الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدِّمة المُصَنِّف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوب إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، صَلَّى الله وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ وسَلَّم تسليمًا.
وبعدُ: فإنَّ الإيمانَ بأسماءِ الله وصفاتِه أحدُ أركانِ الإيمان باللهِ تعالى، وهي الإيمانُ بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته.
وتوحيدُ الله به أحدُ أقسامِ التَّوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية. وتوحيد الألوهية. وتوحيد الأسماء والصِّفات».
مقدمة الشَّارح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، ثم أما بعد ..
فقد بدأ المصنف رحمه الله هذه المقدمة بالإشارة إلى أهمية هذا الباب؛ فأشار أولًا إلى أن هذا الباب هو جزء وركن من أركان باب (الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أن إيمانَ العبد وتوحيدَه لا يتمُّ إلا بأن يكون العبدُ مُوَحِّدًا لله سبحانه وتعالى في رُبوبيته وأسمائه وصفاته، وموحدًا له في عبادته سبحانه وتعالى؛ فلا بد من تحقيق هذين التوحيدين حتى يكونَ العبدُ مؤمنًا بالله تعالى، موحدًا لله.
أقسام التوحيد:
تَنَوَّعَت عباراتُ علماء أهل السُّنَّة في التعبير عن أنواع التوحيد، ولكنها مع ذلك التنوع متفقة في المضمون، ولعل السبب في ذلك هو أن تلك التقسيمات مأخوذ من استقراء النصوص، ولم يُنص عليها باللفظ مباشرة، ولذلك فمن العلماء
(1)
مَنْ قَسَّم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، هي:
1 -
توحيد الرُّبوبية: وهو إفراد الله بأفعاله كالخلق والرزق.
(1)
انظر: «طريق الهجرتين» (ص. 3)، و «شرح الطحاوية» (ص 76)، و «لوامع الأنوار» للسفاريني (1/ 128)، و «تيسير العزيز الحميد» (ص 17 - 19).
2 -
توحيد الأسماء والصفات: وقد تقدم ذكر تعريفه.
3 -
توحيد الألوهية: وهو إفراد الله بأفعال العباد التعبدية؛ كالصلاة، والصوم، والدعاء.
ومِن المتأخرين مَنْ زاد قسمًا رابعًا على الأقسام الثلاثة السَّابقة، وسمَّاه:
4 -
توحيد الاتباع، أو توحيد الحاكمية (أي: التحاكم إلى الكتاب والسنة)، ولكن يُلاحظ على مَنْ ذكر هذا القسم أنَّ هذا القسم في الحقيقة داخل ضمن توحيد الألوهية؛ لأن العبادة لا تُقبل شرعًا إلا بشرطين هما:
1 -
الإخلاص.
2 -
الاتِّباع.
كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .
ومن العلماء من قَسَّم التوحيد إلى قسمين، وهذا هو الأغلب في كلام أهل العلم المتقدمين؛ لأنهم يَجمعون بين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وذلك بالنظر إلى أنهما يُشكلان بمجموعهما جانب العلم بالله ومعرفته عز وجل؛ فجمعوا بينهما لذلك، بينما توحيد الألوهية يُشكل جانب العمل لله.
وتَقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام راجع إلى اعتبار مُتَعَلَّق التوحيد، وتقسيمه إلى قسمين راجع إلى اعتبار ما يجب على المُوَحِّد.
فمن العلماء من يقول: التوحيد قسمان
(1)
:
القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات:
ويُريد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسُمِّي بتوحيد المعرفة؛ لأن معرفة الله عز وجل إنما تكون بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله.
(1)
مِمَّنْ ذكر ذلك ابنُ القيم في كتابه «مدارج السالكين» (3/ 449).
والإثبات: أي: إثبات ما أثبته اللهُ لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال.
القسم الثاني: توحيد القَصد والطَّلب:
ويُراد به الألوهية، وسُمِّي بتوحيد القصد والطلب؛ لأن العبد يتوجه بقلبه ولسانه وجوارحه بالعبادة لله وحده؛ رغبة ورهبة، ويُقصد بذلك وجه الله وابتغاء مرضاته.
ومن العلماء مَنْ يُقَسِّم التوحيد إلى قِسمين هما
(1)
:
القسم الأول: التوحيد العلمي الخبري:
والمقصود به: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
وسُمِّي بالتوحيد العلمي: لأنَّه يَعتني بجانب معرفة الله، فالعلمي أي:(العلم بالله).
والخبري: لأنَّه يَتوقف على الخبر، أي:(الكتاب والسنة).
القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي:
والمقصود به: توحيد الألوهية، وسُمِّي بالتوحيد الإرادي؛ لأن العبد له في العبادات إرادة، فهو إمَّا أن يقوم بتلك العبادة أو لا يقوم بها، وسمي بالطلبي؛ لأن العبد يطلب بتلك العبادات وجه الله ويقصده عز وجل بذلك.
ومِن العلماء مَنْ يُقَسِّم التوحيد إلى قسمين؛ فيقول
(2)
:
القسم الأول: التوحيد القولي:
والمراد به: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسُمِّي بالقولي؛
(1)
مِمَّنْ ذكر ذلك ابنُ القيم في كتابه «مدارج السالكين» (3/ 450)، وابن تيمية في «الصَّفدية» (2/ 228).
(2)
ممن ذكر ذلك شيخُ الإسلام ابنُ تيمية. انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 367).
لأنه في مقابل توحيد الألوهية الذي يُشكل الجانب العلمي من التوحيد، وأما هذا الجانب فهو مختص بالجانب القولي العلمي.
القسم الثاني: التوحيد العملي:
والمراد به: توحيد الألوهية، وسُمِّي بالعملي؛ لأنه يشمل كلًّا من عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح التي تشكل بمجموعها جانب العمل من التوحيد.
فالتوحيد له جانبان: جانب تصديقي علمي. وجانب انقيادي عملي.
ومِن العلماء مَنْ يُقَسِّم التوحيد إلى قسمين؛ فيقول:
القسم الأول: توحيد السِّيادة:
ويُعنى بذلك: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسُمِّي بذلك؛ لأن تفرد الله بأفعاله وأسمائه وصفاته يُوجب له القيادة المطلقة والتصرف التام في هذا الكون خلقًا ورزقًا وإحياء وإماتة وتصرُّفًا وتدبيرًا سبحانه وتعالى، فمن واجب الموحد أن يُفرد الله بذلك.
والقسم الثاني: توحيد العبادة:
المراد به: توحيد الألوهية، وتسميته بذلك واضحة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل.
وهذا ما وقفت عليه من تقسيمات العلماء للتوحيد، وهي واحدة من حيث مضمونها، كما سبق إيضاح ذلك من خلال ربطها بالتقسيم الأول، ولذا فإن الاختلاف بينها مُنحصر في الألفاظ فقط، والله أعلم.
وأما عن (العلاقة بين هذه الأقسام للتوحيد)، فأقول:
هذه الأقسام تُشكل بمجموعها جانب الإيمان بالله الذي نُسميه التوحيد، فلا يكمل لأحد توحيده إلا باجتماع أنواع التوحيد الثلاثة، فهي متكافلة
متلازمة يكمل بعضها بعضًا، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، وكذلك لا يصح- ولا يقوم- توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أيِّ نوع منها هو خلل في التوحيد كله، (فمعرفة الله لا تكون بدون عبادته، والعبادة لا تكون بدون معرفة الله، فهما متلازمان)
(1)
.
وقد أوضح بعضُ أهل العلم هذه العلاقة بقوله: «هي علاقة تلازم وتضمن وشمول» .
فتوحيد الربوبية مُستلزم لتوحيد الألوهية.
وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية.
وتوحيد الأسماء والصفات شامل للنوعين معًا.
بيان ذلك: أنَّ مَنْ أقرَّ بتوحيد الربوبية، وعلم أنَّ الله سبحانه هو الرب وحده لا شريك له في ربوبيته لَزمه
(2)
من ذلك الإقرار أن يُفرد الله بالعبادة وحده سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان ربًّا خالقًا مالكًا مدبرًا، وما دام كله لله وحده وجب أن يكون هو المعبود وحده.
ولهذا جَرَت سُنَّة القرآن الكريم على سوق آيات الربوبية مَقرونة بآيات الدعوة إلى توحيد الألوهية، ومن أمثلة ذلك:
(1)
«تحذير أهل الإيمان» (1/ 140)، (ضمن «مجموعة الرسائل المنيرية»).
(2)
اللازم هنا قد يتخلف، كما هو الحال في كفار قريش؛ فهم يُقرون بتوحيد الربوبية، كما دَلَّت على ذلك النصوص، ولكنهم لم يُحققوا اللازم مِنْ إقرارهم بتوحيد الربوبية.
وأمَّا توحيد الألوهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأنَّ مَنْ عبد الله ولم يُشرك به شيئًا فهذا يدل ضمنًا على أنه قد اعتقد بأن الله هو ربه ومالكه الذي لا ربَّ غيره.
وهذا أمر يشاهده المُوحد من نفسه، فكونه قد أفرد الله بالعبادة ولم يَصرف شيئًا منها لغير الله، ما هو إلا لإقراره بتوحيد الربوبية، وأنه لا ربَّ ولا مالك ولا متصرف إلا الله وحده.
وأمَّا توحيد الأسماء والصفات فهو شامل للنَّوعين معًا، وذلك لأنه يقوم على إفراد الله تعالى بكلِّ ما له من الأسماء الحسنى والصفات العُلى التي لا تنبغي إلا له سبحانه وتعالى، والتي من جملتها: الرَّب- الخالق- الرازق- الملك، وهذا هو توحيد الربوبية.
ومن جملتها: الله- الغفور- الرحيم- التَّواب، وهذا هو توحيد الألوهية
(1)
.
فائدة: القرآن كله دعوة للتوحيد.
قال ابنُ القيم رحمه الله: «كلُّ سُورة في القرآن هي متضمنة للتوحيد، بل نقول قولًا كليًّا: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه.
فإن القرآن:
1 -
إمَّا خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري.
2 -
وإمَّا دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
(1)
انظر: «الكواشف الجلية عن معاني الواسطية» للشيخ عبد العزيز السلمان (ص 421، 422).
3 -
وإمَّا أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته.
4 -
وإمَّا خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يُكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
5 -
وإمَّا خبر عن أهل الشرك، وما فُعل بهم في الدنيا من النِّكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم توحيده.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجَزائهم»
(1)
.
(1)
«مدارج السَّالكين» (3/ 449، 450).
قال المصنف رحمه الله:
«فمنزلتُه في الدين عاليةٌ، وأهميتُه عظيمةٌ، ولا يُمكن أحدًا أن يَعبد الله على الوجه الأكمل حتى يكونَ على علمٍ بأسماء الله تعالى وصفاته؛ ليَعبده على بصيرةٍ، قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. وهذا يشملُ دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
فدعاء المسألة: أن تُقَدِّم بين يدي مَطلوبك من أسماء الله تعالى ما يكون مناسبًا؛ مثل أن تقول: يا غفور؛ اغفر لي. ويا رحيم؛ ارحمني. ويا حفيظ؛ احفظني. ونحو ذلك.
ودعاء العبادة: أن تَتعبد للهِ- تعالى- بمُقتضى هذه الأسماء؛ فتقوم بالتَّوبة إليه؛ لأنَّه التواب، وتذكره بلسانك؛ لأنه السَّميع، وتتعبد له بجوارحك؛ لأنَّه البصير، وتخشاه في السر؛ لأنه اللطيف الخبير، وهكذا.
ومِن أجل مَنزلته هذه، ومِن أجل كلامِ النَّاس فيه بالحق تارة، وبالباطل النَّاشئ عن الجهل أو التَّعصب تارة أخرى- أحببتُ أن أكتب فيه ما تَيَسَّر من القواعد؛ راجيًا مِنْ الله تعالى أن يَجعل عملي خالصًا لوجهه، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده.
وسمَّيْتُه: «القواعد المُثلى في صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى» .
الشَّرح
أهمية توحيد الأسماء والصفات:
تتجلى أهمية توحيد الأسماء الحُسنى والصِّفات العُلى في الأسباب التالية:
أولًا: هذا التوحيد شَطر باب الإيمان بالله تعالى:
لا يخفى على المسلم أهمية الإيمان بالله، فهو أول أركان الإيمان، بل هو أعظمها، فما بقية الأركان إلا تَبَع له وفرع عنه، وهو أهم ما خُلق لها الخلق، وأُرسلت به الرسل، وأُنزلت به الكتب، وأُسِّست عليه الملة؛ فالإيمان بالله هو أساس كل خير، ومصدر كل هداية، وسبب كل فلاح، ذلك لأنَّ الإنسان لما كان مخلوقًا مَربوبًا عاد في علمه وعمله إلى خالقه وبارئه؛ فبه يهتدي، وله يعمل، وإليه يصير، فلا غِنى له عنه، وانصرافه إلى غيره هو عين هلاكه وفساده، والإنسان له بالله عن كل شيء عِوض، وليس لكل شيء عن الله عوض؛ فليس للعبد صلاح ولا فلاح إلا بمعرفة ربِّه وعبادته، فإذا حصل له ذلك فهو الغاية المرادة له والتي خُلق من أجلها، فما سوى ذلك إما فضل نافع، أو فُضول غير نافعة، أو فضول ضارة، ولهذا صارت دعوة الرسل لأممهم إلى الإيمان بالله وعبادته؛ فكل رسول يبدأ دعوته بذلك كما يُعلم من تَتبع دعوات الرسل في القرآن.
وملاك السعادة والنجاة والفوز يكون بتحقيق التوحيدين اللذين عليهما يقوم الإيمان بالله تعالى، وبتحقيقهما بَعث الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإليه دَعت الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- من أولهم إلى آخرهم.
وأحدهما: التوحيد العِلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الكمال لله تعالى، وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل، وتنزيهه عن صفات النقص.
قال الإمامُ ابنُ القَيِّم رحمه الله: «ولا ريبَ أنَّ العِلم به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أَجَلُّ العلوم وأَفضلها، ونِسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات، وكما أنَّ العلمَ به أَجَلُّ العلوم وأشرفُها، فهو أصلها كلها، كما أنَّ كل موجود فهو مستند في وجوده إلى الملك الحق المبين ومفتقر اليه في تحقق ذاته وأينيته، وكل علم فهو تابع للعلم به مُفتقر في تحقق ذاته إليه، فالعلم به أصل كل علم، كما أنَّه- سبحانه- ربُّ كل شيء ومليكه ومُوجده
…
(1)
.
والتوحيد الثاني: عبادته وحده لا شريك له، وتجريد محبته والإخلاص له وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه، والرضا به ربًّا وإلهًا ووليًّا، وأن لا يَجعل له عدلًا في شيء من الأشياء.
وقد جمع سبحانه وتعالى هذين النوعين في سورتي الإخلاص، وهما سورة:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} المتضمنة للتوحيد العملي الإرادي.
وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} المتضمنة للتوحيد العلمي الخبري.
فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها بيانُ ما يجب لله تعالى من صفات الكمال، وبيان ما يجب تنزيهه عنه من النقائص والأمثال.
وسورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فيها إيجاب عبادته وحده لا شريك له، والتبري من عبادة كل ما سواه.
ولا يتمُّ أحدُ التوحيدين إلا بالآخر، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في سُنَّة الفجر والوتر والمغرب، وقد ورد كذلك في سُنَّة المغرب
(1)
«مفتاح دار السعادة» (1/ 86)، دار الكتب العلمية - بيروت.
القراءة بهاتين السورتين
(1)
؛ ليكون فاتحة العمل وخاتمته توحيدًا؛ إذ مبدأ النهار توحيدًا وخاتمته توحيدًا
(2)
.
فالتوحيد المطلوب من العبد شَطره هو توحيد الأسماء والصفات.
ثانيًا: توحيد الأسماء والصِّفات أشرف العلوم وأهمها على الإطلاق:
إنَّ شرف العلم تابع لشرف معلومه؛ لوثوق النفس بأدلة وجوده وبراهينه، ولشدة الحاجة إلى معرفته وعِظم النفع بها.
ولا ريب أن أَجَلَّ مَعلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين، وقَيُّوم السموات والأرضين، الملك الحق المبين، الموصوف بالكمال كله، المنزه عن كل عيب ونقص وعن كل تشبيه وتمثيل في كماله.
فلا ريب أن العلمَ به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أَجَلُّ العلوم وأفضلها، ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات
(3)
.
فإن قيل: فالعلم إنما هو وسيلة إلى العمل ومراد له، والعمل هو الغاية، ومعلوم أنَّ الغاية أشرف من الوسيلة؛ فكيف تُفضل الوسائل على غاياتها؟
(1)
قد ثبت في «صحيح مسلم» (726) عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكعَتَي الفَجرِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}» .
وأخرج الترمذي (462) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في ركعة ركعة» ، وأخرجه الدارمي بنحوه (1630)، وصححه الألباني في «صلاة التراويح» (ص 108).
وأخرج النسائي (922) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رَمَقتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِشرين مَرَّةً يقرأ في الرَّكعَتَينِ بعد المغرب، وفي الرَّكعَتَين قبل الفجرِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وقال النووي في «المجموع» (3/ 385): «إسناده جيد» ، وصححه الشيخ أحمد شاكر في «تحقيق المسند» (8/ 89)، والألباني في «السلسلة الصحيحة» (3328).
(2)
انظر «اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة الجهمية» لابن القيم (ص 35، 36).
(3)
«مفتاح دار السعادة» (1/ 86).
قيل: كل مِنْ العلم والعمل ينقسم إلى قسمين؛ منه ما يكون وسيلة، ومنه ما يكون غاية، فليس العلم كله وسيلة مرادة لغيرها، فإنَّ العلم بالله وأسمائه وصفاته هو أشرف العلوم على الإطلاق، وهو مطلوب لنفسه، مراد لذاته؛ قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ، فقد أخبر- سبحانه- أنه خلق السموات والأرض، ونَزَّل الأمر بينهن؛ ليَعلم عباده أنه بكل شي عليم، وعلى كل شي قدير؛ فهذا العلم هو غاية الخلق المطلوبة، وقال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ؛ فالعلم بوحدانيته تعالى وأنه لا إله إلا هو مطلوب لذاته وإن كان لا يُكتفى به وحده، بل لابد معه من عبادته وحده لا شريك له؛ فهما أمران مطلوبان لأنفسهما.
الأمر الأول: أن يُعرف الربُّ تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه.
والأمر الثاني: أن يُعبد بمُوجبها ومُقتضاها.
فكما أنَّ عبادته مطلوبة مرادة لذاتها، فكذلك العلم به ومعرفته أيضًا، فإنَّ العلم من أفضل العبادات
(1)
.
ثالثًا: توحيد الأسماء والصفات هو أصل العلوم الدينية:
كما أن العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأشرفها وأعظمها فهو أصلها كلها، فكل علم هو تابع للعلم به، مفتقر في تحقق ذاته إليه، فالعلم به أصل كل علم ومَنشؤه؛ فمَن عرف الله عَرف ما سواه، ومَن جهل ربَّه فهو لما سواه أجهل؛ قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} ، فتأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفًا عظيمًا، وهو: أنَّ مَنْ نسي ربَّه أنساه ذاته ونفسه، فلم يَعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نَسي ما به
(1)
«مفتاح دار السعادة» (1/ 178).
صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده؛ لأنَّه خرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربَّه فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل به وتزكو به وتسعد به في معاشها ومعادها؛ قال تعالى:{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ، فغفل عن ذكر ربه؛ فانفرط عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسه وقلبه، بل هو مُشتت القلب مُضيعه، مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلًا.
فالعِلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مُستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد والجهل به أصل شقاوته
(1)
.
رابعًا: معرفة أسماء الله وصفاته أصل عظيم في منهج السلف:
معرفة أسماء الله وصفاته هي الأساس الذي يَنبني عليه عمل العبد، ومن خلالها تتحدد العلاقة التي تربط العبد بربه، وعلى ضوئها يَعبد المسلم ربَّه، ويتقرب إليه.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: «وأصلُ الإيمان: قولُ القلب الذي هو التَّصديق. وعمل القلب الذي هو المحبة على سبيل الخضوع؛ إذ لا مُلائمة لأرواح العباد أتم من ملاءمة إلهها؛ الذي هو الله الذي لا إله إلا هو» .
ولذلك كان منهج السلف يقوم على أمرين؛ هما:
1 -
العلم بالله.
2 -
والعمل لله.
فجمعوا بذلك بين التصديق العِلمي والعَمل الحُبِّي، وبذلك تميز منهج أهل السنة والجماعة (السلف) عن المناهج الأخرى.
وحققوا كِلا الأمرين؛ من القول التصديقي المعتمد على معرفة أسماء الله
(1)
«مفتاح دار السعادة» (1/ 86).
وصفاته وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة. والعمل الإرادي، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي وفق ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان كلامهم وعملهم باطنًا وظاهرًا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونًا بالآخر، وهؤلاء هم المسلمون حقًّا؛ الذين سَلِموا من آفات منحرفة المتكلمة والمتصوفة.
فوقعت كل طائفة من هاتين الطائفتين المنحرفتين في مفسدتين:
إحداهما: القول بلا علم إن كان متكلمًا، والعمل بلا علم إن كان متصوفًا.
والمفسدة الثانية: فوت المتكلم العمل، وفوت المتصوف القول والكلام
(1)
.
وهو ما وقع من البدع الكلامية والعملية المخالفة للكتاب والسنة.
فالكلاميون: غالب نظرهم وقولهم في الثبوت والانتفاء، والوجود والعدم، والقضايا التصديقية؛ فغايتهم مجرد التصديق والعلم والخبر؛ فاعتنوا بجانب علمي لم يَنْبَنِ على الكتاب والسنة؛ لذلك عَطَّلوا أسماء الله عز وجل، وعَطَّلوا صفاتِه سبحانه وتعالى.
وعندما عَرَّفوا التوحيد؛ قالوا: «واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله» . وأهملوا جانب توحيد العبادة: «واحد في ذاته» قالوا: «لا شريكَ له» . و «واحد في صفاته» : «لا نظير له» . و «واحد في أفعاله» : «لا نِدَّ له» . فهذا تقسيمهم للتوحيد
(2)
، ويُلاحظ أنه قد خلا في هذه الثلاثة من الجانب العملي، فلا يوجد عمل، ثم إذا تحدثوا عن ذات الله تعالى تحدثوا بالتعطيل؛ فقالوا بما قالوا: «ليس في جهة، ولا في عُلو، ولا في مكان، ولا
(1)
«مجموع الفتاوى» (2/ 41) بتصرف.
(2)
انظر: «المِلل والنِّحَل» للشهرستاني (1/ 42)، مؤسسة الحلبي.
في حيز» ولا إلى غير ذلك؛ فجعلوه والعدم سواء، وإذا تحدثوا عن صفات الله تعالى تحدثوا عن سبع صفات فقط، وإذا تحدثوا عن أفعال الله تعالى هذا هو الذي سَلِم لهم:«توحيد الربوبية» ؛ فلم يَسلم لهم إلا توحيد الربوبية، ونحن نعلم أن كفار قريش كانوا مُقِرِّين بتوحيد الربوبية:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]؛ فهذا حاصل توحيد هؤلاء.
وأمَّا الصُّوفيون: فغالب طلبهم وعملهم في المحبة والبغضة، والإرادة والكراهة، والحركات العملية؛ فاعتنوا بجانب العمل، وأهملوا جانب العلم، وكذلك عملهم لم ينبنِ على السنة، وإنَّما انبنى على البدعة؛ إذ غايتهم المحبة والانقياد والعمل والإرادة.
وهكذا إذا جئنا إلى أهل التصوف لم نجد عندهم من حقيقة التوحيد شيء.
أمَّا توحيدُ أهل السُّنَّة فيقوم على هذين الأصلين العظيمين: أن تَعرف اللهَ، وذاك بمعرفة أسمائه وصفاته التي وردت في الكتاب والسُّنَّة. وأن تعبد الله، وهذا باتِّباع شرع الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالسلف وأتباعهم جعلوا من توحيد الأسماء والصفات إحدى الرَّكيزتين التي قام عليها منهجهم المعتمد على نصوص الكتاب والسنة، وذلك لما لهذا التوحيد من أهمية ومنزلة، وهذا ما تشهد له كثرة النصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن.
فلذلك لا بد لصاحب السُّنَّة أن يدرس هذا الباب، وأن يَبني هذه الدراسة على الكتاب والسنة؛ ليعرف الله سبحانه وتعالى، فلن تكون من أصحاب السنة ولن تكون من أتباع السلف حتى تُعنى بهذا الباب، وطبعًا العلم بهذا الباب- كما ذكر العلماء مطلوب لذاته، ليس وسيلة للعمل كما يزعم البعض؛ فكلٌّ من العِلم بالله والعمل لله مطلوب لذاته؛ فقد يكون منه ما هو وسيلة، ومنه ما هو غاية؛ فيجب أن نعلم أنه لا بد من معرفة هذا الباب وتعلمه؛ باعتبار أنه أمر
مطلوب لذاته، وإن كان لا يُكتفى به وحده، بل لا بد وأن يجتمع معه عبادة الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن العبد لا يكون مؤمنًا، وبهذا نعلم أن من أهمية هذا الباب أنه أصلٌ عظيمٌ في منهج أهل السنة والجماعة؛ فبالتالي لا بد من الاعتناء به، ولا بد من الاهتمام به، ولا بد من تعلُّمِه، وكما أشار المصنف: لا بد منه لأهميته وعِظمه ومنزلته، وكذلك لوقوع الاختلاف والافتراق في هذا الباب بين الفِرَق والطوائف لا بد من مزيد جهد وعناية بفهمه وتوضيحه ودراسته وتعلمه وتطبيقه.
والله تعالى ليس له مَثيل حتى يُقاس عليه، وعقول البشر لا يمكن أن تستقلَّ بمعرفة الله تعالى استقلالًا؛ لأنها قاصرة عاجزة، كما قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} {الإسراء: 85]؛ فالله تعالى تَعَرَّف إليك! فضلًا منه ومِنَّة عليك عَرَّفك بأسمائه وصفاته، عَرَّفك بأنه العليم، وأنه السميع، وأنه البصير، وأنه القدير، وأنه الغفور، وأنه الرحيم، وأنه الجبَّار، وأنه المتكبر .. إلى غير ذلك مِنْ أسماء الله عز وجل وصفاتِه الواردة في الكتاب والسُّنَّة؛ فمِنَّةٌ عُظمى فتحها الله عليك! بالله عليك كيف تُغلقها على نفسِك؟! بل إن الله رَغَّبك في هذه المعرفة فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقال:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24]، وقال:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] .. إلى غير ذلك من المواطن التي ذُكرت فيها أسماء الله سبحانه وتعالى؛ إمَّا جملة وإما تفصيلًا.
فافتح بابَ معرفة الله تعالى! لا تُغلقه على نفسك! لا تحرم هذا القلب من أن يَعرف ربَّه، ويَعرف معبودَه!
خامسًا: العلم بأسماء الله وصفاته يَفتح للعبد باب معرفة الله:
إنَّ محبة الشيء فرع عن الشعور به، وأعرف الخلق بالله أشدهم حُبًّا له، فكل من عرف الله أحبه، والعلم يَفتح هذا الباب العظيم الذي هو سِرُّ الخَلق
والأمر
(1)
؛ فمن أعظم أصول الدين: المحبة، بل هي قاعدة العبادة، فكيف يكون حبٌّ في قلب العبد المؤمن وهو لم يعرف الله عز وجل؛ فالله تعالى فتح لنا باب معرفته من هذا الطريق، فإن شأت فادخل وتعَرَّف على أسماء الله وصفاته وأفعاله، وإلا فإنك محروم مِنْ ضِمن مَنْ حُرم مِنْ هذا الخير العظيم؛ فطمأنينة القلب وحياته هي في هذا الأمر العظيم: في معرفة الله سبحانه وتعالى، ولا سبيل للحصول على هذه المعرفة إلا من باب العلم بأسماء الله وصفاته، فلا تَستقر للعبد قَدَم في معرفة الله إلا بالتعرف على أسمائه وصفاته الواردة في القرآن والسنة؛ فالعلم بأسماء الله وصفاته يَفتح للعبد هذا البابَ العظيمَ، فالله عز وجل لم يجعل السبيل إلى معرفته من طريق الاطلاع على ذاته، فهذا الباب موصود إلى قيام الساعة، كما أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال:«تَعَلَّمُوا أنَّه لن يَرى أحدٌ مِنكم ربَّه عز وجل حتى يَموت»
(2)
.
وكذلك فإنَّ من المحال أن تَستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على وجه التفصيل، فهي عاجزة عن ذلك لكونه من المُغيبات التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من طريق الوحي، والله عز وجل يقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ، فهذه الآية تُبين محدودية علم الإنسان.
وقد اقتضت رحمة العزيز الحكيم أن بَعث الرسل به مُعَرِّفين وإليه داعين، وجعل معرفته سبحانه بأسمائه وصفاته، أفعاله هي مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم، فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم والأصل الأول فيها: معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله. ثم يتبع هذا الأصل أصلان عظيمان هما:
1 -
تعريف الناس الطريق الموصلة إلى الله، وهي:«شريعته المتضمنة لأمره ونهيه» .
2 -
تعريفهم مآلهم في الآخرة.
وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول مَبنيان عليه، فأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصلة إليه، وأعرفهم بحال الناس عند القدوم عليه.
سادسًا: أساس العلم الصحيح هو الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته:
على أساس العلم الصحيح بالله وبأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها؛ فهذا التوحيد هو أساس الهداية والإيمان، وهو أصل الدين الذي يقوم عليه، ولذلك فإنه لا يتصور إيمان صحيح ممن لا يعرف ربه، فهذه المعرفة لازمة لانعقاد أصل الإيمان، وهي مهمة جدًّا للمؤمن لشدة حاجته إليها؛ لسلامة قلبه، وصلاح معتقده، واستقامة عمله، فهذه المعرفة لأسماء الله وصفاته وأفعاله تُوجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يَليق به، ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام.
وذلك يتم بتدبر كلام الله تعالى، وما تعَرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نَزَّه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه.
والجدير ذِكره أن معرفة الله نوعان:
النوع الأول: المعرفة الإجمالية:
وهي التي تَلزم العبد المؤمن؛ لينعقد بها أصلُ الإيمان، وهي تتحقق بالقدر الذي يميز العبد به بين ربه وبين سائر الآلهة الباطلة، ويتحقق بها الإيمان المجمل، وتجعله في سلامة من الكفر والشرك المُخرجين من الإيمان، وتُخرجه من حدِّ الجهل بربه وما يجب له.
وهذه المعرفة يتحصل عليها من قراءة سورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرها من الآيات، ومعرفة معانيها.
ولكن هذه المعرفة لا تُوجب قوة الإيمان والرسوخ فيه.
النوع الثاني: المعرفة التفصيلية:
وهذه تكون بمعرفة الأدلة التفصيلية الواردة في هذا الباب، وتعلمها واعتقاد اتصاف الله بها، ومعرفة معانيها، والعمل بمقتضياتها وأحكامها.
وهذه المعرفة هي التي يحصل بها زيادة الإيمان ورسوخه، فكلما ازداد العبد علمًا بالله زاد إيمانه وخشيته ومحبته لربِّه وتَعلقه به؛ قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، كما تجلب للعبد النور والبصيرة التي تُحَصِّنه من الشبهات المضللة والشهوات المحرمة.
«والعلم بالله يُراد به في الأصل نوعان:
أحدهما: العلم به نفسه، أي: بما هو متصف به مِنْ نُعوت الجلال والإكرام، وما دَلَّت عليه أسماؤه الحسنى.
وهذا العلم إذا رَسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لابد أن يعلم أن الله يُثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته.
والنوع الثاني: يُراد بالعلم بالله: العلم بالأحكام الشرعية من الأوامر والنواهي والحلال والحرام.
ولهذا قال بعض السلف: العلماء ثلاثة:
1 -
عالم بالله ليس عالمًا بأمر الله.
2 -
عالم بأمر الله ليس عالمًا بالله.
3 -
عالم بالله وبأمر الله.
فالعالم بالله: الذي يخشى الله. والعالم بأمر الله: الذي يعرف الحلال والحرام»
(1)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (3/ 333) بتصرف بسير.
سابعًا: العلم بأسماء الله وصفاته هو حياة القلوب:
يجب أن نعلم أنَّ معرفة الله تعالى هي حياة قلوبنا؛ فلا حياة للقلوب ولا نعيم ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلا بأن تَعرف ربها ومعبودها وفاطرها، ويكون أحب إليها مما سواه، ولا يمكن أن تنجو وأن تَسعد في الآخرة إلَّا بهذه المعرفة والمحبة.
والإنسان بدون الإيمان بالله لا يمكنه أن ينال معرفة ولا هداية، وبدون اهتدائه إلى ربِّه لا يكون إلا شقيًّا مُعذَّبًا كما هو حال الكافرين.
فالله- تبارك وتعالى خلق هذا الإنسان ورَكَّبه من الجسد والروح، وشاء أن يكون قَوَام هذا الجسد من هذه الأرض؛ قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]، وجعل حياة هذا الجسد من التراب؛ فهو يأكل ويشرب ويكتسي من الأرض وما فيها.
وجعل في هذا الجسد الروح؛ قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
أمَّا أصل هذه الروح ومادتها فهذا لا علم لنا به: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]؛ فأمرٌ استأثر الله تعالى به في علم الغيب عنده.
لكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يكون قِوام هذه الروح وحياتها في معرفة الله وعبادته؛ قال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]؛ فلا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم لقلبه وعيشه من محبَّة فاطره وبارئه، ودوام ذِكره، والسعي في مرضاته، لذلك فإنَّ مَنْ في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه وإرادة لوجهه وشوق إلى لقائه، فطلبه لهذا الباب وحرصه على معرفته وازدياده من التَّبَصُّر فيه وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبر مقاصده وأعظم مطالبه وأجل غاياته، فهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه، وله خُلق الخلق، ولأجله نزل الوحي، وأُرسلت الرسل، وقامت
السموات والأرض، ووُجدت الجنة والنار، ولأجله شُرعت الشرائع، وأُسِّست الملة، ونُصبت القِبلة، وهو قطب رحى الخلق والأمر الذي مدارهما عليه.
وهو بحقٍّ أفضل ما اكتسبته القلوب، وحصَّلته النفوس، وأدركته العقول، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، ولا فرحها بشيء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه
(1)
.
وإذا تأملت أعمال القلوب وجدت- مثلًا- أن كل حبٍّ هو تَبَعٌ لحبِّ الله سبحانه وتعالى؛ وكذلك الخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والإخلاص، والرغبة، والرهبة .. إلى غير ذلك.
فلا يمكن أن تتحرك أعمال القلوب في القلب ولا أن تقوم بواجبها ما لم تكن على معرفة بالله سبحانه وتعالى!
إذًا، كيف تتحقق في القلب أعمال القلوب؟
فمثلًا إذا علمت أن الله هو الخالق، وهو الرازق، وهو المحيي، وهو المُميت، وهو النَّافع، وهو الضَّار، وهو القابض، وهو الباسط .. إذا علمت هذا أَثْمَر في قلبك توكلًا على الله سبحانه وتعالى. هذه المعرفة تُوَلِّدُ التوكل. ممن تخاف ومَن ترجو والرزق بيد الواحد الأحد سبحانه وتعالى؟! يرزق من يشاء بغير حساب. وكيف ترجو ما في يد الناس؟ أو حتى كيف تحسد فلانًا من الناس: أن أعطاه الله تعالى من فضله؛ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]؛ فالخير بيد الله سبحانه وتعالى، والله يختص برحمته مَنْ يشاء؛ فكيف لقلبٍ أن يحسد لو كان على إيمان؟! ويحسد مَن؟! كأنما يعترض على حكم الله سبحانه وتعالى: أن أعطى فلانًا ومنع فلانًا!
(1)
انظر: «الفتوى الحموية الكبرى» (ص 28، 29).
فصلاح قلوبنا وحمايتها من تلك الأمراض التي تضرها، وتفسد على الإنسان حياته مِنْ غِلٍّ وحسد وحقد وغِيبة ونميمة .. إلى غير ذلك من أمراض- سببها هو: أن الإنسان ما عرف الله تعالى حقَّ المعرفة، ومثلًا الله سبحانه وتعالى أخبرك بأنه عليم، وأنَّه سميع، وأنه بصير؛ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومُطَّلِع على عملك وعلى فعلك؛ أفَلَا يحملُك هذا على الحياء منه؟!
فيجب أن يحمل هذا العبدَ على خوف الله تعالى، على مراقبته، على خشيته؛ فلو أن النفوس استحضرت هذه المعاني لَمَا أَقْدَمَت على فِعل معصية، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَزني الزَّاني حين يَزني وهو مؤمن، ولا يَشرب الخمرَ حين يَشرب وهو مُؤمنٌ، ولا يَسرق السارق حين يَسرق وهو مؤمن
…
»، الحديث
(1)
؛ لأنه لو قام الإيمان كما يجب- وكما ينبغي- في نفسِه في تلك اللحظات لَمَا أقدم على فَعلته.
أنت لو لَمَحت أحدًا من الناس وأنت على معصية لربما استحييت منه، ولربما خِفت أن يُفشي سِرَّك! فكيف وأنت أمام عالم الغيب والشَّهادة، المُطَّلِع على جميع أحوالك وعلى جميع أمورك وعلى جميع سكناتك وعلى جميع حركاتك؛ ألا تستحي مِنْ الله سبحانه وتعالى؟! وكما يذكرون أنَّ رجلًا لقي أعرابية فأرادها على نفسها فأَبَت وقالت: أي ثكلتك أمك، أَمَا لك زاجر من كرم؟ أما لك ناهٍ مِنْ دين؟ قال: قلت: واللهِ إنَّه لا يَرانا إلا الكواكب، قالت: ها بأبي أنت، وأين مُكوكبها»
(2)
؛ فأراد أن يُطمأنها أنَّه لا يراهم أحد إلا هذه الكواكب!. فقالت له: «وأين مُكوكبُها؟!» ؛ فذكَّرَته بالله سبحانه وتعالى في تلك اللحظة؛ فقام عنها، وكان ذلك سببًا في هدايته.
فنحن لو استحضرنا معاني أسماء الله وصفاته لكان هذا سببًا في حياة قلوبنا، ولكنَّ قلوبَنا مُلئت بالغفلة عن الله سبحانه وتعالى والإعراض عن معرفة أسمائه
(1)
أخرجه البخاري (2475) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 265) عن العتبي.
وصفاته؛ فأصابها ما أصابها من أمراض أثقلت كواهلنا، وأفسدت علينا أمر ديننا، وأفسدت علينا أمر دنيانا، بل إن الواحد منا يقف في الصلاة ويسمع آيات الله سبحانه تُتلى عليه، ومع ذلك قلبه قاسٍ، وأصبح قلبًا متحجرًا مهما ذُكِّر بآية عذاب أو وعيد لا يهتز لها، ولا يتحرك لها شعور في قلبه من ذِكر شيء من آيات الله سبحانه وتعالى؛ فأصابنا ما أصابنا من أمراض في قلوبنا وفي نفوسنا بسبب أننا غفلنا عن معرفة الله سبحانه وتعالى.
فليتنا نعودُ إلى أسماء الله وصفاته! ليتنا نتدبر ما جاء فيها من معانٍ، وما تُثمره من ثمرات! أنت إذا أثمرت هذه المعرفة في قلبك التوكل حصلت عِزَّة للمؤمن، وحصلت طمأنينة للنفس، وكذلك إذا حصل حياء وإذا حصل خوف وإذا حصلت خشية- منعك هذا مِنْ أن تقترف معصية؛ لا في السر ولا في العلن. إذا حصلت هذه المعرفة قامت بك محبةٌ لله تعالى وتعظيم وإجلال.
هذه المعرفة وهذه المحبة وهذا التعظيم وهذا الإجلال يحملك على أن تُراقب الله سبحانه وتعالى في جميع أحوالك، وأن يكون اللهُ تعالى أحبَّ إليك مِنْ كل شيء وأعظم وأكبر وأجَل من كل شيء، لكن للأسف حَرمنا قلوبنا من ذلك، فلربما استحقت وعيدَ الله سبحانه وتعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]؛ فقست القلوب، والقلوب تقسو، بل وتمرض وتموت، والله تعالى قد قال:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14]؛ فالران: هو الصدأ؛ يعلو على هذه القلوب حتى تصبح هذه القلوب صَدِأَة، هذه القلوب قاسية مُبتعدة عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
فأين النفس المطمئنة التي ستنادى كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27]؟!
فمعرفةُ الله سبحانه وتعالى حياةٌ لقلوبنا، وستثمر لنا من أنواع الإيمان وأنواع العمل ما يكون- بإذن الله تعالى- سببًا في صلاحنا وصلاح أحوالنا وصلاح مَعاشنا وصلاح معادنا؛ لو أننا عرفنا ذلك وعملنا به!
ثامنًا: ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته:
مما يدلل ويؤكد أهمية هذا التوحيد هو ما تُثمره معرفة أسماء الله وصفاته في قلب المؤمن من زيادة في الإيمان ورسوخ في اليقين، وما تَجلبه له من النور والبصيرة التي تحصنه من الشبهات المضللة والشهوات المحرمة.
فهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشيةَ الله لا محالة؛ فلكلِّ اسم من أسماء الله تأثير معين في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك- تجاوب مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه.
ولكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها؛ فالأسماء الحسنى والصفات العُلى مقتضية لآثارها من العبودية، وهذا مُطَّرِد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فمثلًا: علم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يُثمر له عبودية التوكل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا.
وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه، وأنَّه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يُرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه؛ فيثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح.
ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبِرِّه وإحسانه ورحمته تُوجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعِزِّه تُثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة هي موجباتها.
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العُلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية.
فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها
(1)
.
وبهذا يتبين أنَّ معرفة العبد لأسماء الله وصفاته على الوجه الذي أخبر الله عز وجل به في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تُوجب على العبد القيام بعبودية الله على الوجه الأكمل، فكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان الحب والإخلاص والتعبد أقوى، وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر؛ إذ كل اسم من أسمائه عز وجل له تَعَبُّد مُختص به؛ علمًا ومعرفة وحالًا.
(علمًا ومعرفة): أي: إنَّ مَنْ عَلِم أنَّ الله مسمى بهذا الاسم، وعرف ما يتضمنه من الصفة، ثم اعتقد ذلك- فهذه عبادة.
و (حالًا) أي: إن لكل اسم من أسماء الله مدلولًا خاصًّا وتأثيرًا معينًا في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك- تجاوب مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه.
وهذه الطريقة مُشتقة من قلب القرآن؛ قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
والدعاء بها يتناول: دعاء المسألة. ودعاء الثناء. ودعاء التعبد.
وهو- سبحانه- يدعو عباده إلى أن يَعرفوه بأسمائه وصفاته، ويُثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظِّهم من عبوديتها
(2)
.
تاسعًا: ضرورة تجنُّب الباطل، وعدم مخالفة طر يق الحق في هذا الباب:
قد وقع الخلاف في هذا الباب، وكَثُر كلام أهل الباطل فيه؛ لما عرفوا من أهميته، فبالتالي ازداد تسلطهم عليه، وأرادوا أن يَحجبوا الناس عن معرفة الله تعالى؛ لأنهم بهذا سيوصدون الباب، وإذا أُوصد الباب لم يمكن الدخول! فَكَثُر الخلاف والافتراق، فكان لا بد مِنْ مَعرفة تَنبني على الكتاب
والسنة، وكان لا بد من فهم للحقِّ حتى يُتَّبع، ولا بد من معرفة للباطل حتى يُجتنب.
فباب الأسماء والصفات من أكثر الأبواب خطورة ومَزلة؛ من جهة كونه محل خلافات شديدة ومعقدة دارت رحاها بين علماء السلف من جهة والفلاسفة وأهل الكلام والمُشبهة من جهة أخرى.
فمن واجب طالب العلم: أن يَتعمق في فهم الحق المَبني على الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {وَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، فالرد إلى الله يكون بالرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته يكون بالرد إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} ، فالله أعلم بنفسه، وهو الذي أخبر بأسمائه وصفاته في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربِّه وأصدقهم خبرًا، وقد قال الله في حقه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
فمن الواجب على المسلم: أن يدرس هذا الباب وأن يتعمق في فهمه وفق ما ورد في الكتاب والسنة، وأن يحذر من التيارات الفلسفية التي أضَرَّت أصحابها، وأدخلتهم في دوامة الانحراف والضياع، فحالت بين قلوبهم وبين معرفة ربهم، فأصبحت قلوبهم مظلمة جاهلة بحقائق الإيمان، فترتب على ذلك إعراضهم عن الله وعن ذكره ومحبته والثناء عليه بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، فانصرفت قُوى حُبِّهم وشوقهم وأنسهم إلى سواه.
ومعلوم: أنه لا يستقر للعبد قَدَمٌ في المعرفة- بل ولا في الإيمان- حتى يؤمن بأسماء وصفات الربِّ جل جلاله، ويَعرفها معرفة تُخرجه عن حدِّ الجهل بربه، فالإيمان بالأسماء والصفات وتَعَرُّفها هو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان وثمرة شجرة الإحسان؛ فمَن جَحدها فقد هدم أساس الإسلام والإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فضلًا عن أن يكون من أهل العرفان. فينبغي للمؤمن أن يَبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات،
وأن تكون معرفته سالمة من داء التعطيل وداء التمثيل اللذين ابتُلي بهما كثير من أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمعرفة الصحيحة هي المُتلقاة من الكتاب والسنة، وما رُوي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذه هي المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة إيمانه وقوة يقينه، وطمأنينة أحواله.
ومما يذكره العلماء في أهمية هذا العلم- الذي هو العلم بأسماء الله وصفاته- بالإضافة إلى كونه شطر باب (الإيمان بالله تعالى): أنه أشرف العلوم؛ فهو أشرف العلوم وأعظمها وأجلها وأكبرها؛ فإذا قلنا: إن شرف العلم تابع لشرف المعلوم، فالمعلوم هنا: هو ما يليق بأسماء الله تعالى من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وما تَعَرَّف به إلى خلقه مما أخبر به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من أسمائه الحسنى وصفاته العُلى؛ فأنت أمام أشرف علم تكتسبُه؛ فلا شك أن العلم شرفٌ لصاحبه، وأشرف علم يكتسبُه العبد المؤمن هو معرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأن شرف العلم تابع لشرف المعلوم.
والمعلوم هنا: هو الله سبحانه وتعالى وما يليق به من الأسماء والصفات والأفعال؛ فلذلك ينبغي على المؤمن مع حرصه على إكمال توحيده أن يحرص كذلك على نيل هذا الشرف العظيم، وهو أن يكتسب هذا العلم الصحيح بأسماء الله وصفاته، كذلك مما يدل على شرف هذا العلم: أنه أصل العلوم وأساسها، كما يقول العلماء:«مَنْ عرف الله عرف ما سواه، ومَن جهل ربَّه فهو لما سواه أجهل»
(1)
.
وتأمل هذا وخذه من قول الله سبحانه وتعالى حيث قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} {الحشر: 19]، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس:«يا غلام- أو- يا غُلَيِّم: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تَجده تُجاهك»
(2)
، ونحن
(1)
انظر «مفتاح دار السعادة» (1/ 86).
(2)
أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد في «مسنده» (2669) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال:«حسن صحيح» ، وصححه الألباني في «المشكاة» (5302).
نعلم أنَّ حفظ الله سبحانه وتعالى بمعرفته وعبادته، فإذا ما العبدُ حَفِظ الله سبحانه وتعالى فإن الله تعالى تعَهَّد بحفظِه، وتعهد بصلاح أمره؛ فيجب أن نعلم أن هذا العلمَ هو أصلُ العلوم الدينية.
فنسيان العبد لربه عقوبته أن الله سبحانه وتعالى يُنسيه أمرَ نفسِه وصلاحَ نفسه؛ يقول ابن القيم في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} {الحشر: 19]: «تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفًا عظيمًا، وهو أنَّ مَنْ نَسِي ربَّه أنساه ذاتَه ونفسَه؛ فلم يَعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نَسِيَ ما به صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومَعاده؛ فصار مُعَطَّلًا مُهملًا بمنزلة الأنعام السَّائبة، بل ربُّما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه؛ لبقائها هداها الذي أعطاها إيَّاه خالقُها»
(1)
، وهذا تجده- كذلك- في قوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، قال قتادة:«أضاع أكبر الضَّيعة؛ أضاع نفسه وعسى مع ذلك أن تجده حافظًا لما له، مُضَيِّعًا لدينه»
(2)
.
فإذا أنت علمت هذا الباب أصلحت أساس العلم عندك؛ فعلمك ومعرفتك بالله سبحانه وتعالى ستنبني عليها جميعُ المعارف؛ لأن هذا أصلُ العلم وأصلُ الدِّين، وإن كنت مضيعًا لهذا الباب ضَيَّعت جميعَ أحوالك وجميع أمورك وجميع مصالحك في دنياك وفي أُخراك.
وتأمل مَنْ كان غافلًا عن الله سبحانه وتعالى، وعن معرفته، وعن الإيمان بأسمائه وصفاته، ولو نظرنا إلى عينة من أحوال بعض الناس الذين غَفلوا عن الله سبحانه وتعالى، وغفلت قلوبهم عن ذِكر الله سبحانه وتعالى، وما يُصيبهم من القلق والضياع والحسرة
(1)
«مفتاح دار السعادة» (1/ 86).
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في «محاسبة النفس» (ص 25)، وقال الإمام ابن كثير:«{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}، أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} {الكهف: 28]، أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًّا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه» «تفسير ابن كثير» (5/ 154).
والنَّدامة؛ فمثلًا صاحبُ المُخَدِّرَات- والعياذ بالله- يظن أن طريق سعادته عن طريق هذا الأمر الذي يُهلك صحته، ويهلك عقله، بل ويفسد عليه الضرورات الخمس المعلومة
(1)
؛ فيظل صاحب هذه المخدرات يتعاطى تلك الحقنة- مثلًا- حتى يصل إلى مرحلة هو يعلم- ويجزم- أنها قد تكون أقوى من أن يتحملها هذا الجسم؛ فتكون سببًا في هلاكه، فيُختم له- والعياذ بالله- بخاتمة سوء؛ فتجده قد مات في دورة المياه- دورة الخلاء- أصبحت نهايته في ذلك المكان، وقتل نفسه بيده، وهذا مصداق قول الله تعالى:{فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، فإذا ما اعتنى المسلم بأصل العلم وبأصل الدين- وهو العلم بأسماء الله وصفاته- فإن ذلك سيحرك كوامن الإيمان في النفس، وسيأتي تفصيل ذلك قريبًا؛ فإذا ما ضيع هذا، فإن ذلك يكون سببًا في ضياعه في دنياه وفي أُخراه، فكما يقول ابن القيم:«بل نَسِيَ ما به صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومَعاده»
(2)
، والعياذ بالله.
فخلاصة الأمر: ضرورة معرفة الحق بدليله، وضرورة معرفة الباطل بِشُبهه حتى يُمكن التصدي له.
وهذا الباب- بحمد الله- أُحكم إحكامًا عظيمًا، ومن آية واحدة تستطيع أن تَستخرج عِدَّة قواعد، كما سيأتيك الآن في بعض هذه القواعد؛ انظر قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، و {وَلِلَّهِ} هذه فيها قاعدة. {الْأَسْمَاءُ} فيها قاعدة. {الْحُسْنَى} فيها قاعدة. {فَادْعُوهُ بِهَا} فيها قاعدة. {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] فيها قاعدة. في آية واحدة تستخرج جملة من القواعد وجملة من المعاني، ولو أنَّنا تدبرنا كلام الله
(1)
وهي: (الدِّين والنَّفْس والعقل والعِرض والمال)، وقد جاء الإسلام بحفظها؛ قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «اتفقت الأمة- بل سائر الملل- على أنَّ الشريعة وُضِعَت للمحافظة على هذه الضروريات الخمس
…
، وعِلْمُها عند الأُمَّة كالضَّروري». «الموافقات» (1/ 31).
(2)
تَقَدَّم كلامه قريبًا.
وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم سيكون هذا- بإذن الله تعالى- سببًا في أن تلين هذه القلوب: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، ستلين هذه القلوب، وسيكون هذا سببًا في فلاحها وسعادتها.
وقد أحببنا أن نُقَدِّم بهذه المقدمة لأهمية هذا الباب، فهو كما قال المصنف:«منزلته في الدين عالية، وأهميته عظيمة، ولا يمكن أحدًا أن يَعبد اللهَ على الوجه الأكمل حتى يكون على علم بأسماء الله تعالى وصفاته؛ ليَعبده على بصيرة» ، ثم ذكر أنواع الدُّعاء هنا: فَذَكر دعاء المسألة، وذكر دعاء الثناء؛ فدعاء المسألة كقولك: رَبِّ اغفر لي، رب ارحمني. بل إنه من الأدب أن تُثني على الله سبحانه وتعالى بين يدي طلبِك؛ فتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم إنَّك عفو تحبُّ العفو؛ فاعفُ عَنِّي»
(1)
؛ فأين جاء الطلب في آخر الأمر: «اللهم إنك عفو تحب العفو» هذا كله ثناء، «فاعفُ عَنِّي» هذه المسألة.
بل ونحن نشاهد في عصرنا الحاضر كيف أن القلوب مَرضت حتى كثرت العيادات النفسيَّة؟! وتأسف كيف لأمة أن يكون هذا هو حالها، مع أنَّ نَبِيَّها صلى الله عليه وسلم أرشدَها إلى ما فيه دواء هذه النُّفوس، حيث قال:«ما أصابَ عبدًا قط هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا حَزَنٌ .. » ، هذه ثلاثة أحوال تصيب النفس: الهم والغم والحزن، ما الفرق بينها؟ الهم يأتي قبل المكروه؛ فأنت إذا توقعت مكروهًا أصابك الهم؛ تهتم له. والغم يأتي أثناء المكروه؛ أثناء المصيبة. والحزن يأتي بعد وقوع المصيبة. والإنسان دائمًا بين هَمٍّ؛ يعني يتوقعه مستقبلًا، أو أمر قد فاته قد حَزن عليه، أو في غَمٍّ أصابه في ذلك الوقت؛ فيقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو الطبيب لهذه الأمة؛ التي أعرضت هذه الأمة عن طِبِّه وعن دوائه- يقول لنا: «ما أصاب عبدًا قطٌّ هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا حَزن، ثم قال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك؛ أسألك بكلِّ
(1)
أخرجه الترمذي (3513) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال:«حسن صحيح» ، والنسائي في «الكبرى» (7665)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2789).
اسمٍ هو لك سَمَّيْتَ به نفسَك .. » - انظر بماذا سأل؟ سأل الله بأسمائه تصديقًا وتطبيقًا لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]- «أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سَمَّيْتَ به نفسَك، أو أنزلته في كتابِك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في عِلم الغيب عندك: أن تَجعل القرآنَ العظيم ربيعَ قلبي
…
» إلى آخر الحديث
(1)
.
انظر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقًا لهذه الآية ومصداقًا لهذه الآية؛ فسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى. فهل الأمة تُطبق هذا في حالها؟!
فهذا الدواء! بدلًا عن هذه العيادات النفسية التي في غالب الأحيان تعطيك مسكنات وأدوية حسيَّة قد يكون وبالها عليك أكثر من نفعها لك؛ فلو أنك داومت على هذا الدواء الشافي- بإذن الله تعالى- لأصبحت في غُنية عما يُواجهه الكثير من الناس من حالة اضطراب وقلق نفسي وأمراض نفسية؛ بسببها تجد هذه العيادات وهذه المستشفيات وما أكثرَها، ووالله ما كان مجتمع المسلمين يعرف هذا إلا في حالات من الجنون ونحوه، لكن اليوم يتردد كثير حتى الصِّغار- حتى الصبية- يَترددون على هذه العيادات، مع أننا- بحمد الله تعالى- قد نكون نحن في غنية عن كثير مما يدعو إلى اللجوء إليها، لكننا هجرنا مثل هذا الخير؛ فحُرمنا الخير، ونالنا ما نالنا مِنْ بلاء في هذا الشيء.
فإذًا وجه الاستشهاد من قوله سبحانه وتعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} : أن الله يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويُثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، فالدعاء بها يتناول:
- دعاء المسألة
(2)
: كقولك: ربي ارزقني.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (3712)، وابن حبان في «صحيحه» (972) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في «الصحيحة» (199).
(2)
دعاء المسألة: ما كان فيه طلب جلب نفع أو دفع مضرة.
ودعاء الثناء
(1)
: كقولك: سبحان الله.
ودعاء التعبد
(2)
: كالركوع والسجود
(3)
.
(1)
دعاء الثناء: ما كان فيه التمجيد والثناء على الله، وخلا من السؤال.
(2)
دعاء التعبد: الحركات التعبدية؛ كالصلاة، فهي الدعاء.
(3)
«مدارج السالكين» (1/ 420).
قال المُصَنِّفُ رحمه الله:
«قواعد في أسماء الله تعالى
القاعدة الأولى:
أسماءُ الله- تعالى- كُلُّها حُسنى.
أي: بالغة في الحُسن غايته؛ قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وذلك لأنُّها مُتضمنة لصفات كاملة، لا نقص فيها بوجه من الوجوه؛ لا احتمالًا ولا تقديرًا.
مثال ذلك: (الحي): اسم مِنْ أسماء الله تعالى، متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدم، ولا يَلحقها زوال. الحياة المستلزمة لكمال الصفات مِنْ العلم والقدرة والسَّمع والبصر وغيرها.
ومثال آخر: (العليم): اسم من أسماء الله، متضمن للعلم الكامل الذي لم يُسبق بجهل، ولا يَلحقه نسيان؛ قال الله تعالى:{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلًا، سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال خلقه؛ قال الله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي
كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4].
ومثال ثالث: (الرحمن): اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للرحمة الكاملة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«للهُ أرحمُ بعبادِه مِنْ هذه بولدها»
(1)
، يعني: أم صبي وجدته في السَّبْي؛ فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته. ومتضمن- أيضًا- للرحمة الواسعة التي قال الله عنها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
والحُسْنُ في أسماء الله- تعالى- يكون باعتبار كلِّ اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره؛ فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال.
مثال ذلك: (العزيز الحكيم)؛ فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيرًا. فيكون كل منهما دالًّا على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العِزَّة في العزيز، والحكم والحكمة في الحكيم.
والجمع بينهما دالٌّ على كمال آخر، وهو أنَّ عزته تعالى مقرونة بالحكمة؛ فعزته لا تقتضي ظلمًا وجورًا وسوء فِعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم؛ فيظلم ويجور ويسيء التصرف.
وكذلك حكمه- تعالى- وحكمته مقرونان بالعِزِّ الكامل، بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنَّهما يعتريهما الذل».
(1)
أخرجه البخاري (5999) ومسلم (2754) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الشرح
وصفَ اللهُ سبحانه وتعالى في أربعة مواضع- أسماءه بأنها حُسنى؛ وهي: قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقوله:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]، وقوله:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24].
مفهوم (الحسنى) في اللغة:
و «حُسنى» : تأنيث أحسن، وليس تأنيث حَسَن؛ لأن تأنيث حَسن: حَسَنَة، وتأنيث أحسن:«حُسنى» ، على وزن (فُعلى) كـ «صُغرى» و «كبرى» ، أي: أنها صيغة أفعل التفضيل، فتصريفها أنها تأنيث أحسن، وعليه يكون وزنها فُعلى تأنيث أفعل، أي: أفعل التفضيل.
قال ابن منظور: «وتأنيث الأحسن: الحُسنى؛ كالكبرى والصُّغرى، تأنيث الأكبر والأصغر»
(1)
.
وقال القرطبي: «الحسنى: فُعلى، مؤنث الأحسن؛ كالكبرى تأنيث الأكبر، والجمع: الكُبَر والحُسن»
(2)
.
والمعنى: أن لله عز وجل أحسن الأسماء وأكملها وأتمها معنى، أي: أنها بالغة في الحُسن غايته، فأعلى درجات الكمال لأسماء الله سبحانه وتعالى.
قال ابن الوزير اليماني: «واعلم أنَّ الحسنى في اللغة هو جمع الأحسن لا جمع الحَسَن، فإنَّ جمعه حسان وحسنة، فأسماء الله التي لا تُحصى كلها حسنى، أي: أحسن الأسماء، وهو مثل قوله تعالى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {الروم: 27]، أي: الكمال الأعظم في ذاته وأسمائه ونعوته،
فلذلك وجب أن تكون أسماؤه أحسن الأسماء، لا أن تكون حسنة وحسانًا لا سوى؛ وكم بين الحَسَن والأحسن من التفاوت العظيم عقلًا وشرعًا ولغة وعُرْفًا»
(1)
.
وجه الحُسن في أسماء الله:
الحُسنُ في أسماء الله جاء من وجهين هما:
الوجه الأول: لدلالتها على مُسمى الله، فكانت حسنى لدلالتها على أحسن وأعظم وأجل وأقدس مُسَمًّى، وهو الله عز وجل
(2)
.
الوجه الثاني: لأنها متضمنة لصفاتٍ كاملةٍ لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالًا ولا تقديرًا
(3)
.
قال الشيخ عبد العزيز السَّلمان: «فأسماء الله إنما كانت حُسنى؛ لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول»
(4)
.
وقال ابن القيم: «أسماؤه سبحانه وتعالى كلُّها أسماء مدح وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى»
(5)
.
(6)
.
فأسماؤه عز وجل تدل على توحيده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله، ومن حسنها ما فيها من معنى التعظيم والإجلال والإكبار لله سبحانه وتعالى.
(1)
«العواصم والقواصم في الذَّبِّ عن سُنَّة أبي القاسم» (7/ 228).
(2)
«الأسئلة والأجوبة الأصولية» (ص 51).
(3)
«القواعد المثلى» (ص 6).
(4)
«الأسئلة والأجوبة الأصولية» (ص 51).
(5)
«مدارج السالكين» (1/ 125).
(6)
«مدارج السالكين» (1/ 28).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند «تفسيره» لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} : «هذا بيان لعظيم جلال وسعة أوصافه بأن له الأسماء الحسنى، أي: كل اسم حسن، وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى، فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علمًا محضًا لم تكن حسنى، فإنها لو دلت على صفة ليست بصفة كمال، بل إمَّا صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح لم تكن حسنى، فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتُق منها، مستغرق لجميع معناها، وذلك نحو (العليم) الدال عليه أن له علمًا محيطًا عامًّا لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرَّة في الأرض ولا في السماء، و (الرحيم) الدال على أنه له رحمة عظيمة واسعة لكل شيء، و (القدير) الدال على أن له قدرة. عامة لا يعجزها شيء ونحو ذلك.
ومن تمام كونها حسنى: أنَّه لا يُدعى إلا بها، ولذلك قال:{فَادْعُوهُ بِهَا} ، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة
…
»
(1)
.
والحُسن في أسماء الله تعالى يكون باعتبار كل اسم على انفراده.
مثال ذلك: (الحيُّ): اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدم، ولا يلحقها زوال. الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها.
مثال آخر: (الرحمن): اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للرحمة الكاملة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«للهُ أرحمُ بعباده مِنْ هذه بولدها» ، يعني: أم صبي وجدته في السَّبي، فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته.
ومتضمن- أيضًا- للرحمة الواسعة التي قال الله عنها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} .
(1)
«تيسير الكريم الرحمن» (3/ 59).
وكما يكون الحسن في أسماء الله باعتبار كل اسم على انفراده، فكذلك يكون باعتبار جمعه إلى غيره؛ فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمالٌ فوق كمال.
مثال ذلك: (العزيز الحكيم)، فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيرًا، فيكون كل منهما دالًّا على الكمال الخاص الذي يقتضيه وهو: العزة في العزيز، والحُكمُ والحكمة في الحكيم.
والجمع بينهما دالٌّ على كمال آخر، وهو أن عِزَّته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظُلمًا وجورًا وسوء فعل، كما قد يكون من أعزَّاء المخلوقين. فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم، فيظلم ويجور ويسيءُ التَّصرف.
وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعزِّ الكامل، بخلاف حكم المخلوق وحكمته؛ فإنهما يعتريهما الذُّلُّ
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «وهناك صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مُفرديهما نحو: الغني الحميد، العفو
القدير، الحميد المجيد؛ وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغِنى صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغِنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه وثناء من حمده وثناء من اجتماعهما، وكذلك: العفوُّ القدير، الحميد المجيد، العزيز الحكيم؛ فتأمله فإنَّه من أشرف المعارف»
(2)
.
أسماء الله توقيفية:
ولذلك أسماء الله توقيفية، فليس لك أن تقيس فيها؛ فمثلًا أنت تقول: إن الجود والسخاء قد يكونان وصفين متقاربين، تقول: فلان جواد وفلان
(1)
«القواعد المثلى» (ص 7، 8).
(2)
«بدائع الفوائد» (1/ 161).
سخي، لكن في حق الله تعالى ورد الجوَاد أو الجوَّاد ولم يرد السخي؛ لأن إيفاد كمال المعنى ليس في هذا؛ فالجود من السعة، ولذلك الخيل إذا كانت واسعة وسريعة في خطاها، يقال عنها: جواد؛ من السعة. أما السخاوة فهي من الرخاوة، يقال: أرض سخوة، أي: أرض رخوة؛ فالله اختار لنفسه أكمل ما يكون في المعنى، فالأكمل السعة وليست الرخاوة، والله قد سَمَّى نفسه العليم، ولم يسم نفسه- مثلًا- العارف؛ لأنَّ المعرفة يسبقها الجهل، وهكذا.
لذلك يقول ابن القيم رحمه الله: «فأسماء الله هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها، ولا يؤدي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمرادف محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم.
فإذا عرفت هذا، فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى، وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب أو نقص.
فله من صفة الإدراكات: العليم الخبير دون العاقل الفقيه.
والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر.
ومن صفات الإحسان: البر الرحيم الودود دون الرفيق الشَّفوق ونحوهما، وكذلك العلي العظيم دون الرَّفيع الشريف.
وكذلك الكريم دون السَّخي.
والخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المشكل.
والغفور العَفو دون الصَّفوح الساتر.
وكذلك سائر أسمائه- تعالى- يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم غيره مقامه؛ فتأمل ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات؛ فلا تعدل عما سَمَّى به نفسه إلى غيره، كما لا تتحاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما وصفه به
المبطلون والمُعَطِّلون»
(1)
.
فالله تعالى- إذًا- قد اختار لنفسه أكمل الأسماء وأتمها معنى؛ فالمعنى أن تقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، أي: لله أكمل الأسماء وأتمها معنى، فأسماء الله سبحانه وتعالى كاملة في الحُسن، بالغة في الحسن غايته.
وبالتالي لا يمكن أن نزيد عليها، وليس لنا الحق أن نُطلق من بعض صفات الله أسماء عليه سبحانه؛ فالله سَمَّى نفسه السميع، وسمى نفسه الحي، وسمى نفسه العليم، ونعم له صفة الحياة والعلم والسمع والبصر وهكذا، ووصف نفسه بالكلام، ولكنه ما سَمَّى نفسه: المتكلم، ووصف نفسه بالإرادة؛ فقال عز وجل:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، وما سمى نفسه: المريد، فالله تعالى اختار لنفسه أكمل ما يكون في المعنى، وهذه وإن كانت صفات كاملة، لكن الأسماء- كما يقول العلماء:«من شرط الأسماء الحسنى صحة الإطلاق» ؛ بمعنى: أن يقتضي الاسم المدح والثناء بنفسه بدون متعلق أو قيد. وهذا الشرط هو الذي يميز باب الأسماء عن باب الصفات
(2)
؛ فأنت- مثلًا- في الصفة تقول: كلام الله، إرادة الله، لكن في الاسم تطلق:(العليم- السميع- البصير)؛ فإذا كان هذا اللفظ في حال إطلاقه منقسمًا يحتمل المدح ويحتمل الذم، أو يحتمل الخير ويحتمل الشر، أو يحتمل الكمال ويحتمل النقص- لم يصح إطلاقه في حق أسماء الله تعالى؛ فالمتكلم قد يتكلم بصدق وقد يتكلم بكذب؛ فأصبح الوصف في حال إطلاقه منقسمًا؛ فلا يصح أن يطلق على الله سبحانه وتعالى؛ قال ابن القيم رحمه الله: «فما كان مُسَمَّاه منقسمًا وخير وشَرٍّ- لم يَدخل اسمُه في
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 168).
(2)
انظر «معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى» للشارح (ص 50)،، دار أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1419 هـ- 1999 م.
الأسماءالحسنى؛ كالشيء والمعلوم، ولذلك لم يُسم بالمريد، ولا بالمتكلم، وإن كان له الإرادة والكلام؛ لانقسام مسمى المريد والمتكلم، وأما الموجد فقد سَمَّى نفسه بأكمل أنواعه، وهو الخالق، البارئ، المصور، فالموجد كالمحدث والفاعل والصانع. وهذا من دقيق فقه الأسماء الحسنى؛ فتأمله، وبالله التوفيق»
(1)
.
(2)
.
فالله- تعالى- اختار لنفسه أكمل وأتم ما يكون في المعنى.
فتأمل هذا ويجب أن تتأدب مع أسماء الله سبحانه وتعالى؛ فتنظر إلى جميع أسمائه- تعالى- على أنها تحوي الكمال كله، وعلى أنها هي الغاية في الكمال والحُسن.
فالمعنى: لله أحسن الأسماء وأكملها وأتمها معنى؛ لذا يجب أن نتأدب مع أسماء الله سبحانه وتعالى بهذا الأدب، وأن نعتقد الاعتقاد الجازم أن لله تعالى في تلك الأسماء أكمل ما يكون من المعنى، وهذا- أيضًا- متأكد في صفاته كما سيأتي.
وقد ضرب المصنف هنا على هذه القاعدة أمثلة؛ منها: «الحي» ؛ فبين أنَّه اسمٌ من أسماء الله تعالى مُتضمن صفة وهي الحياة، وحياة الله- تعالى- هي الحياة الكاملة الدائمة التي لم تُسبق بعدم ولا يلحقها فناء، ولا يعتريها
(1)
«مدارج السالكين» (3/ 415، 416).
(2)
«فائدة جليلة في قواعد الأسماء الحسنى» لابن القيم (ص 24)، نشر دار غراس، الكويت، الطبعة الأولى، 1424 هـ- 2003 م.
نقص بأي وجه من الوجوه؛ فتَثبت لله تعالى أكمل ما يكون في هذا المعنى من كمال، وهكذا في سائر أسماء الله تعالى.
وكذلك «العليم» ؛ فعلم الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} {الطلاق: 12]، فالله سبحانه وتعالى عَلِم الأشياء حتى قبل كونها، فعندما خَلَقَ القلم قال له:«اكْتُبْ» . قال: رَبِّ، وماذا أكتب؟ قال:«اكْتُبْ مَقاديرَ كلِّ شيء حتى تقومَ السَّاعةُ»
(1)
، فأمره بكتابة كل شيء، في هذا الكون، فكل ما في هذا الكون هو في علم الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} {آل عمران: 5]، ولا يعزب عن علمه أي شيء، قال عز وجل: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} {يونس: 61]، وهذا العِلم لا يُصاحبه نسيان، قال جل جلاله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} {مريم: 64]، فعلم الله- جل جلاله كامل تام.
وكذلك مع اسم الله: «الرحمن» ، واسمه تعالى:«العزيز الحكيم»
…
، وسائر أسماء الله سبحانه وتعالى لا بد من مراعاة هذه القاعدة.
وتأدُّبك مع جميع أسماء الله تعالى بهذا الأدب، ونظرك إليها على أنها أعلى درجات الكمال- يُحفزك على أن تتأمل في معانيها وفيما دَلَّت عليه مما يليق بالله سبحانه وتعالى.
(1)
أخرجه أبو داود (4700) واللفظ له، والترمذي (2155) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2645).
قال المُصَنِّفُ رحمه الله:
«القاعدة الثانية:
أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف
أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دَلَّت عليه من المعاني، وهى بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مُسَمًّى واحد، وهو الله عز وجل، وبالاعتبار الثاني متباينة؛ لدلالة كل واحد منهما على معناه الخاص.
فـ «الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم» كلها أسماء لمسمى واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، لكن معنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير، وهكذا.
وإنما قلنا بأنها أعلام وأوصاف؛ لدلالة القرآن عليها، كما في قوله تعالى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {يونس: 107]، وقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} {الكهف: 58]، فإن الآية الثانية دلت على أن الرحيم هو المتصف بالرحمة. ولإجماع أهل اللغة والعرف أنه لا يقال: عليم إلا لمن له علم، ولا سميع إلا لمن له سمع، ولا بصير إلا لمن له بَصر. وهذا أمر أَبْين من أن يحتاج إلى دليل.
وبهذا عُلِم ضلال مَنْ سلبوا أسماء الله تعالى معانيها من أهل التعطيل، وقالوا:«إن الله تعالى سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعزيز بلا عِزَّة» ، وهكذا. وعللوا ذلك بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدد القدماء. وهذه العلة عليلة، بل ميتة؛ لدلالة السَّمع والعقل على بطلانها.
أمَّا السَّمع: فلأن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف كثيرة مع أنه الواحد الأحد؛ فقال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} {البروج: 12 - 16]، وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} {الأعلى: 1 - 5]؛ ففي هذه الآيات الكريمة أوصاف كثيرة لموصوف واحد، ولم يلزم من ثبوتها تعدد القُدماء.
وأمَّا العَقل: فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي مِنْ صفات مَنْ اتصف بها، فهي قائمة به، وكل موجود فلا بد له من تعدد صفاته، ففيه صفة الوجود، وكونه واجب الوجود أو ممكن الوجود، وكونه عينًا قائمًا بنفسه أو وصفًا في غيره.
وبهذا- أيضًا- عُلِم أنَّ «الدَّهر» ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه اسم جامد لا يَتضمن معنى يُلحقه بالأسماء الحسنى، ولأنه اسم للوقت والزمن؛ قال الله تعالى عن منكري البعث:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} {الجاثية: 24]، يريدون مرور الليالي والأيام.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: «يُؤذيني ابنُ آدم؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأنا الدهر، بيَدِي الأمر، أُقَلِّب الليلَ والنَّهارَ»
(1)
، فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى، وذلك أن الذين يَسُبُّون الدهر؛ إمَّا يريدون الزمان الذي هو مَحل الحوادث، لا يريدون الله تعالى.
فيكون معنى قوله: «وأنا الدَّهر» ما فَسَّره بقوله: «بِيَدِي الأمرُ، أُقَلِّب الليل والنهار» ، فهو- سبحانه- خالق الدهر وما فيه، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار، وهما الدهر، ولا يُمكن أن يكون المُقَلِّب (بكسر اللام) هو المُقَلَّب (بفتحها)، وبهذا تبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مرادًا به الله تعالى».
* * *
(1)
أخرجه البخاري (4826) ومسلم (2246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الشَّرح
هذه هي القاعدة الثانية من قواعد أسماء الله الحسنى، وهي «أن أسماء الله سبحانه وتعالى أعلام وأوصاف» .
فكل اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى له دلالة على الذات، ويتضمن كذلك هذا الاسم معنى من المعاني؛ فالسميع: اسم من أسماء الله الحسنى يدل على ذات الله سبحانه وتعالى، وكذلك متضمن لصفة، وهي صفة السمع، فبالتالي يدل على هذه الصفة.
فهي- أي: الأسماء- أعلام؛ بالاعتبار الأول، وأوصاف بالاعتبار الثاني، أي: باعتبار ما دَلَّت عليه وما تضمنته.
وفي هذه القاعدة عدة مسائل:
المسألة الأولى: أن أهل اللغة فرقوا بين الأعلام والأوصاف، أي: بين أن يكون هذا اللفظ علمًا وبين أن يكون صفة؛ فجعلوا الأعلام جامدة، وجعلوا الأوصاف مشتقة؛ فمثلًا لو أخذت وصفًا وأطلقته اسمًا مثل كريم، وأردت أن تسمي ابنك أو تسمي أخاك به، فتقول:(كريم)، فهذا اللفظ عندما نقلته من الوصفية إلى العلمية قد تجرد من خصائص الوصفية، وأصبح علمًا جامدًا، فأصبحت هذه خاصية للاسم: أنه جامد غير مشتق والصفة مشتقة.
فبالتالي في أسماء المخلوقين يقال: العلمية تنافي الوصفية؛ فيكون العلم جامدًا والوصف مشتقًّا.
ومعلوم أن العلم يختص والوصف يكون مشتركًا، فإذا قلت: فلان من الناس طويل. فهذا وصف مشترك بين جملة من الناس.
فمثلًا: لو قلنا: (فلان طويل) فهذا وصف مشترك بين جملة من الناس، فلا يمكن أن تنادي في جمع كبير من الناس، وتقول: يا طويل؛ لأنه قد يلتفت إليك اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة؛ باعتبار أن هذا وصف مشترك بين كل هؤلاء، والاسم يحمل خاصية الاختصاص، فأنت ما سَمَّيت ابنك (أحمد) مثلًا أو غيرها من الأسماء؛ إلا لتتعين وتتميز. فهذه وظيفة الاسم. يقولون: الاسم هو اللفظ الموضوع للشيء تعيينًا له وتمييزًا، فإذا قلت لك: أحضر آلة التسجيل. فهذا اسم قد أطلقتُه على جهاز مُعَيَّن. إذًا فقد عينت لك ماذا أريد، ومَيَّزته عن غيره من الأجهزة؟
فيقولون: الاسم هو اللفظ الموضوع للشيء تعيينًا له وتمييزًا. فهذه وظيفة الاسم، فبالتالي في أسماء البشر وفي أسماء الخلق هناك منافاة بين العلمية والوصفية.
وبالتالي لا يمكن للصفات أن تؤدي هذه الوظيفة بالنسبة للمخلوق؛ لأن صفات العباد مشتركة بينهم؛ فيتعذر بذلك الاختصاص الذي هو وظيفة الاسم.
وقد أراد المعتزلة
(1)
أن يدخلوا من هذا الباب، بل أراد أهل الباطل- حتى مِنْ قَبلهم- أن يدخلوا من هذا الباب؛ فمثلًا- والله سبحانه وتعالى ذكر هذا:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} {الإسراء: 110]، فدعوت فقلت: يا الله. أو قلت: يا رحمن. فكلا الأمرين اسم لله.
(1)
المعتزلة: فرقة عقلانية كلامية فلسفية، تتكون من طوائف من أهل الكلام، الذين خلطوا بين الشرعيات والفلسفة والعقليات في كثير من مسائل العقيدة، وقد خرجت المعتزلة عن السنة والجماعة في مصادر التلقي ومناهج الاستدلال ومنهج تقرير العقيدة وفي أصول الاعتقاد، ويسمون أصحاب العدل والتوحيد، ويلقبون بالقدرية والعدلية، وبرزت كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الذي كان تلميذًا للحسن البصري رحمه الله.
والجواب: أن أسماء الله سبحانه وتعالى أعلام وأوصاف، «والوصف بها لا ينافي العلمية، بخلاف أوصاف العباد؛ فإنها تُنافي علميتهم؛ لأن أوصافهم مشتركة، فنَافتها العلمية المختصة بخلاف أوصافه تعالى»
(1)
، وذلك لسببين:
السبب الأوَّل: أن أوصاف الله عز وجل مختصة به سبحانه وتعالى، فكون هذه الأوصاف مختصة به، فعند ذلك في حق الله تعالى لا تنافي بين العلمية والوصفية، فكونها أعلامًا تحمل خاصية الاختصاص، وكونها أوصافًا لا شك أن الوصف يكون بهذا الشكل، فلا تنافي بين أن تكون أعلامًا وأوصافًا؛ لأن أسماءه عز وجل مختصة به، فلا تنافي بين أن تكون وصفًا وأن تكون اسمًا، فأوصافه مختصة وأسمائه مختصة به، فإذًا ليس هناك تنافٍ من جهة الاختصاص، بخلاف أوصاف العباد فهي مشتركة بينهم؛ فنافتها العلميَّة المختصة.
السبب الثاني: أن أسماء الله سبحانه وتعالى الدالة على هذه الأوصاف، هذه الأوصاف الله متصف بها أزلًا، بخلاف أسماء المخلوقين فإنها مستعارة لهم؛ «فقد يُسمَّى الرّجل (حكيما) وهو جاهل، و (حَكَمًا) وهو ظالم، و (عزيرًا) وهو حقير، و (كريمًا) وهو لئيم، و (صالحًا) وهو طالح، و (سعيدًا) وهو شقيٌّ، و (محمودًا) وهو مذموم، و (حبيبًا) وهو بغيض، و (أسدًا وحمارًا وكلبًا)
…
، وليس كذلك»
(2)
.
فهذه أسماء مستعارة لك، ولا يكون هذا في حق الخالق سبحانه وتعالى.
«فالله- تبارك وتعالى اسمُه- كُلُّ أسمائه سواء، لم يزل كذلك، كان خالقًا قبل المخلوقين، ورازقًا قبل المرزوقين، وعالمًا قبل المعلومين، وسميعًا قبل أن يَسمع أصوات المخلوقين، وبصيرًا قبل أن يَرى أعيانهم مخلوقة
(3)
.
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 162).
(2)
«معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى» للشارح (ص 104، 105).
(3)
«الرد على المريسي» (ص 49)، المكتبة الإسلامية، مصر، الطبعة الاولى، 1433 هـ- 2012 م ..
والمعتزلة أرادوا أن يطبقوا في حقِّ أسماء الله تعالى ما هو الشأن في حق أسماء المخلوقين أخذًا بهذه القاعدة اللغوية، والقاعدة اللغوية مسألة اصطلاحية؛ لكي تفرق بين الاسم والصفة، فجعلت هذا جامدًا وجعلت هذا مشتقًّا. وهذا أمر يختص بمسائل اللغة والنحو وغير ذلك.
أما في حق أسماء الله تعالى وأوصافه فلا تناف، وهذا ما تجده مطبقًا في النصوص؛ فأسماء الله أعلام وأوصاف، وهذا تجده ماثلًا أمامك في النصوص. ففي الاعلام قال الله تعالى:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {الشورى: 11]، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} {التحريم: 2]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {يونس: 107]. والذي أخبر بالاسم هو الذي أخبر بالصفة؛ فمثلًا أخبر بـ (الرحيم)، فقال: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} {الكهف: 58]، وأخبر بالغفور فقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} {فصلت: 43]، وأخبر بالعزيز فقال: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} {فاطر: 10]، فالذي أخبر بالاسم أخبر بالصفة، فأين التنافي؟!
وبهذين السببين يتأكَّدُ التَّفريق بين أسماء الخالق وأسماء المخلوقين
(1)
.
فإذا أراد المعتزلي أن يقول: هو سميع بلا سمع، عليم بلا علم، بصير بلا بصر، ليطبق القاعدة النحوية على أسماء الله سبحانه وتعالى! فهذا أمر يتنافى مع النص تنافيًا واضحًا؛ لأن الله تعالى أخبر بهذه الأسماء وأخبر بصفاتها، فلا تنافي بين العلمية والوصفية؛ إذ كل اسم من أسماء الله تعالى يدل على الذات؛ باعتبار أن هذا اسم من أسمائه، ويدل على الصفة باعتبار ما تضمنه الاسم من المعنى الذي نُسميه الصفة.
وبالتالي يجب أن ننظر إلى الأسماء باعتبارين: باعتبار أنها مترادفة. وباعتبار أنها متباينة.
(1)
«معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى» للشارح (ص 105).
فالألفاظ تنقسم من حيث العلاقة بين اللفظ والمدلول إلى أربعة أقسام:
الألفاظ المترادفة. والألفاظ المشتركة. والألفاظ المتباينة. والألفاظ المتواطئة.
ولا بد من معرفة هذه المصطلحات حتى نستطيع فهم المسألة واستيعابها.
فالمترادف يقابله المشترك.
والمتباين يقابله المتواطئ.
يعني كل نوعين يكاد يُشكلان ضِدَّين.
فأحيانًا اللفظ الواحد يعطيك أكثر من معنى، وأحيانًا المعنى الواحد أو المدلول الواحد تعبر عنه بأكثر من لفظ، فإذا كان المدلول واحدًا، أو المعنى واحد، أو المراد واحد والألفاظ متعددة، فهذا يسمى المترادف؛ مثل:(الأسد) من أسمائه: الأسد والهزبر وأسامة والغضنفر
…
إلى غير ذلك من أسمائه. و (السيف): من أسمائه: الصارم والحسام والبتار والمهند. فتجد جملة من الألفاظ دالة على شيء واحد. فهذا النوع نسميه المترادف، وهو المراد منها، فإذًا (الله السميع البصير العليم الحكيم)، هذه باعتبار أنها أسماء تكون مترادفة، فإذا كانت الألفاظ متعددة والمدلول واحد، فهذا يسمى بالمترادف.
والمشترك عكسه؛ فاللفظ واحد والمعاني متعددة. فمثلًا: لفظ (العين) يُطلق على الحسد، ويطلق على الجاسوس، ويطلق على عين الماء، ويطلق على العين الباصرة؛ فكل واحدة من هذه تستخدم فيها هذا اللفظ وحده، فتقول: هذا عين للأعداء. هذه عين عذبة. هذه عين حادَّة البصر. أو أصابته عين. فاستخدمت اللفظ الواحد في مَعان عِدَّة. وكذلك (السماء) تطلق على السَّماء الدنيا، وتطلق على السقف، وتطلق على العُلو، وتطلق على المَطر، وتطلق على السحاب. فهذه خمسة معان واللفظ واحد، فيسمى لفظًا مشتركًا، فإذا اتحد اللفظ وتعددت المعاني فهذا يُسَمَّى مشتركًا.
أمَّا المتباين، فكلا اللفظين مختلفان والمعاني مختلفة، فكلما استعملت لفظين اختلفا لفظًا واختلفا مدلولًا، فهذا يسمى متباينًا. فمثلًا: سقف وأرض. وباب ونافذة. فاللفظ متعدد والمعنى متعدد. فهذا يسمى اللفظ المتباين.
والألفاظ المتواطئة عكسها، وهي أن تكون متفقة اللفظ ومتفقة المعنى. فاللفظ واحد والمعنى واحد، لكن هذا النوع ينقسم إلى قسمين:
تواطئ كلي. وتواطئ مشكك.
مثال: التواطئ الكلي. مثلًا نقول إذا تحدثنا عن الجنس: زيد رجل وعمرو رجل. ف
أردنا الجنس هنا، يعني في مقابل الأنثى. فزيد من جنس الرجال وعمرو من جنس الرجال. فلفظة (رجل) استخدمت هنا في حق زيد وفي حق عمرو.
ومثال التواطئ المشكك: نور المصباح ونور الشمس. هذا لأن الضوء الخارج من هذه المصابيح نسميه نورًا، وهذا الضوء المنبعث من الشمس نسميه نورًا، لكن هل النور كالنور؟
فالألفاظ المتواطئة فيها تفاوت في القَدْر والمعنى.
والتواطؤ المشكك يسمى بذلك؛ لأن الإنسان يتشكك: هل هو من هذا الباب أو من قبيل المشترك؟ أمَّا لماذا المشترك وليس المترادف أو المتباين؟ لأن اللفظ واحد، فالمشترك فيه اللفظ واحد والمعاني متعددة، وفي المتواطئ اللفظ واحد والمعنى واحد، لكن إما أن يكون كليًّا، وإما أن يكون مشككًا؛ أي: متفاوتًا في المعنى ومتفاوتًا في القدر، فحتى لو قلت: زيد عالم وخالد عالم. فليسا في قَدْر العلم سواء.
فإذا نظرت إلى أسماء الله باعتبارها أسماء، فهي مترادفة، وإذا نظرت إليها باعتبار أنها احتوت على صفات تكون متباينة؛ لأن العلم غير القدرة، والقدرة غير الخلق، والخلق غير الحياة، والحياة غير السمع، وهكذا، فتجد
أن هذا الاسم باعتبار ما دل عليه من معنى دل على معنى غير الذي دل عليه الاسم الآخر؛ فتكون متباينة.
فإذًا أسماء الله أعلام وأوصاف أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني، فهي نَعَمْ أسماء، ونَعَمْ متضمنة لصفات؛ لأنَّ كل اسم من أسماء الله تعالى متضمن لصفة، فليس في أسماء الله- تعالى- اسم جامد.
وهذه قاعدة عند أهل السنة، وإن حاول البعض أن يستثني من ذلك لفظ الجلالة (الله)؛ فيزعم أنه جامد، فليس بجامد.
«كبعض الأشاعرة الذين يُقَسِّمون الأسماء إلى قسمين:
القسم الأول: أسماء مشتقة.
القسم الثاني: أسماء غير مشتقة.
قال البغدادي: «جملة أسمائه قسمان: مشتق وغير مشتق»
(1)
.
فيجعلون اسم (الله) غير مشتق، أي: لا يدل على معنى؛ فيعاملونه معاملة الأسماء الجامدة.
وهذا مخالفة لمذهب أهل السنة الذين يعتقدون بأن أسماء الله جميعها متصفة لمعان، وليس فيها اسم جامد لا يدل على معنى»
(2)
.
فليس في أسماء الله اسم جامد، وكل أسماء الله متضمنة لصفات؛ فيجب أن يُعلم أن كلَّ اسم من هذه الأسماء دل على صفة.
فإذًا قال المصنف: «أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف:
أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني، وهي بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد وهو الله عز وجل»،
(1)
«أصول الدين» للبغدادي (ص 118)، إستانبول، مطبعة الدولة، 1346 - 1928 م.
(2)
انظر «معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى» للشارح (ص 24).
وهذا كما يقول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وبالاعتبار الثاني متباينة لدلالة كل واحد منها على معنى خاص؛ فـ (الحي العليم القدير السميع البصير الرحمن الرحيم العزيز الحكيم) - كلها أسماء لمسمى واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، لكن معنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير وهكذا.
وإنما قلنا بأنها أعلام وأوصاف لدلالة القرآن عليه، كما في قوله تعالى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {يونس: 107] وقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} {الكهف: 58]».
فالآية الأولى دلت على أنها أسماء، والآية الثانية دلت على أنها صفات؛ فالرحيم هو المتصف بصفة الرحمة، فهذا من حيث الدلالة الشرعية.
ثم من حيث الدلالة اللغوية «لا يقال: عليم لمن لا علم له، ولا سميع لمن لا سمع له، ولا بصير لمن لا بصر له» .
فإذًا الدلالة اللغوية والعرفية تجتمع مع الدلالة الشرعية، وهذا كما قال المصنف:«أمر أبين من أن يحتاج إلى دليل» .
وبهذا عُلم ضلال مَنْ سَلبوا أسماء الله تعالى معانيها من أهل الباطل، وهم المعتزلة وليسوا وحدهم، ويدخل معهم طوائف من أهل الكلام؛ فيدخل معهم الزيدية
(1)
، ويدخل معهم الروافض الإمامية
(2)
، ويدخل معهم
(1)
الزيدية: إحدى فرق الشيعة، ترجع نسبتها إلى زيد بن علي زين العابدين، وكان يرى صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعًا، ولم يقل أحد منهم بتكفير أحد من الصحابة، ومن مذهبهم: جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
(2)
الإمامية: إحدى فرق الشيعة، وقد افترقوا عن أهل السنة في زعمهم أن الله ورسوله قد نصوا على اثني عشر إمامًا بأعيانهم؛ أولهم: علي بن أبى طالب رضي الله عنه، وآخرهم محمد بن الحسن العسكري، وزعموا أن كل إمام يتولى أمر المسلمين غير هؤلاء فهو إمام باطل بدءًا من الصديق أبي بكر رضي الله عنه ولآخر إمام يتولى الأمر غير الاثني عشر. وقد فارقوا أهل السنة والجماعة بهذا، وفي تكفيرهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عددًا محدودًا منهم (ثلاثة أو خمسة)، ويقول كثير منهم بنقض القرآن، وأن الصحابة حذفوا منه آيات وسور! وقد وضعوا لهم دينًا مستقلًّا عن أهل السنة، ولذلك فهم يخالفون اهل السنة في القرآن وتأويله، وفي معنى السنة، وفي الإمامة، والأئمة
…
الإباضية
(1)
؛ فتدخل معهم عدة طوائف، لكن المعتزلة هم أشهر هؤلاء الذين قالوا:«سميع بلا سمع، وعليم بلا علم» ؛ فجردوا أسماء الله من معانيها، وهذا أمر باطل دَلَّت النصوص على بطلانه.
قال المصنف: «وقالوا: إن الله تعالى سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عزيز بلا عزة، وهكذا» ، وعلتهم في ذلك، أي: لماذا جردوها عن الصفات؟ زعمًا منهم أنه يلزم من تعدد الصفات تعدد الذوات.
وهذه بالطبع علة عليلة ميتة، فأصلًا لا يُمكن أن تُعقل صفة إلا قائمة بموصوف، فلو قلت: بياض. فالبياض صفة، هل ترى البياض الآن شيء قائم بذاته، أو يقوم بثوب، أو يقوم في جدار، فهل الصفة يمكن أن تقوم بنفسها، أو لا بد لها من موصوف تقوم به؟!
فلهذا؛ هذه علة ميتة، تدل الأادلة السمعية (أي: من القرآن والسنة) على بطلانها، وكذلك يدل العقل على بطلانها.
أما السَّمع، فمثلًا قال الله تعالى:{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} {البروج: 12 - 16]، فهذه أوصاف لواحد، وليس لمتعددين.
(1)
الإباضية: فرقة قديمة من فرق الخوارج، ولها مُنتسبون إلى يومنا هذا، وهم يفترقون عن أهل السنة والجماعة في تركهم ولاية علي بن أبى طالب رضي الله عنه بعد موقعة النهروان التي قاتل فيها الخارجين عنه، والخوارج يكفرون علي بن أبى طالب رضي الله عنه من أجل ذلك وأمور أخرى ينكرونها عليه. وقد أصبح الخوارج بعد فترة جهمية معتزلية في الصفات، ووضعوا لهم أصولاً تخالف أهل السنة في قبول الخبر الصحيح. ومن أجل ذلك بعدت الشقة بينهم وبين أهل السنة هذا مع تكفيرهم بالكبيرة وقولهم بخلود عصاة المؤمنين في النار.
فمن الموصوف هنا؟ مَنْ الذي بطشه شديد؟ من الذي يبدئ ويعيد؟ من الغفور الودود؟ من ذو العرش المجيد، من هو؟! هل هم ستة أم واحد؟ بل واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} {الأعلى: 1 - 5]؛ هل الموصوفون متعددون أو واحد؟ والجواب: الموصوف واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
فالسمع جاء بجملة كبيرة من النصوص، فيها أوصاف لله تعالى، والموصوف واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من تعدد هذه الصفات أن تكون هناك عدة آلهة، بل هذه كلها أوصاف لموصوف واحد!
وكذلك أنت فيك عدة أوصاف: مثلًا: الطول، البياض، لون الشعر
…
فلو عددتُ أوصافك مثلًا فقلت: أنت رجل طويل، وأنت رجل شديد البياض، وأنت رجل مربوع الجسم، هل الآن عددتُك أو وصفتُ شخصًا واحدًا؟
فالموصوف هو شخص واحد.
لذلك هي علة ميتة، ففي الأصل لا يمكن أن تقوم صفة بنفسها. هذا لا يمكن أبدًا، ولا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف، أي: تعدد الذات، فقد تكون جملة صفات لموصوف واحد، فكيف يقول هؤلاء: يلزم مِنْ تعدد الصفات تعدد الذوات؟!
هذا ليس بلازم أبدًا، فاستدل المصنف بأدلة السمع، ثم قال:«وأمَّا العقل: فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف» ، فلا يُعقل أن الصفة تقوم بنفسها، فليست بائنة من الموصوف حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي من صفات مَنْ اتصف بها، فهي قائمة بهذا الموصوف، ونوع هذا الموصوف بحسبه، لكن تقوم بموصوف معين؛ فتتعدد وتكثر، حسب نوع هذا
الذي وصفتَه، فهي قائمة به، «وكل موجود فلا بد له من تعدد صفاته» ، والوجود نفسه صفة؛ لأن الشيء إمَّا موجود وإما معدوم، فلإنه موجود، فهذه صفة، فتقول: هذا الشيء موجود، أي: ليس معدومًا، ثم هذا الموجود إما أن يكون واجب الوجود أو ممكن الوجود، كما يسمونه؛ لأنهم يُقسمون الأشياء إلى واجب الوجود- أي: الخالق- وإلى ممكن الوجود وهو المخلوق، فأي شيء موجود لا بد أن يوصف- أولًا- بأنه موجود وليس معدومًا، ثم بعد ذلك يُنظر هل هو واجب الوجود أو ممكن الوجوب؛ فقد يكون واجبًا وقد يكون ممكنًا، فإذا كان خالقًا فهو واجب الوجوب، وإذا كان مخلوقًا فهو ممكن الوجود، وكونه عينًا قائمة بنفسه أو وصفًا في غيره.
فقد يكون الشيء وصفًا للغير، وقد يكون عينًا قائمة بنفسها، فمثلًا: هذا الطلاء موجود في هذا الجدار ولونه أبيض، ويمكن أن تزيله وتجعل مكانه لونًا آخر أخضر أو أزرق أو غير ذلك من الألوان، فيكون قائمًا بهذا الغير، ويكون هذا الشيء من طبيعته أنه يكون بهذا اللون المعين، فسواء كان قائمًا بنفسه أو قائمًا بغيره- فهو وصف بهذا الشيء الموجود، فلا يمكن أن يكون وصفًا بنفسه ويقوم بنفسه، بل لا بد أن يقوم بشيء.
فما نؤمن به ونعتقده: أن أسماء الله أعلام وأوصاف؛ فنحن نؤمن بها أسماء، ونؤمن بما دلت عليه من المعاني، ولا ننكر شيئًا من ذلك، فلا نكذب بشيء مما دلت عليه من المعاني. فالله هو السميع وله صفة السمع، وهو العلي وله صفة العلو، وهو الخالق وله صفة الخلق؛ فنؤمن بهذا اسمًا ونؤمن بهذا صفة.
ونعلم أنه ليس في أسماء الله اسم جامد، ولذلك مَنْ قال: إنَّ من أسمائه الدهر، فكلامه مرجوح.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: هل الدهر اسم من أسماء الله، أو لا؟
قال القاضي أبو يعلى: «قال حنبل: سمعت هارون الحمَّال يقول لأبي عبد الله- أي: الإمام أحمد-: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَسُبُّوا الدهر» ؛ فقام فتح بن سهل، فقال: يا أبا محمد، نقول: يا دهر، ارزقنا؟! فسمعت سفيان يقول: خذوه، فإنَّه جهمي، وهرب.
فقال أبو عبد الله: القوم يَرُدُّون الآثارَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بها، ولا نردُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله.
وظاهر هذا: أنه أخذ بظاهر الحديث، ويحتمل أن يكون قوله:«ونحن نؤمن بها» راجع إلى أخبار الصفات في الجملة، ولم يرجع إلى هذا الحديث بخاصَّةٍ.
وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله- بن حامد- رحمه الله هذا الحديث في كتابه، وقال: لا يجوز أن يُسمَّى الله دهرًا.
والأمر على ما قاله؛ لأنَّه قد رُوي في بعض ألفاظ الحديث ما يَمنع من حمله على ظاهره هذا، ولم يَرد في غيره من أخبار الصفات ما دلَّ على صرفه عن ظاهره، فلهذا وجب حملها على ظاهرها
(1)
».
فالراجح: أنَّ الدهر ليس من أسماء الله؛ لأنه اسم جامد.
ومن استدل بحديث: «لا تسبُّوا الدهر؛ فإنَّ الله هو الدهر»
(2)
، أو بحديث:«يُؤذيني ابنُ آدم؛ يسبُّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقَلِّب الليل والنهار»
(3)
- فهذه النصوص لا تدل على أن الله تعالى من أسمائه الدهر، لكن المراد منها: أن هذا الذي كان يقع فيه أهل الجاهلية؛ إذ كانوا يسبون الزمن، ولا يزال إلى الآن بعض الناس يتلفظ بألفاظ فيها إلقاء باللوم على الزمان؛
(1)
«إبطال التأويلات» للقاضي أبي يعلى (2/ 374)، دار إيلاف الدولية، الكويت.
(2)
أخرجه البخاري (6181) بنحوه، ومسلم (2246) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
تقدم تحريجه قريبًا.
فنسمع الناس في تعبيرهم يقولون: زمن أغبر. أو ذاك يوم أسود، أو غير ذلك، فالعبارات تختلف والمراد واحد قديمًا وحديثًا، وفيها سبٌّ للدهر، وفي الحقيقة: الدهر هو الوقت والزمان، والوقت والزمان بيد الله سبحانه وتعالى هو الذي يُقَدِّر الأمور ويدبرها؛ فمن يقول هذا اللوم، فكأنما يعترض على إرادة الله سبحانه وتعالى.
فالشاهد: أنه ليس المراد بهذا أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى، لكن المراد أن الله هو الذي يتصرف في هذا الوقت وفي هذا الزمن. ولذلك قال: «وبهذا- أيضًا- عُلم أن (الدهر) ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه اسم جامد، لا يتضمن معنى يُلحقه بالأسماء الحسنى؛ ولأنه اسم للوقت والزمن؛ قال الله تعالى عن منكري البعث:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} {الجاثية: 24]؛ يريدون مرور الليالي والأيام.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: «يُؤذيني ابنُ آدم يسبُّ الدهر، وأنا الدهر بِيَدِي الأمر، أُقَلِّب الليل والنهار» - فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى، وذلك أن الذين يسبون الدهر إنَّما يريدون الزمان الذي هو مَحل الحوادث»؛ الذي هو الوقت والزمن الذي تكون فيه مجريات هذه الأمور، والحوادث جارية فيه، و «لا يريدون الله تعالى؛ فيكون معنى قوله:«وأنا الدهر» ما فسَّره بقوله: «بِيَدِي الأمرُ؛ أُقَلِّب الليل والنهار» ، فالمراد منها: أن الله هو المتصرف في هذا الوقت وفي هذا الزمن، «فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه، وقد بَيَّن أنه يُقَلِّب الليل والنهار، وهما الدهر، ولا يُمكن أن يكون المُقَلِّب هو المُقَلَّب، وبهذا تَبَيَّن أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مرادًا به الله تعالى» .
فإذًا (الدهر) ليس من أسماء الله تعالى الحسنى؛ لأنه اسم جامد، وأسماء الله تعالى ليس فيها اسم جامد، بل كلها دالة على معان؛ لأنَّها أعلام وأوصاف.
فعلينا أن نفهم هذه القاعدة، وأن نُطبقها اعتقادًا وعملًا.
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الثالثة:
أسماءُ الله- تعالى- إن دلَّت على وصفٍ مُتعدٍّ تضمَّنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثُبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثُبوت الصِّفة التي تضمَّنها لله عز وجل.
الثالث: ثُبوت حُكمها ومقتضاها.
ولهذا استدل أهلُ العلم على سقوط الحدِّ عن قُطَّاع الطريق بالتوبة، استدلوا على ذلك بقوله تعالى:{إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]؛ لأنَّ مُقتضى هذين الاسمين أن يكون الله تعالى قد غفر لهم ذنوبهم، ورحمهم بإسقاط الحد عنهم.
مثال ذلك: «السَّميع» يَتضمن إثبات السَّميع اسمًا لله تعالى، وإثبات السَّمع صِفة له، وإثبات حكم ذلك ومُقتضاه، وهو أنه يَسمع السِّرَّ والنَّجوى، كما قال تعالى {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
الشرح
أي: إذا تقرَّر أن أسماء الله أعلام وأنها أوصاف، فلا بد أن تنظر إلى هذه الأوصاف: هل هي أوصاف لازمة أو أوصاف متعدية؟
فلو نظرت إليها باعتبار أنها أوصاف لله تعالى سبحانه وتعالى؛ فـ (الحيُّ): اسمٌ، ومتضمن للحياة، والحياة: صفة. و (السَّميع): اسم، ومتضمن للسمع، والسَّمع: صفة.
فهي كلها صفات، لكن من الصفات:
- ما هو لازم، بمعنى: أنه يختص بالله سبحانه وتعالى دون أن يتعدى إلى المخلوق.
لكن هناك ما يسمى (الأثر)؛ فأنت لما تُثبت أنه الحي وله صفة الحياة، فهذا يعطي العظمة والكمال لله سبحانه وتعالى، لكن الحكم لا يتأتى هنا (أي: الفعل) لا يأتي من (الحي)، بل يُقتصر على الاسم والصفة.
- ومنها ما هو مُتعد، أي: ما له تعلق بالمخلوق، بمعنى: أنه قد تعدى للمخلوق؛ فـ (الحي) غير (المحيي). فـ (الحيُّ) حياته هو سبحانه وتعالى، فهذا غير متعد. و (المحيي) متعدي؛ لأنَّ إحياءه للمخلوق.
إذا فهمت هذا الاعتبار أمكن أن تفصل بين بعض أسماء الله وغيرها.
فإذا كان وصفًا لازمًا فله اعتبار، وإذا كان وصفًا متعديًا فله اعتبار.
فنحن آمنا بأسماء الله، وآمنا بأن هذه الأسماء متضمنة للصفات، ثم آمنا بأن هذه الصفات منها ما هو كذا ومنها ما هو كذا، فإذا كان من النوع الأول الذي دل على وصف متعد؛ فيلزمك ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن تُثبت هذا الاسم لله؛ فمثلًا: تقول: (السميع) من أسماء الله تعالى، وأنا أومن بأنه من أسمائه سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: أن تؤمن بأن من صفاته عز وجل: السَّمع؛ لأن (السميع) تضمَّن معنى السمع؛ فتؤمن بثبوت الصفة التي هي السَّمع.
الأمر الثالث: أن تُثبت الحكم والمُقتضى، وهو أنَّ الله يسمعنا، كما قال تعالى:{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} .
وهكذا (العليم) ننظر هل هو متعد أو لازم؟
فـ (العليم) اسم، والعلم صفة، إذًا الله يَعلم، كما قال تعالى:{يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} ، فتعدى، وهكذا.
فإذًا نحن نثبت الاسم، ونثبت الصفة، ونثبت الحكم والمقتضى، وهذا الحكم والمقتضى نسمِّيه أحيانًا (الفعل)؛ فنُثبت هذا الفعل.
قال المصنف: «ولهذا استدل أهلُ العلم على سقوط الحدِّ عن قُطَّاع الطريق بالتوبة، استدلوا على ذلك بقوله تعالى: {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]» ؛ أي: بما أنه غفور رحيم، فعند ذلك يسقط الحد عن الذي تاب من قُطَّاع الطرق قبل أن يُقدر عليه؛ بمعنى (يُقبض عليه وهو متلبي بهذا الشيء).
فمقتضى هذين الاسمين: أن يكون الله قد غَفر لهم ذنبَهم، ورحمهم بإسقاط الحدِّ عنهم.
قال المصنف رحمه الله:
«وإن دَلَّت على وصف غير متعدٍّ تضمنت أمرين:
أحدهما: ثُبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثُبوت الصِّفة التي تضمنها لله عز وجل.
مثال ذلك: (الحي) يتضمن إثبات الحيِّ اسمًا لله عز وجل، وإثبات الحياة صِفَةً له.
الشرح
أسماء الله تعالى إن دَلَّت على وصف متعدٍّ تضمَّنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.
وإن دَلَّت على وصف غير متعد تضمنت أمرين:
أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.
مثال ذلك:
أ- مثال للاسم الذي دل على وصف متعدٍّ: (السميع).
1 -
يتضمن إثبات (السميع) اسمًا لله تعالى.
2 -
وإثبات (السمع) صفة له.
3 -
وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يَسمع السِّر والنَّجوى؛ كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
ب- مثال للاسم الذي دلَّ على وصف غير متعدٍّ: (الحيُّ):
1 -
يتضمن إثبات (الحيِّ) اسمًا لله عز وجل.
2 -
إثبات (الحياة) صفة له.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: «إن الاسم إذا أُطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل؛ فيخبر عنه فعلًا ومصدرًا نحو: (السميع)، (البصير)، (القدير) يُطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة، ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} ، {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} ، وهذا إذا كان الفعل متعديًا.
فإن كان لازمًا لم يُخبر عنه به، نحو (الحي)، بل يُطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل، فلا يُقال:(حيي)
(1)
.
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 162).
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الرابعة
دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمُّن، وبالالتزام.
مثال ذلك: (الخالق) يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذَّات وحدها، وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمُّن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام.
ولهذا لما ذكر اللهُ خلق السماوات والأرض قال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} .
ودلالة الالتزام مفيدة جدًّا لطالب العلم إذا تدبَّر المعنى، ووفَّقه الله تعالى فَهْمًا للتلازم، فإنه بذلك يحصل من الدليل الواحد على مسائل كثيرة.
واعلم أنَّ اللازم من قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم إذا صحَّ أن يكون لازمًا فهو حق، وذلك لأنَّ كلام الله ورسوله حقٌّ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ، ولأن الله تعالى عالم بما يكون لازمًا من كلامه وكلام رسوله؛ فيكون مرادًا.
وأمَّا اللازم من قول أحد سِوى قول الله ورسوله، فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يذكر للقائل ويلتزم به؛ مثل أن يقول: مَنْ ينفى الصِّفات الفعلية لمن يثبتها، يلزم من إثباتك الصفات الفعلية لله عز وجل
أن يكون من أفعاله ما هو حادث. فيقول المثبت: نعم، وأنا ألتزم بذلك، فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعَّالًا لما يريد، ولا نَفاد لأقواله وأفعاله، كما قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} ، وقال:{وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وحدوث آحاد فعله تعالى لا يستلزم نقصًا في حقه.
الحال الثانية: أن يذكر له ويمنع التلازم بينه وبين قوله؛ مثل: أن يقول النافي للصفات لمن يُثبتها: يلزم من إثباتك أن يكون الله تعالى مشابهًا للخلق في صفاته!
فيقول المثبت: لا يلزم ذلك؛ لأن صفات الخالق مُضافة إليه، لم تُذكر مطلقة حتى يمكن ما ألزمت به، وعلى هذا فتكون مختصة به لائقة به، كما أنك- أيها النَّافي- للصفات تثبت لله تعالى ذاتًا وتمنع أن يكون مشابهًا للخلق في ذاته، فأيُّ فرق بين الذات والصفات؟ وحكم اللازم في هاتين الحالين ظاهر.
الحال الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتًا عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع، فحكمُه في هذه الحال: أن لا يُنسب إلى القائل؛ لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر له فتَبيَّن له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قوله؛ لأن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
ولورود هذين الاحتمالين لا يمكن الحكم بأن لازم القول قول.
فإن قيل: إذا كان هذا اللازم لازمًا من قوله- لزم أن يكون قولًا له؛ لأن ذلك هو الأصل، لا سيما مع قرب التلازم. قلنا: هذا مدفوع بأن الإنسان بشر. وله حالات نفسية وخارجية توجب الذُّهول عن اللازم، فقد يَغفل أو يسهو، أو يَنغلق فكره، أو يقول القول في مَضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه ونحو ذلك.
الشرح
لفظ (دلالة) لفظ ثلاثي، أي: يجوز في داله الفتح أو الكسر أو الضم، لكن أصحها الفتح، ثم الكسر، ثم الضم أضعفها.
فكل اسم من أسمائه- تعالى- له دلالاتٌ:
دلالة على الذَّات والصفة بالمطابقة.
ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم.
ويتضح ذلك بما يلي:
أوَّلًا: بيان أقسام الدلالات اللفظية: تنقسم الدلالات اللفظية إلى ثلاثة أقسام:
1 -
دلالة المطابقة.
2 -
دلالة التضمُّن.
3 -
دلالة الالتزام.
وذلك لأنَّ الكلام إمَّا أن يُساق ليدل على تمام معناه.
وإما أن يساق ليدل على بعض معناه.
وإما أن يساق ليدل على معنى آخر خارج عن معناه إلَّا أنه لازم له.
فدلالة اللفظ على تمام معناه تسمى دلالة (مطابقة)، وسُمِّيت مطابقة؛ للتَّطابق الحاصل بين معنى اللفظ وبين الفهم الذي استفيد منه.
ودلالة اللفظ على بعض معناه تسمى دلالة (تضمُّن)، وسُمِّيت دلالة تضمن؛ لأنَّ اللفظ قد تضمن معنى آخر إضافة إلى المعنى الذي فُهم منه.
ودلالة اللفظ على معنى خارج عن معناه إلا أنه لازم له- تسمى دلالة (التزام)، وسُمِّيت دلالة التزام؛ لأن المعنى المستفاد لم يدل عليه اللفظ مباشرة، ولكن معناه يلزم منه هذا المعنى المستفاد.
الأمثلة:
أ- مثال لدلالة المطابقة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، فلفظة (البقرة): اسم جنس سيق ليدل على تمام معناه، وهو الحيوان المعروف، فأيَّةُ بقرة كانت كافية لتنفيذ الأمر لو ذبحها بنو إسرائيل، ولكنهم شدَّدوا على أنفسهم في طلب التعيين، فشدَّد الله عليهم.
ب- مثال لدلالة التضمُّنـ كأن يقول إنسان: أنا عالم بالفرائض وتقسيم المواريث.
فنقول له: بَيِّن لنا إذن أحكام الجَد مع الإخوة؟
فيقول: أنا لم أقل لكم: إنني أعلم هذه الأحكام.
فنقول له: لقد تضمنت دعواك العلم بالفرائض وتقسيم المواريث: أنك عالم بأحكام الجَد مع الإخوة، وقد فهمنا هذا من كلامك عن طريق الدلالة التضمُّنية.
ج- مثالٌ لدلالة الالتزام: قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
فإنَّ قالَه: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الواقع في جواب الشرط- يدل عن طريق الدلالة الالتزامية على أنَّ الله يغفر لكم ويرحمكم؛ إن أنتم عفوتم وصفحتم وغفرتم، مع أن هذا المعنى غير مدلول عليه بمنطوق اللفظ، ولكن يلزم من كونه غفورًا رحيمًا أن يُكافئ أهلَ العفو والصفح
والمغفرة بالرحمة والغفران؛ ولذلك حصل الاكتفاء في جواب الشرط بذكر هذين الوصفين دون التَّصريح للازمهما.
فتلاحظ دلالة الالتزام في هذا في قوله تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} ، فلازم إن عفوتَ وصفحتَ وغفرت أن يغفر الله لك.
ثانيًا: تطبيق الدَّلالات الثلاث على أسماء الله تعالى:
قال ابنُ القيم: «إنَّ الاسم من أسمائه- تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التى اشتق منها بالمطابقة، فإنه يدل عليه دلالتين أُخريين بالتضمُّن واللزوم.
فيدل على الصفة بمفردها بالتضمُّن، وكذلك على الذات المجردة على الصفة،
ويدل على الصفة الأخرى باللزوم.
الأمثلة:
أ - (الخالق) يدل على ذات الله وعلى صفة الخلق بالمطابقة.
ويدل على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن.
ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام، كما في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ، ذلك لأنَّ العلم والقدرة لازمان للخلق.
مثال آخر: (السَّميع) يدلُّ على ذات الرب وسمعه بالمطابقة.
وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن.
فاسمه تعالى (السميع) دل على ذت الله، وتضمن إثبات صفة السمع لله، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يسمع السِّرَّ والنَّجوى، كما قال:{والله يسمع تحاوركما} .
ويدل على اسم (الحيِّ) وصفة الحياة بالالتزام.
وكذلك سائر أسمائه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأسماؤه كلها مُتَّفقة في الدلالة على نفسه المقدسة، ثم كلُّ اسم يدل على معنى مِنْ صفاته ليس هو المعنى الذي دل على الاسم الآخر؛ فـ (العزيز) يدل على نفسه مع عِزَّته.
و (الخالق) يدل على نفسه مع خلقه.
و (الرَّحيم) يدل على نفسه مع رحمتها.
ونفسُه تستلزم جميع صفاته؛ فصار كلُّ اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة، وعلى أحدهما بطريق التضمن، وعلى الصفة الأخرى بطريق اللزوم»
(1)
.
وقال الشيخ حافظ حكمي: «واعلم أنَّ دلالةَ أسماء الله- تعالى- حقٌّ على حقيقتها؛ مطابقة وتضمُّنًا والتزامًا.
فدلالة اسمه تعالى: (الرحمن) على ذاته عز وجل مطابقة، وعلى صفة الرحمة تضمُّنًا، وعلى الحياة وغيرها التزامًا.
وهكذا سائر أسمائه تبارك وتعالى.
وليست أسماء الله تعالى غيره، كما يقولُه المُلحدون في أسمائه؛ تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
فإنَّ الله عز وجل هو الإله، وما سِوَاه عبيدٌ.
وهو الربُّ، وما سواه مَربوب.
وهو الخالق، وما سواه مخلوق.
وهو الأول فليس قبله شيء، وما سِواه محدث كائن بعد أن لم يَكن.
(1)
«الإيمان» (ص 175)، ط: المكتب الإسلامي.
وهو الآخر الباقي فليس بعده شيء، وما سواه فانٍ.
فلو كانت أسماء الله تعالى غيره- كما زعموا- لكانت مخلوقة مَربوبة محدثة فانية؛ إذ كل ما سواه كذلك؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا»
(1)
.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: «الدلالة نوعان:
1 -
لفظية. 2 - معنوية عقلية.
فإن أعطيتَ اللفظَ جميعَ ما دخل فيه من المعاني فهي دلالة مطابقة؛ لأن اللفظ طابق المعنى من غير زيادة ولا نقصان.
وإن أعطيته بعضَ المعنى فتُسمى دلالة تضمن؛ لأن المعنى المذكور بعض اللفظ وداخل في ضمنه.
وأمَّا الدلالة المعنوية العقلية فهي خاص بالعقل والفِكر الصحيح؛ لأن اللفظ بمجرَّده لا يدل عليها، وإنما يَنظر العبد ويتأمل في المعاني اللازمة لذلك اللفظ الذي لا يتم معناها بدونه وما يشترط له من الشروط، وهذا يجري في جميع الأسماء الحسنى، كل واحد منها يدل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ويدل على الصفة الأخرى اللازمة لتلك المعاني دلالة التزام، مثال ذلك:(الرَّحمن) يدل على الذات وحدها. وعلى الرحمة وحدها دلالة تضمن. وعلى الأمرين دلالة مطابقة. ويدل على الحياة الكاملة والعلم المحيط والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام؛ لأنه لا توجد الرحمة من دون حياة الرَّاحم وقُدرته الموصِّلة لرحمته للمرحوم وعلمه به وبحاجته.
وكذلك ما تقدم من استلزام (المَلِك) جميعَ صفات المُلْك الكامل، واستلزام (الرَّب) لصفات الربوبية، و (الله) لصفات الألوهية، وهي صفات
(1)
«معارج القبول» (1/ 78).
كمال كلها، وكثير من أسمائه الحسنى يَستلزم عِدَّة أوصاف؛ كالكبير، والعظيم، والمجيد، والحميد، والصَّمد، فهذه قاعدةٌ نافعةٌ»
(1)
.
قال ابن القيم: «الاسم من أسمائه له دلالات: دلالة على الذات، والصفة بالمطابقة، ودلالة على أحدهما بالتضمن، ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم»
(2)
.
وهذه القاعدة لا تختص بأسماء الله فقط، بل كل لفظ فإنه يدل على المعنى بالمطابقة والتضمن والالتزام، وعليه؛ فأنواع الدلالات ثلاثة:
دلالة المطابقة: وهي أن يدل اللفظ على جميع أجزاء معناه وأفراده.
ودلالة التضمن، فمعناها: دلالة اللفظ على جزء معناه.
وأما دلالة الالتزام، فمعناها: دلالة اللفظ على شيء خارج عنه، لكنه لا ينفك عنه، بل هو مرتبط به ارتباطًا وثيقًا
(3)
.
فالأسماء دلالتها مطابقة وتضمن والتزام:
1 -
فدلالتها على الذات والصفة دلالة مطابقة.
2 -
ودلالتها على الصفة وحدها دلالة تضمُّن.
3 -
ودلالتها على الصفات الأخرى دلالة التزام.
ثم ضرب مثالًا لذلك باسم الله: (الخالق)؛ فهو:
1 -
يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة.
2 -
ويدل على صفة الخلق بالتضمن.
(1)
«الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية» (ص 54، 55).
(2)
«بدائع الفوائد» (1/ 162).
(3)
انظر «شرح القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى» للشيخ ابن باز (44، 45)، دار التيسير، الطبعة الاولى، 1426 هـ، 2005 م.
3 -
ويستلزم الإرادة والعلم والقدرة.
ويُوضِّح الشيخ خليل هراس ذلك التقسيم فيقول: «يُقَسِّم المناطقة دلالة اللفظ الموضوع لمعنى إلى ثلاثة أقسام: مطابقة. وتضمُّن. والتزام، وذلك لأنَّه إن قُصد باللفظ الدلالة على تمام المعنى فمطابقة؛ لتطابق اللفظ والمعنى، أي: توافقهما. وإن قُصد به الدلالة على جزء ذلك المعنى فتضمُّن؛ لأن ذلك الجزء داخل في ضمن المعنى الموضوع له، وإن قُصِد به الدلالة على لازم ذلك المعنى فالتزام. وهذا التقسيم جارٍ في دلالة الأسماء الحسنى على معانيها؛ فكلٌّ منها يدل بالمطابقة على مجموع الذات والصفة التي اشتُّق منها؛ فعليم دالٌّ بالمطابقة على ذاتٍ ثَبَت لها العِلم، وحيٌّ دال بالمطابقة على ذات وحياة، وهكذا.
وأمَّا دلالته على الذات وحدها أو على الصفة وحدها فتضمُّن؛ لأن كلًّا منهما جزء لمعنى الاسم داخل في ضمنه. وأما دلالته على صفة للذات غير الصفة التي اشتق هو منها فدلالة التزام قريب من متناول العقل»
(1)
.
وقد بَيَّن الله ذلك في قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
فالخالق لا يمكن أن يخلق إلا وهو يعلم كيف سيخلق، والخالق لا يمكن أن يخلق إلا وهو قادر على أن يخلق، ونحن نعلم أنه لو أراد أحد أن يصنع شيئًا وهو لا يَعلم، فإنه لا يستطيع، ولو كان يعلم ولا يريد فإنه كذلك لا يستطيع.
إذًا فكلمة (خالق) تدل على ذات خالقة، وتدل على (خلق)، وتدل على (علم)، وتدل على (قدرة)، فدلالتها على ذات الخالق وعلى الخلق «دلالة
(1)
«شرح القصيدة النونية لابن القيم» (2/ 124)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1415 هـ.
مطابقة»، ودلالتها على ذات الخالق فقط «دلالة تضمن» ، ودلالتها على الخلق وحده «دلالة تضمن» ، ودلالتها على العلم والقدرة «دلالة التزام» ، ولهذا لما خلق الله السموات والأرض في قوله:{الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} قال بعد ذلك: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا} ، أي: أن الله هو الخالق، وقد خلق بقدرة وعلم، فلولا القدرة لما خلق، ولولا العلم لما خلق
(1)
.
* * *
(1)
انظر «شرح القواعد المثلى» للشيخ ابن باز (ص 46)، بتصرف واختصار.
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الخامسة
أسماء الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها.
وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسُّنَّة، فلا يزاد فيها ولا يُنقص؛ لأن العقل لا يُمكنه إدراك ما يستحقُّه تعالى من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النَّصِّ؛ لقوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، وقوله:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ، ولأن تسميته- تعالى- بما لم يُسَمِّ به نفسَه أو إنكار ما سَمَّى به نفسه جناية في حقِّه تعالى؛ فوجب سُلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على ما جاء به النَّص».
الشرح
من الأمور المُتقررة في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في باب أسماء الله الحسنى: أن من ضابط أسماء الله الحسنى: وُرود النَّصِّ بذلك الاسم؛ فلا يُسَمَّ الله إلا بما سَمَّى به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
أ- فمعنى كون أسماء الله توقيفية: أي: يجب الوقوف في أسماء الله على ما ورد ذكره في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة لا نَزيد على ذلك ولا ننقص منه.
ولذلك يرى السلفُ أنَّ مِنْ أحكام باب الأسماء ما يلي:
1 -
إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء الحسنى الواردة قي نصوص القرآن والسنة الصحيحة.
2 -
ألَّا نَنفي عن الله ما سَمَّى به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
3 -
ألا نُسَمِّي الله بما لم يُسَمِّ به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وذلك لأنَّه لا طريق إلى معرفة أسماء الله- تبارك وتعالى إلَّا مِنْ طريق واحد هو طريق الخبر (أي: الكتاب والسُّنَّة).
ب- ومِن أقوال أهل العلم في تقرير هذه المسألة ما يلي:
قال ابن القيم رحمه الله: «أسماء الله تعالى هي أحسن الأسماء وأكملها؛ فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها ولايؤدي معناها.
وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمرادف محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم.
فإذا عرفتَ هذا فله مِنْ كلِّ صفة كمال أحسنُ اسم وأكملُه وأتمُّه معنى، وأبعده عن شائبة عيب أو نقص.
فله من صفة الإدراكات:
العليم الخبير دون العاقل الفقيه.
والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر.
ومن صفات الإحسان:
البَر الرحيم الودود دون الرَّفيق والشفوق ونحوهما.
وكذلك العَلِي العظيم دون الرفيع الشريف.
وكذلك الكريم دون السَّخي.
والخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المُشَكِّل.
والغفور العفو دون الصَّفوح الساتر.
وكذلك سائر أسمائه- تعالى- يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها، وما لا يقوم غيره مقامه؛ فتأمل ذلك، فأسماؤه أحسنُ الأسماء، كما أنَّ صفاته أكمل الصفات، فلا تَعدل عما سَمَّى به نفسه إلى غيره، كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما وصفه به المُبطلون والمُعَطِّلون»
(1)
.
وقال أبو سليمان الخَطَّابي: «ومن علم هذا الباب- أعني الأسماء والصفات- ومما يدخل في أحكامه ويتعلق به من شرائط: أنَّه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يُستعمل فيها القياس؛ فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر وضع اللغة ومتعارض الكلام:
فـ (الجواد) لا يجوز أن يُقاس عليه السخي وإن كانا متقاربين في ظاهر الكلام، وذلك أن السخيَّ لم يَرد به التوقيفُ، كما ورد بـ (الجواد).
و (القوي) لا يُقاس عليه الجَلْد، وإن كانا يتقاربان في نعوت الآدميين؛ لأن باب التَّجَلُّد يدخله التَّلف والاجتهاد.
ولا يُقاس على (القادر): المُطيق ولا المُستطيع.
وفي أسمائه (العليم) ومن صفته العلم، فلا يجوز قياسًا عليه أن يسمى عارفًا؛ لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء، وكذلك لا يُوصف بالعاقل.
وهذا الباب يجب أن يُراعى ولا يُغفل؛ فإنَّ عائدته عظيمة، والجهل به ضارٌّ، وبالله التؤفيق»
(2)
.
وقال السفاريني في منظومته:
لكنَّها في الحقِّ توقيفية
…
لنا بِذَا أدلة وَفِيَّة
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 168).
(2)
«شأن الدعاء» (111 - 113).
ثم قال في شرحه: «لكنها- أي: أسماء الله- في القول الحق المُعتمد عند
أهل الحق: توقيفية بنصِّ الشرع وورود السمع بها، ومما يجب أن يُعلم أنَّ علماء السنة اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء الحسنى والصفات على البارئ جل وعلا إذا وَرَد بها الإذنُ من الشارع، وعلى امتناعه على ما ورد المنع عنه»
(1)
.
ج- الأدلة على كون أسماء الله توقيفية:
من خلال ما تقدَّم مِنْ نُقول يتضح لك مَدى تمسُّك علماء أهل السنة بالتوقيف في باب الأسماء الحسنى، ومنعهم لاستخدام القياس اللغوي والعقلي في هذا الباب.
وهذا هو القول الحقُّ الذي تدل عليه النصوص الشرعية، ومنها ما يلي:
أولًا: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} :
فهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأسماء توقيفية من وجهين:
1 -
قوله: {الأَسْمَاءُ} جاءت معرفة (بأل)، وهي هنا للعهد؛ فالأسماء بذلك لا تكون إلا معهودة، ولا معروف في ذلك إلا ما نصَّ عليه في الكتاب أو السنة
(2)
.
2 -
قوله: {الْحُسْنَى} وصف يدلُّ على أنه ليس في الأسماء الأخرى أحسن منها، وأنَّ غيرها لا يقوم مقامها ولا يؤدي معناها
(3)
؛ فلا يجوز بحال أن يُدخل في أسماء الله ما ليس منها، فهذا الوصف يُؤكد كونها توقيفية.
ثانيًا: قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَأنه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال الإمام البغوي: «قال أهل المعاني: الإلحاد في أسماء الله: تسميته
بما لم يَتَسَمَّ به ولم ينطق به كتابُ الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
وقال ابنُ حَجَر: «قال أهل التفسير: من الإلحاد في أسمائه: تسميته بما لم يَرد في الكتاب أو السُّنَّة الصَّحيحة»
(2)
.
وقال ابنُ حَزْم: «منع تعالى أن يُسَمَّى إلَّا بأسمائه الحسنى، وأخبر أنَّ مَنْ سَمَّاه بغيرها فقد ألحد»
(3)
.
وبهذا يتبين أنَّ هذه الآية دليل على أنَّ أسماء الله توقيفية، وأن مخالفة ذلك وتسميته تعالى بما لم يُسَمِّ به نفسه ميل بها عما يجب فيها؛ فالإقدام على فعل شيء من ذلك هو نوع من الإلحاد في أسماء الله.
ثالثًا: قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومَن جعله تسبيحًا للاسم يقول: المعنى: أنك لا تُسَمِّ به غير الله، ولا تُلحد في أسمائه؛ فهذا ما يستحقه اسم الله»
(4)
، فإذا فُسِّرت الآية بهذا الوجه ففيها دليل على كلِّ ما سبق في الآية التي قبلها من اعتبار تَسميته بما لم يُسَم به نفسه من أنواع الإلحاد في أسمائه.
رابعًا: قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء} ، وقوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} ، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
فإذا كانت هذه الآيات تُحَرِّم وتُحَذِّر من الخوض في الأمور المغيبة عند فقد الدليل الشرعي، فإن ذلك التحريم والتحذير يدخل فيه باب أسماء الله باعتباره من الأمور المغيبة التي لا تُعرف إلا من طريق النص الشرعي.
ولذلك من الواجب هنا الاقتصار على الأسماء الواردة في النصوص
(1)
«معالم التنزيل» (3/ 357).
(2)
«فتح الباري» (11/ 221).
(3)
«المحلى» (1/ 29).
(4)
«مجموع الفتاوى» (6/ 199).
وترك ما سواها.
خامسًا: حديث: «ما أصاب عبدًا قطُّ همٌّ ولا غَمٌّ ولا حَزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك؛ سَمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا مِنْ خَلقك، أو استأثرت به في عِلم الغَيب عندك
…
»، الحديث
(1)
، والشاهد في الحديث قوله:«أسألُك بكلِّ اسم هو لك سَمَّيت به نفسك» .
فالله تعالى هو الذي يسمِّي نفسه، وليس لأحد مِنْ خَلقه أن يسمي الله تعالى بشيء من عنده، فأسماء الله أمور حكمها الغيب وحكمها التوقيف والخبر؛ فلا بد من الرجوع إلى ذلك. هذا قول أهل السنة والجماعة.
قال ابنُ القَيِّم: «فالحديث صريح في أنَّ أسماءه ليست مِنْ فعل الآدميين وتسمياتهم»
(2)
.
و (أو) في قوله: «سَمَّيت به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابِك» : حرف عطف، والمعطوف بها أخص مما قبله؛ فيكون من باب عطف الخاص على العام، فإنَّ ما سمى به نفسه يتناول جميع الأنواع المذكورة بعده، فيكون عطف كل جملة منها من باب عطف الخاص على العام، فوجه الكلام أن يقال:«سَمَّيت به نفسك؛ فأنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك»
(3)
.
د- الذين خالفوا الحقَّ في هذه المسألة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والناس مُتنازعون: هل يُسَمَّى الله
بما صَحَّ معناه في اللغة والعقل والشرع وإن لم يَرد بإطلاقه نصٌّ ولا إجماع، أم لايُطلق إلا ما أطلق نصًّا أو إجماعًا، على قولين مَشهورين:
(1)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (1/ 391، 452)، وابن حبان في «موارد الظمآن» ح (2372)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 509)، والطبراني في «الكبير» ح (10352).
(2)
«شفاء العليل» (ص 277).
(3)
المصدر السابق (ص 276) بتصرف.
1 -
فعامَّة النُّظَّار- أي: أهل الكلام- يُطلقون ما لا نَصَّ في إطلاقه ولا إجماع؛ كلفظ القديم والذات، ونحو ذلك.
2 -
ومِن الناس مَنْ يُفَصِّل بين الأسماء التي يُدعى بها وبين ما يُخبر به عنه للحاجة؛ فهو- سبحانه- إنَّما يُدعى بالأسماء الحسنى، كما قال:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
وأمَّا إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم ولا موجود ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك. فقيل: بل هو سبحانه قديم موجود وهو ذات قائمة بنفسها. وقيل: ليس بشيء. فقيل: بل هو شيء. فهذا سائغ، وإن كان لا يُدعى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدل على المدح»
(1)
.
فالذين خالفوا الحقَّ في هذه المسألة هم بعض أهل الكلام، كما أشار لذلك شيخ الإسلام في النقل السابق، ومِن هؤلاء بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، وكذلك الكرَّامِيَّة.
أمَّا عن المعتزلة فهم ينقسمون إلى قسمين: معتزلة البصرة. ومعتزلة بغداد.
فالاعتزال أول ظهوره كان في البصرة، ثم بعد ذلك أصبحت هناك مدرسة للمعتزلة في بغداد.
فمعتزلة البصرة لا يلتزمون التوقيف في أسماء الله سبحانه وتعالى؛ فقد ذكر البغداديُّ: أن المعتزلة البصرية أجازوا إطلاق الأسماء عليه بالقياس»
(2)
.
وقال أبو الحسن الأشعريُّ: «واختلفت المعتزلة: هل يجوز أن يُسَمِّي البارئ عالمًا مَنْ استدل على أنَّه عالم بظهور أفعاله عليه وإن لم يأته السَّمعُ مِنْ قِبَل الله سبحانه؛ بأن يُسَمِّيه بهذا الاسم أم لا؟ على مقالتين:
(1)
«رسالة في العقل والروح» لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 46، 47)، (مطبوعة ضمن الرسائل المنيرية).
(2)
«الفرق بين الفرق» (ص 337).
فزعمت الفرقة الأولى منهم: أنه جائز أن يسمِّي الله سبحانه عالمًا قادرًا حيًّا سميعًا بصيرًا مَنْ استدل على معنى ذلك أنه يليق بالله وإن لم يأت به رسول.
وزعمت الفرقة الثانية: أنه لا يجوز أن يسمي الله سبحانه بهذه الأسماء مَنْ دَلَّه العقل على معناها، إلا أن يأتيه بذلك رسولٌ مِنْ قِبل الله سبحانه يأمره بتسميته بهذه الأسماء»
(1)
.
2 -
وأمَّا عن الأشاعرة، فإن جمهورهم مع أهل السنة في كون أسماء الله توقيفية وكذلك الماتريدية، ولكن القاضي الباقلاني- من الأشاعرة- لا يَشترط التوقيف، واشترط أمرين هما:
1 -
أن يدل على معنى ثابت لله تعالى.
2 -
ألَّا يكون إطلاقه موهمًا لما لا يليق بالله تعالى
(2)
.
وتوقف الجويني في هذه المسألة؛ فهو يَرى أنَّ الجواز وعدمه حكمان شرعيَّان لا سبيل إلى إطلاق أحدهما إلا بإذن الشرع ولم يأت، ولذا قال بالتوقُّف
(3)
.
(4)
.
3 -
وأمَّا الكرامية، فقد قال الرازي:«وقالت المعتزلة والكرامية: إن اللفظ إذا دلَّ العقل على أنَّ المعنى ثابت في حق الله سبحانه جاز إطلاق ذلك اللفظ على الله؛ سواء ورد التوقيف به أو لم يَرد»
(5)
.
(1)
«مقالات الإسلاميين» (ص 197).
(2)
«شرح المقاصد» للتفتازاني (4/ 344، 345).
(3)
«الإرشاد» (ص 136، 137).
(4)
«لوامع الأنوار البهية» (1/ 124).
(5)
«لوامع البينات» (ص 45).
وإنَّ مما لا شَكَّ فيه أن إسقاط شرط التوقيف في باب أسماء الله ضرره عظيم، وأذكر لك قصة تبين فساد قول القائلين بإسقاط هذا الشرط؛ فمعتزلة البصرة يُسقطون هذا الشرط، وشيخهم الجبائي في ذلك الوقت قد اعترض عليه أبو الحسن الأشعري- وكان ربيبه
(1)
- عندما دخل رجلٌ على الجبائي؛ فقال: هل يجوز أن يسمى الله تعالى عاقلًا؟ فقال الجبائي: لا؛ لأنَّ العقل مُشتق من العقال، وهو المانع، والمنع في حق الله تعالى محال؛ فامتنع الإطلاق.
قال الشيخ أبو الحسن (الأشعري): فقلتُ له: فعلى قياسك لا يُسَمَّى الله- سبحانه- حكيمًا؛ لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام. وهي الحديدة المانعة للدَّابة عن الخروج، ويَشهد لذلك قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
فنحكم بالقوافي من هجانا
…
ونضرب حين تختلط الدماء
(2)
وقول الآخر
(3)
:
أبي حنيفة أحكموا سفهاءكم
…
إني أخاف عليكمو أن أغضبا
أي: «نمنع بالقوافي من هجانا» ، و «امنعوا سفهاءكم» .
فإذا كان اللفظ مشتقًّا من المنع، والمنع على الله محال- لزمك أن تَمنع إطلاق (حكيم) عليه سبحانه وتعالى.
(1)
أي: كان الجبائي متزوجًا من أم أبي الحسن الأشعري بعد وفاة أبيه؛ فنشأ أبو الحسن الأشعري في بيت الجبائي إلى أن بلغ سن الأربعين، وقد أخذ منه الاعتزال، ثم بدأ أبو الحسن الأشعري يَعترض على بعض أقوال المعتزلة، ومنه اعتراضه المذكور هنا.
(2)
راجع «ديوان حسان بن ثابت» بشرح عبد الرحمن البرقوقي. القاهرة، المكتبة التجارية (ص 6). يقول: مَنْ هجانا منعناه بقوافينا المُفحمة، ونحن نضرب حين تختلط الدماء! أي: حين تلتحم الحرب. وقوله: نحكم: أي: نمنع.
(3)
البيت لجرير، وقاله في بيت آخر في هجاء بني حنيفة. والحكمة: ما أحاط بحَنَكي الفرس من لجامه. راجع «ديوان جرير» (ص 47)، بيروت، 1960 م.
فوقع الجبائي بهذا في هذا الفخ، وأُلزم بلازم قوله؛ فلا يمكن للجبائي أن يقول: لا أُسَمِّيه حكيمًا؛ لأنه قد ورد في القرآن.
فلأنه ألغى شرط التوقيف، وبنى عليه هذا الحكم- وقع في محظور، وهو أنه بناء على قياسه هذا يلزم أن يمنع الحكيم كما يمنع العاقل؛ لأن مدار الكلمتين على المنع.
قال الأشعري: فلم يَحر جوابًا، إلا أنه قال لي: فَلِمَ مَنعتَ أنت أن يُسَمَّى الله سبحانه عاقلًا، وأجزتَ أن يسمَّى حكيمًا؟
قال (أي: الأشعري): فقلت له: لأنَّ طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي، دون القياس اللغوي. فأطلقت (حكيمًا)؛ لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلًا؛ لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقتُه»
(1)
.
فالشاهد: أن أسماء الله توقيفية؛ لا مجال للعقل فيها، فليس لك أن تستعمل في إثباتها القياس العقلي أو القياس اللغوي، وعليك أن تلتزم بما ورد في أسماء الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا} ، فالله سبحانه وتعالى أدَّبنا أن لا نتكلم في أمر لا علم لنا به.
والملائكة- مع فضلهم- لا عِلم لهم إلا ما عَلَّمهم الله؛ قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، ونحن طريق العلم عندنا هو الوحي؛ فبالتالي ما كان وحيًا آمنَّا به.
وقال تعالى عندما ذَكر المحرمات: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ، والعلماء يقولون: تدرج هنا من الأدنى إلى الأعلى، فعلى هذا أعلى المحرمات: هو أن يقولوا على الله ما لا يعلمون.
(1)
«طبقات الشافعية» للسبكي (2/ 251، 252)، الطبعة الأولى بالمطبعة الحسينية.
لذا يجب على المسلم أن يحذر حذرًا شديدًا من أن يتقول على الله تعالى بغير علم.
والعلماء عندما أخذوا بالاشتقاق أخذوه من طريق النص، وهكذا ما ورد مضافًا، وهذا ليس بخروج عن التوقيف.
ثم قال المصنف: «لأن تسميته- تعالى- بما لم يُسَمِّ به نفسَه أو إنكار ما سَمَّى به نفسه جناية في حقِّه تعالى» ، وهذا سيأتي أنه نوع من أنواع الإلحاد في أسماء الله تعالى، وهو قاعدة مستقلة.
* * *
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة السادسة
أسماء الله- تعالى- غير محصورة بعدد معين
؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: «أسألُك بكلِّ اسم هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابك، أو عَلَّمْتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في عِلم الغيب عندك» ، الحديث، رواه أحمدُ وابنُ حِبَّان والحاكم، وهو صحيحٌ.
وما استأثر الله- تعالى- به في علم الغيب لا يُمكن أحدًا حصره، ولا الإحاطة به.
الشرح
أسماء الله الحُسنى لا تَدخل تحت حصر ولا تُحد بعددٍ؛ فإنَّ لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يَعلمها مَلكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرسل
(1)
، وهذا هو الصواب، وعلى ذلك مضى سلفُ الأمة وأئمتها، وهو قول جمهور العلماء، ولم يخالفهم فيه إلا طائفة من المتأخرين؛ كابن حزم وغيره
(2)
.
أدلة الجمهور على أن اسماء الله غير محصورة:
مما احتح به الجمهور لقولهم في هذه المسألة ما يلي:
1 -
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصاب
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 166).
(2)
«مجموع الفتاوى» (22/ 482).
عبدًا قطُّ همٌّ ولا غَم ولاحزن، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضي في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سَمَّيْتَ به نفسك، أو أنرلتَه في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا مِنْ خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تَجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب هَمِّي وغمي- إلا أذهب اللهُ همَّه وغمَّه، وأبدله مكانه فرحًا». قالوا: يا رسول الله، أفلا تتعلمهن؟ قال:«بلى، يَنبغي لمن يسمعهن أن يَتعلمهن»
(1)
.
والشاهد من هذا الحديث قوله: «أو استأثزت به في عِلم الغيب عندك» ، فهو دليل على أن أسماءه أكثر من تسعة وتسعين، وأنَّ له أسماءً وصفاتٍ استأثر بها في علم الغيب عنده لا يَعلمها غيرُه
(2)
، ففي هذا الحديث جعل أسماءه ثلاثة أقسام
(3)
:
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 391، 452، وابن حبان (انظر: موارد الطمآن ح 2372)، والحاكم في المستدرك (1/ 951)، والطبراني في الكبير (ح 53521).
(2)
«شفاء العليل» (ص 277).
(3)
قال ابن القيم رحمه الله: «وقوله: «أسألُك بكلِّ اسم سَمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا مِنْ خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» - إن كانت الرواية محفوظة هكذا، ففيها إشكال؛ فإنه جعل ما أنزله في كتابه أو عَلَّمه أحدًا من خلقه أو استأثر به في علم الغيب عنده قسيمًا لما سَمَّى به نفسه، ومعلوم: أن هذا تقسيم وتفصيل لما سَمَّى به نفسه؛ فوجه الكلام أن يقال: سَمَّيت به نفسك؛ فأنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا مِنْ خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، فإن هذه الأقسام تفصيل لما سَمَّى به نفسه. وجواب هذا الإشكال: أن (أو) حرف عطف، والمعطوف بها أخص مما قبله؛ فيكون من باب عطف الخاص على العام، فإنَّ ما سَمَّى به نفسه يتناول جميع الأنواع المذكورة بعده؛ فيكون عطف كل جملة منها من باب عطف الخاص على العام. فإن قيل: المعهود من عطف الخاص على العام: أن يكون بالواو دون سائر حروف العطف. قيل: المسوغ لذلك في الواو هو تخصيص المعطوف بالذِّكر؛ لمرتبته من بين الجنس، واختصاصه بخاصة غيره منه حتى كأنه غيره، أو إرادة لذكره مرتين باسمه الخاص وباللفظ العام، وهذا لا فرق فيه بين العطف بالواو أو بـ (أو) مع أنَّ في العطف ب (أو) على العام فائدة أخرى، وهي بناء الكلام على التقسيم والتنويع، كما بني عليه تامًّا، فيقال: سَمَّيت به نفسك؛ فإمَّا أنزلته في كتابك، وإمَّا عَلَّمته أحدًا من خلقك». «شفاء العليل» (ص 276).
1 -
قسم سَمَّى به نفسه؛ فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم يَنزل به كتابه.
2 -
وقسم أنزل به كتابَه؛ فتعَرَّف به إلى عباده.
3 -
وقسم استأثر به في علم غَيبه؛ فلم يُطلع عليه أحد من خلقه. ولهذا قال: «استأثرتَ به» ، أي: انفردت بعلمه، وليس المراد: انفراده بالتسمي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أَنزل بها كتابه
(1)
.
وقال الخطابيُّ عند هذا الحديث: «فهذا يدلُّك على أنَّ لله أسماء لم يُنزلها في كتابه، حَجبها عن خلقه، ولم يُظهرها لهم»
(2)
.
وقال ابن كثير: «ثم ليُعلم أنَّ الأسماء الحسنى غير مُنحصزة في تسعة وتسعين»
(3)
، واستدل لذلك بهذا الحديث.
2 -
ومما يستدل به ما ثَبت في الصَّحيح: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «اللهم إني أَعوذ برضاك من سَخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك مِنك، لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»
(4)
.
والشاهد من الحديث هو قوله: «لا أُحصي ثناء عليك» .
وأمَّا عن وجه الاستشهاد؛ فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأخبر أنَّه لا يُحصي ثناء عليه، ولو أَحصى أسماءه لأحصى صفاتِه كلها فكان يُحصي الثناء عليه؛ لأن صفاتِه إنَّما يُعبر عنها بأسمائه»
(5)
.
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 166).
(2)
«شأن الدعاء» (ص 24).
(3)
«تفسير ابن كثير» (2/ 269).
(4)
أخرجه مسلم في «صحيحه» (2/ 51)، كتاب (الصلاة)، باب:(ما يقال في الركوع).
(5)
«درء تعارض العقل والنقل» (3/ 332، 333).
3 -
ويستدل كذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «فيَفتح عليَّ من محامده بما لا أُحسنه الآن»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «وتلك المحامد تَفِي بأسمائه وصفاته»
(2)
.
4 -
أن الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أكثر من تِسعة وتسعين؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإن قيل: لا تَدعو إلا باسم له ذِكر في الكتاب والسنة! قيل: هذا أكثر مِنْ تسعة وتسعين»
(3)
.
وقال محمد بن المرتضى اليماني: «وقد ثبت أنَّ أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي (أي: التسعة والتسعون) بالضرورة؛ فإنَّ في كتاب الله أكثرَ من ذلك»
(4)
.
* * *
(1)
أخرجه البخاري في «صحيحه» ، كتاب (التفسير)، باب {ذرية من حملنا مع نوح} ، ولفظه:«ثم يفتح الله عليَّ مِنْ محامد وحُسن الثناء عليه شيئًا لم يَفتحه على أحد قبلي» ، وأخرجه مسلم في كتاب (الإيمان)(1/ 127).
(2)
«بدائع الفوائد» (1/ 161).
(3)
«مجموع الفتاوى» (22/ 482).
(4)
«إيثار الحق على الخلق» (ص 169).
قال المصنف رحمه الله:
«فأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ للهِ تسعة وتسعين اسمًا؛ مائة إلا واحدًا، مَنْ أحصاها دخل الجنة» ، فلا يدلُّ على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: إنَّ أسماء الله تسعة وتسعون اسمًا؛ مَنْ أحصاها دخل الجنة، أو نحو ذلك.
إذًا فمعنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أنَّ مَنْ أحصاه دخل الجنة. وعلى هذا فيكون قوله: «مَنْ أحصاها دخل الجنة» جملة مكملة لما قبلها، وليست مستقلة. ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أَعددتها للصدقة؛ فإنه لا يَمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تَعدها للصَّدقة».
الشرح
قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لله تسعة وتسعين اسمًا؛ مائة إلا واحدًا، مَنْ أحصاها دخل الجنة» متفق عليه
(1)
، وفي رواية:«مَنْ حَفِظها»
(2)
.
الشاهد من الحديث: قوله: «مَنْ أحصاها» ، «مَنْ حَفِظها» .
ثانيا: معاني الإحصاء:
معنى قوله: «مَنْ أحصاها» قد ذكر فيه الخطابي
(3)
: «أربعة أوجه» ، وهي:
المعنى الأول: العدُّ، كما في قوله سبحانه:{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} ،
(1)
أخرجه البخاري (2736) ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجها مسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
«شأن الدُّعاء» (ص 26 - 29).
فيكون معنى «أحصاها» في الحديث: أنه يعدُّها ليستوفيها حفظًا، فيدعو ربه بها.
وقد استدل على صحة هذا التأويل بما ورد في رواية سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لله تسعة وتسعين اسمًا؛ مائة غير واحد، مَنْ حفظها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر»
(1)
.
قال الخطَّابيُّ عند هذا الوجه: «وهو أظهرها» .
وقال النوويُّ: «قال البخاري وغيره من المحققين: معناه: حفظها، وهذا هو الأظهر؛ لثبوته نصًّا في الخبر، وهو قول الأكثرين»
(2)
.
وقال ابن الجوزي: «لما ثبت في بعض طرق الحديث: «مَنْ حَفِظها» بدل «مَنْ أحصاها» - اخترنا أن المراد «العَد» ؛ أي: مَنْ عَدَّها؛ لِيستوفيها حفظًا».
واعترض الحافظ ابنُ حجر على هذا الوجه فقال: «وفيه نظر؛ لأنه لا يَلزم من مجيئه بلفظ: «حفظها» تعيين السَّرد عن ظهر قلب، بل يُحتمل الحفظ المعنويُّ».
وقال الأصيليُّ: «ليس المراد بالإحصاء: عدها فقط؛ لأنه قد يعدُّها الفاجر، وإنما المراد: العلم بها» .
(3)
.
المعنى الثاني: الطاقة، كما في قوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} ، أي: لن تُطيقوه.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ مسلم في «صحيحه» ، (الذِّكر)(ح 2677).
(2)
«الأذكار» للنووي (ص 85)، «شرح صحيح مسلم» (5/ 17).
(3)
«فتح الباري» (11/ 226).
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تُحصوا»
(1)
؛ أي: لن تُطيقوا كل الاستقامة.
فيكون معنى: «أحصاها» في الحديث: أي: يطيقها، بحسن المراعاة لها، والمحافظة على حدودها في معاملة الربِّ سبحانه بها، وذلك مثل أن يقول:(يا رحمن يا رحيم)؛ فيخطر بقلبه الرحمة، ويعتقدها صفة لله عز وجل؛ فيرجو رحمته، ولا ييأس من مغفرته؛ كقوله تعالى:{لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
وإذا قال: (السميع البصير) علم أنه لا يَخفى على الله خافية، وأنه بمرأى منه ومسمع؛ فيخافه في سرِّه وعلنِه، ويُراقبه في كافة أحواله.
فإذا قال: (الرَّزَّاق) اعتقد أنه المتكفِّل برزقه، يسوقه إليه في وقته؛ فيَثق بوعده، ويعلم أنه لا رازق له غيره، ولا كافي له سواه.
وإذا قال: (المنتقم) استشعر الخوف من نقمته، واستجار به من سخطه.
وإذا قال: (الضار النافع) اعتقد أنَّ الضر والنفغ من قِبَل الله جلَّ وعزَّ لا شريك له، وأن أحدًا من الخلق لا يجلب إليه خيرًا، ولا يصرف عنه شرًّا، وأن لا حول لأحد ولا قوة إلا به.
وكذلك إذا قال: (القابض الباسط)، و (الخافض الرافع)، و (المعز المذل)، وعلى هذا سائر الأسماء
(2)
.
وقال ابن حجر: «وقيل: معنى «أحصاها» : عَمِل بها، فإذا قال:(الحكيم) - مثلًا- سَلَّم بجميع أوامره؛ لأن جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال:(القدُّوس) استحضر كونه منزهًا عن جميع النقائص. وهذا اختيار أبي الوفاء بن عقيل. وقال ابن بطال: «طريق العمل بها: أنَّ الذي يسوغ
(1)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (5/ 282)، وابن ماجه (ح 277)، والدَّارمي (1/ 68).
(2)
«شأن الدعاء» (ص 27، 28).
الاقتداء به فيها كـ (الرحيم)، و (الكريم)، فإن الله يحب أن يرى حلاها على عبده؛ فليمرن نفسه على أن يصحَّ له الاتِّصاف بها. وما كان يختص به تعالى كـ (الجبَّار) و (العظيم)؛ فيجب على العبد الإقرار بها والخضوع لها، وعدم التَّحلِّي بصفة منها.
وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطَّمع والرَّغبة.
وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرَّهبة.
فهذا معنى «أحصاها» و «حفظها» .
وقال أبو نُعيم الأصبهاني: «الإحصاء المذكور في الحديث ليست هو التعداد، وإنما هو العمل والتَّعقُّل بمعاني الأسماء والإيمان بها»
(1)
.
المعنى الثالث: أن يكون الإحصاء بمعنى العقل والمعرفة.
وهذا المعنى مأخوذ من الحصاة، وهي: العقل.
قال طَرَفة:
وإن لسان المرء ما لم تكن له
…
حصاة على عوراته لدليل
(2)
والعرب تقول: فلان ذو حصاة؛ أي: ذو عقل ومعرفة بالأمور.
فيكون معنى «أحصاها» : أنَّ مَنْ عرفها وعقل معانيها وآمن بها- دخل الجنة
(3)
.
(4)
.
(1)
«فتح الباري» (11/ 226).
(2)
«ديوان طرفة بن العبد» (ص 112).
(3)
«شأن الدعاء» (ص 28، 29).
(4)
«فتح الباري» (11/ 226).
المعنى الرابع: أن يكون معنى الحديث: أن يقرأ القرآن حتى يختمه؛ فيستوفي هذه الأسماء كلها في أضعاف التلاوة، فكأنه قال: مَنْ حفظ القرآن وقرأه فقد استحق دخول الجنَّة
(1)
.
قال الحافظ ابن حجر: «وقيل: المراد بالحفظ: حفظ القرآن؛ لكونه مستوفيًا لها؛ فمن تلاه ودعا بما فيه من الأسماء حصل المقصود. قال النووي: «هذا ضعيف» .
وقيل: المراد: مَنْ تَتَبَّعها مِنْ القرآن»
(2)
.
والحق والصواب: أن الإحصاء شامل لهذه الأمور جميعها، فلا بد من الجمع بين الإحصاء النظري المُتمثل في العلم بها وحفظها وحفظ النصوص الدالة عليها. والإحصاء الفقهيِّ المتمثل في فَهم معانيها ومدلولاتها والإيمان بآثارها. والإحصاء العملى الذي هو العمل بمقتضاها ودعاء الله بها.
قال ابن بطال: «الإحصاء يقع بالقول، ويقع بالعمل؛ فالذي بالعمل: أنَّ لله أسماء يختصن بها؛ كالأحد والقدير، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها. وله أسماء يستحبُّ الاقتداء بها في معانيها؛ كالكريم والعَفُو؛ فيسحب للعبد أن يتحلى بمعانيها؛ ليؤدي حقَّ العمل بها، فبهذا يحصل الإحصاء العملي.
وأمَّا الإحصاء القولي فيحصل بجمعها وحفظها والسؤال بها، ولو شارك المؤمن غيره في العَدِّ والحفظ، فإن المؤمن يَمتاز عنه بالإيمان والعمل بها»
(3)
.
* * *
(1)
«شأن الدعاء» (ص 29).
(2)
«فتح الباري» (11/ 226).
(3)
«فتح الباري» (13/ 390).
قال المصنف رحمه الله:
«ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في «الفتاوى» (ص 382، ج 6) من مجموع ابن قاسم: «تَعْيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتِّفاق أهل المعرفة بحديثه» ، وقال قبل ذلك (ص 379):«إن الوليد ذكرها عن بعض شُيوخه الشاميين، كما جاء مُفَسَّرًا في بعض طُرق حديثه» . اهـ. وقال ابن حجر في
«فتح الباري» (ص 215، ج 11، ط. السلفية): «ليست العلة عند الشيخين (البخاري ومسلم) تفرُّد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب، وتدليسه، واحتمال الإدراج» . اهـ.
* * *
الشرح
لم يَرد حديثٌ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعيين التسعة والتسعين اسمًا، وأشهر ما عند الناس فيها هو حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم، وحُفَّاظ أهل الحديث يقولون: إنَّ هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه؛ فهي مُدرجة في الحديث
(1)
.
ولذلك فإنَّ من الخطأ التعويل على هذا العَدِّ وقَصر الناس عليه؛ ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث؛ مثل: اسم (الرَّب) و (المنان) و (السبوح) و (الوتر) و (الشافي)، وغيرها كثير
(2)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (22/ 482).
(2)
المصدر السابق (22/ 482 - 485).
وكذلك هناك أسماء في العدِّ الوارد في الحديث- لم تَثبت في النصوص، وهي محل نظر
(1)
.
وقال ابن عطية في «تفسيره» : «في سرد الأسماء نظر؛ فإنَّ بعضها ليس في القرآن ولا في الحديث الصحيح»
(2)
.
وقال ابن حزم: «والأحاديث الواردة في سرد الأسماء ضعيفة؛ لا يصحُّ منها شيء أصلًا»
(3)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: «والصحيح: أنه- أي: العد- ليس مِنْ كلام النبي صلى الله عليه وسلم»
(4)
.
وقال ابن حَجر: «ورواية الوليد تُشعر بأن التعيين مُدرج»
(5)
.
* * *
(1)
«فتح الباري» (11/ 215).
(2)
«فتح الباري» 11/ 215 - 217).
(3)
«المحلى» (8/ 31).
(4)
«مدارج السالكين» (3/ 415).
(5)
«فتح الباري» (11/ 216).
قال المصنف رحمه الله:
«ولمَّا لم يصح تعيينها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم اختلف السلف فيه، ورُوِيَ عنهم في ذلك أنواع، وقد جمعتُ تِسعة وتسعين اسمًا مما ظهر لي من كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن كتاب الله تعالى:
الله
…
الأحد
…
الأعلى
…
الأكرم
…
الإله
…
الأوَّل
والآخر
…
والظاهر
…
والباطن
…
البارئ
…
البَر
…
البصير
التَّوَّاب
…
الجبار
…
الحافظ
…
الحسيب
…
الحفيظ
…
الحَفِي
الحق
…
المبين
…
الحكيم
…
الحليم
…
الحميد
…
الحي
القيوم
…
الخبير
…
الخالق
…
الخلاق
…
الرءوف
…
الرحمن
الرحيم
…
الرزاق
…
الرقيب
…
السَّلام
…
السَّميع
…
الشاكر
الشكور
…
الشهيد
…
الصمد
…
العالم
…
العزيز
…
العظيم
العفو
…
العليم
…
العلي
…
الغفار
…
الغفور
…
الغني
الفتاح
…
القادر
…
القاهر
…
القدوس
…
القدير
…
القريب
القوي
…
القهار
…
الكبير
…
الكريم
…
اللطيف
…
المؤمن
المتعالي
…
المتكبر
…
المتين
…
المجيب
…
المجيد
…
المحيط
المصور
…
المقتدر
…
المُقيت
…
الملك
…
المليك
…
المولى
المهيمن
…
النصير
…
الواحد
…
الوارث
…
الواسع
…
الودود
الوكيل
…
الولي
…
الوهَّاب
…
-
…
-
…
-
ومن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الجَميل
…
الجواد
…
الحَكَم
…
الحَي
…
الرَّب
…
الرفيق
السُّبُّوح
…
السيد
…
الشافي
…
الطيب
…
القابض
…
الباسط
المُقَدِّم
…
المُؤخر
…
المُحسن
…
المُعطي
…
المنان
…
الوتر
هذا ما اخترناه بالتتبع: واحد وثمانون اسمًا في كتاب الله تعالى، وثمانية عشر اسمًا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان عندنا تردُّد في إدخال (الحفي)؛، لأنه إنما ورد مُقيدًا في قوله تعالى عن إبراهيم:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} ، وما اخترناه فهو حسب علمنا وفهمنا، وفوق كل ذي علمٍ عليم، حتى يصل ذلك إلى عالم الغيب والشهادة ومن هو بكل شيءٍ عليم.
الشرح
قال ابنُ حَجَر رحمه الله: «إذا تقرَّرَ رُجحان أنَّ سرد الأسماء ليس مرفوعًا
(1)
، فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن مِنْ غير تقييد بعدد»
(2)
.
نماذج لاجتهادات أهل العلم في جمع الأسماء الحسنى:
إذا تبيَّن أن الروايات في عدِّ الأسماء ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الحقيقة التي يجب أن تُقرَّر في هذا المقام: أنَّ جميع ما ورد من جمع للأسماء الحسنى إنَّما هو من اجتهاد أهل العلم من خلال استقرائهم للنُّصوص، والملاحظ على تلك الاجتهادات ما يلي:
(1)
أي: لم يثبت بدليل قويٍّ أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
المصدر السابق (11/ 217).
1 -
اقتصار الأغلب في جمعهم على عدِّ تسعةٍ وتسعين اسمًا من أسماء الله الحسنى، ولعلّ المقصود من هذا التّقيّد هوتحصيل الفضل الوارد في الحديث، إذ الفضل قد ورد فيمن أحصى هذا القدر من أسماء الله.
2 -
الاقتصار كذلك على تَتبُّع تلك الأسماء في سور القرآن الكريم فقط، دون الرُّجوع إلى السنة الصَّحيحة، ولعل السَّبب يرجع في ذلك إلى صعوبة تتبُّع ما ورد في السنة؛ إذ أنَّه يحتاج إلى جهدٍ في الاستقصاء، مع ملاحظة أن غالب مَنْ يعتني بعدِّ الأسماء يقتصرعلى عدٍّ تسعةٍ وتسعين- كما أسلفنا- لتحصيل فضل ما ورد في الحديث، وبما أنهم يستخرجون ذلك العدد من القرآن، فإنهم يَكتفون بذلك.
3 -
الاختلاف في العدِّ بين جمعٍ وآخر، ويَندر أن تجد اتِّفاقًا كليًّا بين جمعين؛ لأن الاستقراء قد يختلف من شخص لآخر، وكذلك الضابط في تعيين ما يَنطبق عليه شرط الاسم قد يختلف؛ فهناك مَنْ يتوسَّع، وهناك مَنْ يتقيَّد بشروط مُعيَّنة بحسب ما وصل إليه اجتهاد كلِّ واحد منهم.
ومن خلال استقراء أدلَّة الأسماء التي جُمِعَت مِنْ قِبَل العلماء، فإنَّه يمكن تصنيف تلك الأسماء على النَّحو التَّالي:
1 -
أسماء وردت بصورة الاسم؛ إمَّا في القرآن والسنة معًا، أو في القرآن فقط، أو في السُّنَّة فقط.
2 -
أسماءٌ لم تَرد بصورة الاسم، وإنَّما وردت بالإضافة أو الاشتقاق، وبعضها قد يُؤخَذ من النُّصوص بضربٍ من التَّكلُّف.
3 -
أسماءٌ لا يصحُّ أن تُطلَق في باب الأسماء، ولا يصحُّ إيرادها في هذا الباب، وإن كانت قد ترجع إمَّا إلى باب الصِّفات أو باب الأخبار.
وسأعرض نماذج لجمع العلماء لتلك الأسماء، وقد اخترتُ ثمانية عشر جمعًا لعلماء من عصورٍ مختلفةٍ، ورتَّبت ذلك ترتيبًا زمنيًّا على النَّحو التالي:
1 -
جمعُ جعفر الصَّادق (85 - 148 هـ)، وقد ذُكِرَ ذلك الجمع في «فتح الباري» (11/ 217).
2 -
جمعٌ لأبي زيد اللغويِّ، أقرَّه عليه سفيان بن عيينة (157 - 198 هـ)، وقد ذُكِرَ ذلك الجمع في «فتح الباري» (11/ 217، 218).
3 -
جمعٌ لأبي سليمان؛ حمد بن محمد الخطَّابيِّ (319 - 388 هـ)، أورده في كتابه «شأن الدُّعاء» .
4 -
جمعٌ للحافظ محمد بن إسحاق بن منده (315 - 395 هـ)، أورده في كتابه «التَّوحيد» ، الجزء الثاني.
5 -
جمعٌ لأبي عبد الله؛ الحسين بن الحسن الحليمي (338 - 403)، أورده في كتابه «المنهاج في شعب الإيمان» (1/ 188 - 159)، ووافقه على ذلك أبو بكر؛ أحمد بن الحسين البيهقي (384 - 458 هـ) في كتابه «الأسماء والصِّفات» (ص 23 - 118).
6 -
جمعٌ لأبي محمد؛ علي بن أحمد بن حزم (384 - 456 هـ)، أورده في كتابه «المحلى» (8/ 31).
7 -
جمعٌ لقَوَّام السُّنَّة؛ إسماعيل بن محمَّد بن الفضل الأصبهانيِّ (457 - 535 هـ)، أورده في كتابه «الحُجَّة في بيان المحجَّة» (1/ 114 - 116)، علمًا بأنَّه لم يَقصد بذكره للأسماء جمع تلك الأسماء على سبيل الاستقصاء.
8 -
جمعٌ لأبي بكر؛ محمَّد بن عبد الله القرطبي، المشهور بابن العربي المالكي (468 - 543 هـ)، أورده في كتابه «أحكام القرآن» (2/ 808 - 815).
9 -
جمعٌ لأبي عبد الله؛ محمَّد بن أحمد الأنصاري القرطبي المُفسِّر (
…
- 671 هـ) في كتابه «الأسنى في شرح الأسماء الحسنى» ، مع العلم أنَّ الكتاب مخطوطٌ وهو ناقصٌ، وقد أكملت النَّقص من كتاب «تلخيص الحبير» لابن حجر كما عزاه إلى القُرطبيِّ.
10 -
جمعٌ لأبي عبد الله؛ محمَّد بن أبي بكر الدِّمشقي، المعروف بابن
قيم الجوزيَّة، المتوفى سنة (751 هـ)، وقد اسخلصت هذا الجمع من نُونيَّته المسمَّاة:«الكافية الشَّافية في الانتصار للفرقة النّاجيه» ، وكذا من كتاب «مدارج السّالكين» ، وكتاب «بدائع الفوائد» .
11 -
جمعٌ لمحمد بن المرتضى اليماني، المعروف بابن الوزير، المتوفَّى سنة (840 هـ) في كتابه «إيثار الحقِّ على الخلق» (ص 171، 172).
12 -
جمع لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773 - 852 هـ) في كتابه «فتح الباري» (11/ 219).
13 -
جمع لعبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، المتوفى سنة (1376 هـ) في كتابه «تيسير الكريم الرَّحمن في تفسيركلام المنَّان» (6/ 298 - 305).
14 -
جمع لمحمد بن صالح بن عثيمين في كتابه «القواعد المُثلَى» ، وهو المذكور هنا في هذا «المتن» الذي نحن بصدد شرحه.
15 -
جمعٌ لسعيد بن عليِّ القحطانيِّ- وهو من طلبةِ العلم المعاصرين- في كتابه «شرح الأسماء الحسنى في ضوء الكتاب والسُّنَّة» .
16 -
جمع لمحمَّد بن حمد الحمود- وهو من طلبة العلم المعاصرين- في كتابه «المنهج الأسمَى في شرح أسماء الله الحسنى» .
17 -
جمعٌ لأحمد بن عبده الشَّرباصيّ- مِنْ مشايخ مصر- في كتابه «موسوعة الأسماء الحسنى» .
18 -
جمعٌ لنُور الحُسن خان ابن الشَّيخ محمَّد صِدِّيق حَسن خان- من مشايخ الهند- في كتابه «الجوائز والصِّلات من جمع الأسامي والصِّفات»
(1)
.
ثم قال المصنف بعد جمعه الخاص للأسماء الحسنى- قال: «وإن كان عندنا تردُّد في إدخال (الحفي)؛، لأنه إنما ورد مُقيدًا في قوله تعالى عن
(1)
للاستزادة عن هذه الجموع .. راجع كتابنا «معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى» (ص 121) وما بعدها.
إبراهيم: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} »، وقال في الشرح:«وهذا في الحقيقة عندي فيه شيء من التردد؛ لأنه قد يقال بأنه من الأفعال، وليس من الأسماء؛ لوردوه مقيدًا، فإنه قال: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}»
(1)
.
وكذلك ذكر اسمَ (الحَفي) في جمعه: ابنُ العربي، والقرطبيُّ، وابنُ حَجَر، وابنُ الوزير، والشرباصيُّ.
(1)
«المجلى شرح القواعد المثلى» للشيخ ابن عثيمين (ص 74).
قال المصنف المصنف رحمه الله:
(1)
.
ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى اعتبار الأسماء المضافة وعَدِّها من ضمن الأسماء الحسنى؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في: «وكذلك أسماؤه المضافة؛ مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومُقلب القلوب، وغير ذلك مما ثَبت في الكتاب والسنة، وثبت الدعاء بها بإجماع المسلمين»
(2)
.
والعلماء في عدِّهم لهذه الأسماء ما بين مُقِلٍّ ومُكثرٍ؛ فبعض تلك الأسماء التي عَدُّوها إضافتها واضحة في النُّصوص، والبعض منها لا تدلُّ النُّصوص صراحة على إضافتها.
* * *
(1)
القواعد المثلى طبعة مؤسسة الشيخ ابن عثيمين، صفحة (22)، الحاشية رقم (1)
(2)
«مجموع الفتاوى» (22/ 485).
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة السابعة
الإلحاد في أسماء الله- تعالى- هو الميل بها عمَّا يجب فيها،
وهو أنواع:
الأول: أن يُنكِر شيئًا منها، أو ممَّا دَلَّت عليه الصفات والأحكام، كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم. وإنَّما كان ذلك إلحادًا لوجوب الإيمان بها، وبما دلَّت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله، فإنكار شيء من ذلك مَيْلٌ بها عمَّا يجب فيها.
الثاني: أن يجعلها دالَّة على صفات تُشابه صفات المخلوقين، كما فعل أهل التشبيه، وذلك لأنَّ التشبيه معنى باطل لا يُمكن أن تدل عليه النُّصوص، بل هي دالة على بطلانه، فجعلها دالة عليه ميل بها عمَّا يجب فيها.
الثالث: أن يُسَمَّى الله- تعالى- بما لم يُسَمِّ به نفسه؛ كتسمية النَّصارى له: (الأب)، وتسمية الفلاسفة إيَّاه:(العِلَّة الفاعلة)، وذلك لأنَّ أسماء الله تعالى توقيفية، فتسمية الله- تعالى- بما لم يُسَم به نفسه مَيْلٌ بها عمَّا يجب فيها، كما أنَّ هذه الأسماء التي سَمَّوه بها نفسها باطلة، يُنَزَّه الله تعالى عنها.
الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كما فعل المشركون في اشتقاق العُزَّى من العزيز، واشتقاق اللات من الإله،
على أحد القولين؛ فسموا بها أصنامهم، وذلك لأن أسماء الله- تعالى- مختصة به؛ لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، وقوله:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وقوله:{لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، فكما اختص بالعبادة وبالألوهية الحق، وبأنه يُسَبِّح له ما في السماوات والأرض، فهو مختص بالأسماء الحسنى، فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختصُّ بالله عز وجل ميلٌ بها عما يجب فيها.
والإلحاد بجميع أنواعه مُحَرَّم؛ لأنَّ الله- تعالى- هَدَّدَ الملحدين بقوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ومنه ما يكون شركًا أو كفرًا حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية».
* * *
الشرح
الإلحاد في أسمائه: هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحقِّ الثابت لها.
والإلحاد مأخوذ من المَيل، كما يدل عليه مادته (ل- ح- د)؛ فمنه: اللحد، وهو الشَّق في جانب القبر الذي قد مال عن الوَسط.
ومنه المُلحد في الدين: المائل عن الحقِّ إلى الباطل؛ قال ابن السِّكِّيت: «الملحد: المائل عن الحقِّ المُدخِلُ فيه ما ليس فيه
(1)
.
وفي قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَأنه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} - قال الإمام البغوي: «قال أهل المعاني: الإلحاد في أسماء الله: تسميته بما
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 169).
لم يَتَسَمَّ به، ولم ينطق به كتابُ الله ولا سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
وقال ابن حجر: «قال أهل التفسير: مِنْ الإلحاد في أسمائه: تسميته بما لم يَرد في الكتاب أو السنة الصحيحة»
(2)
.
والإلحاد في أسمائه تعالى أنواع.
أحدها: أن يسمى الأصنام بها؛ كتَسميتهم اللات من الإلهيَّة، والعُزَّى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهًا، وهذا إلحاد حقيقة؛ فإنهم عَدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة
(3)
.
قال ابن عباس ومجاهد: «عدلوا بأسماء الله تعالى عما هى عليه، فسموا بها أوثانهم؛ فزادوا ونقصوا، فاشتقوا اللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومَناة من المنَّان»
(4)
.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أبًا، وتسمية الفلاسفة له: مُوجبًا بذاته أو علَّةً فاعلةً بالطبع، ونحو ذلك
(5)
؛ وذلك لأنَّ أسماء الله- تعالى- توقيفية، فتسميته تعالى بما لم يُسَم به نفسه ميلٌ بها عما يجب فيها، كما أنَّ هذه الأسماء التي سَموه بها نفسها باطلة يُنزه الله تعالى عنها.
قال ابن حزم: «مَنع تعالى أن يُسَمَّى إلا بأسمائه الحسنى، وأخبر أنَّ مَنْ سَمَّاه بغيرها فقد ألحد»
(6)
.
وفي قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومَن جعله تسبيحًا للاسم يقول: المعنى: إنَّك لا تسم به غير الله، ولا تُلحد في أسمائه، فهذا ما يستحقُّه اسم الله»
(7)
.
(1)
«معالم التنزيل» (3/ 357).
(2)
«فتح الباري» (11/ 221).
(3)
«بدائع الفوائد» (1/ 169).
(4)
«مدارج السالكين» (1/ 30).
(5)
«بدائع الفوائد» (1/ 169).
(6)
«المحلى» (1/ 29).
(7)
«مجموع الفتاوى» (6/ 199).
فأسماء الله توقيفية، ومخالفة ذلك وتسميته تعالى بما لم يُسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها؛ فالإقدام على فِعل شي من ذلك هو نوع من الإلحاد في أسماء الله.
الثالث: أن ينكر شيئًا منها أو ممَّا دلت عليه من الصفات والأحكام، كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وإنما كان ذلك إلحادًا لوجوب الإيمان بها، وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله، فإنكار شيء من ذلك ميل بها عما يجب فيها.
(1)
.
فالمعتزلة ضلوا؛ لأنهم نفوا معاني أسماء الله الحُسنى، وادعوا أنَّها كالأعلام المحضة التي لم تُوضع لمسمَّاها باعتبار معنى قائم به، وقالوا: إن الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعزيز بلا عِزَّة وهكذا، وعلَّلوا ذلك: بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدُّد القدماء.
وهذه العلة عليلةٌ بل ميتة؛ لدلالة السمع والعقل على بطلانها.
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 169، 170).
أمَّا السمع: فلأن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف كثيرة مع أنَّه الواحد الأحد، فقال تعالى:{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 12 - 16]، وقال تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 1 - 5].
وأما العقل، فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي صفاتُ مَنْ اتصف بها، فهي قائمة به، وكل موجود فلابد له من تعدُّد صفاته
(1)
.
ومن المكابرة الصريحة والبُهت البيِّن: أن يُجعل معنى اسمه (القدير) هو معنى اسمه (السميع)، أو (البصير).
الرابع: أن يجعلها دالَّة على صفات تشابه صفات المخلوقين، كما فعل أهل التشبيه؛ وذلك لأنَّ التشبيه معنى باطل لا يُمكن أن تدل عليه النصوص، بل هي دالة على بطلانه، فجَعْلُها دالة عليه ميل بها عما يجب فيها.
قال ابن القيم: «ومِن الإلحاد في أسمائه: تشبيه صفاته بصفات خلقه- تعالى الله عما يقول المشبِّهون علوًّا كبيرًا- فهذا الإلحاد في مقابل إلحاد المعطلة؛ فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء شَبَّهوها بصفات خلقه، فَجَمَعَهُم الإلحادُ وتفرَّقت بهم طُرُقُه، وبرَّأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يَصفوه إلا بما وصف به نفسه، لم يجحدوا صفاته، ولم يُشبهوها بصفات خلقه، ولم يَعدلوا بها عما أُنزِلَت عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات؛ فكان إثباتهم بريًّا من التَّشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل، لا كمن شَبَّه حتى كأنه يَعبد صنمًا، أو عَطَّل حتى كأنه لا يعبد إلا عدمًا، وأهل السنة وسطٌ في
(1)
«القواعد المثلى» (ص 8).
النِّحَلِ، كما أنَّ أهل الإسلام وسطٌ في المِلل»
(1)
.
وقال رحمه الله: «قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، ومِن أعظم أنواع الإلحاد في أسمائه: إنكار حقائقها ومعانيها، والتَّصريح بأنها مجازات، وهو أنواع هذا أحدها.
والثاني: جَحدها وإنكارها بالكلية.
والثالث: تشبيهه فيها بصفات المخلوقين ومعاني أسمائه، وأن الثابت له منها مماثل لخلقه»
(2)
.
واسمع إلى أبيات يُحَذِّر فيها ابنُ القَيِّم من الإلحاد؛ حيث يقول:
أسماؤه أوصافُ مَدْحٍ كلِّها
…
مُشتقة قد حُمِّلت لمعان
إيَّاك والإلحاد فيها إنه
…
كفر مَعاذ الله مِنْ كفران
وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإ
…
شراك والتَّعطيل والنُّكران
فالمُلحدون إذًا ثلاث طوائف
…
فعليهم غضبٌ من الرحمن
المشركون؛ لأنَّهم سموا بها
…
أوثانهم قالوا: إله ثان
هم شَبَّهوا المخلوق بالخلَّاق عكـ
…
سَ مُشبه الخَلَّاق بالإنسان
وكذاك أهل الاتحاد فإنَّهم
…
إخوانهم مِنْ أقرب الإخوان
والملحد الثاني فذو التَّعطيل إذ
…
ينفي حقائقها بلا برهان
هذا وثالثهم فنافيها ونا
…
في ما تدل عليه بالبهتان
ذا جاحد الرحمن رأسًا لم يُقِ
…
ر بخالق أبدًا ولا رحمن
هذا هو الإلحاد فاحذره لعل اللـ
…
ـه أن يُنجيك من نيران
وتفوز بالزُّلفى لديه وجَنَّة المَـ
…
أوى مِنْ الغفران والرِّضوان
(3)
ومِن خلال ما سبق يتضح: أنَّ الإلحاد دائر بين التَّعطيل والتمثيل، فلابد للنَّجاة من الإلحاد والسلامة منه أن نَحذر مِنْ هذين الداءين، وذلك بالبُعد
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 170).
(2)
«مختصر الصواعق» (2/ 110).
(3)
«القصيدة النونية» (ص 154، 156).
منهما أشد البُعد؛ لأنه بجميع أنواعه مُحَرَّم؛ فالله سبحانه تعالى قد هَدَّدَ المُلحدين بقوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، ومن الإلحاد ما يكون شركًا أو كفرًا حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية.
قال المصنف رحمه الله:
«الفصل الثاني
قواعدٌ في صِفات الله تعالى
القاعدة الأولى
صفات الله- تعالى- كلها صفات كمال لا نَقْصَ فيها بوجهٍ من الوجوه:
كالحياة، والعِلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعُلو، والعظمة، وغير ذلك».
الشرح
الصفة هي: ما قام بالذات مما يميزها عن غيرها من أمور ذاتية، أو معنوية، أو فعلية.
وقد تنوعت تقسيمات أهل السنة للصفات، وذلك بحسب الاعتبارات التي يرجع لها كل تقسيم، ومن تلك التقسيمات: أقسام الصفات عمومًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الصفات نوعان:
أحدهما: صفات نقص؛ فهذه يجب تنزيه الله عنها مطلقًا؛ كالموت، والعجز، والجهل.
والثاني: صفات كمال؛ فهذه يمتنع أن يماثله فيها شيء»
(1)
.
(1)
«الصفدية» (1/ 102).
ومعتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته هو: أنهم يؤمنون بما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة إثباتًا ونفيًا، فهم بذلك:
1 -
يُسَمُّون الله بما سمَّى به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون منه.
2 -
ويُثبتون لله عز وجل ويصفونه بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
3 -
وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أنَّ الله موصوف بكمال ضد ذلك الأمر المنفي.
فأهل السنة سلكوا في هذا الباب منهج القرآن والسنة الصحيحة فكل اسم أو صفة لله سبحانه وردت في الكتاب والسنة الصحيحة فهي من قبيل الإثبات؛ فيجب بذلك إثباتها.
وأمَّا النفي فهو أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص، مع وجوب اعتقاد ثبوت كمال ضد ذلك المنفي.
قال الإمام أحمد رحمه الله: «لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة»
(1)
.
* * *
(1)
«الفتوى الحموية» (ص 61)، دار فجر التراث.
قال المصنف رحمه الله:
«وقد دل على هذا: السَّمع والعقل والفطرة.
أمَّا السَّمع: فمنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، والمَثل الأعلى: هو الوصف الأعلى».
الشرح
دليل السمع: جاء في القرآن العظيم آيات كثيرة تدل على أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال؛ منها: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} ، و (الأعلى): صيغة أفعل التَّفضيل، أي: أعلى من غيره
(1)
.
ومعناها كما قال القرطبي: «أي: الوصف الأعلى»
(2)
، وقال ابن كثير:«أي: الكمال المطلق من كل وجه»
(3)
، وقال ابن سعدي:«{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وهو كل صفة كمال، وكل كمال في الوجود فالله أحق به من غير أن يستلزم ذلك نقصًا بوجه»
(4)
.
لذا قال الإمام ابن القيم: «المَثل الأعلى يتضمن ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، ووجودها العِلمي، والخبر عنها، وذكرها، وعبادة الرب سبحانه بها
…
»
(5)
.
فالله تعالى وصف نفسه بأنَّ له المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق،
(1)
«الصواعق المرسلة» (3/ 1030).
(2)
«تفسير القرطبي» (10/ 119).
(3)
«تفسير ابن كثير» (2/ 573).
(4)
«تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» (4/ 104).
(5)
«الصواعق المرسلة» (3/ 1034) بتصرف.
المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلَّما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان بها أكمل وأعلى من غيره.
ولما كانت صفات الرب سبحانه وتعالى أكثر وأكمل- كان له المثل الأعلى، وكان أحق به مَنْ كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق اثنان؛ لأنهما إن تكافآ من كل وجه لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مِثل أو نظير، وهذا برهان قاطع على استحالة التمثيل والتشبيه؛ فتأمله فإنَّه في غاية الظهور والقوة»
(1)
.
(1)
«الصواعق المرسلة» (3/ 1032)، و «شرح الطحاوية» (ص 144).
قال المصنف رحمه الله:
«وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة فلا بد أن تكون له صفة؛ إمَّا صفة كمال، وإما صفة نقص. والثاني باطل بالنسبة إلى الرِّبِّ الكامل المستحق للعبادة، ولهذا أظهر الله تعالى بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز؛ فقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} ، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ، وعلى قومه:{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ثم إنَّه قد ثبت بالحسِّ والمشاهدة: أنَّ للمخلوق صفات كمال، وهى من الله تعالى، فمُعطي الكمال أَوْلَى به».
الشرح
الدليل العقلي على أن كل صفات الله تعالى صفات كمال:
قال الشيخ ابن عثيمين: «فإذا قال قائل: ما هو دليلكم على ان الله متصف بصفة الكمال؟
قلنا: كل موجود حقيقة لابد له من صفة، فإمَّا أن تكون صفة كمال، وإما أن تكون صفة نقص، أما صفات النقص فهي مستحيلة في حقِّ الله عز وجل،
وأما صفات الكمال، فهي واجبة لله، فوجب أن يكون الله موصوفًا بصفات الكمال؛ لأنه منزه عن صفات النقص.
فإن قيل: هذا الحصر غير صواب؛ لأن الموجود قد يكون موصوفًا بصفات الكمال أو صفات النقص أو بصفةٍ لا نقص فيها ولا كمال.
قلنا: هذا القسم الأخير غير صحيح؛ لأنَّ الصفة التي لا كمال فيها ولا نقص هي في الحقيقة نقص؛ لأنها لغو وعبث، فالكمال: أن يكون الإنسان متصفًا بالصفات النافعة المفيدة، وما لا نفع فيه ولا ضرر، فهو داخل في صفات النقص؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حاثًّا على تكميل الإيمان:«مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»
(1)
»
(2)
.
ولابن القيم رحمه الله كلام قريب من تقسيم الشيخ ابن عثيمين هنا للصفات؛ حيث قال: «الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال. وصفات نقص. وصفات لا تَقتضي كمالًا ولا نقصًا. وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسمًا رابعًا، وهو ما يكون كمالًا ونقصًا باعتبارين، والرب تعالى منزه عن الأقسام الثلاثة وموصوف بالقسم الأول، وصفاته كلها صفات كمال محض؛ فهو موصوف من الصفات بأكملها، وله من الكمال أكمله»
(3)
.
والدليل الثاني من العقل أن نقول: نحن نشاهد في المخلوق صفات كمال، والذي أعطاه هذا الكمال هو الله تعالى؛ فمُعطي الكمال أَوْلَى بالكمال، ومِن كماله: أنه أعطى الكمال، فهذا- أيضًا- دليل عقلي على ثبوت صفات الكمال لله عز وجل؛ ولهذا استدل الله عز وجل على بطلان ألوهية الأصنام؛ لأنها ناقصة، فقال سبحانه وتعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (6018) ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
«شرح القواعد المثلى» للشيخ ابن عثيمين (ص 102، 103).
(3)
«بدائع الفوائد» (1/ 177)، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م.
يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون} [الأحقاف: 5]، وقال تعالى:{والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون من أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل: 21، 20]، وقال إبراهيم يحاجُّ أباه:{يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} ، وقال محاجًّا لقومه:{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
فتبين أن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات وإلَّا لم يصح أن يكون ربًّا»
(1)
.
* * *
(1)
«شرح القواعد المثلى» للشيخ ابن عثيمين (ص 103، 104).
قال المصنف رحمه الله:
الشرح
أي: أن الفطرة السليمة أو النفوس المجبولة على الفطرة السليمة تحبُّ الله وتعظمه؛ لكماله، إذ إن المجهول لا يُحب ولا يُعظم، ومَن عُلم نَقصه لا يُحَب ولا يُعَظَّم؛ فالفطرة (التي هي: محبة الله وتعظيمه) مبنية على أصل، وهو: علم الإنسان فطريًّا بكمال صفات مَنْ يعبده سبحانه وتعالى
(1)
.
* * *
(1)
«شرح القواعد المثلى» للشيخ ابن عثيمين (ص 104).
قال المصنف رحمه الله:
«وإذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها، فهي ممتنعة في حق الله تعالى؛ كالموت، والجهل، والنسيان، والعَجز، والعَمى، والصمم، ونحوها؛ لقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}، وقوله عن موسى: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض}، وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: «إنَّه أعور، وإنَّ ربكم ليس بأعور» ، وقال:«أيُّها الناس، اربعُوا على أنفسِكم؛ فإنَّكم لا تَدعون أصمَّ ولا غائبًا» .
وقد عاقب الله- تعالى- الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، وقوله:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
ونزَّه نفسه عما يَصِفُونه به من النقائص، فقال سبحانه:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}».
* * *
الشرح
قال ابن القيم: «فله مِنْ كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده عن شائبة عيب أو نقص. فله مِنْ صفة الإدراكات: العليم الخبير، دون العاقل الفقيه. والسميع البصير، دون السامع والباصر والناظر
…
»
(1)
.
فقول أهل السنة في الصفات مبنيٌّ على أصلين:
أحدهما: أنَّ الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا؛ كالسِّنَة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يُماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات»
(2)
.
ومن النصوص التي توضح ذلك ما يلي:
أ- قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ؛ ففي مقام النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وفي مقام الإثبات:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
ب- قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ؛ ففي مقام الإثبات: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ} ؛ وفي مقام النفي: {الَّذِي لا يَمُوتُ} .
ج- قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ؛ ففي مقام الإثبات: {اللَّهُ} ، و {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وفي مقام النفي:{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، و {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} .
وأما من السنة، ففي مقام الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم:«يَنزل ربُّنا عز وجل حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا»
(3)
.
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 168).
(2)
«منهاج السنة» (2/ 523).
(3)
متفق عليه: أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله عز وجل الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: أن رحمتي غلبت غضبي»
(1)
.
وفي مقام النفي قوله صلى الله عليه وسلم: «ارْبَعُوا على أنفسكم
(2)
؛ فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا»
(3)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله تعالى ليس بأعور»
(4)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام»
(5)
.
وإثباتُ الصفة أو نفيُها مردُّه إلى وُرود ذلك نصًّا في القرآن أو السُّنَّة الصحيحة، إذ الصفاتُ توقيفية كالأسماء، ولذلك يقول السفاريني:«لا خلاف بين العقلاء أن الله- سبحانه وتعالى متصف بجميع صفات الكمال، منزه عن جميع صفات النقص، لكنهم مع اتفاقهم على ذلك اختلفوا في الكمال والنقص؛ فتراهم يُثبت أحدهم لله ما يظنُّه كمالًا، وينفي الآخرُ عينَ ما أثبته هذا لظنِّه نقصًا، وسبب ذلك: أنهم سَلَّطوا الأفكار على ما لا سبيل إليه من طريق الفكر، فإن الله- تعالى- خلق العقول، وأعطاها قوة الفكر، وجعل لها حدًّا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدها ووفَّت النظر حقه، أصابت بإذن الله تعالى، وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها ووراء حدها الذي حدَّه الله لها، رَكِبَت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء، فلم يَثبت لها قدم، ولم ترتكن على أمر تطمئن إليه، فإن معرفة الله التي وراء طورها مما لا تستقل العقول بإدراكها من طريق الفكر وترتيب المقدمات، وإنما تدرك ذلك بنور النبوة وولاية المتابعة؛ فهو اختصاص إلهي يختص به الأنبياء وأهل وراثتهم مع حسن المتابعة، وتصفية القلب من وضر البدع والفكر من نزغات الفلسفة، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم»
(6)
.
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (7553)، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أي: ارفقوا بأنفسكم.
(3)
أخرجه البخاري (2992) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4)
متفق عليه: أخرجه البخاري (3057) ومسلم (2931) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5)
أخرجه مسلم (179) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(6)
«لوامع الأنوار البهية» للسفاريني، مؤسسة الخافقين، دمشق، الطبعة الثانية، 1402 هـ- 1982 م.
* * *
قال المصنف رحمه الله:
«وإذا كانت الصِّفة كمالًا في حال، ونقصًا في حال لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تُثْبَت له إثباتًا مطلقًا، ولا تُنْفَى عنه نفيًا مطلقًا، بل لا بد من التفصيل؛ فتجوز في الحال التي تكون كمالًا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا، وذلك كالمكر، والكَيد، والخداع، ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالًا إذا كانت في مقابلة مَنْ يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذٍ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بِمِثل فِعله، أو أشد، وتكون نقصًا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة مَنْ يُعاملونه ورسله بمثلها؛ كقوله تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، وقوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} ، وقوله:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، وقوله:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ، وقوله:{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} .
ولهذا لم يَذكر الله أنه خان مَنْ خانوه؛ فقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، فقال:{فأمكن منهم} ، ولم يقل: فخانهم. لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهى صفة ذم مطلقًا.
وبذا عُرف أن قول بعض العوام: (خان الله مَنْ يخون). منكر فاحش يجب النَّهي عنه».
* * *
الشرح
(1)
.
ومِن هنا يتبتن لك خطأ مَنْ أطلق عليه اسم الصانع والفاعل والمربي ونحوها؛ لأن اللفظ الذي أطلقه- سبحانه- على نفسه، وأخبر به عنها أتم من هذا، وأكمل وأجل شأنًا، فإنه يُوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها وأعلاها؛ فيوصف من الإرادة بأكملها، وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بإرادته
…
فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات، والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يُطلقه على نفسه، ما لم يكن مطابقًا لمعنى أسمائه وصفاته، وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها دون اللفظ، ولا سيما إذا كان مجملًا أو منقسمًا أو مما يمدح به غيره، فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيدًا
…
، بل وصف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها.
ومِن هنا يُعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه مِنْ كل فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا، وأدخله في أسمائه الحسنى؛ فاشتق منها: اسم الماكر، والمخادع، والفاتن، والمضل؛ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا
(2)
.
وقال الشيخ حافظ حكمي: «اعلم أنَّه قد ورد في القرآن أفعال أطلقها الله عز وجل على نفسه على سبيل الجزاء والعدل والمقابلة، وهي فيما سِيقت فيه مدحٌ وكمالٌ، لكن لا يجوز أن يُشتق له تعالى منها أسماء، ولا تُطلق عليه في غير ما سِيقت فيه من الآيات؛ كقوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} ، وقوله:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} ، وقوله تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} ، وقوله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، ونحو ذلك، فلا يجوز أن يُطلق على الله تعالى: مخادع، ماكر، ناسٍ، مُستهزئ، ونحو ذلك مما تعالى الله عنه، ولا يُقال: الله يَستهزئ ويُخادع ويَمكر ويَنسى على سبيل الإطلاق؛ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا)
(1)
.
(1)
«معارج القبول» (1/ 76).
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الثانية
بابُ الصفات أوسع من باب الأسماء:
وذلك لأنَّ كلَّ اسم مُتضمن لصفة، كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا مُنتهى لها، كما أنَّ أقواله لا مُنتهى لها؛ قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
ومن أمثلة ذلك: أنَّ مِنْ صفات الله تعالى: المَجيء، والإتيان، والأخذ، والإمساك، والبَطش، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تُحصى، كما قال تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} ، وقال:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} ، وقال:{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} ، وقال:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ} ، وقال:{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يَنْزِلُ ربُّنا إلى السَّماء الدُّنيا»
(1)
.
فنَصِفُ الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نُسَمِّيه بها، فلا نقول: إنَّ مِنْ أسمائه: الجائي، والآتي، والآخذ،
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والمُمسك، والباطش، والمُريد، والنَّازل، ونحو ذلك، وإن كنا نُخبر بذلك عنه ونَصِفُه به».
الشرح
باب الصفات أوسع من باب الأسماء، فاللهُ يوصف بصفات؛ كالكلام، والإرادة، والاستواء، والنزول، والضَّحك، ولا يُشتق له منها أسماء؛ لعدم اقتضائها المدح والثناء في حال إطلاقها؛ فلا يُسَمَّى بالمتكلم، والمُريد، والمستوي، والنازل، والضاحك؛ «فهذه الأسماء التي فيها عموم وإطلاق لما يُحمد ويذم لا تُوجد في أسماء الله الحسنى؛ لأنها لا تدل في حال إطلاقها على ما يحمد الرب به ويُمدح»
(1)
.
وفي المقابل هناك صفات ورد إطلاق الأسماء منها؛ كالعُلو، والعِلم، والرحمة والقدرة؛ لأنها في نفسها صفات مدح، والأسماء الدالة عليها أسماء مدح
(2)
؛ فمن أسمائه: العلي، والعليم، والرحيم، والقدير.
وإذا كان الاسم مشتقًّا من أفعاله القائمة به، فإن كان الفعل ورد مقيدًا فإنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدًا: أن يُشتق له منه اسم مطلق، كما غلط فيه بعض المتأخرين؛ فجعل من أسمائه الحُسنى:(المضل، الفاتن، الماكر) تعالى الله عن قوله؛ فإن هذه الأسماء لم يُطلق عليه سبحانه منها إلا أفعالًا مخصوصة معينة؛ فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المُطلقة، والله أعلم»
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «الفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالًا لم يَتَسَمَّ منها أسماء الفاعل؛ كـ (أراد، وشاء، وأحدث)، ولم يُسَمَّ بـ (المريد)، و (الفاعل)، و (المتمن) وغير ذلك من الأسماء التي أَطلق أفعالها على نفسه.
فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وقد أخطأ- أقبح خطإ- مَنْ اشتق له مِنْ كل فعل اسمًا، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف؛ فسَمَّاه (الماكر)، و (المخادع)، و (الفاتن)، و (الكائد)، ونحو ذلك»
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: «إنَّ الله تعالى لم يَصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقًا، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى، ومَن ظَنَّ مِنْ الجُهَّال المُصَنِّفين في شرح الأسماء الحسنى أنَّ مِنْ أسمائه تعالى (الماكر، المخادع، المستهزئ، الكائد) - فقد فاه بأمرٍ عظيم تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه، وغرَّ هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال؛ فاشتق له منها أسماء، وأسماؤه تعالى كلها حُسنى، فأدخلها في الأسماء الحسنى، وقرنها بـ (الرَّحيم، الودود، الحكيم، الكريم).
وهذا جهل عظيم؛ فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقًا، بل تُمدح في موضع وتُذم في موضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله تعالى مطلقًا، فلا يقال: إنه تعالى يَمكر ويخادع ويستهزئ ويَكيد، فكذلك بطريق الأَوْلَى لا يُشتق له منها أسماء يُسَمَّى بها، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى: المريد ولا المتكلم ولا الفاعل ولا الصانع؛ لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم، وإنما يُوصف بالأنواع المحمودة منها؛ كـ (الحليم والحكيم والعزيز والفَعَّال لما يريد)، فكيف يكون منها: الماكر والمخادع والمستهزئ.
ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى: الداعي، والآتي، والجائي، والذاهب، والقادم، والرائد، والنَّاسي، والقاسم، والساخط، والغضبان، واللاعن، إلى أضعاف ذلك مِنْ التي أطلق تعالى على نفسه أفعالها من القرآن، وهذا لا يقوله مسلمٌ ولا عاقل.
والمقصود: أنَّ الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا
(1)
«مدارج السالكين» (3/ 415).
على وجه الجزاء لِمَنْ فَعَل ذلك بغير حقٍّ، وقد علم أنَّ المجازاة على ذلك حَسَنة من المخلوق؛ فكيف مِنْ الخالق سبحانه وتعالى؟!»
(1)
.
ومِن هنا يتبين لك خطأ ما عَدَّه بعضهم- ومنهم ابنُ العربي المالكي في كتابه «أحكام القرآن» ؛ حيث سَمَّاه بـ (الفاعل والزَّارع)، فإن الفاعل والزارع إذا أُطلقا بدون متعلق ولا سياق يدل على وصف الكمال فيهما- فلا يفيدان مدحًا، أما في سياقها من الآيات التي ذُكرت فيها- فهي صفات كمال ومدح وتوحد، كما قال تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} الآيات، بخلاف ما إذا عُدَّت مجردة عن متعلقاتها وما سِيقت فيه.
وله أكبرُ مُصيبة أن عَدَّ في الأسماء الحسنى: (رابع ثلاثة)، و (سادس خمسة) مصرحًا قبل ذلك بقوله:«وفي سورة المجادلة: اسمان؛ فذكرهما» .
وهذا خطأ فاحشٌ؛ فإنَّ الآية لا تدل على ذلك ولا تقتضيه بوجهٍ لا منطوقًا ولا مفهومًا، فإن الله عز و جل قال:{ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} الآية، وأين في هذا السياق (رابع ثلاثة)، (سادس خمسة)؟! وكان حقه اللائق بمراده أن يقول: رابع كل ثلاثة في نجواهم وسادس كل خمسة كذلك؛ فإنه تعالى يعلم أفعالهم ويسمع أقوالهم، كما هو مفهوم من صدر الآية، ولكن لا يليق بهذا المعنى إلا سياق الآية والله أعلم»
(2)
.
* * *
(1)
«مختصر الصواعق» (2/ 34).
(2)
«معارج القبول» (1/ 76، 78).
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الثالثة
صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية:
فالثبوتية: ما أَثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نَقص فيها بوجهٍ من الوجوه؛ كالحياة، والعِلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنُّزول إلى السماء الدُّنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك.
فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به، بدليل السَّمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} ، فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته. والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله يتضمَّن: الإيمان بكلِّ ما جاء فيه من صفات الله، وكون محمد صلى الله عليه وسلم رسوله يتضمَّن: الإيمان بكل ما أخبر به عن مُرْسِله، وهو الله عز وجل.
وأما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وأصدق قِيلًا، وأحسن حديثًا من غيره، فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإنَّ التردد في الخبر إنَّما يتأتى حين يكون الخبر صادرًا ممن يجوز عليه الجهل أو الكذب أو العِيّ، بحيث لا يُفصح بما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حقِّ الله عز وجل، فوجب قبول خبره على ما أخبر به.
وهكذا نقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربِّه، وأصدقهم خبرًا، وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بيانًا؛ فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه.
والصفات السَّلبية: ما نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفاتُ نقص في حقه؛ كالموت، والنوم، والجهل، والنِّسيان، والعَجز، والتعب.
فيجب نفيُها عن الله تعالى لما سبق مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده لا لمجرد نفيه؛ لأن النفي ليس بكمال إلا أن يتضمَّن ما يدل على الكمال، وذلك لأنَّ النفي عدم، والعدم ليس بشيء فضلًا عن أن يكون كمالًا، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له فلا يكون كمالًا، كما لو قلت: الجدار لا يَظلم. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصًا، كما في قول الشاعر:
قُبَيلَةٌ لا يَغْدرون بذِمَّة
…
ولا يَظلمون الناسَ حبَّة خَرْدل
(1)
وقول الآخر:
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي حَسَب
…
ليسوا من الشَّرِّ في شيء وإن هانا
مثال ذلك: قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ، فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.
(1)
قبيلة: تصغير قبيلة، والمراد: أنهم ضعفاء، وأنهم أقل مِنْ أن يغدروا أو يظلموا. والبيت للنجاشي الحارثي: قيس بن عمرو بن مالك من بني حارث بن كعب. انظر: «سمط اللآلي في شرح أمالي القالي» ، بمعرفة: عبد العزيز الميمني (2/ 89).
مثال آخر: قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} نفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله.
مثال ثالث: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} ، فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته، ولهذا قال بعده:{إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} ؛ لأن العجز سببه: إمَّا الجهل بأسباب الإيجاد، وإمَّا قصور القدرة عنه، فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن لِيُعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.
وبهذا المثال علمنا أنَّ الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال».
الشرح
تنقسمُ الصِّفات باعتبار ورودها في النُّصوص إلى قسمين:
1 -
صفات ثبوتية. 2 - صفات سلبية (أي: منفية).
القسم الأول: الصفات الثبوتية:
وتعريفها: هي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والصفات الثبوتية كثيرة جدًّا؛ منها: العلم- والحياة- والعزة- والقدرة- والحكمة- والكبرياء- والقوة- والاستواء- والنزول- والمجيء، وغيرها.
وتنقسم الصفات من حيث أدلة ثبوتها إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الشرعية العقلية:
وضابطها: هي التي يشترك في إثباتها: الدليل الشرعي السَّمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة.
وهي أكثر صفات الرب تعالى، بل أغلب الصفات الثُّبوتية يشترك فيها الدَّليلان السَّمعي والعقلي
(1)
، وإن كان الأصل في ثبوتها الدليل الشرعي.
ومنها: (العلم، السَّمع، البصر، العلو، القدرة، الإرادة، الخلق، الحياة).
وسميت «شرعية عقلية» .
فشرعية: لأنَّ الشرع دلَّ عليها أو أرشد إليها.
وعقلية: لأنها تُعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تُعلم إلا بمجرد الخبر.
فإذا أخبر الله بالشييء ودل عليه بالدلالات العقلية- صار مدلولًا عليه بخبره، ومدلولًا عليه بدليل العقل الذي يُعلم به؛ فيصير ثابتًا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تُسَمَّى الدلالة الشرعية
(2)
.
القسم الثاني: الصفات الخبرية وتسمى النقلية والسمعية:
وضابطها: هي التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السمع والخبر عن الله أو عن رسوله الأمين عليه الصلاة والتَّسليم
(3)
.
ومنها: (الوجه- اليد- العين- الرِّضا- الفرح- الغضب- القَدَم- الاستواء- النزول- المجيء- الضحك).
وهي تنقسم إلى قسمين:
1 -
صفات ذاتيَّة؛ مثل: (الوجه- اليد- العين- القَدَم).
2 -
صفات فعلية؛ مثل: (النزول- الاستواء- الغضب- الفرح- الضحك).
(1)
«الصفات الإلهية في الكتاب والسنة في ضوء الإثبات والتنزيه» (ص 207).
(2)
«مجموع الفتاوى» (6/ 71، 72).
(3)
«الصفات الإلهية» (ص 207).
القسم الثاني: الصفات السلبية:
وتعريفها: هي ما نفاه الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والصفات المنفية كلها صفات نقص في حقه.
ومن أمثلتها: النَّوم- الموت- الجهل- النِّسيان- العجز- التعب- الظلم.
فيجب نفيُها عن الله عز وجل مع إثبات أنَّ الله موصوف بكمال ضدها.
فأهل السنة يجعلون الأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيها عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزونها، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.
(1)
.
ومجمل القول أن أهل السنة يعتقدون: أن باب الصفات كباب الأسماء يجب الاعتماد فيهما على ما جاء في الكتاب وما ثبت في السنة فقط.
وأن ما اتصف الله به من الصفات لا يُماثله فيها أحد من خلقه؛ فالله عز وجل قد أخبرنا بذلك بنص كتابه العزيز حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فإذا ورد النص بصفة من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة فيجب الإيمان بها، والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو مما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه
(1)
«رسالة في العقل والروح» (2/ 46، 47) لابن تيمية، (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية).
وبين صفات المخلوقين، فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المصدق بصفات الله التي تَمَدَّح بها أو أَثنى عليه بها نبيُّه صلى الله عليه وسلم: أن يكون مُعَظِّمًا لله جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه؛ لتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه؛ أخذًا بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(1)
.
فالعارفون به سبحانه وتعالى، والمصدقون لرسله، المُقِرُّون بكماله- يُثبتون لله جميع صفاته، وينفون عنه مشابهة المخلوقات؛ فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل؛ فمذهبهم حسنة بين سيئتين، وهُدًى بين ضلالتين.
وكذلك أهل السنة يُفَوِّضون علم كيفية اتصاف الباري عز وجل بتلك الصفات إليه جل وعلا؛ فلا علم للبشر بكيفية ذات الله تبارك وتعالى، «ولا تفسير كُنه شيء من صفات ربنا تعالى، كأن يقال: استوى على هيئة كذا، وكلُّ مَنْ تجرأ على شيء من ذلك فقوله من الغُلو في الدين والافتراء على الله عز وجل، واعتقاد ما لم يأذن به الله ولا يليق بجلاله وعظمته ولم ينطق به كتاب ولا سنة، ولو كان ذلك مطلوبًا من العِباد في الشريعة لبَيَّنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يَدَع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بَيَّنه ووضحه، والعِباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما علَّمهم كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، فليؤمن العبد بما علمه الله تعالى وليقف معه، وليمسك عما جهله ولْيَكِل معناه إلى عالمه»
(2)
.
* * *
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الرابعة
الصفات الثُّبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر.
ولهذا كانت الصفات الثُّبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السَّلبية كما هو معلوم.
أمَّا الصفات السلبية فلم تذكر غالبًا إلَّا في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
الثانية: نفي ما ادعاه في حقِّه الكاذبون، كما في قوله:{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} .
الثالثة: دفع توهُّم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعيَّن، كما في قوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ، وقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ».
الشرح
الصفات الثبوتية صفاتُ مدح وكمال، وهي الأكثر من الصفات السلبية، إذ معرفة الله قائمة على الصفات الإثبات، وأما الصفات السَّلبية فلا تراد لذاتها، وإنما لأنها تابعة للثبوتية ومكملة لها، وفي الحقيقة أن كلَّ تنزيهٍ مُدِح به الربُّ
ففيه إثباتٌ
(1)
.
وهنا تجدر الإشارة إلى أمور مهمة، وهي:
الأمر الأول: أنَّ معرفة الله ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع، ومقصوده: تكميل الإثبات
(2)
.
(3)
.
الأمر الثاني: أنَّ صفات التنزيه يجمعها معنيان:
الأول: نفي النقائص عنه، وذلك مِنْ لوازم إثبات صفات الكمال.
الثاني: إثبات أنَّه ليس كمثله شييء في صفات الكمال الثابتة له.
الأمر الثالث: الصفات السلبية تُذكر غالبًا في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله؛ كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
والثانية: نفي ما ادَّعاه في حقه الكاذبون؛ كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} .
والثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} .
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112) بتصرف.
(2)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112).
(3)
«شرح القصيدة النونية» للهراس (2/ 55).
الأمر الرابع: أنَّ الصفات السلبية إنما تكون كمالًا إذا تضمنت أمورًا وجودية
(1)
.
فلا يُوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورًا وجودية، وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه.
فينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال.
والعدم المحض ليس بشييء، وما ليس بشييء- فهو كما قيل: ليس بشييء؛ فضلًا عن أن يكون مدحًا وكمالًا.
لأنَّ النفي المَحض يُوصف به المعدوم والممتنع؛ والمعدوم والممتنع لا يُوصف بمدح ولا كمال.
ولهذا كان عامة ما يصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح؛ كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ؛ فنفي السِّنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام.
وكذلك قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها؛ بخلاف المخلوق القادر إذا كان يَقدر على الشييء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.
وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} ، فإن نفي العُزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ، فإن نفي مس اللغوب- الذي هو التعب والإعياء- دلَّ على كمال قدرته ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 144).
وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} - إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء، ولم يَنف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يرى مدح؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُؤي، كما أنه لا يحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلًا على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
وإذا تأملت ذلك وجدت كلَّ نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف به نفسه»
(1)
.
ثم إن النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه- فيه إساءة أدب مع الله سبحانه؛ فإنك لو قلت لسلطان: أنت لستَ بزبَّال ولا كسَّاح ولا حَجَّام ولا حائك؛ لأَدَّبَك على هذا الوصف وإن كنت صادقًا.
وإنما تكون مادحًا إذا أجملت النفي؛ فقلت: أنت لستَ مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجَل، فإن أَجملت في النفي أجملت في الأدب
(2)
.
فأهل الكلام المذموم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المُجمل؛ فيقولون: ليس بجسم ولا شَبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض .. إلى آخر تلك السُّلوب الكثيرة التي تَمُجُّها الأسماع، وتأنف مِنْ ذكرها النفوس، والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حقَّ قدره
(3)
.
الأمر الخامس: أن الرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مُفَصَّل ونفي مجمل.
(1)
«الرسالة التدمرية» (ص 21 - 23).
(2)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 108 - 110).
(3)
«الصفات الإلهية» (ص 202).
والمعطلة ناقضوهم؛ فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل.
فإنَّ الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله: أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه حكيم عزيز، غفور ودود، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليمًا، وتجلى للجبل فجعله دكًّا، وأنه أنزل على عبده الكتاب .. إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
وقال في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} .
وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا ولا كذا، فلا يَقرب من شيء ولا يَقرب منه شيء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يُشار إليه ولا يتعين، ولا هو مُباين للعالم ولا حالٌّ فيه، ولا داخله ولا خارجه .. إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تَنطبق إلا على المعدوم.
ثم قالوا في الإثبات: هو وجود مُطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية
(1)
.
وبذلك عكسوا منهج القرآن والسنة؛ فأكثروا مِنْ وصف الله تعالى بالأمور السلبية التي لم يَرد بها النص، وأفرطوا في ذلك إفراطًا عجيبًا، بينما أنكر بعضهم جميع الصفات الثبوتية، والبعض الآخر لم يُثبت سوى القليل منها.
الأمر السادس للتفريق بين الصفات السلبية التي ورد بها النص والصفات السلبية التي أحدثها المعطلة النفاة- نقول: إن الصفات السلبية التي ورد بها النص متضمنة لثبوت كمال الضد كما تقدم شرح ذلك.
(1)
«الصفدية» (1/ 116).
وأمَّا الصفات السلبية التي هي مِنْ نسج المعطلة واختراعهم- فلا تتضمن ثبوت كمال الضد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كل تنزيه مُدح به الرب ففيه إثبات، فلهذا كان قول:(سبحان الله) متضمنًا تنزيه الرب وتعظيمه، ففيه تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيه تعظيمه سبحانه وتعالى
(1)
.
فالذين لا يَصفونه إلا بالسُّلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا.
وكذلك مَنْ شاركهم في بعض ذلك؛ كالذين قالوا: لا يتكلم، ولا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يَستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا مجانب له.
إذ هذه الصفات يمكن أن يُوصف بها المعدوم، وليس هي صفة مُستلزمة صفة ثبوت.
فقولهم: إنه لا يتكلم، أو لا يَنزل، ليس في ذلك صفة مدح، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات
(2)
.
الأمر السابع: إن سلب النقائص والعيوب عن الله نوعان:
النوع الأول: سلب لمتصل.
«وضابطه: نفي كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كنفي الموت المنافي للحياة، والعجز المنافي للقدرة، والسِّنة والنوم المنافي لكمال القيومية، والظلم المنافي للعدل، والإكراه المنافي للاختيار، والذل المنافي للعزة
…
»، إلخ.
النوع الثاني: سلب لمنفصل.
(1)
«مجموع الفتاوى» (17/ 112).
(2)
«الرسالة التدمرية» (ص 23).
وضابطه: تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد مِنْ خلقه في شييء من خصائصه التي لا تَنبغي إلا له.
وذلك كنفي الشريك له في ربوبيته؛ فإنَّه منفرد بتمام الملك والقوة والتدبير.
وكنفي الشريك له في أُلوهيته، فهو وحده الذي يجب أن يُؤلهه الخلق، ويُفردوه بكل أنواع العبادة والتعظيم.
وكنفي الشريك له في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فليس لغيره من المخلوقين شِركة معه سبحانه في شيء منها.
وكذلك نفي الظَّهير الذي يُظاهره أو يعاونه في خلق شيء أو تدبيره؛ لكمال قدرته وسَعة علمه ونفوذ مشيئته، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة إلا بالله؛ فالشريك والظهير مَنفيان عنه بإطلاق.
وكذلك ينفى عنه سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نَسَبه إليه النصارى عابدو الصُّلبان، والصابئة الذين يقولون: إن الملائكة بنات الله؛ قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ}
(1)
.
(1)
انظر: «شرح القصيدة النونية» للهراس (2/ 56 - 58).
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الخامسة
الصِّفات الثُّبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية. وفعلية:
فالذاتية: هي التي لم يَزل- ولا يزال- مُتَّصفًا بها؛ كالعلم والقدرة والسمع والبصر والعِزَّة والحكمة والعلو والعَظَمة. ومنها: الصفات الخبرية: كـ (الوجه واليدين والعينين).
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته؛ إن شاء فَعَلها وإن شاء لم يَفعلها؛ كـ (الاستواء على العرش، والنُّزول إلى السَّماء الدنيا).
وقد تكون الصفة ذاتية فِعلية باعتبارين كـ (الكلام)؛ فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل- ولا يزال- متكلِّمًا، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وكل صفة تعلَّقت بمشيئته تعالى، فإنها تابعة لحكمته. وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نَعجز عن إدراكها، لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئًا إلَّا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ».
الشرح
تنقسم الصفات الثُّبوتية من جهة تعلُّقِها بالله إلى قسمين
(1)
:
القسم الأول: الصفات الذَّاتية.
القسم الثاني: الصِّفات الفعلية.
وكِلا النوعين يجتمعان في أنَّهما صفات له تعالى أزلًا وأبدًا، لم يزل متصفًا بهما ماضيًا ومستقبلًا لائقان بجلال ربِّ العالمين
(2)
.
أمَّا القسم الأول: الصفات الذَّاتية- فضابطها: هي التي لا تنفكُّ عن الذَّات
(3)
. أو: التي لم يَزل- ولا يزال- الله متصفًا بها. أو: الملازمة لذات الله تعالى
(4)
.
ومنها: (الوجه- اليدين- العينين
(5)
- الأصابع- القَدَم- العِلم- الحياة- القدرة- العزة- الحكمة).
القسم الثاني: الصفات الفعلية، وضابطها: هي التي تنفكُّ عن الذَّات. أو: التي تتعلق بالمشيئة والقدرة
(6)
.
ومنها: (الاستواء- المجيء- الإتيان- النزول- الخلق- الرزق- الإحسان- العدل).
فالفرق بين القسمين:
أنَّ الصفات الذاتية لا تنفكُّ عن الذات، أمَّا الصفات الفعلية يمكن أن تنفك عن الذات على معنى: أنَّ الله إذا شاء لم يفعلها.
ولكن مع ذلك فإنَّ كلا النوعين يجتمعان في أنَّهما صفات لله تعالى أزلًا وأبدًا لم يزل- ولا يزال- متصفًا بهما ماضيًا ومستقبلًا لائقان
(1)
انظر: «الكواشف الجلية» (ص 429).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية» (127).
(3)
«الكواشف الجلية» (429).
(4)
«التعريفات» للجرجاني (ص 133).
(5)
«مجموع الفتاوى» (6/ 68).
(6)
«التعريفات» للجرجاني (ص 133).
بجلال الله عز وجل
(1)
.
وتنقسم الصفات الفعلية من جهة تعلقها بمتعلقها إلى قسمين:
متعدية: وهي ما تعدَّت لمفعولها بلا حرف جرٍّ؛ مثل: (خَلَقَ، ورَزَقَ، وهَدَى، وأَضَلَّ)، ونحوها.
لازمة: وهي ما تتعدى لمفعولها بحرف جر؛ كـ (الإستواء والمجيء والإتيان والنزول)، ونحوها.
وإنَّما قسمت كذلك نظرًا للاستعمال القرآني من جهة، ولكونها في اللغة كذلك
(2)
؛ قال ابن القيم: «فأفعاله نوعان: لازمة ومتعدية، كما دلَّت النصوص التي هي أكثر من أن تُحصر على النوعين»
(3)
(4)
.
فأثبت أهلُ السنة جميع الصفات؛ الذاتية- منها- والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلًا، وأنَّ الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القِدَم، وإن كانت المفعولات مُحدثة
(5)
.
ويمكن تقسيم الصفات الثبوتية كذلك إلى قسمين
(6)
:
القسم الأول: الصِّفات اللازمة.
(1)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 127).
(2)
«مجموع الفتاوى» (6/ 233)، (5/ 518)، «التنبيهات السنية» (ص 69).
(3)
«مختصر الصواعق» (2/ 229).
(4)
«مختصر الصواعق (2/ 254)، بتصرف يسير.
(5)
«مجموع الفتاوى» (6/ 149، 520، 525).
(6)
«درء تعارض العقل والنقل» (3/ 321 - 324).
وتعريفها: هي الصفات اللازمة للموصوف لا تُفارقه إلا بعدم ذاته.
أو بعبارة أخرى: هي الصفات التي لا تنفكُّ عن الذات.
وتنقسم إلى قسمين الصفات الذاتية
(1)
:
وهي التي لا يُمكن تصور الذات مع تصور عدمها.
ومنها: (الوجه- اليد- الأصبع- العين- القَدَم).
الصفات المعنوية: وهي ما يُمكن تصور الذات مع تصور عدمها.
ومنها: (الحياة- العلم- القدرة- العزة- العظمة- الكبرياء- الملك- الحكمة- السمع- البصر).
القسم الثاني: الصفات العارضة، أو الصفات الاختيارية:
وتعريفها: هي الصفات التي يُمكن مفارقتها له مع بقاء الذات. أو: الصفات التي تنفكُّ عن الذات. أو: الصفات التي تتعلق بالمشيئة والقدرة.
وهي إمَّا مِنْ باب الأفعال: كـ (الاستواء، والاتيان، والمجيء، والنزول).
وإمَّا من باب الأقوال والكلمات: (التَّكليم والنداء، والمناجاة، والقول).
وإمَّا من باب الأحوال: كـ (الفرح، والغضب، والرِّضا، والضحك)
(2)
.
فكلُّ ما كان بعد عدمه، فإنَّما يكون بمشيئة الله وقدرته، وهذا ضابط ما يدخل في الصفات الاختيارية
(3)
.
الصفات الاختيارية:
وضابطها: هي الأمور التي يتصف بها الربُّ عز وجل؛ فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته
(4)
.
والصفات الاختيارية أعمُّ من الصفات الفعلية؛ لأنها تشمل بعض
(1)
ليس المقصود بالذاتية ما يَلزم الذَّات؛ إذ الجميع لازم الذات.
(2)
«درء تعارض العقل والنقل» (4/ 23)، بتصرف.
(3)
«مجموع الفتاوى» (6/ 244)، بتصرف.
(4)
«مجموع الفتاوى» (6/ 217).
الصفات الذاتية التي لها تعلق بالمشيئة؛ مثل: (الكلام، السمع، البصر، الإرادة، المحبة، الرضا، الرحمة، الغضب، السخط).
كما أنها- أي: الصفات الاختيارية- تشمل الصفات الفعلية غير الذاتية.
مثل: (الخلق، الإحسان، العدل)، وهذه فعلية متعدية.
ومثل: (الاستواء، المجيء، الإتيان، النزول)، وهذه فعلية لازمة.
فالكلام (صفةُ ذاتٍ وفعلٍ)؛ فهو- سبحانه- يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته.
وكلُّ ما كان بعد عدمه- فإنَّما يكون بمشيئة الله وقدرته
(1)
، وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو مِنْ الصفات الاختيارية
(2)
، والصفات الصادرة عن الأفعال موصوف بها في القِدَم، ولم تتغير ذاته من أفعاله، ولم يكتسب عن أفعاله صفات كمال، فهو- سبحانه- لم يزل كريمًا خالقًا.
ومِن معتقد أهل السنة والجماعة إثباتُ قيام جميع هذه الصِّفات بذاته سبحانه وتعالى.
* * *
(1)
«مجموع الفتاوى» (6/ 219).
(2)
«مجموع الفتاوى» (6/ 244).
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة السادسة
يلزم في إثبات الصِّفات التَّخَلِّي عن محذورين عظيمين:
أحدهما: التمثيل. والثاني: التكييف.
فأمَّا التمثيل: فهو اعتقاد المُثْبت أنَّ ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين. وهذا اعتقاد باطلٌ بدليل السَّمع والعقل.
أمَّا السَّمع: فمنه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
وأمَّا العقل فَمِنْ وجوه:
الأول: أنَّه قد عُلم بالضرورة أنَّ بين الخالق والمخلوق تباينًا في الذات، وهذا يَستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات؛ لأنَّ صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المُتباينة في الذوات، فقوة البعير -مثلاً- غير قوة الذرَّة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان والحدوث، فظهور التباين بينها وبين الخالق أَجْلَى وأقوى.
الثاني: أن يقال: كيف يكون الرب الخالق الكامل من
جميع الوجوه مشابهًا في صفاته للمخلوق المَربوب النَّاقص المفتقر إلى مَنْ يُكَمِّله؟ وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق، فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصًا.
الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؛ فنشاهد أن للإنسان يدًا ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم. فهذه يَدٌ وهذه يَدٌ، وهذه قوة وهذه قوة، وبينهما تباين في الكيفية والوصف؛ فعُلِم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يَلزم منه الاتفاق في الحقيقة.
والتشبيه كالتمثيل، وقد يفرق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات، لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وأمَّا التكييف: فهو أن يعتقد المُثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا، مِنْ غير أن يُقيدها بمماثل. وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.
أمَّا السمع: فمنه قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، وقوله:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا؛ لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قَفْوًا لما ليس لنا به علم وقولاً بما لا يُكننا الإحاطة به.
وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المُساوي له، أو بالخبر الصادق
عنه. وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله عز وجل، فوجب بطلان تكييفها.
وأيضًا فإننا نقول: أيُّ كيفية تقدرها لصفات الله تعالى؟
إن أيَّ كيفية تُقَدِّرها في ذهنك فالله أعظم وأجَلُّ مِنْ ذلك.
وأيَّ كيفية تُقَدِّرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذبًا فيها؛ لأنه لا عِلم لك بذلك.
وحينئذ يجب الكَفُّ عن التَّكييف تقديرًا بالجَنان، أو تقريرًا باللسان، أو تحريرًا بالبَنان.
ولهذا لما سُئل مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ أطرق رحمه الله برأسه حتى عَلَاه الرّحضاء (العرق)، ثم قال:«الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه» ، وروى عن شيخه ربيعة أيضًا:«الاستواء غير مجهول، والكيف غيرُ مَعقول» . وقد مشى أهلُ العلم بعدهما على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يَرد به الشرع- فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي؛ فوجب الكف عنه.
فالحذر الحذر من التَّكييف أو محاولته؛ فإنك إن فعلت وقعت في مَفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنَّه مِنْ نزغاته؛ فالجأ إلى ربك فإنه مَعاذك، وافعل ما
أمرك به فإنه طبيبك، قال الله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ».
الشرح
التمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق: أنَّها مِثل صفات المخلوقين.
وهو قول المُمَثِّل: له يدٌ كيدي وسَمع كسمعي. تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
والتمثيل والتَّشبيه بمعنى واحد، وإن كان هناك فرق بينهما في أصل اللغة
(1)
.
فالمماثلة: هي مُساواة الشيء لغيره من كل وجه.
والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره في أكثر الوجوه.
ولكن التعبير بنفي (التمثيل) أَوْلَى لموافقة لفظ القرآن في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله تعالى:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} .
والتكييف: هو جعل الشيء على حقيقة مُعَيَّنة من غير أن يُقَيِّدها بمماثل.
فالتكييف: ليس فيه تقيد بمماثل، وأما التمثيل فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين.
ولعل الصواب أن التكييف أعم من التمثيل؛ فكل تمثيل تكييف؛ لأن من مثل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كَيَّف تلك الصفة، أي: جعل لها حقيقة معينة مشاهدة.
وليس كل تكييف تمثيلًا؛ لأن مِنْ التكييف ما ليس فيه تمثيل بصفات المخلوقين؛ كقولهم: (طوله كعرضه).
وقد وقع في التمثيل والتكييف (المُشَبِّهة) الذين بالغوا في إثبات الصفات إلى درجة تشبيه الخالق بالمخلوق.
(1)
«القواعد المُثلى» (ص 27).
فعقيدتهم تقوم على دعواهم: أنَّ الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نَعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة؛ فتعمقوا في شأن كيفيات صفات الله وتقَوَّلوا على الله بغير علم، وشَبَّهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين؛ فقال قائلهم:(له بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي). تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
«وقد هدى الله أصحاب سواء السَّبيل للطريقة المُثلى؛ فأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات؛ فكان مذهبهم مذهبًا بين مذهبين وهديًا بين ضلالتين.
فقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف.
بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نُؤول ولا نُمَثِّل ولا نجهل.
ولا نقول: ليس له يدان، ولا وجه، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، ولا قدرة، ولا استوى على عرشه.
ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوقين، ووجه كوجوههم وسمع وبصر وحياة وقدرة واستواء، كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم.
بل نقول: له ذات حقيقة ليست كذوات المخلوقين.
وله صفات حقيقة ليست كصفات المخلوقين.
وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى، ويديه، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستوائه.
ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك مَنْ أثبت لله شيئًا من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها، فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما، فهكذا سائر الصفات المقدسة، يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا
إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يُكَلِّف العباد ذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا»
(1)
.
فالعارفون به المصدقون لرسله المقرون بكماله يثبتون لله جميع صفاته، وينفون عنه مشابهة المخلوقات؛ فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، ويُفوضون علم كيفية اتصاف الباري عز وجل بتلك الصفات إليه سبحانه وتعالى، فلا عِلم للبشر بكيفية ذات الله تبارك وتعالى، «ولا تفسير كنه شيء من صفات ربنا تعالى؛ كأن يقال: استوى على هيئة كذا، وكل مَنْ تجرأ على شيء من ذلك فقوله مِنْ الغلو في الدين والافتراء على الله عز وجل، واعتقاد ما لم يَأذن به الله، ولا يليق بجلاله وعظمته، ولم ينطق به كتاب ولا سُنَّة، ولو كان ذلك مطلوبًا من العباد في الشريعة لبَيَّنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يَدَع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بَيَّنه ووضَّحه، والعباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما عَلَّمهم، كما قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، فليؤمن العبد بما عَلَّمه الله تعالى وليقف معه، وليُمسك عما جهله، وليكل معناه إلى عالمه»
(2)
.
ومعنى قول أهل السنة: (من غير تكييف)، أي: مِنْ غير كيف يعقله البشر، وليس المراد من قولهم:(من غير تكييف): أنهم ينفون الكيف مطلقًا، فإنَّ كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون عِلمهم بالكيف؛ إذ لا يَعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه
(3)
؛ لأنه تعالى أخبرنا عن الصفات، ولم يُخبرنا عن كيفيتها؛ فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قَفْوًا لما ليس لنا به علم، وقولًا بما لا يمكننا الإحاطة به.
وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: «الاستواء معلوم، والكيف
(1)
«الصواعق المرسلة» (2/ 425 - 427).
(2)
انظر: «معارج القبول» (1/ 326، 327).
(3)
«شرح العقيدة الواسطية» (ص 21).
مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» قاعدة ساروا عليها في هذا الباب.
أي: يؤمن السلف بأسماء الله وصفاته وبما دلت عليه من المعاني والأحكام، أما كيفيتها فيُفَوِّضون علمها إلى الله.
وهم برآء مما اتهمهم به المعطلة الذين زعموا أن السلف يؤمنون بألفاظ نصوص الأسماء والصفات، ويُفَوِّضون معانيها.
وهذا الزعم جهل على السلف؛ فإنهم كانوا أعظم الناس فهما وتدبرًا لآيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة فيما يتعلق بمعرفة الله تعالى، فكانوا يدرون معاني ما يقرءون ويحملون من العلم، ولكنهم لم يكونوا يتكلفون الفهم للغيب المحجوب، فلم يكونوا يخوضون في كيفيات الصفات شأن أهل الكلام والبدع، فإنهم حين خاضوا في ذات الله وصفاته وقعوا في التأويل والتعطيل، وإنما ألجأهم إلى ذلك الضيق الذي دخل عليهم بسبب التشبيه؛ فأرادوا الفرار منه فوقعوا في التعطيل، ولم يقع تعطيلٌ إلا بتشبيه، ولو أنهم نَزَّهوا الله تعالى ابتداء عن مُشابهة الخلق، وأثبتوا الصفة مع نفي المماثلة؛ لسَلِموا ونَجوا، ولوافقوا اعتقاد السلف ولبان لهم أنَّ السلف لم يَكونوا حملةَ أسفار لا يَدرون ما فيها.
ومَن تدبر كلام أئمة السلف المشاهير في هذا الباب: عَلم أنَّهم كانوا أدق الناس نظرًا، وأعلم الناس في هذا الباب، وأن الذين خالفوهم لم يَفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، ولذلك صار أولئك الذين خالفوا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .
ومن له اطلاع على أقوال الأسف المدونة في كتب العقيدة والتفسير والحديث عند الحديث عن نصوص الصفات يعلم أن السلف تكلموا في معاني الصفات وبينوها ولم يسكتوا عنها، وهذه الأقوال هي أكبر شاهد على فهم السلف لمعاني الصفات وإيمانهم بها.
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة السَّابعة
صفات الله تعالى تَوْقيفيَّة لا مجال للعقل فيها:
فلا نُثبت لله تعالى من الصِّفات إلا ما دلَّ الكتاب والسُّنة على ثُبوته؛ قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «لا يُوصف الله إلا بما وَصَفَ به نفسَه، أو وَصَفَه به رسولُه، لا يتجاوز القرآن والحديث» . (انظر: القاعدة الخامسة في الأسماء).
ولدلالة الكتاب والسُّنَّة على ثبوت الصِّفة ثلاثة أوجه:
الأول: التَّصريح بالصفة، كالعِزَّة والقوة والرحمة والبطش والوجه واليدين، ونحوها.
الثاني: تضمُّن الاسم لها، مثل:(الغَفور) متضمن للمغفرة، و (السَّميع) متضمن للسَّمع، ونحو ذلك. (انظر: القاعدة الثالثة في الأسماء).
الثالث: التصريح بفعلٍ أو وصف دالٍّ عليها؛ كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين، الدَّال عليها- على الترتيب- قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«يَنزل ربُّنا إلى السَّماء الدُّنيا» ، الحديث.
وقول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ، وقوله:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} ».
الشرح
يجب الوقوفُ في هذا الباب على ما جاءت به نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة؛ فلا نُثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دلَّ الكتاب والسنة على ثبوته؛ قال الإمام أحمد: «لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتَجاوز القرآن والحديث»
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يُوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السَّابقون الأولون لا يُتَجاوز القرآن والحديث»
(2)
.
ولدلالة الكتاب والسُّنَّة على ثبوت الصفات ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: التَّصريح بالصفة؛ كالعِزَّة في قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أعوذُ بِعِزَّتك الذي لا إله إلا أنتَ»
(3)
.
والقوة في قوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} .
والرحمة في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} .
واليدين في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
والبَطش في قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: «إضافة الصِّفة إلى الموصوف كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ}، وفي حديث الاستخارة: «اللهم إنِّي أَستخيرك بعلمك، وأَستقدرك بِقُدرتك»
(4)
، وفي الحديث الآخر: «اللهم بعِلمك الغيب
(1)
«مجموع الفتاوى» (5/ 260).
(2)
«الفتوى الحموية» (ص 61).
(3)
أخرجه البخاري (4/ 194)، ومسلم (4/ 2086).
(4)
أخرجه البخاري في «صحيحه» ، كتاب (التهجد)، باب (ما جاء في التطوع مثنى مثنى)(ح 1162).
وقُدرتك على الخَلْقِ»
(1)
، فهذا في الإضافة الاسمية.
وأمَّا بصيغة الفعل فكقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، وقوله:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} .
أمَّا الخبر الذي هو جملة اسمية: فمثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 13، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
أو فعلية: كقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوه} .
أمَّا المفرد فلا بد فيه من:
1 -
إضافة الصفة لفظًا أو معنى؛ كقوله: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} ، وقوله:{هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} .
2 -
أو إضافة الموصوف؛ كقوله: {ذُو الْقُوَّة} »
(2)
.
الوجه الثاني: تضمُّن الاسم للصفة:
فمن الأمور المُتقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة: أنَّ أسماء الله الحسنى متضمنة للصفات؛ فكلُّ اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي دلَّ عليه الاسم الآخر.
فالعزيز متضمن لصفة العِزَّة، وهو مشتق منها.
والخالق متضمن لصفة الخلق، وهو مشتق منها.
والرحيم متضمن لصفة الرحمة، وهو مشتق منها.
فأسماء الله مشتقة من صفاته.
(1)
أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 81)(ح 1229)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 705)(ح 1923)، وصححه، ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وصححه الألباني في «المشكاة» (2497).
(2)
«مجموع الفتاوى» (6/ 144، 145).
وترجع أسماء الله الحسنى من حيث معانيها إلى أحد الأمور التالية:
1 -
إلى صفات معنوية: كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير.
2 -
ما يَرجع إلى أفعاله: كالخالق، والرازق، والبارئ، والمصور.
3 -
ما يرجع إلى التَّنزيه المحض، ولا بد من تضمنه ثبوتًا؛ إذ لا كمال في العدم المحض: كالقُدُّوس، والسَّلام، والأحد.
4 -
ما دل على جملة أوصاف عديدة ولم يختص بصفة معينة، بل هو دالٌّ على معنى مفرد؛ نحو: المجيد، العظيم، الصَّمد
(1)
.
الوجه الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها، أي: ما فيها معنى الصفة والفعل؛ مثل قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، وقوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} ، وقوله تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، وقوله تعالى:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} ، وقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَه} ، وقوله تعالى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، وقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} ، وقوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، وقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} ، وقوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} .
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 159، 160)، بتصرف.
قال المصنف رحمه الله:
«الفصل الثالث
قواعد في أدلة الأسماء والصفات
القاعدة الأولى
الأدلة التي تُثْبَتُ بها أسماء الله تعالى وصفاته:
هي كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم:
فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما.
وعلى هذا: فما ورد إثباتُه لله تعالى من ذلك في الكتاب والسُّنَّة وَجَبَ إثباتُه.
وما ورد نَفْيُه فيهما وَجَب نفيه مع إثبات كمال ضِدِّه.
وما لم يَرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التَّوقف في لفظه، فلا يُثبت ولا يُنفى؛ لعدم وُرود الإثبات والنَّفي فيه.
وأما معناه: فيفصل فيه؛ فإن أُريد به حقٌّ يَليق بالله تعالى فهو مَقبول، وإن أُريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وَجَبَ ردُّه.
فَمِمَّا ورد إثباته لله تعالى: كلُّ صفة دلَّ عليها اسم من أسماء الله تعالى دِلالة مطابقة، أو تضمُّن، أو التزام.
ومنه: كل صفة دلَّ عليها فعل من أفعاله؛ كالاستواء على العرش، والنزول إلى السَّماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم
القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تُحصى أنواعها؛ فضلًا عن أفرادها {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .
ومنه: الوجه والعينان واليدان ونحوها.
ومنه: الكلام والمَشيئة والإرادة بِقِسميها: الكوني والشَّرعي.
فالكونية: بمعنى المشيئة. والشَّرعية: بمعنى المحبة.
ومنه: الرِّضا والمحبة والغضب والكراهة ونحوها.
ومما ورد نفيُه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: (الموت، والنَّوم، والسِّنَة، والعجز، والإعياء، والظُّلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مَثيل أوكُفؤٌ)، أو نحو ذلك.
ومما لم يَرد إثباته ولا نَفيه لفظ: (الجهة)، فلو سأل سائل: هل نُثبت لله تعالى جهة؟ قلنا له: لفظ الجهة لم يَرد في الكتاب والسنة إثباتًا ولا نفيًا، ويُغني عنه ما ثَبت فيهما من أن الله تعالى في السَّماء. وأما معناه فإمَّا أن يُراد به جهة سفل أو جهة عُلو تحيط بالله، أو جهة علو لا تحيط به.
فالأول: باطل؛ لمنافاته لعلو الله تعالى الثَّابت بالكتاب والسُّنَّة والعقل والفِطرة والإجماع.
والثاني: باطل أيضًا؛ لأن الله تعالى أعظم مِنْ أن يُحيط به شيء من مخلوقاته.
والثالث: حقٌّ؛ لأنَّ الله تعالى العَلِي فوق خَلْقه ولا يُحيط به شيء من مخلوقاته.
ودليل هذه القاعدة السَّمع والعقل:
فأمَّا السمع: فمنه قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقوله:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، وقوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقوله:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ، وقوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، وقوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .
إلى غير ذلك من النُّصوص الدَّالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسُّنَّة.
وكل نصٍّ يدلُّ على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دالٌّ على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن: الأمر باتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم والرَّد إليه عند التنازع. والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته، وإلى سُنَّته بعد وفاته.
فأين الإيمانُ بالقرآن لمن استكبر عن اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟
وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يَرُد النِّزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟
وأين الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر به القرآن لمن لم يَقْبل ما جاء في سُنَّته؟
ولقد قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ} ، ومن المعلوم: أنَّ كثيرًا من أمور الشَّريعة العِلمية والعَمَلية جاء بيانُها بالسُّنَّة؛ فيكون بيانُها بالسنة مِنْ تِبيان القرآن.
وأما العقل فنقول: إنَّ تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل- فوجب الرجوعُ فيه إلى ما جاء في الكتاب والسُّنَّة.
الشرح
مجمل القول: إن في الأمر ثلاثة أبواب:
1 -
باب الأسماء: وهذا يجب الاعتماد فيه على الكتاب والسنة فقط.
2 -
باب الصِّفات: وهذا كذلك يجب الاعتماد فيه على الكتاب والسنة فقط.
3 -
باب الأخبار: وهذا لا يشترط فيه ورود النص الشرعي، ولكن يشترط أن يكون معنى اللفظ المستعمل ليس بِسَيِّئ.
أمَّا أهل التعطيل: فقد جعلوا (العقل) وحده هو أصل عِلمهم؛ فالشُّبه العقلية هي الأصول الكلية الأولية عندهم، وهي التي تُثبت وتنفي، ثم يعرضون الكتاب والسنة على تلك الشُّبه العقلية؛ فإن وافقتها قُبلت اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن عارضتها رُدَّت تلك النصوص الشرعية وطُرحت، وفي هذا يقول قائلهم:«كل ما ورد السمع به يُنظر، فإن كان العقل مجوِّزًا له وَجب التصديق به» .
وأمَّا ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يُتصور أن يَشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول.
وظواهرُ أحاديث التَّشبيه- يعني: بها أحاديثَ الصفات- أكثرها غير
صحيحة، والصَّحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل»
(1)
.
فهذا النَّقل يُبين لك مدى تقديم هؤلاء لشبههم العقلية وتعصبهم لها، وكيف أنهم يجعلونها هي الأصول والسمع معروضًا عليها؛ فما أجازته عقولهم قَبِلوه، وما لم تُجزه عقولهم شَكَّكوا فيه وانتقصوه، ومِن ثَمَّ سَعوا في تأويله وتحريفه، ومَن يلقي نظرةً على كتب الأشاعرة- مثلاً- يجد أنَّ القوم يقسمون أبواب العقيدة إلى:(إلهيات- ونبوَّات- وسمعيات)، وهم في باب (الإلهيات والنُّبوات) لا يَقبلون نصوص الكتاب والسنة، ولذلك لن تجد في هذين البابين إلا الشُّبه العقلية المركبة وفق القواعد المنطقية، ويا عجبًا؛ أنأخذ ديننا من كلام الله ورسوله، أم مِنْ ملاحدة اليونان وتلاميذهم؟!
وأمَّا باب (السمعيات) - أي: البعث والحشر والجنة والنار والوعد والوعيد- فهم يَقبلون فيه النصوص الشرعية، وبالتالي سموا هذا الباب بـ (السمعيات) في مقابل باب (الإلهيات والنبوات)؛ إذ إنهم يعتمدون فيهما على العقليات، وهؤلاء شابهوا حال مَنْ قال الله تعالى فيهم:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
وقد زلَّت في هذا الباب فِرَقٌ شتى، وقد أرجع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اختلافهم إلى قولين؛ فقال: «والناس متنازعون: هل يُسَمَّى الله بما صح معناه في اللغة والعقل والشرع وإن لم يَرد بإطلاقه نص ولا إجماع، أم لايُطلق إلا ما أطلق نصًّا أو إجماعًا، على قولين مشهورين:
(1)
«الاقتصاد في الاعتقاد» لأبي حامد الغزالي (ص 132، 133)، وقال في كتابه «المستصفى» (2/ 137، 138): «كل ما دلَّ العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال، إذ الأدلة العقلية يستعجل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليلٌ سمعي على خلاف العقل؛ فإمَّا أن لا يكون متواترًا فيُعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواترًا فيكون مؤولًا ولا يكون متعارضًا» .
1 -
فعامة النُّظَّار- أي: أهل الكلام- يُطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع؛ كلفظ (القَديم) و (الذات) ونحو ذلك.
2 -
ومِن الناس مَنْ يَفْصِل بين الأسماء التي يُدعى بها، وبَين ما يُخبر به عنه للحاجة؛ فهو- سبحانه- إنَّما يُدعى بالأسماء الحسنى، كما قال:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
وأمَّا إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم ولا موجود ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك. فقيل: بل هو سبحانه قديم موجود وهو ذات قائمة بنفسها. وقيل: ليس بشيء. فقيل: بل هو شيء. فهذا سائغ، وإن كان لا يُدعى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدلُّ على المدح»
(1)
.
فالذين خالفوا الحقَّ في هذا الباب هم بعض أهل الكلام، كما أشار لذلك شيخ الإسلام في النَّقل السابق، ومِن هؤلاء بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، وكذلك الكرَّامِيَّة.
أمَّا المعتزلة، فقد ذكر البغداديُّ أنَّ المعتزلة البَصرية أجازوا إطلاق الأسماء عليه بالقياس»
(2)
.
وقال أبو الحسن الأشعري: «واختلفت المعتزلة، هل يجوز أن يسمى البارئ عالمًا مِنْ استدل على أنه عالم بظهور أفعاله عليه، وإن لم يَأته السمع مِنْ قِبَل الله سبحانه؛ بأن يسميه بهذا الاسم أم لا، على مَقالتين:
فزعمت الفرقة الأولى منهم: أنه جائز أن يسمي الله سبحانه عالمًا قادرًا حيًّا سميعًا بصيرًا مَنْ استدل على معنى ذلك أنه يليق بالله وإن لم يأت به رسول.
وزعمت الفرقة الثانية: أنه لا يجوز أن يسمي الله سبحانه بهذه الأسماء
(1)
«رسالة في العقل والرُّوح» لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 46، 47)، (مطبوعة ضمن الرسائل المنيرية).
(2)
«الفَرق بين الفِرَق» (ص 337).
من دَلَّه العقلُ على معناها إلا أن يأتيه بذلك رسولٌ مِنْ قِبَل الله سبحانه يأمره بتسميته بهذه الأسماء»
(1)
.
2 -
وأما الأشاعرة، فإنَّ جمهورهم مع أهل السنة في كون أسماء الله توقيفية وكذلك الماتريدية، ولكن القاضي الباقلاني- من الأشاعرة- لا يَشترط التوقيف، واشترط أمرين هما:
1 -
أن يدل على مَعنى ثابت لله تعالى.
2 -
ألَّا يكون إطلاقه موهمًا لما لا يليق بالله تعالى
(2)
.
وتَوَقَّف الجُويني في هذه المسألة؛ فهو يَرى أنَّ الجواز وعدمه حكمان شرعيَّان لا سبيل إلى إطلاق أحدهما إلا بإذن الشرع، ولم يأت، ولذا قال بالتَّوَقُّف
(3)
.
قال السَّفَّاريني: «الجمهور منعوا إطلاق ما لم يَأذن به الشرع مطلقًا، وجَوَّزه المعتزلة مطلقًا، ومال إليه بعضُ الأشاعرة؛ كا لقاضي أبي بكر الباقلاني، وتوقَّف إمامُ الحرمين الجوينى .. »
(4)
.
غير أنَّ مُعتقد أهل السنة في الأسماء والصفات قد قام على أساس وجوب الإيمان بما وردت به نصوصُ القرآن والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته إثباتًا ونفيًا.
وهذا الأساس لابد فيه من مراعاة ما يلي:
أولاً: أنَّ طلب العلم في المطالب الإلهية إنما يكون عن طريق الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة.
فالذي يجب اعتقاده هو أنَّ معرفة هذا النوع من أنواع التوحيد تتوقف
(1)
«مقالات الإسلاميين» (ص 197).
(2)
«شرح المقاصد» للتفتازاني (4/ 344، 345).
(3)
«الإرشاد» (ص 136، 137).
(4)
«لوامع الأنوار البهية» (1/ 124).
على دراسة الكتاب والسُّنَّة؛ لأن هذا التوحيد يتطلب أسماء وصفات معينة، وهذه لا سبيل إلى معرفتها والحصول عليها إلا من طريق الكتاب والسنة؛ «فنحن نؤمن بالله تعالى وبما أخبر به عن نفسه سبحانه على ألسنة رسله من أسمائه الحسنى وصفاته العلى بلا تكييف ولا تمثيل، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه مما لا يليق بجلاله وعظمته؛ فإنَّه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأبين دليلاً من غيره»
(1)
، ولذلك كان معتقد أهل السنة هو الإيمان بما سمى ووصف الله به نفسه إثباتًا ونفيًا؛ لأنه لا يُسَمِّي اللهَ أعلم بالله من الله، قال تعالى:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} ، وقال تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ، وقال تعالى:{وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، وقال تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، فالله عز وجل هو الذي سَمَّى ووصف نفسه بما جاء في نصِّ كلامه الذي هو القرآن.
ولا يُسَمِّي ويَصف اللهَ بعد الله أعلمُ بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله في حقِّه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، ولقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصلاً على وجه ثلجت به الصدور واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، وفَصَّلت ذلك أعظم مِنْ تفصيل الأمر والنهي، وقَرَّرته أكمل تقرير في أبلغ لفظ، ولذلك كان لزامًا على كل مسلم أن يؤمن بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان.
ثانيًا: تقديم الشرع على العقل، فالأصل في الدين الاتباع والمعقول تَبع؛ فمعتقد أهل السنة في هذا الباب وفي غيره من أبواب العقائد والأحكام: أنَّ العقل المجرد ليس له إثبات شيء من العقائد والأحكام، وإنما المرجع في ذلك إلى القرآن والسنة.
فالعقل لا يُمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات؛
(1)
«معارج القبول» (1/ 330، 331).
فوجب الوقوف في ذلك على النص؛ لأن العقل يَقصر عن إدراك حقيقة المغيبات، حتى وإن كانت تلك المغيبات أقرب شيء إليه، فهو قاصر عن أن يُحيط علمًا بحقيقة رُوحه التي بين جَنْبَيْه؛ لمَّا أخفى الله أمرها عنه؛ قال تعالى:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ، فإذا كان الإنسان يجهل أمر رُوحِه، فكيف يحيط علمًا بذات الله وما يَصلح وما لا يَصلح لذاته من الأسماء والصفات، والله قد أخفى عن الخلق كيفيَّة ذاته؟!
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الثانية
الواجب في نصوص القرآن والسُّنَّة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف، لا سيما نصوص الصفات، حيث لا مجال للرأي فيها.
ودليل ذلك: السمع والعقل.
أمَّا السمع: فقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقوله:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وهذا يدلُّ على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
وقد ذمَّ الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبَيَّن أنهم بتحريفهم مِنْ أبعد الناس عن الإيمان؛ فقال:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الآية.
وأمَّا العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين، فوجب قبوله على ظاهره، وإلا لاختلفت الآراء وتفرَّقت الأمة.
الشرح
سبق أَنْ قرَّرنا أنَّ طريقة سلف الأمة وأئمتها: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل.
ولذلك فمن الواجب على كل مُكَلَّف أن يُجري نصوص القرآن والسُّنَّة على ظاهرها دون تحريف، لا سيما نصوص الصفات، حيث لا مجال للرأي فيها.
والتحريف لغة: التغيير والتبديل والإمالة. فهو في الأصل مأخوذ من قولهم: حَرفتُ الشيء عن وجهه: إذا أَمَلْتَه وغَيَّرته.
والتحريف شرعًا: الميلُ بالنُّصوص عما هي عليه؛ إمَّا بالطعن فيها، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها.
أو نقول بعبارة مختصرة: هو العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره
(1)
.
والتحريف في باب الأسماء والصفات: هو تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن مراد الله بها.
2 -
أنواع التحريف:
التحريف نوعان:
النوع الأول: تحريف اللفظ:
وتعريفه: هو العدول باللفظ عن جهته إلى غيرها، وله أربع صور:
1 -
الزيادة في اللفظ.
(1)
«الصواعق المرسلة» (1/ 215).
2 -
النُّقصان في اللفظ.
3 -
تغيير حركة إعرابية.
4 -
تغيير حركة غير إعرابية.
ومن أمثلة تحريف اللفظ:
المثال الأول: تحريف إعراب قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} من الرفع إلى النصب، وقال:«وَكَلَّمَ اللهَ» ، أي: موسى كلم اللهَ، ولم يُكَلِّمه اللهُ، ولما حرفها بعضُ الجهمية هذا التحريف قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تَصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ؛ فبُهِت المُحَرِّفُ.
مثال آخر: إنَّ بعض المعطلة سأل بعضَ أئمة العربية: هل يمكن أن يقرأ (العرش) بالرفع في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقصد بهذا التحريف: أن يكون الاستواء صفة للمخلوق لا للخالق
(1)
.
النوع الثاني: تحريف المعنى:
وتعريفه: هو صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ
(2)
.
أو نقول: هو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدرٍ ما مشترك بينهما.
وهذا النوع هو الذي جَالَ فيه أهلُ الكلام من المُعَطِّلة وصالوا وتوَسَّعوا وسَمَّوْه تأويلًا، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يُعهد به استعمالٌ في اللغة
(3)
.
ومن أمثلة تحريف المعنى:
قول المعطلة في معنى {استوى} : (استولى)، وذلك كما في قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
(1)
«الصواعق المرسلة» (1/ 218).
(2)
«الصواعق المرسلة» (1/ 201).
(3)
«مختصر الصواعق» (2/ 147).
وفي معنى اليد في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} : النعمة والقدرة.
وفي معنى المجيء في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} : وجاء أمر ربك. وأشباه ذلك.
وقد ذَكر الله التحريف وذَمَّه حيث ذكره، وهو مأخوذ في الأصل عن اليهود؛ فهم الراسخون فيه، وهم شيوخ المُحَرِّفين وسلفهم، فإنهم حرفوا كثيرًا من ألفاظ التوراة، وما غُلِبوا عن تحريف لفظه حَرَّفوا معناه، و لهذا ذمَّ الله تعالى اليهود- دون غيرهم من الأمم- على تحريفهم، وبَيَّن أنهم بتحريفهم مِنْ أبعد الناس عن الإيمان؛ فقال:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الآية.
وقد درج على آثارهم الرَّافضة، فهم أشبه بهم من القذة بالقذة، وكذلك الجهمية، فإنهم سلكوا في تحريف النصوص مسالك إخوانهم في اليهود
(1)
.
وأصحاب تحريف الألفاظ شَرٌّ مِنْ أصحاب تحريف المعنى من وجه.
وأصحاب تحريف المعنى شَرٌّ من أصحاب تحريف اللفظ من وجه.
فأصحاب تحريف اللفظ عَدلوا باللفظ والمعنى جميعًا عما هما عليه؛ فأفسدوا اللفظ والمعنى، بينما أصحاب تحريف المعنى أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله؛ فكانوا خيرًا من أولئك من هذا الوجه.
فأصحاب تحريف اللفظ لما أرادوا المعنى الباطل حَرَّفوا له لفظًا يَصلح له؛ لئلا يتنافر اللفظ والمعنى، بحيث إذا أُطلق ذلك اللفظ المحرف فُهِم منه المعنى المحرف؛ فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء
(1)
«الصواعق المرسلة» (1/ 215، 216).
اللفظ على حاله مما لا سبيل إليه، فبدأوا بتحريف اللفظ؛ ليستقيم لهم حكمهم على المعنى الذي قصدوا
(1)
.
وأما كون أصحاب تحريف المعنى شرًّا من أصحاب تحريف اللفظ من وجه، فلأن تحريف المعنى هو الأكثر استعمالًا عند أصحاب التحريف، ولأنه أسهل رَوَاجًا وسوقًا عند الجهلة والعوام من الناس، فيَفتتن به مَنْ ليس لديه زادٌ من العلم الصحيح المعتمد على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة.
فالسلف يعتقدون أن الواجب في نصوص القرآن والسنة بما في ذلك نصوص الأسماء والصفات هو إجراؤها على ظاهرها، وذلك بأن تُفهم وَفق ما يقتضيه اللسان العربي، وأن لا يُتعرض لها بتحريف أو تعطيل كما فعل المعطلة، الذين تلاعبوا بظواهر النصوص لمجرد أنَّها خالفت باطلهم ومناهجهم الفاسدة
(2)
.
فنصوص الصفات ألفاظ شرعية يجب أن تُحفظ لها حُرمتها، وذلك بأن نفهمها وَفق مراد الشارع؛ فلا نتلاعب بمعانيها لنصرفها عن مراد الشارع.
فمن الأصول الكلية عند السلف أن الألفاظ الشرعية لها حرمتها، ومِن تمام العلم أن يُبحث عن مراد الله ورسوله بها ليُثبت ما أثبته الله ورسوله من المعاني، ويُنفى ما نفاه الله ورسوله من المعاني
(3)
.
وبحمد الله وفضله نجد أن نصوص الصفات الواردة في القرآن والسنة هي من الوضوح والكثرة بمكان، بحيث يستحيل تأويلها والتلاعب بنصوصها، فلقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصَّلاً على وجهٍ أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل به العلم اليقيني، ورفع الشك والريب؛ فثلجت به الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، فلقد فَصَّلت
(1)
«مختصر الصواعق» (2/ 147، 148).
(2)
«درء تعارض العقل والنقل» (2/ 301).
(3)
«مجموع الفتاوى» (12/ 113، 114) بتصرف.
رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الأسماء والصفات والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقَرَّرت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ.
فالمُطَّلع على نصوص القرآن والسنة الخبير بهما، لا يزيده تحريف المعطلة لتلك النصوص إلا احتقارًا لهم، ويقينًا بفساد معتقدهم وبطلانه.
ولا تَرُوج تحريفات المعطلة إلا على الجاهل بمعرفة تلك النصوص قليل البضاعة فيها، فهذا الصنف أُتِي مِنْ جهة جهله لا مِنْ قِلَّة النصوص الواردة في هذا الباب، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الثالثة
ظواهر نصوص الصِّفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر:
فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.
وقد دلَّ على ذلك السمع والعقل.
أمَّا السمع: فمنه قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ، وقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقوله جل ذكره:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
والتَّدبُّر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه؛ ليتذكر الإنسان بما فهمه منه.
وكون القرآن عربيًّا لِيعقله مَنْ يفهم العربية، يدل على أن معناه معلوم، وإلَّا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.
وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لَفْظه وبيان مَعْناه.
وأمَّا العقل: فلأنَّ من المُحال أن يُنَزِّل الله تعالى كتابًا، أو يتكلم رسولُه صلى الله عليه وسلم بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون
هِداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول المعنى بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يُفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
هذه دلالة السَّمع والعقل على عِلمنا بمعاني نصوص الصفات.
وأمَّا دلالتهما على جَهلنا لها باعتبار الكيفية فقد سبقت في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
وبهذا عُلِم بطلان مذهب المُفَوِّضَة الذين يُفَوِّضون علم معاني نصوص الصِّفات، ويَدَّعون أنَّ هذا مذهب السَّلف. والسَّلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحيانًا، وتفصيلًا أحيانًا، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه المعروف بـ «العقل والنقل» (ص 116، ج 1) المطبوع على هامش «منهاج السنة» : «وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن، وحَضَّنا على عَقْلِه وفَهْمِه، فكيف يجوز مع ذلك أن يُراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟!» ، إلى أن قال (ص 118):«وحينئذ فيكون ما وَصَفَ الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يَعلم الأنبياءُ معناه، بل يقولون كلامًا لا يَعقلون معناه» .
قال: «ومعلوم أنَّ هذا قدح في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هُدى وبيانًا للناس، وأمر الرسول أن
يُبَلغ البلاغ المبين، وأن يُبَيِّنْ للناس ما نُزِّل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الربُّ عن صفاته .. لا يَعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بَيَّنَ للناس ما نُزِّل إليهم، ولا بَلَّغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل مُلحد ومُبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النُّصوص ما يُناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة مُتشابهة، ولا يَعلم أحد معناها، وما لا يَعلم أحد معناه لا يجوز أن يُسْتَدَلَّ به؛ فيَبقى هذا الكلام سدًّا لباب الهُدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحًا لباب مَنْ يعارضهم، ويقول: إن الهُدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم ما نقول ونُبَيِّنه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يَعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يُبينوا مرادهم.
فتَبين أنَّ قول أهل التَّفويض الذين يزعمون أنهم مُتَّبعون للسُّنة والسلف من شرِّ أقوال أهل البدع والإلحاد». اهـ كلام الشيخ، وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد؛ رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنَّات النَّعيم».
الشرح
خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته، وهذا ما دل عليه القرآن، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فهذا ردٌّ على المُمَثِّلة المُشَبِّهة.
فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوقين فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق فهو نظير النصارى في كفرهم.
وكذلك من عَطَّل صفات الخالق توهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتًا في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يُوجد في الخارج لا يوجد مطلقًا كليًّا، بل لا يوجد إلا معينًا مختصًّا.
وهذه الأسماء إذا سُمي الله بها كان مسمَّاها مُعَيَّنًا مختصًّا به.
فإذا سُمِّي بها العبد كان مُسَمَّاها مختصًّا به.
فوجود الله وحياته لا يُشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق؟
وبهذا ومثله يتبين لك أنَّ المُشَبِّهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحقِّ فَضَلُّوا.
وأنَّ المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجهٍ من الوجوه، وزادوا فيه على الحق حتى ضَلُّوا.
وأنَّ كتاب الله دلَّ على الحقِّ المَحض الذي تعقلُه العقول السليمة الصحيحة، وهو الحقُّ المعتدل الذي لا انحرافَ فيه
(1)
.
وبعد إثباتنا لصفات الله تعالى علينا فقط أن نقطع الطمع عن إدراك كيفية اتصافه سبحانه بهذه الصفات، ويتم ذلك بما يلي:
أولاً: إن الله لم يُطلع الخلق على ذاته، ولم يُكَلِّفهم معرفة ذاته.
لم يشأ الله عز وجل أن يجعل للعباد مِنْ سبيل إلى معرفة كيفية وكُنه صفاته، فقد سَدَّ سبحانه الطرق الموصلة إلى ذلك، فهو مِنْ جهة لم يُطلع الخلق على ذاته، فهذا باب مَوصود إلى قيام الساعة كما جاء في الحديث:«تَعَلَّمُوا أنَّه لن يَرى أحد منكم ربَّه حتى عز وجل حتى يموت»
(2)
.
(1)
«شرح الطحاوية» (ص 104) بتصرف.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب (الفتن)، باب (ذكر ابن صياد)، حَدِيث (169).
ومِن جهة ثانية لم يخبرنا الله عز وجل بكيفية وكُنه صفاته في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وردت به النصوص إنما هو إثبات وجود لتلك الصفات لا إثبات كيفية.
ومن جهة ثالثة فإنَّ الله لم يُكلف العباد معرفة كيفية صفاته، ولم يتعبدهم بذلك ولا أراده منهم، بل قَصرهم على الإيمان بما أخبرهم به، فالواجب عليهم أن يؤمنوا الإيمان الصحيح بما كلفوا به، وأن لا يتجاوزوا حدود ذلك.
وقد ورد النص في وجوب قطع الطَّمع عن إدراك حقيقة كيفية صفات الله؛ فإدراك ذلك مستحيل، قال تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .
(1)
.
ولذلك على العقل أن ييأس مِنْ تعرُّف كُنه الصفات وكيفياتها لعجزه عن معرفة ذلك؛ لأنَّ الشيء لا تُعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العِلم بنظيره المُساوي له، أو بالخبر الصادق، وكل هذه الطرق مُنتفية في كيفية صفات الله، فوجب بطلان تكييفها.
(1)
وعِلم الإنسان محدود، كما أخبر الله بذلك؛ حيث قال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ، وقال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} .
وإذا كانت نفسُ الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه بل هي هويته- لا يَعرف الإنسانُ كيفيتها ولا يحيط علمًا بحقيقتها، فالخالق- جل جلاله أَوْلَى أن لا يَعلم العبد كيفيته ولا يحيط علمًا بحقيقته
(1)
.
وقد أدَّب الله عباده المؤمنين ووجَّههم بأن لا يخوضوا في أمور لا علم لهم بها، فقال:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل؛ لأنه تعالى أخبرنا عنها، ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قَفْوًا لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به، ومخالفة لما نهانا الله وحذرنا منه، وحَرَّمه علينا.
فيجب الكفُّ عن التكييف تقديرًا بالجنان، أو تقريرًا باللسان، أو تحريرًا بالبنان؛ لأن أيَّةَ كيفية تقدرها الأذهان فالله أعظم وأجَلُّ من ذلك، ثم هي في الوقت ذاته ستكون كذبًا؛ لأنه لا عِلم لقائلها بذلك.
ولهذا نقل أصحاب المقالات عن بعض المشبهة- الذين خاضوا في كيفية صفات الله- أنه قال في ربِّه في عام واحد خمسة أقاويل
(2)
، وصدق الله إذ قال في كتابه العزيز:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
(1)
«رسالة في العقل والروح» لابن تيمية (2/ 44)، مطبوعة ضمن مجموعة «الرسائل المنيرية» .
(2)
«مقالات الإسلاميين» (ص 33).
فعلى المُسلم أن يحذر من التكييف أو محاولته، فإنَّ مَنْ فعل ذلك فقد وقع في مَفاوز لا يستطيع الخلاص منها، فالخوض في ذلك هو مما يلقيه الشيطان في القلوب، وهو نزغة من نزغاته، فلذلك يجب على المؤمن أن يلجأ إلى ربِّه ويستعيذ به من نزغات الشيطان؛ قال تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
ولذلك معنى قول السلف: «بلا كيف» أي: بلا كيف يَعقله البشر، فليس المراد من قولهم:«بلا كيف» هو نفي الكيف مطلقًا، فإنَّ كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد هو نفي العلم بالكيف، إذ لا يَعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه
(1)
، فهذا مما استأثر الله بعلمه فلا سبيل إلى الوصول إليه، فكما أنَّ ذات الله لا يمكن للبشر معرفة كيفيتها، فكذلك صفاته سبحانه لا نعلم كيفيتها، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله فقيل له:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؛ كيف استوى؟ قال رحمه الله: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» . ثم قال للسائل: وما أراك إلا رجل سوء، وأمر بإخراجه من مجلسه.
وقد روى عن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن قوله: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول» ، أي: لا تَعقله العقول ولا تحيط به.
وهذا يقال في سائر الصفات، وقد مشى أهل العلم على هذا الميزان، واعتبروا ذلك قاعدة من قواعد الصفات.
فقول الإمام مالك: «الاستواء معلوم» : أي: معلوم المعنى في لغة العرب، فـ (استوى) هنا عُدِّيت بـ (على)، فهي هنا بمعنى: علا وارتفع، وهكذا الأمر في سائر نصوص الصفات، فإن معانيها معروفة في لغة العرب، وليست مجهولة.
(1)
«شرح العقيدة الواسطية» للهراس (ص 67، 68).
«والكيف مجهول» : أي: مع إثباتهم لمعنى الاستواء واعتقادهم بأن الله مستوٍ على عرشه ومرتفع عليه، إلا أنهم يَكِلُون علمَ كيفية ذلك الاستواء إلى الله عز وجل؛ لأنه مما استأثر الله بعلمه.
«والإيمان به واجب» : أي: الإيمان باستواء الله على عرشه حقيقة واجب؛ لوروده في النصوص الشرعية.
«والسؤال عنه بدعة» : أي: السؤال عن كيفية الاستواء؛ لأن السائل قال: كيف استوى؟
فعدم العلم بكيفية صفات الله لا يَقدح في الإيمان بتلك الصفات ومعرفة معانيها؛ لأن الكيفية وراء ذلك، فالسلف يُثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ويفهمون معاني تلك الصفات ويُفسرونها، فإذا أثبتوا لله السَّمع والبصر أثبتوهما حقيقية وفهموا معناهما، وهكذا سائر الصفات يجب أن تَجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كُنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يُكَلِّف العباد ذلك ولا أراده منهم ولم يجعل لهم إليه سبيلاً.
وكثير من المخلوقات لم يجعل الله للعباد سبيلاً إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فهذه أرواح الخلائق التي هي أدنى إليهم مِنْ كل دان قد حُجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، وقد أخبرنا الله عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ولم يَعرفوا كيفيته وكنهه، فلا يشكُّ المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمر وأنهارًا من عسل، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته؛ كما قال ابن عباس:«ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء» .
فكذا الأسماء والصفات لا يَمنع انتفاء نظيرها في الدنيا مِنْ فهم معانيها وحقائقها والإيمان بذلك واعتقاد اتصاف الله بها
(1)
.
فإيماننا صحيحٌ بحقِّ ما كُلِّفنا به وإن لم نَعرف حقيقة ماهيته وكيفيته، والله أعلم.
(1)
«مدارج السالكين» (3/ 358).
قال المصنف رحمه الله:
«القاعدة الرابعة
ظاهر النُّصوص ما يَتبادر منها إلى الذِّهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السِّياق، وما يُضاف إليه الكلام:
فالكلمة الواحدة يكون لها مَعْنى في سياق ومعنى آخر في سياق، وتركيب الكلام يُفيد مَعنى على وجه ومعنى آخر على وجه.
فلفظ (القرية) مثلًا يُراد به: القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.
فمن الأول قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} .
ومن الثاني: قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} .
وتقول: صنعتُ هذا بيدي. فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} ؛ لأن اليد في المثال أُضِيفت إلى المخلوق، فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق، أو بالعكس.
وتقول: ما عندك إلا زيدٌ، وما زيد إلَّا عندك. فتفيد الجملة الثانية مَعنى غير ما تُفيده الأولى، مع اتِّحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فتغيَّر المعنى به.
إذا تقرر هذا فظاهر نُصوص الصفات ما يَتبادر منها إلى الذهن من المعاني.
وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مَنْ جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقًّا يليق بالله عز وجل، وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السَّلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين لا يَصْدُقُ لقبُ أهل السنة والجماعة إلَّا عليهم.
وقد أجمعوا على ذلك، كما نقله ابن عبد البر فقال:«أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسُّنَّة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكَيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة» . اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب «إبطال التأويل» : «لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تُشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما رُوِيَ عن الإمام أحمد وسائر الأئمة» . اهـ نَقَلَ ذلك عن ابن عبد البر والقاضي شيخُ الإسلام ابن تيميه في «الفتوى الحموية» (ص 87 - 89، ج 5) من «مجموع الفتاوى» لابن القاسم.
وهذا هو المذهب الصحيح والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين:
الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسُّنَّة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته، كما يُعلم ذلك من تَتبعه بعِلم وإنصاف.
الثاني: أن يقال: إنَّ الحق إمَّا أن يكون فيما قاله السلف، أو فيما قاله غيرهم. والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحًا أو ظاهرًا، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحًا ولا ظاهرًا بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إمَّا جاهلين بالحق، وإمَّا عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدلُّ على بطلان الملزوم، فتعيَّن أن يكون الحقُّ فيما قاله السلف دون غيرهم.
القسم الثاني: مَنْ جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله، وهو التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة، ومذهبهم باطل، محرم من عدة أوجه:
الأول: أنه جناية على النُّصوص، وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
الثاني: أن العقل دلَّ على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يُحكم بدلالة النصوص على التَّشابه بينهما؟
الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المُشَبِّه من النصوص مُخالف لما فهمه السلف منها، فيكون باطلاً.
فإن قال المُشَبِّه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يُخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله.
فجوابه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ونهى عباده أن يضربوا له
الأمثال، أو يجعلوا له أندادًا فقال:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وكلامه تعالى كله حق، يُصَدِّق بعضه بعضًا ولا يتناقض.
ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتًا لا تُشبه الذوات؟ فسيقول: بلى. فيقال له: فلتعقل له صفات لا تُشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومَن فرق بينهما فقد تناقض.
ثالثها: أن يقال: ألست تُشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى. فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تَعقله بين الخالق والمخلوق، مع أنَّ التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق، كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
القسم الثالث: مَنْ جعلوا المعنى المُتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله، وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أَنكروا ما دلَّت عليه من المعنى اللائق بالله. وهم أهل التعطيل، سواء كان تعطيلهم عامًّا في الأسماء والصفات، أم خاصًّا فيهما، أو في أحدهما. فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عيَّنوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطرابًا كثيرًا، وسَمَّوا ذلك تأويلاً وهو في الحقيقة تحريف.
ومذهبهم باطل من وجوه:
أحدها: أنه جناية على النصوص، حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له.
الوجه الثاني: أنه صَرْفٌ لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره. والله تعالى خاطب الناس بلسان عربيٍ مبين؛ ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر؛ فوجب حملُ كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي، غير أنه يجب أن يُصان عن التكييف والتمثيل في حق الله عز وجل.
الوجه الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قولٌ على الله بلا علم، وهو مُحَرَّم لقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ، ولقوله سبحانه:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
فالصَّارف لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم، وقال على الله ما لا يَعلم من وجهين:
الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله تعالى ورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام.
الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام.
وإذا كان من المعلوم أنَّ تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قولٌ بلا علم، فما ظنُّك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟
مثال ذلك: قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} ، فإذا صرف الكلام عن ظاهره وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين، وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟ وما دليلك على ما أَثْبَتَّ؟ فإن أتى بدليل وأنَّى له ذلك، وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
الوجه الرابع في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنَّ صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلاً؛ لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.
الوجه الخامس: أن يُقال للمُعَطِّل: هل أنت أعلمُ بالله من نفسه؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر الله عز وجل به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم كلامًا أفصح وأبين من كلام الله تعالى؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل تَظن أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص؛ ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا.
هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.
أمَّا باعتبار ما جاء في السنة:
فيقال له: هل أنت أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟. فيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أَخبر به رسولُ الله عن اللهِ صِدق وحَقٌّ؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم أنَّ أحدًا من الناس أفصح كلامًا وأَبْيَن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل تعلم أنَّ أحدًا من الناس أَنصح لعباد الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.
فيُقال له: إذا كنت تُقِرُّ بذلك، فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأَثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك وصرفه إلى مَعنى يخالف ظاهره بغير علم؟
وماذا يضيرك إذا أثبتَّ لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتًا ونفيًا؟!
أفليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سُئلت يوم القيامة: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ؟
أَوَليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها وتعيين معنى آخر مُخاطرة منك؛ فلعل المراد يكون- على تقدير جواز صرفها- غير ما صرفتها إليه؟
الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
فمن هذه اللوازم:
أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موُهم لتشبيه الله تعالى
بخلقه، وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . قال نُعَيم بن حمَّاد الخزاعي أحد مشايخ البخاري رحمهما الله: «ومَن شَبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومَن جَحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهًا» . اهـ.
ومن المعلوم: أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهًا وكفرًا أو مُوهمًا لذلك.
ثانيًا: أن كتاب الله تعالى الذي أنزله تبيانًا لكل شيء وهدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ونورًا مبينًا، وفرقانًا بين الحق والباطل- لم يبين الله تعالى فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكولاً إلى عقولهم، يُثبتون لله ما يشاءون، وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين أو مُقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات، أو يمتنع عليه، أو يجوز. إذ لم يَرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله تعالى وسَمَّوه تأويلاً.
وحينئذ إمَّا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك، وعجزهم عن معرفته، أو مُقَصِّرين لعدم بيانهم للأمة. وكِلا الأمرين باطل.
رابعًا: أن كلامَ اللهِ ورسولِه ليس مرجعًا للناس فيما يعتقدونه
في ربهم وإلههم، الذي مَعرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع، بل هو زُبدة الرسالات. وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة، وما خالفها فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً إن لم يتمكنوا من تكذيبه.
خامسًا: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيقال في قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} : إنه لا يجيء. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربُّنا إلى السَّماء الدنيا» : إنه لا ينزل؛ لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم. وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره؛ لأنه ليس في السياق ما يدلُّ عليه.
ثم إنَّ من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء أيضًا. ومنهم مَنْ تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض؛ كالأشعرية والماتريدية، أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل يَنفيه أو لا يدل عليه.
فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه- يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه، كما هو ثابت بالدليل السمعي.
مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة.
أثبتوا صفة الإرادة؛ لدلالة السمع والعقل عليها.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .
وأمَّا العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف- دليل على الإرادة.
ونفوا الرحمة قالوا: لأنها تستلزم لين الرَّاحم، ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى.
وأَوَّلوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل، أو إرادة الفعل، ففسروا الرَّحيم بالمُنعم، أو مريد الإنعام.
فنقول لهم: الرَّحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عددًا وتنوعًا من أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، والصفة مثل:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} ، والفعل مثل:{وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} .
ويمكن إثباتها بالعقل، فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين- دالة على ثبوت الرحمة لله عز وجل، ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنَّه لا يظهر إلا لأفراد من الناس.
وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة. فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها، فيقال: الإرادة ميل المُريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة. وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك.
فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق. أمكن الجواب بمثله في الرحمة، بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق.
وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل؛ سواء كان تعطيلاً عامًّا أم خاصًّا.
وبه عُلم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شُبه المعتزلة والجهمية، وذلك من وجهين:
أحدهما: أنه طريق مُبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تُدفع بالبدعة، وإنما تدفع بالسُّنَّة.
الثاني: أن المعتزلة والجهمية يُمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقليًّا، وأَوَّلتم دليله السَّمعي، فلماذا تحرِّمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقليًّا، ونؤول دليله السمعي؟ فلنا عقول كما أنَّ لكم عقولاً، فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة؟ وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة؟ وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى.
وهذه حجة دامغة، وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مَدفع لذلك ولا محيص عنه، إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويُثبون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتًا لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيهًا لا تعطيل فيه ولا تحريف، ومَن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
تنبيه:
عُلم مما سبق أنَّ كل معطل ممثِّل، وكل ممثل معطل.
أمَّا تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله: فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، فمَثَّل أولاً، وعَطَّل ثانيًا، كما أنه بتعطيله مَثَّلَهُ بالناقص.
وأمَّا تمثيل الممثل فظاهر، وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه:
الأول: أنه عطَّل نفس النص الذي أثبت به الصِّفة، حيث جعله دالًّا على التمثيل، مع أنه لا دلالة فيه عليه، وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل.
الثاني: أنَّه عطل كل نص يدلُّ على نفي مماثلة الله لخلقه.
الثالث: أنه عطَّل الله تعالى عن كماله الواجب، حيث مَثَّله بالمخلوق الناقص».
الشرح
قال شارح «الطحاوية» : «اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله»
(1)
.
وقد يُشكل على البعض: أن الله قد سَمَّى نفسه بصفات وسَمَّى عباده بنظير ذلك؛ فيتردد عند ذلك: هل يُثبت تلك الصفات لله حقيقة أم لا؟
فَمِنْ أجل توضيح هذه المسألة أقول: اعلم- وَفَّقَك الله- أن الألفاظ منها:
1 -
ما هو مترادف: هو ما اختلف لفظه واتَّحد معناه؛ مثال ذلك: الليث- الأسد- أسامة- الغضنفر.
(1)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 26).
فهذه ألفاظ مختلفة والمسمى بها واحد؛ لذا تُسَمَّى الألفاظ المترادفة.
2 -
ما هو مشترك: وهو ما اتَّحد لفظه واختلف معناه؛ مثال ذلك: لفظ: (العين)؛ فهي تُطلق على (العين الباصرة- والعين الجارية- والجاسوس- والحسد).
فاللفظ واحد والمعاني مختلفة، وهذه تُسَمَّى الألفاظ المشتركة.
3 -
ما هو متباين: وهو ما اختلف لفظه ومعناه؛ مثال ذلك: (السماء والأرض- والجنة والنار).
فلكل لفظ من هذه الألفاظ معنى يختلف عن الآخر، فهذه تُسَمَّى الألفاظ المتباينة.
4 -
ما هو متواطئ: وهو ما اتفق لفظه ومعناه، وهو نوعان:
الأول: التواطؤ المُطلق: وذلك إذا كان المعنى متساويًا في الجميع؛ مثاله: لفظ (الرجل) يقال: زيد رجل وعمر رجل، فالمعنى متساو في الجميع.
الثاني: التواطؤ المشكِّك: وذلك إذا كان المعنى متفاوتًا متفاضلاً.
وسُمِّي بالمشكك؛ لتشكك السامع: هل هذا اللفظ مِنْ قبيل المتواطئ أم من المشترك؟
مثاله: لفظ (النور)؛ فيقال: (نور الشمس ونور السراج)، فالمعنى في الاثنين واحد، ولكن هناك تفاوت وتفاضل؛ فشتان بين نور الشمس ونور السِّراج
(1)
.
فالأسماء التي تُطلق على الله وعلى العباد هي من الألفاظ المتواطئة التواطؤ المشُكك؛ فالحق فيها هو أن يقال: إنه بالنسبة للأسماء والصفات التي تُطلق على الله وعلى العباد؛ كـ (الحي، والسميع، والبصير، والعليم، والقدير، والحياة، والسمع، والبصر، والعلم) ونحوها هي حقيقة في الرب وحقيقة في العبد.
(1)
«التحفة المهدية» (ص 209) بتصرف.
ولكن للرب تعالى منها ما يليق بجلاله.
وللعبد منها ما يَليق به.
وذلك لأن «الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول: اعتبار مِنْ حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد.
الاعتبار الثاني: اعتباره مضافًا إلى الربِّ مختصًّا به.
الاعتبار الثالث: اعتباره مضافًا إلى العبد مقيدًا به.
فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتًا للرب والعبد، وللرب منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به.
وهذا كاسم (السميع) الذي يلزمه إدراك المَسموعات.
و (البصير) الذي يلزمه رؤية المُبصرات.
و (العليم) و (القدير) وسائر الأسماء.
فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه الأسماء لذاتها؛ فإثباتها للرب تعالى لا محذور فيه بوجهٍ، بل يثبت له على وجهٍ لايماثله فيه خَلْقُه ولا يُشابههم.
فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق أَلْحَدَ في أسمائه وجَحَد صفات كماله، ومَن أثبته على وجهٍ لا يُماثل فيه خلقه به- كما يليق بجلاله وعظمته- فقد بَرِئ من فرث التَّشبيه ودم التعطيل، وهذا طريقُ أهل السنة.
وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيُه عن الله كما يلزم حياة العبد من النَّوم والسِّنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك، وكذلك ما يَلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به، وكذلك ما يلزم عُلوَّه من احتياجه إلى ما هو عال عليه وكونه محمولاً به، مفتقرًا إليه، محاطًا به، كل هذا يجب نفيه عن القُدُّوس السَّلَام تبارك وتعالى.
وما لزم الصفة من جهة اختصاصه تعالى بها فإنَّه لا يثبت للمخلوق بوجهٍ؛ كعلمه الذي يلزمه القِدَم والوجوب والإحاطة بكلِّ معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإنَّ ما يختص به منها لا يُمكن إثباته للمخلوق.
فإذا أحطت بهذه القاعدة خُبرًا وعَقَلْتَها كما ينبغي- خَلصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين:
1 -
آفة التعطيل. 2 - وآفة التشبيه.
فإنك إذا وَفَّيت هذا المقام حقَّه من التصور أَثْبَتَّ لله الأسماء الحسنى والصفات العُلى حقيقة؛ فخلصت من التعطيل، ونَفيت عنها خصائص المخلوقين ومُشابهتهم، فخلصت مِنْ التشبيه؛ فتدبر هذا الموضع واجعله جُنَّتك التي تَرجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصَّواب»
(1)
.
ومن كلام شيخ الإسلام في هذا الموضوع قوله: «سَمَّى الله نفسه بأسماء وسَمَّى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أُضيفت إليه لا يُشركه فيها غيره» .
وسَمَّى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم، تُوافق تلك الأسماء إذا قُطعت من الإضافة والتخصيص.
ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مُسَمَّاهما واتحاده- عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص- اتَّفاقُهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص؛ فضلاً عن أن يتحد مُسَمَّاهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سَمَّى الله نفسه حيًّا فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وسَمَّى بعض عباده حيًّا؛ فقال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} .
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 164 - 166).
وليس هذا الحي مثل هذا الحي؛ لأن قوله: (الحي) اسم لله مختص به، وقوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحيِّ المخلوق مختصٍّ به.
وإنما يتفقان إذا أُطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يَفهم من المطلق قدرًا مشتركًا بين المُسميين.
وعند الاختصاص: يُقَيَّد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق.
ولابد مِنْ هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يُفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وكذلك سَمَّى الله نفسه: {عَلِيمًا حَلِيمًا} ، وسَمَّى بعض عباده (عليمًا)؛ فقال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} يعني إسحاق، وسمى آخر (حليمًا)، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} ، يعني إسماعيل؛ وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم.
وسَمَّى نفسه (سميعًا بصيرًا)؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ، وسمى بعض عباده (سميعًا بصيرًا)؛ فقال:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإَنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير
…
وكذلك سَمَّى صفاتِه بأسماء، وسَمَّى صفات عباده بنظير ذلك، فقال:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، وقال:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} ، وسمى صفة المخلوق علمًا وقوة:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، وقال:{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَة}، وقال:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، وليس العليم كالعلم و لا القوة كالقوة.
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه؛ فذكر ذلك في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش.
ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه} ، وقوله:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} ، وقوله:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ، وليس الاستواء كالاستواء.
ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} ، ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود، فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم، ونظائر هذا كثيرة.
فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ماثلته لخلقه.
فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى- كان معطلاً جاحداً ممثلاً له بالمعدومات والجمادات.
ومَن قال: له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضاء كرضائي، أو يَدَان كيداي، أو استواء كاستوائي- كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات، بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل»
(1)
.
فأهل السنة يعتقدون أن ما اتصف الله به من الصفات لا يُماثله فيها أحد من خلقه، فالله عز وجل قد أخبرنا بذلك بنصِّ كتابه العزيز حيث قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فإذا ورد النص بصفة
(1)
«الرسالة التدمرية» (ص 8 - 12) بتصرف.
من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة- فيجب الإيمان به والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصفَ بالغٌ من غايات الكمال والشرف والعلو مما يَقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين؛ فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يَسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تُشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المُصَدِّق بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يكون معظِّمًا لله جل وعلا غير مُتنجس بأقذار التشبيه؛ لتكون أرضُ قلبِه طيبةً طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه أخذًا بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(1)
.
أمَّا أهل التعطيل: فإنَّهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات التي لا وجود لها إلا في أفهامهم الفاسدة.
فعقيدة هؤلاء المعطلة جمعت بين التمثيل والتعطيل، وهذا الشر إنَّما جاء من تنجس قلوبهم وتدنسها بأقذار التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه؛ كاستوائه على عرشه ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال.
فإن أول ما يخطر في أذهانهم أن هذه الصفة تشبه صفات الخلق؛ فيتلطخ القلب بأقذار التشبيه؛ فلم يقدر الله حقَّ قدره، ولم يُعَظِّم الله حقَّ عظمته؛ حيث سبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيكون أولاً نجَّس القلب بأقذار التشبيه، ثم دعاه ذلك إلى أن ينفي صفة الخالق جلَّ وعلا عنه بادِّعاء أنها تشبه صفات المخلوق، فيكون فيها أولاً مشبهًا، وثانيًا معطلاً ضالًّا ابتداءً وانتهاءً متهجمًا على ربِّ العالمين يَنفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق
(2)
.
(1)
انظر: «منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات» (ص 21، 22).
(2)
انظر: «منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات» (ص 19، 20).
وأمَّا عقيدة أهل التمثيل: فهي تقوم على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نَعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة؛ فشَبَّهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا: له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وأمَّا العارفون به، المُصدقون لرسله، المُقرون بكماله فهم يُثبتون لله جميع صفاته، ويَنفون عنه مشابهة المخلوقات، فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سَيئتين، وهدًى بين ضلالتين.
وخلاصة القول: أن عقيدة أهل السنة تتميز عن عقيدة المشبهة، بأن أهل السنة يُفَوِّضون علم كيفية اتصاف الباري عز وجل بتلك الصفات إلى الله عز وجل، فلا عِلم للبشر بكيفية ذات الله- تبارك وتعالى، «ولا تفسير كُنه شيء من صفات ربنا تعالى؛ كأن يقال: استوى على هيئة كذا.
وكل مَنْ تجرأ على شيء من ذلك فقوله من الغُلو في الدين والافتراء على الله عز وجل، واعتقاد ما لم يأذن به الله ولا يليق بجلاله وعظمته ولم ينطق به كتاب ولا سنة، ولو كان ذلك مطلوبًا من العباد في الشريعة لبَيَّنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يَدَع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بَيَّنه ووَضَّحه، والعباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما عَلَّمَهم، كما قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ؛ فليؤمن العبد بما عَلَّمه الله تعالى وليقف معه، وليُمسك عما جهله، وليكل معناه إلى عالمه»
(1)
.
وأمَّا المشبهة فقد تعمقوا في شأن كيفيات صفات الله وتَقَوَّلوا على الله بغير علم، فقالوا: له بصرٌ كبصري، ويدٌ كيدي،، وقَدَمٌ كقدمي، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
(1)
انظر: «معارج القبول» (1/ 326، 327).