الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محتويات البحث
بين يدي البحث.
لماذا اخترت الذهبي؟
الذهبي في سطور.
منهجي في البحث وصعوباته والدراسات السابقة.
الفصل الأول: إنصافه في تراجمه.
الفصل الثاني: تحذيره من سفك الدماء.
الفصل الثالث: ذمه الشديد للخوارج وإنصافه في الحكم عليهم.
الفصل الرابع: تحذيره من المسارعة إلى التكفير بغير برهان قطعي.
الفصل الخامس: تحذيره من التكفير بسبب الاختلاف في فروع العقائد.
الفصل السادس: تحذيره من التبديع والتضليل لأجل زلة أو هفوة.
الفصل السابع: دفاعه عن الأئمة والتماس الأعذار لهم.
الفصل الثامن: دعوته إلى وجوب المحافظة على الأخوة برغم الخلاف.
الفصل التاسع: تقريره بأن كلام الأقران يطوى ولا يروى.
الفصل العاشر: دعوته إلى ترك الإغراق في صراعات التاريخ وإشعال نار العداوات بسببها.
الفصل الحادي عشر: تمييزه بين مستويات البدعة وتفرقته بين الغلاة وغيرهم.
الفصل الثاني عشر: تقريره بأن العبرة في الرواة الصدق والإتقان وإن تلبسوا ببدعة.
الفصل الثالث عشر: نقده كثرة الخوض في مضائق العقائد وتفصيلاتها الدقيقة.
الفصل الرابع عشر: نهيه عن القول بالمسائل الشاذة والغريبة.
الفصل الخامس عشر: توسطه في مسألة الاجتهاد والتقليد.
الفصل السادس عشر: نقده لعلل وأدواء طلبة العلم.
الفصل السابع عشر: دعوته إلى ترك التحدث بمسائل العلم التي تضرّ العامة.
الفصل الثامن عشر: تحذيره من الغلو في العبادات.
الفصل التاسع عشر: توقيره للنبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء.
الفصل العشرون: توسطه في مسألة الأسماء والصفات.
بين يدي البحث
لعل من أبرز القضايا التي تشغل المجتمعات الإسلامية اليوم، قضية نقد الفكر الديني المتطرف وتفكيك بنيته، بعد أن اكتوت كثيرٌ من أقطاره بنيرانه، وتسبب في مزيد من أزماته واختناقاته داخلياً وخارجياً على مرّ العصور.
إن نقد الفكر الديني المتطرف وإضعافه له أدوات مختلفة ووسائل متنوعة، منها: مواجهته بما يقابله من الفكر الوسطي المعتدل لدي كبار علماء الأمة وأعلامها، ممن يحظون باحترام وثقة وثقل وتقدير بين المسلمين. وقد رأيت أن أسلط الضوء في بحثي هذا على أحد أبرز هؤلاء الأعلام ممن عرفوا بقصدهم واعتدالهم ووسطيتهم وسعيهم للم الشمل والتماس الأعذار ونقدهم لكثير من أفكار الغلو والتطرف البعيدة عن تعاليم الإسلام السمحة وقيمه النبيلة. هذا العالم هو: الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، المتوفى سنة 748 هـ رحمه الله تعالى.
من الذهبي ولماذا اخترته؟
وربما تساءل البعض: لماذا اخترت الذهبي من بين سائر الأئمة؟
وجواباً عن هذا السؤال أقول: إن منهج الاعتدال والوسطية هو السِّمة الغالبة على علماء الأمة منذ صدر الإسلام وعبر عصوره حتى يومنا هذا إلا من شذ وندر.
وإنما اخترت الذهبي لأسباب ثلاثة:
السبب الأول: يعود إلى أن الذهبي قد ترك لنا في هذا الباب تقعيدات مهمة وتأصيلات قيّمة، تجدر دراستها وإدارة حديث جاد حولها للإفادة منها.
السبب الثاني: أن هذه التأصيلات والتقعيدات صادرةٌ عن إمام كبير، وحافظ ناقد قدير، قد عرف علمه العلماء ودان لمكانته المحدثون والفقهاء، فضلاً عمّا عُرف به من الديانة والورع، فكلامه له وزنه وقيمته وتأثيره، وإن كنّا لا ندعي العصمة له ولا لغيره من علماء المسلمين.
السبب الثالث: أن الذهبي رحمه الله لم يترك لنا في موضوع الاعتدال والوسطية كتاباً مستقلاً أو فصلاً مفرداً، وإنما هي تعقيبات وتعليقات متفرقة كان يبثها وينثرها في مختلف كتبه كلّما عنّت لها حاجة أو طرأت لها مناسبة.
إن الإمام الحافظ الذهبي لم يكن مجرد مؤرخ ينقل أخبار من تَقَدّم فحسب، بل كان كثيراً ما ينقد ما ينقل ويعقّب ويعلّق على كل ما لا يراه صحيحاً أو مخالفاً للشرع أو العقل أو خارجاً على حدّ الذوق العام أو ما فيه مبالغة ومجازفة ظاهرة، فضلاً عن نقده للكثير من الكتب والمصادر التي يطالعها وينقل عنها.
ولعل هذه الخصلة هي أهم ما تتجلى فيه قيمة كتب الحافظ الذهبي، أعني هذه التعليقات والتعقيبات والتصويبات التي كان يبثها بين الحين والآخر، وإلا فإن ما يذكره من معلومات وحوادث قد تكون متاحة في بقية كتب التراجم والتاريخ الأخرى.
ولأجل هذه الأسباب كلها جاءت هذه المحاولة المتواضعة من كاتب هذه السطور في جمع ما تفرق من كلام الذهبي ولم شتاته
وتبويبه وتوثيقه فيما يخص موضوع الإنصاف والاعتدال فحسب، وإن كنت لا أزعم الاستيعاب والتقصي، وقد تكون فاتتني بعض المواضع مما هو من طبع البشر.
الذهبي في سطور
(1)
:
ولعله من المفيد قبل أن نبحر مع الإمام الذهبي وأفكاره أن نعرّف به أولاً ولو بشكل مختصر جداً، ونوضّح شيئاً من مكانته العلمية الرفيعة.
وإن شئتم الحق فالتعريف بالذهبي يطول جداً، والكلام عن علمه وفضله قد يكون له بداية وليس له نهاية. وباختصار أقول: الذهبي هو:
1 ــ الإمام الحافظ الناقد المؤرخ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي الدمشقي الشافعي.
2 ــ كان مولده في مدينة دمشق سنة: 673 هـ، وعلى ترابها نشأ وترعرع وطلب العلم.
3 ــ طوَّف الإمام الذهبي في مختلف البلدان والأقطار، والتقى بأكثر شيوخ العالم الإسلامي في وقته وأخذ عنهم، وقد عرّف
(1)
ترجم للذهبي كل من عاصره أو جاء بعده من أصحاب التراجم والسير، وقد أفرد ترجمته في كتب مستقلة غير واحد من الباحثين المعاصرين، ولعل من أجمعها، كتاب: الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام، للدكتور بشار عواد معروف، وكتاب: الحافظ الذهبي مؤرخ الإسلام، لعبد الستار الشيخ.
بشيوخه هؤلاء في مؤلف ضخم مطبوع في مجلدين كبيرين، سماه:"معجم الشيوخ"، وله كتاب آخر اقتصر فيه على شيوخه في الحديث، سماه:"المعجم المختص بالمحدثين".
4 ــ بَرَع الإمام الذهبي في العديد من العلوم، وتقلّد مناصب علمية رفيعة، وانصبّ اهتمامه الأكبر على فنون الحديث والتاريخ ونقد الرواة، وحول هذه الموضوعات الثلاثة أخرج أروع كتبه ومؤلفاته.
5 ــ تجاوزت مؤلفات الذهبي الثلاثمائة مؤلف، ما بين مطول ومختصر ومتوسط الحجم، ومن أشهر مؤلفاته: مدونته الكبرى: "تاريخ الإسلام"، والتي تجاوزت الخمسين مجلداً، وكتابه "سير أعلام النبلاء"، الذي طبع في خمس وعشرين مجلداً ضخماً، و"تذكرة الحفاظ"، و"ميزان الاعتدال في نقد الرجال" وغيرها من المؤلفات.
6 ـ تبوأ الذهبي منزلة رفيعة في علم الحديث والتاريخ، ويكفي أن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، صاحب "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، وهو من هو في العلم والحفظ والمعرفة، ذكر
أنه شرب من ماء زمزم سائلاً الله عز وجل أن ينال مرتبة الذهبي وبراعته في الرسوخ في العلم
(1)
.
7 ــ وقد أثنى على الذهبي وأشاد بعلمه وفضله كلُّ من عاصره أو جاء بعده من أهل العلم والمؤرخين، كعَلَم الدين البرزالي (739 هـ)،، وصلاح الدين الصَّفدي (764 هـ)، والحُسيني (765 هـ)، وابن السبكي (771 هـ)، وابن كثير (774 هـ)، وابن ناصر الدين الدمشقي (842 هـ)، والحافظ ابن حجر العسقلاني (852 هـ)، وبدر الدين العيني (855 هـ)، والسخاوي (902 هـ) وجلال الدين السيوطي (911 هـ)، والعلامة الشوكاني (1250 هـ)، وغيرهم ممن يطول ذكرهم، ولا أرى حاجة لنقل كلامهم طلباً للاختصار والإيجاز
(2)
.
8 ـــ ومع أن الذهبي عاش في عصر كثر فيه الجمود الفكري والتعصب المذهبي إلا أنه استطاع التخلص من كثير من ذلك بفضل سعة علمه وفطنته وبعد نظره وإنصافه.
(1)
نقل ذلك غير واحد، منهم: السيوطي في كتابه: طبقات الحفاظ، ص 552، والكتاني في: فهرس الفهارس والأثبات 1/ 322.
(2)
انظر بعض هذا الثناء في التقدمة التي كتبها العلامة بشار عواد لكتاب: تاريخ الإسلام 1/ 65، وسير أعلام النبلاء 1/ 69 كلاهما للذهبي.
وقد أشار إلى هذه الخصلة الحميدة فيه تلميذُه المؤرخ الناقد صلاح الدين الصَّفدي (ت 764 هـ) عندما قال عنه: "لم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة
(1)
النقلة، بل هو فقيه النظر، له دُربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات"
(2)
.
(1)
الكودنة: البطء والثقل كما في المعجم الوسيط، 2/ 780 مادة " كدن".
(2)
الوافي بالوفيات للصفدي، 2/ 163. وينظر أيضاً شعيب الأرنؤوط وآخرين، مقدمة سير أعلام النبلاء، 1/ 53.
منهجي في البحث وصعوباته والدراسات السابقة:
وأما عن منهجي في البحث: فقد قمت بجمع ما وقفتُ عليه من كلام الحافظ الذهبي مما يخصّ موضوع الكتاب فحسب
(1)
، ثم صنّفت كلامه ووثّقته وبوّبته ووضعت له ما يناسبه من عناوين جانبية.
ولم أر داعيا لإطالة البحث أو إثقال حواشيه بشرح كلام الذهبي أو نقل ما يشهد له من النصوص أو من كلام الأئمة إلا في القليل النادر. فكلام الذهبي واضح جداً، ولو فتحت باب الشرح والتعليق لطالت ذيول البحث وتشعبت فصوله وخرج عن مقصوده.
أيضاً قد يكرر الذهبي بعض الآراء والأفكار في مواطن عدة من كتبه بحسب الحاجة والمناسبة، وفي هذه الحال قد أكتفي ببعض الشواهد من كلامه، وأترك الأخرى خشية الإطالة.
(1)
للذهبي تعليقات وتعقيبات كثيرة، منها ما يتعلق بمسائل علمية كالحكم على الرواة ونقد المرويات، أو إبداء رأي في مسألة فقهية أو عقدية أو حديثية، أو تعليقات تتعلق ببعض الآداب ونحوها، لكني لم أقيّد هنا إلا ما يختص بموضوع الإنصاف.
وعلم الله أني قد اضطررت في سبيل جمع هذه المادة إلى مطالعة وجرد معظم كتب الذهبي الكبار، من أمثال مدونته الكبرى: تاريخ الإسلام بمجلداتها التي زادت على الخمسين مجلداً، وكتابه العظيم: سِيَر أعلام النبلاء، وكتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ومعجم الشيوخ الكبير، والمعجم المختص بالمحدثين، والعِبَر في أخبار من غَبَر، وتذكرة الحفاظ، وبيان زَغَل العلم.
هذه أهم كتب الذهبي، وقد تكون له تعليقات في ثنايا كتبه الأخرى، لكني أتصور ندرتها فتركتها، والله أعلم.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الباحثين كان قد سبقني في جمع شيء من كلام الذهبي وتعليقاته، لكني وجدتها كتباً عامة جمعت من كلام الذهبي وآراءه قضايا متنوعة، تتعلق بالآداب والسلوك وضرورة لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيم العلماء، أو كلاماً يتعلق بتحقيق مسائل في السيرة أو التاريخ أو العقيدة أو الفقه، فضلاً عن كونها لم تستقرء كتب الذهبي وقد فاتها الشيء الكثير.
هذا وقد كنت عزمت على تسمية كتابي هذا بالوسيطة في
فكر الحافظ الذهبي، لكني عدلت إلى تسميته بـ "الإنصاف والاعتدال في فكر الحافظ الذهبي" لأني رأيت الذهبي نفسه قد استعمل هذه العبارة عندما ذكر اختلاف بعض الناس في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين غال في حبِّه أو مفرط في بغضه، فقال الذهبي رحمه الله معلقاً: «فبالله كيف يكون حال من نشأ في إِقليم، لا يكاد يُشاهد فيه إِلاَّ غالياً في الحبِّ، مفرطاً في البغض، ومن أين يقع له الإِنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية
…
»
(1)
.
ولعلي أختم هذا المقدمة بما ختم به الحافظ الذهبي مقدمة كتابه تاريخ الإسلام عندما قال: (وأنا أرغبُ إلى الله تعالى، وابتهلُ إليه أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يغفر لجامِعة وسامِعه ومطالِعه وللمسلمين، آمين)
(2)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 3/ 128.
(2)
تاريخ الإسلام 1/ 10.
الفصل الأول إنصافه في تراجمه
لعل من أبرز السمات التي لا تخطئها العين في منهج الإمام الذهبي وفي مسيرته العلمية إنصافه الشديد لكل من ترجم له أو كتب عنه من الأعلام والمشاهير حتى وإن كانوا يختلفون معه في المذهب أو المعتقد.
إن كل من يطالع تراجم الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء أو تاريخ الإسلام أو تذكرة الحفاظ أو ميزان الاعتدال أو غيرها تجده لا يفرق في النقد بين علماء المذاهب وأرباب الطوائف وبيان ما لهم وما عليهم، سواء كانوا ممن يتفقون معه أو يختلفون.
فالذهبي ينقل عادة آراء الموافقين والمخالفين في العَلَمِ المترجَم، حتى يقدم صورة متكاملة عنه من كل جانب.
بينما نجد كثيراً من الكتاب والمؤرخين قديماً وحديثاً يتأثرون بمذاهبهم ومشاربهم واختلاف توجهاتهم وأمزجتهم عند الحديث عن غيرهم، فيقتصرون إما على التبجيل والمدح
أو على الذم والقدح، بحسب قرب المترجَم أو بعده عن مذاهبهم ومعتقداتهم وقناعاتهم الشخصية.
وشواهد الإنصاف كثيرة في كتب الذهبي، اكتفي منها بثلاثة طلباً للاختصار.
الشاهد الأول: موقفه من الإمام أبي حامد الغزالي (ت: 505 هـ)، صاحب كتاب إحياء علوم الدين، وأحد أبرز منظري الصوفية وزعماء الأشاعرة.
لقد انتقد الإمام الذهبي أبا حامد الغزالي كثيراً وأبدى جملة من الملحوظات عليه، خاصة في باب التصوف واستدلاله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في كتبه دون علم له بذلك، لكن ولأن الغزالي له جهود كبيرة في نشر علوم الشريعة، والتصدي لكثير من الفرق الضالة والمنحرفة كالباطنية والفلاسفة فقد أنصفه الذهبي وعرف له فضله وقدره وصدّر ترجمته بقوله في السير:«الشيخ الإمام البحر، حجّة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين الدين، أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الشافعي الغزالي صاحب التصانيف والذكاء المفرط»
(1)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 19/ 323.
وقال منصفاً كتابه الإحياء: «وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثيرٌ، لو لا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علماً نافعاً»
(1)
.
وقال أيضاً مدافعاً عن الغزالي: «الغَزالي إمامٌ كبير، وما من شَرط العالِم أنهُ لا يخطئ»
(2)
.
وقد ختم ترجمته بقوله: «فرحم الله الإمام أبا حامد، فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندَّعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول»
(3)
.
وقد عدَّه من العلماء المجددين في القرن الخامس
(4)
.
وما من شك أن موقف الذهبي هذا يعد غاية في الوسطية والاعتدال حيث لم يمنعه نقده للإمام الغزالي في بعض المسائل الشرعية من إنصافه والإقرار بعلمه وفضله، مع تصريحه بأن العالم في المنظور الإسلامي ليس من شرطه أنه لا يخطئ البتة، فليس في الإسلام كهنة ولا أئمة معصومون، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا
(1)
سير أعلام النبلاء 19/ 339.
(2)
سير أعلام النبلاء 19/ 339.
(3)
سير أعلام النبلاء 19/ 246.
(4)
تاريخ الإسلام 23/ 179.
صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم كما يقول الإمام مالك بن أنس
(1)
.
الشاهد الثاني: موقف الحافظ الذهبي من الإمام ابن حزم الأندلسي الظاهري (ت: 456 هـ)، صحاب كتاب المحلى وغيره.
فقد أثنى الذهبي في كتبه على ابن حزم رحمه الله، ووصفه بالإمامة والحفظ والتدين والتبحر في علوم الدين، مع أنه انتقده في الوقت نفسه بقسوة في مسائل شرعية كثيرة في الأصول والفروع، خاصة في تأثره بعلوم المنطق والفلسفة في باب الاعتقاد، وظاهريته المفرطة في الفقه، ولهجته الحادة في نقد الأئمة.
وقد ترجم الذهبي له في ثمان وعشرين صفحة من القطع الكبير من كتابه سير أعلام النبلاء وختم ترجمته بقوله: (ولي أنا ميل إلى أبي محمد ـــ يعني ابن حزم ـــ لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أُكفره ولا أُضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسَعَة علومه)
(2)
.
(1)
البداية والنهاية 14/ 169.
(2)
سير أعلام النبلاء 18/ 184.
وفي تصوري أن هذا الموقف من الإمام الذهبي يعد غاية الغايات في باب التسامح والاعتدال والوسطية، والنظر إلى المخالِف بعين الإنصاف، والدعوة إلى عدم التهور في تكفير المسلم ورميه بالضلال لأجل زلّة أو اجتهاد خاطئ في مسألة.
الشاهد الثالث: موقفه من كتاب "الشِّفا في التعريف بحقوق المصطفى" للقاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي، (ت: 543 هـ)، ففي ترجمته من السير قال:«تواليفه نفيسة، وأجلها وأشرفها كتاب الشِّفا، لو لا ما حشاه بالأحاديث المُفتعلة، عملُ إمام لا نقد له في فنّ الحديث ولا ذوق، والله يثيبه على حسن قصده، وينفع بشفائه وقد فعل»
(1)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 20/ 216.
الفصل الثاني تحذيره من سفك الدماء
لقد كان الحافظ الذهبي رحمه الله كثيراً ما يشدّد في شأن الدماء والأرواح كلما ترجم لشخص عرف باستهانته بها. والنبي صلى الله عليه وسلم صحً عنه أنه قال: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً»
(1)
.
وإن تيسر لك مطالعة كتابه: سير أعلام النبلاء أو مدونته الكبرى: تاريخ الإسلام أو كتابه المختصر: العِبَر بأخبار من غَبَر فسوف تقف على شواهد كثيرة من نقده لكل من تورط في هذا الأمر المريع من أمثال: الحجاج بن يوسف الثقفي (ت: 95 هـ)، وأبي مسلم الخُراساني (ت: 137 هـ)، الداعية إلى دولة بني العباس، والحاكم بأمر الله العُبيدي (ت: 411 هـ)، حاكم مصر، والمهدي ابن تومرت (ت: 524 هـ)، حاكم بلاد المغرب، وطاغية التتار جنكيز خان (ت: 624 هـ)، الذي قال الذهبي: «بأن قتل المسلم
(1)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب بدون عنوان، 9/ 2 حديث رقم (6862).
عنده أهون من قتل البرغوث»
(1)
!!. وحفيده هولاكو، الذي قال الذهبي:«بأنه سفك دم ألف ألف أو يزيدون»
(2)
!!
ــــــ وقد انتقد الذهبي رحمه الله كثرة الأرواح البريئة التي أزهقت عند قيام دولة بني العبّاس، وقال:«فرحنا بمصير الأمر إليهم، ولكن والله ساءنا ما جرى؛ لما جرى من سيول الدِّماء، والسَّبي، والنَّهب، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فالدولة الظالمة مع الأمن وحقن الدماء، ولا دولة عادلة تنتهك دونها المحارم، وأنى لها العدل؟ بَلْ أَتَتْ دَوْلَةً أعجمية خراسانيَّة جبَّارة، ما أشبه الليْلة بالبارحة»
(3)
.
ــــــ وقال في موضع آخر: «وفي عصر هذه الطبقة
(4)
تحولت دولة الإسلام من بني أمية إلى بني العباس في العام اثنتين وثلاثين ومائة، فجرى بسبب ذلك التحول سيولٌ من الدماء، وذهب تحت السيف عالَمٌ لا يحصيهم إلا الله بخراسان والعراق والجزيرة والشام، وفعلت العساكر الخراسانية الذين هم المسودة كلَّ قبيح، فلا حول ولا قوة إلا بالله»
(5)
.
ــــــ ومن الطريف أن الذهبي رحمه الله كان يرى أن الشدة
(1)
سير أعلام النبلاء 22/ 243.
(2)
تاريخ الإسلام 49/ 183.
(3)
سير أعلام النبلاء 6/ 58.
(4)
يقصد طبقة صغار التابعين.
(5)
تذكرة الحفاظ 1/ 158.
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تفضي بصاحبها إلى التكفير واستباحة الدماء!!
يقول رحمه الله: «ربما آل الأمر بالمعروف بصاحبه إلى الغضب والحدَّة، فيقع في الهجران المحرَّم، وربَّما أفضى إلى التكفير
(1)
والسَّعي في الدَّم»
(2)
.
(1)
وقع في طبعة الرسالة للسير " التفكير "، ووقع في طبعة دار الحديث " التكفير " ولعلها أقرب للسياق.
(2)
سير أعلام النبلاء 17/ 41.
الفصل الثالث ذمه الشديد للخوارج
(1)
، وتوسُّطه في الحكم عليهم.
لقد ذمّ الإمام الذهبيُّ الخوارجَ في مواطن كثيرة من كتبه وحمل عليهم بسبب غلوهم في الدين وسفكهم للدماء بالرغم من شدة تدينهم وكثرة عبادتهم لكن على جهالة.
ــــــ يقول رحمه الله: «أوقعهم ــــ يعني الخوارج ــــ الغلو في الدين إلى تكفير العصاة بالذنوب، وإلى قتل النساء والرجال، إلا من اعترف لهم بالكفر وجدّد إسلامه»
(2)
!!
ــــــ وفي موضع آخر يقول: (الخوارج كلاب النَّار
(3)
، وَشَرُّ
(1)
الخوارج: فرقة من الفرق الإسلامية، خرجوا على الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخالفوا رأيه وقاتلوه وكفّروه، لهم عقائد زائغة من أشهرها: تكفير مرتكب الكبيرة، واستحلال دماء المسلمين المخالفين لهم وأموالهم بحجّة أنهم مرتدين، وهم فرق شتى، ينظر الملل والنحل للشهرستاني، ص 131، التمهيد لابن عبد البر 23/ 322، المغني لابن قدامة 9/ 12، ومجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 516.
(2)
سير أعلام النبلاء 3/ 606.
(3)
إشارة للحديث الذي أخرجه أحمد في المسند 31/ 474، وابن ماجه في سننه، كتاب الإيمان، باب في ذكر الخوارج، 1/ 61 حديث 173، عن أبي ابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الخوارج كلاب النار» ، وصححه الألباني في الجامع الصحيح برقم 3347.
قَتْلَى تَحْتَ أَدِيْمِ السَّمَاءِ
(1)
، لأَنهم مرقوا من الإسلام، ثم لا ندري مصيرهم إلى ماذا، ولا نحكم عليهم بخلود النار، بل نقف)
(2)
.
ــــــ وكذلك قوله: «الخوارج كلاب النَّار، قد مرقوا من الدّين، وَمع هذا فلا نقطع لهم بخلود النَّار، كما نقطع به لعبَدة الأصنام والصُّلبان»
(3)
. وقد وصفهم أيضاً بأنهم أعداء للمسلمين
(4)
.
وهذا من إنصاف الذهبي رحمه الله ووسطيته فهو وبالرغم من نقده للخوارج وذمه الشديد لهم وتحذيره منهم إلا أنه لم يقطع بكفرهم ولا بخلودهم في النار، وهذا هو مذهب أهل السنة، أعني عدم تكفير الخوارج، كما حكاه عنهم الإمام النووي (ت: 676 هـ) في شرحه على صحيح مسلم
(5)
.
بل نقل الإمام الخطابي (ت: 388 هـ) إجماع العلماء على: أن الخوارج على ضلالهم مسلمون وليسوا بكفار
(6)
(1)
إشارة إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه، في كتاب التفسير، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 222 حديث 3000، عن أبي أمامة مرفوعاً، وفيه:«كلاب النار شرُّ قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه» ، حسنه الترمذي في الموضع المذكور، وقال الألباني: حسن صحيح، كما في صحيح سنن الترمذي، برقم 3000.
(2)
سير أعلام النبلاء 1/ 63.
(3)
سير أعلام النبلاء 3/ 128.
(4)
سير أعلام النبلاء 15/ 373.
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم 7/ 160 - 165.
(6)
نقله عنه المناوي في فيض القدير 3/ 509.
الفصل الرابع تحذيره من المسارعة إلى التكفير بغير برهان قطعي
ففي ترجمة الفيلسوف المتصوّف الحسين بن منصور الحلاج (ت: 309 هـ) يقول الذهبي: «فما ينبغي لك يا فقيه أن تبدر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي، كما لا يسوغ لك أَنْ تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله، وانهتك باطنه وزندقته، فلا هذا ولا هذا، بل العدل أن من رآه المسلمُون صالحاً محسناً، فهو كذلك، لأنهم شهداء الله في أرضه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن من رآه المسلمون فاجراً أو منافقاً أو مبطلا، فهو كذلك، وأن من كان طائفةٌ من الأمة تضلِّله، وطائفةٌ من الأمة تثني عليه وتبجِّله، وطائفةٌ ثالثةٌ تقف فيه وتتورَّع من الحطِّ عليه، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه، وأن يفوَّض أمره إلى الله، وأن يستغفر له في الجملة؛ لأن إسلامه أصلي بيقين، وضلاله مشكوك فيه، فبهذا تستريح، ويصفو قلبك من الغِّل للمؤمنين»
(1)
.
وكلام الذهبي هذا يمكن أن نخلص منه إلى قواعد مهمة، منها:
(1)
سير أعلام النبلاء 14/ 343.
1 ــ عدم رمي المسلم بالكفر بغير برهان قطعي صريح.
2 ــ عدم ادعاء الولاية لمن تأكد ضلاله وتبرهنت زندقته وانحرافه عن الشريعة ونصوصها البينة.
3 ــ أن من عُرف عند جماهير الأمة بالخير والصلاح والاستقامة فهو صالح خيّر مستقيم إن شاء الله، لأن الأمة هم شهداء الله في أرضه.
4 ـــ أن من عُرف بفجوره واشتهر بانحرافه، فهو كذلك بحسب الظاهر، وإن كنا لا نقطع له في باطن الأمر، لكن كما قال الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت: 321 هـ): «نرجوا للمحسن ونخاف على المسيء»
(1)
.
5 ــ أن من اختلف فيه علماء الأمة ما بين مادح وقادح، ومعدل ومجرّح، فهذا ممن ينبغي الحذر في الحكم عليه. والأسلم تفويض أمره إلى الله، والاستغفار له في الجملة، لأن أسلامه ثابتٌ بيقين، وكفره مشكوك فيه، وبهذا كما يقول الذهبي: يصفوا قلب المسلم من الغلّ للمسلمين.
(1)
: ينظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 2/ 538.
الفصل الخامس تحذيره من التكفير بسبب الاختلاف في فروع العقائد
وهذا كثير في كلام الذهبي رحمه الله.
من ذلك ما نقله في ترجمة أبي الحسن الأشعري (ت: 324 هـ) رحمه الله، عن أزهر بن أحمد السرخسي، أنه قال:(لما قرُب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد عليّ أني لا أُكفِّر أحداً من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات).
وقد علَّق الذهبي على كلام الأشعري فقال: «وبنحو هذا أدين، وكذا شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه، يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم»
(1)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 15/ 88.
الفصل السادس دعوته إلى ترك التضليل والتبديع لأجل زلّة أو هفوة، وأن العبرة بكثرة الفضائل
ويبدو أن هذه المسألة كانت تشغل ذهن الذهبي وتفكيره كثيراً، ربما لكثرة ما كان يرى من النزاع الذي كان يقع بين أصحاب المذاهب المختلفة والذي كان يصل إلى حد التهاجر والفجور في الخصومة وهضم حق الآخرين، فكرر الدعوة في مؤلفاته إلى ضرورة التحلي بالإنصاف والاعتدال مع العلماء، وعدم الحطّ عليهم لأجل بعض الهفوات أو الهنّات، وأن العبرة بكثرة المحاسن.
وأنا أنقل إليكم بعض ما قاله الذهبي في ذلك:
(1)
.
ثانياً: قوله: «لو أننا كلما أخطأ إمامٌ مجتهد في مسألة خطأ مغفوراً له هجرناه وبدَّعناه، لما سلم أحدٌ من الأئمة، والله الهادي للحق،
(1)
تاريخ الإسلام 30/ 256.
والراحم للخلق»
(1)
.
(2)
.
رابعاً: قوله في ترجمة الحافظ محمد بن إسحاق بن خُزيمة، (ت: 317 هـ)،:«ولو أن كلَّ من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق - أهدرناه، وبدَّعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه»
(3)
.
خامساً: قوله في ترجمة الحافظ وكيع بن الجراح الكوفي (ت: 197 هـ)،:«كان ملازماً لشرب نبيذ الكوفة الذي يسكر الإكثار منه، فكان متأولاً في شربه، ولو تركه تورعاً، لكان أولى به، فإن من توقى الشُّبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، وقد صح النَّهي والتَّحريم للنَّبيذ المذكور، وليس هذا موضع هذه الأمور، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، فلا قدوة في خطأ العالم، نعم، ولا يوبخ بما فعله باجتهاد نسأَل الله المسامحة»
(4)
.
(1)
تاريخ الإسلام 22/ 299.
(2)
سير أعلام النبلاء 14/ 40.
(3)
سير أعلام النبلاء 14/ 376.
(4)
سير أعلام النبلاء 9/ 143.
سادساً: قوله في السِّير: «نحبّ العالِم على ما فيه من الاتباع والصِّفات الحميدة، ولا نحبّ ما ابتدع فيه بتأوِيل سائغ، وإنَّما العبرة بكثرة المحاسن»
(1)
سابعاً: قوله في ترجمة أبي بكر الشاشي الشافعي، (ت: 417 هـ): «الكمال عزيز، وإنما يُمدح العالِم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطه، ولعله رجع عنها، وقد يُغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق، ولا قوة إلا بالله)
(2)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 20/ 45.
(2)
سير أعلام النبلاء 16/ 285.
الفصل السابع دفاعه عن الأئمة والتماسه الأعذار لهم
وشواهد هذا كثيرة في مؤلفات الذهبي، منها على سبيل المثال:
1 ـــــ دفاعه عن الإمام الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن حِبّان البُستي (ت: 354 هـ) صاحب كتاب الصحيح في اتهامه بالزندقة.
فقد ذكر الذهبي أن بعض العلماء نقل عن ابن حبان أنه قال: «النبوة: العلم والعمل» !!
ثم أنكروا عليه بسبب ذلك وحكموا بزندقته وكتبوا إلى الخليفة بقتله!!
لكن الذهبي دافع عن ابن حبان وقال: «هذا له محملٌ حسنٌ، ولم يُرد حصر المبتدأ في الخبر، ومثله: الحج عرفة، فمعلوم أن الرجل لا يصير حاجاً بمجرد الوقوف بعرفة، وإنما ذكر مهمّ الحج ومهم النبوة، إذ أكمل صفات النبي العلم والعمل، ولا يكون نبياً إلا أن يكون عالماً عاملاً، نعم النبوة موهبة من الله تعالى لمن اصطفاه من
أولى العلم والعمل، لا حيلة للبشر في اكتسابها أبداً، وبها يتولد العلم النافع والعمل الصالح، ولا ريب أن إطلاق ما نقل عن أبي حاتم لا يسوغ، وذلك نفسٌ فلسفي»
(1)
.
2 ــــ دفاعه عن الفقيه أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، (ت: 474 هـ)، شارح الموطأ وغيره.
فقد ذكر الذهبي أن بعض علماء بلده كان قد كفّره بسبب قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب اسمه بنفسه يوم صلح الحديبية كما جاء في صحيح البخاري
(2)
، قالوا: إن في هذا تكذيب للقرآن الكريم الذي أخبر عن نبيه بأنه نبي أميّ.
لكن الذهبي لم يقبل بتكفير هذا الفقيه الجليل، وأطال في الدفاع عنه قائلاً:«يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب اسمه ليس إلاّ، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّاً، وما من كتب اسمه من الأمراء والولاة إدماناً للعلامة يُعد كاتباً، فالحكم للغالب لا لما ندر، وقد قال عليه السلام: "إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب" أي لأن أكثرهم كذلك، وقد كان فيهم الكتبة قليلاً، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ}، [الجمعة: 2]، وقوله عليه السلام: «لا نحسب» حق،
(1)
تذكرة الحفاظ 3/ 922.
(2)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، 5/ 141، حديث 4251.
ومع هذا فكان يعرف السنين والحساب وقسم الفيء وقسمة المواريث بالحساب العربي الفطري، لا بحساب القبط، ولا الجبر والمقابلة، بأبي هو ونفسي صلى الله عليه وسلم، وقد كان سيّد الأذكياء، ويبعد في العادة أن الذكي يُملي الوحي وكتب الملوك وغير ذلك على كتّابه، ويرى اسمه الشريف بخاتمه، ولا يعرف هيئة ذلك مع الطول، ولا يخرج بذلك عن أميّته، وبعض العلماء عدّ ما كتبه يوم الحديبية من معجزاته، لكونه لا يعرف الكتابة وكتب، فإن قيل: لا يجوز عليه أن يكتب، فلو كتب لارتاب مبطلٌ، ولقال: كان يُحسن الخط، ونظر في كتب الأولين، قلنا: ما كتب خطاً كثيراً، حتى يرتاب به المبطلون، بل قد يقال: لو قال مع طول مدة كتابة الكتاب بين يديه: لا أعرف أن أكتب اسمي الذي في خاتمي، لارتاب المبطلون أيضاً، ولقالوا: هو غاية في الذكاء فكيف لا يعرف ذلك، بل عرفه وقال: لا أعرف. فكان يكون ارتيابهم أكثر، وأبلغ في إنكاره والله أعلم»
(1)
.
3 ـــــ دفاعه عن المحدث الثقة حسين المعلّم، (ت: 150 هـ).
فقد نقل الذهبي عن بعض الأئمة تضعيف حسين المعلم بسبب أغلاط وقعت له في رواية بعض الأحاديث، وردّ الذهبي عليهم فقال: «الرجل ثقة، وقد احتج به صاحبا
(1)
سير أعلام النبلاء 18/ 540، وينظر أيضاً تذكرة الحفاظ 3/ 1181.
الصحيحين
…
وليس من شرط الثقة أن لا يغلط أبداً، فقد غلط شعبة ومالك، وناهيك بهما ثقة ونبلاً
…
»
(1)
.
4 ــــ وكرر هذا المعنى في ترجمة الإمام الحافظ هشام بن عروة الأسدي، (ت: 146 هـ).
فقد ردّ على من ضعفه بسبب بعض الأخطاء، وقال:«أرني إماماً من الكبار، سَلِمَ من الخطأ والوهم»
(2)
.
5 ـــــ ومثل ذلك فعل في دفاعه عن الحافظ الكبير عبد الرزاق بن همام الصنعاني، (211 هـ).
فقد نقل الذهبي عن الحافظ العباس بن عبد العظيم قوله: «والله الذي لا إله إلا هو، إن عبد الرزاق كذّاب، والواقدي أصدق منه» !!
(3)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 6/ 346.
(2)
سير أعلام النبلاء 6/ 36.
(3)
سير أعلام النبلاء 9/ 571.
الفصل الثامن دعوته إلى وجوب المحافظة على الأخوة برغم الخلاف
وسأذكر شاهدين من كلام الذهبي على هذا:
الشاهد الأول: ما نقله الذهبي في ترجمة الإمام الشافعي (ت: 204 هـ) رحمه الله صاحب المذهب، عن أبي موسى الصّدفي، أنه قال:(ما رأيت أعقلَ من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في المسألة).
ثم علّق الذهبي قائلاً: (وهذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقهِ نفسه، فما زال النظراء يختلفون)
(1)
.
الشاهد الثاني: في ترجمة الحافظ إسحاق بن راهويه الحنظلي، (ت: 238 هـ).
فقد نقل الذهبي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً))
(2)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 20/ 216.
(2)
سير أعلام النبلاء 21/ 371.
الفصل التاسع تقريره بأن كلام الأقران
(1)
يطوى ولا يروى، خاصة إذا ما تبين أنه بسبب حسد أو عداوة
وقد قرر هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتبه:
ــــــ كقوله: «لو سمعنا كلام الْأقران، بعضهم في بعض لاتَّسَع الخَرْقُ»
(2)
.
ــــــ وقوله: «كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية، لا يلتفتُ إليه، بل يطوى ولا يروى»
(3)
.
ــــــ وقوله: «قد علم أن كثيراً من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدرٌ لا عبرة به»
(4)
.
ــــــ وقوله في ترجمة الحافظ أبي نُعيم الأصبهاني، (ت: 430 هـ)، عندما ذكر كلام الحافظ ابن مندة (ت: 475 هـ) فيه بسبب خلاف وقع بينهما في مسألة اللفظ بالقرآن هل هو مخلوق؟
(1)
المراد بالأقران: العلماء المتعاصرون.
(2)
تاريخ الإسلام 27/ 324.
(3)
سير أعلام النبلاء 10/ 92.
(4)
سير أعلام النبلاء 7/ 40.
(1)
ميزان الاعتدال 1/ 111.
الفصل العاشر دعوته ترك الإغراق في صراعات التاريخ وإشعال نار العداوات بسببها
(1)
.
ــــــ وعندما أشار الذهبي رحمه الله إلى ما حصل بين بعض الصحابة رضي الله عنهم من خلاف وحروب، قال:«سبيلُنا أن نستغفر للكل، ونحبهم، ونكفّ عما شجر بينهم»
(2)
.
ــــــ وقال أيضاً: «تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين»
(3)
.
وهذا من فقه هذا الإمام ودقيق نظره، فمعظم صراعات المسلمين اليوم ومخاصماتهم تدور حول حوادث
(1)
سير أعلام النبلاء 10/ 93.
(2)
سير أعلام النبلاء 7/ 369.
(3)
سير أعلام النبلاء 10/ 92.
تاريخية غابرة قد تجاوزها الدهر منذ زمن سحيق، ولم يعد لوجودها داع أو مبرر، إلا اتخاذها ذريعة لتأجيج نار العداوات وتجديد الخصومات بين المسلمين بسوء فهم أو سوء نية.
• • •
الفصل الحادي عشر تمييزه بين مستويات البدعة، وتفرقته بين الغلاة وغيرهم
من إنصاف الذهبي رحمه الله واعتدال فكره أن كان كثيراً ما يفرّق في الحكم بين الغلاة وغيرهم من شتى أرباب الطوائف والمذاهب، وهذا له صور وشواهد كثيرة منها:
تفرقته بين غلاة الصوفية ومعتدليهم.
فالذهبي رحمه الله كان لا يضع الصوفية كلهم في سلّة واحدة، بل كان يفرّق بين من تمسكوا منهم بالكتاب والسنّة، والتزموا بأحكام الشريعة
(1)
، وبين المخلّطين منهم، من أصحاب الشعوذة والترهات والشطحات والخرافات. فهو يشيد بالطائفة الأولى ويذب عنها، بينما يشتد بنقده وتقريعه على الطائفة الثانية ويحط عليها.
والشواهد كثيرة من كلام الذهبي في ذلك، اكتفى هنا بما قاله في ترجمة الإمام المحدِّث أبي سعيد بن الأعرابي،
(1)
إذا كان الأمر كذلك فالأولى أن يسمى زهداً بدلاً من كلمة التصوف التي أحدثت حولها جدلاً كبيراً.
واسمه أحمد بن محمد البصري، نزيل مكة، (ت: 340 هـ).
قال الذهبي منتقداً بعض مصطلحات الصوفية الغامضة التي لا طائل منها: «إي والله، دققوا وعمقوا، وخاضوا في أَسرار عظيمة، ما معهم على دعواهم فيها سوى ظن وخيال، ولا وجود لتلك الأحوال من الفناء والمحو والصَّحو والسّكر إلا مجرد خطرات ووساوس، ما تفوّه بعباراتهم صدِّيق، ولا صاحب، ولا إمام من التَّابعين.
فإن طالبتهم بدعاويهم مقتوك، وقالوا: محجوب، وإن سلَّمت لهم قيادك تخبَّط ما معك من الإيمان، وهبط بك الحال على الحيرة والمحال، ورمقتَ العُباد بعين المقت، وأهل القرآن والحديث بعين البُعد، وقلتَ: مساكين محجوبون. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فإنما التصوُّف والتأَله والسُّلوك والسَّير والمحبة ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الرضا عن الله، ولزوم تقوى الله، والجهاد في سبيل الله، والتأدب بآداب الشَّريعة من التلاوة بترتيل وتدبر، والقيام بخشية وخشوع، وصوم وقت، وإفطار وقت، وبذل المعروف، وكثرة الإيثار، وتعليم العوام، والتواضع للمؤمنين، والتعزُّز على الكافرين، ومع هذا فالله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والعالم إذا عَرِي من التَّصوف والتأله، فهو فارغ، كما أن الصوفي إِذا
عري من علم السنّة، زل عن سواء السبيل»
(1)
.
موقفه من غلاة الصوفية:
وأما غلاة المتصوفة ومنحرفيهم وأهل الشطحات والترهات منهم، فإليك ما قاله الذهبي عن بعض رؤوسهم الكبار:
1 -
الحسين بن منصور الحلاج (ت: 309 هـ).
قال الذهبي: «كانت له بداية جيدة وتأله وتصوف، ثم انسلخ من الدين، وتعلم السحر، وأراهم المخاريق
…
»
(2)
.
2 ـــــــ شهاب الدين السهروردي (ت: 587 هـ).
قال الذهبي: «سائر كتبه فلسفة وإلحاد. نسأل اللَّه السّلامة فِي الدّين»
(3)
.
3 ـــــــ عمر بن علي ابن الفارض (ت: 632 هـ).
قال الذهبي: «شاعر الوقت، شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، ثم المصري، صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية
…
فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما
(1)
سير أعلام النبلاء 9/ 435.
(2)
ميزان الاعتدال 1/ 548.
(3)
تاريخ الإسلام 41/ 286، العبر في خبر من غبر 3/ 96.
في العالم زندقة ولا ضلال، اللَّهم ألهمنا التقوى، وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدِّين ألا تغضبون لله؟! فلا حول ولا قوّة إلا بالله»
(1)
.
4 ـــــــ عفيف الدين سليمان بن علي التلمساني (ت: 690 هـ).
قال الذهبي: «أحد زنادقة الصوفية»
(2)
.
5 ـــ محي الدين ابن عربي (ت: 638).
(3)
.
ــــــ وقد وصف الذهبي كلام ابن عربي وابن الفارض وأمثالهما بالعَسل الذي أذيب فيه السُّم، يستلذه الشخص، فيسرى في بدنه وهو لا يشعر حتى يهلكه
(4)
.
ــــــ ووصف بعض كلامهم بأنه شرٌّ من الشرك
(5)
، وأنه محض الكفر والزندقة
(6)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 22/ 368.
(2)
العبر في خبر من غبر 3/ 373.
(3)
ميزان الاعتدال 3/ 660.
(4)
تاريخ الإسلام 50/ 199.
(5)
تاريخ الإسلام 49/ 284.
(6)
تاريخ الإسلام 47/ 279.
ــــــ وكان لا يرى حاجة إلى فتح باب الاعتذار عن مقالاتهم الصريحة في مخالفة قواطع الإسلام، وكان يقول:«إن فتحنا باب الاعتذار عن المقالات، وسلكنا طريقة التّأويلات المستحيلات لم يبق في العالم كُفر ولا ضلال، وبَطَلَت كتب المِلَل والنِّحَل واختلاف الفِرَق»
(1)
.
تفرقته بين غلاة المرجئة ومرجئة الفقهاء.
كذلك كان الذهبي يفرق بين مرجئة الفقهاء الذين كانوا لا يرون دخول العمل في مسمى الإيمان، وإن كانوا يرون وجوب العمل وفرضيته، فهو يرى أن هذه مقولة خفيفة لا تستدعي تبديع صاحبها أو رميه بالضلالة، لكن الضلال كل الضلال في مذهب غلاة المرجئة الذين كانوا يقولون بأن المعاصي لا تضرّ المرء شيئاً ما دام مقراً بالتوحيد!!
ــــــ يقول رحمه الله: «الإرجاء مذهب لعدّة من جلّة العلماء، لا ينبغي التحامل على قائله»
(2)
. يقصد إرجاء الفقهاء الذي أوضحنا معناه قبل قليل.
(1)
تاريخ الإسلام 49/ 286.
(2)
ميزان الاعتدال 4/ 99.
ــــــ ويفصّل القول في المسألة في ترجمة فقيه العراق حمَّاد بن أبي سليمان الكوفي، (ت: 120 هـ)، فيقول: «قال معمَرٌ: قلت لحمَّاد: كنت رأساً، وكنت إماماً في أصحابك، فخالفتهم، فصرت تابعاً! قال: إِني أن أكون تابعاً في الحقِّ، خيْر من أن أكون رأساً في الباطل.
قلتُ
(1)
: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرارٌ باللِّسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي - إن شاء الله - وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التَّوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية»
(2)
.
ــــــ وفي ترجمة الحافظ عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد (ت: 206 هـ)، قال: «كان على الإرجاء عددٌ كثير من علماء الأمة، فهلا عُدَّ مذهباً، وهو قولهم: أنا مؤمنٌ حقاً عند الله الساعة، مع اعترافهم بأنَّهم لا يدرون بما يموت عليه المسلم من كفر أو إيمان، وهذه قولة خفيفة، وإنما الصَّعب قول غلاة المرجئة: إن الإيمان هو الاعتقاد بالأفئدة، وإن تارك الصلاة والزكاة، وشارب الخمر، وقاتل الأنفس، والزاني، وجميع هؤلاء، يكونون مؤمنين كاملي الإيمان، ولا يدخلون النار، ولا يعذبون أبداً. فردوا أحاديث الشَّفاعة المتواترة، وجسَّروا كل
(1)
القائل الذهبي.
(2)
سير أعلام النبلاء: 5/ 233.
فاسق وقاطع طريق على المُوبقات، نعوذ بالله من الخذلان»
(1)
.
تفرقته بين غلاة القدرية وغيرهم.
كان الذهبي رحمه الله كثيراً ما يفرق بين غلاة القدرية الذين كانوا ينفون علم الله عز وجل بالحوادث قبل وقوعها، وبين القدرية الذين اقروا بالعلم لكنهم قالوا بأن الشرّ من خلق العباد.
ولا ريب أن كلا المقولتين بدعة في الدين في رأي الذهبي وغيره من علماء السلف، لكن السلف كانوا يشددون كثيراً على غلاة القدرية، وكانوا يرون أن مقولتهم هذه مقولة كفرية.
وأما الفريق الثاني فمقولتهم بدعة أيضاً، لكنها أخفّ من الأولى، وقد تورط في القول بها بعض كبار الأئمة.
ــــــ يقول الذهبي رحمه الله: «قد لُطخ بالقدر جماعة، وحديثهم في «الصحيحين» أو أحدهما، لأنهم موصوفون بالصِّدق والأمانة»
(2)
.
ــــــ ويقول في ترجمة الإمام الحافظ عبد الوارث بن سعيد العنبري، (ت: 180 هـ): «كان عالماً مجوِّداً من فصحاء
(1)
سير أعلام النبلاء 9/ 436.
(2)
سير أعلام النبلاء 7/ 21.
أهل زمانه، ومن أهل الدين والورع، إلا أنه قدري مبتدِع»
(1)
.
ــــــ وفي ترجمة الإمام الحافظ قتادة بن دعامة السدوسي (ت: 117 هـ) يقول الذهبي: «كان يرى القَدَر - نسأل الله العفو. ومع هذا، فما توقَّف أحدٌ في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعلَّ الله يعذر أمثاله ممَّن تلبَّس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكمٌ عدلٌ لطيفٌ بعباده، ولا يسأل عمَّا يفعل. ثمَّ إنَّ الكبير من أئمَّة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتِّباعه، يغفر له زلَله، ولا نضلِّله ونطرحه وننسى محاسنه. نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التَّوبة من ذلك»
(2)
.
نقده للغلاة من كل الطوائف:
وإن شئتم الحق فقد كان الحافظ الذهبي يمقتُ الغلو والغلاة من أي فئة كانوا، وكان يقول: «غلاة المعتزلة، وغلاة الشِّيعة، وغلاة الحنابلة، وغلاة الأشاعرة، وغلاة
(1)
سير أعلام النبلاء 8/ 301، وينظر تاريخ الإسلام 4/ 686، وتذكرة الحفاظ 1/ 257.
(2)
سير أعلام النبلاء 5/ 271، وينظر أيضاً تدريب الراوي للسيوطي 1/ 389 حيث ذكر جماعة كبيرة من الرواة الثقات والأئمة الذين قالوا بنفي القدر.
المرجئة، وغلاة الجهمية، وغلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا، وَكثروا، وفيهم أذكياء وعبّاد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التَّوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنّة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن»
(1)
.
تفرقته بين من كُفِّر ببدعة وبين الكافر الأصلي.
هذا من إنصاف الذهبي واعتداله أنه كان يفرّق بين من كفره بعض العلماء بسبب بدعة قال بها وبين الكافر الأصلي كاليهودي والنصراني، ولا يرى أنهما في المنزلة سواء.
(2)
.
• • •
(1)
سير أعلام النبلاء 20/ 45.
(2)
سير أعلام النبلاء 10/ 202.
الفصل الثاني عشر تقريره أن العبرة في الرواة الصِّدق والإتقان وإن تلبسوا ببدعة
فهو على سبيل المثال يقول عن بعض االرواة الذين قالوا ببدعة نفي القَدَر وأن أفعال الشرّ من خلق العبد نفسه، قال:«قد لُطِخَ بالقَدَر جماعةٌ، وحديثهم في (الصَّحيحين) أو أحدهما؛ لأنَّهم موصوفون بالصِّدق والإتقان»
(1)
.
ـــــــــ وأوضح هذا في موضع آخر فقال: «جميع تصرفات أئمّة الحديث، تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه، فإن قبول ما رواه سائغ. وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتَّضح لي منها: أن من دخل في بدعة، ولم يُعد من رؤوسها، ولا أمعن فيها، يقبل حديثه ...... »
(2)
.
• • •
(1)
سير أعلام النبلاء 7/ 21.
(2)
سير أعلام النبلاء 7/ 154.
الفصل الثالث عشر نقده كثرة الخوض في دقائق العقائد ومعضلاتها
لقد كان الحافظ الذهبي يكره كثرة الخوض والجدال في مضائق مسائل الاعتقاد وتفصيلاتها الدقيقة التي شاع البحث فيها في تلك الأزمنة، وشغلت وقتاً غير قصير من جهود العلماء وتفكيرهم، وكان يرى أن السكوت عن هذه المسائل أولى وأسلم، خاصة وأنها قد تسببت في كثيرٍ من الخصام والقلاقل والفتن بين علماء الأمة.
ولنذكر بعض الشواهد الدالة على ذلك من كلام الذهبي:
الشاهد الأول: مسألة هل الإيمان مخلوق؟
قال الذهبي: «وأما مسألة خلق الإيمان وعدمه، ففيها بحث ليس هذا موضعه، والسكوت أولى وأسلم»
(1)
.
الشاهد الثاني: مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج.
(1)
تذكرة الحفاظ 2/ 600.
فقد ذكر الذهبي خلاف العلماء في المسألة، ثم رجّح التوقف فيها، وقال:«فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإثبات ذلك أو نفيه صعبٌ، والوقوف سبيل السلامة، والله أعلم، وإذا ثبت شيء قلنا به، ولا نعنّف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول: الله ورسولُه أعلم، بلى نعنّف ونبدِّع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوفرة»
(1)
.
الشاهد الثالث: مسألة إثبات الحدّ لله عز وجل.
فعندما ذكر الذهبي اختلاف العلماء في مسألة إثبات الحدّ لله عز وجل، قال:«الخوض في ذلك مما لم يأذن به الله، ولا أتى نصٌّ بإثبات ذلك ولا بنفيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وتعالى الله أن يُحدّ أو يُوصف إلا بما وصف به نفسه أو علّمه رسله بالمعنى الذي أراد بلا مثل ولا كيف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]»
(2)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 10/ 114.
(2)
سير أعلام النبلاء 16/ 97.
والمعروف عند أهل السنة: أن "الحدّ" لفظ حادث، لم يرد في الكتاب أو السنة، وليس لنا أن نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله، لا نفياً ولا إثباتاً، هذا بالنسبة للفظ، أما بالنسبة للمعنى، فالواجب أن نستفصل عن المقصود بإثبات الحد لله؟ فإن كان المقصود أن الله عز وجل متميز عن خلقه، منفصل عنهم، مباين لهم، غير حالّ فيهم، فهذا حق، وهو ثابت لله بهذا المعنى، وأما إن كان المقصود: أن العرش محيط بالله عز وجل، ويراد بنفي الحدّ نفي استواء الله على عرشه، فهذا باطل. ينظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/ 190.
ــــــ كرر هذا في موضع آخر فقال: «لم يأت نص بإثبات الحدّ ولا بنفيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
(1)
.
ــــــ وكرره كذلك في موضع ثالث، فقال:«الصواب الكفّ عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نصٌّ، ولو فرضنا أن المعنى صحيح، فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله، خوفاً أن يدخل القلب شيء من البدعة، اللهم احفظ علينا إيماننا»
(2)
.
ــــــ وفي موضع رابع قال وهو يعلق على إنكار بعض العلماء على الإمام ابن حبان (ت: 354 هـ) إنكاره للحد، فقال الذهبي: «إنكاره الحدّ وإثباتكم للحدّ نوع من فضول الكلام، والسكوت عن الطرفين أولى، إذ لم يأت نص بنفي ذلك ولا إثباته، والله تعالى ليس كمثله شيء
…
فمن نزَّه الله وسكت سلِم وتابع السلف»
(3)
.
الشاهد الرابع: مسألة اللفظ بالقرآن.
وهذه المسألة طال نزاع العلماء حولها، هل يصحّ أن يقال
(1)
تذكرة الحفاظ 3/ 921.
(2)
سير أعلام النبلاء 20/ 84.
(3)
ميزان الاعتدال 3/ 507
لفظي بالقرآن مخلوق، أو لا يصح، ومع أن الذهبي شرح المسألة مراراً وأوضح وجه الصواب فيها من وجهة نظره
(1)
، إلا أن كان يرى أن الكفّ وترك الخوض في هذا الفصل أولى وأنه من حسن الإيمان لما يحويه من اللبس والإيهام، وكان يقرر أن الأمر المقطوع به أن القرآن كلام الله المنزّل غير مخلوق، وهذا يكفي
(2)
.
وكان يقول: «في هذه المسألة بحوث طويلةٌ، الكفّ عنها أولى، ولا سيما في هذه الأزمنة المزمنة»
(3)
.
الشاهد الخامس: عندما ترجم لصديقه ورفيقه في الطلب أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت: 742 هـ) صاحب كتاب تهذيب الكمال وغيره، قال:«وكان - المزيّ - يقرر طريقة السلف في السنّة، ويعضد ذلك بمباحث نظرية وقواعد كلامية، وجرى بيننا مجادلات ومعارضات في ذلك تركُها أسلم وأولى»
(4)
.
(1)
ينظر تاريخ الإسلام 5/ 1027، سير أعلام النبلاء 11/ 432، 12/ 177.
(2)
سير أعلام النبلاء 11/ 290، 510.
(3)
سير أعلام النبلاء 13/ 101.
(4)
تذكرة الحافظ 4/ 1499.
ما يكفى المؤمن اعتقاده في رأي الذهبي:
وقد لخّص الإمام الذهبي ما يجب على المسلم اعتقاده من مسائل الإيمان، فقال:«يكفي المسلمَ في الإيمان أن يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت، وأن الله ليس كمثله شيء أصلاً، وأن ما ورد من صفاته المقدسة حق، يمر كما جاء، وأن القرآن كلام الله وتنزيله، وأنه غير مخلوق، إلى أمثال ذلك مما أجمعت عليه الأمة، ولا عبرة بمن شذّ منهم، فإن اختلفتِ الأمة في شيء من مشكل أصول دينهم، لزمنا فيه الصمت، وفوضناه إلى الله، وقلنا الله ورسوله أعلم، ووسعنا في السكوت»
(1)
.
• • •
(1)
سير أعلام النبلاء 19/ 346.
الفصل الرابع عشر نهيه عن القول بالمسائل الشاذة والغريبة
وقد قرر الحافظ الذهبي في هذه المسألة قواعد ذهبية، فقال:«ينبغي للمسلم أن يستعيذ من الفتن، ولا يشغب بذكر غريب المذاهب لا في الأصول ولا في الفروع، فما رأيتُ الحرَكة في ذلك تحصِّل خيراً، بل تثير شراً وعداوة ومقتاً للصُّلحاء والعبّاد من الفريقين، فتمسَّك بالسّنة، وألزم الصمت، ولا تخض فيما لا يعنيك، وما أشكل عليك فردَّه إلى الله ورسوله، وقفْ، وقل: الله ورسوله أعلم»
(1)
.
وكان من رأي الذهبي: أن الحديث وإن صحّ لا يُعمل به إلا بشروط منها: أن يكون سالماً من العلل القادحة، وألا يعارضه حديث صحيح آخر، وأن يعمل به إمام من أئمة الاجتهاد المعروفين، وألا يكون من الأحاديث التي أجمع أئمة الاجتهاد على ترك العمل بها
(2)
.
وهذا - والله أعلم - لأن الحديث إذا أجمع الأئمة على ترك العمل به فهو إما أن يكون فيه علّة خفيّة تقدح في
(1)
سير أعلام النبلاء 20/ 141.
(2)
سير أعلام النبلاء 16/ 405.
صحته وإن كان ظاهره السلامة منها، أو يكون منسوخاً بنصوص أخرى.
• • •
الفصل الخامس عشر توسطه في مسألة الاجتهاد والتقليد
مسألة الاجتهاد والتقليد وقع فيها خلط وخبط بين كثير من طلبة العلم، وانقسموا فيها بين طرفي نقيض.
فريق حرّم التقليد مطلقاً وأوجب الأخذ المباشر من الكتاب والسنّة، وفتح باب الاجتهاد لكل من هب ودب من صغار طلبة العلم ونكراتهم، حتى قال بعضهم عن الأئمة: نحن رجال وهم رجال!!
وفي مقابل هؤلاء: فريق أوجب التقليد، وحرّم الاجتهاد مطلقاً، وسدّ أبوابه جميعاً، أو جعل له شروطاً تعجيزية لا تتوفر حتى في كبار الأئمة!!
أما الإمام الذهبي فله رأي وسطي في هذه المسألة، فهو يُسيغ النظر في النصوص والأدلة واستنباط الأحكام منها، لكنه يخصّ ذلك بمن تأهل وتبحر في علوم الشريعة، وبلغ رتبة الاجتهاد وامتلك أدواته بشهادة الأئمة له.
ــــــ ففي ترجمة الإمام مالك (ت: 179 هـ) رحمه الله، إمام دار الهجرة، نقل الذهبي عن بعض الشيوخ قوله:(إن الإمام لمن التزم تقليده، كالنبيّ مع أمّته، لا تحلّ مخالفته)!!
ثم تعقبه الذهبي فقال: «قوله " لا تحل مخالفته " مجرد دعوى، واجتهاد بلا معرفة، بل له مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجّته في تلك المسألة أقوى، لا بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له»
(1)
.
ــــــ وفي ترجمة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه، ينعى الذهبي على المقلدين من العلماء، ويقول:«كلُّ إمام يؤخذ من قوله ويُترك إلا إمام المتقين الصادق المصدوق الأمين المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، فيا لله العجب من عالم يقلّد دينه إماماً بعينه في كل ما قال، مع علمه بما يرِد على مذهب إمامه من النصوص النبوية فلا قوة إلا بالله»
(2)
.
وكان يقول أيضاً: «ما يتقيّد بمذهب واحدٍ إلا من هو قاصر في التمكن من العِلم كأكثر علماء زماننا، أو من هو متعصِّب»
(3)
.
ــــــ لكن الذهبي يضع للاجتهاد شروطاً ولا يفتح بابه للناس جميعاً، ففي ترجمة الإمام ابن حزم الأندلسي
(1)
سير أعلام النبلاء 8/ 90.
(2)
تذكرة الحافظ 1/ 18.
(3)
سير أعلام النبلاء 14/ 491.
(1)
سير أعلام النبلاء 18/ 191.
الفصل السادس عشر نقده لعلل وأدواء طلبة العلم في زمانه
وقد أفرد الذهبي لذلك رسالة صغيرة ماتعة عنوانها: "بيان زَغَل العلم"، وبعض المصادر تسميها:"رسالة فيما يُذم ويُعاب في كل طائفة".
وفي هذه الرسالة فصّل الذهبي القول في كثيرٍ من علل طلبة العلم وأدوائهم، خاصة الشرعيين منهم على اختلاف تخصصاتهم، بحكم أنه واحدٌ منهم، عالمٌ بأحوالهم.
ــــــ فهو يأخذ على كثيرٍ من القرّاء إفراطهم في مراعاة قواعد التجويد والتلاوة إلى حد التنطع والمبالغة، كتفخيم الحروف وترقيقها، وتتبع غرائب القراءات الشاذة والتطريب الزائد، ولو كان ذلك على حساب التدبر والخشوع وحضور القلب وإهمال العمل الذي هو لبّ القراءة وثمرتها
(1)
.
(1)
- بيان زغل العلم ص 102.
ــــــ وأما الفقهاء فيأخذ الذهبي على كثيرٍ منهم: إهمالهم العناية بالسنّة النبوية، وعدم معرفتهم صحيحها من سقيمها.
كما أخذ على بعضهم تعصّبهم لمذاهبهم، وإن خالفت صريح النصوص، ومعارضة بعضهم النصّ الصحيح بالرأي الفاسد والقياس البعيد.
فضلاً عن انشغال الكثيرين منهم بالجدال والمناظرة وترتيب الأدلة ومداهنة الأمراء وطلب الرئاسة والتكبر بالعِلم، في الوقت الذي يُعرِضون فيه عن ذكر الله وتلاوة القرآن وإخلاص النيَّة وأداء السُّنن وما يرقّق القلوب ويذكر بالآخرة
(1)
.
ــــــ وأما أهل الحديث فغالبهم عند الذهبي: (لا يفهمون، ولا هِمَّة لهم في معرفة معاني الحديث، ولا في التدين به ..... إنما همَّتهم في السَّماع على الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواة، لا يتأدبون بآداب الحديث، ولا يستفيقون من سَكْرة السَّماع .... )
(2)
.
والذهبي لا يقصد بأهل الحديث هنا أئمته الكبار، وإنما يقصد
(1)
- بيان زغل العلم ص 115.
(2)
- بيان زغل ص 105، وينظر أيضاً تذكرة الحفاظ 1/ 205.
من اكتفى منهم برواية الأحاديث وكتابتها ونقلها وأهمل التفقه في معانيها وتدبر ما تدل عليه من أحكام وفوائد.
ــــــ وأما النحاة واللغويون، فيقول عنهم:«النحويون لا بأس بهم، وعملهم حسنٌ يُحتاج إليه، لكن النحوي إذا أمعن في العربية، وعري من علم الكتاب والسنة، بقي فارغاً بطالاً لعَّباً»
(1)
.
وهكذا يمضي الذهبي في رسالته هذه في نقد بقية أرباب العلوم على اختلاف اختصاصاتهم وبيان ما لهم من فضل فيشيد به وما عليهم من مآخذ فينبه عليها، وكل قصده من وراء هذا النقد الارتقاء بتلك العلوم والدفع بها وبأصحابها إلى ما هو أفضل.
(1)
بيان زغل العلم ص 126.
الفصل السابع عشر دعوته إلى ترك التحدث بمسائل العلم التي قد تضرّ العامة في دينهم
(1)
.
ــــــ وقد أوضح الذهبي هذه القضية في موضع آخر فقال تتميماً للكلام السابق: «وقد قال علي رضي الله عنه: حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون
(2)
. وقد صحّ أن أبا هريرة كتم حديثاً كثيراً مما لا يحتاجه المسلم في دينه، وكان يقول: "لو بثثته فيكم
(1)
سير أعلام النبلاء 10/ 578.
(2)
أخرجه عنه البخاري في صحيحه، 1/ 199، كتاب العلم: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية إلا يفهموا، من طريق أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب.
لقطع هذا البلعوم"
(1)
. وليس هذا من باب كتمان العلم في شيء، فإن العلم الواجب يجب بثه ونشره ويجب على الأمة حفظه، والعلم الذي في فضائل الأعمال مما يصح إسناده يتعين نقله ويتأكد نشره، وينبغي للأمة نقله، والعلم المباح لا يجب بثه ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء.
والعلم الذي يحرم تعلمه ونشره: علم الأوائل وإلهيات الفلاسفة وبعض رياضتهم بل أكثره، وعِلم السحر، والسيمياء، والكيمياء، والشعبذة، والحيل، ونشر الأحاديث الموضوعة، وكثير من القصص الباطلة أو المنكرة، وسيرة البَطَّال المختلقة، وأمثال ذلك، ورسائل إخوان الصفا، وشعر يعرَّض فيه إلى الجناب النبوي، والعلوم الباطلة كثيرة جداً فلتحذر، ومن ابتلي بالنظر فيها للفرجة والمعرفة من الأذكياء فليقلل من ذلك، وليطالعه وحده، وليستغفر الله تعالى، وليلتجئ إلى التوحيد، والدعاء بالعافية في الدين، وكذلك أحاديث كثيرة مكذوبة وردت في الصفات لا يحل بثها إلا التحذير من اعتقادها، وإن أمكن إعدامهما فحسب. اللهم فاحفظ علينا إيماننا، ولا قوة إلا بالله»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، 1/ 191، 192، كتاب العلم: باب حفظ العلم، من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال:«حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» .
(2)
سير أعلام النبلاء 10/ 604.
الفصل الثامن عشر تحذيره من الغلو في العبادة
كان الذهبي رحمه الله كثيراً ما ينهى عن الغلو في العبادة، لمخالفة ذلك للسنّة أولاً، ولأنه غالباً ما يفضي إلى تضييع عبادات أخرى لا تقلّ أهمية عنها.
ــــــ وعلى سبيل المثال: عندما نقل بعضُ الرواة عن الإمام الحافظ وكيع ابن الجراح (ت: 196 هـ) أنه كان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة!!
أنكر ذلك الذهبي وقال: «قد صحّ نهيُه عليه السلام عن صوم الدَّهر، وصحّ أنه نهى أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث، والدِّين يسرٌ، ومتابعة السنّة أولى»
(1)
.
ــــــ وعندما ذكر الذهبي حديث النهي عن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث ليالٍ، علَّق قائلاً: «أقلُّ مراتب النَّهي أن تكره تلاوة القرآن كلِّه في أقلَّ من ثلاثٍ، فما فقُه ولا تدبَّر من تلا في أقلَّ من ذلك.
(1)
سير أعلام النبلاء 9/ 143.
ولو تلا ورتَّل في أسبوع، ولازم ذلك، لكان عملاً فاضلاً، فالدين يسرٌ، فوالله إنَّ ترتيل سُبع القرآن في تهجُّد قيام اللَّيل مع المحافظة على النوافل الرَّاتبة، والضُّحى، وتحيَّة المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة، ودبر المَكتوبة والسَّحر، مع النَّظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصا لله، مع الأمر بالمعروف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق، ونحو ذلك، مع أداء الفرائض في جماعة بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب، واجتناب الكبائر، وكثرة الدُّعاء والاسْتغفار، والصَّدقة وصلة الرَّحم، والتَّواضع، والإخلاص في جميع ذلك، لشغلٌ عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتَّقين، فإن سائر ذلك مطلوب.
فمتى تشاغل العابد بختمة في كلِّ يوم، فقد خالف الحنيفيَّة السَّمحة، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه، ولا تدبَّر ما يتلوه .... إلى أن قال: وكلُّ من لم يزمَّ نفسه في تعبُّده وأوراده بالسنَّة النبويَّة، يندم ويترهَّب ويسوء مزاجه، ويفوته خيرٌ كثيرٌ من متابعة سنَّة نبيِّه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال صلى الله عليه وسلم معلماً للأمَّة أفضل الأعمال، وآمراً بهجر التَّبتل والرهبانيَّة التي لم يبعث بها، فنهى عن سرد الصَّوم، ونهى عن الوصال، وعن قيام أكثر اللَّيل إلاّ في العشر الأخير، ونهى عن العزبة للمستطيع، ونهى عن ترك اللحم، إلى غير ذلك
من الأوامر والنَّواهي. فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجورٌ، والعابد العالم بالآثار المحمديَّة، المتجاوز لها مفضولٌ مغرورٌ، وأحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى - أدومها وإن قلَّ»
(1)
.
ــــــ وقد تحدّث الذهبي في غير ما موضع عن خطر وخطل ما يفعله بعض العبّاد من المبالغة في إيذاء أنفسهم بالجوع والسهر وحرمانها من تناول الأطعمة الطيبة بحجة الزهادة، وأوضح أن ذلك كثيراً ما يفضي إلى اختلال العقل وفتح باب الشك والوسوسة واضطراب الحواس.
يقول رحمه الله: «من بالغ في الجوع - كما يفعله الرُّهبان - ورفض سائر الدُّنيا ومألوفات النَّفس من الغذاء والنَّوم والأهْل، فقد عرَّض نفسه لبلاءٍ عريض، وربما خُولط في عقله، وفاته بذلك كثيرٌ من الحنيفية السَّمحة، وقد جعل الله لكلِّ شيء قدراً.
والسَّعادة في متابعة السُّنن، فزن الأمور بالعدل، وصم وأفطر، ونَم وقم، وألزم الورع في القوت، وارض بما قسم الله لك، واصمت إلا من خير»
(2)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 3/ 84.
(2)
سير أعلام النبلاء 14/ 70. وينظر أيضاً المصدر نفسه 12/ 89، 14/ 256.
الفصل التاسع عشر توقيره للنبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء
للذهبي كلام نفيس في مسألة وجوب توقير النبي صلى الله عليه وسلم في حدود المسموح به شرعاً، فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، يقول رحمه الله:«لو روى الشخص حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، وحاول بذلك تنقصاً كفر وتزندق، وكذا لو روى حديث أنه: سلَّم من اثنتين، وقال: ما درى كم صلى! يقصد بقوله شينه ونحو ذلك كفر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فالغلو والإطراء منهي عنه، والأدب والتوقير واجب، فإذا اشتبه الإطراء بالتوقير توقف العالم وتورع، وسأل من هو أعلم منه حتى يتبين له الحق، فيقول به، وإلا فالسكوت واسع له، ويكفيه التوقير المنصوص عليه في أحاديث لا تحصى، وكذا يكفيه مجانبة الغلو الذي ارتكبه النصارى في عيسى، ما رضوا له بالنبوة حتى رفعوه إلى الإلهية وإلى الوالدية، وانتهكوا رتبة الربوبية الصمدية، فضلوا وخسروا، فإن إطراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدى إلى إساءة الأدب على الرب، نسأل الله تعالى أن يعصمنا بالتقوى، وأن يحفظ علينا حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم كما يرضى»
(1)
.
(1)
ميزان الاعتدال 2/ 649.
الفصل العشرون توسطه في مسألة الأسماء والصفات
كان الإمام الذهبي رحمه الله في مسألة أسماء الله وصفاته يسير على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، لا يؤِّول ولا يشبّه، وكان يقول: «نعوذ بالله من التشبيه ومن إنكار أحاديث الصِّفات، فما يُنكر الثابت منها من فقُه، وإنما بعد الإيمان بها هنا مقامانِ مذمومان: تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب، فما أوّلها السلف، ولا حرّفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها، وأمروها كما جاءت.
المقام الثاني: المبالغة في إثباتها، وتصوّرها من جنس صفات البشر، وتشكّلها في الذهن، فهذا جهل وضلال، وإنما الصفة تابعة للموصوف، فإذا كان الموصوف عز وجل لم نره، ولا أخبرنا أحدٌ أنه عاينه مع قوله لنا في التنزيل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فكيف بقي لأذهاننا مجال في إثبات كيفية البارئ، تعالى الله عن ذلك، فكذلك صفاته المقدَّسة، نقرّ بها ونعتقد أنها حق، ولا نمثلها أصلاً ولا نشكِّلها»
(1)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 10/ 610 - 611، وينظر أيضاً 11/ 376، 19/ 449.
ــــــ بيد أن الذهبي وبالرغم من ترجيحه لطريقة السلف الصالح في إثبات الصفات الإلهية دون تشبيه أو تأويل أو تكييف، إلا أنه لم يكن يكفّر القائلين بتفويض معاني بعض تلك الصفات أو تأويلها بقصد تعظيم الله عز وجل وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين، وكان يرى التماس العذر لهؤلاء.
فقد نقل في ترجمة أبي العباس السراج (ت: 313 هـ) أنه قال: «من لم يُقرّ بأن الله تعالى يعجبُ ويضحكُ وينزلُ كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: من يسألني فأعطيَه، فهو زنديق كافرٌ، يستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين» !!
ثم تعقّبه الذهبي وردّ عليه قائلاً: «لا يُكفّر، إلا إن علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فإن جحد بعد ذلك فهذا معاند، نسأل الله الهدى، وإن اعترف أن هذا حق، ولكن قال: لا أخوض في معانيه، فقد أحسن، وإن آمن وأول ذلك كله أو تأول بعضه فهو طريقة معروفة»
(1)
.
(1)
سير أعلام النبلاء 14/ 396 - 397.
ــــ وعندما ذكر الخلاف في إثبات كلام الله تعالى حقيقة بحرف وصوت قال: «الذي أعتقده ما صحّ به النّصّ، وهو أنّ الله كلّم موسى تكليما، وسمع موسى كلامَ الله حقيقة بأذنه، وما عدا هذا لا أخوض فيه، ولا أكفّر من خاض فيه مِنْ الطّرفين»
(1)
.
ـــــ وقد وصف الذهبي حال المثبتين للصفات والمؤولين لها فقال: «ما قصدهم إلا تعظيم الباري عز وجل من الطرفين، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنّة، وهذا هو مذهب السلف رضي الله عنهم»
(2)
.
وهذا يدل على أن الذهبي كان يرجح مذهب الإثبات مع نفي التشبيه، لكنه كان يلتمس العذر للمخالفين الذين قصدوا تنزيه الله عز وجل عن مشابهة المخلوقين وإن كانوا قد أخطؤوا الطريق.
ــــــ وكان الذهبي كثيراً ما يكرر هذه العبارة: «نرجو لكل من بذل جهده في طلب الحق أن يُغفر له من هذه الأمة المرحومة»
(3)
.
(1)
تاريخ الإسلام 48/ 288.
(2)
سير أعلام النبلاء 21/ 464.
(3)
سير أعلام النبلاء 22/ 172. وينظر المجلد نفسه ص 39.
الخاتمة
إذن فقد كان مقصود هذا البحث هو الإسهام في حلّ معضلة الغلو الديني وتفكيك بنيته، بعد أن تسبب في كثير من أزمات الأمة، وكان من أسباب جمودها وتخلفها وتأخرها عن الالتحاق بركب الازدهار والنمو والتفوق.
وتفكيك هذا الفكر كما قدمت له أدوات مختلفة، من هذه الأدوات مواجهته بالفكر الوسطي المعتدل لدى كبار علماء الأمة وأعلامها، ممن يحظون باحترام وثقة وتقدير بين المسلمين.
وقد وقع اختيار البحث على أحد هؤلاء الأئمة الأعلام، وهو الإمام الحافظ الجليل والناقد المؤرخ الكبير شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (ت: 748 هـ)، أحد أئمة الحديث النبوي وأساطينه وحامل رايته وناشر علومه بشهادة كبار علماء الأمة ممن عاصروه أو جاءوا بعده.
وقد أبرز البحث الكثير من أفكار القصد والاعتدال التي دعا إليها الذهبي ووثقها من كتبه.
وأبرز أيضاً أن الذهبي وبالرغم من قصده واعتداله إلا أنه لم يكن رجلاً متساهلاً في دينه ولا متهاوناً في عقيدته، بل لقد كان عالماً سُنيّاً ربانياً، يجري على قانون السّلف الصالح في التمسك بالكتاب والسنّة والذبّ عنهما والدعوة إليهما، معظماً للحديث وأهله، وكان يقول:«لولا الحُفَّاظ الكبار، لخطبت الزنادقة على المنابر»
(1)
.
(2)
.
نعم لقد أبرز البحث أن الذهبي كان حازماً وصارماً تجاه الانحرافات الواضحة والبدع الجليّة المصادمة للكتاب والسنّة، ينقد أصحابها ويرد عليهم ويكشف عن مساوئهم، من صوفية غالية، وباطنية بغيضة، ومعطلة ومجسمة وخوارج وفلاسفة وقرامطة ومشعوذين متلاعبين باسم الدين ....
(1)
سير أعلام النبلاء 11/ 82.
(2)
تاريخ الإسلام 3/ 195.
لكنه في الوقت نفسه لم يكن يرى الإسراف في المواقف ولا الشطط في النقد، بل كان يحب المهل والريث، وكان يحب للأمور أن توزن بميزان القسط والعدل الذي أمر الله به في كتابه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} [النحل: 90]، دون إفراط أو تفريط، أو وكس أو شطط.
وقد لاحظ البحث أيضاً أن معظم المآخذ التي كان يوجهها الحافظ الذهبي لبعض علماء زمانه منذ ثمانمائة عام تقريباً لا تزال باقية حتى اليوم كما هي لم تتغير أو تتحسن كثيراً، الأمر الذي ينذر بخطر، ويدل على أن عجلة الإصلاح الديني عندنا لا تزال تسير في بطء شديد وتعثّر، إن لم تكن متوقفة، برغم حاجة الأمة للإصلاح، وبرغم كثرة الزلازل العنيفة التي أصابتها وهزت كيانها من الداخل والخارج.
فنسأل الله عز وجل معونته وتوفيقه وسداده، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
فهرس
المصادر والمراجع
ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى، (مكتبة ابن تيمية، طبعة 2).
ابن عبد البر، يوسف بن عبد البر المالكي، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، (المغرب: وزارة عموم الأوقاف، د. ط، 1967 م).
ابن قدامة، عبد الله بن أحمد المقدسي، المغني، (القاهرة: مكتبة القاهرة، د. ط، 1968 م).
ابن كثير، إسماعيل بن عمر الدمشقي، البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط، 1988 م).
ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، السنن، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دار إحياء الكتب العربية، د. ط، د. ت).
أحمد بن محمد بن حنبل، المسند، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 هـ).
الألباني، محمد ناصر الدين، صحيح الجامع الصغير، (بيروت: المكتب الإسلامي، د. ط، د. ت).
الألباني، محمد ناصر الدين، صحيح سنن الترمذي، (بيروت: المكتب الإسلامي، د. ط، 1991 م).
المناوي، عبد الرؤوف، فيض القدير بشرح الجامع الصغير، (مصر: المكتبة التجارية، د. ط، 1356 هـ).
البخاري، محمد بن إسماعيل، الصحيح، تحقيق: مصطفى البُغا، (بيروت: دار ابن كثير، د. ط، 1987 م).
بشار عوّاد معروف، الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، د. ط، 2008 م).
الترمذي، محمد بن عيسى، السنن، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، (مصر: شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي، ط 2، 1975 م).
الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، (دار الكتاب العربي، بيروت،) ط 2، 1413 هـ، 1993 م.
الذهبي، محمد بن أحمد، تذكرة الحفاظ، تصحيح:
عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط، د. ت).
الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، (بيروت: مؤسسة الرسالة، د. ط، 1413 هـ).
الذهبي، محمد بن أحمد، العِبَر في أخبار من غبر، تحقيق: محمد السعيد زغلول، (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت).
الذهبي، محمد بن أحمد، معجم الشيوخ، تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، (المملكة العربية السعودية، مكتبة الصديق، ط 1، 1988 م).
الذهبي، محمد بن أحمد، المعجم المختص بالمحدثين، تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، (المملكة العربية السعودية، مكتبة الصديق، ط 1، 1988 م).
السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، طبقات الحفاظ، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1403 هـ).
الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، الوافي
بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرنؤوط وتركي مصطفى، (بيروت: دار أحياء التراث، د. ط، 2000 م).
عبد الستار الشيخ، الحافظ الذهبي مؤرخ الإسلام، (دمشق: دار القلم، ط 1، 1994 م).
الكتاني، عبد الحي بن عبد الكبير، فهرس الفهارس والأثبات، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 2، 1982 م).
مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط، (مصر: دار الدعوة، د. ط، د. ت).
النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم، (بيروت: دار حياء التراث، ط 2، 1392 هـ).