمَّى بِهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا سَمَّى بَعْضُ الْعَرَبِ مُحَمَّدًا قُرْبَ مِيلَادِهِ لَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْكُهَّانِ وَالْأَحْبَارِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسَمَّى مُحَمَّدًا، رَجَوْا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَسَمَّوْا أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ، قَالَ: ثُمَّ حَمَى اللَّهُ كُلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أَنْ يَدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ يَدَّعِيَهَا لَهُ أَحَدٌ، وَيَظْهَرَ عَلَيْهِ سَبَبٌ يُشَكِّكُ أَحَدًا فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَحَقَّقَتِ السِّمَتَانِ لَهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَهُمْ سِتَّةٌ لَا سَابِعَ لَهُمْ.

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: تَبَعًا لِابْنِ خَالَوَيْهِ ثَلَاثَةٌ، قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ جَمَعْتُهُمْ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، فَبَلَغُوا نَحْوَ عِشْرِينَ، لَكِنْ مَعَ تَكْرَارٍ فِي بَعْضِهِمْ، وَوَهْمٍ فِي بَعْضٍ فَخَلَصَ خَمْسَةَ عَشَرَ.

رَوَى الْبَغَوِيُّ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ شَاهِينَ، وَابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ عَبْدَةَ قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ رَبِيعَةَ كَيْفَ سَمَّاكَ أَبُوكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُحَمَّدًا؟ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَقَالَ: خَرَجْتُ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ مِنْ تَمِيمٍ أَنَا أَحَدُهُمْ، وَسُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ مَالِكٍ نُرِيدُ الشَّامَ، فَنَزَلْنَا عَلَى غَدِيرٍ عِنْدَ دَيْرٍ، فَقَالَ لَنَا الدَّيْرَانِيُّ: إِنَّهُ يُبْعَثُ فِيكُمْ وَشِيكًا نَبِيٌّ

ص: 694

فَسَارِعُوا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا وُلِدَ لِكُلٍّ مِنَّا وَلَدٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا لِذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ لَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ صُحْبَةٌ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عَدِيٍّ، قَالَ سَعْدٌ: لَمَّا ذَكَرْنَا فِي الصَّحَابَةِ عِدَادَهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَذَكَرَ عَبْدَانُ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ مُحَمَّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجَلَالِ، وَذَكَرَ الْبَلَاذُرِيُّ مُحَمَّدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ، فَلَا أَدْرِي أَهُمَا وَاحِدٌ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، أَمْ هُمَا اثْنَانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْبَرِّ الْبِكْرِيِّ ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَضَبَطَ الْبَلَاذُرِيُّ أَنَاءَ الْبَرِّ بِشَدِّ الرَّاءِ لَيْسَ بَعْدَهَا أَلِفٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُتْوَارَةَ، وَغَفَلَ ابْنُ دِحْيَةَ، فَعَدَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُتْوَارَةَ وَهُوَ وَنُسِبَ إِلَى جَدِّهِ الْأَعْلَى. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْيَحْمَدِيِّ الْأَزْدِيِّ ذَكَرَهُ الْمُفَجَّعُ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خَوْلِيٍّ الْهَمْدَانِيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِرْمَازِ بْنِ مَالِكٍ الْيَعْمُرِيُّ، ذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى الدِّيلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعْفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالشُّوَيْعِرِ ذَكَرَهُ الْمَرْزُبَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ السُّلَمِيُّ مِنْ بَنِي ذَكْوَانَ ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُغْفِلٍ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ الْفَاءِ، ثُمَّ لَامٍ، مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَوَلَدُهُ حُبَيْبٌ بِمُوَحَّدَتَيْنِ مُصَغَّرٌ صَحَابِيٌّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ خَدِيجٍ ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ الْقَعْنَبِيُّ، وَمُحَمَّدُ الْأَسَدِيُّ ذَكَرَهُمَا ابْنُ سَعْدٍ، وَلَمْ يَنْسُبْهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مِيلَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ، فَفَضَلَ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَدْ خَلَصَ لَنَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصِّفَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى الْقَزَّازِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ مَوْصُولًا، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْصُولًا كَمَا مَرَّ.

هَذَا، وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ بِتَمَامِ هَذَا الشَّرْحِ الْمُبَارَكِ عَلَى الْمُوَطَّأِ، لِجَامِعِهِ الْعَبْدِ الْفَقِيرِ الْحَقِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ شِهَابِ الدِّينِ بْنِ مُحَمَّدِ الزَّرْقَانِيِّ الْمَالِكِيِّ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، يَا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ، وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ مُتَوَسِّلًا إِلَيْكَ بِأَشْرَفِ رُسُلِكَ أَنْ تَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِكَ، وَأَنْ تَنْفَعَ بِهِ، وَأَنْ تَجْعَلَهُ سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِرِضَاكَ وَلِقَائِكَ وَلِقَاءِ حَبِيبِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

وَافَقَ الْفَرَاغُ مِنْ تَسْوِيدِهِ وَقْتَ أَذَانِ الْعَصْرِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُبَارَكِ حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ الْحَرَامِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ بَعْدَ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مَضَتْ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، هِجْرَةِ مَنْ لَهُ الشَّرَفُ الْأَعْظَمُ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصَّحَابَةِ وَالْآلِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ

ص: 695

الدِّينِ.

ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي خَلَدِي قَطُّ أَنْ أَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ، لِعِلْمِي بِالْعَجْزِ عَنِ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْمَسَالِكِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ قَدْ شَاءَ، وَيَسَّرَ لِي ذَلِكَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ عَلَى مَا هُنَالِكَ، وَعَسَى أَنْ يَنْفَعَ بِهِ نَفْعًا جَمًّا، وَيَفْتَحَ بِهِ قُلُوبًا غُلْفًا وَأَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ نَظَرَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ إِلَيْهِ، وَوَقَفَ فِيهِ عَلَى خَطَأٍ فَأَطْلَعَنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي لَجَدِيرٌ بِأَنْ أُنْشِدَ قَوْلَ الْقَائِلِ:

حَمِدْتُ اللَّهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي

لِمَا أَبْدَيْتُ مَعَ عَجْزِي وَضَعْفِي

فَمَنْ لِي بِالْخَطَأِ فَأَرُدَّ عَنْهُ

وَمِنْ لِي بِالْقَبُولِ وَلَوْ بِحَرْفِ

وَأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. . . إِلَى تَمَامِ السُّورَتَيْنِ، فَإِنِّي الْحَقِيقُ بِأَنْ أُنْشِدَ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ:

إِنِّي لَأَرْحَمُ حَاسِدِي لِفَرْطِ مَا

ضَاقَتْ صُدُورُهُمُ مِنَ الْأَوْغَارِ

نَظَرُوا صَنِيعَ اللَّهِ بِي فَعُيُونُهُمْ

فِي جَنَّةٍ وَقُلُوبُهُمْ فِي نَارِ

لَا ذَنْبَ لِي قَدْ رُمْتُ كَتْمَ فَضَائِلِي

فَكَأَنَّمَا عَلَّقْتُهَا بِمَنَارِ

لَكِنَّ مَنْ يَكُنِ اللَّهُ مُعِينًا لَهُ وَتَوَكُّلُهُ عَلَيْهِ لَا يَضُرُّهُ حَسَدُ الْحَاسِدِينَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا شَاءَ اللَّهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبَهُ وَسَلِّمَ.

ص: 696