المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المُقدِّمةُ الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمد، وعلى - الاستدلال في التفسير دراسة في منهج الطبري

[نايف الزهراني]

فهرس الكتاب

‌المُقدِّمةُ

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمد، وعلى آلِه وصحبِه، ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّينِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً أمّا بعد:

فلمّا كانَ علمُ التَّفسيرِ في المحلِّ الأعلى مِنْ العلومِ؛ إذْ شرفُ العلمِ بشرفِ المعلومِ، وكانَت مناهجُ النَّظرِ فيه، والاستدلالِ لمعانيه، مِنْ أجلِّ مباحثِ أصولِه، ومعاقدِ فُصولِه؛ إذْ عيارُ العلمِ في كلِّ علمٍ:«تَفهيمُ طُرقِ الفِكرِ والنَّظرِ»

(1)

= كانَت هذه الدِّراسةُ الجامعةُ بين: أجلِّ العلومِ: (علمِ التَّفسيرِ)، وأهمِّ المباحثِ في أبوابِ العلومِ:(منهجِ النَّظرِ والاستدلالِ).

وقد أدركَ العلماءُ مِنْ أوَّلِ تاريخِ هذا العلمِ، أنَّ علمَ التَّفسيرِ قائمٌ على نظريَّةٍ جليَّةٍ، وثوابتَ مُطَّردةٍ، كانَت حاضرةً ماثلةً في أقوالِ أئمَّتِه ومُصنَّفاتِهم، يُدركُ ذلك مَنْ طالعَ هذا العلمَ بسُكونِ طائرٍ، وخَفضِ جناحٍ، وليس أجلَّ مِنْ العلمِ إلا أن نعلمَ كيف كانَ عُلماؤُنا رحمهم الله يَبنون هذا العلمَ

(2)

، وإنَّ في مَكنونِ عباراتِهم، ومُخبّئاتِ كُتبِهم، ما

(1)

معيار العلم، للغزالي (ص: 59).

(2)

مدخلٌ إلى كتابَيْ عبد القاهر الجُرجاني (ص: 3، 4).

ص: 5

يستوجبُ قراءةً تأصيليّةً تُبرزُ ذلك الرِّباطَ الذي يشُدُّه، والنِّظامَ الذي سارَ عليه.

وفي سبيلِ ذلك قصدتُ إلى هذه الدِّراسةِ التي تبحثُ (أدلَّةَ المعاني في التَّفسيرِ)، وتُبرزُ (منهجَ الاستدلالِ بها) في تراثِ أئِمَّتِنا، إذْ لم تكُن تلك القضايا غائبةً فيما دوَّنوه في هذا العلمِ؛ فقد اجتهدَ علماءُ التَّفسيرِ في بيانِ معاني الآياتِ وتحقيقِها غايةَ الاجتهادِ، وعُنوا -في سبيلِ ذلك- بتحديدِ أدلَّةِ تلك المعاني، وطرائق الاستدلالِ بها على الصَّوابِ، وكثُرَ ذلك مِنهم كثرةً ظاهرةً؛ حتّى غدَت كُتبُ التَّفسيرِ ما بين اختيارٍ لمَعنىً، ودليلٍ على ذلك الاختيارِ، ولا يكادُ يخرجُ موضوعُها عن ذلك.

ومع انتشارِ تلك المباحثِ في كتبِ التَّفسيرِ نظريّةً وتطبيقاً، واشتراكِ أئمَّةِ المُفسّرين في منهجٍ عامٍّ يحتكمون إليه في ذلك؛ إلا أنّي لم أجِدْ كتابةً مُفردةً تُجلّي تلك الأدلَّةَ بلا التباسٍ، وتُحدِّدُ ذلك المنهجَ العامَّ في الاستدلالِ بها على المعاني، وتُبيّنُ فيه الأصولَ الضّابطةَ، والقواعدَ الحاكمةَ، والمُقدَّمَ مِنْ الأدلَّةِ والمُؤَخَّر، والمُعتبرَ مِنها وغيرَ المُعتبر.

وبذلك تتبيَّنُ القيمةُ العلميَّةُ لهذه الدِّراسةِ، والتي أرجو أن أوَفَّقَ لبحثِها مِنْ خلالِ كتابٍ مِنْ أجلِّ كتبِ التَّفسيرِ وأشهرِها، وأعظمِها أثراً في هذا العلمِ، وهو تفسيرُ:«جامعِ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآن» لأبي جعفرَ محمد بن جريرٍ الطَّبريّ (ت: 310) رحمه الله، والذي جمعَ فيه مؤَلِّفُه أقوالَ مفسِّري السَّلفِ بأسانيدِها، ودرسَ مُتُونَها دراسةً تفسيريَّةً نقديَّةً شاملةً؛ فميَّزَ الأقوالَ، وبيَّنها، ورجَّحَ ما اختارَه مِنها، مع ذكرِ وجهِ ترجيحِه، ومأخَذِ اختيارِه بالتَّفصيلِ والدَّليلِ، وصارَ هذا الاستدلالُ والتَّرجيحُ مِنْ أعظمِ ما يُميِّزُ هذا الكتابَ عن غيرِه.

ص: 6

وقد اشتهرَ في النّاسِ إمامةُ مؤلِّفِه، وتمَكُّنُه واجتهادُه في سائرِ العلومِ، فلا غروَ أن صارَ تفسيرُه أصلاً لعَامَّةِ مَنْ بعده؛ نقلاً، وشرحاً، وتهذيباً، واستدراكاً.

فمن ثَمَّ استعنتُ بالله تعالى، وبعد استخارةٍ واستشارةٍ وتأمُّلٍ، عزمتُ على دراسةٍ علميَّةٍ لهذا الموضوعِ تجمعُ بين:

• جلالةِ علمِ (الاستدلالِ) بين موضوعاتِ أصولِ التَّفسيرِ.

• ومكانةِ تفسيرِ «جامعِ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآن» بين كتبِ التَّفسيرِ.

• وإمامةِ مؤلِّفِه محمد بن جريرٍ الطَّبريِّ رحمه الله بين المفسِّرين.

وذلك تحت عُنوان:

‌منهجُ ابنِ جريرٍ الطَّبريِّ في الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ

وتتلخَّصُ أهدافُ هذه الدِّراسةِ في ما يأتي:

أولاً: إبرازُ بابٍ جليلٍ مِنْ أبوابِ أصولِ التَّفسيرِ هو: بابُ الاستدلالِ؛ وتحريرُ موضوعاتِه ومسائِلِه.

ثانياً: المشاركةُ في إظهارِ نوعٍ مهمٍّ مِنْ أنواعِ المعارفِ التَّفسيريَّةِ التي تميَّز بها ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه.

ثالثاً: تحديدُ منهجيَّةٍ علميَّةٍ معتبَرةٍ في الاستدلالِ على المعاني القرآنيَّةِ؛ تضبطُ أصولَه، وتبيّنُ معالمَه.

رابعاً: تمييزُ أنواعِ الأدلَّةِ على المعاني في التَّفسيرِ، وتحديدُ ما

ص: 7

يصحُّ مِنها وما لا يصحُّ، وما يُقَدَّم مِنها وما يؤخَّرُ، مع تعليل كُلِّ ذلك مِنْ خلالِ منهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) فيه.

خامساً: إيضاحُ مواضعَ الاستدلالِ في علمِ التَّفسيرِ، ومتى يُحتاجُ إليه، وبيانُ مناسبةِ الأدلَّةِ لأنواعِ المعلومات المُستَدَلِّ لها.

سادساً: تصنيفُ الأدلَّةِ على مراتبَ ومجموعاتٍ بحسبِ استعمالاتِها، وقوَّتِها وضعفِها.

سابعاً: تحديدُ وجوهِ الاستدلالاتِ المردودةِ؛ الباطلةِ والضَّعيفةِ؛ مِنْ خلالِ أقوالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) وتطبيقاتِه التَّفسيريَّةِ.

ثامناً: بيانُ الموقفِ السَّليمِ والخُطواتِ العلميَّةِ عند التَّعارضِ بين الأدلَّة، ومنهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في التَّرجيحِ بينها.

تاسعاً: تحريرُ أصولٍ للتَّفسيرِ مُستَفَادَةٍ مِنْ أقوالِ أئمَّةِ التَّفسيرِ وتطبيقاتِهم، وهذا أَوْلى طريقٍ يُسلَكُ لذلك، كما يُستعانُ في تحريرِ تلك الأصولِ بكتبِ العلومِ الأُخرى المُقاربةِ لهذا العلمِ في جُملةٍ مِنْ أبوابِها ومباحثِها؛ كعلمِ أصولِ الفقهِ، واللُّغةِ ونحوِها.

ومِن خلالِ الخُطَّةِ الآتيةِ أرجو أن يُحقِّقَ البحثُ تلك الأهدافَ السّابقةَ.

*‌

‌ خُطَّةُ البَحث:

يتكونُ البحثُ مِنْ مُقدِّمةٍ، وتمهيدٍ، وثلاثةِ أبوابٍ، وخاتمةٍ، وفهارسَ، على النَّحوِ الآتي:

ص: 8

• المُقدِّمةُ:

وتشتملُ على أهميَّةِ الموضوعِ، وأسبابِ اختيارِه، وخطَّةِ البحثِ، والمنهجِ المُتَّبعِ فيه.

• التَّمهيدُ: التَّعريفُ بمفرداتِ العُنوانِ.

ويشتملُ على مبحثَيْن:

o المبحثُ الأوَّلُ: التَّعريفُ بمفرداتِ البحثِ.

وفيه سِتَّةُ مَطَالِب:

المطلبُ الأوَّلُ: التَّعريفُ ب (المنهجِ).

المطلبُ الثّاني: التَّعريفُ ب (الاستدلالِ).

المطلبُ الثّالثُ: التَّعريفُ ب (التَّفسيرِ).

المطلبُ الرّابعُ: التَّعريفُ ب (ابنِ جريرٍ الطَّبريِّ).

المطلبُ الخامسُ: التَّعريفُ بتفسيرِ (جامعِ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآنِ).

المطلبُ السّادسُ: المرادُ ب (منهجِ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ على المعاني).

o المبحثُ الثّاني: «الاستدلالُ على المعاني» في علمِ التَّفسيرِ.

وفيه ثلاثةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: نشأةُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

المطلبُ الثّاني: مكانةُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

المطلبُ الثّالثُ: مصادرُ أدلَّةِ المعاني في التَّفسيرِ.

ص: 9

• البابُ الأوَّلُ: أدلَّةُ المعاني عند ابنِ جريرٍ في تفسيرِه.

ويشتملُ على فصلَيْن:

الفصلُ الأوَّلُ: عنايةُ ابنِ جريرٍ بالاستدلالِ على المعَاني في التَّفسيرِ.

وفيه ثلاثةُ مباحث:

o المبحثُ الأوَّلُ: أقسامُ المعاني القرآنيَّةِ. وهي على قسمين:

القسمُ الأوَّلُ: معاني المفردات.

القسمُ الثّاني: معاني التَّراكيب.

o المبحثُ الثّاني: أنواعُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ. وهي على ثلاثةِ أنواعٍ:

النَّوعُ الأوَّلُ: الاستدلالُ لإثباتِ المعاني وتصحيحِها.

النَّوعُ الثّاني: الاستدلالُ للتَّرجيحِ بين المعاني المقبولةِ.

النَّوعُ الثّالثُ: الاستدلالُ لنفي المعاني وإبطالِها.

o المبحثُ الثّالثُ: أثرُ منهجِ ابنِ جريرٍ النَّقديِّ في إبرازِ أدلَّةِ المعاني ووجوهِ الاستدلالِ بها في تفسيرِه.

الفصلُ الثّاني: تفصيلُ أَدِلَّة المعاني عند ابنِ جريرٍ في تفسيرِه.

وفيه مبحثان:

o المبحثُ الأوَّلُ: أصولُ أدِلَّةِ المعاني التَّفسيريَّةِ عند ابنِ جرير.

وفيه ثلاثةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: العباراتُ التي أورَدها ابنُ جريرٍ في التَّعبيرِ عن أصولِ أدلَّةِ المعاني.

ص: 10

المطلبُ الثّاني: الأصولُ الكُلِّيَّةُ لأدِلَّةِ المعاني عند ابنِ جريرٍ في تفسيرِه.

المطلبُ الثَّالثُ: المكانَةُ العلميَّةُ لأصولُ أدِلَّةِ المعاني التَّفسيريَّةِ.

o المبحثُ الثّاني: حصرُ الأدِلَّةِ المعتَبَرَةِ للمعاني التَّفسيريَّةِ عند ابنِ جريرٍ.

وفيه مطلبان:

المطلبُ الأوَّلُ: أنواعُ الأدلَّةِ النَّقليَّةِ.

المطلبُ الثّاني: أنواعُ الأدلَّةِ العقليَّةِ.

• البابُ الثّاني: بيانُ منهجِ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ على المعاني في تفسيرِه.

ويشتملُ على فصلَيْن:

الفصلُ الأوَّلُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ على المعَاني في تفسيرِه إجمالاً.

وفيه مبحثان:

o المبحثُ الأوَّلُ: قواعِدُ في منهجِ الاستدلالِ على المعاني عند ابنِ جريرٍ.

وهي اثنتا عشرَةَ قاعِدَة، على النَّحوِ الآتي:

القاعدةُ الأولى: غيرُ جائزٍ الكلامُ في كتابِ الله بغيرِ دَليلٍ.

القاعدةُ الثّانيةُ: كلُّ قولٍ لا بُرهانَ على صِحَّتِهِ واضِحٌ خَطَأُه.

القاعدةُ الثّالثةُ: كلُّ قولٍ لا دليلَ عليه فدعوى لا تتعذَّرُ على أحدٍ.

ص: 11

القاعدةُ الرّابعةُ: التَّوقُّفُ فيما لم يدلُّ على صِحَّتِه دليلٌ فلا يُقَالُ به.

القاعدةُ الخامسةُ: عدَمُ الاشتِغالِ بالاستِدلالِ على ما لا فائِدَةَ فيه مِنْ المعاني.

القاعدةُ السّادسةُ: ليسَ في القُرآنِ ما لا معنى له فلا يُستَدَلَّ عليه، ولا زيادَةَ فيه بلا معنى.

القاعدةُ السّابعةُ: غيرُ جائزٍ تصويبُ قولٍ وتضعيفُ آخرَ إلا بدَليلٍ.

القاعدةُ الثّامنةُ: الأحقُّ بإصابةِ الصَّوابِ في التَّفسيرِ الأصَحُّ برهاناً والأوضَحُ حُجَّةً.

القاعدةُ التّاسعةُ: الدَّليلُ الذي يتعيَّنُ الأخذُ به هو ما صَحَّت دلالتُه في نفسِه، وسَلِمَ من المُعارضِ الرّاجحِ.

القاعدةُ العاشرةُ: الدَّليلُ الواحِدُ كافٍ في الدَّلالَةِ، وبعضُ الأدِلَّةِ يُغني عن بعضٍ.

القاعدةُ الحاديَةَ عشرَةَ: ما ثَبَتَ بدليلٍ لا يُخرَجُ عنه إلا بدليلٍ.

القاعدةُ الثّانيَةَ عشرَةَ: الآراءُ الفاسِدةُ والتمويهاتُ الباطِلةُ أصلُ أدلَّةِ المُبتَدِعَة.

o المبحثُ الثّاني: مسائِلُ في منهجِ الاستدلالِ على المعاني عند ابنِ جريرٍ.

وهي عشرُ مسائِلَ على النَّحوِ الآتي:

أولاً: يعبِّرُ عن الاستدلالِ بالاستشهادِ، وعن الأدلَّةِ بالشواهدِ والحُجَجِ والعِلَلِ والأصولِ.

ص: 12

ثانياً: يَحصْرُ المعاني تمهيداً للاستدلالِ لها.

ثالثاً: يجتهدُ في استيعابِ أدلَّةِ الأقوالِ وإن لم يَختَرْها.

رابعاً: يُورِدُ أدلَّةً للأقوالِ لم يذكُرها أصحابُها.

خامساً: لم يَقتَصِر مِنْ الأدلَّةِ على نوعٍ دون آخَرَ، كما لم يُكثِر مِنْ الاستدلالِ بدليلٍ مؤثِراً له دون باقي الأدلَّةِ.

سادساً: يبدأُ بدليلِ اللُّغةِ، ثُمَّ دليلِ الشَّرعِ النَّقليِّ؛ مِنْ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ وأقوالِ السَّلف، ثُمَّ دليلِ السِّياقِ والنَّظائِرِ وغيرِها.

سابعاً: يكتفي -أحياناً- بذكرِ بعضِ الأدلَّةِ، ويُحيلُ في مواضِعَ على ما سبقَ بيانُه مِنها، أو ما سيأتي.

ثامناً: يدعُ المعاني الواضِحَةَ الظَّاهرَةَ بلا استدلالٍ.

تاسعاً: يذكرُ دليلَ المعنى مُباشرةً ويستغني به عن بيانِ المعنى.

عاشراً: عند الاستدلالِ للقولِ المُختارِ يعمَدُ إلى أوضَحِ الأدلَّةِ، وأكثرِها موافقةً للمقصودِ.

الفصلُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ بالأدلَّةِ النَّقليَّةِ على المعاني في تفسيرِه.

وفيه ثمانيةُ مباحث:

o المبحثُ الأوَّلُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ بالقرآنِ الكريمِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

ص: 13

المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالقرآنِ الكريمِ على المعاني.

المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالقرآنِ الكريمِ على المعاني.

المطلبُ الثّالثُ: أوجهُ الاستدلالِ بالقرآنِ الكريمِ على المعاني.

المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بالقرآنِ الكريمِ على المعاني ومسائِلُه.

o المبحثُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

المطلبُ الثّالثُ: أوجهُ الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني ومسائِلُه.

o المبحثُ الثّالثُ: منهجُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ على المعاني.

المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ على المعاني.

المطلبُ الثّالثُ: أوجهُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ على المعاني.

المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ على المعاني ومسائِلُه.

ص: 14

o المبحثُ الرّابعُ: منهجُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

المطلبُ الثّالثُ: أوجهُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني ومسائِلُه.

o المبحثُ الخامسُ: منهجُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

المطلبُ الثّالثُ: أوجهُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني ومسائِلُه.

o المبحثُ السّادس: منهجُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني. وفيه أربعةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني.

المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني.

المطلبُ الثّالثُ: أوجهُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني.

ص: 15

المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني ومسائِلُه.

o المبحثُ السّابعُ: منهجُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

المطلبُ الثّالثُ: أوجهُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني ومسائِلُه.

o المبحثُ الثّامنُ: منهجُ الاستدلالِ بالرواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالرواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالرواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

المطلبُ الثالثُ: أوجهُ الاستدلالِ بالرواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بالرواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني ومسائِلُه.

ص: 16

• البابُ الثّالثُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في ترتيبِ أدلَّةِ المعاني في تفسيرِه.

ويشتملُ على ثلاثةِ فصولٍ:

الفصلُ الأوَّلُ: تقسيمُ أدلَّةِ المعاني في التَّفسيرِ عند ابنِ جريرٍ.

وفيه ثلاثةُ مباحث:

o المبحثُ الأوَّلُ: أقسامُ الأدلَّةِ باعتبارِ صِحَّةِ الاستدلالِ بها.

o المبحثُ الثّاني: أقسامُ الأدلَّةِ باعتبارِ أصلِها ومصدرِها.

o المبحثُ الثّالثُ: أقسامُ الأدلَّةِ باعتبارِ قوَّةِ دلالتِها.

الفصلُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في ترتيبِ أدلَّةِ المعاني في تفسيرِه مِنْ حيث النَّظرُ والاعتبارُ.

وفيه مبحثان:

o المبحثُ الأوَّلُ: أهميَّةُ ترتيبِ أدلَّةِ المعاني مِنْ حيث النَّظرُ والاعتبارُ.

o المبحثُ الثّاني: ترتيبُ أدلَّةِ المعاني مِنْ حيث النَّظرُ والاعتبارُ عند ابنِ جريرٍ.

الفصلُ الثّالثُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الجمعِ والتَّرجيحِ بين الأدلَّةِ المُتعارضةِ للمعاني التَّفسيريَّةِ.

وفيه مبحثان:

o المبحثُ الأوَّلُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الجمعِ بين أدلَّةِ المعاني المُتعارضةِ.

ص: 17

o المبحثُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في التَّرجيحِ بين أدلَّةِ المعاني المُتعارضةِ.

وفيه مطلبان:

المطلبُ الأوَّلُ: متى يُصارُ إلى التَّرجيحِ؟

المطلبُ الثّاني: أنواعُ المُرجِّحاتِ التي استعملَها ابنُ جريرٍ عند التَّعارضِ.

المطلبُ الثّالثُ: خصائصُ المُرجِّحاتِ في التَّفسيرِ.

• الخاتمةُ:

وفيها أهمُّ نتائجِ البحثِ، مع التَّوصياتِ العلميَّةِ.

• الفهارسُ:

وتحتوي أنواعاً مِنْ الفهارسِ الفنِّيّةِ التي تتناسبُ مع طبيعةِ البحثِ، وتكشِفُ عن مضمونِه، وهي على النَّحوِ الآتي:

1.

فهرسُ الآياتِ.

2.

فهرسُ القراءاتِ.

3.

فهرسُ الأحاديثِ.

4.

فهرسُ القواعدِ والمسائلِ العلميَّةِ.

5.

فهرسُ المصادرِ والمراجعِ.

6.

فهرسُ المحتوياتِ.

ص: 18

*‌

‌ منهَجُ البَحث:

سلكتُ في جمعِ مادَّةِ البَحثِ وكتابتِه المَنهجَ الآتي:

أوَّلاً: كرَّرتُ قراءةَ تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) مرَّاتٍ؛ استخرجتُ فيها جميعَ المواضِعِ التي استدلَّ فيها على المعنى الذي يُصَحِّحُه أو يرُدُّه، وأفرَدتُ قراءةً خاصَّةً خالصةً لمُطابقةِ الأدلّةِ، وتنقيحِها، وتحريرِها.

ثانياً: جعلتُ الاختصارَ منهجاً مُتَّبعاً في الرِّسالةِ، فلا أطيلُ في تقريرِ المُقدِّماتِ، أو النَّقلِ عن الأئمَّةِ، أو التَّعليقِ على الأمثلةِ، إلا إن دعتِ الحاجةُ إلى شيءٍ مِنْ ذلك.

ثالثاً: لا يخفى على مُطالعٍ لتفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) أنَّ ممّا تميَّزَ به طولُ نَفَسِه في تقريرِ المُقدِّماتِ؛ حيثُ يطولُ الفاصلُ بين مُبتدأِ الكلامِ وآخرِه، وشرطِه وجوابِه. كما لا يخفى مثلُ ذلك أيضاً في شرحِ المعاني وتحريرِها، وتكرارِ الكلامِ لتمامِ الإيضاحِ.

وفي التَّعاملِ مع ذلك لم أُدخلْ حرفاً واحداً أتصرَّفُ به في نصٍّ مَنقولٍ، واستعضتُ عن التَّصرُّفِ في النَّقلِ بالإشارةِ إلى ما حُذفَ مِنْ الكلامِ اختصاراً بنُقطتَيْن مُتتاليَتَيْن:« .. » .

رابعاً: أكثرتُ مِنْ الأمثلةِ في إيضاحِ المسائلِ، وذكرتُ لتقريرِ كلِّ قضيَّةٍ مثالَيْن أو ثلاثةٍ في الغالبِ، مع الإشارةِ في الحاشيةِ -بما لا يزيدُ عن السَّطرِ- إلى مواضعَ أُخرى.

خامساً: اجتهدتُ في إخلاءِ الرِّسالةِ مِنْ التِّكرارِ، إلا ما اقتضَت الحاجةُ تكرارَه؛ لتعلُّقِه الظّاهرِ بكلِّ موضعٍ.

ص: 19

سادساً: لا أتوقَّفُ لمناقشةِ الأمثلةِ التي أذكرُها في تقريرِ المنهجِ؛ إذْ القَصدُ بيانُ منهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) مِنْ خلالِ تلك النُّقولِ، دون التَّعرُّضِ لما فيها مِنْ رأيٍ أو اجتهادٍ، فالمَقصودُ مُطلقُ المثالِ لا تقريرُ الأقوالِ، وقد كانَ العلماءُ يُنشدون:

والشَّأنُ لا يُعترضُ المثالُ

إذْ قد كفى الفَرضُ والاحتمالُ

(1)

سابعاً: أعتمدُ كلامَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في تقريرِ ضوابطِ الاستدلالِ بجميعِ الأدلَّةِ على المعاني ومسائلِه، ولا أتعدّاه إلى غيرِه إلا إن لم أجِدْ له نصّاً، أو كانَ كلامُ غيرِه أصرح.

ثامناً: أعتمدُ لتفسيرِ (جامعِ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآنِ) لابنِ جريرٍ الطَّبريِّ، طبعةَ دار هجر، القاهرة، ط 1، 1422، بتحقيقِ: د. عبد الله بن عبد المحسن التُّركي.

وأرجعُ عند الحاجةِ -مع بيان ذلك- إلى طبعتَيْ: مكتبة المعارف، ط 2، بتحقيقِ: محمود محمد شاكر. وطبعة: دار الفكر، بيروت، 1415، وهي مصورة عن طبعة مكتبة البابي الحلبي عام 1373، بتحقيق: مصطفى السّقّا، وآخرين.

تاسعاً: أخُصُّ الآياتِ القرآنيَّةِ بالرَّسمِ العثمانيِّ، وأجعلُها بين هذين القوسين {} .

عاشراً: أُخَرِّجُ الآياتِ في متنِ الرِّسالةِ بين هذين المعقوفين [] عقب ذكرِ الآيةِ مباشرةً، سواءً كانَت في نَصٍّ منقولٍ أو غيرِه.

(1)

مذكرة أصول الفقه، للشِّنقيطي (ص: 511 - 513).

ص: 20

إحدى عشر: أُثبِتُ القراءاتِ القرآنيَّةَ بالرَّسمِ الإملائيِّ بين هذين القوسين ().

اثنى عشر: أُبيِّنُ حالَ القراءاتِ الشّاذَّةِ، وأعزو كلَّ قراءةٍ إلى مَنْ قرأَ بها، ما عدا روايةِ حفصٍ (ت: 180)، عن عاصمٍ الكوفيّ (ت: 127).

ثالث عشر: أخُصُّ الأحاديثَ النَّبويَّةَ بهذَيْن القوسَيْن «» ، وأجعلُ ما عداها مِنْ الآثارِ والنُّصوصِ المَنقولةِ بين هذَيْن القوسَيْن «» .

رابع عشر: أُخَرِّجُ الأحاديثَ النَّبويَّةَ والآثارَ تخريجاً مختصراً، أستوفي فيه العزوَ إلى مواضعِهما، مع بيانِ حالِ الأحاديثِ المرفوعةِ صِحَّةً وحُسناً وضعفاً، وربَّما أكتَفي في ذلك بنقلِ حُكمِ علماءِ الحديثِ.

خامس عشر: إذا كانَ الحديثُ في الصَّحيحَيْن أو أحدِهما اكتفي بذلك عن الحكم عليه، ولا أعزوه إلى غيرِهما إلا لِحاجَةٍ.

سادس عشر: عند تخريجِ ما في صحيحِ مسلمٍ أعزو إلى المطبوعِ مع شرحِه للنَّوَويِّ.

سابع عشر: أنسبُ الأشعارَ إلى قائليها، وأكتفي بعزوِها إلى دواوينِهم في الغالبِ، وإلا أحلتُ إلى مصادرِ الشِّعرِ والشُّعراءِ المعتمدةِ.

ثامن عشر: أُتَرجِم للأعلامِ الواردةِ أسماؤُهم في الرسالةِ تراجمَ مختصرةً، لا تزيدُ عن سطرَيْن ومَرجعَيْن، وأستثني مِنهم المشهورين، ولا أُترجمُ للصَّحابةِ رضي الله عنهم؛ لاستغنائِهم عن التَّعريف، إلا ما ندرَ في كلِّ ذلك للحاجةِ.

تاسع عشر: أُتبِعُ كُلَّ علَمٍ بذكر سنةِ وفاتِه -إن عُرِفَت- بين هلالَيْن: (ت:)، في جميعِ مواضعِ ورودِ اسمِه، إلا إذا كانَ في نَصٍّ منقولٍ؛

ص: 21

ورأيتُ ذلك مفيداً في معرفةِ السّابقِ واللاحقِ، والمُتقدِّمِ بالرَّأيِ والتّابعِ فيه.

عشرون: أذكرُ التّاريخَ الهجريَّ غُفْلاً، ولا أُشيرُ إليه بعلامة (هـ)؛ لأنَّه هو الأصلُ فلا حاجةّ لتحديدِه.

إحدى وعشرون: أُعَرِّف بالأماكنِ والمذاهبِ والفرقِ غيرِ المَشهورةِ الواردةِ في متنِ الرِّسالةِ.

اثنان وعشرون: أختصرُ في ذكر أسماءِ المراجعِ في الحاشيةِ؛ اكتفاءً بالتَّفصيلِ الموجودِ في ثبتِ المراجعِ، إلا في الأسماءِ المشتركةِ بين أكثرَ مِنْ كتابٍ، فأبَيِّنُ مِنْ اسمِ الكتابِ ما يُمَيِّزُه.

ثلاث وعشرون: أشيرُ إلى صفحاتِ المرجعِ بهذا الرَّمزِ: (ص:).

وبعدُ، فهذا الأثرُ العلميُّ المُتواضعُ ثمرةٌ مِنْ علمِ هذا الإمامِ العالمِ الجليلِ محمد بنِ جريرٍ الطَّبريِّ (ت: 310) رحمه الله، وأقرَّ عينَه برضاه يومَ يلقاه، وليس لي فيه إلا الاستخراجُ والجمعُ، والتَّرتيبُ والتَّقريبُ، فإن أصَبتُ فمِن الله وله الفَضلُ، وإن أخطأتُ فمِن نَفسي وهي له أهلٌ.

وليس ما كتبتُ في هذه الموضوعِ آخرَ ما يُقالُ فيه، وإنَّما هو فاتحةُ بابٍ لمزيدٍ مِنْ التَّحريرِ والتّأصيلِ في أصولِ علمِ التَّفسيرِ، وفي أمثالِ هذا الكتابِ الجليلِ، فأنا شاكرٌ سلفاً لكُلِّ مَنْ أتمَّ هذا الكتابَ فصوَّبَ فيه رأياً، أو تمَّمَ نقصاً، أو استدركَ فائتاً.

وأخص بالشكر في هذا المقام -بعد شُكرِ الله تعالى- مَن أَولاني مِن علمه وأدبه واهتمامه ما تمَّ به هذا العمل بفضل الله، وهو د. خالد بن علي بن عبدان الغامدي وفقه الله، إمام الحرم المكي، والأستاذ

ص: 22

المشارك بجامعة أم القُرى، والمُشرف على هذا البحث؛ فآثاره فيه ظاهرةً لا تخفى كما هي ظاهرة أيضًا فيما تركه في نفسي من فوائدِ مجالسته ومباحثته، جزاه الله أحسنَ الجزاء وأوفاه على ما أحسنَ وقدَّمَ.

وللمُناقِشَيْن الفُضلاءِ جميلُ الثَّناءِ، وخالصُ الدُّعاءِ، على تفضلهما بمناقشة هذا البحث، وتقويمه وتسديده، وهم مِن أخصّ النَّاسِ بهذا العلم تأصيلاً وتحقيقاً، وأولاهم بابن جرير (ت: 310) عناية وتدريساً؛ فلهم جزيلُ الشُّكرِ وأوفاه وهما صاحبَي الفضيلة د. عبد العزيز بن صالح العبيد، الأستاذ الدكتور بالجامعة الإسلامية بالمدينة، ود. مساعد بن

سليمان الطيّار، الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود بالرياض.

وقد شَرُفتُ بالدّراسة في مرحلة الدكتوراه على يد شيخي د. عبد العزيز بن صالح العبيد -وفقه الله-، وأفادنا مِن عِلمه في نقدِ التَّفاسير، وحلّ مشكلاتِ المعاني، ما حَمِدنا أثره، وامتد نفعه، وما علَّمَناه مِن دينه وخُلُقِه أكثرُ وأكثرُ، فجزاه الله خير الجزاء، وزادَه مِن فضله.

وما أكثر ما أنبتَتْ يدا الشيخ مساعد بن سليمان الطيار من أبحاث، وما أكرمَ ما جنينا على يديه من ثمار، وكم تنقلنا معه من تعليق إلى تدقيق، ومن تدقيق إلى تحقيق ومن علم إلى آخر، ومِن فَنَنٍ إِلى فَنَنٍ فكانَ في كلّها .. مُساعداً بلا ثَمَنٍ ومهما رأيتَه لك شيخًا، لا يراك - على كثرة ما يُعطيك - إلا صاحباً، ويسمعُ منك الفائدةَ فينسبها إليك، ويذيعها عنك، وقد علم أنَّها مِن بعض علمه، وأطرافِ فوائده. وضعَ يدَيَّ على موضوع:(استدراكات السَّلفِ في التَّفسير) في مرحلةِ الماجستير، وأقامَ معي خُطَّتَه حتى اكتمَلَ، ثُمَّ قال لي ما معناه: أتيتَ

ص: 23

بما لم تستطعه الأوائل. فقلتُ في نفسي: ومَن ابنُ جريرٍ! ثُمَّ دارتِ الأيام، وحين أخبرته بموضوعي هذا - وكنتُ قد جعلته أوَّلاً في منهج الاستدلال في التَّفسير عند السَّلفِ َأشارَ عليَّ أن أجعله عند ابن جريرٍ، فقلتُ: ومن بابنِ جريرٍ فحمدتُ بالأيام رأيَه، جزاه الله عنِّي خيرَ ما يَجزي المحسنينَ مِن عِبادِه.

وأخيًرا أُهدي هذا العملَ مِن باء بسملته إلى آخر نقطةٍ فيه إلى مَن لا أشكرُه مهما شكرتُه، ولا أبرُّه مهما، بررتُه، ولا أحسنُ وصفه لكثرة محاسنه، ولا أوفيه حقه لعظم حقه، إلى مَن لا أشتكي الهم وهو حاضر، ولا أحتاجُ الدُّنيا وهو ناظر، ما بثثتُه يوماً صعباً إلا سهَّلَه بعد الله، ولا عسيرًا إلا يسَّرَه بأمر الله، دعاني إلى طلب العلم، وكفاني ما وراءه، وقال:

تخيّرتَ فاخترتَ الدراسة وحدها

وألقيت همَّ العيش وهو ثقيلُ

هنيئاً إذا يمَّمْتَ وجَهَك طيبةً

وإن كُنتَ في أم القرى فجميل

فشكر الله لك والدي .. والشكر واجب، وأحسن الله إليك والدتي .. كما أحسنتِ، وأدام عليكما عافيتَه وأطال عمركما في طاعته، وأنعمَ عليكما بعفوه.

هذا وأسأل الله تعالى توفيقَه وهدايتَه وتسديدَه، إنَّه خير مسؤول، وأكرم مأمولٍ، وصلى الله وسلَّمَ وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والحمد الله ربِّ العالمين.

ص: 24

‌التَّمهيدُ: التَّعريفُ بمفرداتِ العُنوانِ.

ويشتملُ على مبحثَيْن:

المبحث الأوَّل: التَّعريفُ بمفرداتِ البحثِ.

وفيه سِتَّةُ مَطالِب:

المطلبُ الأوَّلُ: التَّعريفُ ب (المَنهجِ).

المطلبُ الثّاني: التَّعريفُ ب (الاستدلالِ).

المطلبُ الثّالثُ: التَّعريفُ ب (التَّفسيرِ).

المطلبُ الرابعُ: التَّعريفُ ب (ابنِ جريرٍ الطَّبري).

المطلبُ الخامسُ: التَّعريفُ بتفسيرِ (جامعِ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآنِ).

المطلبُ السّادسُ: المرادُ ب (منهجِ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ على المعاني).

المبحث الثّاني: «الاستدلالُ على المعاني» في علمِ التَّفسيرِ.

وفيه ثلاثةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: نشأةُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

المطلبُ الثّاني: مكانَةُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

المطلبُ الثّالثُ: مصادرُ أدلَّةِ المعاني في التَّفسيرِ.

ص: 25

‌المبحثُ الأوَّلُ: التَّعريفُ بمفرداتِ البحثِ.

‌المطلبُ الأوَّلُ: التَّعريفُ ب (المَنهجِ).

المَنْهَج في اللغةِ: الطَّريقُ الواضحُ الجَليّ. وأصلُه (نَهَجَ)، ومَردُّه إلى الاستقامةِ والوضوحِ. ومثله (النَّهْج)، يُقالَ: هذا نهجي لا أحيدُ عنه. وكذا (المِنْهاج)؛ ومِنه قولُه تعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، أي: سبيلاً واضحاً

(1)

. وفي حديثِ العبّاسِ رضي الله عنه: «ما ماتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى تركَ السَّبيلَ نَهجاً واضِحاً»

(2)

.

(3)

قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «أصلُ المِنهاجِ: الطَّريقُ البَيِّنُ الواضحُ.

(1)

ينظر: جامع البيان 8/ 493.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5/ 434، والدارمي في سننه 1/ 31 (83)، وصححه ابنُ حجر (ت: 852) في المطالب العالية 12/ 284 (4442). وينظر: النهاية في غريب الحديث 5/ 118.

(3)

ينظر: مقاييس اللغة 2/ 528، وتهذيب اللغة 6/ 41، ولسان العرب 2/ 206، والمعجم الوسيط (ص: 957).

ص: 27

ويُقالُ مِنه: طريقٌ نَهْج، ومَنْهَج .. ثم يُستعمَل في كلِّ شيء كانَ بيِّناً واضحاً سهلاً»

(1)

.

وقد تضمَّنَ ذلك المعنى لكلمةِ (المنهجِ) أمرَيْن بارزَيْن:

أوَّلَهما: أنَّ المنهجَ مسلَكٌ واضحٌ بَيِّن.

ثانيهما: أنَّ فيه معنى الالتزامِ والاستقامةِ.

وقد استمرَّ مصطلحُ (المنهجِ) متضمِّناً لتلك المعاني في عامَّةِ العلومِ والمعارفِ القديمةِ والمعاصرةِ، واستقرَّ مفهومُه فيها وفي عُرفِ الاستعمالِ على أنَّه: كُلُّ أمرٍ بَيِّنٍ واضحٍ يُلتَزَم.

(2)

‌المطلبُ الثّاني: التَّعريفُ ب (الاستدلالِ).

الاسْتِدلالُ في اللغةِ: استفعالٌ مِنْ الدَّليلِ؛ فإن كانَ استدلالاً على الشَّيء فهو: طلبُ الدَّليلِ عليه. وإن كانَ استدلالاً بالشَّيء فهو: إقامَتُه دليلاً. والأوَّلُ قد يكونُ مِنْ السائِل عن الدَّليل، أو من النَّاظِر المُستَدِل، أمَّا الثاني فمن الناظرِ المُسْتَدِل.

(3)

و (الدَّليلُ) عند العربِ

(4)

: المُرشِدُ والموصِلُ إلى المطلوبِ. وأصلُه (دَلَّ)، و (الدِّلالةُ) مصدرُه، ومدارُه على: إبانةِ الشيءِ بأمارَةٍ تتعلَّمُها

(5)

.

(1)

جامع البيان 8/ 493.

(2)

ينظر: الكليّات (ص: 913)، ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد 1/ 20 - 26، ومناهج البحث العلمي (ص: 3 - 19)، ورؤية معاصرة في علم المناهج (ص: 255).

(3)

ينظر: أساس البلاغة 1/ 295، ومعجم مقاليد العلوم (ص: 77)، والمعجم الوسيط (ص: 294).

(4)

ينظر: جمهرة اللغة 1/ 114، وتهذيب اللغة 14/ 47، ولسان العرب 7/ 262، والتعريفات (ص: 108).

(5)

ينظر: مقاييس اللغة 1/ 399.

ص: 28

ويأتي (الاستدلالُ) مُصطلحاً خاصَّاً في عددٍ مِنْ العلومِ؛ كعلمِ الفقهِ، وأصولِه، والمنطقِ، وعلمِ الكلام

(1)

، غيرَ أنَّ المُرادَ به هنا: طلبُ إبانَةِ الشَّيءِ بأمَارَةٍ تُوصِلُ إلى المَطلوبِ. أو يُقالُ هو: إقامَةُ ما يُرشِدُ ويوصِلُ إلى المَطلُوبِ في قَضِيَّةٍ ما.

وتَشملُ تلك الإبانَةُ أمرَيْن هُما الغايَةُ مِنْ الاستدلالِ في أيِّ قضِيَّةٍ؛ وهُما:

الأوَّلُ: إبانَةُ صوابِ تلك القضيَّةِ، ومِن ثَمَّ قَبولُها وإثباتُها.

والثّاني: إبانَةُ خطَأِ تلك القضيَّةِ، ومِن ثَمَّ رَدُّها ونَفيُها.

وقريبٌ مِنْ (الاستدلالِ) في المعنى: (الاحتجاجُ)، وهو: إقامةُ الحُجَّةِ على الرَّأي؛ والحُجَّةُ: البُرهانُ، وما يقعُ به الظّفَرُ عند الخُصومةِ.

(2)

وكذا (الاستشهادُ)، وهو: ذِكرُ الشّاهدِ؛ ومِن معانيه: الدَّليلُ.

(3)

و (الاستشهادُ) أخصُّ مِنْ (الاحتجاجِ)؛ إذْ يغلُبُ إطلاقُه على الدَّلائلِ النَّقليَّةِ، أمّا (الاحتجاجُ) فيعُمُّ النَّقليَّةَ والعقليَّةَ.

(4)

ويستعملُ ابنُ جريرٍ (ت: 310)(الاعتلالَ)، و (الانتزاعَ) في نحوِ معنى (الاستدلالِ).

(5)

(1)

ينظر: التعريفات (ص: 108)، والكليَّات (ص: 439)، والاستدلال عند الأصوليين (ص: 22 - 26).

(2)

ينظر: تهذيب اللغة 3/ 251، والتعريفات (ص: 87).

(3)

ينظر: مقاييس اللغة 1/ 628، ولسان العرب 4/ 226، والمعجم الوسيط (ص: 497).

(4)

ينظر: جامع البيان 1/ 83، 158، 166، 2/ 57، 5/ 617، 10/ 86، 328، 18/ 299.

(5)

ينظر: جامع البيان 1/ 466، 3/ 753، 4/ 75، 397، 5/ 210، 611، 7/ 348، 9/ 281، 24/ 314.

ص: 29

‌المطلبُ الثّالثُ: التَّعريفُ ب (التَّفسيرِ).

ترجعُ كلمةُ (تفسير) إلى أصلِ (فَسَرَ)، ويدورُ معناه في كلامِ العربِ على: الكشفِ والبيانِ والإيضاحِ

(1)

. وهو ما بُنِيَ عليه المعنى الاصطلاحيُّ عند المفسرين، ويشملُه قولُهم في تعريفِه: بيانُ معاني القرآنِ الكريم.

(2)

ومثلُهُ في المعنى عند ابنِ جريرٍ (ت: 310): التّأويلُ. فيقولُ في عامَّةِ تفسيرِه: (القولُ في تأويلِ قولِه تعالى)، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «وهو التَّفسيرُ في لُغةِ السَّلفِ»

(3)

.

ومِمّا يلفِتُ النَّظرَ في بعضِ تَعاريفِ العلماءِ لعلمِ التَّفسير: جَمعُهم فيها بين البيانِ اللُّغويِّ لمعاني القرآنِ، وما أضافَته الأدلَّةُ الأُخرى غيرَ دليلِ اللُّغةِ مِنْ تحديدِ المعنى المُرادِ، ومِن جَيِّدِ تلك التَّعاريفِ قولُ أبي الثَّناءِ الأصفهاني

(4)

(ت: 749): «التَّفسيرُ في عُرفِ العلماءِ هو: كَشفُ

(1)

ينظر: مقاييس اللغة 2/ 355، والصاحبي (ص: 145)، وأساس البلاغة 2/ 22، ولسان العرب 3/ 361، والمفردات (ص: 636)، والصواعق المرسلة 1/ 330، والتعريفات (ص: 67).

(2)

ينظر: الكشف والبيان (لوحة: 9 أ، 9 ب)، وزاد المسير (ص: 29)، ودقائق التفسير 6/ 433، والتسهيل لعلوم التنْزيل 1/ 15، والبحر المحيط 1/ 121، ومقدمات تفسير الأصفهاني (ص: 131)، والصواعق المرسلة 1/ 215، وجلاء الأفهام (ص: 230)، والبرهان في علوم القرآن 1/ 33، 2/ 163، والتعريفات (ص: 67)، والتحرير والتنوير 1/ 11، 42، وأصولٌ في التفسير (ص: 35)، واستدراكات السَّلف في التفسير (ص: 27).

(3)

مجموع الفتاوى 17/ 391.

(4)

محمودُ بن عبد الرحمن الأصفهاني، شمسُ الدّين أبو الثَّناءِ الشّافعي، مفسِّر أصولي فقيه، صنَّفَ تفسيرَه أنوارَ الحقائقِ الربّانيةِ، وتوفي سنة (749). ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 10/ 383، وبغية الوعاة 2/ 278.

ص: 30

معاني القرآنِ، وبيانُ المُرادِ»

(1)

، وشَرحَه الكافيجيّ

(2)

(ت: 879) فقالَ: «المُرادُ مِنْ معاني القرآنِ أعَمُّ، سواءٌ كانَت معاني لُغويَّةً أو شرعيَّةً، وسواءٌ كانَت بالوَضعِ، أو بمعونةِ المقامِ، وسَوقِ الكلامِ، وبقرائنِ الأحوالِ»

(3)

.

ومثلُ ذلك ما أضافَه كثيرٌ مِنْ العلماءِ مِنْ ضَمِّ أدلَّةِ المعاني إلى صُلبِ معنى التَّفسيرِ؛ وعِلَّةُ ذلك أنَّها ما يُحدِّدُ المُرادَ مِنْ المعاني المُحتمَلةِ، كما في قولِ الثَّعلبي (ت: 427): «قالَت العُلماءُ: التَّفسيرُ: عِلمُ نُزولِ الآيةِ، وشَأنِها، وقِصَّتِها، والأسبابِ التي نزلَت فيها»

(4)

، وقالَ أبو حيَّان (ت: 745): «التَّفسيرُ عِلمٌ يُبحَثُ فيه عن كيفيَّةِ النُّطقِ بألفاظِ القرآنِ

(5)

، ومَدلولاتِها، وأحكامِها الإفراديَّةِ والتَّركيبيَّةِ، ومعانيها التي تُحمَلُ عليها حالةَ التَّركيبِ، وتَتِمّاتٍ لذلك»

(6)

، وقالَ الزَّركشي (ت: 794): «وفي الاصطلاحِ: هو علمُ نزولِ الآيةِ

(1)

مقدمات تفسير الأصفهاني (ص: 131). وينظر: الكشف والبيان 1/ 87.

(2)

محمدُ بن سليمان الرّومي الحنفي، محي الدّين، عُرفَ بالكافيجي، عالمٌ باللغةِ والنَّحوِ، صنَّفَ التيسيرَ في قواعدِ علمِ التَّفسيرِ، وغيرِه، توفي سنة (879). ينظر: بغية الوعاة 1/ 117، وشذرات الذهب 9/ 488.

(3)

التيسير في قواعد علم التفسير (ص: 124)، ومثله في (ص: 150).

(4)

الكشفُ والبيان 1/ 87. وبه عرّفَه الزَّركشي (ت: 794)، والجُرجاني (ت: 816)، وابنُ ناصرِ الدّين الدِّمشقي (ت: 842)، والبَركوي (ت: 981). ينظر: البرهان 2/ 148، والتعريفات (ص: 67)، ومجالس في تفسير قوله تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (ص: 122، 337)، ومقدمة المفسرين (ص: 125).

(5)

هذا القِسمُ المُتعلِّقُ بالأداءِ هو مِنْ علومِ القرآنِ، وليس مِنْ علمِ التَّفسيرِ، ولا أثرَ له فيه.

(6)

البحر المحيط 1/ 121 ثُمَّ شرحه بعدُ، واختاره السيوطي (ت: 911) في التحبير في علم التفسير (ص: 36).

ص: 31

وسورتِها، وأقاصيصِها والإشاراتِ النَّازلةِ فيها، ثُمَّ ترتيبُ مَكيِّها ومَدنيِّها .. »

(1)

، وقالَ الشَّوكاني (ت: 1250): «المَقصودُ في كُتُبِ التَّفسيرِ ما يتعلَّقُ بتَفسيرِ ألفاظِ الكِتابِ العَزيزِ، وذِكرِ أسبابِ النُّزولِ، وبيانِ ما يُؤْخذُ مِنه مِنْ المسائِلِ الشَّرعيَّةِ. وما عدا ذلك فهو فَضْلَةٌ لا تدعو إليه حاجةٌ»

(2)

.

فيُفهَمُ مِمّا سبقَ أنَّ علمَ التَّفسيرِ يشملُ: بيانَ المعنى، وما لا بُدَّ مِنه لبيانِه؛ مِمّا يتحدَّدُ به المُرادُ مِنْ المعاني. وذلك ما ضَمَّته كتبُ التَّفسيرِ، وتضمَّنَته مناهجُ المفسِّرين، ويشهدُ لذلك الأثرُ المَشهورُ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، في بيانِ أقسامِ التَّفسيرِ، حيث يقولُ:«التَّفسيرُ على أربعةِ أَوجُهٍ؛ وَجهٌ تَعرفُه العربُ مِنْ كلامِها، وتَفسيرٌ لا يُعذَرُ أحدٌ بجَهالتِه، وتَفسيرٌ يَعلمُه العلماءُ، وتَفسيرٌ لا يعلمُه إلا الله»

(3)

، وقد بيَّنَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) تلك الأوجهَ، وقالَ عن الوَجهِ الرّابعِ:«وذلك ما فيه مِنْ الخبرِ عن آجالٍ حادثةٍ، وأوقاتٍ آتيةٍ؛ كوَقتِ قيامِ السّاعةِ، والنَّفخِ في الصّورِ، ونزولِ عيسى بن مريمَ، وما أشبهَ ذلك، فإنَّ تلك أوقاتٌ لا يعلمُ أحدٌ حدودَها، ولا يَعرفُ أحدٌ مِنْ تأويلِها إلا بالخبرِ عن أشراطِها؛ لاستئثارِ الله بعلمِ ذلك على خَلقِه»

(4)

، ولا شكَّ أنَّ ذلك زائدٌ عن حَدِّ بيانِ المعنى إلى تحديدِ المُرادِ بأدلَّتِه.

(1)

البرهان في علوم القرآن 2/ 148.

(2)

فتح القدير 3/ 289.

(3)

جامع البيان 1/ 70.

(4)

جامع البيان 1/ 68.

ص: 32

‌المطلبُ الرّابعُ: التَّعريفُ ب (ابنِ جريرٍ الطَّبري).

(1)

اسمُه ونسبُه:

هو محمدُ بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، أبو جعفرَ الطَّبري، أحدُ أئمَّةِ العلماءِ، حافظٌ محدِّثٌ، رأسُ المفسِّرين، إمامٌ في الفقهِ والإجماعِ والخلافِ، علّامةٌ في التاريخِ وأيَّامِ النّاسِ، عارِفٌ بالقراءاتِ واللغةِ والأصولِ، مِنْ أئمَّةِ السُّنَّةِ والأثرِ.

ولادتُه وصفاتُه:

وُلِدَ بآمُل

(2)

بطبرستان

(3)

سنةَ (224)، ونشأَ بها، وكانَ أسْمرَ، أعْيَنَ، مليحَ الوجهِ، مديدَ القامةِ، فصيحَ اللسانِ، لم يتزوّجْ أو يتسرَّى.

(1)

أوفى من ترجم له: الخطيبُ في تاريخ بغداد 2/ 548، وياقوتُ في معجم الأدباء 6/ 2441، وأفرد ترجمته بالتصنيف عبدُ العزيز بن محمد الطبري، وأبو بكر بن كامل القاضي؛ وهما من أصحابِه وطُلابه -وعنهما نقل ياقوت في كتابه-، وجمالُ الدين القِفطيّ في كتابٍ وصفه بأنه: ماتع؛ سمَّاه (التحرير في أخبار محمد بن جرير). وأطال في ترجمته أبو إسحاق بن إبراهيم الطبري، وأبو الحسن أحمد بن يحيى المُنَجِّم، وأبو محمد الفرغاني -ونقل جملاً منها الذهبي في السير-. وتُرجِمَ له أيضاً في: الفهرست (ص: 287)، وإنباه الرواة 3/ 89، وسير أعلام النبلاء 14/ 267، ومعرفة القراء الكبار 2/ 527، وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 120، والبداية والنهاية 11/ 123، وطبقات المفسرين (ص: 95)، وإمام المفسرين والمحدثين والمؤرخين أبو جعفر الطبري.

(2)

قَصَبَةُ طبرستان، وأكبر مدنها في السهل، وخرج منها كثير من العلماء. ينظر: معجم البلدان 1/ 57.

(3)

بُلدانٌ واسعةٌ كثيرةٌ يشملها هذا الاسم، وتُسمَّى بمازندران، وتقع جنوب بحر الخزر (قزوين)، وشمال طهران عاصمة إيران اليوم. ينظر: معجم البلدان 3/ 244، وأطلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ص: 142).

ص: 33

طلبُه للعلمِ ورحلاتُه:

حفظَ القرآنَ وله سبعُ سنينَ، وأمَّ النّاسَ وهو ابنُ ثمانِ سنينَ، وكتبَ الحديثَ وله تسعُ سنينَ، ورحل عن بلدِه لطلبِ العلمِ وله سِتَّ عشرةَ سنةً.

أخذَ العلمَ عن علماءِ بلدِه مِنْ أنحاءِ طبرستان، ثمَّ رحلَ لتحصيلِه إلى العراقِ قاصداً لُقيا الإمام أحمدَ بن حنبل (ت: 241) ببغدادَ، فبلغَه خبرُ وفاتِه قبل دخولِه إليها، فأدركَ أقرانَه وأخذ عنهم. وجابَ البصرةَ والكوفةَ، ثمَّ يَمَّمَ إلى الشّامِ وما بها من السواحلِ والثُّغورِ، ثمَّ مصرَ سنةَ (253)، ودخلَ الفُسطاطَ، ثمَّ رجعَ إلى الشّامِ مَرَّة أُخرى، وعادَ بعدها إلى مصرَ سنةَ (256)، ودخلَ القاهرةَ، ثمَّ رجعَ إلى بغدادَ، ثمَّ إلى بلدِه طبرستان، وعادَ بعد ذلك إلى بغدادَ، ثمَّ إلى بلدِه مرَّةً أُخرى، ثمَّ استقرَّ به النَّوى ببغدادَ أخيراً سنةَ (290) وعمره سِتٌّ وستّونَ سنةً، إلى أن توفّاهُ الله عز وجل بها شهرَ شوّال سنةَ (310). وسافرَ في أثناءِ ذلك للحجِّ سنة (240).

أشهرُ مشايخِه:

أخذَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في أثناءِ ذلك التَّرحالِ عن طائفةٍ من أجِلَّاء العلماءِ والأئمَّةِ، فلقيَ -مِنْ أشهرِهم-:

1 -

محمدَ بن حُمَيد الرّازي التَّميمي (ت: 248)، أخذَ عنه ابنُ جريرٍ (ت: 310) قريباً مِنْ مئةِ ألفِ حديثٍ، وهو أوَّلُ شيوخِه في الرَّيّ.

ص: 34

2 -

عمرانَ بن موسى الليثي البصري القزّازِ (ت: 240)، وهو أوَّلُ شيوخِه وفاةً.

3 -

هَنَّادَ بن السَّريِّ التَّميمي الكوفي (ت: 243)، صاحبَ كتابِ الزُّهدِ.

4 -

أحمدَ بن مَنيع البغوي البغدادي (ت: 244)، أبا جعفر، صاحبَ المُسندِ.

5 -

محمدَ بن العلاءِ الهمداني (ت: 247)، أبا كُريبٍ الكوفي، لقيَه فيها، وبلغَ ما تلقّاهُ عنه مئةَ ألفَ حديثٍ.

6 -

محمدَ بن بشَّار العبديّ البصري (ت: 252)، المعروف ببُندار، وهو ممَّن أكثرَ عنه.

7 -

يعقوبَ بن إبراهيم الدورقي (ت: 252)، صاحبَ المسندِ.

وجميعُ هؤلاء الحُفَّاظِ مِنْ طبقةِ الإمامِ أحمدَ الذين علا إسنادُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بهم، وأخذَ عنهم في آخرِ حياتِهم، وأوَّلِ حياتِه العلميَّةِ.

8 -

أبا مقاتلٍ الرّازي (ت: 247)، مِنْ أوائلِ شيوخِه، أخذَ عنه الفقهَ الحنفيَّ في بلدِه الرَّيّ.

9 -

سليمانَ بن عبد الرحمن بن خلّاد الطّلحي (ت: 245)، أخذَ عنه قراءةَ حمزةَ (ت: 156).

10 -

أبا حاتمٍ السِّجِسْتاني سهلَ بن محمد البصري (ت: 255)، إمامَ اللغةِ والقراءةِ.

11 -

الزُّبيرَ بن بكَّار القرشي (ت: 256)، الحافظَ النسَّابةَ صاحبَ (نسبِ قريش).

ص: 35

12 -

الرَّبيعَ بن سليمان الأزدي (ت: 256)، لقيَه في دخولِه مصرَ المرَّةَ الثّانيةَ، وأخذَ عنه فقهَ الشّافعيَّ (ت: 204) ومروياتِه.

13 -

الحسنَ بن محمد الزَّعفراني البغدادي (ت: 260)، أخذَ عنه فقهَ الشّافعيَّ (ت: 204) ببغدادَ.

14 -

إسماعيلَ بن يحيى المُزني (ت: 264)، صاحبَ الشافعي (ت: 204)، لقيَه بالقاهرةِ فأخذَ عنه فقهَ الشّافعيَّ (ت: 204) ومروياتِه.

15 -

يونسَ بن عبد الأعلى الصدفي (ت: 264)، أخذَ عنه بمصرَ قراءةَ حمزةَ (ت: 156) ونافعَ (ت: 169)، كما أخذَ عنه فقهَ الشّافعيِّ (ت: 204)، ومروياتِه في الحديثِ والأخبارِ.

16 -

أبا زُرعةَ الرّازي عبيد الله بن عبد الكريم (ت: 264)، الإمامَ الحافظَ.

17 -

محمدَ بن عبد الله بن عبد الحكم المالكي (ت: 268)، المؤرخَ، أخذَ عنه وعن أخوَيْه سعد (ت: 268)، وعبد الرحمن (ت: 257) فقهَ مالكَ (ت: 197)، والتاريخَ.

18 -

داودَ بن علي الأصبهاني الظّاهري (ت: 270)، سمعَ عنه مذهبَه وكثيراً مِنْ كتبِه.

19 -

العباسَ بن الوليد البَيْروتي (ت: 270)، أخذَ عنه قراءةَ ابنِ عامرٍ (ت: 118).

20 -

عليَّ بن سراج المصري (ت: 245)، أبا الحسن، لقيَه بمصرَ في دخولِه الأوَّلِ، وأخذَ عنه اللغةَ والأدبَ.

ص: 36

21 -

أحمدَ ين يحيى ثعلب الكوفي (ت: 291)، إمامَ الكوفيّين في عصرِه، أخذَ عنه النحوَ واللغةَ والأدبَ.

أشهرُ تلامذتِه:

أخذَ العلمَ عن ابنِ جريرٍ (ت: 310) كثيرٌ من أقرانه وطلّابه، ومِن أشهرِهم:

1 -

أبو شُعيبٍ عبدُ الله بن الحسن الحرَّاني (ت: 295)، كانَ أكبرَ منِ ابنِ جريرٍ (ت: 310).

2 -

أبو بكرٍ أحمدُ بن موسى ابنُ مجاهدٍ (ت: 324)، الإمامُ المقرئُ، صاحبُ (السَّبعةِ).

3 -

أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني (ت: 356)، روى عنه كثيراً في كتابِه (الأغاني).

4 -

أبو القاسمِ سليمانُ بن أحمد الطّبراني (ت: 360)، الإمامُ الحافظُ صاحبُ المعاجمِ.

5 -

أبو بكرٍ أحمدُ بن كامل (ت: 350)، قاضي الكوفةَ، صاحبُ التَّصانيفِ على مذهبِ ابنِ جريرٍ (ت: 310).

6 -

عبدُ الله بن أحمد الفرغاني (ت: 362)، الأميرُ القائدُ، ألَّفَ (كتابَ الصِّلةِ) ذيلاً على تاريخِ ابنِ جريرٍ (ت: 310).

7 -

أبو أحمدَ عبد الله بن عديّ (ت: 365)، الإمامُ المحدِّثُ، صاحبُ (الكاملِ في ضعفاءِ الرِّجالِ).

ص: 37

أقوالُ العلماءِ عنه:

اشتهرَت في النّاسِ إمامةُ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وأَثنى عليه كثيرٌ مِنْ العلماءِ، وهذه بعضُ أقوالهم

(1)

:

- قالَ أبو العبّاسِ ثعلب (ت: 291): «ذاك مِنْ حُذَّاق مذهبِ الكوفيّين»

(2)

، قالَ ابنُ مجاهد (ت: 324): «وهذا كثيرٌ مِنْ أبي العبّاسِ ثعلب؛ لأنَّه كانَ شديدَ النَّفْسِ، قليلَ الشَّهادةِ لأحدٍ بالحِذقِ في علمِه» .

- قالَ أبو العبّاسِ ابنُ سريج (ت: 306): «محمدُ بن جريرٍ الطَّبري فقيهُ العالَم» .

- قالَ أبو بكر بن خزيمة (ت: 311): «إنّي لا أعلمُ على أديمِ الأرضِ أحداً أعلمَ مِنه» .

- قالَ الخطيبُ البغدادي (ت: 463): «كانَ أحدَ أئمَّةِ العلماءِ، يُحكمُ بقولِه، ويُرجعُ إلى رأيِه لمعرفتِه وفضلِه، وكانَ قد جمعَ مِنْ العلومِ ما لم يُشاركْه فيه أحدٌ مِنْ أهلِ عصرِه، وكانَ حافظاً لكتابِ الله، عارفاً بالقراءاتِ، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكامِ القرآنِ، عالماً بالسُّننِ وطرقِها؛ صحيحِها وسقيمِها وناسخِها ومنسوخِها، عارفاً بأقوالِ الصَّحابةِ والتّابعين، ومَن بعدهم مِنْ الخالفين؛ في الأحكامِ، ومسائلِ الحلالِ والحرامِ، عارفاً بأيّامِ النّاسِ وأخبارِهم» .

(1)

ينظر: تاريخ بغداد 2/ 548 - 556، ومعجم الأدباء 4/ 1651، ومنهاج السنة النبوية 7/ 13، 286، وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 120، وطبقات المفسرين، للسيوطي (ص: 95).

(2)

ولأبي جعفر (ت: 310) كتابٌ في النحو على مذهب الكوفيين، كما في معجم الأدباء 1/ 191.

ص: 38

- وأثنى عليه ابنُ تيمية (ت: 728) كثيراً، وعَدَّه مِنْ كبارِ أئمَّةِ الإسلامِ الذين يُنقلُ الدّينُ عنهم، ويُعتمدُ على قولِهم؛ كأبي حنيفةَ (ت: 150) ومالك (ت: 179) والشّافعيّ (ت: 204) وأحمدَ (ت: 241) والأوزاعيّ (ت: 157) واللَّيْثِ (ت: 175) وأمثالِهم.

- قالَ السّيوطي (ت: 911): «رأسُ المفسِّرين على الإطلاقِ، أحدُ الأئمَّةِ، جمعَ مِنْ العلومِ ما لم يُشاركْه فيه أحدٌ مِنْ أهلِ عصرِه» .

اعتقادُه واختيارُه في القراءةِ ومذهبُه في الفقهِ:

كانَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ، وعلى اعتقادِ السَّلفِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين والأئمَّةِ، كما قرَّرَ ذلك في رسالتِه (صريحِ السُّنَّة)، وفي مواضعَ عديدةٍ مِنْ تفسيرِه

(1)

، وذلك مِمَّا أُثنِيَ به عليه في تفسيرِه، كما قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «وأمَّا التَّفاسيرُ التي في أيدي النَّاسِ فأصَحُّها تفسيرُ محمدٍ بن جريرٍ الطَّبري؛ فإنَّه يذكرُ مقالاتِ السَّلفِ بالأسانيدِ الثَّابتةِ، وليسَ فيه بدعةٌ»

(2)

.

ولم يثبت ما نُسِبَ إليه من التَّشيُّع، وكُتبُه وسيرةُ حياتِه شاهدةٌ ببطلان ذلك

(3)

.

(1)

ينظر قوله في الإيمان 1/ 241، 10/ 37، 12/ 88. وفي ردِّه على القدرية 1/ 161، 168، 197، 5/ 228، 9/ 228. وفي رَدِّه على الجهمية والمعتزلة والمرجئة 1/ 241، 268، 279، 281، 299، 305، 386، 4/ 213، 12/ 583. وفي إثباته الصفات مع التنزيه 1/ 454 - 458، 4/ 544 - 546، 5/ 177، 178، 8/ 264، 555، 557، 9/ 459 - 469.

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 385.

(3)

قالَ ياقوتُ (ت: 626) عمَّن نسبَ ابنَ جرير للرفض: «وكذبَ؛ لم يكن أبو جعفرَ رافضياً» ، وكذا أبطل ذلك ابن حجر (ت: 852)، وغيرهما. ينظر: معجم البلدان 1/ 57، ولسان الميزان 5/ 100، وإمام المفسرين والمحدثين والمؤرخين أبو جعفر الطبري (ص: 84 - 89).

ص: 39

وكانَ يقرأُ في أوَّلِ أمرِه بحرفِ حمزةَ (ت: 156)، ثمَّ اختارَ لنفسِه قراءَةً بعد ذلك؛ فَصَّلها في كتابِه (القراءاتِ وتنزيلِ القرآنِ)، وفي مواضعَ كثيرةٍ مِنْ تفسيرِه

(1)

.

وتَفَقَّه في أوَّلِ طلبِه على مذهبِ الشّافعيّ (ت: 204)، وأفتى به في بغدادَ عشرَ سنينَ، ثمَّ اختارَ لنفسِه ما أدَّاهُ إليه اجتهادُه مِمَّا دوَّنه في كُتُبه، وفَصَّلَه بأحسنِ بيانٍ في كتابِه (لطيفِ القولِ في أحكامِ شرائعِ الإسلامِ)، حتى قِيلَ:«ما عُمِلَ كتابٌ في مذهبٍ أجودُ مِنْ كتاب أبي جعفر (اللطيف) لمذهبِه»

(2)

، وعُرفَ مذهبُه ب (الجَريريِّ)، وتفقَّه به جماعةٌ

(3)

، قالَ الذَّهبيُّ (ت: 748): «وبقِيَ مذهبُ ابنِ جريرٍ إلى ما بعدَ الأربعمائة»

(4)

.

أشهرُ مصنَّفاتِه:

اشتهرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بكثرةِ التَّصنيفِ وجودتِه، قالَ تلميذُه

(1)

ينظر: 1/ 151، 561، 2/ 195، 214، 3/ 181، 678، 732، 5/ 51، 123، 6/ 398، 9/ 95.

(2)

معجم الأدباء 6/ 2458.

(3)

مِنْ أشهرِ مَنْ حفظَ علمَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) ونشرَ مذهبَه: أبو الفرجِ المعافى بن زكريّا النَّهروانيّ، القاضي المُفسّر الأديبُ، عالِمُ عصرِه، ألَّفَ تفسيراً في ستِّ مجلّداتٍ، وله في الأدب: الجليس الصالح الكافي، وتوفي سنة (390). ينظر: الفهرست (ص: 289)، والسير 16/ 544. كما ألَّفَ أبو الحسن أحمد بن يحيى المُنجِّم (ت: 327) كتابَ: المدخل إلى مذهبِ الطَّبري ونُصرةِ مَذهبِه. ينظر: معجم الأدباء 2/ 554.

(4)

سير أعلام النبلاء 8/ 92.

ص: 40

الفرغاني (ت: 362): «إنَّ قوماً مِنْ تلاميذِ ابنِ جريرٍ حَصَّلوا أيَّامَ حياتِه منذُ بلغَ الحُلمَ إلى أن توفي وهو ابنُ سِتٍّ وثمانينَ، ثمَّ قَسَموا عليها أوراقَ مُصنَّفاتِه، فصارَ مِنها في كُلِّ يومٍ أربعَ عشرةَ ورقةً، وهذا شيءٌ لا يتهيَّأُ لمخلوقِ إلا بحُسنِ عنايةِ الخالقِ» ، ونقلَ الخطيبُ (ت: 463): «أنَّ ابنَ جريرٍ مكثَ أربعينَ سنةً يكتبُ في كُلِّ يومٍ مِنها أربعينَ ورقةً» ، وقالَ الجيَّاني (ت: 498): «هو أكثرُ أهلِ الإسلامِ تصنيفاً» ، وعن جودةِ تأليفِه وحُسنِ بيانِه يقولُ الذَّهبي (ت: 748): «ولأبي جعفرَ في تآليفِه عبارةٌ وبلاغةٌ» . ومِن أشهرِ تلك المصنفاتِ

(1)

:

1 -

(جامعُ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآنِ)، المعروفُ ب (تفسيرِ الطَّبري)، وسيأتي الكلامُ عنه مُفرداً بإذنِ الله.

2 -

(تاريخُ الأُممِ والملوكِ)، ويُسَمَّى (تاريخُ الرُّسلِ والملوكِ)، المعروفُ ب (تاريخِ الطَّبري)، قالَ عنه ابنُ المُغَلِّس (ت: 323): «ما عَمِلَ أحدٌ في تاريخِ الزَّمانِ وحصرِ الكلامِ فيه مثلَ ما عملَه الطَّبري» ، وقالَ القِفطِيّ (ت: 624): «هو أجلُّ كتابٍ في بابِه» ، وقد بناه على كتابِ (المُبتدأِ والمغازي) لابنِ إسحاق (ت: 152)

(2)

.

(1)

ينظر في تفصيلها: الفهرست (ص: 287)، وتاريخ بغداد 2/ 548، وإنباه الرواة 3/ 89، والبداية والنهاية 11/ 123، وإمام المفسرين والمحدثين والمؤرخين أبو جعفر الطبري (ص: 94 - 120).

(2)

ينظر: معجم الأدباء 6/ 2446. وقد طُبعَ في ليدِن سنةَ (1876 م)، إلى سنةِ (1901 م)، باعتناءِ دى غويه، وغيرِه مِنْ المُستشرقين، ثُمَّ طُبعَ في القاهرة سنةَ (1906 م)، باعتناءِ يوسف بك محمد الحنفي، ورفيقِه، ثُمَّ طُبعَ فيها سنةَ (1960 م)، بتحقيقِ محمد أبو الفضلِ إبراهيم، وتتابعت طبعاتُه بعد ذلك.

ص: 41

3 -

(تهذيبُ الآثارِ)، قالَ عنه الخطيبُ (ت: 463): «لم أرَ سواه في معناه، إلا أنَّه لم يُتِمَّه» ، وقالَ القِفطِيّ (ت: 624): «وهو كتابٌ أعيا العلماءَ إتمامُه» ، وقالَ ابنُ كثيرٍ (ت: 774): «هو مِنْ أحسنِ كُتُبِه، ولو كَمُلَ لما احتِيجَ معه إلى شيءٍ» .

(1)

وهذه الثَّلاثةُ أجَلُّ كتبِه وأكبرُها، وله غيرها

(2)

:

4 -

(القراءاتُ وتنزيلُ القرآنِ)

(3)

، موسَّعٌ جامعٌ، فيه عَزوٌ واختيارٌ وتوجيهٌ وتعليلٌ، وجمعَ نيِّفاً وعشرينَ قراءةً، وقد بناه على كتابِ أبي عُبيدٍ القاسمُ بن سلّام (ت: 224) في القراءاتِ، ونقلَ مكيُّ بن أبي طالبٍ (ت: 437) جُمَلاً مِنه، ووقفَ عليه ابنُ الجزري (ت: 833).

(4)

5 -

(اختلافُ علماءِ الأمصارِ في أحكامِ شرائعِ الإسلامِ)، جمعَ فيه أقوالَ فقهاءِ الإسلامِ في الأمصارِ المشهورةِ: أبي حنيفة (ت: 150) وصاحبَيْه مِنْ الكوفةِ، والأوزاعي (ت: 157) مِنْ الشّامِ، ومالك (ت: 179) مِنْ المدينة بروايتَيْن عنه، والثَّوري (ت: 161) مِنْ الكوفةِ بروايتين عنه، والشّافعي (ت: 204) وما حدَّث به عنه

(1)

طُبعَ منه بقيّةٌ من مُسندِ عمر بن الخطّاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عبّاس رضي الله عنهم، بتحقيق محمود شاكر، وحقَّقه ناصر الرشيد، وزميلُه عن نُسخةٍ أخرى، كما حُقِّقَ مسندُ عبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام رضي الله عنهم، في جزءٍ مُفرد.

(2)

ذكر كثيراً منها في تفسيره، وسيأتي تحديدُ مواضعِها.

(3)

جامع البيان 1/ 150.

(4)

ينظر: معجم الأدباء 6/ 2455، والإبانة عن معاني القراءاتِ (ص: 46، 59 - 60)، وغاية النهاية 2/ 96.

ص: 42

الربيعُ بن سليمان (ت: 256)، وأبي ثورٍ إبراهيمَ بن خالد الكلبي (ت: 240)، وذكرَ معهم أوَّلاً عبدَ الرحمن بن كيسان ثم أسقطَه. وذكرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أنَّه إنما عمِلَ هذا الكتابَ ليتذكَّر به أقوالَ مَنْ يُناظره، ثمَّ انتشرَ وطُلِبَ مِنه.

(1)

6 -

(بسيطُ القولِ في أحكامِ شرائعِ الإسلامِ)

(2)

، وَسَّعَ فيه القولَ في الأحكامِ الفقهيَّةِ التَّفصيليَّةِ وأَدِلَّتِها.

7 -

(لطيفُ القولِ في أحكامِ شرائعِ الإسلامِ)

(3)

، أخصَرُ مِنْ الذي قبلَه، قالَ عنه ياقوت الحموي (ت: 626): «هو مجموعُ مذهبِه الذي يعوِّل عليه جميعُ أصحابِه، ومِن أنفسِ كتبِه وكتبِ الفقهاءِ، وأفضلِ أمَّهاتِ المذاهبِ وأسدِّها تصنيفاً»

(4)

، واختصرَ مِنه (الخفيفَ في أحكامِ شرائعِ الإسلامِ) لأحدِ الوزراءِ.

8 -

(كتابُ الصَّلاةِ)

(5)

.

9 -

(كتابُ الأيمانِ)

(6)

.

10 -

(كتابُ الأطعمةِ)

(7)

.

(1)

ينظر: معجم الأدباء 6/ 2457.

(2)

جامع البيان 1/ 107، وتاريخ الأمم والملوك 2/ 557.

(3)

جامع البيان 4/ 51، 4/ 164، 7/ 329، 8/ 54، 679، 9/ 529، 11/ 186، 14/ 285، 17/ 188. ومُرَادُه باللطيف: دقيقَ المعاني والنظرَ والعللَ، لا وجيزَ الحجمِ وصغيرَه؛ فإن حجمه (2500 ورقة) قريبٌ من تفسيره جامع البيان (3000 ورقة) كما أشار إلى ذلك ياقوت (ت: 626).

(4)

معجم الأدباء 6/ 2458.

(5)

جامع البيان 24/ 244.

(6)

جامع البيان 4/ 63.

(7)

جامع البيان 14/ 176.

ص: 43

11 -

(كتابُ السَّرقةِ)

(1)

.

12 -

(كتابُ الجِراحِ)

(2)

.

والأظهرُ أنَّ الكتبَ الخمسَةَ السّابقةَ أجزاءٌ مِنْ كتابِه الموسَّع (البسيطِ)؛ فقد صَنَّفه على هيئةِ عِدَّة كُتُبٍ خرجت في صُورِ مصنَّفاتٍ مفردةٍ

(3)

.

13 -

(لطيفُ القولِ في البيانِ عن أصولِ الأحكامِ)

(4)

، وربَّما سمَّاه (البيانَ عن أصولِ الأحكامِ)

(5)

، وقد اشتملَ على مباحثَ أصوليَّةٍ كالإجماعِ والنَّسخِ والعمومِ والإجمالِ والاجتهادِ ونحوِها، ووصفَه ب (الرِّسالةِ)

(6)

، ويُحتملُ أن يكونَ جزءاً مِنْ كتابِه (لطيفِ القولِ في أحكامِ شرائعِ الإسلامِ)

(7)

.

14 -

(التَّبصيرُ في معالمِ الدّينِ)، رسالةٌ بعثَ بها إلى بعضِ أهلِ السُّنَّةِ ببلدِه (آمُل)، ذكرَ فيها مباحثَ عقديَّة مهمَّة، مع الردِّ على المعتزلةِ وأهلِ الأهواءِ.

(8)

(1)

جامع البيان 8/ 410.

(2)

جامع البيان 14/ 584.

(3)

ينظر: الفهرست (ص: 287)، وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 122.

(4)

جامع البيان 2/ 101، 3/ 715، 4/ 103، 207، 303، 553، 10/ 36، 14/ 585، 17/ 278.

(5)

جامع البيان 2/ 458، 464، 469، 725، 6/ 578.

(6)

جامع البيان 2/ 101.

(7)

ينظر: معجم الأدباء 6/ 2459.

(8)

ينظر: جامع البيان 5/ 157.

ص: 44

15 -

(صريحُ السُّنَّةِ)، أو (شرحُ السُّنَّةِ)، رسالةٌ موجزةٌ، أوضحَ فيها عقيدتَه السَّلفيَّةَ في مسائلِ الإيمانِ والصِّفاتِ.

16 -

(فضائلُ أبي بكرٍ وعمرَ)، أَلَّفَه لمَّا سمعَ بطبرستان -بعد رجوعِه إليها مِنْ رحلتِه- مَنْ يَسبُّ الشَّيْخين، فأملى فيها هذا الكتابَ، وطلبَه الوالي بسببِه، فهربَ إلى بغدادَ، وأقامَ بها حتى وفاتِه. وماتَ ولم يُتِمَّه.

17 -

(فضائلُ عليِّ بن أبي طالب)، ويُسَمَّى (أحاديثُ غديرِ خُمّ)، أَلَّفَه لَمَّا بلغَه أنَّ بعضَ الشُّيوخِ في بغدادَ كَذَّبَ هذا الحديثَ، فبدأَه بفضائل عليّ رضي الله عنه، ثم أورَدَ حديثَ الغديرِ بطرقِه وعلَلِه وأحكامِه، وهو كتابٌ كبيرٌ رآه الذَّهبي (ت: 748) وابنُ كثيرٍ (ت: 774)، وذكرَ البرزاليُّ (ت: 739) أنَّه في مجلَّدَيْن ضخمَيْن. ولم يُتِمَّه.

18 -

(ذيلُ المُذَيَّلِ)، في التاريخِ، وجعلَه خاصَّاً بالرِّجالِ على طريقةِ طبقاتِ المحدِّثين بحسبِ وَفَياتِهم، وابتدأه بالصَّحابةِ فالتّابعين، إلى علماءِ عصرِه.

19 -

(الرَّدُّ على ذي الأسفارِ) أي: الكتبِ. وهو ردٌّ على داودَ الظاهري (ت: 270)، ولم يُتِمَّه.

وفاتُه:

توفيَ رحمه الله ببغدادَ سنةَ (310)، عن سِتٍّ وثمانينَ سنةً، ورثاه جماعةٌ مِنْ أهلِ العلمِ والأدبِ

(1)

.

(1)

كابنِ دُريدٍ (ت: 321)، وابنِ الأعرابي (ت: 340) المكيّ المحدِّث. ينظر: تاريخ بغداد 2/ 554 - 556.

ص: 45

‌المطلبُ الخامسُ: التَّعريفُ بتفسيرِ (جامعِ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآنِ).

وُصِفَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بأنَّه إمامُ المفسِّرين، وشيخُهم، ورأسُهم على الإطلاقِ، بل صارَ يُضرَبُ به المثلُ في التَّفسيرِ؛ فيُقالُ:«أعلمُ مِنْ ابنِ جريرٍ في التَّفسيرِ»

(1)

، ومَن كانَ شأنُه كذلك لاغَروَ أن يكونَ كتابُه في التَّفسيرِ أجلَّ كُتبِ التَّفسيرِ وأحسنَها، وأعظمَها أثراً في هذا العلمِ، وفيما كُتِبَ فيه على مَرِّ العصورِ.

اسمُ الكتابِ:

سَمَّاه ابن جريرٍ (ت: 310) في تاريخِه: (جامعُ البيانِ عن تأويلِ آي القرآنِ)

(2)

، وهو كذلك في بعضِ إجازاتِه به

(3)

، وعند عامَّةِ مَنْ ترجمَ له.

تاريخُ تصنيفِه:

بدأت فكرةُ هذا التَّفسيرِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) منذُ صباه، حيث قالَ:«حدَّثَتْني به نفسي وأنا صبيٌّ»

(4)

، ثمَّ لازالت في نفسِه غايةً؛ يستخيُر الله تعالى فيها، ويسألُه العونَ عليها عَدَدَ سنينَ، إذْ يقولُ عن نفسِه: «استخرتُ الله تعالى في عملِ كتابِ التَّفسيرِ، وسألتُه العَونَ على

(1)

الإمتاع والمؤانسة (ص: 59)، ومعجم الأدباء 2/ 666، 747.

(2)

/ 89.

(3)

ينظر: معجم الأدباء 6/ 2444.

(4)

معجم الأدباء 6/ 2453.

ص: 46

ما نويتُه ثلاثَ سنينَ قبل أن أعملَه، فأعانني»

(1)

، وكانَ هذا الاهتمامُ والاحتشادُ مِنْ ابنِ جريرٍ (ت: 310) خيرَ معينٍ له على تحسينِه وإتقانِه، والأخذِ بكلِّ أسبابِ العلمِ وأطرافِه التي بنى عليها تفسيرَه.

ثمَّ لمَّا اطمأنَّ لذلك شَرَعَ في إملاءِه سنة (270) ببغدادَ، وأملى مِنْ أوَّلِ القرآنِ تفسيرَ مئةٍ وخمسينَ آيةً، ثمّ خرجَ إلى آخرِ القرآنِ وأملى مِنه، وكانَ ذلك مِنه نوعٌ مِنْ التَّدبيرِ؛ لينظرَ جودةَ ما كتبَ، وقبولَه، وشهادةَ العلماءِ له، قالَ أبو بكر ابنُ كامل (ت: 350): «أملى علينا ابنُ جريرٍ كتابَ التَّفسيرِ مئةً وخمسينَ آيةً، ثمَّ خرجَ بعد ذلك إلى آخرِ القرآنِ فقرأه علينا، وذلك في سنةِ سبعينَ ومائتين، واشتهرَ الكتابُ وارتفعَ ذكرُه، وأبو العبّاسِ أحمدُ بن يحيى ثعلب، وأبو العبّاسِ محمدُ بن يزيدٍ المبرِّد = يحيَيَان، ولأهلِ الإعرابِ والمعاني معقِلان، وكانَ أيضاً في الوقت غيرُهما، مثل: أبي جعفر الرُّستُمي، وأبي الحسن ابنِ كيسان، والمفَضَّلِ بن سلمةَ، والجعدِ، وأبي إسحاقَ الزَّجَّاج، وغيرِهم مِنْ النحويّين مِنْ فُرسانِ هذا اللسانِ، وحُمِلَ هذا الكتابُ مشرِقاً ومغرِباً، وقرأه كلُّ مَنْ كانَ في وقتِه مِنْ العلماءِ، وكُلٌّ فضَّلَه وقدَّمَه»

(2)

.

ثمَّ أتَمَّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) كتابةَ تفسيرِه على ما رَسَمَ، وشرَعَ في إملاءِه وإخراجِه كاملاً، وقد عَزَمَ أوَّل أمرِه على البسطِ والاستيعابِ، ثمَّ عَدَلَ عن ذلك لِمَا رأى مِنْ ضَعفِ هِمَّةِ الطُلّابِ، فقد روى الخطيبُ (ت: 463): «أنَّ أبا جعفر الطَّبري قالَ لأصحابِه: أتنشطون

(1)

المرجع السابق.

(2)

معجم الأدباء 6/ 2452.

ص: 47

لتفسيرِ القرآنِ؟ قالوا: كم يكونُ قدرُه؟ قالَ: ثلاثون ألفَ ورقة. فقالوا: هذا ممّا تفنى الأعمارُ قبل تمامِه. فاختصرَه في نحوِ ثلاثةِ آلافِ ورقةٍ. ثمَّ قالَ: تنشطون لتاريخِ العالمِ مِنْ آدمَ إلى وقتِنا هذا؟ قالوا: كم قدرُه؟ فذكرَ نحواً ممّا ذكرَه في التَّفسيرِ، فأجابوه بمثلِ ذلك، فقالَ: إنّا لله ماتَتْ الهِممُ. فاختصرَه في نحوٍ ممّا اختصرَ التَّفسيرَ»

(1)

، وقد أشارَ إلى قصدِ الاختصارِ في مقدِّمتِه حيث قالَ في منهجِ تأليفِه:«بأوجزِ ما أمكنَ مِنْ الإيجازِ في ذلك، وأخصرِ ما أمكنَ مِنْ الاختصارِ فيه»

(2)

.

وقد اجتهدَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تحريره غايةَ التحريرِ، قالَ عبدُ العزيز بن محمد الطَّبري:«قالَ أبو عمرَ الزاهدُ -وكانَ معروفاً زمناً طويلاً بمقابلةِ الكتبِ-: سألتُ أبا جعفر عن تفسيرِ آية، فقالَ: قابِلْ بهذا الكتابِ مِنْ أوَّلِه إلى آخرِه. قلتُ: فقابلت، فما وجدت فيه حرفاً واحداً خطأً في نحوٍ ولا لغةٍ»

(3)

، قالَ المُحقِّقُ محمودُ شاكر (ت: 1418): «وأتجنَّبُ ما أخافُ مِنْ الخطأِ والزَّللِ في كتابٍ قالَ فيه أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلبَ .. ، وأنّى لِمِثلي أن يُحقِّقَ كلمةَ أبي عمرَ في كتابِ أبي جعفرَ»

(4)

، ونحنُ أَوْلى بذلك منهم رحمهم الله.

(1)

تاريخ بغداد 2/ 550.

(2)

جامع البيان 1/ 7. وقد بلغَت صفحاتُ تفسيرِ (جامعِ البيانِ) -في طبعةِ دار هجر- قرابةَ (18000) صفحة، في (24) مجلداً، وهذا عُشرُ ما عزمَ ابن جريرٍ (ت: 310) على تأليفِه، وقد كانَ سيبلغُ تفسيرُه لولا الاختصار قرابةَ (180000) صفحة، في نحوِ (240) مجلداً، بمتوسط (750) صفحة في المجلَّدِ الواحدِ!. وممّا أفادَه هذا الخبرُ أيضاً في تأريخِ الكتابةِ العربيّةِ أنّ الورقةَ الواحدةَ في عصرِ كتابةِ تفسيرِ ابن جريرٍ (ت: 310) تعدلُ ستَّ صفحاتٍ في وقتنا هذا.

(3)

معجم الأدباء 6/ 2453.

(4)

جامع البيان، 1/ 12 طبعة/ شاكر.

ص: 48

وانتشرَ عنه الكتابُ بعد ذلك واشتهرَ، وأملاه مَرَّاتٍ؛ مِنها ما أملاه مِنْ سنةِ (283)، إلى سنةِ (290). قالَ ابنُ خزيمة (ت: 311) لابنِ بالوَيه (ت: 340): «بلغني أنك كتبت التَّفسيرَ عن محمدِ بن جريرٍ. قلت: نعم، كتبنا التَّفسير عنه إملاء. قالَ: كلَّه؟ قلت: نعم. قالَ: في أيّ سنةٍ؟ قلت: مِنْ سنةِ ثلاث وثمانين، إلى سنةِ تسعين»

(1)

. وقُرِئَ عليه أيضاً سنة (306) في أواخر حياته.

(2)

مَوضوعُه:

أبانَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن موضوعِ كتابِه في نَصِّ عنوانه: (جامعُ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآن)؛ فهو خالصٌ مستوعِبٌ في: تأويلِ آيِ القرآنِ، وما يُحتَاجُ إليه لتأويلِه؛ من أنواعِ العلومِ والمعارِفِ.

وقد أَكَّدَ ذلك في مواضِعَ من تفسيرِه، ومِن ذلك اقتصارُه مِنْ عِلمِ القراءاتِ على ما تقعُ به الكفايةُ في بيانِ المعاني، والاختيارِ منها، كما في قولِه بعدَ ذِكرِ وجوهِ قراءةِ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]: «وقد استقصَيْنا حكايةَ الرِّوايةِ عمَّن رُويَ عنه في ذلك قراءةٌ في كتابِ (القراءاتِ)، وأخبَرْنا بالذي نختارُ مِنْ القراءةِ فيه، والعلَّةُ الموجبةُ صحَّةَ ما اخترناه مِنْ القراءةِ فيه. فكرهنا إعادةَ ذلك في هذا الموضع، إذ كانَ الذي قصدنا له في كتابِنا هذا البيانُ عن وجوهِ تأويلِ آي القرآنِ دون وجوهِ قراءتِها»

(3)

.

(1)

تاريخ بغداد 2/ 551.

(2)

جامع البيان 1/ 3.

(3)

جامع البيان 1/ 150.

ص: 49

كما اقتصَرَ في بيانِ الأحكامِ على ما ذُكِرَ منها في التَّنزيلِ دون ما لم يُذكَر، فقالَ بعد ذِكرِ أحكامِ قتلِ المُحرِمِ الصيدَ عمداً عند قوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]: «وأمّا ما يلزمُ بالخطأِ قاتلَه؛ فقد بيَّنا القولَ فيه في كتابِنا (كتابِ لطيفِ القولِ في أحكامِ الشرائعِ)، بما أغنى عن ذكرِه في هذا الموضعِ. وليس هذا الموضعُ موضعَ ذكرِه؛ لأنَّ قصدَنا في هذا الكتابِ الإبانةُ عن تأويلِ التَّنزيلِ، وليس في التَّنزيلِ للخطأِ ذِكرٌ فنذكرَ أحكامَه»

(1)

، وقالَ في موضعٍ آخَرَ:«وليس هذا الموضعُ مِنْ مواضعِ الإكثارِ في هذا المعنى على مَنْ أنكرَ الميزانَ الذي وصفنا صفتَه؛ إذ كانَ قصدُنا في هذا الكتابِ البيانُ عن تأويلِ القرآنِ دون غيره، ولولا ذلك لقرنّا إلى ما ذكرنا نظائرَه، وفي الذي ذكرنا مِنْ ذلك كفايةٌ لمن وفِّقَ لفَهمِه إن شاءَ الله»

(2)

.

منهجُه فيه إجمالاً:

بدأَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) تفسيرَه بمقدِّمةٍ موَسَّعةٍ احتوت جُمَلاً مِنْ المسائلِ، مِنْ أهَمِّها:

- فضلُ علمِ التَّفسيرِ ومكانَتُه.

- منهجُه في كتابِه.

- موافقةُ معاني القرآنِ لمعاني منطقِ العربِ الذين أنزِلَ عليهم، والبيانُ عمّا باينَ به القرآنُ سائرَ الكلامِ.

(1)

جامع البيان 8/ 679. وينظر: 14/ 176.

(2)

جامع البيان 10/ 72.

ص: 50

- البيانُ عن الأحرفِ التي اتَّفقت فيها ألفاظُ العربِ وألفاظُ غيرِهم مِنْ الأممِ.

(1)

- تحديدُ اللغةِ التي نزلَ بها القرآنُ مِنْ لُغاتِ العربِ.

- سردُ الآثارِ في الأحرفِ السَّبعةِ وتحديدُ المُرادِ بها.

- بيانُ الوجوهِ التي يوصَلُ بها إلى معرفةِ تأويلِ القرآنِ.

- ذِكرُ الأخبارِ التي رُوِيَت في النَّهي عن تأويلِ القرآنِ بالرَّأي، وفي الحَضِّ على العلمِ بتفسيرِ القرآنِ، ومَن كانَ يُفَسِّرُه مِنْ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، والأخبارِ التي غلِطَ في تأويلِها مُنكِرو القولَ في تأويلِ القرآنِ، وتوجيهِ كُلِّ ذلك.

- ذكرُ بعضِ العلماءِ بالتَّفسيرِ مِنْ الصَّحابةِ فمَن بعدهم.

- بيانُ معاني (أسماءِ القرآنِ)، و (السّورةِ)، و (الآيةِ).

وقد لَخَّصَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) منهجَه في تفسيرِه بقولِه: «ونحنُ في شرحِ تأويلِه، وبيانِ ما فيه مِنْ معانيه منشئون -إن شاءَ الله ذلك- كتاباً

(1)

وهو المعرَّبُ عند بعضِ العلماءِ، وابنُ جريرٍ (ت: 310) لا يرى صوابَ تلك التَّسميةَ؛ لما يلزمُ عنها مِنْ إثباتِ وجودِ تلك الألفاظِ في غيرِ العربيَّةِ أوَّلاً، وهذا ما لا سبيلَ إلى إثباتِه، بل الصَّوابُ عنده أن يُسمَّى بكلتا اللغتين مُطلقاً، فيُقالُ: عربيٌّ حبشيٌّ، أو فارسيٌّ عربيٌّ. على التَّساوي. ينظر: جامع البيان 1/ 16. وهذا مِنه رحمه الله نظرٌ دقيقٌ للمصطلحاتِ، وبصرٌ بلوازِمِها، وأثرِها على مسائلِ العلومِ، وهذا شأنُ المُحقِّقين مِنْ العُلماءِ، والمتأمِّلُ في كثيرٍ مِنْ مواضعِ الخلافِ في مسائلِ التَّفسيرِ وعلومِ القرآنِ يرى منشأَ الخللِ فيها مِنْ عدمِ تحريرِ مصطلحاتِها، وتبيينِ حدودِها، والبصرِ بلوازِمها؛ ومِن ذلك مُصطلحاتُ: (التَّفسيرِ، والاستنباطِ، والتَّدبُّرِ، والتّأويلِ، والنَّسخِ، والنُّزولِ، والشُّهرةِ والتواترِ، والإجماعِ والشُّذوذِ) وغيرِها.

ص: 51

مستوعباً لكلِّ ما بالنّاسِ إليه الحاجةُ مِنْ علمِه، جامعاً، ومِن سائرِ الكتبِ غيرِه في ذلك كافياً، ومخبرون في كلِّ ذلك بما انتهى إلينا مِنْ اتِّفاقِ الحُجَّةِ فيما اتفقَت عليه الأمَّةُ، واختلافِها فيما اختلفَت فيه مِنه، ومبينو عللَ كلِّ مذهبٍ مِنْ مذاهبِهم، وموضحو الصَّحيحَ لدينا مِنْ ذلك، بأوجزِ ما أمكنَ مِنْ الإيجازِ في ذلك، وأخصرِ ما أمكنَ مِنْ الاختصارِ فيه»

(1)

، ويُستَفادُ مِنْ بيانِه ذلك مسائلُ:

الأولى: أنَّ موضوعَ كتابِه في بيانِ معاني القرآنِ وشرحِ تأويلِه.

الثانية: استيعابُه لكلِّ ما يُحتَاجُ إليه في بيانِ القرآنِ؛ مِنْ أنواعِ العلومِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ.

الثالثة: أنَّه جامعٌ وافٍ في بيانِ ذلك، وكافٍ عن غيرِه فيه.

الرابعة: يبيِّنُ أثناءَ ذلك ما اتفقَت عليه الحُجَّةُ، وأجمعَت عليه الأمَّةُ، وما اختُلِفَ فيه.

الخامسة: يذكرُ عِلَلَ ذلك وأدِلَّتَه.

السادسة: مع التَّصحيحِ والتَّرجيحِ والاختيارِ.

السابعة: بكُلِّ ما أمكنَ مِنْ الإيجازِ والاختصارِ.

وقد وَفَّى رحمه الله بذلك في عامَّةِ تفسيرِه بلا إخلالٍ.

(2)

(1)

/ 7.

(2)

أوّلُ طبعاتِ تفسير ابن جرير (ت: 310) كانَت بالمطبعة الميمنية سنة (1321) في ثلاثين جزءاً، ثم طبعةُ مصطفى البابي الحلبي في نفس العام في عشرة أجزاء، ثم طُبِعَ بالمطبعة الأميرية سنة (1323) في ثلاثين جزءاً، وطُبِعَ فيها مَرَّةً أخرى سنة (1333) في ثلاثين جزءاً، ثم طبعته مكتبة البابي الحلبي مَرَّةً أخرى سنة (1373) في ثلاثين جزءاً، وهي من =

ص: 52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= طبعاته المميزة؛ حيث روجعَت على نُسَخٍ خَطِّيَّة، مع ضبط النصِّ، وشرح الشواهد الشعرية، على يد علماء أجِلَّاء؛ منهم الشيخ مصطفى السَّقَّا، ثُمَّ صُوِّرَت هذه الطبعة في مكتبة البابي الحلبي سنة (1388)، وتتابع تصويرها مَرَّات. وأهمّ طبعةٍ صدرت لهذا التَّفسير الطبعةُ التي قام عليها العلامة محمود محمد شاكر وأخوه أحمد محمد شاكر، ونشرتها دار المعارف بالقاهرة من سنة (1374) إلى سنة (1388) في ستَّة عشرَ جزءاً، ولم تكتمل، بل وصل فيها إلى آية (28) من سورة إبراهيم، ولو كَمُلَت لما احتِيجَ إلى غيرها. ثُمَّ طُبِعَ قريباً عن دارِ هجر بالقاهرة سنة (1422) في ستّةٍ وعشرين مُجَلَّداً، وهي طبعة حَسَنة؛ امتازَت بكثرةِ نُسخِها، وجودةِ ضَبطِها، وحُسنِ إخراجِها.

و ممّا عملَه المتقدّمون على هذا التَّفسيرِ:

1 -

كتابَ أبي يحيى ابنُ صُمادِح التُّجيبيّ الأندلسيّ (ت: 419): (مختصر غريبِ تفسيرِ القرآنِ للطبري) -كما سمّاه ابنُ دحيةَ الكلبيّ (ت: 633) في المُطرب من أشعار أهل المغرب (ص: 34) ويرويه بإسنادِه، وسمّاه الذّهبيّ (ت: 748) في السِّيَر 18/ 593 (المختصر في غريب القرآن) -، وقد اعتمدَ فيه على تفسير الطَّبريّ، وطُبعَ خطأً بعُنوان: مختصرُ تفسيرِ الإمامِ الطّبريّ. عن الهيئةِ المصريّةِ العامّةِ للكتابِ سنة 1980 م، في مجلَّدين، بتحقيقِ: محمد حسن الزُّفيتيّ، والصّوابُ أنّه في غريب القرآن فقط. ثمَّ طبعَته دار الشُّروقِ بمصر في هامشِ المُصحفِ الشَّريفِ سنة 1397.

2 -

وألَّفَ محمد بن أحمد الأندلسيّ المعروف بابن اللجالش (ت: 490) مختصراً لتفسيرِ الطَّبريّ، كما في الصّلةِ، لابن بشكوال (ص: 533).

3 -

وذكرَ ابنُ العربيّ (ت: 543) من مقروءاتِه في التَّفسيرِ: «مُختصرَ الطّبريّ» ولم يُسمِّ مؤَلِّفَه، كما في قانون التأويل (ص: 118).

ومِن مؤلَّفاتِ المعاصرين في اختصارِه:

1 -

مختصر تفسير الطَّبريّ، لمحمد علي الصابوني، ود. صالح أحمد رضا، طبع عن دار القرآن الكريم ببيروت، سنة 1983 م، في مجلدين.

2 -

تفسير الطَّبريّ تقريب وتهذيب، هذّبه د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، وخرّج أحاديثَه إبراهيم محمد العلي، طبع عن دار القلم ببيروت، سنة 1997 م، في سبعة مجلدات.

3 -

تفسير الطَّبريّ من كتابه (جامع البيان)، هذّبه وحقّقه د. بشّار عوّاد معروف، وعصام فارس، طبع عن مؤسسة الرسالة ببيروت، سنة 2002 م، في سبعة مجلدات.

وقد بلغت البحوث والدّراسات المعاصرة في المباحث اللغوية في هذا التفسير (12) كتاباً، وبلغت المؤلّفات في منهج ابنِ جريرٍ في تفسيرِه (56) مؤَلَّفاً. وينظر: الإمام ابن جرير الطَّبريّ وتفسيرُه، من إصدارات مركز تفسير للدِّراسات القرآنية.

ص: 53

مكانَتُه العلميَّةُ:

ما إن فرغَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) من تدوينِ تفسيرِه وإقراءِه حتى انتشرَ عنه شرقاً وغرباً، وتنافسَ النّاسُ في نَسخِه وتحصيلِه، واشتهرَ به مؤلِّفُه غايةَ الاشتهارِ، وعُرِفَ به فضلُه في العلمِ وإمامتُه، قالَ أبو بكر ابنُ كامل (ت: 350): «حُمِلَ هذا الكتابُ مشرقاً ومغرباً، وقرأه كلُّ مَنْ كانَ في وقتِه مِنْ العلماءِ، وكُلٌّ فضَّلَه وقدَّمَه»

(1)

، بل صارَ هذا التَّفسيرُ معياراً توزَنُ به التَّفاسيرُ، قالَ ابنُ حزمٍ (ت: 456): «مِنْ مصنّفاتِ بقيّ بن مَخلَد كتابُ (تفسيرِ القرآنِ)، وهو الكتابُ الذي أقطعُ قطعاً لا أستثني فيه أنَّه لم يؤَلَّف في الإسلامِ مثلُه، ولا تصنيفَ محمد بن جريرٍ الطَّبري، ولا غيرَه»

(2)

.

وقد شهدَ العلماءُ مِنْ زمنِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) فمَن بعده بجلالةِ هذا التَّفسيرِ وتفرُّدِه وسَبقِه، فقالَ ابنُ خزيمة (ت: 311): «نظرتُ فيه مِنْ أوَّلِه إلى آخرِه، وما أعلمُ على أديمِ الأرضِ أعلمَ مِنْ ابنِ جريرٍ»

(3)

، وقالَ أبو حامد الاسفرائيني (ت: 406): «لو سافرَ رجلٌ إلى الصين حتى

(1)

معجم الأدباء 6/ 2452.

(2)

رسائل ابن حزم 2/ 178، ومعجم الأدباء 2/ 747.

(3)

تاريخ بغداد 2/ 551.

ص: 54

يُحصِّلَ كتابَ تفسيرِ محمدِ بن جريرٍ لم يكُنْ ذلك كثيراً»

(1)

، وقالَ الخطيب (ت: 463): «كتابُ ابن جريرٍ في التَّفسير لم يُصَنِّف أحدٌ مثلَه»

(2)

، وقالَ ابنُ العربي (ت: 543): «ولم يُؤَلِّف في البابِ -أي: أحكام القرآن- أحدٌ كتاباً به احتِفالٌ إلا محمدُ بن جريرٍ الطَّبري؛ شيخُ الدّين، فجاءَ بالعجبِ العُجابِ، ونشرَ فيه لُبابَ الألبابِ، وفتحَ فيه لكُلِّ مَنْ جاءَ بعدَه البابَ، فكُلُّ أحدٍ غرَفَ مِنه على قَدرِ إناءِه، وما نَقَصَت قطرَةٌ مِنْ ماءِه»

(3)

، ووصفَ ابنُ تيمية (ت: 728) هذا التَّفسيرَ بأنَّه: «مِنْ أَجَلِّ التفاسيرِ، وأعظمِها قدراً»

(4)

، وقالَ السيوطي (ت: 911): «وهو أجلُّ التَّفاسيرِ وأعظمُها»

(5)

، وقالَ بعد أن عَدَّدَ طبقاتِ المفسّرين ومناهجِهم:«فإن قلتَ: فأيُّ التفاسيرِ ترشِدُ إليه، وتأمرُ النّاظرَ أن يُعَوِّل عليه؟ قلتُ: تفسيرَ الإمامِ أبي جعفر ابن جريرٍ الطَّبري؛ الذي أجمعَ العلماءُ المُعتَبَرون على أنَّه لم يُؤَلَّف في التَّفسيرِ مثلُه»

(6)

.

وقد جاءَ تفسيرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) جامعاً حاوياً لأنواعِ العلومِ اللازمةِ والمتَمِّمَةِ في التَّفسيرِ، قالَ الفرغاني (ت: 362): «تَمَّ مِنْ كُتُبه كتابُ التَّفسيرِ وجوَّدَه، وبيَّن فيه أحكامَه، وناسخَه ومنسوخَه، ومشكلَه، وغريبَه، ومعانيه، واختلافَ أهلِ التّأويلِ والعلماءِ في أحكامِه وتأويلِه،

(1)

تاريخ بغداد 2/ 550.

(2)

المرجع السابق.

(3)

المسالك في شرح موطّأِ مالك 1/ 102. وينظر: أحكام القرآن 1/ 19.

(4)

مجموع الفتاوى 13/ 361.

(5)

الإتقان في علوم القرآن 6/ 2342.

(6)

المرجع السابق 6/ 2346.

ص: 55

والصَّحيحَ لديه مِنْ ذلك، وإعرابَ حروفِه، والكلامَ على المُلحدين فيه، والقصصَ، وأخبارَ الأممِ، والقيامةَ، وغيرَ ذلك مما حواه مِنْ الحكمِ والعجائبِ، كلمةً كلمةً، وآيةً آيةً، مِنْ الاستعاذة إلى أبي جاد، فلو ادعى عالمٌ أن يُصَنِّف مِنه عشرةَ كتبٍ، كلَّ كتابٍ مِنها يحتوي على عِلْمٍ مُفرَدٍ عجيبٍ مستقصىً = لفعلَ»

(1)

.

‌المطلبُ السّادسُ: المرادُ ب (منهجِ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ).

في ضوءِ ما سبق مِنْ البيانِ لألفاظِ (المنهجِ) و (الاستدلالِ) و (التَّفسيرِ)، نستطيعُ بناءَ مفهومٍ يكشِفُ عن المرادِ بعنوانِ البحثِ، ويُمكِنُ تلخيصُه بأنَّه:

الطَّريقةُ العلميّةُ الواضحةُ التي التزمَهَا ابنُ جريرٍ في إقامَةِ الدَّليلِ على معاني آياتِ القرآنِ الكريمِ؛ صِحَّةً أو بُطلاناً، وقَبولاً أو رَدّاً.

ويتبَيَّن مِنْ هذا التعريف غرضُ ابن جريرٍ (ت: 310) مِنْ استدلالِه على المعاني، وهو منحصرٌ في أمرَيْن:

أوّلِهما: تصحيحُ المعاني مِنْ خلالِ تلك الأدلَّةِ، ومِن ثَمَّ قبولُها.

ثانيهما: إبطالُ المعاني بدلالةِ تلك الأدلَّةِ، ومِن ثَمَّ رَدُّها.

ويتبَيَّن مِنْ التَّعريفِ كذلك أنَّ مرحلةَ الاستدلالِ على المعاني لاحِقَةٌ -في الأغلبِ- لمرحلةِ تحديدِ المعنى وبيانِه؛ وهي المرحلةُ التي يُحَدِّدُ

(1)

سير أعلام النبلاء 14/ 273، وتاريخ دمشق 52/ 196.

ص: 56

فيها المُفَسِّرُ معنى الآيةِ مِنْ خلال جُملةٍ مِنْ المصادرِ، والتي بحثها العلماءُ تحتَ:(مصادرِ التَّفسيرِ، ومآخذِه، واستمدادِه، ووجوهِ بيانِه، وطرقِه)

(1)

، وهي في جُملَتِها لا تخرجُ عن أَدِلَّةِ المعاني كما سيتبيّن، ومِن ثَمَّ يجتمعُ هذان الوصفان في هذه الموضوعاتِ؛ فهي (مصادرُ للتَّفسيرِ) باعتبارِها مورِداً للتَّعَرُّفِ على المعنى وتبيينِه، وهي أيضاً (أدِلَّةٌ للمعاني) باعتبارِها طُرُقاً لإثباتِ صِحَّةِ دلالةِ تلك الألفاظِ على المعاني أو إبطالِها. ومِثْلُها في ذلك الأدِلَّةُ المُعتَبَرةُ للأحكامِ الشَّرعيَّةِ:«القرآنُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، والقياسُ» ؛ فهي مصادرُ لمعرفةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، كما أنَّها أدِلَّةٌ لتصحيحِ تلك الأحكامِ وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

(2)

كما بُحِثَت أيضاً جُملَةٌ مِنْ تلك الأدلَّةِ ضمن: (أدواتِ التَّفسيرِ، وآلاتِه، وشروطِ المُفَسِّر)

(3)

؛ وذلك باعتبارِها عُدَّةَ المُفَسِّر ومؤَهِّلاتِه للأخذِ في التَّفسيرِ؛ بالاستمدادِ مِنْ مصادرِه، والاستدلالِ على معانيه. وهي بهذا الاعتبارِ سابقةٌ لمرحلتَيْ: بيانِ المعنى مِنْ مصادرِه، وإقامةِ الدَّليلِ عليه.

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 67، والنكت والعيون 1/ 36، ومجموع الفتاوى 13/ 363، والبرهان 2/ 156، وتفسير ابن كثير 1/ 6، والإتقان 6/ 2274، والتحرير والتنوير 1/ 18، والتفسير والمفسرون 1/ 42، 109، وبحث «مصادر التَّفسير» ، مجلة الحكمة 26/ 61، والمُفَسِّرُ شروطه وآدابه ومصادره (ص: 355).

(2)

ينظر: الرسالة (ص: 221)، ومجموع الفتاوى 7/ 40، وعلم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاَّف (ص: 20).

(3)

ينظر: مقدمة جامع التفاسير (ص: 93)، والتسهيل 1/ 15، والبحر المحيط 1/ 105، والإتقان 6/ 2275، والمُفَسِّرُ شروطه وآدابه ومصادره (ص: 99).

ص: 57

كما أدرجَها جماعةٌ مِنْ المؤلِّفين ضمن: (وجوهِ التَّرجيحِ، وموجباتِه)

(1)

؛ لِمَا اشتملت عليه مِنْ أصولِ وجوهِ التَّرجيحِ بين المعاني التَّفسيريَّةِ وقرائِنِه.

(1)

ينظر: التسهيل 1/ 7، 20، وقواعد الترجيح عند المفسرين 1/ 18.

ص: 58

‌المبحثُ الثّاني: «الاستدلالُ على المعاني» في علمِ التَّفسيرِ.

وفيه ثلاثةُ مطالبَ:

‌المطلبُ الأوَّلُ: نشأةُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

المطلبُ الثّاني: مكانَةُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

المطلبُ الثّالثُ: مصادرُ أدلَّةِ المعاني في التَّفسيرِ.

المطلبُ الأوَّلُ: نشأةُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

ظهرَ الاستدلالُ على المعاني في التَّفسيرِ مع أوَّلِ ظهورِ علمِ التَّفسيرِ، وتصاحَبَا في كثيرٍ مِنْ بيانِ النَّبي صلى الله عليه وسلم والصَّحابةِ والتّابعينَ للقرآنِ الكريمِ، ثُمَّ صارَ بعدهم هَدْياً لازماً، ومنهجاً مُتَّبعاً لكلِّ مَنْ أرادَ تصحيحَ معنىً وقبولَه، أو إبطالَه ورَدَّه.

وقد كانَ في بيانِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لآياتٍ القرآنِ الكريمِ الكفايةُ عن الاستشهادِ له والاستدلالِ عليه؛ فإنَّ قولَّه حقٌّ ودليلٌ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، ولكنَّه جاءَ لتعريفِ الصَّحابةِ ومَن بعدهم وجوهَ التوَصُّلِ إلى المعاني، والتَّدليلِ عليها، وذلك نوعٌ مِنْ

ص: 59

البيانِ النبويِّ للقرآنِ الكريمِ، تحسُنُ الإشارةُ إليه، والاهتمامُ به، وهو: بيانُ النَّبي صلى الله عليه وسلم لأدلةِ معرفةِ المعاني وقبولِها أو رَدِّها. ومع قِلَّةِ العنايةِ بهذا النَّوعِ إلا أنَّه مِنْ تمامِ البيانِ الذي أُمِرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ومِن أمثلةِ ذلك:

1 -

قولُ ابن مسعود رضي الله عنه: «لَمَّا نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذلك على أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه! فقالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ليس بذلك؛ ألم تسمعوا ما قالَ العبدُ الصّالحُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؟ إنَّما هو الشِّركُ» »

(1)

، وقد كانَ يتمُّ البيانُ بقولِه صلى الله عليه وسلم:«إنَّما هو الشِّركُ» ، ولكنَّه وجَّهَ أصحابَه إلى هذا الوجهِ مِنْ الاستشهادِ؛ وهو الاستدلالُ بالقرآنِ على المعاني؛ ليكونَ لهم منهجاً في معرفةِ المعنى وتحقيقِه.

2 -

وعن أمُّ مُبَشِّر رضي الله عنها قالَت: «سمعتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يقولُ عند حفصة: «لا يدخلُ النّارَ -إن شاءَ اللهُ- مِنْ أصحابِ الشَّجرةِ أحدٌ مِنْ الذين بايعوا تحتها» ، فقالَت حفصةُ: بلى يا رسولَ الله. فانتهرَها، فقالَت: ألم يقُل الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]؟ فقالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وقد قالَ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]» »

(2)

، فأزالَ صلى الله عليه وسلم الإشكالَ بالاستدلالِ بالسّياقِ، فانتَسَقَ به المعنى مع ما قَرَّرَه عليه الصلاة والسلام.

3 -

وعن ابنِ عباس رضي الله عنه قالَ: «لمَّا نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه 4/ 163 (3429)، ومسلم في صحيحه 11/ 307 (124).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 47 (2496).

ص: 60

وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] كَبُرَ ذلك على المسلمين، فقالَ عمرُ رضي الله عنه: أنا أُفَرِّجُ عنكم. فانطلقَ، فقالَ: يا نبيَّ الله إنَّه كَبُرَ على أصحابِكَ هذه الآية. فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يفرضْ الزَّكاةَ إلا ليُطَيِّبَ بها أموالَكم، وإنَّما فرضَ المواريثَ لتكون لمَن بعدَكم» ، فكَبَّرَ عمرُ رضي الله عنه)

(1)

، وهنا يبرز الاستدلالُ العقليُّ على المعاني؛ فإن المواريثَ فُرِضَت في مالٍ يبقى، وكذا الزَّكاةُ بعضٌ مِنْ مالٍ موجودٍ، فلو كانَ الكنزُ المذمومُ مُطلَقَ جمعِ المالِ لمَا كانَ لتشريعِ الزَّكاةِ وفرائضِ المواريثِ معنىً.

وقد سارَ على ذلك المنهجِ النبويِّ في الاستدلالِ على المعاني جماهيرُ السَّلفِ، وكَثُرَ النقلُ عنهم فيه كثرَةً ظاهرةً، ومِن أمثلةِ ذلك:

1 -

قولُ قتادة (ت: 117) في قولِه تعالى {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80]: «ما عنده؛ وفي حرفِ ابن مسعود (ونَرِثُه ما عِندَه) [مريم: 80]»

(2)

.

2 -

وقالَ عبدُ الرحمن بن زيد (ت: 182) في قوله تعالى {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18]: «ما نَعرِفُ المذؤومَ والمَذمومَ إلا واحداً،

(1)

أخرجه أبو داود في السنن 2/ 126 (1664)، وأحمد في فضائل الصحابة 1/ 374 (560)، وأبو يعلى في المسند 4/ 378 (2499)، والبيهقي في السنن 4/ 83 (7027)، وهو حديثٌ حسنٌ لغيره؛ تُنظَر شواهده في مسند أحمد 5/ 278 (22446)، وجامع الترمذي 5/ 277 (3094)، وسنن ابن ماجة 1/ 596 (1856)، والكافي الشافِ، لابن حجر 2/ 258، وتفسير ابن كثير 7/ 185.

(2)

جامع البيان 15/ 622.

ص: 61

ولكن تكون الحروفُ منتَقَصَةً، وقد قالَ الشاعرُ لعامرٍ: يا عامِ. ولحارثٍ: يا حارِ. وإنما أُنْزِلَ القرآن على كلامِ العربِ»

(1)

.

3 -

وعن سعيدِ بن جبير (ت: 95) في قولِه تعالى {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} [الحج: 36]: «هو السائلُ؛ أمَا سمعتَ قولَ الشَّمَّاخ:

لَمَالُ المرءِ يُصْلِحُه فيُغنِي

مَفَاقِرَه أَعَفُّ مِنْ القُنُوعِ

قالَ: مِنْ السُّؤال»

(2)

.

4 -

وسأَلَ رجلٌ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقالَ: يا أميرَ المؤمنين أرأيْتَ قولَ اللهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، وَهُمْ يُقاتِلُونَنَا فيَظهَرون ويَقتُلونَ؟ فقالَ لهُ عليٌّ: ادْنُهْ. ثُمَّ قَالَ: «{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]؛ يومَ القيَامَة»

(3)

.

5 -

وقالَ مجاهدُ (ت: 104) في قولِه تعالى {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]: «يَتَّبِعونه حَقَّ اتِّباعِه؛ ألَمْ تَرَ إلى قوله {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2]؟ يعني الشَّمسَ إذا اتَّبَعَها القمر»

(4)

.

ثُمَّ صارَ منهجُ الاستدلالِ على المعاني التَّفسيريَّةِ بعد ذلك شأنَ المفسِّرين في مُصَنَّفاتِهم، ومِن أجلِّ ما تتميّزُ به التَّفاسيرُ وتتفاضلُ، وبه تقدَّمت جُملَةٌ مِنْ التَّفاسيرِ التي شَهِدَ لها العلماءُ بالتجويدِ والتَّحريرِ؛

(1)

جامع البيان 10/ 104.

(2)

جامع البيان 16/ 556.

(3)

جامع البيان 7/ 608.

(4)

جامع البيان 2/ 490.

ص: 62

كتفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وابنِ عطية (ت: 542)، وابنِ العربي (ت: 543)، والقرطبيِّ (ت: 671)، وابنِ كثير (ت: 774)، والشِّنقيطيِّ (ت: 1393)، وما كتبَه ابنُ تيمية (ت: 728) في التَّفسيرِ، وغيرِهم مِنْ نَقَدَةِ المُفَسِّرين، وتراجمةِ القرآن. وكُلَّما تباعدَ المُفَسِّرُ عن مُجَرَّدِ جمعِ الأقوالِ في تفسيرِه إلى نقدِها وتحريرِها والتَّرجيحِ بينها = برزَت لديه ملكةُ الاستدلالِ على المعنى، وظهرَت جَليّاً في تفسيرِه.

وقد اشتَملَتْ مُقَدِّماتُ عددٍ مِنْ التَّفاسيرِ، وجُملَةٌ مِنْ كتبِ أصولِ التَّفسيرِ وعلومِ القرآنِ، على كثيرٍ مِنْ ذِكرِ أدِلَّةِ المعاني، ومنهجِ الاستدلالِ بها، والإشارَةِ إلى أنواعٍ مِنْ الأدلَّةِ الباطِلَةِ، والمناهجِ الخاطِئَة. وكانَ مِنْ أبرَزِ المسائلِ التي تناولتها تلك الكتبُ: النهيَ عن الكلامِ في القرآنِ بغير دليلٍ

(1)

، والإشارةَ إلى اعتمادِ القواعدِ العلميَّةِ واللغةِ العربيَّةِ التي نزلَ بها القرآنُ

(2)

، وبيانَ أهميّةِ التَّفسيرِ النبويِّ وتقديمَه

(3)

، والاستدلالَ بأقوالِ السَّلفِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين على المعاني، مع بيانِ مراتبِهم في هذا العلمِ

(4)

، مع ذكرِ أبرزِ مصادرِ

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 71، وبحر العلوم 1/ 72، والنكت والعيون 1/ 35، والمحرر الوجيز 1/ 29، والجامع لأحكام القرآن 1/ 56، والتحرير والتنوير 1/ 30.

(2)

ينظر: جامع البيان 1/ 8، 20، والنكت والعيون 1/ 37، والبسيط 1/ 396، والمحرر الوجيز 1/ 25، والجامع لأحكام القرآن 1/ 41، والتسهيل 1/ 7، 19، والتحرير والتنوير 1/ 18.

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 68، وتفسير ابن أبي حاتم 1/ 14، والبسيط 1/ 397، والجامع لأحكام القرآن 1/ 8، 64، والتسهيل 1/ 17.

(4)

ينظر: جامع البيان 1/ 84، وتفسير ابن أبي حاتم 1/ 14، والبسيط 1/ 416، والمحرر الوجيز 1/ 29، والجامع لأحكام القرآن 1/ 60، والتسهيل 1/ 22، وتفسير ابن كثير 1/ 7.

ص: 63

التَّفسيرِ، ومراتبِ الاستدلالِ بها

(1)

، والتعرُّضِ لعلمِ القراءاتِ وما يُستفادُ مِنه في بيانِ المعنى

(2)

، والإشارةِ إلى الاستدلالِ بالقَصَصِ التي يورِدُها المُفَسِّرون، والأخبارِ التي ينقلُها المؤرِّخون

(3)

.

ومِمَّن توسَّعَ في تحريرِ أهَمِّ مسائِل الاستدلالِ على المعاني ومباحثِه ابنُ العربيّ (ت: 543) في (قانونِ التأويل)، والطوفيُّ (ت: 716) في (الإكسيرِ في علمِ التَّفسيرِ)، وابنُ تيمية (ت: 728) في (مقدمةٍ في أصولِ التَّفسيرِ)؛ حيثُ تعرَّضَ ابنُ العربي (ت: 543) لأهميّةِ الدَّليلِ العقليّ، ومطابقتِه لدليلِ الشَّرعِ، وأقسامِ الأدلَّةِ مِنْ جهةِ أصلِها، ولزومِ الاستدلالِ، وأُمَّهاتِ أدلَّةِ المعاني، وشيءٍ مِنْ ضوابطِ الاستدلالِ بها

(4)

.

كما قصدَ الطوفيُّ (ت: 716) إلى وضعِ قانونٍ في علمِ التَّفسير يُعَوَّلُ عليه، ويُصَارُ في هذا الفَنِّ إليه

(5)

، ففَصَّلَ أنواعَ أدلَّةِ المعاني، وأشارَ إلى ضوابطِ الاستدلالِ بها، والمنعِ مِنْ التَّفسيرِ بلا دليلٍ، ووجوهِ الترجيحِ بين الأدلَّة.

(6)

واستوعبَ ابنُ تيمية (ت: 728) في هذا البابِ وحَرَّر؛ ففَصَّلَ الحديثَ

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 67، 88، والنكت والعيون 1/ 37، 40، والتسهيل 1/ 20، وتفسير ابن كثير 1/ 6، وأضواء البيان 1/ 25.

(2)

ينظر: جامع البيان 1/ 62، والجامع لأحكام القرآن 1/ 71، والتحرير والتنوير 1/ 51.

(3)

ينظر: المحرر الوجيز 1/ 10، والجامع لأحكام القرآن 1/ 8، والتسهيل 1/ 17، وتفسير ابن كثير 1/ 10، والتحرير والتنوير 1/ 25.

(4)

ينظر: قانون التأويل (ص: 176، 351، 210، 366، 367).

(5)

الإكسير في علم التفسير (ص: 27، 39).

(6)

ينظر: المرجع السابق (ص: 36، 38، 40، 41، 43).

ص: 64

عن بيانِ النَّبي صلى الله عليه وسلم للقرآنِ الكريمِ، وأشارَ إلى أصولِ الأدلَّة مِنْ النَّقلِ والاستدلالِ، ووجوهِ الخَطأِ في الاستدلالِ بهما، ووجوبِ لزومِ مذاهبِ الصَّحابةِ والتّابعين في التَّفسيرِ، ثُمَّ أفاضَ القولَ في طُرقِ التَّفسيرِ المعتَبَرةِ، ومراتبِ الاستدلالِ بها، وحُرمَةِ القولِ في القرآنِ بلا دليل.

(1)

‌المطلبُ الثّاني: مكانَةُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

إنَّ إقامةَ الدَّليلِ والبرهانِ على كلِّ قولٍ ودعوى منهجٌ شرعيٌّ، وأصلٌ علميٌّ؛ فقد جاءَ القرآنُ صريحاً واضحاً بالأمرِ بإقامةِ الدَّليلِ مِنْ كُلِّ ذي دعوى على دعواه، وبَيَّن أنَّ قبولَ القولِ متوقِّفٌ على إقامةِ الدَّليلِ عليه، وأنَّ الدَّليلَ والبرهانَ هو الفارقُ بين الحقِّ والباطلِ، والعلمِ والظّنِّ، والصِّدقِ والكذبِ؛ ومِن تلك النصوصِ المتوافرةِ قولُه تعالى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، فدليلُ صِدقِ الدعوى إقامةُ الدَّليلِ عليها، ولا يُقبَلُ الدَّليلُ ما لم يكُنْ عِلماً ثابتاً مطابقاً للواقعِ:{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]، وكُلُّ ما لا دليلَ عليه فهو مِنْ الظَنِّ والخَرصِ الذي لا يُغنِي مِنْ الحقِّ شيئاً:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «الأدلَّةُ أعلامُ الله التي نصبَها أسباباً موصِلاتٍ إلى العلمِ بأحكامِه»

(2)

.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى 13/ 329، 331، 344، 355، 361، 363، 364، 368، 370.

(2)

تنبيه الرجل العاقل 2/ 451.

ص: 65

وقد أشارَ القرآنُ إلى أنواعٍ مِنْ طرقِ الاستدلالِ؛ كما في قولِه تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «فطالَبَهم أوَّلاً بالطَّريقِ العقليِّ، وثانياً بالطَّريقِ السَّمعيِّ، ونظيرُه قولُه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر: 40]»

(1)

، كما أشارَ القرآنُ إلى تنوّعِ الأدلَّةِ بحسبِ الموضوعاتِ المُستَدَلِّ عليها؛ فدليلُ العقلِ في العقليّاتِ، ودليلُ الحِسِّ في الحسِّيَّاتِ، ودليلُ الفطرةِ في المعرفةِ إجمالاً، ودليلُ الشَّرعِ في تفاصيلِ الشرائعِ العلميَّةِ والعمليَّةِ، ودليلُ كُلِّ شيءٍ بحسبِه، ومِنه قولُه تعالى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، فدليلُ صدقِ هذه القضيَّةِ ما في التَّوراةِ مِمَّا يُصَدِّقُها. وكذا قولُه {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]، فأمرَه أن يستدلَّ لصدقِ ما عنده بصدقِ ما عندهم. وبهذا تتأَكَّدُ مكانَةُ الاستدلالِ في القرآنِ الكريمِ، وأنَّه الطَّريقُ اللّازمُ للوصولِ إلى المطلوبِ في كلِّ قضيَّةٍ بحسبِها.

وعلى هذا المنهجِ سارَ أنبياءُ الله ورسلُه مع أقوامِهم؛ فأقاموا البيِّناتِ والدلائلَ العقليَّةَ والحسّيَّةَ على صدقِ دعوتِهم، وأَمَدَّهم الله تعالى مِنْ ذلك بما تقومُ به الحُجَّةُ على أقوامِهم، كما في قولِ صالحٍ وشعيبٍ عليهما السلام لقومِهما: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

(1)

درء تعارض العقل والنقل 7/ 395.

ص: 66

قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 73، 85]، وقولِ موسى وهارون عليهما السلام لفرعون:{قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه: 47]، وقولِ موسى عليه السلام:{أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 30].

وهو المنهجُ الذي أمرَ الله رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم وكُلَّ مَنْ تبعَه بالسَّيرِ عليه؛ فقالَ سبحانه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]؛ أي: على علمٍ ويقينٍ، وحُجَّةٍ واضحةٍ

(1)

. قالَ السَّمعاني (ت: 489): «والبصيرةُ هي: المعرفةُ التي يُمَيَّز بها بين الحقِّ والباطلِ»

(2)

.

وقد دَلَّ العقلُ والنَّظرُ الصَّحيحُ كذلك على لزومِ الاستدلالِ في مقامِ التَّقريرِ أو المناظرةِ، ومِن ثَمَّ كانَ مِنْ أصولِ البحثِ والجدلِ قولُهم:«إن كنت مدَّعياً فالدَّليلُ، أو مستدلاً فالصِّحَّةُ»

(3)

؛ فالدَّليلُ شرطٌ لِصِحَّةِ الدَّعوى، وصِحَّةُ الدَّليلِ شرطٌ لقبولِه. وحيثما خَلَت المناظرةُ عن الدَّليلِ صارت مُخاصَمَةً مذمومةً، باعثُها الكِبْرُ والهوى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56].

فإذا كانَ ذلك المنهجُ الشرعيُّ، والأصلُ العقليُّ العلميُّ لازماً لإثباتِ أيِّ قضيةٍ ودعوى؛ فإنَّه في مقامِ بيانِ مُرادِ الله تعالى مِنْ كلامِه ألزَمُ وأوجبُ؛ لأنَّ الخبرَ عن الله ليس كالخبرِ عن غيرِه، والدعوى عن الله جليلةٌ عظيمةٌ ما لم تكُنْ عن بَيِّنةٍ وبرهانٍ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا

(1)

ينظر: الكشاف 2/ 489، وتفسير ابن كثير 8/ 92، وجامع البيان، للإيجي 2/ 253.

(2)

تفسيره 3/ 72، ومثله عند البغوي في معالم التنزيل 4/ 284.

(3)

آداب البحث والمناظرة (ص: 190، 261 - 263).

ص: 67

ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى أن قالَ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقالَ تعالى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. ومِن هذا البابِ جاءَ تحريمُ القولِ في كتابِ الله بالرّأيِ والهوى بلا عِلمٍ؛ فعن ابنِ عباس رضي الله عنه مرفوعاً: «مَنْ قالَ في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوّأ مقعدَه مِنْ النّارِ»

(1)

، وقالَ أبو بكر رضي الله عنه:«أيُّ سماءٍ تُظِلُّني، وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن قلتُ في كتابِ الله ما لا أعلم»

(2)

، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وغيرُ جائِزٍ أن يُقَالَ في تأويلِ كتابِ الله بما لا دِلالَةَ عليه مِنْ بعضِ الوجوهِ التي تقومُ بها الحُجَّة»

(3)

، ونصَّ على ذلك ابنُ تيمية (ت: 728)

(4)

، والزركشي (ت: 794)

(5)

، ونقلَ النَّووي (ت: 676) الإجماعَ عليه بقولِه: «ويحرُمُ تفسيرُه بغيرِ عِلمٍ، والكلامُ في معانيه لمَن ليس مِنْ أهلِها، والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ، والإجماعُ مُنعقِدٌ عليه»

(6)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه برواية ابن العبد كما في تحفة الأشراف 4/ 423، والترمذي في الجامع 5/ 199 (2950)، وعبد الرزاق في تفسيره 1/ 252 (2)، وأحمد في مسنده 3/ 496 (2069)، والنسائي في الكبرى 7/ 285 (8030)، وابن جرير في تفسيره 1/ 71 واللفظُ لهما، وغيرُهم. وقالَ الترمذي (ت: 279): «حسن صحيح» ، وحَسَّنَه البغويّ في شرح السنة 1/ 257، وصَحَّحَه ابنُ القَطَّان كما في بيان الوهم والإيهام 5/ 253. ومداره على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي؛ قالَ عنه ابنُ حجر في التقريب (ص: 561): «صدوق يَهِم» . وتابعه فيه الحسنُ بن مسلم المكي، كما في تفسير البسيط للواحدي 1/ 49، وهو «ثقة» كما في الكاشف 1/ 227 والتقريب (ص: 243). وأخرجه ابنُ أبي شيبة في مصنَّفه 6/ 136 (30101) موقوفاً على ابن عباس، وله شاهد عند ابن جرير في تفسيره 1/ 72.

(2)

فضائل القرآن، لأبي عبيد (ص: 227)، وجامع البيان 1/ 72.

(3)

جامع البيان 1/ 499.

(4)

مجموع الفتاوى 13/ 370.

(5)

البرهان في علوم القرآن 2/ 161.

(6)

التبيان في آداب حَمَلة القرآن (ص: 166).

ص: 68

وقد قالَ العلماءُ في معنى الرأيِ الذي يحرمُ به التَّفسيرُ عِدَّةَ أقوالٍ، تجتمعُ في ثلاثةِ معانٍ:

أوَّلُها: التَّفسيرُ بغيرِ دليلٍ؛ بل بمجرَّدِ الظنِّ والهوى، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «ما كانَ مِنْ تأويلِ القرآنِ الذي لا يُدرَكُ علمُه إلا بنَصِّ بيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو بِنَصْبِهِ الدَّلالَةَ عليه = فغيرُ جائزٍ لأحدٍ القيلُ فيه برأيه»

(1)

، وقالَ الجَصَّاص (ت: 370): «إنَّما هو في مَنْ قالَ فيه بما سَنَحَ في وَهْمِه، وخَطَرَ على بالِه، مِنْ غيرِ اسْتِدْلَالٍ عليه بالأُصُولِ»

(2)

، وقالَ البيهقي (ت: 458): «إنما أراد -والله أعلم- الرأيَ الذي يغلِبُ مِنْ غيرِ دليلٍ قامَ عليه، فمثلُ هذا لا يجوزُ تفسيرُ القرآنِ به»

(3)

، وقد أشارَ إلى هذا المعنى ابنُ حزم (ت: 456)، وابنُ العربي (ت: 543)، وابنُ عطية (ت: 546)، والقرطبي (ت: 671)، والنَّووي (ت: 676)، وابنُ تيمية (ت: 728)، وأبو حيَّان (ت: 745)، وابنُ القيّم (ت: 751)، والشّاطبي (ت: 790)، والزركشي (ت: 794)، وابنُ عاشور (ت: 1393)

(4)

. وقالَ القرطبي (ت: 671): «وهو الذي اختارَه غيرُ واحدٍ مِنْ العلماءِ»

(5)

.

وثانيها: التَّفسيرُ بالدَّليلِ الباطلِ، كتفاسيرِ الفلاسفةِ، والباطنيَّةِ،

(1)

جامع البيان 1/ 72.

(2)

النكت والعيون 1/ 35.

(3)

شعب الإيمان 3/ 540.

(4)

ينظر: الإحكام، لابن حزم 1/ 45، وقانون التأويل (ص: 366)، والمحرر الوجيز 1/ 29، وحُجَجُ القرآن (ص: 9)، والجامع لأحكام القرآن 1/ 58، والتبيان في آداب حملة القرآن (ص: 167)، ومجموع الفتاوى 13/ 371، والبحر المحيط 1/ 119، وإعلام الموَقِّعين 2/ 154، والموافقات 4/ 279، والبرهان في علوم القرآن 2/ 161، والتحرير والتنوير 1/ 30.

(5)

الجامع لأحكام القرآن 1/ 58، وينظر: جامع الترمذي 5/ 200.

ص: 69

والمتكلمين، وبعضِ المتصوِّفة، في استدلالِهم على معانيهم بالعقائدِ الباطلةِ، والأصولِ العقليَّة الفاسدةِ

(1)

، قالَ أبو الحسن الأشعري

(2)

(ت: 324): «ورأيتُ الجُبَّائيَّ

(3)

ألَّفَ في تفسيرِ القرآنِ كتاباً أَوَّلَه على خلافِ ما أنزلَ الله عز وجل، وعلى لغةِ أهلِ قريتِه المعروفةِ بجُبَّى

(4)

، وليس مِنْ أهلِ اللسانِ الذي نزلَ به القرآنُ، وما رَوى في كتابِه حرفاً واحداً عن أحدٍ مِنْ المفسرين، وإنَّما اعتمدَ على ما وسوسَ به صدرُه وشيطانُه»

(5)

، ومِن ذلك ما سَمَّاهُ ابنُ تيمية (ت: 728) ب (التَّفسيرِ على المَذْهَبِ)

(6)

؛ وقد بَيَّنَهُ بقولِه: «يجعلون الألفاظَ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصلُ، ويجعلون ما قالَه اللهُ ورسولُه تَبَعاً لهم، فيرُدُّونها بالتَّأويلِ والتَّحريفِ إلى معانيهم، ويقولون: نحن نُفَسِّر القرآنَ بالعقلِ واللغةِ. يَعنُون أنَّهم يعتقدون معنىً بعقلِهم ورأيِهم، ثم يتأوَّلون القرآنَ عليه، بما يُمكِنُهم مِنْ التأويلاتِ والتَّفسيراتِ المُتضمِّنةِ لتحريفِ الكَلمِ

(1)

ينظر: الإبانةُ عن أصول الديانة (ص: 182)، والجامع لأحكام القرآن 1/ 59، ومجموع الفتاوى 13/ 356، 359، والتحرير والتنوير 1/ 31.

(2)

علي بن إسماعيل بن أبي بِشر البصري، أبو الحسن الأشعري، كانَ معتزلِيّاً ثمَّ رَدَّ عليهم، وبرع في علم الكلام، ورجع في أواخر أمره إلى معتقد أهل السنة في مجمله. أَلَّف كتاباً في التَّفسير رَدَّ فيه على تفسير الجُبَّائي والبلخي، مات سنة (324). ينظر: وفيات الأعيان 3/ 284، والسير 15/ 85.

(3)

محمد بن عبد الوهاب بن سلام البصري، أبو علي الجُبَّائي، رأس الاعتزال، تنتسب له طائفة الجُبَّائية، ألَّف في التَّفسير، وغيره. مات سنة (303). ينظر: السير 14/ 183، وشذرات الذهب 4/ 18، 130.

(4)

بلدةٌ بين البصرة والأهواز. ينظر: معجم البلدان 2/ 25.

(5)

تبيين كذب المُفتَري 1/ 138. وينظر: مرآة الجِنان 2/ 226.

(6)

مجموع الفتاوى 13/ 361.

ص: 70

عن مواضعِه .. ، وهذه طريقٌ يشتركُ فيها جميعُ أهلِ البدعِ الكِبارِ والصِّغارِ، فهي طريقُ الجهميَّةِ، والمعتزلةِ، ومَن دخلَ في التَّأويلِ مِنْ الفلاسفةِ، والباطنيَّةِ، والملاحدةِ»

(1)

، ولمَّا توافقَ اختيارُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) مع بعضِ التَّعليلِ الذي لا يرى صوابَه، نبَّه إلى أنَّ مبنى اختيارِه الدَّليلُ، ولم يحْمِلْه عليه ذلك الرأيُ الفاسِدُ، فقالَ:«فأمَّا نحنُ فإنَّما اخترنا ما اخترنا مِنْ التَّأويلِ طلبَ اتِّساقِ الكلامِ على نظامٍ في المعنى، لا إنكارَ أن يكونَ اللهُ تعالى ذِكرُه قد كانَ أنْسى نبيَّه بعضَ ما نَسخَ مِنْ وَحيِه إليه وتنْزيلِه»

(2)

.

وثالثها: التَّفسيرُ بنوعٍ مِنْ الأدِلَّةِ مع إغفالِ الأدلَّةِ الأُخرى، قالَ القرطبي (ت: 671): «مَنْ يتسارع إلى تفسيرِ القرآنِ بظاهِرِ العربيَّةِ، مِنْ غيرِ استظهارٍ بالسَّماعِ والنَّقلِ .. كَثُرَ غَلَطُه، ودَخَلَ في زُمرَةِ مَنْ فَسَّرَ القرآنَ بالرَّأي»

(3)

، وقالَ النَّووي (ت: 676): «ثُمَّ المفسرون برأيهِم مِنْ غيرِ دليلٍ صحيحٍ أقسامٌ .. ، مِنهم مَنْ يُفسِّرُ ألفاظَه العربيَّةَ مِنْ غيرِ وقوفٍ على معانيها عند أهلِها، وهي مِمَّا لا يؤخَذُ إلا بالسَّماعِ مِنْ أهلِ العربيَّةِ وأهلِ التَّفسيرِ .. ، ولا يكفي في ذلك معرفةُ العربيَّةِ وحدَها، بل لا بُدَّ معها مِنْ معرِفةِ ما قالَه أهلُ التَّفسيرِ فيها؛ فقد يكونون مُجتمعينَ على تركِ الظَّاهرِ، أو على إرادةِ الخُصوصِ، أو الإضمارِ، أو غيرِ ذلك مِمَّا هو خِلافُ الظَّاهرِ»

(4)

، وقالَ ابنُ

(1)

مجموع الفتاوى 17/ 355. وينظر أيضاً: 13/ 355، والاعتصام (ص: 168)، والموافقات 3/ 290.

(2)

جامع البيان 2/ 399.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 1/ 58. وينظر: مجموع الفتاوى 13/ 355، 362.

(4)

التبيان في آداب حَمَلة القرآن (ص: 167).

ص: 71

عاشور (ت: 1393): «مَنْ لا يتدبَّر القرآنَ حقَّ تدبُّره؛ فيفسِّرَه بما يخطرُ له مِنْ بادئ الرَّأي، دون إحاطةٍ بجوانبِ الآيةِ، وموادِّ التَّفسيرِ، مقتصراً على بعضِ الأدِلَّةِ دون بعضٍ؛ كأن يعتمد على ما يبدو مِنْ وجهِ العربيَّةِ فقط .. أو ما يبدو مِنْ ظاهرِ اللغةِ دون استعمالِ العربِ .. فهذا مِنْ الرَّأي المذمومِ لفسادِه»

(1)

.

وكلُّ هذه الأنواعِ مبعثُها الرأيُ والهوى بلا علمٍ، ويشهدُ لتلك المعاني حديثُ جُندُب رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ قالَ في القرآنِ برأيِهِ فأصابَ فقد أخطَأ»

(2)

، قالَ الماوردي (ت: 450): «معناه: أن مَنْ حملَ القرآنَ على رأيه، ولم يعمَلْ على شواهدِ ألفاظِه، فأصابَ الحقَّ، فقد أخطأَ الدَّليلَ»

(3)

؛ وذلك أنَّ الإصابةَ هنا ما كانَت عن علمٍ، ودليلٍ مُعتَبَرٍ، واستيفاءِ نَظَرٍ، فهو وإن أصابَ في النَّتيجةِ مصادفةً، فقد أخطأَ الطريقةَ قَصداً، ولا يُعفِيه صوابُ جوابِه عن المؤاخذةِ بإتيانِ الأمر مِنْ غيرِ بابِه، قالَ الإمامُ الشّافعيّ (ت: 204): «ومَن تَكَلَّفَ ما جَهِلَ وما لَم تُثبِتهُ مَعرفَتُهُ، كانَت موافَقَتُه للصَّوابِ -إن وافَقَهُ مِنْ حيث لا يَعرفُه- غيرَ محمودَةٍ، واللُه أعلم، وكانَ بِخَطَئِهِ غيرَ معذورٍ»

(4)

، وقالَ ابنُ

(1)

التحرير والتنوير 1/ 30.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه 4/ 241 (3652)، والترمذي في الجامع (ص: 663) (2952) ط/ دار السلام، والنسائي في الكبرى 7/ 286 (8032)، وابن جرير في تفسيره 1/ 73، والطبراني في الكبير 2/ 163 (1672)، وغيرِهم. من طريق سهيل بن أبي حَزم القُطَعي. وسنده ضعيف، قالَ عنه الترمذي (ت: 279): «غريبٌ، وقد تكلَّمَ بعضُ أهلِ العلمِ في سهيل» ، وينظر: علل الحديث، لابن أبي حاتم 4/ 618، وشعب الإيمان 3/ 540.

(3)

النكت والعيون 1/ 35.

(4)

الرِّسالَة (ص: 53)، وينظر: الإحكامُ، لابن حزم 1/ 45.

ص: 72

جريرٍ (ت: 310): «لأنَّ إصابَتَهُ ليست إصابةَ موقِنٍ أنَّهُ مُحِقّ، وإنَّما هو إصابةُ خارِصٍ وظانٍّ، والقائلُ في دينِ الله بالظَنِّ قائلٌ على الله ما لا يعلم، وقد حَرَّمَ الله جَلَّ ثناؤُه ذلك في كتابِه على عبادِه»

(1)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «كمَن حكمَ بين النّاسِ على جهلٍ فهو في النّارِ، وإن وافقَ حكمُهُ الصَّوابَ في نَفسِ الأمرِ، لكن يكونُ أخفُّ جُرماً ممَّن أخطأَ، وهكذا سَمَّى اللهُ تعالى القَذَفَةَ: كاذبين. فقالَ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، فالقاذفُ كاذبٌ، ولو كانَ قد قذفَ مَنْ زَنَى في نَفسِ الأَمرِ؛ لأنَّه أخبرَ بِمَا لا يَحِلُّ لَه الإخبارُ به، وتَكَلَّفَ ما لا عِلمَ لَهُ به»

(2)

.

ولأجل ذلك اشتهرَ عن بعضِ السَّلفِ التَّهيّبُ مِنْ الكلامِ في كتابِ الله تعالى ما لم تكن لأحدِهم حُجَّةٌ بَيِّنة، وكانَ ذلك مِمَّا رَسَّخَ منهجَ الاستدلالِ في تفاسيرِهم وأبرزَه جَلِيّاً، فعن مسروق (ت: 62) قالَ: «اتقوا التَّفسيرَ؛ فإنَّما هو الروايةُ على الله عز وجل)

(3)

، وقالَ إبراهيمُ النَّخعي (ت: 96): «كانَ أصحابُنا يتَّقون التَّفسيرَ ويهابونَه»

(4)

، وقالَ الشَّعبي (ت: 103): «والله ما مِنْ آيةٍ إلا وقد سألتُ عنها، ولكنَّها الرِّوايةُ عن الله تعالى»

(5)

، وقالَ عبيدُ الله بن عمر (ت: 147): «كانَ مَنْ أدركتُ

(1)

جامع البيان 1/ 72.

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 371.

(3)

فضائل القرآن، لأبي عبيد (ص: 229).

(4)

المرجع السابق.

(5)

جامع البيان 1/ 81.

ص: 73

مِنْ أهلِ المدينةِ يُعَظِّمون القولَ في التَّفسيرِ؛ سالم

(1)

، والقاسم

(2)

، وسعيد بن المسيَّب، ونافع

(3)

(4)

.

وفي مُقابِل ذلك نَصَّ العلماءُ على أنَّ مَنْ عَرَفَ الشاهِدَ والدَّليلَ جازَ له أن يتكَلَّمَ في كتابِ الله تعالى إجْماعاً، بل يَجِبُ عليه البيانُ وقتَ الحاجةِ، قالَ البيهقي (ت: 458): «وأَمَّا الرأيُ الذي يَشُدُّه برهانٌ فتفسيرُ القرآنِ به جائزٌ»

(5)

، وقالَ النَّووي (ت: 676): «وأمَّا تفسيرُه للعُلماءِ فجائِزٌ حسَنٌ، والإجماعُ مُنعقِدٌ عليه»

(6)

، وقالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «فأما مَنْ تكلم -أي في التَّفسيرِ- بما يعلمُ مِنْ ذلك لغةً وشرعاً = فلا حرجَ عليه .. وهذا هو الواجبُ على كُلِّ أحدٍ؛ فإنَّهُ كما يجبُ السُّكُوتُ عَمَّا لا عِلمَ له به، فكذلك يجبُ القولُ فِيمَا سُئِلَ عَنهُ مِمَّا يَعْلَمُه؛ لقولِه تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]»

(7)

، وقالَ الزَّركشي (ت: 794): «وعلى العلماءِ اعتمادُ الشواهدِ والدلائلِ، وليس لهم أن يعتَمِدوا مُجَرَّدَ رأيِهم فيه»

(8)

.

(1)

هو سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أحدُ الفقهاءِ السَّبعةِ، توفي سنة (106). ينظر: السير 4/ 457.

(2)

هو القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه، أحدُ الفقهاءِ السَّبعةِ، توفي سنة (107). ينظر: السير 5/ 53.

(3)

هو نافع مولى ابنِ عمر رضي الله عنه، الإمام المفتي عالم المدينة، توفي سنة (117). ينظر: السير 5/ 95.

(4)

جامع البيان 1/ 79، وفضائل القرآن، للمستغفري 1/ 305، وفيه (عبد الله بن عمر) وهو تصحيف.

(5)

شعب الإيمان 3/ 540.

(6)

التبيان في آداب حَمَلة القرآن (ص: 166).

(7)

مجموع الفتاوى 13/ 374. وينظر: تفسير ابن كثير 1/ 5، 17.

(8)

البرهان في علوم القرآن 2/ 166.

ص: 74

وبهذا يتبَيَّنُ أنَّه لا سبيلَ إلى إصابةِ الحقِّ في بيانِ معاني كتابِ الله تعالى إلا بمعرفةِ الدَّليلِ، وأنَّ الكلامَ فيه بغيرِ دليلٍ بابٌ عظيمٌ مِنْ أبوابِ التَّقَوُّلِ على الله، وسببٌ عظيمٌ مِنْ أسبابِ الزَّللِ والخطأِ، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «أحقُّ المفسِّرين بإصابَةِ الحقِّ في تأويلِ القرآنِ: أوضَحُهم حُجَّةً فيما تأَوَّلَ وفسَّرَ؛ ممّا كانَ تأويلُه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دون سائرِ أمَّتِه .. ، وأوضَحُهم برهانًا فيما ترجَمَ وبيَّنَ مِنْ ذلك؛ ممّا كانَ مُدرَكًا عِلمُه مِنْ جِهَةِ اللِّسانِ .. ، كائِناً مَنْ كانَ ذلك المتأوِّلُ والْمُفسِّرُ»

(1)

.

‌المطلبُ الثّالثُ: مصادرُ أدلَّةِ المعاني في التَّفسيرِ.

لَمّا كانَ الاستدلالُ على المعاني بتلك المكانةِ في علم التَّفسيرِ، كانَت الأدلَّةُ ومناهجُ الاستدلالِ بها محلَّ عنايةِ واهتمامِ المفسِّرين وعامَّةِ العلماءِ، ولمعرفةِ تلك الأدلَّةِ يتعيَّنُ الرُّجوعُ إلى نوعَيْن مِنْ المصادرِ:

النَّوعُ الأوَّلُ: المصادرُ الأصليَّةُ؛ والتي تُعَرِّفُ بكافَّةِ أدلَّةِ المعاني على وجهِ الإجمالِ أو التَّفصيلِ، ومِن جِهةِ التَّنظيرِ أو التَّطبيقِ. وهي: كُتُبُ التَّفسيرِ، وأصولِه، وعلومِ القرآن بعامَّةٍ؛ فلا يكادُ يخلو كتابٌ مِنْ كتبِ (التَّفسيرِ) المتوسِّطَة والموَسَّعةِ مِنْ حديثٍ عن الأدِلَّةِ ومناهجِ الاستدلالِ بها؛ سواءٌ كانَ ذلك الحديثُ في مقدِّماتِ التَّفاسيرِ-وهو الأغلبُ-، أو في أثنائِها. كما اشتملَت كتبُ (أصولِ التَّفسيرِ) على بيانٍ

(1)

جامع البيان 1/ 88.

ص: 75

موَسَّعٍ لأنواعِ الأدلَّةِ، ومراتِبِها، وطرقِ الاستدلالِ بها على المعاني، والمنهجِ الحَقِّ في الاستدلالِ، مع التَّعرُّضِ لأنواعٍ مِنْ الأدلَّةِ المردودةِ، والمناهجِ المنحرفةِ في الاستدلالِ. ومثلُها في ذلك كتبُ (علومِ القرآنِ)، مع شيءٍ مِنْ الاختصارِ.

النَّوعُ الثّاني: المصادرُ المُسَاندةُ؛ والتي تتناولُ مباحثَ مفرَدةً مِنْ أَدِلَّةِ المعاني، ومناهجِ الاستدلالِ بها، مِنْ جِهَةِ تعلُّقِها بتلك العلومِ؛ كمباحثِ الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ، ودلالاتِ الألفاظِ، وتعارضِ الأدلَّةِ والتَّرجيحِ، مِنْ كتبِ (أصولِ الفقهِ)، ومباحثِ الاستدلالِ بلغةِ العربِ، وعاداتِها في الخطابِ، مِنْ أشعارِها ومشهورِ كلامِها، مِنْ كتبِ (فقهِ اللغةِ والمعاجمِ)، ومباحثِ السُّنَّةِ ومناهجِ الاستدلالِ بها مِنْ كتبِ (الحديثِ وأصولِه)، ومباحثَ أخرى متفرِّقةً في كتبِ (الاعتقادِ، والسيرةِ، والتواريخِ والأخبارِ).

وقد استوفَت هذه المصادرُ الحديثَ عن كثيرٍ مِنْ مسائلِ أدِلَّةِ المعاني ومناهجِها؛ لأنَّ غالبَ تلك المسائلِ مِمَّا تشتركُ فيه العلومُ، وتَتَّحِدُ فيه مناهجُ العقلاءِ، ولذا كانَ مِنْ شرطِ المُفسِّرِ الإلمامُ بأنواعٍ مِنْ تلك العلومِ على التَّمامِ؛ لمعرفةِ المعنى على الوجهِ الصَّحيحِ، ثُمَّ الاستعانةُ بباقي العلومِ؛ لجودَةِ الفهمِ، وسلامةِ الاستنباطِ، وحُسنِ البيانِ.

(1)

* * *

(1)

سبقت الإشارة إلى شروط المفسِّر وأدواته (ص: 44)، وينظر: استدراكات السَّلف في التَّفسير (ص: 449).

ص: 76

•‌

‌ البابُ الأوَّلُ: أدلَّةُ المعاني عند ابنِ جريرٍ في تفسيرِه.

ويشتملُ على فصلَيْن:

الفصلُ الأوَّلُ: عنايةُ ابنِ جريرٍ بالاستدلالِ على المعَاني في التَّفسيرِ.

الفصلُ الثّاني: تفصيلُ أدلَّةِ المعاني عند ابنِ جريرٍ في تفسيرِه.

ص: 77

‌الفصلُ الأوَّلُ: عنايةُ ابنِ جريرٍ بالاستدلالِ على المعَاني في التَّفسيرِ.

وفيه ثلاثةُ مباحث:

المبحثُ الأوَّلُ: أقسامُ المعاني القرآنيَّةِ.

المبحثُ الثّاني: أنواعُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

المبحثُ الثّالثُ: أثرُ منهجِ ابنِ جريرٍ النَّقديِّ في إبرازِ أدلَّةِ المعاني ووجوهِ الاستدلالِ بها في تفسيرِه.

ص: 79

‌المبحثُ الأوَّلُ: أقسامُ المعاني القرآنيَّةِ.

تنقسمُ المعاني القرآنيَّةِ مِنْ حيثُ طرقِ بيانِها إلى قسمين، هما:

1 -

معاني المفرداتِ.

2 -

معاني التَّراكيبِ.

ولا يَخرجُ بيانٌ لمعاني القرآنِ عن هذين الوجهين بحالٍ؛ فإنَّ المُفسِّرَ إمَّا أن يُبيِّنَ المعنى الإفراديَّ لِلَّفظَةِ، وإمَّا أن يُبَيِّنَ المعنى التَّركيبيَّ الإجماليَّ للجُملَةِ، وكلاهُما بيانٌ وتفسيرٌ

(1)

، وكلا الطَّريقَيْن موجودٌ في تفاسيرِ السَّلفِ فمَن بعدهم، وكلاهُما سَلَكَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، وهذا بيانٌ لأحوالِ تلك المعاني:

‌القسمُ الأوّل: معاني المفردات.

وهو البيان اللفظيُّ لمعنى المُفرَدَة القرآنية، ويُسميه بعضُ العلماء:(التَّفسير على اللفظ)

(2)

، وغايته بيانُ معنى اللفظةِ المُطَابقِ، مع

(1)

ينظر: مقدمة جامع التفاسير (ص: 28)، والإكسير في علم التَّفسير 1/ 56.

(2)

ينظر: الخصائص 2/ 463 - 465، وتفسير آياتٍ أشكلت 1/ 149، والتبيان في أقسام القرآن (ص: 124)، والتَّفسير اللغوي (ص: 68، 652).

ص: 81

الاستشهادِ عليه -أحياناً- بكلامِ العربِ نثراً أو شعراً، وهو المسلَكُ الذي سارَت عليه معاجمُ اللغة. وأكثرُ ما يكون البحثُ في هذا النوعِ في غريبِ ألفاظِ القرآنِ وغيرِ المشهورِ مِنها؛ ولذلك كَثُرَ اعتناءُ اللغويين به، وصارَ موضوعَ كُتب (غريبِ القرآن). وقد بَيَّن الزركشيُّ (ت: 794) وجوهَ النظرِ في المفردات القرآنية، وحصرَها في ثلاثِ جهاتٍ:

الأولى: جهةُ المعاني التي وُضِعَت الألفاظ المُفرَدة بإزائِها. وهذا يتعلقُ بعلمِ اللغةِ والمعاجمِ.

الثّانية: جهةُ الهيئاتِ والصِّيَغ الوارِدةِ على المفرداتِ؛ الدَّالَّةِ على المعاني المختلفةِ. وهذا يتعلَّق بعلمِ التَّصريفِ.

الثّالثة: جهةُ رَدِّ الفروعِ المأخوذةِ مِنْ الأصولِ إليها. وهذا يتعلَّقُ بعلمِ الاشتقاقِ.

(1)

ثُمَّ هذا النوعُ مِنْ البيانِ مُتَقدِّمٌ على المعنى التَّركيبيِّ الإجماليِّ، وأصلٌ له؛ فينبغي البداءَةُ به قبل التركيبيّ، قالَ ابنُ الأثير (ت: 606): «ثمَّ الألفاظُ تنقَسمُ إلى: مُفردَةٍ ومُركَّبة، ومعرفةُ المفردةِ مقَّدمةٌ على معرفةِ المركَّبةِ؛ لأنَّ التركيبَ فَرْعٌ عن الإفرادِ»

(2)

، وقالَ الرّاغبُ الأصفهاني

(3)

(ت: بعد 400): «أوَّلُ ما يحتاجُ أن يُشتغلَ به من علومِ

(1)

البرهان في علوم القرآن 2/ 173. وينظر: الإكسير في علم التَّفسير 1/ 48، والبحر المحيط 1/ 105.

(2)

النهايةُ في غريب الحديث 1/ 7.

(3)

الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني، من أعلام الأدب والحكمة، صنّف المفردات في غريب القرآن، والمحاضرات، وغيرها، توفي بعد (400). ينظر: السير 18/ 120، وبغية الوعاة 2/ 297.

ص: 82

القرآنِ: العلومُ اللفظيَّة. ومِن العلومِ اللفظيَّةِ تحقيقُ الألفاظِ المُفردةِ؛ فتحصيلُ معاني مُفرداتِ ألفاظِ القرآنِ في كونِه مِنْ أوائلِ المَعاوِنِ لمن يريدُ أن يُدرك معانيه = كتحصيلِ اللَّبِنِ في كونِه مِنْ أوَّلِ المَعاوِنِ في بناءِ ما يُريدُ أن يبنيه»

(1)

.

وينبغي ألاَّ يُتَسَرَّعُ في حملِ المعاني القرآنيَّةِ على معنى اللفظ مُجَرَّداً؛ فإن هذه المعاني الإفراديَّةَ -وإن كانَت أصلاً للمعنى التَّركيبيّ- لا تكفي في تحديدِ المُرَادِ مِنْ الكلامِ، بل لابُدَّ مِنْ الوقوفِ على سياقِ الكلامِ، وسَبَبِه، ومَعْرِفةِ قولِ من شَهِدَهُ وعاصَرَه، ومِن ثَمَّ أخذَ العلماءُ على بعضِ أهلِ اللغَةِ: اعتمادَ اللغةِ مصدراً مُستَقِلاًّ للتَّفسيرِ، دون الالتفاتِ إلى غيرها مِنْ المصادِر.

(2)

وقد وردَ عن السَّلفِ تفسيرُ كثيرٍ مِنْ مُفرَداتِ القرآنِ على اللفظِ، ومِن ذلك قول ابن عباس رضي الله عنه لَمَّا سُئِلَ عن قوله تعالى {وَفُومِهَا} [البقرة: 61] قالَ: «الحِنْطَة؛ أمَا سمعتَ قولَ أُحَيْحَةَ بن الجُلاحِ:

قد كُنْتُ أغنى الناسِ شَخصَاً واحداً

وَرَدَ المَدينَةَ عن زِراعةِ فومِ»

(3)

.

(1)

المفردات (ص: 54). وهي في البرهان في علوم القرآن 2/ 173 بتصحيفِ: (المُعاوِن) إلى: (المَعادن). وينظر: البحر المحيط، لأبي حيَّان 1/ 104.

(2)

ينظر: تفسير غريب القرآن (ص: 217)، وجامع البيان 16/ 38 - 41، 18/ 19، 23/ 179، والتَّفسير اللغوي (ص: 633). وستأتي الإشارةُ إلى هذا المعنى -إن شاء الله- في موضعه من أدلَّة المعاني.

(3)

جامع البيان 2/ 18. وينظر في أمثالِه: 3/ 297، 458، 6/ 377، 381، 9/ 175، 10/ 104، 16/ 243.

ص: 83

قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وقد ذُكِرَ أنَّ تسْميةَ الحِنطَةِ والخبزِ جميعاً فوماً مِنْ اللُّغةِ القديمَةِ، حُكيَ سماعاً مِنْ أهلِ هذه اللُّغةِ: فَوِّمُوا لنا. بمعنى: اخْتَبزوا لنا»

(1)

.

كما اعتنى ابنُ جريرٍ (ت: 310) بتفسيرِ مفرداتِ القرآنِ عنايةً كبيرةً، وسلك في تفسيرِها مسلكاً غايةً في التَّحقيقِ، يبدؤه غالباً ببيانِ أصلِ اللفظةِ، ثمَّ بنائِها الصَّرفيّ واشتقاقِها عند الحاجةِ، ثم يستشهدُ على ذلك بكلامِ العربِ ومشهورِ ألفاظِها مِنْ النَّثرِ أو الشِّعرِ، وبالقرآنِ والسُّنَّةِ وأقوالِ السَّلفِ، وقد يَعرضُ أثناءَ ذلك لأقوالِ المخالفين، مع الردِّ عليها بالحُجَّةِ والدَّليلِ، ولا يلزمُ اجتماعُ ذلك في الموضعِ الواحدِ. ومِن أمثِلَةِ ذلك قولُه: «الأليمُ: الموجِعُ. ومعناه: ولهم عذابٌ مُؤْلمٌ. فصُرفَ مُؤْلمٌ إلى أليمٍ، كما يُقالُ: ضربٌ وَجيعٌ. بمعنى: موجِعٌ. والله بديعُ السمواتِ والأرضِ. بمعنى: مُبدعٌ. ومِنه قولُ عمرِو بن مَعْدِيكرِبَ الزّبيدي

(2)

:

أَمِنْ رَيْحَانَةَ

(3)

الدَّاعِي السَّمِيعُ

يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ

بمعنى المُسمِعُ. ومِنه قولُ ذي الرُّمَّةِ

(4)

:

ونرفعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاتٍ

(5)

يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ

(1)

جامع البيان 2/ 18. وينظر: مقاييس اللغة 1/ 335.

(2)

البيت في ديوانِه (ص: 136).

(3)

هي ريحانَة بنت مَعْدِيكرب، أخت عمرو، وأمُّ دريد بن الصِّمَّة. ينظر: الأغاني 10/ 4.

(4)

البيت في ديوانِه 2/ 677.

(5)

الشَّمَرْدَلَة: الناقة الحَسَنَةُ الخَلق، القويةُ على السَّير. ينظر: لسان العرب 7/ 395.

ص: 84

ويروى يَصكُّ. وإنَّما الأليمُ صفةٌ للعذابِ، كأنَّه قالَ: ولهم عذابٌ مُؤْلمٌ. وهو مأخوذٌ مِنْ الألمِ، والألمُ: الوَجَعُ»

(1)

، ثُمَّ أسندَ عن الرَّبيعِ (ت: 139) والضَّحّاكِ (ت: 105) قولَهم: «الأليمُ: المُوجِع»

(2)

.

‌القسمُ الثاني: معاني التراكيب.

وهو البيانُ الإجماليُّ لمعنى المُفرَدَة القرآنيَّةِ حالَ تركيبِها في الكلامِ، ويُسميه بعضُ العلماءِ:(التَّفسيرَ على المعنى)

(3)

، وغايتُه بيانُ المُرادِ مِنْ معنى الآيةِ دون النَّظرِ إلى تحريرِ ألفاظِها لُغةً أو بيانِ المعنى المُطابقِ لألفاظِها. ومِن ثَمَّ فإنَّ المعاني التركيبيَّةَ قد تُطابقُ أو توَسِّعُ أو تُضَيِّقُ المعنى الإفرادي؛ قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «إنَّ وضعَ اللفظِ حالَ الإفرادِ قد يُخالِفُ وضعَه حالَ التَّركيبِ، بل غالبُ الألفاظِ كذلك»

(4)

.

وأكثرُ تفاسيرِ السَّلفِ كانَت على هذا النوعِ مِنْ البيانِ، قالَ النَّحّاسُ (ت: 338) بعد ذِكر بعضِ أقوالِ السَّلفِ في الحروفِ المُقَطَّعةِ أوائلَ السُّوَرِ: «ولم يَشرَحوا ذلك بأكثرَ مِنْ هذا؛ لأنَّه ليس مِنْ مذاهبِ الأوائلِ، وإنَّما يأتي الكلامُ عنهم مُجمَلاً، ثم يتأوَّلُه أهلُ النَّظرِ على ما

(1)

جامع البيان 1/ 291.

(2)

المرجع السابق. وينظر بيانه للمفردات: (الرَّب) 1/ 142، (الدِّين) 1/ 157، (الملائكة) 1/ 472، (الطَّمْس) 7/ 117، (الرجاء) 12/ 121، 23/ 297، (الحصير) 14/ 509، (أبابيل) 24/ 627.

(3)

ينظر: الخصائص 2/ 463 - 465، وتفسير آياتٍ أشكلت 1/ 149، والتبيان في أقسام القرآن (ص: 124)، والتَّفسير اللغوي (ص: 652).

(4)

بيان تلبيس الجهمية 5/ 455. وينظر: مجموع الفتاوى 33/ 181، والموافقات 4/ 23 - 24، والبرهان في علوم القرآن 4/ 78، والكُلِّيَّات (ص: 997).

ص: 85

يوجِبُه المعنى»

(1)

، وقالَ الواحدي (ت: 468): «وكذلك آياتُ القرآنِ التي فسَّرها الصَّحابةُ والتّابعون، إنَّما فسَّروها بذكرِ معناها المقصودِ؛ كقولِه تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206]، قالَ قتادةُ: «إذا قيلَ له: مهْلاً مهْلاً. ازدادَ إقداماً على المعصيةِ» ، فمِن أينَ لك أن تعرفَ هذا المعنى مِنْ لفظِ الآيةِ إلا بعدَ الجُهد، وطولِ التفَكُّرِ»

(2)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728) عن تفسيرٍ للحسن (ت: 110): «فَبَيَّنَ المعنى المُرادَ وإن لم يَتكَلَّم على اللفظِ؛ كعَادةِ السَّلفِ في اختصارِ الكلامِ مع البَلاغَة وفهمِ المعنى»

(3)

؛ وقد كانَ ذلك مِنهم لأمورٍ:

أوَّلُها: أنَّ بيانَ المرادَ مِنْ معاني القرآنِ ألزَمُ وأولى مِنْ بيانِ لُغَتِه وحدودِ ألفاظِه، وذلك راجعٌ إلى الغايةِ مِنْ إنزالِ القرآنِ:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

ثانيها: أنَّ ذلك مِنْ سَنَنِ العربِ في كلامِها، كما قالَ الشَّافعيُّ (ت: 204) عن العرَبِ: «وتَكَلَّمُ بالشَّيءِ تُعَرِّفُه بالمعنى دونَ الإيضاحِ باللفظِ، كما تُعَرِّفُ الإشارَةُ، ثُمَّ يكون هذا عندها مِنْ أعلى كلامِها؛ لانفِرادِ أهلِ عِلمِها به، دون أهلِ جَهالَتِها»

(4)

.

وهو أيضاً مِنْ شأنِها في الاعتناءِ بالمعاني في القَصدِ الأوَّلِ، ثُمَّ الألفاظِ، قالَ ابنُ جِنّي (ت: 392): «العربُ -فيما أخذْناه عنها، وعرَفْناه

(1)

معاني القرآن 1/ 77.

(2)

البسيط 1/ 414.

(3)

تفسير آياتٍ أشكلَت 1/ 148.

(4)

الرِّسالة (ص: 52).

ص: 86

مِنْ تصرُّفِ مذاهبِها- عنايتُها بمعانيها أقوى مِنْ عنايتِها بألفاظِها»

(1)

، وقالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «إنَّ العرَبَ إنَّمَا كانَت عِنَايتُها بالمعَاني، وإنَّمَا أصلحَت الألفاظَ مِنْ أجلِها، وهذا الأصلُ معلومٌ عند أهلِ العربيَّةِ، فاللَّفظُ إنَّما هو وسيلةٌ إلى تحصيلِ المعنى الْمُرادِ، والمعنى هو المقصودُ؛ ولَا أيْضاً كُلُّ المعاني، فإنَّ المعنى الإفراديَّ قد لا يُعْبَأُ به إذا كانَ المعنى التَّركيبيُّ مفهُوماً دُونَه، كما لمْ يعبَأْ ذُو الرُّمَّةِ ب (بَائِسٍ) ولا (يَابِسٍ)

(2)

؛ اتِّكَالاً مِنه على أنَّ حَاصِلَ المعنى مَفهوم»

(3)

.

ثالثُها: أنَّ البيانَ التركيبيَّ أوضَحُ، وأبيَنُ عن المُرادِ، «والمعنى المفهومُ مِنْ الحَرفِ حالَ التَّركيبِ أتمُّ مِمَّا يُفهَمُ عند الانفرادِ»

(4)

، بل قد يُستَغنى بمعرفةِ المعنى التَّركيبيِّ عن العلمِ بالمعنى الإفراديِّ، قالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «ويتبيَّنُ ذلك في مسألةِ عُمَرَ؛ وذلك أنَّه لمَّا قرأَ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، توقَّفَ في معنى (الأبِّ)

(5)

، وهو معنى إفراديٌّ

(1)

الخصائص 1/ 182. وينظر: 1/ 237.

(2)

قالَ الشاطبيُّ (ت: 790) قبل ذلك 2/ 133: «حكى ابْنُ جِنِّي عَنْ عيسى بن عمر، وحُكِيَ عن غيرِه أيضاً، قَالَ: سمعتُ ذَا الرُّمَّةِ يُنشِد:

وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ وَاسْتَعِنْ

عَلَيْهَا الصَّبَا وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لها سترا

فقلت: أنشدتني: (من بائس)! فقالَ: (يابس) و (بائس) وَاحِدٌ. فأنت ترى ذا الرُّمَّةِ لم يَعْبَأْ بالاختِلافِ بين البُؤْسِ واليُبْسِ؛ لمَّا كان معنى البيتِ قائِماً على الوَجْهَيْن، وصَوَاباً على كِلْتا الطَّرِيقتَيْن، وقد قالَ في روايَةِ أبي العَبَّاسِ الأحوَلِ:«البُؤْسُ واليُبْسُ وَاحِد» ، يَعْنِي: بِحَسَبِ قَصْدِ الكلام لا بحسب تفسير اللغة».

(3)

الموافقات 2/ 138. وينظر: 4/ 261. وقد توَسَّع الطوفيُّ (ت: 716) في بيان أنّ اللفظَ غيرَ مقصودٍ لذاتِه، بل المعنى، وذلك من عِدَّةِ وجوه. ينظر: الإكسير 1/ 56.

(4)

الكُلِّيَّات (ص: 997).

(5)

ينظر: جامع البيان 24/ 120.

ص: 87

لا يقدحُ عدمُ العلمِ به في علمِ المعنى التركيبيِّ في الآيةِ؛ إذ هو مفهومٌ مِنْ حيثُ أخبرَ اللهُ تعالى في شأنِ طعامِ الإنسانِ؛ أنَّه أنزلَ مِنْ السماءِ ماءً، فأخرجَ به أصنافاً كثيرةً ممّا هو مِنْ طعامِ الإنسانِ مُباشرةً؛ كالحبِّ، والعنبِ، والزيتونِ، والنَّخلِ. وممّا هو مِنْ طعامِه بواسطةٍ؛ مما هو مرعىً للأنعامِ على الجُملةِ. فبقيَ التَّفصيلُ في كلِّ فردٍ مِنْ تلك الأفرادِ فضلاً، فلا على الإنسانِ أن لا يعرفَه، فمِن هذا الوجهِ -والله أعلم- عُدَّ البحثُ عن معنى (الأبِّ) مِنْ التكلُّفِ، وإلَّا فلو توقَّفَ عليه فهمُ المعنى التَّركيبيِّ مِنْ جهتِهِ لَمَا كانَ مِنْ التكلُّفِ بل مِنْ المطلوبِ علمُهُ؛ لقولِه {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]»

(1)

.

رابعُها: أنَّهم أهلُ اللسانِ الذي نزل به القرآنُ، والحاجَةُ إلى بيانِ حدودِ معاني ألفاظِه في وقتِهم أقلُّ مِنْ الحاجةِ إلى بيانِ المُرادِ بها، ثُمَّ تنزيلِها على الوقائعِ والأحداثِ، قالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «ومَا يُذكَر في التَّفسيرِ إنَّما يحملونه -أي السَّلفُ- على ما يشمَلُه الموضِعُ بحَسبِ الحاجةِ الحاضِرةِ، لا بحَسبِ ما يقتضيه اللفظُ لُغَةً، وهكذا ينبغي أن تُفهَمَ أقوالُ المفسِّرين المُتقَدِّمين، وهو الأولى لمناصبِهم في العلمِ، ومراتبِهم في فهمِ الكتابِ والسُّنَّةِ»

(2)

.

وقد حَصَرَ الزَّركشيُّ (ت: 794) وجوهَ النظرِ في التراكيبِ القرآنيَّةِ في أربعِ جهاتٍ:

(1)

الموافقات 1/ 57.

(2)

الاعتصام (ص: 78). وينظر: المحرر الوجيز 1/ 145 - 146.

ص: 88

الأولى: جهةُ تأْدِيَةِ التراكيبِ لأصلِ المعنى بحسَبِ الإعرابِ. أو ما دَلَّ عليه المُرَكَّبُ بحسبِ الوضعِ، وهذا يتعلَّقُ بعلمِ النَّحوِ.

الثّانيةُ: جهةُ إفادَةِ التراكيبِ لمعنى المعنى؛ أي لازمِ أصلِ المعنى الذي يختلفُ باختلافِ مُقتَضى الحالِ، وهذا يتعلَّقُ بعلمِ المعاني.

الثّالثةُ: جهةُ طُرُقِ تأدِيَةِ المعنى المقصودِ بحسَب وضوحِ الدَّلالةِ ومراتبِها، وهذا يتعلَّقُ بعلمِ البيانِ.

الرّابعةُ: جهةُ الفصاحةِ اللفظيَّةِ والمعنويَّةِ والاستحسانِ، وهذا يتعلَّقُ بعلمِ البديعِ.

(1)

ويأتي البيانُ التَّركيبيُّ في كلامِ المُفَسِّرين في عِدَّةِ صورٍ؛ مِنها: التَّفسيرُ بالمثالِ، واللَّازمِ، وجُزءِ المعنى، وبما يؤول إليه الأمرُ، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «فإنَّ مِنهم- أي: مُفَسِّري السَّلفِ- مَنْ يُعبِّر عن الشيء بلازِمِه، ونظيرِه، ومِنهم مَنْ يَنُصُّ على الشيءِ بعينِه»

(2)

، وقالَ ابنُ القيم (ت: 751): «السَّلفُ كثيراً ما يُنَبِّهون على لازمِ معنى الآيةِ، فيظُنُّ الظانُّ أنَّ ذلك هو المُرادُ مِنها»

(3)

. ومِن أمثِلَةِ ذلك عنهم قولُ قتادة (ت: 117) في قولِه تعالى {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265]: «احتساباً مِنْ أنفُسِهم»

(4)

، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وهذا القَولُ أيضاً قولٌ بَعِيدُ المعنى مِنْ معنى التَّثْبيتِ؛ لأنَّ التَّثْبيتَ لا يُعرفُ في شيءٍ مِنْ

(1)

ينظر: البرهان في علوم القرآن 2/ 173. وذكَرَ قريباً منها أبو حيَّان في البحر المحيط 1/ 106 - 107.

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 369. وينظر منه: 13/ 335.

(3)

إعلام الموقعين 2/ 293. وينظر منه: 2/ 284، والصواعق المُرسلة 2/ 699.

(4)

جامع البيان 4/ 672.

ص: 89

الكلامِ بمعنى الاحتسابِ، إِلَّا أن يكونَ أرادَ مُفسِّرُه كذلك: أنَّ أنفُسَ المنْفِقينَ كانَت مُحتَسِبَةً في تثبيتِها أصحابَها. فإنْ كانَ ذلك = كانَ عِندَهُ: معنى الكلامِ؛ فليس الاحتسابُ بمعنىً حينئذٍ للتَّثبيتِ فيُتَرْجَمَ عنه به»

(1)

.

وقد كانَ التَّفريقُ بين البيانِ الإفراديِّ والتَّركيبيِّ لألفاظِ القرآنِ واضحاً عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)؛ حيثُ قالَ عن بعضِ تفاسيرِ السَّلفِ: «فَحَملَ تأويلَ الكلامِ على معناه، دون البيانِ عن تأويلِ عينِ الكلمةِ بعينِها، فإنَّ أهلَ التَّأويلِ رُبَّما فعلوا ذلك لعِلَلٍ كثيرةٍ تدعوهم إليه»

(2)

، ومثلُه قولُه:«قالَ ابنُ زيدٍ في قولِه {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [الأحقاف: 15]: قالَ: اجعَلني أشكُرُ نعمَتَك. وهذا الذي قالَه ابنُ زيدٍ في قولِه {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف: 15] وإن كانَ يئولُ إليه معنى الكلِمةِ، فليس بمعنى الإيزاعِ على الصِّحَّةِ»

(3)

، أي ليس معناه الإفراديُّ المُطابقُ.

وقد جرَت عادةُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه على الجَمعِ بين المعنى التَّركيبيِّ والإفراديِّ، مع العنايةِ الفائقةِ بدِقَّةِ العبارةِ ووضوحِها، وحُسنِ البيان وبلاغتِه. وذلك أكملُ مناهجِ التَّفسيرِ وأوفاها؛ وهو الجمعُ بين نوعَيْ البيانِ: الإفراديَّ ثُمَّ التَّركيبيَّ؛ ليُعرَفَ أصلُ اللفظَةِ في كلامِ العربِ، وما طرأَ عليها مِنْ تغييرٍ في التَّركيبِ القرآنيِّ، ولتُتَبَيَّن علاقةُ

(1)

المرجع السابق. وينظر في أمثاله: 2/ 272، 9/ 422، 10/ 55، 332، 488، 13/ 549، 14/ 524.

(2)

جامع البيان 1/ 442، وقد مَيَّزَ ابنُ جرير (ت: 310) بين تفسير السَّلف على اللفظِ وعلى المعنى في عِدَّةِ مواضع؛ منها: 7/ 109، 12/ 241، 13/ 125.

(3)

جامع البيان 21/ 141.

ص: 90

تفاسيرِ السَّلفِ بالمعنى اللغوي، فيسهُلَ التَّأليفُ بينها، وبيانَ اتِّفاقِها على الحقيقةِ

(1)

، قالَ الشوكانيُّ (ت: 1250): «واشدُد يديك في تفسير كتابِ الله على ما جاءَ عن الصَّحابةِ رضي الله عنهم؛ فإنَّهم مِنْ جُملَة العربِ، ومِن أهلِ اللغةِ، وممَّن جمعَ إلى اللغةِ العربيَّةِ العلمَ بالاصطلاحاتِ الشَّرعيَّةِ، ولكن إذا كانَ معنى اللفظِ أوسَعَ مِمَّا فَسَّروه به في لغةِ العربِ، فعليكَ أن تَضُمَّ إلى ما ذَكَرَه الصَّحابيُّ ما تقتضيه لُغَةُ العربِ وأسرارُها»

(2)

.

ومِن أمثِلَةِ بيانِ التراكيبِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) تفسيرُه لقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]؛ فبعدَ أن ذكرَ المعنى الإفراديَّ لِلَفظةِ (الصَّلاةِ) و (الزَّكاةِ) و (الرُّكوعِ)، بَيَّنَ المعنى التَّركيبيَّ الإجماليَّ بقولِه:«وهذا أمرٌ مِنْ الله جلَّ ثناؤُهُ لمَن ذُكِرَ مِنْ أحبارِ بني إسرائيلَ ومُنَافِقيها بالإنابةِ والتَّوبةِ إليه، وبإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والدُّخُولِ مع المسلمين في الإسلامِ، والخضوعِ له بالطَّاعةِ. ونهيٌ مِنْهُ لهُم عن كِتْمَانِ ما قد عَلِمُوهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَ تَظَاهُرِ حُجَجِهِ عليهم بما قد وصَفْنَا قَبلُ فيما مضى مِنْ كتَابِنا هذا، وبعد الإعذَار إليهم والإنذارِ، وبعد تَذْكيرِهم نِعَمَهُ إليهم وإلى أسلافِهم؛ تَعَطُّفاً مِنه بذلك عليهم، وإبلاغاً إليهم في المَعْذرَة»

(3)

.

(1)

وهكذا كان يفعل ابنُ جرير (ت: 310)، كما في 13/ 341، 443، 14/ 509، 16/ 266، 17/ 620.

(2)

فتح القدير 4/ 309. وينظر: البسيط 1/ 414 - 416.

(3)

جامع البيان 1/ 613. وينظر في بيانه للتراكيب: 1/ 623، 2/ 30، 5/ 38، 8/ 31، 11/ 11، 20/ 171.

ص: 91

‌المبحثُ الثّاني: أنواعُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ.

تتنوَّعُ مقاصِدُ وأغراضُ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ إلى ثلاثةِ أنواعٍ؛ هذا بيانُها:

‌النوعُ الأوَّلُ: الاستدلالُ لإثباتِ المعاني وتصحيحِها.

وهو أهمُّ أغراضِ الاستدلالِ، ويأتي في مقامِ الاختيارِ والتَّرجيحِ، وغايتُه إثباتُ صِحَّةِ المعنى وقَبُولِه. ومِن أمْثلتِه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في قولِه تعالى {أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]: «ومِن الدَّليلِ على أنَّ الأثاثَ هو المتاعُ، قَولُ الشّاعرِ

(1)

:

أهاجَتك الظَّعائِنُ يومَ بانوا

بذي الرِّئْيِ الجَميلِ مِنْ الأثاثِ»

(2)

.

‌النوعُ الثّاني: الاستدلالُ للتَّرجيحِ بين المعاني المقبولةِ.

إذا تساوت المعاني في القبولِ، وكانَت دائِرَةً بينَ الرّاجحِ

(1)

هو محمد بن نمير الثقفي، والبيت في مجاز القرآن 1/ 365.

(2)

جامع البيان 14/ 318. وينظر: 1/ 92، 294، 3/ 257، 9/ 618، 11/ 312، 15/ 504.

ص: 92

والمرجوحِ، لا الصَّحيحِ والباطلِ = يَقَعُ هذا النوعُ مِنْ الاستدلالِ؛ لاختيارِ أَوْلَى المعْنَيَيْن وأرجَحِهِما، وهذا النوعُ في حقيقَتِه راجعٌ إلى النوعِ الأوَّلِ؛ لِمَا فيه مِنْ إثباتِ أَصَحِّ المعنَيَيْن. ومِن أمثِلَتِه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في معنى قولِه تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]؛ حيثُ ذكرَ قولَ ابن عباس رضي الله عنه: «علَّمَ الله آدمَ الأسماءَ كلَّها، وهي هذه الأسماءُ التي يتعارفُ بها النّاسُ؛ إنسانٌ، ودابةٌ، وأرضٌ، وسهلٌ، وبحرٌ، وجبلٌ، وحمارٌ، وأشباه ذلك مِنْ الأُممِ وغيرِها» . ثُمَّ اختارَ أنَّ المُرادَ: «أسماءَ ذريتَه، وأسماءَ الملائكةِ، دون أسماءِ سائرِ أجناسِ الخلقِ» ، ثُمَّ قالَ: «وذلك أنَّ الله جلَّ ثناؤُه قالَ {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 31]؛ يعني بذلك أعيانَ المسمَّيْن بالأسماءِ التي علَّمَها آدمَ، ولا تكادُ العربُ تَكْني بالهاءِ والميمِ إلا عن أسماءِ بني آدمَ والملائكةِ، وأمّا إذا كَنَتْ عن أسماءِ البهائمِ وسائرِ الخلقِ سوى مَنْ وصَفْنا، فإنَّها تَكْني عنها بالهاءِ والألفِ، أو بالهاءِ والنونِ، فقالَت: عرَضَهنَّ، أو عرَضَها. وكذلك تفعلُ إذا كَنَتْ عن أصنافٍ مِنْ الخلقِ؛ كالبهائمِ والطيرِ وسائرِ أصنافِ الأُممِ، وفيها أسماءُ بني آدمَ أو الملائكةِ، فإنَّها تَكْني عنها بما وصَفْنا مِنْ الهاءِ والنونِ، أو الهاءِ والألفِ. وربَّما كَنَتْ عنها إذ كانَ كذلك بالهاءِ والميمِ، كما قالَ جلَّ ثناؤُه {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45]، فكنى عنها بالهاءِ والميمِ، وهي أصنافٌ مُختلفةٌ، فيها الآدميُّ وغيرُه. وذلك وإن كانَ جائزاً فإنَّ الغالبَ المستفيضَ في كلامِ العربِ ما وصَفْنا مِنْ إخراجِهم كنايةَ أسماءِ أجناسِ

ص: 93

الأُممِ إذا اختلطَت بالهاءِ والألفِ، أو الهاءِ والنونِ. فلذلك قلتُ: أَوْلى بتأويلِ الآيةِ أن تكونَ الأسماءُ التي علَّمَها آدمَ أسماءَ أعيانِ بني آدمَ وأسماءَ الملائكةِ. وإن كانَ ما قالَ ابنُ عباسٍ جائزاً، على مثالِ ما جاءَ في كتابِ الله مِنْ قولِه {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى} [النور: 45] الآية. وقد ذُكرَ أنَّها في حرفِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ: (ثمَّ عرَضَهنَّ)[البقرة: 31]، وأنَّها في حرفِ أُبيٍّ:(ثمَّ عرَضَها)[البقرة: 31]. ولعلَّ ابنَ عباسٍ تأوَّلَ ما تأوَّلَ مِنْ قولِه: علَّمَه اسمَ كلِّ شيءٍ، حتى الفَسوةَ والفُسيَّةَ. على قراءةِ أُبيٍّ؛ فإنَّه فيما بلغَنا كانَ يقرأُ قراءةَ أُبيٍّ. وتأويلُ ابنِ عباسٍ -على ما حُكيَ عن أُبيٍّ مِنْ قراءتِه- غيرُ مُستنكَرٍ، بل هو صحيحٌ مُستفيضٌ في كلامِ العربِ على نحوِ ما تقدَّمَ وصفي ذلك»

(1)

، فاستدلَّ على اختياره الأَوْلَى هنا بدلالةِ أنَّه الأشهرُ والأكثرُ في لغةِ العربِ، مع صِحَّةِ المعنى الآخرِ لُغَةً وكثرَتِه.

‌النوعُ الثّالثُ: الاستدلالُ لنفي المعاني وإبطالِها.

ويأتِي عند الحاجَةِ لإبطالِ القولِ وَرَدِّه، ويُغنِي عنه الاستدلالُ لِصِحَّةِ المعنى في النوعِ الأوَّلِ عند تَضَادِّ المعاني. ومِن أمثِلتِه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عند قولِه تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]: «وإنَّما وصفَه الله جلَّ ثناؤُه بالاستقامةِ لأنَّه صوابٌ لا خطأَ فيه. وقد زعمَ بعضُ أهلِ الغباءِ أنَّه سمّاه الله مستقيماً لاستقامتِه بأهلِه إلى الجنَّةِ. وذلك تأويلٌ

(1)

جامع البيان 1/ 519. وينظر: 1/ 92، 602، 2/ 133، 3/ 676، 762، 4/ 245، 17/ 237.

ص: 94

لتأويلِ جميعِ أهلِ التَّفسيرِ خلافٌ، وكفى بإجماعِ جميعِهم على خلافِه جميعَهم دليلاً على خطئِه»

(1)

، واستدلالُه لإبطالِ القولِ هنا بدليلِ الإجماعِ كما هو بَيِّنٌ.

(1)

جامع البيان 1/ 176. وينظر: 1/ 153، 169، 198، 223، 2/ 234، 3/ 198، 457، 569.

ص: 95

‌المبحثُ الثّالثُ: أثرُ منهجِ ابنِ جريرٍ النَّقديِّ في إبرازِ أدلَّةِ المعاني ووجوهِ الاستدلالِ بها في تفسيرِه.

تَميَّزَ تفسيرُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بجُملَةٍ مِنْ المزايا، جعلتْ مِنه كتاباً مِنْ أجلِّ كتبِ التَّفسير وأوفاها؛ بشهادَةِ الأجِلَّةِ مِنْ العلماءِ

(1)

، وكانَ منهجُه النقديُّ في تفسيرِه أبرزَ ما تميَّزَ واشتهرَ به بين التَّفاسيرِ

(2)

؛ حيثُ سبقَ إلى استيعابِ ما قيلَ في الآيةِ مِنْ المعاني عن السَّلفِ وأهلِ اللغةِ، ثُمَّ حَرَّرَ تلك الأقوالَ بتحليلٍ دقيقٍ جمعَ فيه الأقوالَ المتوافقةَ والمتشابهةَ في قولٍ واحدٍ، ثُمَّ بعدَ حَصرِ الأقوالِ وتمييزِها تبدأُ مرحلةُ النَّقدِ في منهجٍ شاملٍ؛ يحتوي جُملَةَ أمورٍ

(3)

، وهي:

(1)

سبقت الإشارةُ إلى ذلك (ص: 41).

(2)

سُجِّلَت رسالةٌ علميَّةٌ لمرحلة الدكتوراه في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبويّة بعنوان: (منهج النَّقدِ عند ابن جريرٍ الطبريِّ في تفسيرِه)، كما صَدَرَ كتابُ:(المنهج النقديِّ في تفسيرِ الطبري - أُصُولُه ومُقَوِّماتُه).

(3)

سيأتي بيانُها بشواهدِها في موضِعِه مِنْ البحثِ بإذن الله.

ص: 96

أوَّلاً: الكلامُ على صِحَّةِ نسبةِ الأقوالِ وثُبوتِها عن أصحابِها عند الحاجةِ.

ثانياً: الاستدلالُ لكلِّ قولٍ بما استَدَلَّ به أصحابُه، وبغيرِه مِنْ الأدلَّةِ التي تصلحُ شواهدَ على صِحَّةِ ذلك المعنى.

ثالثاً: تحليلُ تلك الأدلَّةِ وفحصِها، وتمييزُ صَحيحِها مِنْ سَقيمِها، وما يُقبَلُ الاستدلالُ به مِنها وما يُرَدُّ، وما يُقَدَّمُ مِنها وما يُؤَخَّر. وذلك مِنْ جِهَتَيْ: النَّقلِ والإسنادِ، والنَّظَرِ والاجتهادِ.

ثُمَّ يختِمُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ذلك الاستيعابَ والاستدلالَ = بالتَّرجيحِ والاختيارِ مِنْ تلك المعاني، مؤكداً لاختيارِه بما ذكَرَ مِنْ الأدلَّةِ ضِمنَ الأقوالِ في الآيةِ، وبغيرِها مِنْ الأَدِلَّةِ ووجوهِ الاستدلالِ مِمَّا لم يسبِق ذِكرُه.

ومِن ثَمَّ تتبَيّنُ مساحةَ الاستدلالِ على المعاني عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، وكيفَ أنَّ لمنهجِه النقدِيِّ أكبَرَ الأثرِ في محاوَلَةِ استيعابِ أَدِلَّةِ المعاني، وإبرازِ منهجِه الاستدلاليِّ عليها.

ويأتي ذلك المنهجُ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) فريداً في مقابِلِ عامَّةِ التَّفاسيرِ المؤلَّفَةِ قبلَه وبَعدَه: فإنَّها:

إمّا تفاسيرُ استغرقَتْ في جمعِ الأقوالِ في معاني الآياتِ ومُحاوَلَةِ استيعابِها؛ كما هو الشأنُ في تفاسيرِ: عبدِ الرزاق (ت: 211)، وعبدِ بن حُمَيْد (ت: 249)، وابنِ المنذِر (ت: 318)، وابنِ أبي حاتِم (ت: 327)، والدُّرِّ المنثور للسيوطي (ت: 911)، وأمثالِهم مِمَّنْ عُنُوا بجمعِ الأقوالِ دونَ التَعَرُّضِ لها بنقدٍ أو تمحيصٍ.

ص: 97

وإمّا تفاسيرُ توَجَّهتْ إلى بيانِ المُختارِ مِنْ المعاني، مع شيءٍ مِنْ النَّقدِ والتَّدليلِ بحسبِ الحاجَةِ، كما في تفاسيرِ: مُقاتِل بن سليمان (ت: 150)، والثَّعلَبي (ت: 427)، والماوَرديِّ (ت: 450)، والواحِديِّ (ت: 468)، والسَّمعانِيِّ (ت: 489)، وابنِ عطيَّة (ت: 546)، وابنِ الجَوزيِّ (ت: 597)، والقرطبيِّ (ت: 671)، وابنِ كَثير (ت: 774)، والشّنقيطيِّ (ت: 1393)، وأمثالِهم مِمَّنْ اقتصَرَ على العَرضِ والاختيارِ، أو التَّرجيحِ بنوعٍ مِنْ النَّقدِ والاستدلالِ.

أمَّا استيعابُ الأقوالِ مُسنَدةً إلى أصحابِها، وجمعُ الأدِلَّةِ ونَقدِها، في ذلك المنهجِ المتكامِل المُطَّرِد مِنْ الاستدلالِ = فشيءٌ لم يُسبَقْ إليه ابنُ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله

(1)

، وما أصعَبَ أن يُلحَقْ فيه، بل كلُّ من جاءَ بعده فإنَّهُ عالَةٌ عليه في التَّفسيرِ مِنْ أحدِ هذين الوجهَيْن:

1 -

جمعِ الأقوالِ ونسبتِها إلى أصحابِها.

2 -

تحريرِ الأقوالِ ونَقدِها، والاستدلالِ لها أو عليها.

قالَ ابنُ حجر (ت: 852): «فالذين اعتَنَوا بجمعِ التَّفسيرِ مِنْ طبقةِ الأئِمَّة السِّتَّة: أبو جعفر محمد بن جريرٍ الطبريِّ، ويليه أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النَّيْسَابوري، وأبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم بن إدريس الرَّازي، ومِن طبقةِ شيوخِهم: عبدُ بن حُمَيد بن

(1)

أقدَمُ ما بلغَنَا مِنْ التَّفاسيرِ التي جمعت بين النقلِ والنقدِ: تفسيرُ يحيى بن سَلاَّم البصري (ت: 200)، وقَد طُبِعَ بعضُه بتحقيقِ الباحِثَة: هِند شِلْبِي، إلاَّ أنَّ مؤَلِّفَهُ لم يستوعِب الأقوالَ في الآياتِ؛ بل أكثَرُ نقلِه كانَ عن بَلَدِيِّهِ الحسنِ البصري (ت: 110)، كما أنَّ نقدَه للأقوالِ جاءَ مختَصراً، وفي مواضِعَ قليلةٍ. وقد اختصرَهُ كاملاً هودُ بن مُحَكِّم الهواريِّ الأباضِي (ت: 280)، وابنُ أبي زَمَنِين الإلْبيريِّ (ت: 399)، وكلاهُما مطبوع.

ص: 98

نَصْر الكَشِّي؛ فهذه التَّفاسيرُ الأربعةُ قلَّ أن يشذَّ عنها شيءٌ مِنْ التَّفسيرِ المرفوعِ، والموقوفِ على الصَّحابةِ، والمقطوعِ عن التّابعين. وقد أضافَ الطَّبريُّ إلى النقلِ المستوعِبِ أشياءَ لم يُشَارِكوه فيها؛ كاستيعابِ القراءاتِ، والإعرابِ، والكلامِ في أكثرِ الآيات على المعاني، والتَّصَدِّي لترجيحِ بعضِ الأقوالِ على بعضٍ. وكلُّ مَنْ صَنَّف بعده لم يجتمع له ما اجتمعَ فيه؛ لأنَّه في هذه الأمورِ في مرتبةٍ مُتَقَاربةٍ، وغيرُه يَغلبُ عليه فَنٌّ مِنْ الفُنونِ فيمتازُ فيه، ويُقَصِّرُ في غيرِه»

(1)

، وقالَ السّيوطي (ت: 911) عن تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «وهو أَجَلُّ التفاسير؛ لم يؤَلَّفْ مثلَه كما ذكرَه العلماءُ قاطبةً؛ مِنهم النوويُّ في (تهذيبِه)

(2)

؛ وذلك لأنَّه جمعَ فيه بين الرِّوايةِ والدِّرايةِ، ولم يُشَارِكهُ في ذلك أَحَدٌ لا قبلَه ولا بعدَه»

(3)

.

(1)

العُجَاب في بيان الأسباب 1/ 202، ونقلها عنه السيوطيُّ في آخر الدر المنثور 8/ 638.

(2)

تهذيب الأسماءِ واللغات 1/ 78.

(3)

طبقات المفسرين (ص: 96). وقَصدُه في الجمعِ بينهما على تلك الصّورةِ مِنْ الاستيعابِ والشُّمولِ، كما هو ظاهرٌ. وينظر: الإتقان في علوم القرآن 6/ 2342، 2346.

ص: 99

‌الفصلُ الثّاني: تفصيلُ أدلَّةِ المعاني عند ابنِ جريرٍ في تفسيرِه.

وفيه مبحثان:

المبحثُ الأوَّلُ: أصولُ أدلَّةِ المعاني التَّفسيريَّةِ عند ابنِ جريرٍ.

المبحث الثاني: حصرُ الأدِلَّةِ المعتَبَرَةِ للمعاني التَّفسيريَّةِ عند ابن جريرٍ.

ص: 101

‌المبحثُ الأوّل: أصولُ أدلة المعاني التَّفسيرية عند ابن جريرٍ.

أرجعَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أنواعَ أدلَّةِ المعاني في تفسيرِه إلى أجناسٍ مِنْ الأدلَّةِ؛ تتضمَّنُ كافَّةَ الأدلَّةِ التَّفصيليَّةِ على المعاني التَّفسيريَّةِ، وقد صَرَّحَ رحمه الله بأصولِ أدلَّةِ المعاني في مواضِعَ كثيرةٍ مِنْ تفسيرِه، كما تفاوتَتْ عبارتُه في التَّعبيرِ عنها في تلك المواضِع؛ وذلك على عادتِه في التَّصرُّفِ في وجوهِ الكلامِ، والتَّنويعِ في العبارَةِ بحسبِ المقامِ.

وللتَوَصُّلِ إلى رؤوسِ أدلَّةِ المعاني وأصولِها ينبغي حصْرُ هذه العباراتِ مِنْ جميعِ مواضع ورودِها في التَّفسيرِ، وجَمعُ النَّظِيرِ إلى النَّظِير، ثمَّ التأليفُ بينها، وضَمُّها في أصنافٍ كُلِّيَّةٍ جامِعَةٍ، وهذا ما اجتَهَدتُ في بيانِه فيما يأتي:

‌المطلبُ الأوَّل: العباراتُ التي أورَدها ابنُ جريرٍ في التَّعبيرِ عن أصولِ الأدلَّةِ.

هذا جمعٌ لِمَا وقفتُ عليه مِنْ عباراتِ أصولِ أدلَّةِ المعاني بحسبِ ما أورَدَها ابنُ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله:

ص: 103

1 -

الأصلُ والنَّظِير. وذلك في قولِه: «والتأويلُ المُجمَعُ عليه أولى بتأويلِ القرآن مِنْ قولٍ لا دِلالةَ على صِحَّتِهِ مِنْ أصلٍ ولا نَظِير»

(1)

، وقولِه:«ومَن خَصَّ مِنْ ذلك شيئاً سُئِلَ البُرهانَ عليه مِنْ أصلٍ أو نَظِير»

(2)

.

2 -

الأصلُ والدِّلالَة. ومِنه قولُه: «ويُسأَلُ الفرقَ بينَه وبينَه؛ مِنْ أصْلٍ، أو مِمَّا يَدُلُّ عليه أصْلٌ»

(3)

.

3 -

الأصلُ والقياسُ. كما في قولِه: «وما البُرهانُ على ذلك مِنْ أصْلٍ أو قياسٍ؟»

(4)

، وقولِه:«فأَوْلى المعاني بالآيةِ ما دَلَّ عليه ظاهرُهَا، دونَ باطِنِها الذي لا شاهِدَ عليه مِنْ أصلٍ أو قياسٍ»

(5)

.

4 -

الخبرُ والقياسُ. كما في قولِه: «فغيرُ جائِزٍ أن يُحكَمَ لإحداهما -أي: الآيتين- بأنَّها دافِعةٌ حُكمَ الأُخرى إلا بِحُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها مِنْ خَبَرٍ أو قياسٍ، ولا خَبَرَ بذلك ولا قياسَ»

(6)

.

5 -

النَّصُّ والدِّلالَةُ. ومِنه قولُه: «إنَّ لله في كلِّ نازِلَةٍ وحادِثَةٍ حُكْماً موجوداً بِنَصٍّ أو دِلالَةٍ»

(7)

، وقولُه: «ولم يضَع الله لعبادِه المُخَاطَبين

(1)

جامعُ البيان 1/ 298.

(2)

جامع البيان 3/ 120. وينظر: 3/ 399، 401، 4/ 303، 336، 6/ 408، 578، 8/ 689، 704.

(3)

جامع البيان 1/ 225. وينظر: 1/ 154.

(4)

جامع البيان 5/ 80.

(5)

جامع البيان 6/ 624. وينظر: 3/ 262، 377، 4/ 157، 6/ 729، 7/ 313.

(6)

جامع البيان 6/ 601. وينظر: 1/ 123.

(7)

جامع البيان 1/ 84.

ص: 104

بالقرآنِ دلالَةً على أيِّ أشجارِ الجنَّةِ كانَ نَهْيُه آدمَ عليه السلام أن يقرَبَها؛ بنَصٍّ عليها باسمِها، ولا بدَلالَةٍ عليها»

(1)

.

6 -

النَّقلُ والاستدلالُ. كما في قولِه: «وقد دَلَّلْنا على خطأِ القراءَةِ بذلك مِنْ جِهَةِ الاستدلالِ، فأمَّا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فإجماعُ الحُجَّةِ على خطأِ القراءَةِ بها»

(2)

.

7 -

الخبرُ والاستخراجُ. كما في قولِه: «وغيرُ جائزٍ تَكَلُّفُ القولِ في ذلك لأحدٍ إلا بخَبَرٍ مِنْ الله جل جلاله، أو مِنْ رَسولٍ مُرسَلٍ. فأمَّا القولُ في صِفاتِ الله وأسمائِه = فغيرُ جائزٍ لأحدٍ مِنْ جِهَةِ الاسْتِخْراجِ إلا بِمَا ذَكَرْنا»

(3)

، وقولِه:«وذلك أمرٌ لا يُدرَكُ عِلمُه مِنْ جهةِ الاسْتِخراجِ، ولا اللُّغةِ، ولا يُدرَك علمُ ذلك إلا بخبرٍ يوجِبُ عنه العِلمَ، ولا خبرَ عندَ أهلِ الإسلامِ في ذلك للصِّفَةِ التي وَصَفْنا»

(4)

.

8 -

الخبرُ والنَّظرُ. كما في قولِه: «وأمَّا ما قالَه قتادةُ .. فقَولٌ ظاهِرُ التَّنزيلِ بخلافِه، ولا بُرهانَ على حقيقتِه مِنْ خَبرٍ ولا نَظرٍ»

(5)

، وقالَ مُعَلِّلاً لبَعضِ اختِياره:«إذْ لَمْ يكُن بخلافِ ذلك دليلٌ مِنْ خَبرٍ ولا نَظرٍ»

(6)

.

(1)

جامع البيان 1/ 556. وينظر: 1/ 432، 5/ 476، 8/ 679، 9/ 38، 14/ 176، 16/ 389.

(2)

جامع البيان 2/ 350.

(3)

جامع البيان 3/ 610.

(4)

جامع البيان 4/ 477. وينظر: 2/ 370.

(5)

جامع البيان 2/ 743.

(6)

جامع البيان 12/ 247. وينظر: 5/ 51.

ص: 105

9 -

الخبرُ والعَقْلُ. كما في قولِه: «فما الذي أَحَالَ ذلك عندَك مِنْ حُجَّةِ عَقْلٍ أو خَبَرٍ؟ إذْ كانَ لا سَبيلَ إلى حقيقةِ القولِ بإِفسادِ ما لا يدفعُه العقلُ إلا مِنْ أَحَدِ الوجهَيْنِ اللذَيْنِ ذَكَرْتُ، ولا سبيلَ إلى ذلك. وفي عدمِ البُرهانِ على صِحَّةِ دَعْوَاه مِنْ هذَيْن الوجهَيْن وُضُوحُ فَسَادِ قَولِه، وصِحَّةِ ما قالَه أهلُ الحقِّ في ذلك»

(1)

، وقولِه:«وأمَّا الأقوالُ الأُخَرُ، فدعاوَى معانٍ باطِلَةٍ، لا دلالةَ عليها مِنْ خَبَرٍ ولا عَقْلٍ، ولا هي موجودةٌ في التَّنْزِيلِ»

(2)

.

‌المطلبُ الثَّاني: الأصولُ الكُلِّيَّةُ لأدِلَّةِ المعاني عند ابن جريرٍ في تفسيره.

بالتأمُّل في العبارات السابِقَةِ، ومواضِعِها مِنْ الكلامِ = نَجِدُ أنَّها تجتمعُ في أصلَيْن عَظيمَيْن، تَكَرَّرَ التعبيرُ عنهُما بعباراتٍ مختَلِفة، وهُما:

الأَصْلُ الأَوَّلُ: الدَّليلُ النَّقْليّ.

ويَشْمَلُ أنواعَ الأَدِلَّةِ التي مَصْدَرُها النَّقْلُ؛ كالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، واللُّغَة، والتي تَدُلُّ على المُرادِ بظاهِرِها دونَ باطِنِها، ونَصِّها دونَ دَلالَتِها. وقد فَسَّرَ ما أَجْمَلَ مِنْ ذلك في قولِه: «غيرُ جائِزٍ أن يُقضَى على حُكْمٍ مِنْ أَحكامِ الله تعالى ذكرُه أنَّهُ مَنْسوخٌ إلا بخبرٍ

(1)

جامع البيان 10/ 72.

(2)

جامع البيان 24/ 547. وينظر: 1/ 569، 8/ 623، 9/ 107، 17/ 10، 19/ 374، 21/ 48، 23/ 58.

ص: 106

يَقطَعُ العذرَ؛ إمَّا مِنْ عند الله، أو مِنْ عند رسولِه صلى الله عليه وسلم، أو بورودِ النَّقلِ المُستَفيضِ بذلك، فأمَّا ولا خَبَرَ بذلك، ولا يَدفعُ صِحَّتَه عَقلٌ = فغيرُ جائزٍ أن يُقْضَى عليه بأنَّهُ مَنْسوخٌ»

(1)

، وقولِه:«فليس لأحدٍ مِنْ النَّاسِ أن يَحصُرَ معنى ذلك على وصفِهِم بشيءٍ مِنْ تقوى الله عز وجل دون شيءٍ إلَّا بحُجَّةٍ يَجبُ التَّسْليمُ لها .. إمَّا في كتَابِه، وإمَّا على لِسانِ رَسُولِه صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ لَم يَكُنْ في العَقْلِ دَلِيلٌ على استِحَالَةِ وَصْفِهِم بعمومِ التَّقوى»

(2)

.

وقد عَبَّرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن هذا القِسمِ ب: الأصْلِ، والخَبَرِ، والنَّصِّ. وكُلُّها في معنى النَّقلِ؛ فأمَّا الأصْلُ فقد جَعَلَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مُقَابلِ النَّظيرِ، والدِّلالَةِ، والقياسِ، فيشمَلُ بذلك أنواعَ الأَدِلَّةِ النَّقْليَّةِ؛ لأنَّها بمثابَةِ الأصلِ لِمَا يُبْنَى عليها، وما يُستَخرَجُ مِنها؛ مِنْ أنواعِ الأَدِلَّةِ النَّظريَّةِ.

وأمَّا الخَبَرُ فقد قابَلَ به ابنُ جريرٍ (ت: 310) النَّظَرَ، والعَقْلَ، والاستخراجَ، والقياسَ. ويشمَلُ مِنْ الأدلَّةِ ما كانَ مُسْتَنَدُه الخَبَرُ المَنْقولُ، دونَ ما اسْتُخرِجَ بِدَلالَةِ المَعْقولِ، كما في قولِه:«مع عَدَمِ الدَّلالَةِ على أنَّ معنى ذلك كذلك في ظاهِرِ التَّنزيلِ، أو في خبرٍ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم به منقولٌ، أو بحُجَّةٍ موجودَةٍ في المعقولِ»

(3)

، وذَكَرَ ما يُقَابِلُ الخَبَرَ بإجمالٍ في قولِه:«وذلك قَوْلٌ إن قَالَهُ لم تُدْرَكْ صِحَّتُهُ إلَّا بِخَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ، أو بِبَعْضِ المَعَاني الْمُوجِبَةِ صِحَّتَهُ»

(4)

.

(1)

جامع البيان 9/ 107.

(2)

جامع البيان 1/ 239.

(3)

جامع البيان 1/ 152.

(4)

جامع البيان 1/ 342.

ص: 107

وأمَّا النَّصُّ فمُقَابِلُ الدَّلالَةِ، ويشمَلُ مِنْ الأَدلَّةِ ما كانَ دالاًّ على المَقصودِ بنَفسِه، دونَ ما كانَتْ دِلالَتُه مِنْ غيرِه؛ كالقياسِ. ويُرَادُ به في الأغلبِ دليلُ ظاهِرِ الكتابِ والسُّنَّة

(1)

. وذلك شَأْنُ الأَدِلَّةِ النَّقْليَّةِ في دَلالَتِها على المَقْصُودِ بِنَصِّها دونَ ما يُسْتَخرَجُ مِنها مِنْ أنواعِ الدِّلالات. وقَدْ جاءَ النَّصُّ مُفَسَّراً في بعضِ قولِ ابن جريرٍ (ت: 310)، ومِنه قولُه:«وغَيرُ جَائِزٍ إحَالَةُ ظَاهرِ التَّنْزيلِ إلى باطِنٍ مِنْ التَّأْوِيلِ لا دِلالَةَ عليهِ مِنْ نَصِّ كِتَابٍ، ولا خَبَرٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا إِجمَاعٍ مِنْ الأُمَّةِ، ولا دِلالَةَ مِنْ بَعْضِ هذه الوُجوه»

(2)

، وقولُه:«وهذا وجهٌ لا يجوزُ لأحدٍ القولُ فيه إلَّا ببيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له تَأويلَه؛ بِنَصٍّ مِنه عليه، أو بدَلالَةٍ قد نَصَبَها دالَّةٍ أُمَّتَه على تأويلِه»

(3)

.

الأَصْلُ الثَّاني: الدَّليلُ النَّظريُّ.

ويشمَلُ أنواعَ الأَدِلَّةِ التي مَرَدُّها إلى نَظَرِ المُفَسِّرِ واجتِهادِه في استِخراجِ الدَّلالَةِ مِنْ الدَّليلِ النَّقليِّ؛ كدليلِ السِّياقِ، والنَّظيرِ والقياسِ، ونحوِها. وقد عَبَّرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن هذا القِسمِ ب: العَقلِ، والاستدلالِ والاسْتِخراجِ، والدِّلالَةِ، والنَّظيرِ والقياسِ. وكُلُّها في معنى النَّظر ومِن بابِه؛ فأمَّا العَقْلُ فهو آلَةُ النَّظَرِ ووَسيلَتُه، وقد ذَكَرَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مُقَابل الخَبَرِ عن الله، ورَسولِه صلى الله عليه وسلم، وإجماعِ المُسلمين، كما مَرَّ ذِكرُه.

(1)

ينظر: جامع البيان 3/ 400، 742، 14/ 176.

(2)

جامع البيان 8/ 679.

(3)

جامع البيان 1/ 68، 72.

ص: 108

وأمَّا الاسْتِدلالُ والاسْتِخراجُ فَهُما فِعْلُ النَّاظِرِ في الدَّليلِ، وفيهِما معنى الطَّلَبِ، والاجتهادِ، وبُعدِ ما يُسْتَخرَجُ مِنْ الدَّلالاتِ، بخلافِ النَّصِّ في الدَّليلِ النَّقلي؛ فإنَّه ظاهِرٌ قريبُ المَأْخَذ. وقد جَعَلَهُما ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مقابلِ النَّقلِ، والخَبَرِ.

وأمَّا الدِّلالَةُ فهي غايَةُ النَّظرِ العَقْليِّ في الدَّليلِ، ونتيجَتُه، ومَحَلُّ بَحثِه، وقد ذَكَرَها ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مُقابلِ الأصْلِ، والنَّصِّ.

وأمَّا النَّظيرُ والقياسُ فهُما أشْهَرُ الأدِلَّةِ النَّظريَّةِ العقليَّةِ، وأَكثَرُها وُرُوداً، وقد ذَكَرَهُما ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مقابلِ الأصْلِ، والخَبَرِ.

وقد أبانَ بعضَ معنى ذلك في قولِه: «ولا خبَرَ بذلك تقومُ به الحُجَّةُ؛ فيَجِبَ التَّسليمُ لها، ولا هو -إذْ لم يَكُنْ به خبَرٌ على ما وصَفنا- مِمَّا يُدرَكُ عِلمُه بالاستدلالِ والمقايِيسِ؛ فيُمَثَّلَ بغيرِه، ويُستَنبَطَ عِلمُه مِنْ جِهَةِ الاجتِهادِ»

(1)

.

‌المطلبُ الثَّالثُ: المكانَةُ العلميَّةُ لأصولِ أدلَّةِ المعاني التَّفسيريَّةِ.

بالنَّظر إلى هذين الأصلَيْن الجامِعَيْن لأنواعِ أَدِلَّةِ المعاني عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، نَجِدُ أنَّهما كذلك أصلُ معرفةِ الحقِّ مِنْ البَاطِلِ، وتمييزِ الصوابِ مِنْ الخَطأِ عندَ عامَّةِ العلماءِ، وفي جميعِ العلومِ؛ وذلك أنَّ الله تعالى أنزلَ كتابَه فرقاناً بين الحَقِّ والباطِل:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]

(2)

، وأنزَلَه بالحَقِّ والميزانِ: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ

(1)

جامع البيان 2/ 556.

(2)

ينظر: جامع البيان 17/ 394.

ص: 109

بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وبَعَثَ بهما جميعَ رُسلِه:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]؛ فالكتابُ هو: القرآن الكريمُ؛ المُشتَملُ على الحَقِّ، والصدقِ، واليقين، بأحسَنِ المسائِل، وأوضَحِ الدلائِل. والميزانُ هو: العدلُ، والاعتبارُ، والأمثالُ المضروبَةُ، والقياسُ الصَّحيحُ، والعقلُ الرَّجيحُ

(1)

، «وكلُّ الدلائِل العقليَّة؛ مِنْ الآيات الآفاقيَّةِ والنَّفسيَّةِ، والاعتباراتِ الشَّرعيَّةِ، والمناسباتِ والعِللِ، والأحكامِ والحِكَمِ = داخلةٌ في الميزانِ الذي أنزلَه الله تعالى، ووضعَه بين عبادِه»

(2)

.

قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «كُلُّ معلومٍ للخلقِ مِنْ أمرِ الدِّينِ والدُّنيا لا يَخرجُ مِنْ أحدِ معنيين: مِنْ أن يكون إمَّا معلوماً لهم بإدراكِ حواسِّهم إيَّاه، وإمَّا معلوماً لهم بالاستدلالِ عليه بما أدركَته حواسُّهم»

(3)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «العلمُ إمَّا نقلٌ مُصَدَّقٌ، وإمَّا استِدْلالٌ مُحَقَّق»

(4)

، وقالَ:«العلمُ إمَّا نقلٌ مُصَدَّقٌ عن معصومٍ، وإمَّا قولٌ عليه دليلٌ معلومٌ، وما سوى هذا فإمَّا مُزَيَّفٌ مردودٌ، وإمَّا موقوفٌ لا يُعلَمُ أنَّه بَهْرَجٌ ولا مَنْقودٌ»

(5)

، وقالَ ابنُ العربي (ت: 543): «الأدلَّةُ على قسمين: عقليَّةٌ، وسمعيَّةٌ»

(6)

، وقالَ الشّاطبي (ت: 790): «الأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ ضِربان؛

(1)

ينظر: جامع البيان 20/ 489، والرَّدُّ على المنطقيين 1/ 333، 383، وإعلام الموقِّعين 2/ 250.

(2)

تيسير الكريم الرحمن 2/ 606. وينظر: مختصر الفتاوى المصرية (ص: 531).

(3)

التبصير في معالم الدين (ص: 113).

(4)

مجموع الفتاوى 13/ 344.

(5)

مجموع الفتاوى 13/ 329.

(6)

قانون التأويل (ص: 210).

ص: 110

أحدُهما: ما يرجعُ إلى النَّقلِ المَحضِ. والثاني: ما يرجعُ إلى الرأيِ المَحضِ. وهذه القِسْمَةُ هي بالنِّسبَةِ إلى أصولِ الأدلَّةِ»

(1)

.

وقد امتازَ هذان الأصلان بجُملَةٍ مِنْ الخصائصِ:

أوَّلُها: أنَّهما ممَّا جاءَت به الرُّسلُ، كما قالَ تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25]، كما أُنْزِلَ بهما الكتابُ، حيثُ قالَ تعالى {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]

(2)

. قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «إنَّ الرُّسلَ دلَّت الناسَ وأرشدَتهم إلى ما به يعرفون العدلَ، ويعرفون الأقيسَةَ العقليَّةَ الصَّحيحَةَ، التي يُستدَلُّ بها على المطالبِ الدّينيَّةِ، فليست العلومُ النَّبويَّةُ مقصورةً على مجرَّدِ الخبرِ، كما يظنُّ ذلك من يظنُّه مِنْ أهلِ الكلامِ، ويجعلون ما يُعلَمُ بالعقلِ قَسِيماً للعلومِ النبويَّة، بل الرسلُ -صلواتُ الله عليهم- بيَّنَت العلومَ العقليَّةَ التي بها يتمُّ دينُ الناسِ علماً وعملاً .. ، والقرآنُ والحديثُ مملوءٌ مِنْ هذا؛ يبيِّنُ اللهُ الحقائقَ بالمقاييسِ العقليَّةِ، والأمثالِ المضروبةِ، ويبيِّنُ طرقَ التَّسويةِ بين المتماثلَيْن، والفرقَ بين المختلفَيْن، وينكرُ على مَنْ يَخرجُ عن ذلك»

(3)

.

(1)

الموافقات 3/ 227. وينظر: مجموع الفتاوى 13/ 137 - 138. وقد ذكَرَ الطوفيُّ (ت: 716) في كتابِه الإكسير في علم التَّفسير 1/ 47 أنَّ هذه القِسْمَةَ ليستْ حاصِرَةً؛ «لأنها لا تشملُ المحسوسات والوجدانيَّات» . غيرَ أنَّهُما يرجِعان إلى بعض معاني العقل، كما ذكر الغزاليُّ (ت: 505) في إحياء علوم الدين 1/ 204، ولا بُدَّ لهُما من العقل كما أشارَ ابنُ تيمية (ت: 728) في مجموع الفتاوى 13/ 75 - 76.

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى 9/ 239، وجامعُ المسائل، لابن تيمية، المجموعة 2، تحقيق: محمد عُزَيْر (ص: 253).

(3)

الردُّ على المنطقيين 1/ 382. وينظر: مجموع الفتاوى 13/ 206.

ص: 111

ثانيها: أنَّهما ممَّا أُمِرَ به الخلقُ لإقامَة الحَقِّ، كما قالَ تعالى {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

ثالثُها: وحيثُ جاءَت بهما الرُّسُل، ونزل بهما الكتابُ، وأُمِرَ بهما الخلقُ = فكلاهُما دليلٌ شرعيٌّ؛ النَّقليُّ مِنهما والعقليُّ. ومِن ثَمَّ فالدَّليلُ العقليُّ دليلٌ شرعيٌّ صحيحٌ مأذونٌ فيه، وليسَ بخارجٍ عن الشَّرعِ، ولا يُقابِلُ الدَّليلَ الشَّرعيَّ، وإنّما الذي يُقابلُه الدَّليلُ غيرُ الشرعيِّ، أو الدَّليلُ البدعيِّ. ولذلك لا يَصِحُّ شرعاً ولا عقلاً ولا واقِعاً أن يشهَدَ العقلُ بما يُبطِلُ الشَّرعَ أو يُخالِفُه. قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «اعلم أنَّ أهلَ الحَقِّ لا يطعنون في جِنسِ الأدلَّة العقليَّة، ولا فيما عَلِمَ العقلُ صِحَّتَه، وإنَّما يطعنون فيما يدَّعي المُعارضُ أنَّه يُخالف الكتابَ والسُّنَّة، وليس في ذلك -ولله الحمدُ- دليلٌ صحيحٌ في نفسِ الأمرِ، ولا دليلٌ مقبولٌ عندَ عامَّةِ العُقلاءِ، ولا دليلٌ لم يُقدَح فيه بالعقلِ»

(1)

، وقالَ أيضاً:«ولا يجوزُ قَطُّ أنَّ الأدلَّةَ الصَّحيحةَ النَّقليَّةَ تخالفُ الأدلَّةَ الصَّحيحةَ العقليةَ»

(2)

.

رابعُها: أنَّهُما لا يتعارَضانِ، ولا يتناقَضان؛ لأنَّ الحَقَّ يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضاً. قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «وإذا تبيَّن أنَّ الكتاب والميزان مُنْزَلَان = فلا يجوزُ أن يتنَاقَضَ الكتابُ والميزانُ؛ فلا تَتناقَضُ دلالةُ النُّصوصِ الصَّحيحةِ، والأقيسَةِ الصَّحيحةِ، ولا دلالةُ النصِّ الصَّحيحِ، والقياسِ الصَّحيحِ، وإنما يكون التناقضُ بين الحقِّ الصَّحيحِ، والباطلِ الذي

(1)

درء تعارض العقل والنقل 1/ 194.

(2)

الردُّ على المنطقيين 1/ 373. وينظر: مجموع الفتاوى 13/ 147.

ص: 112

ليس بصحيحٍ، فأمّا الصحيحُ الذي كلُّه حقٌّ فلا يتناقضُ؛ بل يُصدِّقُ بعضُه بعضًا»

(1)

، وقالَ أيضاً:«لا يوجدُ في كلامِ أحدٍ مِنْ السَّلفِ أنَّه عارَضَ القرآنَ بعقلٍ ورأيٍ وقياسٍ .. ، ولا قالَ قطُّ: قد تعارَضَ في هذا العقلُ والنَّقلُ. فضلاً عن أن يقولَ: فيجِبُ تقديمُ العقلِ»

(2)

.

خامسُها: أنَّهُما سبيلُ معرفةِ الحَقِّ وإصابَتِه، فهُما مَرَدُّ كُلِّ دليلٍ صحيحٍ مُعتَبَرٍ؛ نقلاً كانَ أو عقلاً، وكُلُّ دليلٍ خارجٍ عن هذَيْن الأصلَيْن أو أحدِهِما = فباطِلٌ مردودٌ، خارجٌ مِنْ أدِلَّةِ الشَّرعِ، قالَ ابنُ سعدي (ت: 1376): «ما خرجَ عن هذَيْن الأمرَيْن -الكتابِ والميزانِ- ممَّا قيلَ إنَّه حجَّةٌ أو برهانٌ أو دليلٌ أو نحو ذلك مِنْ العباراتِ = فإنَّه باطلٌ متناقضٌ، قد فسدت أصولُه، وانهدمَت مبانِيهِ وفروعُه، يعرفُ ذلك من خبرَ المسائلَ ومآخذَها، وعرفَ التَّمييزَ بين راجحِ الأدلَّةِ مِنْ مرجوحِها، والفرقَ بين الحُجَجِ والشُّبَه»

(3)

.

وقد امتَدَّ أثرُ تلك الخصائِصِ إلى منهجِ الاستدلالِ بهذَيْن الأصلَيْن على المعاني عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)؛ كما سيتبَيَّنُ في البابِ الثاني بإذنِ الله.

(1)

جامعُ المسائل، لابن تيمية، المجموعة الثانية، تحقيق: محمد عُزَيْر شمس (ص: 272).

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 29. وينظر أيضاً: 19/ 288.

(3)

تيسير الكريم الرحمن 2/ 606. وينظر: مجموع الفتاوى 13/ 68.

ص: 113

‌المبحثُ الثَّاني: أنواعُ الأدِلَّةِ المعتَبَرَةِ للمعاني التَّفسيريَّةِ عند ابنِ جريرٍ.

كانَ لتمَكُّنِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) وإمامتِه في أصولِ العلومِ الشَّرعيَّةِ واللغويَّةِ وفروعِها = أكبَرُ الأثَرِ في تَفَنُّنِه في الاستدلالِ على المعاني بأنواعِ الأدلَّةِ العقليَّة والنَّقليَّة؛ والتي تُحَدِّدُ المعنى المُرادَ، وتُصحِّحُ الاستشهادَ، وتَرُدُّ الاستشكالَ، وتُبطِلُ ما خالَفَ الصَّوابَ وانحرَف في الاستدلالِ.

و مِنْ خلالِ القراءَةِ المُستَوعِبَةِ لتفسيرِ (جامعِ البيانِ)، اجتهدتُ في حَصْرِ أنواعِ الأدِلَّةِ التي استَدَلَّ بها ابنُ جريرٍ (ت: 310) على المعاني، مع تحديدِ مقدارِ الاستدلالِ بكُلِّ دليلٍ، ونسبةِ الاستدلالِ به بين الأدلَّةِ.

وقد قَسَمتُ الأدِلَّةَ بحسب أصلِها إلى قسمين: نقليَّةٍ، وعقليَّةٍ. ويُلاحَظُ أنَّ عدداً مِنْ الأدِلَّة يتنازَعُه جانبا النَّقلِ والنَّظرِ، كما قالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «كُلُّ واحِدٍ مِنْ الضِّربَين -النَّقلُ والرَّأيُ- مُفتَقِرٌ إلى الآخرِ؛ لأنَّ الاستدلالَ بالمنقولاتِ لا بُدَّ فيه مِنْ النَّظرِ، كما أنَّ الرَّأيَ

ص: 114

لا يُعتبَرُ شرعاً إلا إذا استَنَدَ إلى النَّقلِ»

(1)

، وذلك كدليلِ اللغةِ في المنقولاتِ؛ فإنَّ نَقلَ المعنى عن العَرَبِ كافٍ في الدَّلالَةِ على ثبوتِه وصِحَّتِه حين لا يكون له معنىً آخرَ في كلامِهم، لكنَّ اختيارَ أحدِ المعاني المحتملَةِ المنقولَةِ عن العرَبِ، وإثباتِه معنىً للآيةِ = مَرَدُّه إلى النَّظَرِ والاجتهادِ.

ومثلُهُ دليلُ النَّظائِرِ في المعقولاتِ؛ فإنَّ الرَّبطَ بين المعنى ونظيرِه قائِمٌ على اجتهادِ المُفَسِّر ونَظَرِه، مع أنَّ النَّظيرَ المَقيسَ عليه ثابتٌ مِنْ جِهةِ النَّقلِ والسَّماعِ.

غيرَ أنَّ ذلك الاشتراك بين النَّقلِ والعَقلِ في بعضِ الأدلَّة لا أثرَ له في صِحَّةِ الاستدلالِ بالدَّليلِ مِنْ عدمِه، أو تَقديمِه وتأخيرِه، أو قوَّتِه وضَعفِه؛ وإنَّما قُصِدَ به بيانُ أصلِ الدَّليلِ ومَورِدِه؛ لتحقيقِ قواعِده، ومنهجِ التعامُلِ معه في مواضِعِه مِنْ الاستدلالِ، على ما سيأتي بيانُه بإذنِ الله.

(2)

‌المطلبُ الأوَّلُ: أنواعُ الأدلَّةِ النَّقليَّةِ:

أوَّلاً: القرآنُ الكريمُ. وقد وقعَ الاستدلالُ به على المعاني (124) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ به بين الأدِلَّةِ (1. 1%).

(1)

الموافقات 3/ 227. وينظر: تيسيرُ أصولِ الفقه (ص: 107).

(2)

قالَ ابنُ العربيّ (ت: 543): «والتقسيمُ نوعٌ من العلومِ؛ فإنَّ الشيءَ ينقسمُ مِنْ ذاتِه، ومِن صِفاتِه، ومِن مُتَعَلَّقاتِه .. » . قانون التأويل (ص: 187).

ص: 115

ثانياً: القراءاتُ. وقد وقعَ الاستدلالُ بها على المعاني (165) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ بها بين الأدِلَّةِ (1. 5%).

ثالِثاً: السُّنَّةُ النَّبويَّةُ. وقد وقعَ الاستدلالُ بها على المعاني (527) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ بها بين الأدِلَّةِ (4. 8%).

رابِعاً: الإجماعُ. وقد وقعَ الاستدلالُ به على المعاني (378) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ به بين الأدِلَّةِ (3. 5%).

خامِساً: أقوالُ السَّلفِ. وقد وقعَ الاستدلالُ بها على المعاني (5236) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ بها بين الأدِلَّةِ (48. 1%).

سادِساً: لغةُ العربِ. وقد وقعَ الاستدلالُ بها على المعاني (2183) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ بها بين الأدِلَّةِ (20. 1%).

سابِعاً: أحوالُ النُّزولِ. وقد وقعَ الاستدلالُ بها على المعاني (360) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ بها بين الأدِلَّةِ (3. 3%).

ثامِناً: الرواياتُ الإسرائيليَّةُ. وقد وقعَ الاستدلالُ بها على المعاني (322) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ بها بين الأدِلَّةِ (3%).

وقد وقعَ الاستدلالُ بجُملةِ الأدلَّةِ النَّقليَّةِ على المعاني (9295) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ بها بين قِسمَيْ الأدِلَّةِ (85. 4%).

‌المطلبُ الثَّاني: أنواعُ الأدلَّةِ العقليَّةِ:

وحيثُ إنَّها خارجُ مجالِ الدِّراسةِ هنا، فسأورِدُها إجمالاً، وأُرجئُ تفصيلَها في القسمِ الثّاني مِنْ الكتابِ بإذنِ الله

(1)

.

أوَّلاً: النَّظائرُ.

(1)

طُبع بحمد الله بعنوان: "الدَّليلُ العَقليُّ في التَّفسير"، وصدرَ عن مركز تكوين للدراسات والأبحاث، سنة 1442.

ص: 116

ثانياً: السّياقُ.

ثالِثاً: الدِّلالاتُ العقليَّةُ.

وقد وقعَ الاستدلالُ بجُملةِ الأدلَّةِ العقليَّةِ على المعاني (1586) مَرَّةً، وبلغَتْ نِسبةُ الاستدلالِ بها بين الأدِلَّةِ (14. 6%).

* وفي الجدولِ الآتي تفصيلُ أدلّةِ المعاني في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310):

م

الدَّليلُ

مقدارُ الاستدلالِ به

نسبةُ استعمالِه بين الأدلَّةِ

1

القرآن

124

1. 1%

2

القراءات

165

1. 5%

3

السُّنَّة

527

4. 8%

4

الإجماع

378

3. 5%

5

أقوالُ السَّلف

5236

48. 1%

6

لغةُ العرب

2183

20. 1%

7

أحوالُ النزول

360

3. 3%

8

الإسرائيليّات

322

3%

9

10

11

النَّظائر

السّياق

الدِّلالات العقليَّة

1586

14. 6%

مجموعُ الأدلَّة:

10881

100%

ص: 117

•‌

‌ البابُ الثّاني: بيانُ منهجِ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ على المعاني في تفسيرِه.

ويشتملُ على فصلين:

الفصلُ الأوّل: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ على المعاني في تفسيرِه إجمالاً.

الفصلُ الثّاني: منهجُ ابن جريرٍ في الاستدلالِ بالأدلَّةِ النَّقليَّة على المعَاني في تفسِيره.

ص: 119

‌الفصلُ الأوّل: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ على المعاني في تفسيرِه إجمالاً.

وفيه مبحثان:

المبحثُ الأوَّلُ: قواعِدُ في منهجِ الاستدلالِ على المعاني عند ابنِ جريرٍ.

المبحثُ الثّاني: مسائِلُ في منهجِ الاستدلالِ على المعاني عند ابنِ جريرٍ.

ص: 121

انتهجَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه طريقةً علميَّةً واضِحةً في الاستدلالِ على المعاني؛ شَمِلَت ضوابطَ عامَّةً في منهجِ الاستدلالِ، تتعلَّقُ بأنواعِ الأدلَّةِ على الإجمالِ، كما تتعلَّقُ بكلِّ دليلٍ بخصوصِه. وقد رأيتُ تقديمَ القواعِد العامَّةِ الضابطَةِ للاستدلالِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) قبل تفصيلِ الحديثِ عن معالمَ كلِّ دليلٍ على حِدَةٍ.

وإنَّ الوقوفَ على المنهجِ العامِّ للتعامُلِ مع أدلَّةِ المعاني لَيَستَلزمُ قراءةً دقيقَةً؛ تجمَعُ بين استيعابِ النصوصِ المُبَيِّنَةِ لذلك المنهج مِنْ كلامِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) نفسِه، ثُمَّ استخراجِ معالمَ ذلك المنهجِ مِنْ طريقتِه العامَّةِ في التعامُلِ مع الأدِلَّةِ.

وقد اجتهدتُ في الجمعِ بينهُما في مبحثينِ؛ جعلتُ الأوَّلَ مِنهُما في أصولِ منهجِ الاستدلال عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، ورَتَّبتُه على صورةِ قواعِدَ عامَّةٍ؛ وذلك لاطِّرادها في أبوابِ الاستدلالِ، وشمولِها لأنواعٍ مِنْ الأدِلَّةِ بلا انحصارٍ، معتمِداً نَصَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) في ذلك ما استطعتُ.

ثمَّ أَوْرَدتُ في المبحثِ الثّاني مِنْ مسائِل الاستدلالِ ما لا يندَرجُ

ص: 123

تحتَ تلك القواعِدِ؛ مِنْ أساليبِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) التي سلكَها في تفسيرِه في هذا البابِ.

ص: 124

‌المبحثُ الأوَّلُ: قواعِدُ في منهجِ الاستدلالِ على المعاني عند ابنِ جريرٍ.

‌القاعدةُ الأولى: غيرُ جائزٍ الكلامُ في كتابِ الله بغيرِ دَليلٍ.

عقدَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله في مقدِّمَةِ كتابِه باباً بعنوان: «ذِكرُ بعضِ الأخبارِ التي رُوِيَت بالنَّهي عن القولِ في تأويلِ القرآنِ بالرَّأي»

(1)

، وأسنَدَ فيه عدداً مِنْ الأحاديثِ التي تمنعُ مِنْ الكلامِ في كتابِ الله بلا دليلٍ؛ لِمَا فيه مِنْ الافتراءِ على الله، والقولِ عليه بلا عِلمٍ

(2)

، ثُمَّ قالَ:«وهذه الأخبارُ شاهدةٌ لنا على صِحَّةِ ما قُلنا؛ مِنْ أنَّ ما كانَ مِنْ تأويلِ آي القرآنِ الذي لا يُدرَك عِلمُه إلا بنَصِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو بنَصْبِه الدَّلالةَ عليه = فغيرُ جائزٍ لأحدٍ القِيلُ فيه برأيه، بل القائلُ في ذلك برأيه وإن أصابَ الحقَّ فيه فمخطئٌ فيما كانَ مِنْ فِعلِه بقِيلِه فيه برأيه»

(3)

. وقد أكَّدَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) هذا المعنى في

(1)

جامع البيان 1/ 71.

(2)

سبقَت الإشارَةُ إلى ذلك (ص: 50).

(3)

جامع البيان 1/ 72.

ص: 125

مواضِعَ كثيرَةٍ مِنْ تفسيرِه، كما سارَ عليه عملِيّاً في عامَّةِ تفسيرِه، ومِن ذلك قولُهُ عن بعضِ اختيارِه:«وإنَّما قُلنا: هذا التَّأويلُ أولى بالصوابِ مما عداهُ مِنْ سائِرِ التَّأويلات التي ذكرناها؛ لأنَّه غيرُ جائِزٍ أن يُقالَ في تأويلِ كتابِ الله تعالى ذكرُه قولٌ إلا بحُجَّةٍ واضِحَةٍ على ما قد بيَّنَّا في أوَّلِ كِتابِنا هذا»

(1)

، وقالَ أيضاً:«وغيرُ جائِزٍ أن يُقالَ في تأويلِ كتابِ الله بما لا دَلالَةَ عليه مِنْ بعضِ الوجوهِ التي تقومُ بها الحُجَّةُ»

(2)

، وقالَ:«فمن ادَّعى في التنزيلِ ما ليسَ في ظاهِره، كُلِّفَ البُرهانَ على دعواه مِنْ الوجهِ الذي يجبُ التَّسليمُ له»

(3)

.

‌القاعدةُ الثّانيةُ: كلُّ قولٍ لا بُرهانَ على صِحَّتِهِ واضِحٌ خَطَأُه.

وذلك أنَّه لا سبيلَ إلى معرِفةِ الصَّوابِ إلا بالدَّليلِ، فإذا عُدِمَ الدَّليلُ عُدِمَ اليقينُ بالصَّوابِ، وإن أصابَ مُصادَفةً «فإنَّما هي إصابَةُ خارِصٍ وظانٍّ، والقائِلُ في دينِ الله بالظَنِّ قائِلٌ على الله ما لا يعلَم، وقد حَرَّمَ اللهُ جَلَّ ثناؤُه ذلك في كتابِه على عِبادِه فقالَ {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]»

(4)

، وهذه القاعِدَةُ فرعٌ عن القاعِدَةِ السّابقَةِ، وقد أكَّدَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) هذا المعنى في تفسيرِه في مواضِعَ كثيرةٍ؛ مِنها قولُه: «وهذا الذي قالَهُ ابنُ زيدٍ: أنَّه كانَ أُمِرَ بالعفوِ بهذه

(1)

جامع البيان 4/ 234.

(2)

جامع البيان 1/ 499.

(3)

جامع البيان 8/ 721. وينظر: 2/ 181، 8/ 330.

(4)

جامع البيان 1/ 73.

ص: 126

الآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذلك. قولٌ لا وجهَ له؛ لأنَّه لا دَلالَةَ على صِحَّةِ ما قالَ مِنْ بعضِ الأَوجُهِ التي تَصِحُّ مِنها الدعاوَى»

(1)

، وقولُه:«وهذا قولٌ لا دَلالَةَ على صِحَّتِه مِنْ ظاهِرِ التَّنزيلِ، ولا مِنْ خَبَرٍ يَجِبُ التَّسليمُ له، وإذا خلا القولُ مِنْ دَلالةٍ على صِحَّتِه مِنْ بعضِ الوجوهِ التي يَجِبُ التَّسليمُ لها كانَ بَيِّناً فَسَادُه»

(2)

، وقولُه أيضاً:«وأمَّا الأقوالُ الأُخَرُ فدعاوى معانٍ باطِلَةٍ؛ لا دلالَةَ عليها مِنْ خبرٍ، ولا عقلٍ، ولا هي موجودَةٌ في التَّنزيلِ»

(3)

.

وقد رَدَّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) كثيراً مِنْ الأقوالِ بهذه القاعِدةِ؛ كما في قولِه: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في أصحابِ الأعْرافِ أن يُقَال كما قالَ اللهُ جلَّ ثناؤُه فيهم: هُمْ رجالٌ يعرفون كُلاً مِنْ أهلِ الجنَّة وأَهلِ النَّار بسيماهُم. ولا خَبَرَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يصحُّ سَنَدُه، ولا آيةَ متَّفَقٌ على تأويلِها، ولا إجماعَ مِنْ الأُمَّةِ على أنَّهم ملائِكةٌ. فإذ كانَ ذلك كذلك، وكانَ ذلك لا يُدرَكُ قِياساً .. ، كانَ بَيِّناً أنَّ ما قالَه أبو مِجْلَز مِنْ أنَّهم: ملائكةٌ. قولٌ لا معنى له»

(4)

، وقولِه:«ويُقالُ لمن زَعَمَ أنَّ ذلك منسوخٌ: ما الدَّلالَةُ على نسخِه؟ .. ، وما الدَّليلُ على أنَّ إخراجَ العَفْوِ كانَ فرضاً فأسقَطَهُ فرضُ الزَّكاة؟ ولا دِلالَةَ في الآيةِ على أنَّ ذلك كانَ فرضاً .. ، ولا سبيلَ لِمُدَّعي ذلك إلى دَلالَةٍ توجِبُ صِحَّةَ ما ادَّعَى»

(5)

.

(1)

جامع البيان 23/ 255.

(2)

جامع البيان 10/ 60.

(3)

جامع البيان 24/ 547.

(4)

جامع البيان 10/ 221.

(5)

جامع البيان 3/ 695. وينظر: 4/ 334، 7/ 685، 9/ 109، 16/ 381، 425.

ص: 127

بل جعلَ رحمه الله عَدَمَ الدَّليلِ دليلاً على البُطلانِ؛ حيثُ قالَ: «فإذ كانَ لا قولَ في تأويلِ ذلك إلا أحدَ القولَيْن اللذَيْن وَصَفْتُ، ثُمَّ كانَ أحدُهُما غيرَ موجودَةٍ على صِحَّتِه الدَّلالَةُ مِنْ الوجْهِ الذي يَجِبُ التَّسليمُ له = صَحَّ الوجْهُ الآخرُ. والذي حُكِيَ عن الحسنِ وقتادةِ ومَن قالَ بقولِهِما في تأويلِ ذلك غيرُ موجودَةٍ الدَّلالَةُ على صِحَّتِه مِنْ الكتابِ، ولا مِنْ خَبَرٍ تَجِبُ به حُجَّةٌ. والذي قالَه ابنُ عباسٍ يَدلُّ على صِحَّتِه خَبَرُ الله جلَّ ثناؤه عن إبليسَ وعصيانِه إيَّاهُ إذْ دعاه إلى السُّجودِ لآدمَ، فأبى واستكبرَ، وإظهارُه لسائرِ الملائِكةِ مِنْ معصيَتِه وكِبرِه ما كانَ له كاتِماً قبل ذلك»

(1)

.

وقد تركَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عدداً مِنْ الأقوالِ لافتقارِها إلى الدَّليلِ، مع احتمالِ بعضِها للصَّوابِ، ومِن ذلك قولُه:«وإنَّما تركنا القولَ بالذي رواهُ الضَّحَّاكُ عن ابنِ عباسٍ، ووافقَه عليه الرَّبيعُ، وبالذي قالَه ابنُ زيدٍ في تأويلِ ذلك؛ لأنَّه لا خَبَرَ عندنا بالذي قالوه مِنْ وجهٍ يقطَعُ مَجِيئُه العُذْرَ، ويَلْزَمُ سامعَه به الحُجَّةُ»

(2)

، وقولُه:«وليسَ ما قالَه مَنْ خَالفَ قولَنا هذا -مِنْ الأقوالِ التي حكيناها- بمدفوعٍ قولُه، ولكنَّه قولٌ لا شَاهدَ عليه مِنْ حُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها فيجوزُ لنا إضافتُه إلى آدمَ؛ وأنَّه ممّا تلقّاهُ مِنْ رَبِّه عند إنابتِه إليه مِنْ ذنبِه»

(3)

.

(1)

جامع البيان 1/ 533.

(2)

جامع البيان 1/ 500.

(3)

جامع البيان 1/ 586. وينظر: 9/ 659، 678، 13/ 59، 68، 17/ 377، 24/ 50.

ص: 128

‌القاعدةُ الثّالثةُ: كُلُّ قولٍ لا دليلَ عليه فدعوى لا تتعذَّرُ على أحدٍ.

الدَّعوى هي: كُلُّ قولٍ ينتَحِلُه الإنسانُ مُجرَّداً عن الدَّليلِ

(1)

. كما في قولِه تعالى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، فيلزَمُ كُلُّ قائِلٍ قولاً أن يُقِيمَ الدَّليلَ على صِحَّتِه، وإلا أُوقِفَ قولُه عليه، ولم يؤخَذْ به؛ لأنَّ الدعاوى ميسورَةٌ لكُلِّ أحدٍ، وليسَ أحَدُها بأولى مِنْ الآخرِ، قالَ الشّاطبي (ت: 790): «والدَّعوى المُجرَّدةُ غيرُ مقبولةٍ باتِّفاقِ العُلماءِ»

(2)

.

وهذه القاعِدَةُ قريبَةُ المعنى مِنْ القاعدَةِ السابقَةِ، إلا أنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) كَرَّرَها في عِدَّةِ مواضِعَ لتقريرِ: أنَّ القولَ وإنْ حَسُنَ في ظاهِرِه، أو كَثُرَ قائِلُه، أو عَظُمَتْ مكانَةُ قائِلِه = فإنَّه دعوى موقوفَةٌ على قائِلِها؛ ما لم يشهَدْ لها الدَّليلُ المُعتَبَر. ومِن ذلك قولُه: «فأمَّا الزَّاعِمُ أنَّ اللهَ عنى بقولِه {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 118]: العربَ

(3)

. فإنَّه قائِلٌ قولاً لا خَبَرَ بصِحَّتِه، ولا بُرهانَ على حقيقَتِه في ظاهِرِ الكتابِ. والقولُ إذا صارَ إلى ذلك، كانَ واضِحاً خطؤُه؛ لأنَّه ادَّعى ما لا بُرهانَ على صِحَّتِه، وادِّعاءُ مثلِ ذلك لن يتعَذَّرَ على أحدٍ»

(4)

، وقالَ أيضاً: «وأمَّا الذي ذكرنا عن السُّدِّي مِنْ: أنَّ هذه الآيةَ نزلَت قبلَ نزولِ كفَّاراتِ

(1)

ينظر: تهذيب اللغة 3/ 76، وتنبيه الرجل العاقل 2/ 451، وشرح حدود ابن عرفة (ص: 470)، ودستور العلماء 2/ 74.

(2)

الموافقات 4/ 232.

(3)

هو قولُ قتادةَ (ت: 117)، والسُّدِّي (ت: 128)، والرَّبيع (ت: 139). ينظر: جامع البيان 2/ 474.

(4)

جامع البيان 2/ 475.

ص: 129

الأَيْمانِ. فقولٌ لا دَلالَةَ عليهِ مِنْ كتابٍ، ولا سُنَّةٍ، والخَبَرُ عمَّا كانَ لا تُدْرَكُ صِحَّتُه إلا بخَبَرٍ صادِقٍ؛ وإلا كانَ دعوى لا يتعذَّرُ مثلُها وخِلافُها على أحدٍ»

(1)

.

وقد أشارَ رحمه الله إلى قاعِدَةٍ تَقرُبُ مِنْ هذه القاعِدَةِ، وهي: القولُ بلا بُرهانٍ تَحَكُّمٌ. والتَّحَكُّم هو: الاستبدادُ بالرَّأي على أيِّ وجهٍ كانَ

(2)

. وذلك حالُ طائِفةٍ ممَّن يذهبُ إلى رأيِهِ بدونِ بَيِّنَةٍ تَشهَدُ لصوابِه، وأكثَرُ ما يقعُ ذلك مِنْ أهلِ الأهواءِ، والمُتَعَصِّبَةِ للرَّأيِ دونَ الحَقِّ. ومِن مقالاتِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في ذلك قولُه: «فإنْ جازَت إحدى الزِّيادتَيْن اللّتَيْن ليسَتا في المصاحِفِ، كانَت الأُخرى نظيرَتَها، وإلا كانَ مُجيزُ إحداهُما إذا مَنَعَ الأُخرى مُتَحَكِّماً، والتَّحَكُّمُ فلا يعجِزُ عنه أحدٌ»

(3)

، وقولُه مُعَلِّلاً لاختيارِه:«إنَّ دعوى المُدَّعي نسخَ آيَةٍ مُحتَمَلٍ أن تكونَ غيرَ منسوخَةٍ؛ بغيرِ دَلالَةٍ على صِحَّةِ دعْواهُ = تَحَكُّمٌ، والتَّحَكُّمُ لا يعجِزُ عنه أحدٌ»

(4)

.

‌القاعدةُ الرّابعةُ: التَّوقُّفُ فيما لم يَدلَّ على صِحَّتِه دليلٌ فلا يُقَالُ به.

إنَّ القولَ إذا خلا عن دليلٍ كانَ دعوىً مِنْ صاحِبِه، وما كانَ كذلك فموقوفٌ على صاحِبِه حتى يَكشِفَه الدَّليلُ، أو مردودٌ عليه إن أبطَلَه الدَّليلُ. وفي كِلا الحالَيْن لا يؤخَذُ إلا بما دَلَّ الدَّليلُ على صِدقِه، وما

(1)

جامع البيان 4/ 13. وينظر: 3/ 696، 7/ 675.

(2)

ينظر مادَّة (حَكَم) من تاج العروس 31/ 511، والمعجم الوسيط (ص: 190).

(3)

جامع البيان 2/ 726.

(4)

جامع البيان 3/ 291. وينظر: 1/ 153.

ص: 130

عداهُ فموقوفٌ أو مردودٌ

(1)

، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «والصَّوابُ التَّسليمُ لِمَا دَلَّ عليه ظاهِرُ التَّنزيلِ، والتَّوقُّفُ فيما لم يكنْ على صِحَّتِه دليلٌ»

(2)

.

وأكثَرُ ما يكونُ التَّوقُّفُ في الأقوالِ التي لم يَشهَد لها دليلُ القَبولِ، مع احتمالِها مِنْ جِهَةِ النَّظَر؛ كتحديدِ كيفيَّة بعضِ المُغَيَّبَاتِ، وتعيينِ المُبهماتِ، وبيانِ حِكَمِ بعضِ المعاني، ومِن ذلك قولُه عند قولِه تعالى {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهُمَزة: 9]: «وأَوْلَى الأقوالِ بالصَّوابِ في ذلك قولُ مَنْ قالَ: معناه: أنَّهُم يُعَذَّبون بعُمُدٍ في النَّارِ، واللهُ أعلمُ كيف تعذيبُه إيَّاهُم بها، ولم يأتِنا خَبَرٌ تقومُ به الحُجَّةُ بصفةِ تعذيبِهم بها، ولا وُضِعَ لنا عليها دليلٌ، فنُدرِكَ به صفةَ ذلك، فلا قولَ فيه غيرَ الذي قُلنا يَصِحُّ عندنا»

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك أن يُقَال: إنَّ اللهَ تعالى ذكرُه أَخبرَ أنَّهُم باعوه بدراهِمَ مَعدودَةٍ غيرَ مَوْزونَةٍ. ولم يَحُدَّ مَبلغَ ذلك بِوَزنٍ ولا عَدَدٍ، ولا وضعَ عليه دلالةً في كتابٍ، ولا خبرٍ مِنْ الرسولِ صلى الله عليه وسلم. وقد يَحتملُ أن يكونَ كانَ عشرين، ويَحتملُ أن يكونَ كانَ اثنَيْن وعشرين، وأن يكونَ كانَ أربعين، وأقلَّ مِنْ ذلك وأكثرَ، وأيُّ

(1)

قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «الحُجَجُ الأثريَّةُ والنَّظريَّةُ تنقسِمُ إلى ما يُعلَمُ صِحَّتُه، وإلى ما يُعلَمُ فسادُه، وإلى ما هو موقوفٌ حتى يقومَ الدَّليلُ على أحدِهِما» . مجموع الفتاوى 19/ 288.

(2)

جامع البيان 17/ 377. وينظر: عبارةُ ابن تيمية في مجموع الفتاوى 13/ 330.

(3)

جامع البيان 24/ 626.

ص: 131

ذلك كانَ فإنَّها كانَت معدودةً غيرَ مَوْزونَةٍ. وليس في العلمِ بمبلغِ وزنِ ذلك فائدةٌ تَقَعُ في دينٍ، ولا في الجهلِ به دخولُ ضُرٍّ فيه، والإيمانُ بظاهرِ التَّنزيلِ فَرضٌ، وما عَدَاهُ فمَوضوعٌ عَنَّا تَكَلُّفُ عِلمِه»

(1)

، وقولُه أيضاً:«وأَوْلى ذلك بالصَّوابِ أن يُقالَ في ذلك: إنَّ الله تعالى ذكره فَرَضَ للأُمِّ مع الإخوةِ السُّدسَ؛ لِما هو أعلَمُ به مِنْ مصلَحَةِ خلقِه، وقد يجوزُ أن يكونَ ذلك كانَ لِما أُلْزِمَ الآباءُ لأولادِهم، وقد يجوزُ أن يكونَ ذلك لغيرِ ذلك. وليسَ ذلك مِمَّا كُلِّفنا عِلمَه، وإنَّما أُمِرنا بالعَمَلِ بما عَلِمنا»

(2)

.

‌القاعدةُ الخامسةُ: عدَمُ الاشتِغالِ بالاستِدلالِ على ما لا فائِدَةَ فيه مِنْ المعاني.

مِنْ منهَجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) المُطَّردِ في تفسيرِه: الإعراضُ عن كُلِّ معنىً لا فائِدَةَ فيه تُطلَبُ، «وليسَ في العلمِ به أداءُ فَرضٍ، ولا في الجهلِ به تَضييعُ واجِبٍ»

(3)

؛ وذلك أنَّ مِنْ عادَةِ النُّفوسِ التَّشَوُّفَ لتفاصيلِ المغَيَّباتِ، ودقائِقَ الحِكَمِ والتَّعليلاتِ، مع استطرادِ عددٍ مِنْ أصحابِ الفنونِ في دقائِقَ مِنْ علومِهم خارِجَةٍ عن حَدِّ التَّفسيرِ، وما يُحتاجُ إليه في بيانِه. وقد نَصَّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مواضِعَ مِنْ تفسيرِه

(4)

على تركِ كُلِّ ما لا علاقَةَ له بعلمِ التَّفسيرِ؛ كما في قولِه: «إذْ

(1)

جامع البيان 13/ 59.

(2)

جامع البيان 6/ 468.

(3)

جامع البيان 21/ 153.

(4)

سبقَ بيانُ ذلك (ص: 38).

ص: 132

كانَ قَصْدُنا في هذا الكتابِ البيانُ عن تأويلِ القرآنِ دونَ غيرِه»

(1)

. ومِن المعلومِ أنَّه لا فائِدَةَ في الاشتغالِ بما لا فائِدَةَ فيه شَرعِيَّةً؛ تقريراً أو استدلالاً.

وضابِطُ ما لا فائِدَةَ فيه مِنْ المعاني: ما لا يتعَلَّقُ به عملٌ مِنْ أعمالِ القلوبِ أو الجوارِحِ

(2)

. وذلك مُطَابِقٌ لوصفِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) له في جُملَةِ مواضِعَ بأنَّهُ:

1 -

ليسَ في العِلمِ به أداءُ فرضٍ، وليسَ مِمَّا كُلِّفنا عِلمَه.

2 -

ليسَ في الجَهلِ به تضييعُ واجِبٍ.

3 -

غيرُ نافِعٍ العِلمُ به في دينٍ ولا دُنيا.

4 -

غيرُ ضائِرٍ الجَهلُ به.

5 -

لا حاجَةَ تدعو إلى العِلمِ به.

6 -

لا عَمَلَ تحتَه.

(3)

ومِن أمثِلَةِ ذلك قولُه: «والصوابُ مِنْ القولِ أن يُقَالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه أَخبَرَ أنَّ خَلقَه لا يملكون مِنه خطاباً يومَ يقومُ الرُّوحُ. والرُّوحُ: خَلقٌ مِنْ خَلْقِه. وجائزٌ أن يكونَ بعضَ هذه الأشياءِ التي ذَكَرْتُ، واللهُ أعلمُ أيَّ ذلك هو، ولا خَبَرَ بشيءٍ مِنْ ذلك أنَّه المَعنيُّ به دونَ غيرِه

(1)

جامع البيان 10/ 72. وقالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «إنَّ علمَ التَّفسيرِ مطلوبٌ فيما يتوقَّفُ عليه فَهمُ المُرادِ من الخِطابِ، فإذا كانَ المُرادُ معلوماً فالزِّيادَةُ على ذلك تَكَلُّفٌ». الموافقات 1/ 57.

(2)

قَرَّرَ الشّاطبيُّ (ت: 790) هذا المعنى وفَصَّلَه في الموافقات 1/ 43، 137.

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 557، 698، 2/ 127، 3/ 626، 5/ 296، 6/ 469، 9/ 39، 13/ 59.

ص: 133

يجبُ التَّسليمُ له، ولا حُجَّةَ تدلُّ عليه، وغيرُ ضائِرٍ الجهلُ به»

(1)

، وقولُه عند قولِه تعالى {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114]: «وأمَّا الصَّوابُ مِنْ القَولِ فيما كانَ على المائدَةِ، فأن يُقالَ: كانَ عليها مأكُولٌ. وجائِزٌ أن يكونَ كانَ سمكاً وخُبزاً، وجائِزٌ أن يكونَ كانَ ثَمراً مِنْ ثَمَرِ الجنَّةِ، وغَيرُ نافعٍ العِلمُ به، ولا ضَارٌّ الجهلُ به؛ إذا أقَرَّ تالي الآيةِ بظاهِرِ ما احْتَملَهُ التَّنزيلُ»

(2)

، وكذا قولُه في قولِه تعالى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16]: «وجائِزٌ أن يكونَ ذلك أذىً باللسانِ أو اليَدِ، وجائِزٌ أن يكونَ كانَ أذىً بهما، وليسَ في العِلمِ بأيِّ ذلك كانَ مِنْ أيٍّ نفعٌ في دينٍ ولا دُنيا، ولا في الجَهلِ به مَضَرَّةٌ؛ إذْ كانَ الله جلَّ ثناؤُه قد نَسَخَ ذلك مِنْ مُحْكَمِه بما أوجَبَ مِنْ الحُكمِ على عِبادِه فيهِما»

(3)

.

‌القاعدةُ السّادسةُ: ليسَ في القُرآنِ ما لا معنى له فلا يُستَدَلَّ عليه، ولا زيادَةَ فيه بلا معنى.

هذه القاعِدَةُ تَتَّصِلُ بمنهَجِ الاستدلالِ مِنْ جِهَةِ أنَّ كُلَّ ما في القُرآنِ مَحلٌّ للاستدلالِ؛ إذْ ليسَ في القرآنِ حرفٌ لا معنى له، كما ليسَ فيه زيادَةٌ لا معنى لها

(4)

. وقد نَصَّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) على ذلك في مقدِّمةِ

(1)

جامع البيان 24/ 50.

(2)

جامع البيان 9/ 131.

(3)

جامع البيان 6/ 503.

(4)

قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «لا يجوزُ أن يكون اللهُ أنزَلَ كلاماً لا معنى له، ولا يجوزُ أن يكون الرسولُ وجميعُ الأُمَّةِ لا يعلمون معناه، كما يقولُ ذلك من يقولُه من المُتأخِّرين، وهذا القولُ يجبُ القَطعُ بأنَّه خطأٌ» . مجموع الفتاوى 17/ 390. وله رسالةٌ وافيةٌ بعنوان: (ليس في القرآن لفظةٌ زائِدةٌ لا تُفيدُ معنى)، ضمن جامع المسائِل، المجموعة الثامنة (ص: 331)، وينظر: تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة (ص: 143).

ص: 134

تفسيرِه، فبعد أن بَيَّنَ أنَّ مِنْ القرآنِ ما لا يعلَمُ تأويلَه إلا الله؛ وهو «ما فيهِ مِنْ الخبرِ عن آجالٍ حادثةٍ، وأوقاتٍ آتيةٍ؛ كوقتِ قيامِ السّاعةِ، والنَّفخِ في الصور، ونزولِ عيسى بن مريمَ، وما أشبَهَ ذلك»

(1)

، قالَ:«وفي حَثِّ الله عز وجل عبادَه على الاعتبارِ بما في آيِ القرآنِ مِنْ المواعظِ والبيِّناتِ .. ما يدُلُّ على أنَّ عليهم معرفَةَ تأويلِ ما لم يُحجَبْ عنهم تأويلُه مِنْ آيِه؛ لأنَّه مُحالٌ أن يُقالَ لمن لا يَفهَمُ ما يُقالُ لهُ، ولا يعقِلُ تأويلَه: اعْتَبِر بما لا فَهمَ لك به ولا معرفةَ؛ مِنْ القِيلِ والبيانِ والكلامِ، إلا على معنى الأمرِ بأن يفهَمَه ويفقَهَه، ثُمَّ يَتَدَبَّرَه ويعتَبِرَ به، فأمَّا قبلَ ذلك فمُستَحيلٌ أمرُه بتدبُّره؛ وهو بمعناهُ جاهِلٌ»

(2)

، وقالَ أيضاً:«إنَّ جميعَ ما أنزلَ الله عز وجل مِنْ آيِ القرآنِ على رسولِه صلى الله عليه وسلم فإنَّما أنزلَه عليه بياناً له ولأمَّتِه، وهُدىً للعالمين، وغيرُ جائِزٍ أن يكونَ فيه ما لا حاجَةَ بهم إليه، ولا أن يكونَ فيه ما بِهم إليه الحاجَةُ ثُمَّ لا يكونَ لهم إلى عِلمِ تأويلِه سبيلٌ»

(3)

.

كما سارَ على ذلك الأصلِ عمليّاً أثناءَ تفسيره، ومِن ذلك رَدُّه على بعضِ النَّحويّين في زَعمِه: أنَّ الحروفَ المُقطَّعةَ في أوائلِ السُّوَرِ لا معنى لها، وإنَّما هي زيادَةٌ في الكلامِ. بقولِه: «إنَّه أخطأَ مِنْ وجوهٍ شتَّى .. ، والوجهُ الثَّاني مِنْ خطئِه في ذلك: إضافَتُه إلى الله جلَّ ثناؤُه أنَّه

(1)

جامع البيان 1/ 68.

(2)

جامع البيان 1/ 76.

(3)

جامع البيان 5/ 199.

ص: 135

خاطَب عبادَه بما لا فائِدَةَ لهم فيه، ولا معنى له مِنْ الكلامِ؛ الذي سواءٌ الخِطابُ به وتركُ الخِطابِ به؛ وذلك إضافَةُ العَبَثِ -الذي هو منفيٌّ في قولِ جميعِ الموَحِّدين عن الله- إلى الله تعالى ذكرُه»

(1)

، وقالَ أيضاً مُبطِلاً ذلك في موضِعٍ آخر:«وغيرُ جائِزِ إبطالُ حرفٍ كانَ دليلاً على معنىً في الكلامِ»

(2)

، وقالَ:«غيرُ جائِزٍ أن يكونَ في كتابِ الله شيءٌ لا معنى له، وأنَّ لِكُلِّ كلمَةٍ معنىً صحيحاً»

(3)

، وقالَ أيضاً:«إنَّ كتابَ الله أبيَنُ البيانِ، وأصَحُّ الكلامِ، ومُحالٌ أن يوجَدَ فيه شيءٌ غيرُ مفهومِ المعنى»

(4)

.

‌القاعدةُ السّابعةُ: غيرُ جائزٍ تصويبُ قولٍ وتضعيفُ آخرَ إلا بدليلٍ.

هذه القاعِدَةُ أصلٌ في موازَنَةِ الأقوالِ، والحُكمِ عليها، وهي مِنْ تمامِ العَدلِ الذي أمرَ اللهُ تعالى به:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، وقد اتَّخَذَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ذلك منهجاً في تفسيرِه، كما نَصَّ عليه عندَ قولِه تعالى {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]، فقالَ: «وجائِزٌ أن تكونَ تلكَ البقيَّةُ: العصا، وكِسَرَ الألواحِ، والتَّوراةَ أو بعضَها، والنَّعلَيْن، والثِّيابَ، والجهادَ في سبيلِ الله، وجائِزٌ أن يكونَ بعضَ ذلك. وذلك أمرٌ لا يُدرَكُ عِلمُه مِنْ

(1)

جامع البيان 1/ 225.

(2)

جامع البيان 1/ 467.

(3)

جامع البيان 10/ 85.

(4)

جامع البيان 18/ 302. وينظر: 2/ 307، 4/ 578، 6/ 321، 7/ 528، 8/ 127، 325.

ص: 136

جِهَةِ الاستخراجِ، ولا اللغةِ، ولا يُدرَكُ علمُ ذلك إلا بخَبَرٍ يوجِبُ عنهُ العِلمَ، ولا خَبَرَ عندَ أهلِ الإسلامِ في ذلك للصِّفَةِ التي وصَفنا. وإذ كانَ ذلك كذلك؛ فغيرُ جائِزٍ فيه تصويبُ قولٍ، وتضعيفُ آخرَ غيرِه، إذ كانَ جائِزاً فيه ما قُلنا مِنْ القَول»

(1)

، وقالَ بعد ذِكرِ بعضِ اختيارِه:«ونظائِرُ ذلك في القرآنِ، وأشعارِ العربِ، وكلامِها أكثَرُ مِنْ أن يُحصى؛ فلِما ذكرنا مِنْ ذلك اختَرْنا ما اخترْنا مِنْ القولِ»

(2)

. وجميعُ أبوابِ أدلَّةِ المعاني التَّفصيليَّةِ فيما يأتي -بإذن الله- تصلُحُ شواهِدَ على ذلك.

‌القاعدةُ الثّامنةُ: الأحقُّ بإصابةِ الصَّوابِ في التَّفسير الأصَحُّ برهاناً، والأوضَحُ حُجَّة.

بعد أن أوضَحَت القواعِدُ السَّابِقَةُ وجوبَ الاستدلالِ على كلِّ معنىً يُذكَرُ في القرآنِ الكريمِ = تأتي هذه القاعِدَةُ لبيانِ أولى هذه الأدلَّةِ بالصَّوابِ دون غيرِه مِنْ الأقوالِ التي يشهَدُ لكُلٍّ مِنها دليلٌ مُعتَبَرٌ، فهي أصلٌ في تعليلِ الاختيارِ، والاستدلالِ له، وفيها بيانُ أنَّ وضوحَ الدَّليلِ، وصِحَّةَ البرهانِ مِنْ أهَمِّ وجوهِ ترجيحِ القولِ واختيارِه، وقد أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى هذه القاعِدَةَ عندَ قوله تعالى {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، فقالَ:«قد قالَت العُلماءُ مِنْ أهلِ التَّأويلِ في ذلك أقوالاً، ونحنُ ذاكرو أقوالِهم في ذلك، ثُمَّ مُخبرونَ بأصَحِّها بُرهاناً، وأَوضَحِها حُجَّةً»

(3)

، ثمَّ أورَدَ الأقوالَ بأدِلَّتِها، ورَدَّ ما

(1)

جامع البيان 4/ 477.

(2)

جامع البيان 1/ 501. وينظر: 2/ 250، 17/ 377، 23/ 255، 24/ 626.

(3)

جامع البيان 1/ 482.

ص: 137

لا دليلَ له، وجعلَ بعضَها في حَيِّزِ الاحتمالِ، واختارَ أصَحَّها دليلاً، وأوضَحَها وجهاً

(1)

. وبعدَ أن ذكرَ الخلافَ في المُرادِ بالصَّلاةِ في قولِه تعالى {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، قالَ:«وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّةِ، ما ذكَرْنا عن ابنِ عباسٍ في الخبرِ الذي رواه أبو جعفرَ، عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ؛ لأنَّ ذلك أصَحَّ الأسانيدِ التي رُويَ عن صحابيٍّ فيه قولٌ مَخرَجاً، وأشبَهُ الأقوالِ بما دَلَّ عليه ظاهرُ التَّنزيلِ؛ وذلك أنَّ قوله {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، عقيبَ قولِه {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وعقيبَ تقريعِ الكفارِ بكفرِهم بالقرآنِ، وذلك بُعدُهم مِنه ومِن الإيمانِ»

(2)

. ويكادُ يكونُ قولُه: «وأولى الأقوالِ بالصَّوابِ» ، أو:«بالصِّحَّةِ» = عنواناً على ترجيحاتِه واختياراتِه، بعد ذكرِه للخِلافِ في معنى الآيَةِ، كما هو ظاهِرٌ جِدَّاً في تفسيرِه

(3)

.

‌القاعدةُ التّاسعةُ: الدَّليلُ الذي يتعيَّنُ الأخذُ به هو ما صَحَّتْ دلالتُه في نفسِه، وسَلِمَ مِنْ المُعارِضِ الراجِحِ.

تَقَرَّرَ في القواعِدِ السَّابِقَةِ وجوبُ اعتمادِ الدَّليلِ في اختيارِ المعنى، والتَّرجيحِ بين المعاني، لكنَّ النَّاظِرَ في كُتُبِ التَّفسيرِ يرى أنواعاً مِنْ الأدلَّةِ على المعاني؛ فهل كُلُّ ما استُدِلَّ به على المعاني يصلُحُ دليلاً لها؟ وما صِفَةُ الدَّليلِ الذي يصِحُّ الاستدلالُ به، ويجبُ قبولُه؟

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 498 - 499.

(2)

جامع البيان 15/ 136.

(3)

جامع البيان 1/ 319، 518، 2/ 204، 3/ 138، 441، 4/ 162، 8/ 39، 286، 20/ 48، 21/ 474.

ص: 138

والإجابةُ عن هذا السُّؤالِ مِنْ أهَمِّ مقاصِدِ هذا البحثِ، وجميعُ أبوابِ الأدلَّةِ التَّفصيليَّةِ -فيما يأتي- تَكشِفُ عن شيءٍ مِنْ هذا الجوابِ؛ لكنَّ الحديثَ هنا عمَّا اشتركَتْ فيه تلك الأدلَّةُ مِنْ الأوصافِ التي يقعُ بها اعتبارُ الدَّليلِ، والاحتجاجُ به.

وبالتَّأمُّلِ في مواضِعِ الأدلَّةِ مِنْ هذا التَّفسيرِ نجِدُ أنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله أقامَ تفسيرَه على اعتِمادِ كُلِّ دليلٍ نقليٍّ أو عقليٍّ اجتمَعَت فيه ثلاثةُ أوصافٍ:

الأوَّلُ: صِحَّةُ الدَّليلِ في نَفسِه؛ وذلك باجتماعِ شرطين:

أوَّلُهُما: صِحَّةُ كونِه دليلاً، وذلك بدلالَةُ الشَّرعِ على حُجِّيَّتِه.

وثانيهما: الاستدلالُ به على الوجهِ العِلميِّ الصَّحيحِ الذي يُقبَلُ به الاستدلالُ.

فمتى اجتَمَعَ هذان الشرطانِ في دليلٍ صَحَّ الاستدلالُ به على معاني كلام الله تعالى

(1)

.

وقد اجتمعا على التَّمامِ في كُلِّ ما ذَكرَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه دليلاً على معنى، ونَصَّ على المُطالَبَةِ بهما في مثلِ قولِه:«فمن ادَّعى في التَّنزيلِ ما ليس في ظاهِرِه، كُلِّفَ البُرهانَ على دعواهُ مِنْ الوَجهِ الذي يَجِبُ التَّسليمُ له»

(2)

، وقالَ: «فإذْ كانَ لا قولَ في تأويلِ

(1)

قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «حصولُ المقصودِ بالأدلَّةِ تابعٌ لصِحَّةِ الأدلَّةِ في نفسِها» . تنبيه الرجل العاقل 2/ 451. وسيأتي تفصيلُ هذين الشَّرطين في مواضِعِه من الأدِلَّةِ التفصيليَّةِ بإذن الله.

(2)

جامع البيان 8/ 721.

ص: 139

ذلك إلا أحدَ القَولَين اللذَيْن وَصَفتُ، ثُمَّ كانَ أحدُهما غيرَ موجودَةٍ على صِحَّتِه الدَّلالَةُ مِنْ الوَجهِ الذي يَجبُ التَّسليمُ لَه = صَحَّ الوجهُ الآخرُ»

(1)

؛ فما كُلُّ بُرهانٍ مَقبولٌ، حتى يكونَ مَجيئُهُ على الوَجهِ الذي يَجِبُ قبولُه به؛ وذلك بما ذُكرَ مِنْ الشُّروطِ.

كما أعرَضَ في تفسيرِه عن كُلِّ قولٍ قامَ على غيرِ دليلٍ مُعتبَرٍ، أو صَحَّ دليلُه لكنْ وَقَعَ الاستدلالُ به على غيرِ الوجهِ المقبولِ، ومِن ذلك ما رَدَّه وأبطَلَه مِنْ أقوالِ أهلِ الأهواءِ والبدعِ؛ التي يُسارِعُ أصحابُها في الاستدلالِ لها ولو بالباطِلِ مِنْ الأدلَّةِ، وشُبَهٍ مِنْ الدِّلالاتِ

(2)

. ومِن أمثِلَةِ ذلك قولُ بعضِ (أهلِ البَحثِ)

(3)

: إنَّ قولَه تعالى {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]«خرجَ مخرَجَ المسألَةِ، ومعناهُ الخبَرُ، قالوا: وإنَّما تأويلُ الكلامِ: ربَّنا إنَّنا سمعنا مُنادياً ينادي للإيمانِ أن آمنوا برَبِّكُم فآمنَّا، ربَّنا فاغفِرْ لنا ذنوبَنا، وكَفِّر عنَّا سيِّئاتِنا، وتوَفَّنا مع الأبرار؛ لتؤتِيَنا ما وَعَدتَّنا على رُسُلِك، ولا تُخزِنا يومَ القيامة»

(4)

، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بعد ذِكرِ ترجيحِه في الآيةِ: «وليسَ ذلك ممَّا ذَهَبَ إليه الذين حكيتُ قولَهم في شيءٍ؛ وذلك أنَّه غيرُ موجودٍ في كلامِ العربِ أن يُقَال: افعلْ بِنَا يا رَبِّ كذا وكذا.

(1)

جامع البيان 1/ 533. وينظر: 1/ 19، 3/ 341، 5/ 111، 12/ 93، 13/ 68، 739، 19/ 91.

(2)

قالَ الشَّاطبيُّ (ت: 790): «وشأْنُ مُتَّبعِي المُتشابِهاتِ أخذُ دليلٍ مَا -أيَّ دليلٍ كانَ- عفواً وأخذاً أوَّليّاً، وإن كان ثَمَّ ما يُعارِضُه من كُلِّيٍّ أو جُزئيٍّ» . الاعتصام (ص: 186).

(3)

مُرادُ ابنِ جرير (ت: 310) بهم: أهلُ الكلامِ في العقائِد. ينظر: 4/ 528، 544.

(4)

جامع البيان 6/ 317.

ص: 140

بمعنى: لتَفعَلَ بِنَا كذا وكذا. ولو جازَ ذلك لجازَ أن يقولَ القائلُ لآخرَ: أقبلْ إليَّ وكلِّمني. بمعنى: أقبلْ إليَّ لتُكلِّمَني. وذلك غيرُ مَوجودٍ في الكلامِ، ولا معروفٍ جوازُه»

(1)

، فالوَجهُ اللُّغَويُّ الذي ذهبوا إليه باطِلٌ غيرُ موجودٍ في كلامِ العربِ. ومثلُه أيضاً قولُه عندَ قولِه تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]: «والعَجَبُ ممَّن أَنْكَرَ المعنى المفهومَ مِنْ كلامِ العربِ في تأويلِ قولِ الله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]؛ الذي هو بمعنى: العلوِّ والارتفاعِ. هرباً عندَ نَفسِه مِنْ أن يَلزَمَه بِزَعمِه إذا تأوَّلَه بمعناه المَفهومِ كذلك = أن يكونَ إنَّما علا وارتفَعَ بعدَ أن كانَ تَحْتَها. إلى أن تأوَّلَه بالمجهولِ مِنْ تأويلِه المُسْتَنكَر، ثمَّ لم ينجُ ممّا هرَبَ مِنه، فيُقَالُ له: أزَعَمتَ أنَّ تأويلَ قولِه {اسْتَوَى} [البقرة: 29]: أَقْبَلَ. أَفَكَانَ مُدبِراً عن السماءِ فأقْبَلَ إليها؟ فإن زَعَمَ أنَّ ذلك ليسَ بإقبالِ فِعْلٍ، ولكنَّه إقبالُ تدبيرٍ. قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها عُلُوَّ مُلْكٍ وسُلطانٍ، لا عُلُوَّ انتقالٍ وزوالٍ. ثمَّ لن يقولَ في شيءٍ مِنْ ذلك قولاً إلا أُلْزِمَ في الآخَرِ مِثلَه»

(2)

، فَمَنْ ذَهَبَ إلى ذلك المعنى اعتَمَدَ أصلاً عقليّاً ثابتاً عندَه، وجَعَلَهُ دليلاً على بُطلانِ ما سواهُ مِنْ الأقوالِ. مع بُطلانِ ذلك الأصلِ شرعاً وعقلاً.

ويتبعُ هذا الوَصفَ (صِحَّةُ الدَّليلِ في نَفسِه) وصفانِ مُطَّرِدان في عامَّةِ الأدلَّةِ، هما:

1 -

أن يجيءَ مِنْ وجهٍ ثابتٍ، وذلك فيما طريقُه النَّقلُ مِنْ الأدلَّةِ؛

(1)

جامع البيان 6/ 318.

(2)

جامع البيان 1/ 457. وينظر: 1/ 161، 197.

ص: 141

كالقرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، ولُغةِ العربِ. وثُبوتُ كُلِّ دليلٍ بحَسَبِه؛ على ما سيأتي بيانُه في مواضِعِه مِنْ الأدلَّة. ومِن ذلك ما نَصَّ عليه ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ اشتراطِ ثبوتِ النَّقلِ فيما يُروى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حيث قالَ:«فأحقُّ المُفَسِّرين بإصابَةِ الحَقِّ في تأويلِ القرآنِ الذي إلى عِلْمِ تأويلِه للعبادِ السبيلُ = أوضَحُهُم حُجَّةً فيما تأوَّلَ وفسَّرَ، مِمَّا كانَ تأويلُه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دون سائِرِ أُمَّتِه، مِنْ أخبارِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الثَّابتَةِ عنه؛ إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّقلِ المُستَفيضِ .. ، وإمَّا مِنْ جِهةِ نقلِ العُدُولِ الأثباتِ»

(1)

، ورَدَّ كثيراً مِنْ الأقوالِ لعَدَمِ ثبوتِ دليلِها النَّقليِّ، كما في قولِه:«هذا مَعَ ما في الخبرِ الذي رُويَ عن عائِشَةَ مِنْ العِلَّةِ التي في إسنادِه؛ التي لا يجوزُ معها الاحتجاجُ به لأحدٍ ممَّن عَلِمَ صحيحَ سندِ الآثارِ وفاسِدَها في الدِّينِ؛ لأنَّ راويَه ممَّن لا يُعرَفُ في أهلِ الآثارِ»

(2)

. وقولِه: «فإن يكُنِ الذي حَكى من حَكى عن العربِ مِنْ السَّماعِ مِنهم الجوابَ بالواوِ و (ثُمَّ)، كهيْئَةِ الجوابِ بالفاءِ صحيحاً؛ فلا شَكَّ في صِحَّةِ قراءَةِ من قرَأَ ذلك .. ، وإلا فإنَّ القِرَاءَةَ بذلك بعيدةُ المعنى مِنْ تأويلِ التَّنزيلِ، ولستُ أعلَمُ سماعَ ذلك مِنْ العَرَبِ صحيحاً»

(3)

.

2 -

أن يكونَ ممَّا تُثبِتُه العقولُ السَّليمَةُ ولا تَنفِيه، وذلك فيما طريقُه العقلُ مِنْ الأدلَّةِ؛ كالنَّظائِرِ، والسِّياقِ، وغيرِهما مِنْ الدِّلالاتِ العقليَّة.

(1)

جامع البيان 1/ 88.

(2)

جامع البيان 1/ 82.

(3)

جامع البيان 9/ 211. وينظر: 1/ 61، 210، 6/ 373، 13/ 132.

ص: 142

أمَّا الأدلَّةُ النَّقليَّةُ الثَّابِتَةُ فلا تُعارِضُ المعقولَ أصلاً؛ كما سبق بيانُه

(1)

، وحيثُما وُجِدَ ما يُظَنُّ فيه التعارُضُ وجَبَ التَّحقُّقُ فيه مِنْ أمرين:

أوَّلهما: ثبوتُ الدَّليلِ النَّقليِّ. فمتى ثَبَتَ دَليلُ الوَحيِ فهو الحَقُّ.

وثانِيهِما: صِحَّةُ الدَّلالَةِ العَقليَّة. إذ الأصلُ اتِّفاقُهما، وإنَّما يوجَدُ التَّعارُضُ بتَخَلُّفِ أحدِهِما.

(2)

ومِن أَمثِلَةِ اشتراطِ سلامَةِ الدَّليلِ عقلاً قولُه: «وفي تَرْكِه صلى الله عليه وسلم إبانَةَ ذلك أنَّه مُرادٌ به مِنْ وجوهِ تأويلِه البَعضُ دونَ البَعضِ = أَوضَحُ الدَّليلِ على أنَّه مُرادٌ به جميعُ وُجُوهِه التي هو لها مُحتَمِلٌ؛ إذْ لم يَكُنْ مُستَحيلاً في العَقلِ وَجْهٌ مِنها أن يكونَ مِنْ تأويلِه ومَعناه»

(3)

، وقولُه في نقدِ بعضِ الأقوالِ:«قيلَ له: أفَتقولُ مِنْ الوَجْهِ الذي قُلْتَ {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]؛ يَلعَبُ اللهُ بهم ويعبَثُ. ولا لَعِبَ مِنْ اللهِ ولا عَبَثَ؟ فإن قَالَ: نعم. وَصَفَ اللهَ بما قد أجمَعَ المسلمون على نفيهِ عنه، وعلى تَخْطِئَةِ واصِفِه به، وأضَافَ إليهِ ما قد قَامَتِ الحُجَّةُ مِنْ العقولِ على ضلالِ مُضِيفِه إليه»

(4)

.

الثاني مِنْ أوصافِ الدَّليلِ المُعتَبَر: صِحَّةُ تعلُّقِه بالمعنى المُستَدَلِّ له، ومُطابقتُه لموضِع الاستدلالِ؛ فإنَّ صِحَّةَ الدَّليلِ في نَفسِه لا تكفي

(1)

ينظر: المطلب الثالث، من الفصل الثاني، في الباب الأول (ص: 66).

(2)

ينظر: قانون التأويل (ص: 351)، ودرء تعارض العقل والنَّقل 1/ 78 - 91، والاعتصام (ص: 525)، والموافقات 1/ 125، والصواعق المرسلة 3/ 796 - 4/ 1536.

(3)

جامع البيان 1/ 225.

(4)

جامع البيان 1/ 318. وينظر: 1/ 457، 2/ 73، 9/ 109.

ص: 143

لقبولِه دليلاً على المعنى، ما لَمْ يكُن مُطابِقاً لموضِعِ الاستدلالِ

(1)

، وقد أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى ذلك في مواضِعَ كثيرَةٍ مِنْ تفسيرِه؛ مِنها قولُه: «مع أنَّ المُتدَبِّر إذا تدبَّرَ قولَ هذا القائِلِ في تأويلِه .. ، وما أشبهَ ذلك مِنْ حُجَجِه = عَلِمَ أنَّ حُجَجَه مُفسِدَةٌ في ذلك مقالَتَه، وأنَّ مقالَتَه فيه مُضادَّةٌ حُجَجَه»

(2)

، وقولُه:«وأمَّا ما قالَه ابنُ زيدٍ، فإنَّه قولٌ لو كانَ في الكلامِ دَليلٌ على أنَّه استفهامٌ = حسنٌ؛ ولكنَّه لا دلالَةَ فيه على أنَّ ذلك كذلك. والعربُ لا تحذِفُ مِنْ الكلامِ شيئاً إليه حاجَةٌ إلا وقد أبقَتْ دليلاً على أنَّه مُرَادٌ في الكلامِ، فإذا لم يكُن في قوله {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] دلالَةٌ على أنَّ المرادَ به الاستفهامُ -كما قالَ ابنُ زيدٍ-، كانَ معلوماً أنَّه ليسَ به»

(3)

، وقولُه عند قولِه تعالى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، مُبَيِّناً سببَ تكريرِ إظهارِ اسمِ الله تعالى في آخر الآيةِ عند بعضِ أهلِ اللغةِ: «وقد كانَ بعضُ أهلِ العربيَّةِ يوَجِّهُ ذلك إلى نَحوِ قولِ الشَّاعر

(4)

:

ليت الغُرابَ غداةَ يَنعَبُ دائِباً

كانَ الغُرابُ مُقَطَّعَ الأَوْداجِ

وأنَّه إظهارُ الاسمِ الذي حَظُّهُ الكنايَةُ عنه. والأمرُ في ذلك بخلافِ ما قالَ؛ وذلك أنَّ الغرابَ الثانيَ لو كانَ مَكْنيّاً عنه لما التَبَسَ على أحَدٍ

(1)

قالَ السيوطيُّ (ت: 911): «قالَ العُلماءُ: يجبُ على المُفَسِّرِ أن يتحرَّى في التَّفسيرِ مُطابَقَةَ المُفَسَّرِ، وأن يتحرَّزَ في ذلك من نقصٍ عمَّا يُحتاجُ إليه في إيضاحِ المعنى، أو زيادةٍ لا تليقُ بالغَرَضِ» . الإتقان 6/ 2316، وكأنَّها منقولةٌ عن منهاج البلغاء 2/ 58.

(2)

جامع البيان 1/ 51.

(3)

جامع البيان 16/ 381.

(4)

هو جريرُ بن عطيَّة، والبيتُ في ديوانِه 1/ 136.

ص: 144

يَعقِلُ كلامَ العربِ أنَّه كِنايَةُ اسمِ الغُرابِ الأوَّلِ، إذ كانَ لا شيءَ قبلَه يحتَمِلُ الكلامُ أن يُوَجَّهَ إليه غَيرُ كِنايَةِ اسمِ الغُرابِ الأوَّلِ، وأنَّ قبلَ قولِه {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] أسماءً، لو جاءَ اسمُ الله تعالى ذِكرُه مَكْنيّاً عنه، لم يُعلَمْ مَنْ المَقصودُ إليه بكِنايَةِ الاسمِ إلا بتوقيفٍ مِنْ حُجَّةٍ، فلذلك اختلفَ أمراهُما»

(1)

.

ومِن دَقَّتِه في هذا البابِ أنَّه يُحَدِّدُ معنى اللفظِ الذي له أكثَر مِنْ وجهٍ في الموضِعِ الواحِدِ، ويستدلُّ له في ذلك المعنى تحديداً، فيقولُ:«والدِّينُ في هذا الموضِعِ بتأويلِ الحِسابِ والمُجازاةِ بالأعمال»

(2)

، ثُمَّ ذَكَرَ دليلَ ذلك مِنْ أشعارِ العَرَبِ، ونظائِرِه في كتابِ الله، ثُمَّ قالَ:«وللدِّينِ معانٍ في كلامِ العَرَبِ غيرُ معنى الحِسابِ والجَزَاءِ، سنذْكُرُها في أماكِنِها إن شاءَ اللهُ»

(3)

، وقالَ أيضاً:«ومعنى قولِه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] في هذا المَوضِعِ عِندَنا: وَفِّقْنا للثَباتِ عليه. كما رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ»

(4)

، ثُمَّ استوفى الاستدلالَ لذلك المعنى بنظائِرِ القرآنِ، والمشهورِ مِنْ كلامِ العربِ، وأشعارِها، وأجابَ عن المعاني الأخرى التي لا يحتَمِلُها هذا الموضِعُ مِنْ الكلامِ؛ وإن صَحَّتْ في غيره.

ومِن دَقَّتِه أيضاً تمييزُ ما دلَّت عليه الآيةُ مِنْ المعاني، عمَّا دَلَّ عليه

(1)

جامع البيان 2/ 303. وينظر: 3/ 335، 4/ 199، 7/ 443، 8/ 209، 445، 13/ 595، 20/ 636.

(2)

جامع البيان 1/ 157.

(3)

جامع البيان 1/ 158.

(4)

جامع البيان 1/ 165. وينظر: 1/ 234، 2/ 361، 8/ 92.

ص: 145

خارِجُها مِنْ الأدلَّةِ؛ حتى يقَعَ الاستدلالُ على معناه المُطابِقِ في الآيةِ، كما في قولِه عندَ قولِ تعالى {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]: «ولم يقُل الله جلَّ ثناؤه في كتابِه: فإن كانَ له ولدٌ فلا شيءَ لأختِه معه. فيكونَ لِمَا رُويَ عن ابنِ عباسٍ وابنِ الزُّبيرِ في ذلك وجهٌ يُوَجَّهُ إليه، وإنَّما بَيَّن جلَّ ثناؤُه مبلَغَ حَقِّها إذا ورثَ الميِّتُ كلالةً، وتركَ بيانَ ما لها مِنْ حَقٍّ إذا لم يُورَثْ كلالةً في كتابِه، وبَيِّنَهُ بوَحيهِ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فجعلَها عَصَبَةً مع إناثِ ولدِ المَيِّتِ، وذلك معنىً غيرُ معنى وراثَتِها المَيِّتَ إذا كانَ موروثاً كلالةً»

(1)

، وقالَ في بيانِ حَدِّ التيَمُّمِ في قولِه تعالى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]: «والصوابُ مِنْ القولِ في ذلك أنَّ الحدَّ الذي لا يُجزئُ المُتيمِّمَ أن يُقصِّرَ عنه في مَسحِه بالتُّرابِ مِنْ يديه: الكفَّانُ إلى الزَّندين؛ لإجماعِ الجميعِ على أنَّ التَّقصيرَ عن ذلك غيرُ جائزٍ، ثم هو فيما جاوزَ ذلك مُخيَّرٌ، إن شاءَ بلغَ بمَسحِه المرفقَيْن، وإن شاءَ الآباطَ. والعلَّةُ التي مِنْ أجلِها جعلناهُ مُخيَّراً فيما جاوزَ الكفَّيْن: أنَّ اللهَ لم يَحدَّ في مسحِ ذلك بالتُّرابِ في التَّيمُّمِ حدّاً لا يجوزُ التَّقصيرُ عنه، فما مَسَحَ المُتَيمِّمُ مِنْ يديه أجزَأَهُ، إلا ما أُجمِعَ عليه، أو قامتْ الحُجَّةُ بأنَّه لا يُجزِئُه التَّقصيرُ عنه، وقد أجمعَ الجميعُ على أنَّ التَّقصيرَ عن الكفَّيْن غيرُ مُجزئٍ، فخرجَ ذلك بالسُّنَّةِ، وما عدا ذلك فمُختَلَفٌ فيه، وإذْ كانَ مُختَلَفاً فيه، وكانَ الماسِحُ بكفَّيهِ داخلاً في عمومِ الآيةِ كانَ خارجاً مما لَزِمَهُ مِنْ فَرضِ ذلك»

(2)

.

(1)

جامع البيان 7/ 724.

(2)

جامع البيان 7/ 91. وينظر: 7/ 97.

ص: 146

الثّالثُ: سلامتُه مِنْ المُعارِضِ الرَّاجِحِ؛ سواءٌ كانَ نقليّاً أو عقليّاً. فإذا تعارَضَ دليلانِ ثابتانِ في المعنى الواحِدِ على وجهٍ لا يُمكِنُ به الجمعُ بينهُما = تَعيَّنَ التَّرجيحُ، وصارَ الرَّاجِحُ مِنهُما محلَّ الاعتِبارِ والاعتِمادِ

(1)

. وذلك أنَّ الأدلَّةَ الثَّابتَةَ لا تتعارَضُ حقيقةً ولا تتناقضُ، بل كُلُّها يدُلُّ على الحَقِّ، ويشهَدُ بالصَّوابِ، ومِن ثَمَّ كانَ الجَمعُ بين الأدِلَّةِ المُتعارِضَةِ أوَّلَ المسالِكِ وأَوْلاها، فإذا تَعَذَّرَ الجَمعُ دَلَّ على وُجودِ وصفٍ -مِنْ جِهَةِ الثُّبوتِ أو الدِّلالَةِ- يمنعُ مِنْ الاستدلالِ بأحدِهما، ويوجِبُ ترجيحَ أحَدِهما على الآخَرِ واعتِبارِه.

(2)

وقد قَرَّرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) تلكَ المسائِلَ في تفسيرِه نَصَّاً ومنهجاً، وبَيَّنَ «أنَّه غيرُ جائِزٍ أن يكونَ في أخبارِ اللهِ أو أخبارِ رسولِه صلى الله عليه وسلم شيءٌ يدفَعُ بعضُهُ بعضاً»

(3)

، وقالَ:«وخَبَرُ الله عز وجل أصدَقُ مِنْ أن يَقَعَ فيه تناقُضٌ»

(4)

.

وأجرى تفسيرَه على اعتِمادِ ما صَحَّ مِنْ الأدلَّةِ، وسَلِمَ مِنْ المُعارِضِ؛ كما في قولِه: «فقد تَبيَّن إذن بما قُلنا صِحَّةُ معنى الخبرَيْن .. ، وأنْ ليسَ أحدُهما دافعاً صِحَّةَ معنى الآخرِ كما ظَنَّهُ بعضُ الجُهَّالِ. وغيرُ جائِزٍ في أخبارِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن يكونَ بعضُها دافعاً بعضاً

(1)

سيأتي بيانُ ذلك على التَّفصيلِ في الفصلِ الثالث، من البابِ الثالث بإذن الله.

(2)

قالَ الشَّاطبيُّ (ت: 790): «إذا تعارَضَتِ الأدلَّةُ، ولم يظهَرْ في بعضِها نسخٌ، فالواجِبُ التَّرجيحُ، وهو إجماعٌ من الأصوليِّينَ، أو كالإجماعِ» . الاعتصام (ص: 166).

(3)

جامع البيان 7/ 36.

(4)

جامع البيان 8/ 721. وينظر: 8/ 210، 9/ 466 - 468.

ص: 147

إذا ثَبَتَ صِحَّتُها»

(1)

، وقالَ عند قولِه تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] رادّاً على مَنْ استَدَلَّ على وجوبِ العُمرَةِ ببعضِ الأخبارِ: «فإنَّ هذه أخبارٌ لا يَثبُتُ بمثلِها في الدِّينِ حُجَّةٌ؛ لِوَهْيِ أسانيدِها، وأنَّها مع وهْيِ أسانيدِها لها مِنْ الأخبارِ أشكالٌ تُنبِئُ عن أنَّ العُمرَةَ تَطوُّعٌ، لا فرضٌ واجِبٌ»

(2)

.

وقَرَّرَ عند وجودِ التَّعارُضِ لزومَ جَمعِ الدَّليلَين على معنىً صحيحٍ، وحَمْلِ أحدِهِما على الآخرِ، كما في قولِه:«فإذا كانَ الخبران اللذان ذكرناهُما عنه صلى الله عليه وسلم صحيحَيْن، كانَ غيرَ جائزٍ إلا أن يكونَ أحدُهُما مُجمَلاً، والآخَرُ مُفسَّراً؛ إذ كانَت أخبارُه صلى الله عليه وسلم يُصَدِّقُ بعضُها بعضاً»

(3)

، وقولِه:«فإذْ كانَ كِلا الخبرَيْن صحيحاً مَخرَجُهما، فواجِبٌ التَّصديقُ بهما، وتوجيهُ كُلِّ واحِدٍ مِنهما إلى الصَّحيحِ مِنْ وَجهٍ»

(4)

.

ورَدَّ أخباراً لأنَّها مُقابَلَةٌ بأصَحَّ مِنها كما في قولِه: «وإنَّما قُلنا ذلك أولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ؛ لتظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(5)

، ثَمَّ أَوْرَدَ اعتراضَاً بأحدِ الأخبارِ، وقالَ: «هذا خبرٌ في إسنادِه نظرٌ .. ، والثِّقاتُ مِنْ أهلِ الآثارِ يَقِفونَ هذا الكلامَ على سلمانَ، ويَرْوونَه عنه مِنْ قيلِه غيرَ مرفوعٍ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، والحُفَّاظُ الثِّقاتُ إذا تتابَعوا على نقلِ شيءٍ بصِفَةٍ، فخالَفَهم واحِدٌ مُنفَرِدٌ، وليس

(1)

جامع البيان 2/ 543.

(2)

جامع البيان 3/ 340. وينظر: 3/ 375، 6/ 498.

(3)

جامع البيان 7/ 36.

(4)

جامع البيان 8/ 748.

(5)

جامع البيان 8/ 121.

ص: 148

له حِفظُهُم = كانَت الجَماعَةُ الأثباتُ أحَقَّ بصِحَّةِ ما نقلوا مِنْ الفَردِ الذي ليس له حِفظُهُم»

(1)

، ومثلُه أيضاً قولُه:«وكلُّ هذه الأقوالِ التي ذكرناها عمَّن ذكرنا = توجيهٌ مِنهم للكلامِ إلى غير وجهِه المعروفِ، وغيرُ جائِزٍ توجيهُ معاني كلامِ الله جلَّ وعزَّ إلى غيرِ الأغلَبِ عليه مِنْ وجوهِه عند المُخاطَبين به، ففي ذلك مع خلافِهم تأويلَ أهلِ العِلمِ فيه = شاهِدا عَدلٍ على خطأِ ما ذهبوا إليه فيه»

(2)

.

كما اعتَبَرَ المُعارِضَ الرَّاجِحَ؛ مِنْ أيِّ قِسْمٍ كانَ مِنْ أُصولِ الأدِلَّةِ؛ نقليّاً كانَ أو عَقليّاً، ومِنه قولُه عند قولِه تعالى {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27]: «وكأنَّ معنيَّ صاحِبِ هذه المقالَةِ في قولِه هذا: ولو ترى إذ وُقِفوا على النَّارِ فقالوا: قد وُقِفْنا عليها مُكَذِّبين بآياتِ رَبِّنا كُفَّاراً، فيا ليتنا نُرَدُّ إليها فنُوقَفَ عليها غيرَ مُكَذِّبين بآياتِ رَبِّنا، ولا كُفَّاراً. وهذا تأويلٌ يدفعُه ظاهِرُ التَّنزيلِ؛ وذلك قولُه تعالى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، فأخبَرَ اللهُ تعالى ذِكرُه أنَّهم في قِيلِهم ذلك كَذَبَةٌ، والتَّكذيبُ لا يقعُ في التَّمَنِّي، ولكنَّ صاحِبَ هذه المَقالَةِ أظُنُّ به أنَّه لم يتدبَّرِ التأويلَ، ولَزِمَ سَنَنَ العربيَّةِ»

(3)

، وكذا قولُه عند قوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]: «فأمَّا قولُنا: إنَّه دلالَةٌ على الغايةِ التي يُنتَهى إليها في الرّضاعِ عند اختلافِ الوالِدَيْن فيه؛ فلأنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه لمَّا حَدَّ في ذلك حدَّاً كانَ غيرَ جائِزٍ أن يكونَ ما وراءَ حَدِّه موافِقاً في الحُكمِ ما دونَه؛ لأنَّ ذلك لو

(1)

المرجعُ السابقُ.

(2)

جامع البيان 16/ 41.

(3)

جامع البيان 9/ 210.

ص: 149

كانَ كذلك لم يكُن للحَدِّ معنىً معقولٌ. وإذْ كانَ ذلك كذلك، فلاشَكَّ أنَّ الذي هو دونَ الحَوْلَين مِنْ الأجَلِ لَمّا كانَ وقتَ رَضاعٍ كانَ ما وراءَه غيرَ وقتٍ له؛ وأنَّه وقتٌ لتركِ الرَّضاعِ، وأنَّ تمامَ الرَّضاعِ لَمَّا كانَ تمامَ الحَوْلَيْن؛ وكانَ التَّمامُ مِنْ الأشياءِ لا معنى للزيادَةِ فيه = كانَ لا معنى للزيادَةِ في الرّضاعِ على الحَوْلَيْن»

(1)

.

‌القاعدةُ العاشرةُ: الدَّليلُ الواحِدُ كافٍ في الدَّلالَةِ، وبَعضُ الأدِلَّةِ يُغني عن بَعضٍ.

إذا وَرَدَ الدَّليلُ -على الوجهِ السَّابِقِ بيانُه- كانَ كافياً في الاستدلالِ به بمُفرَدِه، فإذا انضافَ إليه غيرُه مِنْ أنواعِ الأدلَّةِ قوِيَت دلالَتُه، وتقَدَّمَ على غيرِه. وعلى هذا المَنهَجِ سارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه؛ فبَيَّنَ أنَّ بعضَ الأدلَّةِ يُغنى عن بعضٍ؛ كما في قولِه: «وهذا قولٌ لا نعلمُ قائِلاً قالَه مِنْ أهلِ التَّأويلِ، وكفى خطأً بقولِه خروجُه عن أقوالِ أهلِ العِلمِ، لو لم يكن على خطئِهِ دلالَةٌ سواهُ، فكيف وظاهِرُ التَّنزيلِ يُنبِئُ عن فسادِه!»

(2)

، وقولِه:«وهذا خبرٌ وإن كانَ في إسنادِه ما فيه، فإنَّ في إجماعِ الحُجَّةِ على صِحَّةِ القَوْلِ به مُستَغْنىً عن الاستِشهادِ على صِحَّتِه بغيرِه»

(3)

، وقولِه:«ثُمَّ في دلالَةِ الآيَةِ كفايَةٌ مُغنيَةٌ عن استِشْهادِ شاهِدٍ على صِحَّةِ ذلك بغيرها»

(4)

، وقَرَّرَ: «أنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه إذا دَلَّ على

(1)

جامع البيان 4/ 207. وينظر: 1/ 534، 568، 9/ 341، 10/ 70، 15/ 51.

(2)

جامع البيان 8/ 721.

(3)

جامع البيان 6/ 558.

(4)

جامع البيان 3/ 213. وينظر: 8/ 418، 499، 10/ 60، 23/ 255.

ص: 150

وجوبِ شيءٍ في بعضِ تنزيلِه، ففي دلالَتِهِ على وجوبِه في المَوْضِع الذي دَلَّ عليه الكِفايَةُ عن تكريرِه .. ، فلا حاجةَ بالعبادِ إلى تكريرِ ذلك في كُلِّ آيَةٍ وسورَةٍ»

(1)

، فكذلك هي الأدلَّةُ.

كما سارَ في تفسيرِه على تركِ استيعابِ الأدِلَّةِ لبعضِ المعاني؛ لظُهورِ صَوابِ القَولِ، أو لاشْتِهارِ فَسَادِه، فيستَغني بما ذُكِرَ مِنْ الأدلَّةِ عن غيرِه لحُصولِ المقصودِ به، ومِن ذلك قولُه:«وذلك هو الكلامُ الذي لا حاجَةَ بالمُتَكَلِّمِ به إلى الاستِشهادِ على صِحَّتِه؛ لفُشُوِّ ذلك على ألسُنِ العَرَب»

(2)

، وكذا قولُه:«فأمَّا إذا وَجَّهنا {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] إلى أنَّها مِنْ نَعتِ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] فلا حاجَةَ إلى الاستدلالِ؛ إذ كانَ الصَّريحُ مِنْ معناه قد أغنى عن الدَّليلِ»

(3)

، وقولُه:«وليسَ هذا قولاً نستجيزُ التَّشاغُلَ بالدَّلالَةِ على فسادِه؛ لخروجِه عن قولِ جميعِ عُلماءِ التَّأويلِ»

(4)

.

‌القاعدةُ الحاديَةَ عشرَةَ: ما ثَبَتَ بدليلٍ لا يُخرَجُ عنه إلا بدليلٍ.

هذه القاعِدَةُ أصلٌ جليلٌ عامٌّ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله، يتحقَّقُ به وجوبُ الاستمساكِ بما دَلَّ عليه الدَّليلُ مِنْ المعاني، ولا يُخرَجُ عنها إلا بدليلٍ يوجِبُ المَصيرَ إلى غيرِها. وقد قَرَّرَ فيه أنَّ: كُلَّ

(1)

جامع البيان 4/ 301.

(2)

جامع البيان 4/ 443.

(3)

جامع البيان 1/ 182.

(4)

جامع البيان 1/ 418. وينظر: 3/ 213.

ص: 151

دليلٍ ثبتَت حُجِّيَّتُه وَجَبَ اتِّباعُه. وتكرَّرَتْ مِنه هذه العبارَةُ: «إلا بحُجَّةٍ يجبُ التسليمُ لها» في تفسيرِه أكثرَ مِنْ مِئَةِ مَرَّةٍ

(1)

.

كما بَيَّنَ أنَّ: كُلَّ معنىً عارَضَ الأدلَّةَ الثَّابتَةَ أو شيئاً مِنْ معناها بلا حُجَّةٍ فهو باطِلٌ. ومِن ذلك رَدُّهُ لبعضِ الأقوالِ بقولِه: «وذلك إن قالوه خَرَجَ من قالَه مِنْ قِيلِ أهلِ الإسلامِ، وخالَفَ نَصَّ كتابِ اللهِ تعالى ذِكرُه، وقولَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)

(2)

، وقالَ أيضاً:«والخَبَرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بخِلافِ هذا القَولِ، وقولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هو الحَقُّ دونَ غيرِه»

(3)

.

ويتبعُ هذه القاعِدةَ قَولُنا: إذا ثَبَتَ الأصلُ فلا يُصارُ إلى غيرِه إلا بدليلٍ؛ وذلك أنَّ ثُبوتَ الأصلِ إنَّما يكونُ بجُملَةٍ مِنْ الأدلَّةِ، يصيرُ بها ثابتاً مُطَّرِداً؛ يُحكَمُ به، ويُبنى عليه

(4)

. والنُّصوصُ عن ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وتطبيقاتُه لهذه القاعِدَةِ مِمَّا يَشقُّ حصرُه؛ لتعلُّقِها بأبوابِ الظَّاهرِ والباطنِ، والأمرِ والنَّهيِ، والعامِّ والخاصِّ، والمُطلَقِ والمُقَيَّدِ، والنَّاسِخِ والمنسوخِ، وأشباهِها مِنْ الأبوابِ التي تتكرَّرُ تطبيقاتُها في الآياتِ.

وممّا أورَدَهُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ منهجِه في تلك الأبوابِ ما يأتي:

(1)

ينظر: 1/ 19، 2/ 445، 3/ 341، 4/ 113، 5/ 111، 6/ 607، 9/ 107، 10/ 449، 21/ 474.

(2)

جامع البيان 3/ 742.

(3)

جامع البيان 19/ 569. وينظر: 7/ 277، 10/ 67، 16/ 300، 495.

(4)

ينظر: الاعتصام (ص: 312)، والكليَّات (ص: 122)، ودستور العلماء 1/ 88.

ص: 152

أوَّلاً: الظّاهرُ والباطنُ:

الظاهرُ هو: المُتبادَرُ مِنْ معنى اللفظِ الذي ثَبَتَ بطريقٍ مِنْ طُرُقِ التَّفسيرِ المُعتَبَرَة، ولم يَصرِفهُ عنه صارِفٌ. ورُبَّما عَبَّرَ عنه ابنُ جريرٍ (ت: 310) بالنَّصِّ، وحقيقةِ اللفظِ

(1)

.

والباطنُ هو: المعنى غيرُ المُتبادَرِ مِنْ اللفظِ، والذي صرفَهُ عن المعنى الظاهِرِ مِنه صارِفٌ

(2)

. ومِن ثَمَّ يُسَمِّي ابنُ جريرٍ (ت: 310) العامَّ، والمُطلَقَ، والأغلبَ مِنْ استعمالِ النَّاسِ، والمعروفَ مِنْ كلامِ العَرَبِ، وسياقَ الكلامِ = ظاهِراً؛ لأنَّها المُتبادَرُ مِنْ معنى اللفظِ، فإذا صَرَفَها عنه صارِفٌ صارَتْ مِنْ الباطنِ؛ كالخاصِّ والمُقَيَّدِ، ونحوهِما

(3)

، ومِن خلالِ سياقِ هذه اللفظةِ للاستدلالِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) يتبيَّنُ أنَّ (الظّاهرَ) حالةٌ تنطبقُ على كافَّةِ الأدلَّةِ، وهو مُستوىً مِنْ الدَّلالةِ إذا وصلَ إليه الدَّليلُ سمّاه: ظاهراً. فمرَّةً يكونُ السّياقَ، ومرَّةً السُّنَّةَ، وأخرى النَّظائرَ .. ، وهكذا.

وأصلُ هذا البابِ عند ابن جريرٍ (ت: 310): أنْ يُحمَلَ الكلامُ على ظاهِرِه، ولا يُصرَفْ عنه إلى باطنِهِ إلا بدليلٍ

(4)

. وقد وقفتُ له في معنى

(1)

جامع البيان 8/ 679، 9/ 563، 8/ 152، 3/ 39. وينظر: مجموع الفتاوى 19/ 288.

(2)

ينظر: قانون التَّأويل (ص: 191)، ومجموع الفتاوى 13/ 235، ومذكرة أصول الفقه (ص: 275).

(3)

جامع البيان 2/ 101، 138، 3/ 406، 4/ 301، 5/ 312، 319، 7/ 34، 8/ 15، 9/ 210.

(4)

قالَ الشَّافعيُّ (ت: 204): «والقرآنُ على ظاهِرِه، حتى تأتيَ دلالَةٌ منه أو سُنَّةٌ أو إجماعٌ بأنَّهُ على باطِنٍ دونَ ظاهِرٍ» . الرِّسالة (ص: 580). وينظر منه: (ص: 322، 341)، والفقيه والمتفقه 1/ 537.

ص: 153

هذه العِبارَةِ وتطبيقاتِها على قرابَةِ (258) موضِعاً؛ مِنها قولُه: «غيرُ جائِزٍ إحالَةُ الظّاهرِ إلى الباطنِ مِنْ التَّأويلِ بغيرِ برهانٍ»

(1)

، وقولُه:«وتأويلُ القرآنِ على المفهومِ الظّاهرِ بالخِطابِ دونَ الخَفيِّ الباطنِ مِنه، حتى تأتيَ دلالَةٌ مِنْ الوَجهِ الذي يجبُ التَّسليمُ له بمعنىً خلافِ دليلِهِ الظَّاهرِ المُتعارَفِ في أهلِ اللسانِ الذين بلسانِهم نزَلَ القرآنُ = أولى»

(2)

، وقولُه:«غيرُ جائِزٍ نقلُ حُكمِ ظاهرِ آيَةٍ إلى تأويلٍ باطنٍ إلا بحُجَّةٍ ثابتةٍ»

(3)

، ونَصَّ على أنَّ الإيمانَ بظاهرِ التَّنزيلِ فرضٌ، فقالَ في قولِه تعالى {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]: «وليسَ في العِلمِ بمَبلَغِ وزنِ ذلك فائِدةٌ تقعُ في دينٍ، ولا في الجَهلِ به دخولُ ضُرٍّ فيه، والإيمانُ بظاهرِ التَّنزيلِ فرضٌ، وما عداهُ فموضوعٌ عنَّا تَكَلُّفُ عِلْمِه»

(4)

.

والدَّليلُ الذي يُخرَجُ به عن ظاهرِ اللفظ يشملُ دليلَ النَّقلِ والعَقلِ، كما في قولِه:«ليس لأحدٍ أن يجعلَ خبراً جاءَ الكِتابُ بعمومِه في خاصٍّ مما عَمَّهُ الظَّاهِرُ بغيرِ برهانٍ مِنْ حُجَّةِ خَبَرٍ أو عَقلٍ، ولا نعلَمُ خبراً جاءَ يوجِبُ نقلَ ظاهرِ قولِه {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأعراف: 152] إلى باطِنٍ خاصٍّ، ولا مِنْ العَقلِ عليه دليلٌ، فيجبَ إحالَةُ ظاهرِه إلى باطِنِه»

(5)

، وقولِه: «لا حُجَّةَ يجبُ التَّسليمُ لها

(1)

جامع البيان 2/ 469.

(2)

جامع البيان 2/ 370.

(3)

جامع البيان 3/ 469.

(4)

جامع البيان 13/ 59. وينظر: 1/ 621، 2/ 510، 3/ 35، 7/ 34، 9/ 659، 14/ 387، 20/ 526.

(5)

جامع البيان 10/ 463.

ص: 154

بأنَّ الآيةَ مُرادٌ بها بعضُ الفديَةِ دون بعضٍ مِنْ أصلٍ أو قياسٍ، فهي على ظاهِرِها وعمومِها»

(1)

.

وقد بَيَّنَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) الحاجَةَ التي قد يضطرُّ معها المُفسِّرُ إلى الأخذِ بغيرِ الظَّاهرِ، فقالَ عند قولِه تعالى {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: 39]: «وأمَّا الصَّوابُ مِنْ القَولِ في تأويلِه فأن يُقالَ: إنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤه أخبَرَ أنَّ الملائِكَةَ نادتهُ، والظَّاهِرُ مِنْ ذلك أنَّها جماعَةٌ مِنْ الملائِكَةِ دونَ الواحِد، وجبريلُ واحِدٌ، فلن يجوزَ أن يُحمَلَ تأويلُ القرآنِ إلا على الأظهرِ الأكثرِ مِنْ الكلامِ المُستَعمَلِ في ألسُنِ العرَبِ دون الأقلِّ، ما وُجِدَ إلى ذلك سبيلٌ، ولم تَضطَرَّنا حاجَةٌ إلى صرفِ ذلك إلى أنَّه بمعنى واحِدٍ، فيُحتاجَ له إلى طَلَبِ المَخرَجِ بالخَفيِّ مِنْ الكلامِ والمعاني»

(2)

، وقالَ عن بعضِ المعاني:«ولا ضرورَةَ بالكلامِ إلى ذلك؛ فيُوَجَّهَ إلى ما ليسَ بموجودٍ في ظاهِرِه»

(3)

، ومِن خلالِ ذلك يُمكن تحديدُ الحاجَةِ -التي يُطلَبُ لها الخَفيُّ مِنْ الكلامِ وبالحُجَّةِ الدَّالَّةِ- بأنَّها:

ما لا يُمكِنُ معه إقامَةُ الكلامِ على الصِّحَّةِ شرعاً أو عقلاً. وتقديرُ تلك الحاجَةِ ليس متروكاً إلى هوى النَّفسِ، أو الرَّأيِ المُجَرَّدِ، وإنما هو مشروطٌ بدلالَةِ: الحُجَّةِ (الثَّابتَةِ)، والتي:(يجِبُ التَّسليمُ لها)، كما عبَّرَ

(1)

جامع البيان 4/ 157. وينظر: 8/ 623.

(2)

جامع البيان 5/ 365.

(3)

جامع البيان 9/ 173. وينظر: 15/ 232، 20/ 526.

ص: 155

عنها ابنُ جريرٍ (ت: 310)

(1)

؛ وهي التي اقتضاها النَّصُّ الصَّحيحُ، والعقلُ السَّليمُ.

ثانياً: الأمرُ والنَّهيُ

(2)

:

الأمرُ هو: طلبُ الفعلِ بالقولِ على جهةِ الاستعلاءِ. ومثلُه النَّهيُ، لكنَّه: طلبُ التَّرك

(3)

. قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «كُلُّ أمرٍ بمعنىً فنهيٌ عن خِلافِه وضِدِّه، وكذلك النَّهيُ عن الشَّيءِ أمرٌ بضِدِّه وخِلافِه»

(4)

، وللأمرِ والنَّهيِ معانٍ، أشارَ إليها بقولِه:«ممَّا أنزلَ اللهُ مِنْ القرآنِ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما لا يوصَلُ إلى عِلمِ تأويلِه إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك تأويلُ جميعِ ما فيهِ مِنْ وجوهِ أمرِه؛ واجِبِه ونَدْبِه وإرشادِه، وصنوفِ نَهْيِه»

(5)

.

وأصلُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في هذا البابِ: أنَّ الأمرَ المُطلَقَ للوجوبِ، والنَّهيَ المُطلَقَ للتحريمِ، إلا بدليلٍ يصرفُهُما عن ذلك

(6)

. قالَ مُبَيِّناً ذلك: «وأمرُ الله فرضٌ لازِمٌ، إلا أن تقومَ حُجَّةٌ بأنَّه إرشادٌ

(1)

ينظر: 2/ 482، 3/ 469، 4/ 113.

(2)

الحديثُ عن بعضِ هذه المباحثِ كالأمرِ والنَّهي، والنّاسخِ والمنسوخِ، جاءَ تبعاً لبيانِ منهجِ ابن جريرٍ في قاعدةِ البابِ، ولا أثرَ لها في مجرَّدِ بيانِ المعنى (التَّفسير) كما هو ظاهرٌ، وإنَّما هي مِنْ أثرِ بيانِ المعنى.

(3)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 218، 222، والموافقات 3/ 369، وشرح الكوكب المنير 3/ 10، 77.

(4)

جامع البيان 3/ 740.

(5)

جامع البيان 1/ 68.

(6)

قالَ الشافعيُّ (ت: 204): «أصلُ النَّهيِ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ كُلَّ ما نَهَى عنهُ فهو مُحَرَّمٌ حتى تأتي عليه دلالَةً تدُلُّ على أنَّهُ نُهيَ عنه لغيرِ معنى التَّحريمِ» . جماعُ العلمِ (ص: 58). وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «وأمرُ اللهِ ورسولِه إذا أُطلِقَ كان مُقتضاهُ الوجوبُ» . مجموع الفتاوى 22/ 529.

ص: 156

ونَدبٌ»

(1)

، وقالَ:«كُلُّ أمرٍ لله ففَرضٌ، إلا ما قامَت حُجَّتُه مِنْ الوَجهِ الذي يجِبُ التَّسليمُ له بأنَّه ندبٌ أو إرشادٌ»

(2)

، وقالَ:«الأمرُ مِنْ الله تعالى ذِكرُه إنَّما يكونُ فيما يكونُ للعبادِ السَّبيلُ إلى طاعتِه بفِعلِه، والمَعصيَةِ بتَركِه، فأمَّا ما لَم يكن لهم إلى فِعلِه ولا إلى تركِه سبيلٌ = فذلك ممَّا لا يجوزُ الأمرُ به، ولا النَّهيُ عنه، ولا التَّعَبُّدُ به»

(3)

.

ثالثاً: العامُّ والخاصُّ:

العامُّ هو: اللفظُ الشَّامِلُ لمَدلُولِه بلا حَصْرٍ. والتَّخصيصُ: قصرُ العامِّ على بعضِ معناه. ورُبَّما سَمَّى ابنُ جريرٍ (ت: 310) العامَّ مُجمَلاً، والخاصَّ مُفَسَّراً؛ لأنَّ التَّخصيصَ نوعٌ مِنْ التَّفسيرِ والبيانِ لبعضِ أفرادِ العامِّ

(4)

.

والقاعِدَةُ العامَّةُ عند ابن جريرٍ (ت: 310) في هذا الباب: وجوبُ حَملِ العامِّ على عمومِه، ولا تَخصيصَ إلا بدليلٍ

(5)

. وقد فَصَّلَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ذلك بقولِه: «الحُكمُ عندنا في كُلِّ ما أنزلَهُ اللهُ في كتابِه

(1)

جامع البيان 5/ 78.

(2)

جامع البيان 5/ 111.

(3)

جامع البيان 4/ 209. وينظر: 1/ 59، 4/ 303، 5/ 80، 6/ 374، 16/ 523، 561، 17/ 278، 289.

(4)

جامع البيان 1/ 241، 7/ 503. وينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 224، 231، والمختصر، لابن اللحام (ص: 105)، ومذكرة أصول الفقه (ص: 342، 101).

(5)

قالَ الشَّافعيُّ (ت: 204): «ولا يُقالُ بخاصٍّ في كتابِ الله، ولا سُنَّةٍ، إلا بدلالَةٍ فيهِما، أو في واحِدٍ منهما» . الرِّسالة (ص: 207). وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «يجبُ تقديمُ العامِّ الذي لا خصوصَ فيه؛ فإنَّه حُجَّةٌ باتِّفاقِ السَّلفِ والجُمهورِ» . مجموع الفتاوى 23/ 210. وينظر: أضواء البيان 5/ 83.

ص: 157

على ما احتمَلَهُ ظاهِرُ التَّنزيلِ، ما لم يُبّيِّنِ اللهُ تعالى ذِكرُه لعبادِه أنَّ مُرادَهُ مِنه الخُصوصُ؛ إمَّا بتنزيلٍ في كتابِه، أو على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فإذا خَصَّ مِنه البعضَ، كانَ الذي خَصَّ مِنْ ذلك غيرَ داخلٍ في الجُملَةِ التي أوجَبَ الحُكمَ بها، وكانَ سائِرُها على عُمومِها، كما قد بيَّنَّا في كتابِنا (كتابِ لطيفِ القولِ مِنْ البيانِ عن أصولِ الأحكامِ)

(1)

، وغيرِه مِنْ كُتُبِنا»

(2)

.

وقد وقفتُ له في معنى هذه العِبارَةِ وتطبيقاتِها على قرابَةِ (305) مواضِع؛ مِنها قولُه: «وغيرُ جائِزٍ ادِّعاءُ خصوصٍ في آيةٍ عامٍّ ظاهِرُها إلا بِحُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها»

(3)

، وقولُه:«فالواجِبُ فيه مِنْ القولِ ما قُلنا؛ مِنْ أنَّه: لا يجوزُ أن يُخَصَّ مِنْ معاني ذلك شيءٌ، وأن يُحكَمَ له بعُمومِه على ما عَمَّهُ اللهُ»

(4)

، وذَكَرَ أنَّ العُمومَ مُرادٌ لله تعالى حيثُ لا تخصيصَ، فقالَ:«وإذْ كانَ ذلك كذلك، ولم يكن اللهُ تعالى ذِكرُه دَلَّ على أنَّ مُرادَه مِنْ ذلك معنىً دون معنىً في عقلٍ ولا خَبَرٍ = كانَ معلوماً أنَّ معنى مُرادِه مِنْ ذلك العُمومُ»

(5)

، ونقلَ الإجماعَ على مذهبِه في ذلك، فقالَ: «وهذه الأقوالُ التي ذكرناها عمَّن ذكرناها عنه مِنْ الصَّحابَةِ، والتّابعين، والخالِفينَ بعدهم؛ مِنْ قولِهم: إنَّ بني إسرائيلَ لو

(1)

سبق التعريفُ به (ص: 33).

(2)

جامع البيان 4/ 103.

(3)

جامع البيان 2/ 464.

(4)

جامع البيان 3/ 547.

(5)

جامع البيان 17/ 10. وينظر: 1/ 329، 2/ 100، 4/ 103، 7/ 176، 519، 8/ 623، 17/ 435.

ص: 158

كانوا أخذوا أدنى بقرَةٍ فذبحوها أجزَأَتْ عنهم، ولكنَّهم شَدَّدوا فشَدَّدَ اللهُ عليهم = مِنْ أوضَحِ الدَّلالَةِ على أنَّ القومَ كانوا يرون أنَّ حُكمَ الله فيما أمرَ ونهى في كتابِه، وعلى لِسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم على العُمومِ الظاهرِ دون الخصوصِ الباطنِ، إلا أن يَخُصَّ بعضَ ما عَمَّهُ التَّنزيلِ كتابٌ مِنْ الله، أو رسولُ الله»

(1)

، ثُمَّ قالَ:«ففي إجماعِ جميعِهم على ما روينا عنهم مِنْ ذلك -مع الروايةِ التي رويناها عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالموافَقَةِ لقولِهم- دليلٌ واضِحٌ على صِحَّةِ قولِنا في العُمومِ والخُصوصِ، وأنَّ أحكامَ اللهِ جلَّ ثناؤه في آيِ كتابِه -فيما أمرَ ونهى- على العُمومِ، ما لم يَخُصَّ ذلك ما يجبُ التَّسليمُ له، وأنَّه إذا خُصَّ مِنه شيءٌ فالمخصوصُ مِنه خارِجٌ حُكمُه مِنْ حُكمِ الآيَةِ العامِّ الظّاهرِ، وسائِرُ حُكمِ الآيةِ على ظاهرِها العامِّ، ومُؤَيِّدٌ حقيقَةَ ما قُلنا في ذلك، وشاهِدُ عدلٍ على فسادِ قولِ من خالَفَ قَولَنا فيه»

(2)

.

وقد بَيَّنَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أنَّ الدَّليلَ الذي يُخَصُ به عمومُ اللفظِ هو ظاهرُ التَّنزيلِ، والخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والإجماعُ، ودلالَةُ العقلِ؛ ومِنها القياسُ. فيشملُ ذلك دليلَ النَّقلِ والعَقلِ كما في الظّاهِرِ، ومِن ذلك قولُه:«وإذْ كانَ ذلك كذلك، ولم يكن في الآيةِ دلالَةٌ على أنَّها عُنِيَ بها خصوصٌ دونَ عمومٍ، ولا في خَبَرٍ عن الرسولِ، ولا في فِطرَةِ عقلٍ = فالعُمومُ بها أولى؛ لِما قد بَيَّنَّا في غيرِ مَوضِعٍ مِنْ كُتُبِنا»

(3)

، وقالَ في الإجماعِ: «فغيرُ جائِزٍ إخراجُ شيءٍ مِنْ عُمومِ هذا

(1)

جامع البيان 2/ 101 - 102.

(2)

المرجعُ السابق.

(3)

جامع البيان 12/ 17.

ص: 159

الخَبَرِ، إلا ما أجمعَ أهلُ العِلمِ أنَّه خارِجٌ مِنه»

(1)

، وقالَ في القياسِ:«لا حُجَّةَ يجبُ التَّسليمُ لها بأنَّ الآيةَ مُرادٌ بها بعضُ الفِديَةِ دونَ بعضٍ مِنْ أصلٍ أو قياسٍ، فهي على ظاهرِها وعُمومِها»

(2)

.

رابعاً: المُطلَقُ والمُقيَّدُ:

المُطلَقُ: ما تناوَلَ واحِداً مُبهَماً لا بعَينِه. والتَّقيِيدُ: تحديدُ ما أُطلِقَ بالتَّعيين، أو بوَصفٍ زائِدٍ على الحقيقةِ

(3)

. ورُبَّما عَبَّرَ عنهما ابنُ جريرٍ (ت: 310) بالمُبهَمِ والمُفَسَّرِ؛ لِما فيهِما مِنْ ذلك المعنى

(4)

.

وأصلُ هذا البابِ عند ابن جريرٍ (ت: 310): أن يُحمَلَ المُطلَقُ على إطلاقِه، والمُقَيَّدُ على تقيِيده، إلا إن اتَّصلا في اللفظِ، أو دَلَّ الدَّليلُ على اتِّصالِهِما في المعنى = فيُحمَلُ المُطلَقُ على المُقَيَّدِ

(5)

. وقد أجمَلَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ذلك في قولِه: «والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك أنَّ الله جلَّ وعزَّ أوجَبَ على حالِقِ رأسِه مِنْ أذىً مِنْ المُحرِمين فديةٌ؛ مِنْ صيامٍ أو صدقَةٍ أو نُسُكٍ، ولم يشتَرِط أنَّ عليه ذلك بمكانٍ دونَ مكانٍ، بل أبهَمَ ذلك وأطلَقَه، ففي أيِّ مكانٍ نَسَكَ أو أطعَمَ أو صامَ فيُجزِئُ عن المُفتَدي .. ، كذلك كُلُّ مُبهَمَةٍ في القُرآنِ، غيرُ جائِزٍ رَدُّ حُكمِها على المُفَسَّرَةِ قياساً، ولكنَّ الواجِبَ أن يُحكَمَ لكُلِّ واحِدَةٍ مِنهما بما احتَمَلَه

(1)

جامع البيان 9/ 641. وينظر: 21/ 474.

(2)

جامع البيان 4/ 157. وينظر: 9/ 237، 494، 10/ 401، 622، 14/ 134، 16/ 267، 20/ 52.

(3)

ينظر: المُسَوَّدة 1/ 337، وشرح الكوكب المنير 3/ 392 - 393.

(4)

جامع البيان 3/ 406، 7/ 321.

(5)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 308، ومجموع الفتاوى 31/ 117، وبدائِعُ الفوائد 3/ 1242.

ص: 160

ظاهرُ التَّنزيلِ، إلا أن يأتيَ في بعضِ ذلك خبرٌ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم بإحالَةِ حُكمِ ظاهرِه إلى باطِنِه، فيجبَ التَّسليمُ حينئذٍ لحُكمِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ إذْ كانَ هو المُبيِّنَ عن مُرادِ الله تعالى ذِكرُه»

(1)

. ومِن أمثلَته قولُه: «وأَوْلى القولَيْن في ذلك بتأويلِ الآيةِ قولُ مَنْ قالَ: عنى بذلك المقتولَ مِنْ أهلِ العهدِ؛ لأنَّ الله أبهَمَ ذلك، فقالَ {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] ولم يقُل: وهو مؤمنٌ. كما قالَ في القَتيلِ مِنْ المؤمنين وأهلِ الحربِ، إذْ عَنى المؤمنين: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92]. فكانَ في تركِه وصفَه بالإيمانِ الذي وَصَفَ به القَتيلَيْن الماضي ذكرُهُما قبلُ = الدَّليلُ الواضِحُ على صِحَّةِ ما قُلنا في ذلك»

(2)

، وقولُه مُعَلِّلاً لبعضِ اختيارِه:«لأنَّ ذلك ليس بالمعروفِ مِنْ معانيه إذا أُطلِقَ بغيرِ وَصْلٍ»

(3)

.

خامساً: النَّاسِخُ والمنسوخُ:

النَّسخُ هو: رفعُ الحُكمِ الشِّرعيِّ بخطابٍ متراخٍ عنه

(4)

. قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «أصلُ النَّسخِ مِنْ نَسخِ أصلِ الكتابِ، وهو: نقلُه مِنْ نُسخَةٍ إلى أُخرى غيرِها. فكذلك معنى نَسخِ الحُكمِ إلى غيرِه، إنَّما هو: تحويلُه ونقلُ عبادِهِ عنه إلى غيرِه»

(5)

، وقالَ: «النَّاسِخُ والمنسوخُ هما

(1)

جامع البيان 3/ 406.

(2)

جامع البيان 7/ 321.

(3)

جامع البيان 22/ 415. وينظر: 6/ 601، 8/ 654، 10/ 135، 12/ 260، 13/ 285، 20/ 583.

(4)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 245، والموافقات 3/ 341، ومختصر ابن اللحام (ص: 136).

(5)

جامع البيان 2/ 388.

ص: 161

المَعنيانِ اللذانِ لا يجوزُ اجتِماعُ حُكمِهِما على صِحَّةٍ في حالٍ واحِدَةٍ؛ لنَفيِ أحدِهِما صاحِبَه»

(1)

، وقالَ:«والأخبارُ لا يكونُ فيها نسخٌ، وإنَّما النَّسخُ في الأمرِ والنَّهي»

(2)

. ويُقابلُ النَّسخَ: الإحكامُ.

(3)

والقاعِدَةُ في هذا البابِ: أنَّ الأصلَ في النُّصوصِ الإحكامُ، ولا يُصارُ إلى النَّسخِ إلا بدليلٍ ثابِتٍ مِنْ الكِتابِ أو السُّنَّةِ

(4)

. قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «النَّاسِخُ الذي لا شكَّ فيه مِنْ الأمرِ هو: ما كانَ نافياً كُلَّ معاني خِلافِه الذي كانَ قبلَه، فأمَّا ما كانَ غيرَ نافٍ جَميعَه فلا سبيلَ إلى العِلمِ بأنَّه ناسِخٌ إلا بخبرٍ مِنْ الله جلَّ وعزَّ، أو مِنْ رسولِه صلى الله عليه وسلم)

(5)

، وقالَ مُعلِّلاً للمنعِ مِنْ النَّسخِ في بعضِ الأقوالِ:«إذْ كانَ لا دَلالَةَ على أنَّه منسوخٌ بها مِنْ كتابٍ، أو سُنَّةٍ ثابتَةٍ»

(6)

.

ويلاحَظُ في النُّقولِ السَّابقةِ أنَّ النَّاسِخَ لا يكونُ إلا نَصَّاً شرعيَّاً؛ مِنْ القرآنِ أو السُّنَّةِ، ومَن ذَكرَ الإجماعَ فالناسِخُ فيه: مُستَنَدُهُ مِنْ النُّصوصِ؛ لأنَّ النَّسخَ تشريعٌ، وذلك لا يكونُ إلا بوَحي، كما قالَ تعالى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ

(1)

جامع البيان 3/ 124. وينظر: 2/ 458، 4/ 163، 5/ 79، 144، 6/ 547.

(2)

جامع البيان 24/ 27.

(3)

ينظر: جامع البيان 3/ 124، 5/ 143، 6/ 431، 438.

(4)

قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «لا يُنسَخُ ما أنزلَ الله إلا بما أنزلَهُ اللهُ، فمن أرادَ أن ينسَخَ شرعَ الله الذي أنزلَهُ برأيِهِ وهواهُ كان مُلحِداً» . درء تعارض العقل والنقل 5/ 208. وينظر: مذكرة أصول الفقه (ص: 102).

(5)

جامع البيان 8/ 256.

(6)

جامع البيان 6/ 439. وينظر: 2/ 458، 3/ 291، 6/ 438، 685، 8/ 52، 21/ 187.

ص: 162

رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15]، ومِن ثَمَّ لا يقَعُ النَّسخُ بالقياسِ وغيرِه مِنْ الدَّلائِلِ العقليَّةِ؛ ولذلك لم يذكُره ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تعدادِ النَّواسِخِ في مثلِ قولِه: «غيرُ جائِزٍ أن يُقضى على حُكمٍ مِنْ أحكامِ الله تعالى ذِكرُه أنَّه منسوخٌ إلا بخبرٍ يَقطَعُ العُذرَ؛ إمَّا مِنْ عِنْدِ الله، أو مِنْ عِنْدِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، أو بورودِ النَّقلِ المُستَفيضِ بذلك، فأمَّا ولا خَبَرَ بذلك، ولا يَدفَعُ صِحَّتَهُ عقلٌ، فغيرُ جائِزٍ أن يُقضى عليه بأنَّه منسوخٌ»

(1)

.

‌القاعدةُ الثانيَةَ عشرَةَ: الآراءُ الفاسِدةُ والتمويهاتُ الباطِلةُ أصلُ أدلَّةِ المُبتَدِعَة.

أبانَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مواضِعَ كثيرَةٍ مِنْ تفسيرِه أصولاً مِنْ منهجِ المبتدعةِ في الاستدلالِ على المعاني، وأشارَ إلى أنَّ انحِرافَهُم في الاستدلالِ هو أصلُ ضلالِهِم في الأقوالِ، وله في ذلك نصوصٌ ظاهرَةٌ تكشِفُ عن شيءٍ مِنْ تلك المناهِجِ الخاطِئَةِ، والتي يُمكِنُ إجمالُ أسبابِ انحرافِها في: مخالَفَةِ المنهجِ الحَقِّ في الاستدلالِ؛ وهو منهَجُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وصحابَتِه الكِرامِ، وسلفِ الأمَّةِ، ومن بَعدَهُم مِنْ الأئِمَّةِ؛ القائِمِ على الأصولِ العلميَّةِ الثَّابِتَةِ، والقواعِدِ الشَّرعيَّةِ الضَّابِطَةِ، التي تأتَلِفُ بها المعاني وأَدِلَّتُها، وتصيرُ بها معاني القرآنِ كالمعنى الواحِدِ؛ فلا تعارُضَ ولا تخالُفَ، بل يُصَدِّقُ بعضُها بعضاً، ويشهَدُ بعضُها بصوابِ بعضٍ.

(1)

جامع البيان 9/ 109. وقالَ الشّاطبيُّ: «النَّسخُ بعد موتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم باطلٌ». الموافقات 2/ 489.

ص: 163

وفيما بعدَ ذلك الأصلَ الكُلِّيَّ في الانحرافِ، يذكُرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) وجوهاً مِنْ معالِمَ تلك المناهِجِ المُبتَدَعَة، وهي:

1 -

حملُ القرآنِ على الآراءِ، وهو مِنْ أهمِّ أسبابِ الانحرافِ في تأويلِه، وقد سَبَقَ تفصيلُ ذلك

(1)

، ويُضافُ هُنا قولُ ابن جريرٍ (ت: 310): «غيرُ جائِزٍ لأحدٍ مِنْ أهلِ الإسلامِ الاعتراضُ بالرَّأيِ على ما نَقَلَهُ المسلمون وِراثَةً عن نبيِّهِم صلى الله عليه وسلم نقلاً ظاهِراً، قاطِعاً للعُذرِ؛ لأنَّ ما جاءَت به الحُجَّةُ مِنْ الدِّينِ هو الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه أنَّه مِنْ عِنْدِ الله، ولا يُعتَرَضُ على ما قد ثَبَتَ وقامَتْ به حُجَّةٌ أنَّه مِنْ عِنْدِ الله بالآراءِ، والظُّنونِ، والأقوالِ الشَّاذَّةِ»

(2)

، وقالَ أيضاً: «وقد زَعَمَ بعضُ أهلِ العِلمِ بلُغاتِ العَربِ مِنْ أهلِ البَصرَةِ

(3)

، أنَّ معنى قولِه {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39]: بكتابٍ مِنْ اللهِ. مِنْ قولِ العَربِ: أنشَدَني فُلانٌ كَلِمَةَ كذا. يُرادُ به: قصيدَةَ كذا. جَهلاً مِنه بتأويلِ الكلِمةِ، واجتراءً على ترجَمَةِ القُرآنِ برأيِه»

(4)

.

ومِنْ هذا البابِ: التأويلُ بالرَّأيِ على غيرِ أصلٍ معتَمَدٍ، كما في تعليلِه لفسادِ بعضِ الأقوالِ:«ولكنَّ القولَ إذا كانَ على غيرِ أصلٍ مُعتَمَدٍ كانَ واضحاً عَوَارُه»

(5)

.

(1)

ينظر: ما سبق (ص: 56).

(2)

جامع البيان 3/ 180.

(3)

يعني أبا عبيدَةَ معمر بن المُثنّى التَّميميّ مولاهم البصريّ، مِنْ أئمَّة اللغةِ، بارعٌ في الغريبِ وأيّام العربِ، صنّف: مجازَ القرآن، وغيرَه، وتوفي سنة (210). ينظر: أخبار النّحويين البصريّين (ص: 80)، والسِّيَر 9/ 445. والنَّقلُ عنه في كتابِه مجاز القرآن 1/ 91.

(4)

جامع البيان 5/ 374.

(5)

جامع البيان 1/ 132.

ص: 164

2 -

الإعراضُ عن أقوالِ السَّلفِ، وهذا نتيجةٌ لِمَا قَبلَه، وصِفَةٌ لازِمَةٌ لِكُلِّ انحِرافٍ في الاستدلالِ، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وكانَ بعضُ مَنْ لا عِلمَ له بأقوالِ السَّلفِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ، ممَّن يُفَسِّرُ القرآن برأيِهِ على مَذهَبِ كلامِ العربِ، يوَجِّهُ معنى قولِه {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] إلى: وفيه يَنجُونَ مِنْ الجَدبِ والقَحطِ بالغَيثِ. ويزعُمُ أنَّه مِنْ العَصَرِ .. ، وذلك تأويلٌ يكفي مِنْ الشَّهادَةِ على خَطَئِه خلافُه قولَ جميعِ أهلِ العِلمِ مِنْ الصَّحابَةِ والتَّابعين»

(1)

، وقالَ بعدَ ذكرِ أقوالِ السَّلفِ في معنى هَمِّ يوسُفَ عليه السلام في قولِه تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]: «وأمَّا آخرون ممَّن خالَفَ أقوالَ السَّلَفِ، وتأوَّلوا القرآنَ بآرائِهِم، فإنَّهُم قالوا في ذلك أقوالاً مُختلِفةً»

(2)

، ثُمَّ أورَدها وحَكمَ بفسادِها بالأدلَّةِ.

(3)

3 -

أصلُ استدلالاتِهِم تمويهاتٌ وتلبيساتٌ لا يُخيلُ على ذي عقلٍ بُطلانُها، وذلك مِنْ شأنِهِم الذي أخبرَ اللهُ تعالى عنه بقولِه {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، فهُم مِنْ أبعدِ النَّاسِ عن المُحكَمِ مِنْ الدِّلالاتِ، وأكثرِهُم شُغلاً بالمُتشابِهِ مِنْ التَّأويلاتِ، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «ولأهلِ هذه المَقالَةِ مسائِلُ فيها تلبيسٌ، كرِهنا ذِكرَها وإطالَةَ الكِتابِ بها وبالجوابِ عنها؛ إذْ لم يكُن قصدُنا في كتابِنا هذا قصدَ الكَشفِ عن تمويهاتِهم، بل قصدُنا فيه البيانُ

(1)

جامع البيان 13/ 197.

(2)

جامع البيان 13/ 86.

(3)

سيأتي في مبحثِ (الاستدلال بأقوالِ السَّلفِ) مزيدُ بيانٍ لوجوبِ اعتبارِ أقوالِ السَّلفِ وعدمِ الخروجِ عنها.

ص: 165

عن تأويلِ آيِ الفُرقانِ، ولكنَّا ذَكَرنا القَدرَ الذي ذكرنا؛ ليَعلَمَ النَّاظِرُ في كتابِنا هذا أنَّهم لا يرجِعون مِنْ قَولِهم إلا إلى ما لَبَسَ عليهم الشيطانُ، مِمَّا يَسهُلُ على أهلِ الحَقِّ البيانُ عن فسادِه، وأنَّهم لا يَرجِعون في قَولِهم إلى آيَةٍ مُحكَمَةٍ، ولا روايَةٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صحيحَةٍ ولا سَقيمَةٍ، فهُم في الظُّلُماتِ يَخْبِطون، وفي العَمْياءِ يترَدَّدون، نعوذُ باللهِ مِنْ الحَيْرَةِ والضَّلالَةِ»

(1)

، وقالَ بعدما أبانَ عن تناقُضِ قولٍ لأهلِ القَدَرِ: «وذلك مِنْ قائِلِه -إن قالَه- إحالَةٌ في كلامِه، ودعوى باطِلٍ لا يُخيلُ

(2)

بُطولُه»

(3)

.

4 -

اعتراضُ النُّصوصِ الثَّابِتَةِ بشُبَهٍ مِنْ العُقُولِ، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وتأوَّلَ بعضُهم في الأخبارِ التي رُوِيَت عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحِ القَولِ برؤيَةِ أهلِ الجَنَّةِ ربَّهم يومَ القيامَةِ تأويلاتٍ، وأنكَرَ بعضُهُم مَجيئَها، ودافَعوا أن يكونَ ذلك مِنْ قولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ورَدُّوا القولَ فيه إلى عُقولِهِم؛ فزَعَموا أنَّ عُقولَهم تُحيلُ جوازَ الرُّؤيَةِ على الله عز وجل بالأبصارِ، وأتوا في ذلك بضُروبٍ مِنْ التَّمويهاتِ، وأكثروا القولَ فيه مِنْ جِهَةِ الاستخراجاتِ .. ، والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا ما تظاهَرَت به الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(4)

، وقالَ أيضاً: «وقد زَعَمَ بعضُ مَنْ لا يُصَدِّقُ بالآثارِ، ولا يقبلُ مِنْ

(1)

جامع البيان 9/ 468.

(2)

قالَ صاحِبُ كتابِ (العَين): «كُلُّ شيءٍ اشتَبَه عليك فهو مُخيلٌ» . 1/ 454. وينظر: تهذيب اللغة 7/ 232.

(3)

جامع البيان 4/ 213.

(4)

جامع البيان 9/ 463 - 466.

ص: 166

الأخبارِ إلا ما استفاضَ به النَّقلُ مِنْ العوامِّ، أنَّ معنى قولِه {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] إنَّما هو: بل فَعَلَه كبيرُهُم هذا إن كانوا ينطقون، فاسألوهم. أي: إن كانَت الآلِهَةُ المَكسورَةُ تَنطِقُ؛ فإنَّ كبيرَهُم هو الذي كَسَرَهُم. وهذا قولٌ خِلافُ ما تظاهَرَت به الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

5 -

العَجَلَةُ وعدمُ التَّدَبُّرِ، وهذا مِنْ أثرِ الاعتدادِ بالرَّأيِ دون تَحقُّقٍ، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في قَولِه تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27]: «وكأنَّ مَعْنيَّ صاحِبِ هذه المَقالَةِ في قولِه هذا: ولو ترى إذ وُقِفوا على النَّارِ فقالوا: قد وُقِفنا عليها مُكَذِّبينَ بآياتِ رَبِّنا كُفَّاراً، فيا ليتنا نُرَدُّ إليها فنوقَفَ عليها غيرَ مُكَذِّبينَ بآياتِ رَبِّنا ولا كُفّاراً. وهذا تأويلٌ يدفَعُه ظاهِرُ التَّنزيلِ؛ وذلك قولُه تعالى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، فأخبَرَ اللهُ تعالى ذِكرُه أنَّهم في قِيلِهم ذلك كَذّبَةٌ، والتَّكذيبُ لا يقعُ في التَّمنِّي، ولكنَّ صاحِبَ هذه المَقالَةِ أظُنُّ به أنَّه لم يتدبَّرِ التَّأويلِ، ولَزِمَ سَنَنَ العَرَبيَّةِ»

(2)

، وقالَ:«وهذا قولٌ إذا تدبَّرَه مُتَدبِّرٌ عَلِمَ أنَّ بعضَه مُفسِدٌ بعضاً»

(3)

، وقالَ: «وقد ظَنَّ بعضُ مَنْ لم يُنعِمِ النَّظرَ أنَّ إعادَةَ {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] مع {نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] بعدَ تقدُّمِها في قولِه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] بمعنى قَولِ عَدِيِّ بن زَيدٍ العِبادِيِّ

(4)

:

(1)

جامع البيان 16/ 300.

(2)

جامع البيان 9/ 210.

(3)

جامع البيان 1/ 525.

(4)

عديُّ بن زيد بن حمارِ بن أيوب، من بني تميم، جاهليّ، كانَ نصرانيّاً من عبّاد الحِيرَة فلقّبَ بالعِباديِّ، أحدُ فحولِ الشعراء. ينظر: الشعر والشعراء (ص: 40)، والأغاني 2/ 63، والبيت في ديوانه (ص: 159).

ص: 167

وجاعِلِ الشَّمسِ مِصراً لا خفاءَ به

بينَ النَّهارِ وبينَ الليلِ قد فَصَلا»

(1)

،

ثُمَّ قالَ: «وذلك مِنْ قائِلِه جَهلٌ»

(2)

، ثُمَّ أبانَ وجهَ ذلك.

(1)

جامع البيان 1/ 164.

(2)

جامع البيان 1/ 165. وينظر: 1/ 51.

ص: 168

‌المبحثُ الثّاني: مسائِلُ في منهجِ الاستدلالِ على المعاني عند ابنِ جريرٍ.

تَميَّزَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه بطريقتِه الخاصَّةِ في إيرادِ الأدلَّةِ، وترتيبِها، والتَّعبيرِ عنها، وحَشدِها في موضِعٍ، والاكتِفاءِ ببَعضِها في موضِعٍ، والإحالَةِ على بعضِها في موضِعٍ آخرَ، ونحوِ ذلك مِنْ المَسائِلِ المُتَعلِّقةِ بأساليبِ إيرادِ الأدلَّةِ، والتَّعبيرِ عنها. ومعرفةُ تلك الأساليبِ الخاصَّةِ عندَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) وإبرازِها، يفيدُ كثيراً في معرفةِ أنواعِ الأدلَّةِ وتمييزِها، ثُمَّ استِبانةِ منهجِه في الاستدلالِ بها بعدَ ذلك.

وفيما يأتي بيانٌ لتلك الأساليبِ في جُملَةِ عناصِرَ، وهي:

أوَّلاً: يعبِّرُ عن الاستدلالِ بالاستشهادِ، وعن الأدلَّةِ بالشواهدِ والحجَجِ والعِللِ والأصولِ. ومعانيها مُتقارِبَةٌ؛ فالاستِشهادُ: طلبُ الشهادَةِ على صِحَّةِ المعنى أو بُطلانِه. وكذلك الاستدلالُ في طلبِ الدَّلالَةِ المُرشِدَةِ إلى صوابِ المعنى أو خَطَئِه. ومِثلُهُما: الدَّليلُ والشَّاهِد. أمَّا التعبيرُ عن الدَّليلِ بالحُجَّةِ؛ فلأنَّه الغايةُ مِنْ إيرادِه. وكذا

ص: 169

التعبيرُ بالعِلَّةِ؛ لأنَّ الدَّليلَ عِلَّةُ الحُكمِ، وسبَبُ الاختيارِ. وفي التَّعبيرِ بالأصلِ عن الدَّليلِ الإشارَةُ إلى أنَّه مَبنى الحُكمِ وأساسُه.

وكُلُّ ذلك مِنْ عادَةِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في التنويعِ في العِبارَاتِ والأساليبِ، ومِن أمثِلَةِ ذلك في كلامِه قولُه عندَ قولِه تعالى {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27]: «وقد تأوَّلَ بعضُهُم ذلك: أنَّ اللهَ ذَمَّهُم بقطعِهِم رسولَه، والمؤمنين به، وأرحامِهِم. واستَشهَدَ على ذلك بعُمومِ ظاهِرِ الآيَةِ، وألَّا دلالَةَ على أنَّه معنيٌّ بها بعضُ ما أمَرَ اللهُ بوَصلِه دونَ بعضٍ»

(1)

، وقولُه:«وقد ذُكِرَ عن ابن عباس أنَّه احتجَّ في ذلك بمثلِ الذي ذكرنا مِنْ الحُجَّةِ»

(2)

، وقولُه:«وعِلَّةُ مَنْ قالَ هذه المَقَالَةِ»

(3)

ثُمَّ أورَدَ حديثاً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قولُه:«ويُسأَلُ الفرقَ بينَه وبينَه؛ مِنْ أصْلٍ، أو مِمَّا يَدُلُّ عليه أصْلٌ»

(4)

.

ثانياً: يَحصِرُ المعاني تمهيداً للاستدلالِ لها. فلا يدعُ قولاً يعلَمُه عن أهلِ التَّأويلِ إلَّا ذكَرَه، كما أشارَ في مُقَدِّمتِه بقولِه:«ونحنُ في شرحِ تأويلِه وبيانِ ما فيه مِنْ معانيه مُنشِئون إن شاءَ اللهُ ذلك كتاباً مُستَوعِباً .. ، جامعاً، ومِن سائِرِ الكُتُب غيرِه في ذلك كافياً، ومُخبِرونَ في كُلِّ ذلك بما انتهى إلينا مِنْ اتِّفاقِ الحُجَّةِ فيما اتَّفقَت عليه مِنه، واختِلافِها فيما اختلَفَت فيه مِنه»

(5)

، وقالَ أيضاً: «ومِمَّا يُبَيِّنُ عن أنَّ ذلك كذلك: أنَّ

(1)

جامع البيان 1/ 441. وينظر: 1/ 12، 2/ 58.

(2)

جامع البيان 15/ 107. وينظر: 2/ 444، 546، 3/ 406، 4/ 495، 10/ 135.

(3)

جامع البيان 4/ 26. وينظر: 1/ 51، 520، 4/ 29، 31، 7/ 111، 8/ 188.

(4)

جامع البيان 1/ 225. وينظر: 1/ 154، 9/ 86.

(5)

جامع البيان 1/ 7.

ص: 170

جميعَ أهلِ التأويلِ الذين رُوِيَ لنا عنهم في ذلك قولٌ، لمْ يُحكَ لنا عن أحدٍ مِنهم تفصيلٌ بين فَتحِ ذلك وضَمِّه، ولو كانا مُختَلِفَي المعنى لنُقِلَ الفَصلُ مع التأويلِ إن شاءَ الله»

(1)

.

كما يتفَنَّنُ في سَردِ الأقوالِ وتقسيمِها؛ فيُمَيِّزُ أقوالَ أهلِ التأويلِ -وهُم الحُجَّةُ فيه مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين وأتباعِهم

(2)

- عن غيرِهم، ويُرَتِّبُ الأدلَّةَ بحَسبِ الأقوالِ، كما في قولِه:«اختلَفَت تراجِمَةُ القرآنِ في تأويلِ قولِ الله تعالى ذِكرُه {الم} [البقرة: 1]»

(3)

، ثُمَّ ذكرَ عَشرَةَ أقوالٍ، ومَنْ قالَ بها مِنْ أهلِ التأويلِ، ثُمَّ قالَ:«وأمَّا أهلُ العربيةِ فإنَّهم اختَلَفوا في معنى ذلك»

(4)

، وذكَرَ لهُم ثلاثَةَ أقوالٍ، ثُمَّ شَرَعَ في التوجيهِ والاستدلالِ لجميعِ تلك الأقوالِ مُرَتَّبةً بعد إجمالِ بعضِها مع بعضٍ، وأبطلَ مِنها ما خالفَ الدَّليلَ

(5)

، ومِن ذلك أيضاً قولُه:«فإنْ قالَ لنا قائِلٌ: أوَ ما كانَ الحرمُ آمناً إلا بعدما سألَ إبراهيمُ ربَّه له الأمان؟ قيلَ: قد اختُلِفَ في ذلك» ، ثُمَّ ذكر القولَ الأوَّلَ ودليلَه وتوجيهَه، ثُمَّ القولَ الثاني ودليلَه وتوجيهَه، ثُمَّ عَقَّبَ باختيارِه بدليلِه

(6)

.

وبعدَ حصرِه لأقوالِ أهلِ التأويلِ يحصُرُ المعاني في تلك الأقوالِ؛ تمهيداً للاستدلالِ لها، فيقولُ: «فأمّا مِنْ جِهَةِ النَّظرِ فإن جميعَ من

(1)

جامع البيان 15/ 386.

(2)

ينظر: جامع البيان 1/ 590.

(3)

جامع البيان 1/ 204 - 210.

(4)

جامع البيان 1/ 210 - 213.

(5)

جامع البيان 1/ 213 - 228.

(6)

ينظر: جامع البيان 2/ 538 - 542. وينظر: 4/ 544، 528، 10/ 82.

ص: 171

ينتحِلُ الإسلامَ إنَّما اختلفوا في معنى ذلك على أوجُهٍ ثلاثَةٍ»

(1)

، ويقولُ:«وليس يخلو هذا القولُ مِنْ أحدِ أمرَيْن»

(2)

.

ومِن آثارِ حَصْرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) للأقوالِ وتمييزِها: النَّصُّ على انحصارِ معنى الآيةِ في تلك الأقوالِ، كما في قولِه:«والدَّليلُ على صِحَّةِ ما قُلنا في ذلك: قيامُ الحُجَّةِ بأنْ لا قولَ في معنى هذه الآيةِ إلَّا أحَدُ الأقوالِ الثلاثَةِ التي ذكرناها»

(3)

، وقولِه:«فلمَّا كانَ السِّرُّ إنَّما يوَجَّهُ في كلامِها إلى أحدِ هذه الأوجُهِ الثلاثَةِ، وكانَ معلوماً أنَّ أحدَهُنَّ غيرُ معنيٍّ به قولُه {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] وهو السِّرُّ الذي هو معنى: الخِيارِ والشَّرَفِ. فلم يبقَ إلا الوَجهانِ الآخرانِ؛ وهو السِّرُّ الذي بمعنى: ما أخفَتْهُ نفسُ المُواعِدِين. والسِّرُّ الذي بمعنى: الغِشيانِ والجِماعِ. فلمَّا لم يبقَ غيرُهُما؛ وكانَت الدلالَةُ واضِحةً على أنَّ أحدَهما غيرُ معنيٍّ به، صَحَّ أنَّ الآخرَ هو المعنيُّ به»

(4)

.

ولذلك أثرُهُ الظَّاهِرُ في الاكتفاءِ بإبطالِ أحدِ القولَينِ عن الاستدلالِ على صِحَّةِ الآخرِ؛ لأنَّه لا معنى للآيةِ غيرُهما، كما في قولِه:«وفي فَسادِ هذا القولِ بالذي ذكرنا، أبيَنُ الدَّلالَةِ على صِحَّةِ القولِ الآخرِ؛ إذْ لا قولَ في ذلك لأهلِ التأويلِ غيرُهما»

(5)

، وقولِه: «فإذْ كانَ لا قولَ في تأويلِ ذلك إلَّا أحدُ القولَيْن اللذَيْن وصفتُ، ثُمَّ كانَ أحدُهما غيرَ

(1)

جامع البيان 15/ 51.

(2)

جامع البيان 1/ 167. وينظر: 5/ 62، 6/ 706.

(3)

جامع البيان 2/ 444.

(4)

جامع البيان 4/ 279. وينظر: 7/ 286، 9/ 345، 23/ 316، 24/ 419.

(5)

جامع البيان 4/ 466.

ص: 172

موجودَةٍ على صِحَّتِه الدَّلالَةُ مِنْ الوَجهِ الذي يَجِبُ التَّسليمُ له = صَحَّ الوَجهُ الآخرُ»

(1)

، وقولِه:«وإذا فَسَدَ ذلك صَحَّ أنَّ تأويلَ الآيَةِ ما قُلنا»

(2)

.

كما يستفيدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ ذلك الحَصْر في تخطئَةِ كُلِّ قولٍ خرجَ عن أقوالِ السَّلفِ مِنْ أهلِ التأويلِ، على ما سيأتي تفصيلُه في بابه بإذن الله.

(3)

ثالثاً: يجتهدُ في استيعابِ أدلَّةِ الأقوالِ وإن لم يَختَرْها. وذلك مِنْ منهجِه العامِّ في استقصاءِ الأقوالِ في تفسيرِه، ومِن تَمامِ العدلِ والإنصافِ

(4)

، ومِن ذلك استدلالُه لبعضِ المعاني في قولِه تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] بالنَّظائِرِ، وكلامِ العرَبِ، وجُملَةٍ مِنْ أشعارِها، ثُمَّ قالَ: «وهذا وإن كانَ وجهاً مِنْ التَّأويلِ فلستُ له بمُختارٍ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه قالَ {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]؛ فدَلَّ

(1)

جامع البيان 7/ 565.

(2)

جامع البيان. وينظر: 3/ 102، 5/ 229، 6/ 628، 707، 7/ 265 - 266، 12/ 583، 23/ 179.

(3)

ينظر (ص: 333).

(4)

قالَ عبد الرحمن بن مهدي (ت: 198): «أهلُ العِلمِ يكتبون ما لهُم وما عليهم، وأهلُ الأهواءِ لا يكتبون إلا ما لهُم» . سنن الدارقطني 1/ 26 (32). وقد أخذَ ابنُ تيمية (ت: 728) على بعضِ المُفسِّرين -كابنِ أبي حاتم (ت: 327)، والبغويّ (ت: 516)، وابنِ الجوزيّ (ت: 597) - تركَ ذِكرِ بعضِ أقوالِ السَّلفِ في بعضِ الآياتِ؛ لأنَّها مرجوحةٌ، أو ضعيفةٌ، أو وافقها بعضُ المُبتدِعةِ، ثُمَّ قالَ:«وأمَّا عبدُ بن حُمَيد، وأمثالُه من أئِمَّةِ العُلماءِ، فذكروا أقوالَ السَّلفِ في هذا وهذا، وهذا هو الصَّوابُ، وهو إعطاءُ العِلمِ حَقَّه» . تفسير آيات أشكلت 1/ 371.

ص: 173

بذلك على أنَّ معنى قولِه {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] معنى الشِّراءِ الذي يتعارَفُه النَّاسُ؛ مِنْ استِبدالِ شيءٍ مكانَ شيءٍ، وأخذِ عِوَضٍ على عِوَضٍ»

(1)

، وكذلك استدلالُه عندَ قولِه تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38] لقولٍ لأبي العاليةِ (ت: 93) بنَظيرِه مِنْ القرآنِ، وببعضِ وجوهِ القراءاتِ، وبكلامِ العربِ؛ ثُمَّ قالَ:«وقولُ أبي العاليَةِ في ذلك-وإن كانَ وجهاً مِنْ التَّأويلِ تحتَمِلُه الآيةُ- فأقرَبُ إلى الصَّوابِ مِنهُ عندي، وأشبَهُ بظاهِرِ التِّلاوَةِ أن يكونَ تأويلُها .. »

(2)

، ثُمَّ ذكرَ اختيارَه، واستدلالَه له.

رابعاً: يُورِدُ أدِلَّةً للأقوالِ لم يذكُرْها أصحابُها، وهذا فرعٌ عن منهجِهِ في الاستيعابِ، ومِن ذلك قولُه: «وكانَ بعضُ أهلِ المعرِفةِ بكلامِ العرَبِ مِنْ أهل البَصرَةِ

(3)

يقولُ: معنى {فَجَاسُوا} [الإسراء: 5]: قَتَلوا. ويُسْتَشْهَدُ لقَوْلِه ذلك ببيتِ حسَّان

(4)

:

ومِنَّا الذي لاقى بسَيفِ مُحَمَّدٍ

فجاسَ به الأعداءَ عُرضَ العَساكِرِ»

(5)

.

وقولُه: «وكأنَّ يحيى وابنَ عباسٍ وَجَّها تأويلَ الكلامِ إلى أنَّ

(1)

جامع البيان 1/ 326 - 328.

(2)

جامع البيان 1/ 589 - 590. وينظر: 1/ 204 - 228، 3/ 359 - 374.

(3)

هو أبو عبيدةَ معمَرُ بن المُثنَّى (ت: 210)، في كتابِه مجاز القرآن 1/ 370. والبَيْتُ ليسَ فيه، وإنَّما هو من استِشهادِ ابنِ جرير له. ويُنظَرُ: الجامع لأحكامِ القرآن 13/ 22.

(4)

لم أجِده في ديوانِ حسّان المطبوع، وأخرجه الطَّستي في مسائِلِ نافع ابن الأزرقِ، عن ابنِ عباس رضي الله عنه، كما في الدر المنثور 2/ 326، وينظر: البسيط، للواحدي 13/ 258، والجامع لأحكام القرآن 13/ 22.

(5)

جامع البيان 14/ 470.

ص: 174

الشَّيطانَ قالَ لهما: ما نهاكُما ربُّكما عن هذه الشَّجرَةِ إلا أن تكونا مَلِكَيْنِ مِنْ المُلوكِ. أُراهُما تأوَّلا في ذلك قولَ الله عز وجل في موضِعٍ آخَرَ {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]»

(1)

، وقالَ أيضاً:«فكأنَّ متأَوِّلَ هذا التأويلِ قَصَدَ بتأويلِه هذا إلى معنى قولِ الله تعالى ذِكرُه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]»

(2)

.

خامساً: لم يَقتَصِر مِنْ الأدلَّةِ على نوعٍ دون آخَرَ، كما لم يُكثِر مِنْ الاستدلالِ بدليلٍ مؤثِراً له دون باقي الأدِلَّةِ؛ كما هي عادةُ من توسَّعَ في فَنٍّ مِنْ العلومِ مِنْ أهلِ التَّفسيرِ

(3)

، وقد سبقَت الإشارةُ إلى تمَكُّنِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في كثيرٍ مِنْ العلومِ اللازمةِ للمُفَسِّرِ، وتحقُّقِه فيها

(4)

، فظَهَرَ أثرُ ذلك على منهجِه في الاستدلالِ؛ بالتَّنويعِ بين الأدلَّةِ، واختيارِ الدَّليلِ المُناسِبِ في مقامِ الاختيارِ والتَّرجيحِ، والإبطالِ والتَّصحيحِ؛ فيتوسَّعُ في دليلِ اللغةِ مع اللغويّين، وفي دليلِ العقلِ مع المُتكَلِّمين، وفي

(1)

جامع البيان 10/ 108.

(2)

جامع البيان 8/ 604. وينظر: 1/ 326، 9/ 281، 13/ 559، 15/ 214، 22/ 159.

(3)

من الواضِحِ في كُتُبِ التَّفسير اصطِباغُها بما بَرَعَ فيه مُؤَلِّفوها مِنْ العلومِ؛ ومِن ثَمَّ يظهَرُ اعتِمادُهم على تلك الفُنونِ في الاستدلالِ على المعاني أكثَرَ مِنْ غيرها مِنْ أنواعِ الأدلَّةِ، فيَظهرُ الاستدلالُ بالآثارِ وأقوالِ السَّلفِ في تفاسيرِ جامعي الآثارِ مِنْ مُتَقَدِّمي المُفَسِّرين؛ كعبدِ الرزَّاق (ت: 211)، وابنِ المُنذِر (ت: 318)، وفي مثلِ تفسيرِ ابنِ أبي زمنين (ت: 399)، وابنِ كثير (ت: 774). ويظهرُ الاستدلالُ باللغةِ وفنونِها في مثلِ كتاب (البسيط) للواحديِّ (ت: 468)، و (البحر المحيط) لأبي حيَّان (ت: 745)، و (التحريرِ والتَّنوير) لابن عاشور (ت: 1393). ونحو ذلك في أنواعِ العلومِ وأجناسِها مِنْ الأدلَّةِ.

(4)

في (ص: 76).

ص: 175

أصولِ الأحكامِ مع أهلِ الفقهِ والنَّظرِ، وبأقوالِ السَّلفِ والسياقِ والنَّظائِرِ وأحوالِ النُّزولِ مع تراجِمَةِ القرآنِ مِنْ المفسِّرين، وهكذا في أنواعٍ مِنْ الأدلَّةِ، ووجوهٍ مِنْ الاستدلالاتِ، بحسبِ المواضِعِ والحاجاتِ.

(1)

سادساً: يبدأُ بدليلِ اللغةِ، ثُمَّ دليلِ الشَّرعِ؛ مِنْ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ وأقوالِ السَّلف، ثُمَّ دليلِ العقلِ؛ مِنْ السِّياقِ والنَّظائِرِ وغيرِها. وهذا منهجُه الأكثرُ في إيرادِ أدلَّةِ المعاني عندَ اجتِماعِها، وسيأتي بيانُ مناسَبةِ هذا الترتيبِ في التَّفسيرِ في مباحثِ ترتيبِ الأدلَّةِ بإذنِ الله. ومِن شواهدِ ذلك قولُه عند قولِه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7]: «والعربُ تقولُ: فلانٌ لا يرجو فلاناً. إذا كانَ لا يخافُه، ومِنه قولُ الله جَلَّ ثناؤُه {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، ومِنه قولُ أبي ذُؤيبٍ

(2)

:

إذا لَسَعَته النَّحلُ لم يَرجُ لَسْعَها

وخالَفَها في بيتِ نوبٍ عَوامِلِ

وبنحو ما قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التأويلِ»

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3]: «والبَخعُ هو: القتلُ والإهلاكُ في كلامِ العربِ، ومِنه قولُ ذي الرُّمَّةِ

(4)

:

ألا أيُّهذا الباخِعُ الوَجدُ نفسَه

لشيءٍ نَحَتْهُ عن يَديكَ المقادِرُ

وبنحو الذي قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التأويلِ»

(5)

.

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 121 - 124، 9/ 459 - 469، 3/ 201 - 218، 359 - 377، 7/ 111 - 119.

(2)

هو الهُذَليّ، ينظر: شرح أشعار الهذليين 1/ 144.

(3)

جامع البيان 12/ 121.

(4)

ينظر: ديوانه (ص: 120).

(5)

جامع البيان 17/ 543. وينظر: 2/ 517، 6/ 356، 13/ 336، 438، 23/ 164، 24/ 489، 584.

ص: 176

وقد يُخالفُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ذلك التَّرتيبَ لغرَضٍ؛ كتأخيرِه المعنى اللغويَّ بعدَ ذكرِ الأقوالِ في الآيةِ؛ ليكونَ أصلاً لِرَدِّ ما خرَجَ عنه مِنْ الأقوالِ، وسبيلاً للتأليفِ والجمعِ بينها، لكنَّه يُتبِعُ ذلك بأدلَّةِ الشَّرعِ والنَّظرِ؛ سواءً لإبطالِ بعضِ الأقوالِ، أو لترجيحِ المعنى المُختارِ، كما في تفسيرِه (الهَجرَ) مِنْ قولِه تعالى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]، حيثُ بدأ بذكرِ اختلافِ أهلِ التَّأويلِ، ثُمَّ قالَ:«ولا معنى للهجرِ في كلامِ العربِ إلا على أحدِ ثلاثةِ أَوْجُهٍ»

(1)

، ثُمَّ ذكرَها بشواهِدِها، وأبطَلَ مِنها اثنان، واختارَ الثّالثَ، واستدَلَّ له بقولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأقوالِ السَّلفِ

(2)

.

سابعاً: يكتفي أحياناً بذكرِ بعضِ الأدلَّةِ، ويُحيلُ في مواضِعَ على ما سبقَ بيانُه مِنها، أو ما سيأتي؛ قَصْداً للاختصارِ، ومنعاً للإطالَةِ والتكرارِ، وهذا مِنْ منهجِه الذي نَصَّ عليه في أوَّلِ تفسيرِه بقولِه:«بأوجَزِ ما أمكَنَ مِنْ الإيجازِ في ذلك، وأخصَرِ ما أمكنَ مِنْ الاختصارِ فيه»

(3)

، ومِنه قولُه بعد ذِكرِ عددٍ مِنْ الأدلَّةِ:«مع عِلَلٍ كثيرَةٍ يطولُ بذِكرِها الكتابُ، وفيما ذكرنا كِفايَةٌ لمَن وُفِّقَ لِفَهمِه»

(4)

، ومِثلُهُ قولُه:«في نظائِرَ لذلك كثيرَةٍ كَرِهنا إطالَةَ الكِتابِ بذِكرِها»

(5)

، وقالَ: «وقد

(1)

جامع البيان 6/ 705.

(2)

جامع البيان 6/ 699 - 709. وينظر: 13/ 341، 14/ 295، 507 - 510، 16/ 264، 17/ 619.

(3)

جامع البيان 1/ 7.

(4)

جامع البيان 9/ 651.

(5)

جامع البيان 1/ 344.

ص: 177

دَلَّلنا في غيرِ هذا المَوضِعِ مِمَّا مضى مِنْ كِتابِنا أنَّ أصلَ كلِّ ظُلمٍ: وضعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه. فأغنى ذلك عن إعادَتِه في هذا المَوضِعِ»

(1)

، وقالَ فيما سيأتي ذِكرُه مِنْ الأدلَّةِ:«فأمَّا وجهُ تسميَةِ ما ثَنَّى المِئينَ مِنْ سورِ القرآنِ بالمثاني فقد بيَّنَّا صِحَّتَه، وسنَدُلُّ على صِحَّةِ وجهِ تسميةِ جميعِ القرآنِ به عند انتهائِنا إليه في سورةِ (الزُّمَر) إن شاءَ اللهُ تعالى»

(2)

.

وربَّما أجملَ ذكرَ الأدلَّةِ لاشتهارِها، وكثرَةِ تكرارِها فيما سبقَ مِنْ كلامِه، كما في قولِه:«وبذلك جاء التَّنزيلُ، وتتابَعَ شِعرُ الشُّعراء»

(3)

، ثُمَّ لم يذكر شيئاً مِنْ ذلك.

وإذا أحالَ على تفسيرِه السابقِ فإنَّه يذكرُ أدلَّةَ القَولِ الذي اختارَه مِمَّا لم يذكُره فيما تَقَدَّم، كما في قولِه:«وقد ذَكَرنا اختلافَ أهلِ التأويلِ في ذلك بالرِّواياتِ، وبَيَّنَّا الأَوْلى بالصَّوابِ مِنها في سورَةِ البَقَرَةِ، فأغنى ذلك عن إعادَتِه في هذا المَوضِعِ، غيرَ أنِّي أذكُرُ بعضَ ذلك أيضاً في هذا المَوْضِعِ»

(4)

. وليس ذلك لقصدِ الاختصارِ فحَسب؛ وإنَّما لبيانِ اتِّفاقِ المعنيَيْن في المَوْضِعَيْن، وتوكيداً للمعنى المُختارِ بمزيدٍ مِنْ الأدلَّةِ، كما في قولِه: «وقد ذكرنا اختلافَ المُختلِفِين والصَّوابَ مِنْ القولِ عندنا، فيما مضى قبلُ في معنى القانِت، بما أغنى عن إعادَتِه في هذا المَوْضِعِ، غيرَ أنَّا نَذكُرُ بعضَ أقوالِ أهلِ التأويلِ في ذلك في هذا

(1)

جامع البيان 1/ 675. وينظر: 1/ 503، 636، 2/ 58، 497، 3/ 595، 8/ 147، 623، 11/ 432.

(2)

جامع البيان 1/ 108.

(3)

جامع البيان 20/ 551.

(4)

جامع البيان 16/ 522. وينظر: 18/ 476، 542، 21/ 450، 24/ 553.

ص: 178

المَوْضِعِ؛ ليَعلَمَ النَّاظرُ في الكتابِ اتِّفاقَ معنى ذلك في هذا المَوْضِعِ وغيرِه»

(1)

، ومِثلُهُ قولُه:«وقد بَيَّنَّا الصوابَ مِنْ القَولِ فيه في سورَةِ الصَّافَّاتِ، فأغنى عن إعادَتِه في هذا المَوْضِعِ، غيرَ أنَّا سنذكرُ قولَ بعضِهِم في هذا المَوْضِعِ؛ لِئَلَّا يَظُنُّ ظانٌّ أنَّ معناه في هذا المَوْضِعِ مُخالِفٌ معناه هناك»

(2)

، وقولُه في بيانِ قَصدِ التَّوْكيدِ: «قد ذَكرْنا ذلك في الخَبَرِ الذي رَوَيْناهُ عن ابنِ إسحاقَ

(3)

، ونزيدُ ذلك توكيداً بما نضُمُّ إليه مِنْ أخبارِ بعضِ السَّلفِ المُتَقَدِّمين، وأقوالِهِم»

(4)

.

ثامِناً: يدعُ المعاني الواضِحَةَ الظَّاهرَةَ بلا استدلالٍ، كما في قولِه عن بعضِ المعاني:«وقد استُغنيَ بسماعِه عن بيانِ مُبيِّنِه»

(5)

، وقولِه عندَ قولِه تعالى {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68]: «يقولُ اللهُ لهُم جَلَّ ثناؤُه: افعلوا ما آمُرُكم به تُدرِكوا حاجاتِكم وطَلِباتِكم عندي، واذبحوا البقرةَ التي أمرتُكُم بذَبحِها، تَصِلوا بانتهائِكم إلى طاعتي بذبحِها إلى العِلمِ بقاتِلِ قَتيلِكم»

(6)

، ثُمَّ لم يزِدْ على ذلك، ومثلُه قولُه في قولِه تعالى {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة: 74]: «يعني بقولِه جَلَّ ثناؤُه: وإنَّ مِنْ الحِجارَةِ لَحِجارَةٌ تشَّقَّقُ؛ وتَشَقُّقُها: تصَدُّعُها. وإنَّما هي: لَمَا يتشَقَّقُ.

(1)

جامع البيان 20/ 175.

(2)

جامع البيان 22/ 299.

(3)

محمد بن إسحاق بن يسار المُطَّلبيّ القرشيّ مولاهم، أبو عبد الله المدَنيّ، العلّامةُ الأخباريّ الحافظُ، صاحبُ السِّيرة النَّبويّة، مات سنة (150). ينظر: الطبقات الكبرى 3/ 279، والسّير 7/ 33.

(4)

جامع البيان 1/ 461. وينظر: 2/ 250.

(5)

جامع البيان 5/ 201.

(6)

جامع البيان 2/ 91.

ص: 179

ولكنَّ التاءَ أُدغِمَت في الشّينِ، فصارَت شيناً مُشَدَّدةً. وقولُه {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة: 74]، يقولُ: فيخرُجُ مِنه الماءُ فيكونُ عيناً نابِعَةً، وأنهاراً جاريَةً»

(1)

، ولم يستَشْهِد على شيءٍ مِنْ ذلك لوضوحِه وبيانِه.

تاسعاً: يذكرُ دليلَ المعنى مُباشرةً ويستغني به عن بيانِ المعنى؛ وذلك لوضوحِ المعنى في الدَّليلِ، ولا معنى للآيةِ غيرُه، فيستَغني بذِكرِ الدَّليلِ عن تفصيلِ المعنى، وذلك قليلٌ، ومِنه قولُه عندَ قولِه تعالى {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]: «ذُكِرَ أنَّ معنى الفاحِشَةِ في هذا المَوضِعِ ما حَدَّثَني به .. »

(2)

، ثُمَّ أسنَدَ عن مجاهدٍ (ت: 104)، وسعيدِ بن جبيرٍ (ت: 95)، والشَّعبيّ (ت: 103)، والسُّديّ (ت: 128)، وابنِ عباس رضي الله عنه = قولَهُم: هو طوافُهُم بالبَيتِ عُراةً في الجاهليَّةِ

(3)

. ولم يَزِد على ذلك.

عاشراً: عند الاستدلالِ للقولِ المُختارِ يعمَدُ إلى أوضَحِ الأدلَّةِ، وأكثرِها موافقةً للمقصودِ، وذلك مِنْ منهجِه الذي أشارَ إليه في مُقَدِّمَةِ تفسيرِه، فقالَ:«لا شَكَّ أنَّ أعلى منازلِ البيانِ درَجَةً، وأَسْنى مراتِبِه مرتبَةً، أبلَغُه في حاجَةِ المُبينِ عن نفسِه، وأبيَنُه عن مُرادِ قائِلِه، وأقرَبُه مِنْ فَهمِ سامِعيه»

(4)

، وقالَ أيضاً: «أولى العِباراتِ أن يُعَبَّرَ بها عن

(1)

جامع البيان 2/ 134. ومن هذا البابِ قولُ الشافعيّ (ت: 204): «وما قالَ مُجاهدٌ من هذا بَيِّنٌ في الآيةِ، مُستغنىً فيه بالتَّنزيلِ عن التَّفسيرِ». الرسالة (ص: 14).

(2)

جامع البيان 10/ 137.

(3)

جامع البيان 10/ 137 - 138. وينظر: 1/ 53.

(4)

جامع البيان 1/ 9.

ص: 180

‌الفصلُ الثّاني: منهجُ ابن جريرٍ في الاستدلالِ بالأدلَّةِ النَّقليَّة على المعَاني في تفسِيره.

وفيه ثمانيةُ مباحث:

المبحث الأوَّل: منهجُ ابن جريرٍ في الاستدلال بالقرآنِ الكريمِ على المعاني.

المبحث الثّاني: منهجُ ابن جريرٍ في الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

المبحث الثّالث: منهجُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ على المعاني.

المبحث الرّابع: منهجُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

المبحث الخامس: منهجُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

المبحث السّادس: منهجُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني.

المبحث السّابع: منهجُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

المبحث الثّامن: منهجُ الاستدلالِ بالرواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

ص: 183

‌المبحثُ الأوَّلُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ بالقرآنِ الكريمِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالقرآنِ الكريمِ على المعاني.

تعرَّضَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بالبيانِ النَّظريِّ لكثيرٍ مِنْ أدلَّةِ المعاني، وأتَمَّ ذلك البيانَ بالتَّطبيقِ العَمليِّ في عامَّةِ تفسيرِه، غيرَ أنَّ بعضَ الأدلَّةِ لم يحظ بذلك التَّنظيرِ البَيِّنِ الظَّاهِر، وإن كانَ تطبيقُه في الغايَةِ مِنْ البيانِ، ومِن ذلك دليلُ القرآنِ؛ ولعلَّ ذلك راجعٌ إلى تفاوتِ قوَّةِ دليلِ القرآنِ في الدَّلالَةِ على المعنى، وتبايُنِ ظهورِه وخفاءِه، واتِّصالِه بالكلامِ وانفِصالِه، فجَعَلَ لِكُلِّ موضِعٍ حُكمَه ومرتَبَتَه. وهذا مِنْ بَصَرِه رحمه الله بمواقِعِ الأدلَّةِ، وفقهِه بمراتِبِ الدّلالاتِ.

ويحسُنُ البدءُ بتعريفِ (القرآنِ)، قبلَ بيانِ مفهومِ الاستدلالِ به على المعاني:

فالقرآنُ لغةً: مصدرُ قَرأَ يقرأُ قِراءَةً وقُرآناً، بمعنى الجَمعِ والضَّمِّ،

ص: 185

وسُمِّيَ (القرآن) بذلك لجَمعِه السورَ والآياتِ، وضَمِّه القصصَ والأحكامَ

(1)

، ومِنه قولُ الشاعر

(2)

:

هِجانَ اللونِ لم تقرأ جنيناً

أي: لم تَضُمَّ رحِماً على ولدٍ.

وقيلَ: قرأ: بمعنى أظهرَ وألقى، وسُمِّيَ (القرآن) بذلك لأنَّ تاليهِ يُظهِرُه ويُلقيه

(3)

، وهو بهذا المعنى في التَّنزيلِ؛ قالَ تعالى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، وقالَ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]

(4)

، ومِنه قولُ الشاعر

(5)

:

يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وقرآناً

أي: تسبيحاً وقراءَةً.

واصطلاحاً: كلامُ الله المُنزَّلُ على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، للبيانِ والتَّحدِّي والإعجاز.

(6)

والمُرادُ بالاستدلالِ بالقرآنِ على المعاني هو:

إقامَةُ القرآنِ دليلاً لتصحيحِ المعاني وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

(1)

ينظر: مجاز القرآن 1/ 1، ومقاييس اللغة 2/ 396، وتهذيب اللغة 9/ 209.

(2)

هو عمرو بن كلثوم، والبيت من مُعَلَّقتِه، وأوَّلُه: ذراعَيْ عيطَلٍ أدماءَ بِكرٍ. ينظر: شرح القصائد السبع الطِّوال الجاهليّات (ص: 380).

(3)

ينظر: الزَّاهر في معاني كلمات الناس 1/ 72، ولسان العرب 1/ 124.

(4)

ينظر: جامع البيان 1/ 92.

(5)

البيتُ لحسَّان بن ثابت رضي الله عنه، وهو في ديوانه 1/ 96، وأوَّلُه: ضَحَّوا بأشمَطَ عنوانُ السجودِ به.

(6)

ينظر: شرح مختصر الروضة، للطوفي 2/ 21.

ص: 186

أو: الإبانَةُ بالآياتِ القرآنيةِ عن صِحَّةِ المعاني وبطلانِها. وذلك بأن يجعلَ معنى الآيةِ الظّاهرَ الرَّاجحَ دليلاً على صِحَّةِ معنى آيةٍ أخرى أو بُطلانِه.

ويقرُبُ مِنْ دليلِ القرآنِ بهذا المعنى: دليلُ القراءاتِ، والسِّياقِ القرآني، والنَّظائِرِ القرآنيَّةِ؛ إذْ فيها بيانٌ بالقرآنِ عن صوابِ المعاني وخطئِها، ومِن ثَمَّ يُدرِجُها كثيرٌ مِنْ المُفسِّرين ضمنَ (تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ)

(1)

، وذلك صحيحٌ مِنْ جِهةِ بيانِ المعنى، أمَّا جِهةُ الاستدلالِ بالقرآنِ على تلك المعاني فتستلزِمُ اعتباراتٍ أُخَرَ، تستوجِبُ التَّفريقَ بين هذه الأنواع عند الاستدلالِ بها، فلكُلِّ دليلٍ مِنها منهجُه في التّلقِّي والثُّبوتِ، وضوابطُه في الاستدلالِ، ومنزِلَتُه مِنْ الأدلَّةِ، وترتيبُه مِنها، فمِن ثَمَّ لَزِمَ تمييزُ كلِّ دليلٍ مِنها عن الآخرِ. ففي دليلِ القراءاتِ مثلاً، يصِحُّ الاستدلالُ بالقراءةِ الشَّاذة، ولا مدخلَ لذلك في دليلِ القرآنِ، ودليلُ السِّياقِ مخصوصٌ بما قبلَ الآيةِ وبعدَها، ودليلُ القرآنِ أشملُ مِنْ ذلك، وفي النّظائِرِ تتفاوتُ دلالَةُ النَّظير على النَّظيرِ تفاوتاً كبيراً، مَرَدُّه إلى رأيِ المُفَسِّرِ واجتهادِه، وليس الشأنُ كذلك في دليلِ القرآن على ما سيتبيَّن بإذنِ الله.

وأمثلةُ استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بالقرآنِ على المعاني في تفسيره كثيرةٌ ظاهِرةٌ، وهي على نوعين:

النَّوعُ الأوّلُ: استدلالُه بالقرآنِ لقبولِ المعاني وتصحيحِها، ومِن ذلك قولُه عند قولِه تعالى {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]:

(1)

ينظر: أضواء البيان 9 - 38، وتفسير القرآن بالقرآن (ص: 37).

ص: 187

«وأولى الأقوالِ بالصَّوابِ في تأويلِ ذلك قولُ من قالَ: معناه: ولآمُرَنَّهم فَلَيُغيِّرُنَّ دينَ الله؛ وذلك لدلالةِ الآيةِ الأُخرى على أنَّ ذلك معناه، وهي قولُه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]»

(1)

، وقالَ في قولِه تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1 - 3]: «وإنَّما اخترنا هذا القولَ في تأويلِ هذه الآيةِ؛ لدلالَةِ قولِ الله عز وجل {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] على صِحَّتِه؛ إذْ أمرَه اللهُ تعالى ذِكرُه أن يُسَبِّحَ بحمدِ رَبِّه إذا جاءَه نصرُ اللهِ وفتحُ مكَّةَ، وأن يستغْفِرَه، وأعلَمَه أنَّه توَّابٌ على من فعلَ ذلك، ففي ذلك بيانٌ واضِحٌ أنَّ قولَه تعالى ذِكرُه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] إنَّما هو خبرٌ مِنْ اللهِ جلَّ ثناؤُه نبيَّه عليه الصلاة والسلام عن جزاءِه له على شُكرِه له على النِّعمةِ التي أنعَمَ بها عليه، مِنْ إظهارِه له ما فتَحَ؛ لأنَّ جزاءَ الله تعالى عبادَه على أعمالِهم دونَ غيرِها»

(2)

، وقالَ في قولِه تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك قولُ من قالَ: عُنِيَ بها ليلةُ القَدرِ. لأنَّ اللهَ أخبرَ تعالى ذِكرُه أنَّ ذلك كذلك بقولِه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدْر: 1]»

(3)

.

النَّوعُ الثَّاني: استدلالُه بالقرآنِ لرَدِّ المعاني وإبطالِها، ومِن أمثلَتِه

(1)

جامع البيان 7/ 502.

(2)

جامع البيان 21/ 236.

(3)

جامع البيان 21/ 6. وينظر: 23/ 380، 468، 24/ 26، 84.

ص: 188

قولُه عند قولِه تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]: «وقد زَعَمَ بعضُ أهلِ العربيَّةِ

(1)

أنَّ معناه أنَّهم جَهِلوا كُنهَ ما فيه مِنْ العِقابِ، فلم يعلَموه كعِلمِ العالِمِ، وإنْ علِموه ذَنباً؛ فلذلك قيلَ {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17]. ولو كانَ الأمرُ على ما قالَ صاحِبُ هذا القَولِ لوَجَبَ ألَّا تكونَ توبَةٌ لِمن عَلِمَ كُنْهَ ما فيه؛ وذلك أنَّه جلَّ ثناؤُه قالَ {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] دونَ غيرِهِم .. ، وذلك خلافُ قولِ الله عز وجل {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70]»

(2)

، وقولُه:«وفي قولِ الله جلَّ ثناؤُه {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] وإضافَتِه الجَرْيَ إلى الفُلكِ، وإن كانَ جَريُها بإجراءِ غيرِها إياها = ما يدُلُّ على خطأِ التَّأويلِ الذي تأوَّلَه مَنْ وَصَفنا قولَه في قولِه {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، وادِّعائِه أنَّ في نِسبَةِ الله جلَّ ثناؤه الضَّلالَةَ إلى مَنْ نَسَبَها إليه مِنْ النَّصارى = تصحيحاً لِما ادَّعى المُنكرون: أنَّ لله في أفعالِ خلقِه سبَباً مِنْ أجلِه وُجِدَت أفعالُهُم، مع إبانَةِ الله جلَّ ثناؤه نَصّاً في آيٍ كثيرَةٍ مِنْ تنزيلِه أنَّه المُضِلُّ الهادي»

(3)

، وقولُه: «وقد قيلَ إنَّ معنى قولِه {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} [الأنفال: 19]: وإن تعودوا للاستفتاحِ نَعُدْ لِفَتحِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وهذا القولُ لا معنى له؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه قد كانَ ضَمن لنبيِّه عليه الصلاة والسلام حينَ أذِنَ له في حربِ أعداءِه = إظهارَ دينِه، وإعلاءَ كلِمَتِه مِنْ قبلِ أن يستَفتِحَ أبو جهلٍ وحِزبُه، فلا وجهَ لأن

(1)

هو الفرَّاءُ في معاني القرآن 1/ 259.

(2)

جامع البيان 6/ 511.

(3)

جامع البيان 1/ 198.

ص: 189

يُقالَ -والأمرُ كذلك-: إن تنتهوا عن الاستفتاحِ فهو خيرٌ لكُم، وإن تعودوا نَعُدْ؛ لأنَّ اللهَ قد كانَ وعدَ نبيَّه الفتحَ بقَولِه {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، استَفتَحَ المُشركون أو لم يستفتِحوا»

(1)

.

وقد بلغَت المواضِعُ التي استدَلَّ فيها بالقرآن على المعاني (124) موضِعاً، ونسبةُ ذلك مِنْ مجموع الأدلَّةِ (1. 1%).

ولا يجري في ذكرِ دليلِ القرآنِ -عند إيرادِه مع الأدلَّةِ- على ترتيبٍ مُعيَّنٍ؛ ولكنَّه في محلِّ التَّقديمِ إجمالاً، حيث لم يذكره ثانياً بعد غيره مِنْ الأدلَّة إلا في (9) مواضع، وذلك نسبته (7. 3%) مِنْ المواضع التي وقعَ فيها الاستدلالُ بالقرآن؛ وعِلَّةُ ذلك أمران:

أوَّلُهما: شَرَفُ هذا الدَّليلِ وجلالَتُه، ومكانَتُه مِنْ الأدلَّةِ؛ فهو أصلُ الأدلَّةِ، والمُبَيِّنُ لحُجِّيَّتها، كما أنَّ الشَّرطَ في صِحَّةِ الاستدلالِ بأنواعِ الأدلَّةِ: عدمُ مخالَفَةِ دليلِ الوحي مِنْ الكتابِ أو السُّنة، والسُّنةُ بيانٌ للقرآن، وإنَّما علِمنا أنَّها وحيٌ بدلالَتِه.

(2)

ثانيهما: قوّةُ دلالته في بعضِ المواضِعِ، فلا يصِحُّ إلا أن يكونَ مُقَدَّماً، وإذا وُجِدَ مِنْ الأدلَّةِ ما هو أظهرُ مِنه في الدَّلالَةِ قدَّمه عليه.

(3)

(1)

جامع البيان 11/ 96. وينظر: 1/ 655، 3/ 742، 8/ 556، 10/ 66، 12/ 125.

(2)

ينظر: قواطِعُ الأدلَّة (ص: 48 - 49)، والموافقات 4/ 143، 314.

(3)

كما في تقديمِه الإجماعَ الثَّابتَ في 3/ 645، 17/ 418، وتقديمِه السُّنةَ الصَّحيحةَ في 6/ 511، 9/ 466، 17/ 471، 21/ 366. وينظر: 1/ 636، 2/ 384، 3/ 344، 17/ 466.

ص: 190

‌المطلبُ الثاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالقرآن الكريمِ على المعاني.

ثَبَتَ بالمُعجِزاتِ القاطِعةِ، والبراهين الباهِرةِ، أنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى، وحُجَّتُه على خلقِه، وهو الآيةُ الكبرى التي جاءَ بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وتحدَّى اللهُ بها العربَ، فعجزوا عن الإتيانِ بمثله؛ لا خلافَ بين العُقلاءِ في ذلك

(1)

. وقد خَصَّهُ اللهُ تعالى بحفظِه مِنْ النَّقصِ والزِّيادةِ، والتَّغييرِ والتَّبديلِ؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]، فنُقِلَ إلينا متواتراً، مقروءاً ومكتوباً، كما أنزلَه اللهُ على رسولِه صلى الله عليه وسلم.

وقد دَلَّت الأدلَّةُ النَّقليَّةُ والعقليَّةُ على حُجِّيَّةِ الاستدلالِ بالقرآنِ على المعاني، وهذا بيانُها:

1 -

الأدلَّةُ الدالَّةُ على وجوب اتِّباعِه، والرَّدِّ إليه عند التَّنازعِ، كقولِه تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]، وقولِه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، وهذا يشملُ الأمرَ باتِّباعِ ما دَلَّ عليه مِنْ المعاني، والرَّدِّ إليه عند التنازُعِ فيها.

2 -

ثبوتُه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ومِن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه:«لَمَّا نزلَت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذلك على أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه! فقالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ليس بذلك؛ ألم تسمعوا ما قالَ العبدُ الصَّالحُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؟ إنَّما هو الشِّركُ» »

(2)

، وقولُه صلى الله عليه وسلم: «{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] هي السَّبعُ المثاني، والقرآنُ العظيمُ الذي

(1)

ينظر: الجوابُ الصَّحيحُ 5/ 422 - 428، والبحرُ المحيطُ، للزَّركشي 1/ 360.

(2)

سبق تخريجه (ص: 46).

ص: 191

أُوتيتُه»

(1)

، قالَ ابنُ حجر (ت: 852): «وفي هذا تصريحٌ بأنَّ المُرادَ بقولِه {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحِجر: 87] هي الفاتحةُ»

(2)

.

3 -

إجماعُ العلماءِ على صِحَّةِ الاستدلالِ بالقرآنِ، ووجوبِ الأخذِ بما دلَّ عليه، قالَ ابنُ حزمٍ (ت: 456): «ولا خلافَ بينَ أحدٍ مِنْ الفرقِ المُنتميَةِ إلى المسلمين؛ مِنْ أهلِ السُّنة، والمُعتزلةِ، والخوارجِ، والمُرجِئةِ، والزَّيديَّةِ، في وجوبِ الأخذِ بما في القرآنِ، وأنَّه هو المَتلوُّ عندَنا نفسُه، وإنَّما خالفَ في ذلك قومٌ مِنْ غُلاةِ الرَّوافضِ، هُمْ كُفَّارٌ بذلك مُشركون عندَ جميعِ أهلِ الإسلامِ»

(3)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «أمَّا طُرُقُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ التي نتكلَّمُ عليها في أصولِ الفقه، فهي بإجماعِ المسلمين: الكِتابُ. لم يَختَلف أحدٌ مِنْ الأئِمَّةِ في ذلك .. »

(4)

.

4 -

إجماعُ العُلماءِ على أنَّه أعلى درجاتِ البيانِ لمعاني القرآنِ، قالَ الفراهيُّ

(5)

(ت: 1349): «أجمعَ أهلُ التَّأويلِ مِنْ السَّلفِ إلى الخلَفِ أنَّ القرآنَ يُفَسِّرُ بعضُه بعضاً، وأنَّه هو أوثَقُ تعويلاً، وأحسنُ تأويلاً»

(6)

، وقالَ الشنقيطي (ت: 1393) في مقدمةِ تفسيرِه: «واعلَم أنَّ مِنْ أهمِّ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه 6/ 17 (4474).

(2)

فتح الباري 8/ 8.

(3)

الإحكام في أصول الأحكام 1/ 94.

(4)

مجموع الفتاوى 11/ 339.

(5)

عبد الحميد بن عبد الكريم الأنصاري، حميدُ الدين أبو أحمد الفراهي، عالمٌ لُغويٌّ مُفسِّر، صَنَّف: مفردات القرآن، وإمعان في أقسام القرآن، توفي سنة (1349). ينظر: مقدمة مفردات القرآن (ص: 11).

(6)

دلائِل النِّظام (ص: 83).

ص: 192

المقصودِ بتأليفِه أمران: أحدُهما: بيانُ القرآنِ بالقرآنِ، لإجماعِ العُلماءِ على أنَّ أشرَفَ أنواعِ التَّفسير وأجَلَّها: تفسيرُ كتابِ الله بكتابِ الله»

(1)

.

والواقِعُ العمليُّ في كتبِ التَّفسير يطابقُ ذلك الإجماعَ؛ فقد تتابعَ المُفسِّرون على اعتبارِ دليلِ القرآنِ في بيانِ المعاني، وتقديمِه، والاحتجاجِ به، وقد جعلَه ابنُ جُزي (ت: 741) أوَّلَ موجباتِ الترجيحِ ووجوهِه، فقالَ:«إذا دلَّ موضِعٌ مِنْ القرآنِ على المُرادِ بموضِعٍ آخرَ حملناه عليه، ورجَّحْنا القولَ بذلك على غيرِه مِنْ الأقوالِ»

(2)

.

5 -

أنَّ الله وصفَ كتابَه بما يقتضي صِحَّةَ الاستدلالِ به على معانيه؛ فقالَ تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزُّمَر: 23]، أي: يشبهُ بعضُه بعضاً في المعاني والأحكامِ والأخبارِ، وتُثَنَّى فيه وتُكَرَّر. ووصَفَه بأنَّه تبيانٌ لكُلِّ شيءٍ:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، ومعاني آياتِ القرآنِ أولى ما فيه بالبيانِ. كما دَلَّ قولُه تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، على اشتِمالِه بيانَ كلّ ما بالنَّاسِ الحاجَةُ إليه مِنْ أحكامِه ومعانيه، قالَ الشَّافعي (ت: 204): «فكُلُّ ما أَنزلَ في كتابِه جَلَّ ثناؤُه رحمَةٌ وحُجَّةٌ، عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه، لا يعلَمُ مَنْ جَهِلَه، ولا يَجهَلُ مَنْ عَلِمَه .. ، ولَيسَت تنزِلُ بأحدٍ مِنْ أهلِ دينِ الله نازِلَةٌ إلا وفي كتابِ الله الدَّليلُ على سبيلِ الهُدى فيها»

(3)

.

(1)

أضواءُ البيان 1/ 8.

(2)

التسهيل 1/ 20.

(3)

الرِّسالة (ص: 19 - 20).

ص: 193

6 -

أنَّ خيرَ من يفسِّر القرآنَ من تكلَّم به؛ وهو الله سبحانَه؛ إذْ لا أحدَ أعلَمُ مِنْ الله جلَّ وعلا بمعاني كلامِه،، قالَ الزَّمخشري (ت: 538): «وأسَدُّ المعاني ما دَلَّ عليه القرآنُ»

(1)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «فإن قالَ قائِلٌ: فما أحسَنُ طُرُقِ التَّفسير؟ فالجوابُ: إنَّ أصَحَّ الطُّرقِ في ذلك أن يُفَسَّرَ القرآنُ بالقُرآنِ؛ فما أجمِلَ في مكان فإنَّه قد فُسِّرَ في موضِعٍ آخرَ، وما اختُصِرَ في مكانٍ فقد بُسِطَ في موضِعٍ آخرَ»

(2)

، وقالَ ابنُ القيِّم (ت: 751): «وتفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ مِنْ أبلَغِ التَّفاسير»

(3)

.

7 -

أنَّ القرآنَ يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، ومعاني آياتِه كالمعنى الواحِدِ؛ في صِدقِها وائتِلافِها وتوافُقِها، فلا تعارُضَ ولا تخالُفَ، وذلك مِنْ معنى التَّشابُه العامِّ الذي وصفَ الله به كتابَه فقالَ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزُّمَر: 23]

(4)

، قالَ ابنُ هشام

(5)

(ت: 761) في تعليلِ بعضِ المعاني: «وإنَّما صَحَّ ذلك لأنَّ القرآنَ كُلَّه كالسُّورَةِ الواحِدةِ؛ ولهذا يَذكرُ الشيءَ في سورَةٍ، وجوابَه في سورةٍ أُخرى، نحو {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحِجر: 6]، وجوابُه: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2]»

(6)

، وأورَدَ الشَّاطبي (ت: 790): «هل للقرآنِ مأخذٌ

(1)

الكشَّاف 3/ 458.

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 363.

(3)

التبيان في أيمان القرآن (ص: 278).

(4)

ينظر: جامع البيان 20/ 190 - 191.

(5)

عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري المصري، جمال الدين أبو محمد، الإمام النَّحوي، صنَّف: أوضح المسالك، ومغني اللبيب، وتوفي سنة (761). ينظر: الدرر الكامنة 3/ 93، وشذرات الذهب 6/ 191.

(6)

مغني اللبيب 1/ 482. ونسَبَ هذه العبارَةَ لأبي عليّ الفارسي (ت: 377) في 1/ 484، والذي في الحُجَّة لأبي عليّ: «إنَّ مجازَ القرآنِ مجازَ الكلامِ الواحِدِ، والسورةِ الواحِدةِ» 6/ 343.

ص: 194

في النَّظرِ على أنَّ جميعَ سوَرِه كلامٌ واحِدٌ؟»، ثُمَّ أجاب:«يصِحُّ في الاعتبارِ أن يكونَ واحداً بالمعنى المُتقدِّم، أي: يتوقَّفُ فهمُ بعضِه على بعضٍ بوجهٍ ما؛ وذلك أنَّه يبيِّنُ بعضُه بعضاً، حتى إنَّ كثيراً مِنه لا يُفهَم معناه حقَّ الفهمِ إلا بتفسيرِ موضِعٍ آخرَ، أو سورةٍ أخرى .. ، فلا محالَةَ أنَّ ما هو كذلك فكلامٌ واحِدٌ، فالقرآنُ كُلُّه كلامٌ واحِدٌ بهذا الاعتبار»

(1)

.

8 -

ورودُه في تفاسير السَّلفِ، وأمثلتُه كثيرةٌ؛ مِنها: قولُ مجاهد (ت: 104) في قولِه تعالى {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]: «يَتَّبِعونه حَقَّ اتِّباعِه؛ ألَمْ تَرَ إلى قولِه {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2]؟ يعني الشَّمسَ إذا اتَّبَعَها القمرُ»

(2)

، وقالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وكانَ ابنُ جُريْجٍ يقولُ في انتهاءِ الخبَرِ عن الخَتمِ إلى قولِه {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]، وابتداءِ الخبَرِ بعدَه = بمثلِ الذي قُلنا فيه، ويتأوَّلُ فيه مِنْ كتابِ الله {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]»

(3)

، ثُمَّ أسنَدَ عنه قولَه:«الختمُ على القلبِ والسَّمعِ، والغِشاوَةُ على البصرِ؛ قالَ الله تعالى ذِكرُه {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وقالَ {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]»

(4)

.

(1)

الموافقات 4/ 274.

(2)

جامع البيان 2/ 490.

(3)

جامع البيان 1/ 271.

(4)

المرجع السابق.

ص: 195

‌المطلبُ الثالثُ: أَوجُه الاستدلالِ بالقرآنِ الكريمِ على المعاني.

تتنوَّعُ أَوجهُ الاستدلالِ بالقرآنِ على المعاني بحسبِ اعتباراتٍ مُتعَدِّدةٍ، يتقدَّمُها في الأهميَّةِ اعتبارانِ هما:

1 -

صِيَغُ إيرادِ دليلِ القرآنِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

2 -

مراتِبُ دلالَةِ دليلِ القرآنِ على المعاني.

وفيما يأتي بيانُهما:

الأوَّلُ: صِيَغُ إيرادِ دليلِ القرآنِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

يُورِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) دليلَ القرآنِ في صيَغٍ متعدِّدَةٍ، تَتَّفقُ كلُّها في قَصدِ الاستدلالِ للمعاني، والاستشهادِ لما يراهُ فيها مِنْ صوابٍ أو خطأٍ، وهذا بيانُها:

أوَّلاً: التصريحُ بالاستدلالِ بالآيةِ، كأن يقول:(والدَّليلُ عليه قولُه تعالى)، (ويدلُّ عليه قوله تعالى)، (ومِن الدلالَةِ عليه قولُه تعالى)، (وفي قولِه تعالى .. أوضحُ الدلالَةِ)، ونحو ذلك مِنْ الألفاظ الصريحة في الاستدلالِ

(1)

، وهذه أجلى صِيَغِ الاستدلالِ بالقرآنِ على المعاني. وممَّا قالَه مِنْ ذلك ما أورَدهُ عند قولِه تعالى {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55]: «ومِمَّا يدُلُّ على أنَّه قد يكونُ مَصعوقاً وهو حيٌّ غيرُ مَيتٍ، قولُ الله عز وجل {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]، يعني: مَغشيّاً عليه .. ، فقد عُلِمَ أنَّ موسى لم يكُن حين غُشِيَ عليه وصَعِقَ، مَيِّتاً؛ لأنَّ

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 586، 2/ 380، 3/ 13، 344، 493، 626، 4/ 302، 6/ 28، 371، 21/ 236.

ص: 196

الله جلَّ ثناؤُه قد أخبرَ عنه أنَّه لمَّا أفاقَ قالَ {تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]»

(1)

، وقالَ في قولِه تعالى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]: «فإن غَبيَ عن عِلمِ صِحَّةِ ذلك بما قَدَّمنا ذو غباءٍ، فإنَّ في قولِ الله جلَّ ثناؤُه {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16] دلالَةً واضِحةً على أنَّ عالَمَ كلِّ زمانٍ غيرُ عالَمِ الزَّمانِ الذي كانَ قبلَه، وعالَمِ الزَّمانِ الذي بَعدَه»

(2)

.

ثانياً: ذِكرُ الآيةِ مباشرةً على سبيلِ التدليلِ، بلا ذِكرٍ لألفاظِ الاستدلالِ السَّابقةِ، كأن يَصِل الآيَةَ بالكلامِ مباشرةً، أو يقول:(وقد بيَّن قولُه تعالى)، (وفي قولِه تعالى .. ما يُنبئُ)، (والمعنى .. ؛ قالَ تعالى)، (أَوَ ما تسمعُ قولَه تعالى)

(3)

، ونحو ذلك مِنْ الألفاظِ التي تُورَدُ في مقامِ الاستدلالِ على المعاني. ومِن ذلك قولُه في تفسيرِ قولِه تعالى {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [النمل: 5]: «يقولُ: وهم يومَ القيامَةِ هُمْ الأوضَعون تجارةً، والأَوْكسُونَها؛ باشترائِهم الضَّلالَةَ بالهُدى؛ {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]»

(4)

، وقالَ في قولِه تعالى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك عندنا ما قالَه المُفسِّرون؛ وهو: أنَّها مِنْ طينٍ. وبذلك وَصَفَها

(1)

جامع البيان 1/ 691.

(2)

جامع البيان 1/ 153.

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 440، 547، 3/ 40، 540، 636، 4/ 565، 5/ 489، 8/ 278، 556، 9/ 281.

(4)

جامع البيان 18/ 7.

ص: 197

اللهُ عز وجل في كتابِه في موضِعٍ آخرَ، وذلك قولُه {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33 - 34]»

(1)

.

ثالثاً: إيرادُ الآيةِ على سبيلِ التعليلِ لقبولِ المعنى أو رَدِّه، ومِن عبارَتِه في ذلك:(وعِلَّةُ هذا القول)، (لأنَّ الله تعالى يقولُ)، (لقولِه تعالى)، (ولذلك يقولُ تعالى)، (وذلك أنَّ الله يقولُ)

(2)

. ومثالُ ذلك قولُه في قولِ الله تعالى {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]: «وإنَّما اخترتُ القولَ الذي قُلتُ في ذلك؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى ذَكَرَ خَبَرَه وخبرَ قومِه في مَوضِعٍ آخرَ، فأخبَرَ أنَّه لَمَّا نجَّاه مِمَّا حاوَلَ قومُه مِنْ إحراقِه قالَ {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، فَفَسَّرَ أهلُ التَّأويلِ ذلك أنَّ معناه: إنّي مُهاجِرٌ إلى أرضِ الشَّامِ. فكذلك قولُه {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99]»

(3)

، وقالَ في قولِه تعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: «وهذا القولُ أولى بتأويلِ ذلك؛ وذلك أنَّ الله أخبرَ عنهم أنَّهم قالوا {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فُصِّلَت: 26]، وذلك هجرُهُم إيَّاه»

(4)

.

ورُبَّما لم يَذكُر نَصَّ الآيةِ عند التعليلِ بها، لكن يُحيلُ عليها بما تُعرَفُ به، كما في قولِه: «وأولى هذه الأقوالِ بالصَّوابِ قولُ من قالَ: معنى الآيةِ: يا أيُّها الذين آمنوا فُرِضَ عليكم الصيامُ كما فُرِضَ على

(1)

جامع البيان 12/ 528.

(2)

ينظر: جامع البيان 1/ 397، 3/ 67، 715، 5/ 568، 7/ 350، 9/ 231، 14/ 59، 360، 19/ 507.

(3)

جامع البيان 19/ 577.

(4)

جامع البيان 17/ 444.

ص: 198

الذين مِنْ قبلِكم مِنْ أهلِ الكتابِ، أيَّاماً معدوداتٍ؛ وهي شهرُ رمضانَ كلُّه. لأنَّ مَنْ بعدَ إبراهيمَ صلواتُ الله عليه كانَ مأموراً باتِّباعِ إبراهيمَ، وذلك أنَّ الله جلَّ ثناؤُه كانَ جَعَلَه للنَّاسِ إماماً، وقد أخبرَنا الله أنَّ دينَه كانَ الحنيفيَّةَ المُسلِمَةَ، وأُمِرَ نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ اتِّباعِه بمثلِ الذي أُمِرَ به مَنْ قَبلَه مِنْ الأنبياءِ»

(1)

، يُشيرُ بذلك إلى مثلِ قولِه تعالى {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، وقولِه {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].

الثّاني: مراتِبُ دلالَةِ دليلِ القرآنِ على المعاني.

تتفاوتُ دلالَةُ الأدلَّةِ على المعاني في القوّةِ والوضوحِ، وهذا التفاوتُ ظاهرٌ في منهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في الاستدلالِ، فمِن الأدلَّةِ ما يصِفُه ب:(أبينِ الدَّلالةِ-أوضَحِ الدَّلالةِ- أوضَحِ الدَّليلِ- أدَلِّ الدَّليلِ- الدَّلالةِ الواضِحةِ)، ومِنها دونَ ذلك.

(2)

وبالتَّأمُّلِ في المواضِع التي وقع فيها الاستدلالُ بالقرآن على المعاني نجِدُ أنَّ دلالَةَ الآيةِ فيها على المعنى تنقسِمُ إلى قسمين:

القسمُ الأوَّلُ: دلالةُ لفظِ الآيةِ المباشرِ على المعنى؛ وذلك الظّاهرُ المُتبادَرُ مِنها، وهذا أوضَحُ دلالَةً، وأقوى اتِّصالاً؛ لاستغناءِ لفظِ الآيةِ في الدَّليلِ عن الاستدلالِ على معناه، فلا يُحتاجُ فيه إلا إلى الجمعِ بين الدَّليلِ والمعنى محلِّ الاستدلالِ. وعامَّةُ هذا النَّوعِ ممَّا تَتَّحِدُ فيه قِصَّةُ

(1)

جامع البيان 3/ 155.

(2)

تفصيلُها ضمنَ البابِ الثّالثِ (ص: 494). وينظر: جامع البيان 2/ 339، 3/ 556، 735، 7/ 74.

ص: 199

الآيةِ، أو يشتملُ على تبيينِ مُجمَلٍ، أو تفسيرِ مُبهَمٍ، أو تخصيصِ عامٍّ، أو تقييدِ مُطلَقٍ، ونحوِ ذلك ممَّا يتَّضِحُ فيه اتِّصالُ معاني الكلام. ومِن أمثلَتِه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عند قولِه تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك قولُ من قالَ: عُنِيَ بها ليلةُ القَدرِ. لأنَّ اللهَ أخبرَ تعالى ذِكرُه أنَّ ذلك كذلك بقولِه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدْر: 1]»

(1)

، وقالَ في قولِه تعالى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك عندنا ما قالَه المُفسِّرون؛ وهو: أنَّها مِنْ طينٍ. وبذلك وَصَفَها اللهُ عز وجل في كتابِه في موضِعٍ آخرَ، وذلك قولُه {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33 - 34]»

(2)

، وقولُه أيضاً عند قولِه تعالى {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174]: «يقولُ: ولا يُكلِّمهُم بما يُحبُّون ويشتهون، فأمَّا بما يسوءُهم ويَكرَهون فإنَّه سيُكَلِّمهُم؛ لأنَّه قد أخبرَ جلَّ ثناؤه أنَّه يقولُ لهم -إذا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} -: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 107، 108]»

(3)

.

القسمُ الثاني: دلالةُ معنى الآيةِ الثابتِ بوجهٍ صحيحٍ، وهذا دون الأوَّلِ في القوَّةِ والاتِّصالِ؛ وذلك أنَّ المُفَسِّرَ يحتاجُ فيه أوَّلاً إلى إثباتِ معنى الآيةِ الذي يتضمَّنُه الدَّليلُ -وذلك بالاستدلالِ له بوجوهٍ مِنْ الدّلالاتِ-، ثُمَّ يتلوه الرَّبطُ بين المعنيين، فيُثبِتُ في هذا القسمِ معنى

(1)

جامع البيان 21/ 6.

(2)

جامع البيان 12/ 528.

(3)

جامع البيان 3/ 67. وينظر: 1/ 109، 586، 7/ 502، 9/ 339، 513، 13/ 281، 23/ 109.

ص: 200

الدَّليلِ أوَّلاً، ثُمَّ يُقيمُه دليلاً على المعنى ثانياً. فلا يكتَفي في هذا القِسمِ بإيرادِ دليلِ القرآنِ، بل يَشفَعُه بالبيانِ عن وجهِ دلالَتِه على المعنى المُرادِ؛ ليَتِمَّ به الاستدلالُ. ومِن أمثلَتِه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عند قولِه تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} [الحِجر: 26]: «والذي هو أَوْلى بتأويلِ الآيةِ أن يكونَ الصَّلصالُ في هذا المَوضِعِ: الذي له صوتٌ مِنْ الصَّلصَلةِ. وذلك أنَّ الله تعالى وصَفَه في موضِعٍ آخرَ فقالَ {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]، فشبَّهَه تعالى ذِكرُه بأنَّه كانَ كالفخَّارِ في يُبسِه، ولو كانَ معناه في ذلك: المُنتِنَ. لم يُشَبِّهه بالفخَّارِ؛ لأنَّ الفخَّارَ ليس بمُنتنٍ فيُشَبَّه به في النَّتن غيرُه»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]: «والسُّفهاءُ جمعُ سفيهٍ .. ، والسَّفيهُ: الجاهلُ الضَّعيفُ الرَّأي، القليلُ المعرفَةِ بمواضِعِ المنافِعِ والمضارِّ. ولذلك سمَّى اللهُ جلَّ وعزَّ النِّساءَ والصِّبيانَ: سُفهاءَ. فقالَ تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، فقالَ عامَّةُ أهلِ التأويلِ: هم النِّساءُ والصِّبيانُ. لضَعفِ آرائِهم، وقِلَّةِ معرفتِهم بمواضِعِ المصالِحِ والمضارِّ التي تُصرَفُ إليها الأموالُ»

(2)

، وفي قولِه تعالى {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] يقولُ: «وإنَّما اخترتُ القولَ الذي قلتُ في ذلك؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى ذكرَ خبرَه وخبرَ قومِه في موضِعٍ آخرَ، فأخبرَ أنَّه لمَّا نجَّاه ممَّا حاوَلَ قومُه مِنْ إحراقِه، قالَ {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، ففسَّر أهلُ التأويلِ ذلك أنَّ معناه:

(1)

جامع البيان 14/ 59.

(2)

جامع البيان 1/ 302.

ص: 201

إنّي مهاجرٌ إلى أرضِ الشَّام. فكذلك قولُه {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99]؛ لأنَّه كقولِه {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]»

(1)

.

‌المطلبُ الرابع: ضوابطُ الاستدلالِ بالقرآن الكريمِ على المعاني ومسائِلُه.

أوَّلاً: القرآنُ قَطعيُّ الثُّبوتِ، لا يُبحَثُ فيه عن جِهةِ ورودِه؛ لتواتُرِ نقلِه، وذلك تصديقُ حفظِه الذي تكفَّلَ الله تعالى به:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]، فنُقِلَ إلينا متواتراً، مقروءاً ومكتوباً، كما أنزلَه اللهُ على رسولِه صلى الله عليه وسلم، وفي قولِه تعالى {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] دلالَةٌ على حفظِه مُشافهةً؛ حيثُ دلَّت الآيةُ على أنَّ القرآنَ سيبلُغُ قوماً غيرَ الذين أسمعَهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وله مِنْ الحُجَّةِ عليهم مثلَ ما لَه على مَنْ سمعَه مِنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً، وذلك طريقُه القطعُ لا الظَّنُّ، وإنَّما يكونُ ذلك حُجَّةً على مَنْ بلغَ مِنْ كافَّةِ الأمَّةِ بنقلِه المتواتِر.

كما أشارَ قولُه تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]-ولم يكُن صارَ حينذاكَ مكتوباً مجموعاً- إلى حفظِه الكِتابيِّ، وذلك ما كانَ مِنْ جمعِه مكتوباً في زمنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ، وعثمانَ رضي الله عنهم، وانتشارِ نُسَخِه في الآفاقِ

(2)

. فطابَقَ المكتوبُ المحفوظَ، ولم يختلفا في شيءٍ. قالَ أبو شامة (ت: 665): «وحفِظَه في حياتِه صلى الله عليه وسلم جماعةٌ مِنْ أصحابِه، وكُلُّ قِطعةٍ

(1)

جامع البيان 19/ 577. وينظر: 1/ 329، 397، 691، 2/ 23، 3/ 626، 645، 8/ 15، 14/ 360.

(2)

ينظر: الانتصار للقرآن 1/ 17 - 18، والإتقان 1/ 164.

ص: 202

مِنه كان يحفظُها جماعةٌ كثيرةٌ أقلُّهُم بالِغون حَدَّ التواتُر»

(1)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «فالمسلمون عندهم نقلٌ متواترٌ عن نبيِّهم بألفاظِ القرآنِ .. ، ويحفظون القرآنَ في صدورِهم حفظاً يستغنون به عن المصاحِفِ»

(2)

، وقالَ الزَّركشي (ت: 794): «لا خلافَ أنَّ كُلَّ ما هو مِنْ القرآنِ يجبُ أن يكونَ متواتراً»

(3)

.

ثانياً: جميعُ ما في القرآنِ عربيٌّ، قالَ الشافعيُّ (ت: 204): «ومِن جِماعِ علمِ كتابِ الله: العلمُ بأنَّ جميعَ كتابِ الله إنَّما نزَلَ بلسانِ العربِ»

(4)

، وقد دَلَّ على ذلك جُملَةُ أدلَّةٍ:

1 -

أنَّ الله تعالى أبانَ عن ذلك نصَّاً في كتابِه بقولِه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، وقولِه {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37]، وقولِه {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، قالَ الشافعيُّ (ت: 204): «والقرآنُ يدلُّ على أن ليس مِنْ كتابِ الله شيءٌ إلا بلسانِ العربِ»

(5)

.

2 -

أنَّ الله أرسلَ محمداً صلى الله عليه وسلم بلسانِ قومِه ليبَيِّن لهم، كما قالَ تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]، ولسانُه مِنْ العربيّةِ في أعلاها، «وغيرُ جائزٍ أن يكونَ به مُهتدياً مَنْ كانَ بما يَهدي إليه

(1)

المرشد الوجيز (ص: 33). وينظر: الجواب الصحيح 3/ 21.

(2)

الجواب الصَّحيح 3/ 13.

(3)

البرهان في علوم القرآن 2/ 145.

(4)

الرسالة (ص: 40).

(5)

الرسالة (ص: 42).

ص: 203

جاهِلاً»

(1)

كما قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310). «وأَوْلى النَّاسِ بالفضلِ من لسانُه لسانُ النَّبي، ولا يجوزُ أن يكونَ أهلُ لسانِه أتباعاً لأهلِ لسانٍ غيرِ لسانِه في حرفٍ واحدٍ، بل كلُّ لسانٍ تبعٌ للسانِه، وكلُّ أهلِ دينٍ قبلَه فعليهم اتِّباعُ دينِه»

(2)

كما قالَ الشافعيُّ (ت: 204).

3 -

أنَّ الله نفى عن القرآنِ كلَّ لسانٍ غيرَ لسانِ العربِ، فقالَ تعالى {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقالَ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَت: 44].

4 -

أنَّه لو كانَ فيه ما ليس بعربيٍّ لكانَ حُجَّةً لإعراضِ المشركين، كما قالَ تعالى {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 198 - 199]. وبذلك أبطلَ العلماءُ دعوى وجودَ ألفاظٍ أعجميَّةٍ في القرآنِ؛ مِنْ الحبشيَّةِ أو الفارسيَّةِ أو النبطيَّةِ أو غيرِها، وأبانوا أن معنى ما نُقِلَ مِنْ ذلك عن بعضِ السَّلفِ: الإشارةُ إلى توافُقِ اللغاتِ في تلك الألفاظِ، وأنَّ ذلك مِنْ تمثيلِ السَّلفِ لتلك المعاني، ولم يُرِدْ أحدٌ مِنهم أنَّها ليست بعربيَّةٍ.

(3)

وتقريرُ عربيَّةِ القرآنِ مِنْ المُهِمَّاتِ في بيانِ دليلِ القرآنِ؛ فلا يُخرَجُ بألفاظِه ومعانيه -تقريراً أو استدلالاً- عن استعمالاتِ العربِ، وقد أبانَ

(1)

جامع البيان 1/ 11. وينظر: 1/ 12، 20.

(2)

الرسالة (ص: 46).

(3)

ينظر: الرسالة (ص: 42، 44)، وجامع البيان 1/ 13 - 20، ومجموع الفتاوى 7/ 131، والموافقات 2/ 101 - 104، 5/ 53.

ص: 204

الشافعيُّ (ت: 204) وجهاً مِنْ ذلك بقولِه: «وإنَّما بدأتُ بما وصفتُ مِنْ أنَّ القرآنَ نزَلَ بلسانِ العربِ دون غيرِه؛ لأنَّه لا يَعلَمُ مِنْ إيضاحِ جُمَلِ الكتابِ أحدٌ جَهِلَ سَعَةَ لسانِ العربِ، وكثرَةَ وجوهِه، وجِماعَ معانيه وتفرُّقَها، ومَن عَلِمَه انتفتْ عنه الشُّبهُ التي دخلَتْ على من جهِلَ لسانَها. فكانَ تنبيهُ العامَّةِ على أنَّ القرآنَ نزلَ بلسانِ العربِ خاصَّةً = نصيحةً للمسلمين، والنَّصيحةُ لهم فرضٌ لا ينبغي تركُه»

(1)

، وقالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وإذْ كانَت واضِحةً صِحَّةُ ما قُلنا -بما عليه استشهدنا مِنْ الشَّواهِد، ودلَّلْنا عليه مِنْ الدلائِل- فالواجِبُ أن تكونَ معاني كتابِ الله المُنزَّلِ على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم لمعاني كلامِ العربِ موافِقَةً، وظاهِرُه لظاهِرِ كلامِها مُلائِماً، وإنْ بايَنَهُ كتابُ الله بالفضيلَةِ التي فَضَلَ بها سائِرَ الكلامِ والبَيانِ، بما تقدَّمَ وصفُناه»

(2)

.

ثالثاً: دلالَةُ القرآنِ على المعاني مُتفاوتةٌ، فمِن ألفاظِه وتراكيبِه ما يُقطَعُ بإفادتِها للمعنى، ومِنها ما تحتمِلُ إفادتُها، وتعدُّدُ معانيها، وذلك بعضُ معاني الإحكامِ والتَّشابُه الذي وصفَ الله تعالى به كتابَه فقالَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن المُحكَمِ: «هُنَّ اللواتي أُحكِمنَ بالبيانِ والتَّفصيلِ»

(3)

، وقالَ عن المُتشابِه:«ما تشابَهَت ألفاظُه، وتصرَّفَت معانيه بوجوهِ التَّأويلاتِ»

(4)

، وقالَ مُبيِّناً عنهُما: «فإذا كانَ

(1)

الرسالة (ص: 50).

(2)

جامع البيان 1/ 12. وينظر: الموافقات 2/ 104.

(3)

جامع البيان 5/ 188.

(4)

جامع البيان 5/ 204.

ص: 205

المُتشابِه هو ما وصَفْنا، فكُلُّ ما عداه فمُحكَمٌ؛ لأنَّه لن يخلوَ مِنْ أن يكونَ مُحكَماً: بأنَّه بمعنىً واحِدٍ؛ لا تأويلَ له غيرُ تأويلٍ واحِدٍ، وقد استُغنيَ بسماعِه عن بيانِ مُبيِّنِه. أو يكونَ مُحكَماً -وإن كانَ ذا وجوهٍ وتأويلاتٍ وتصرُّفٍ في معانٍ كثيرَةٍ-: بالدَّلالَةِ على المعنى المُرادِ مِنه؛ إمَّا مِنْ بيانِ الله تعالى ذِكرُه عنه، أو بيانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِه، ولن يذهبَ علمُ ذلك عن علماءِ الأمَّةِ؛ لِما قد بيَّنَّا»

(1)

.

وقد أبانَ اللهُ موقِفَ أهلِ الحقِّ مِنْ مُحكَمِ القرآنِ ومُتشابِهِه بقولِه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، فهُم يأخذونَ بمُحكَمِه، ويُؤمنون بمتشابِهِه، ويرُدُّونه إلى المُحكَمِ الذي هو {أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، ومَرَدُّ بَيَانِه، «وموضِعُ مَفزَعِ أهلِه عندَ الحاجَةِ»

(2)

، فيتبيَّنونَ ما تشابَهَ بما أُحكِمَ، فتجتمِعُ بذلك معاني القرآنِ ولا تتخالَفُ؛ إذْ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وإنَّما الاختلافُ والتناقَضُ فيما كانَ مِنْ عِنْدِ غيرِ الله:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

كما أبانَ اللهُ تعالى موقِفَ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ مِنْ مُتشابِه القرآنِ ومُحكَمِه، فقالَ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، فيُعرضونَ عن المُحكَمِ، ويتتبَّعون المُتشابِه، ويأخُذون مِنْ المُتشابِه ما يُوافِقُ أهوائَهُم، ويجعلونَه أصلاً مُحكَماً؛ «ليُحَقِّقوا -بادِّعائِهُم الأباطيلَ مِنْ التأويلاتِ في ذلك- ما هُمْ عليه مِنْ

(1)

جامع البيان 5/ 200. وينظر: تأويل مشكل القرآن (ص: 145).

(2)

جامع البيان 5/ 189.

ص: 206

الضَّلالَةِ والزَّيغِ عن مَحَجَّةِ الحَقِّ، تلبيساً مِنهم بذلك على من ضَعُفَتْ مَعرِفتُه بوجوهِ تأويلِ ذلك، وتصاريفِ معانيه»

(1)

، وإنَّما يفعلُ ذلك من ضَعُفَ حَظُّهُ مِنْ العلمِ والرُّسوخِ فيه، والتبَسَت به الأهواءُ، كما أشارَ اللهُ إلى ذلك بوصْفِه الفريقَ الآخرَ بقولِه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، فلو رَسخوا في العلمِ لمَا التبسَ عليهِم معناه، ولا أخطئوا منهجَ كشفِه.

(2)

رابعاً: كَونُ (دليلِ القرآنِ) مِنْ أجلِّ الأدلَّةِ وأَوْلاها لا يكفي في لُزومِ قبولِه، بل الاستدلالُ به اجتهادٌ مِنْ المفسِّرِ؛ يُنظَرُ فيه إلى قوَّةِ دلالَةِ الدَّليلِ وصراحتِه، ويُشفَعُ بغيرِه مِنْ الأدلَّةِ، كما فعلَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مواضِعَ كثيرةٍ مِنْ تفسيرِه؛ حيثُ يَقْرنُ دليلَ القرآنِ بغيرِه مِنْ الأدلَّةِ، كما في قولِه:«وذلك إن قالوه خرَجَ من قالَه مِنْ قيلِ أهلِ الإسلامِ، وخالَفَ نَصَّ كتابِ الله، وقولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنَّ الله يقولُ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]»

(3)

، فأورَدَه بين دَليلَيْ الإجماعِ والسَّنَّةِ، وكما في قولِه: «والذي هو أَوْلى بتأويلِ الآيةِ ما روَيْنا عن السُّدِّي؛ وهو أنَّ قولَه {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223]، أمرٌ مِنْ الله تعالى ذِكرُه عبادَه بتقديمِ الخيرِ والصَّالِحِ مِنْ الأعمالِ، ليومِ معادِهِم إلى رَبِّهم؛ عُدَّةً مِنهم ذلك لأنفسِهم عندَ لقائِه في موقفِ الحِسابِ؛ فإنَّه قالَ تعالى ذِكرُه {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110]. وإنَّما

(1)

جامع البيان 5/ 204.

(2)

ينظر: تأويل مشكل القرآن (ص: 143)، ومجموع الفتاوى 17/ 368، وإعلام الموقعين 4/ 58، والموافقات 3/ 315.

(3)

جامع البيان 3/ 742.

ص: 207

قُلنا: ذلك أَوْلى بتأويلِ الآيةِ؛ لأنَّ الله تعالى ذِكرُه عقَّبَ قولَه {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223]، بالأمرِ باتِّقائِه في ركوبِ معاصيه، فكانَ الذي هو أَوْلى بأن يكونَ قبلَ التَّهدُّدِ على المعصيةِ عامَّاً = الأمرُ بالطاعةِ عامَّاً»

(1)

، فأضافَ إليه دليلَ السِّياقِ، وكما في قَولِه:«يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف: 46]: وبينَ الجنَّةِ وبين النَّارِ {حِجَابٌ} [الأعراف: 46]، يقولُ: حاجِزٌ. وهو السُّورُ الذي ذكره الله تعالى فقالَ {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وهو الأعرافُ التي يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤُه فيها {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46]. كذلك حدَّثنا .. »

(2)

، ثُمَّ أسندَ معنى ذلك عن مجاهدٍ (ت: 104)، والسُّدِّي (ت: 128). فجَمَعَ إلى دليلِ القرآنِ: السِّياقَ، وأقوالَ السَّلفِ.

ولو كانَ الأخذُ بدليلِ القرآنِ لازماً حيثُما ذُكِر، لاكتفى به دون غيرِه مِنْ الأدلَّةِ، ولمَا تقدَّمَه في الذِّكرِ دليلٌ، وليس الأمرُ كذلك عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) كما سبقَ ذِكرُه.

خامساً: يشتمِلُ دليلُ القرآنِ على جميعِ أنواعِ بيانِ القرآنِ للقُرآنِ، ولا يختَصُّ بصُورَةٍ مِنه دونَ غيرِها؛ فيشمَلُ تبيينَ المُجمَلِ، وإيضاحَ المُهمَلِ، وتعيينَ المُبهَمِ، وتخصيصَ العامِّ وعكسَه، وتقييدَ المُطلَقِ، ونحوَها مِنْ أنواعِ البيانِ دونَ تمييزِ نوعٍ مِنها عن الآخرِ. وهذا يُطابِقُ ما ذكرَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في بيانِ النَّبي صلى الله عليه وسلم للقرآنِ، حيثُ ضَمَّنَه: جميعَ

(1)

جامع البيان 3/ 762.

(2)

جامع البيان 10/ 208. وينظر: 1/ 547، 2/ 393، 14/ 391، 19/ 59.

ص: 208

وجوهِ أمرِه ونهيِه، ووظائِفِ حقوقِه وحُدودِه، ومبالِغِ فرائِضِه، ومقاديرِ اللازمِ بعضَ خَلقِه لبعضٍ، وما أشبَهَ ذلك مِنْ أحكامِ آيِه

(1)

. فكذلك كانَ منهجُه في بيانِ القرآنِ للقُرآنِ.

سادساً: أبطلَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أنواعاً مِنْ الاستدلالاتِ بالقرآنِ على المعاني؛ وذلك لِمَا فيها مِنْ مُخالَفَةِ أصولِ الاستدلالِ المُعتبَرةِ على ما سيأتي بيانُه، ومِمَّا أبطلَ مِنْ ذلك:

1 -

الاستدلالُ بالقرآنِ لإثباتِ معنىً جاء القرآنُ بخلافِه؛ إذْ الواجِبُ جمعُ النُّصوصِ والتَّأليفُ بينَها، فكتابُ الله تعالى يُصدِّقُ بعضُه بعضاً، ولا يتناقَضُ، كما في قولِ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «فإن قالَ لنا قائِلٌ: وما أنكرتُم أن يكونَ معنى قولِه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]: لا تراهُ الأبصارُ؟ قُلنا له: أنكَرنا ذلك لأنَّ الله جلَّ ثناؤُه أخبرَ في كتابِه أنَّ وجوهاً -في القيامةِ- إليه ناظِرَةٌ

(2)

، وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخبرَ أُمَّتَه أنَّهُم سيرَوْن ربَّهم يومَ القيامةِ كما يُرى القمرُ ليلَةَ البَدرِ، وكما تَرَوْن الشَّمسَ ليسَ دونها سحابٌ

(3)

. قالوا: فإذْ كانَ اللهُ قد أخبَرَ في كتابِه بما أخبَرَ، وحَقَّقَتْ أخبارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا عنه مِنْ قيلِه صلى الله عليه وسلم، أنَّ تأويلَ قولِه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]: أنَّه نظرُ أبصارِ العيونِ لله جل جلاله، وكانَ كتابُ الله يُصدِّقُ بعضُه بعضاً، وكانَ مع ذلك غيرُ جائِزٍ أن يكونَ أحدُ هذين الخبرَيْن ناسِخاً للآخرِ؛ إذْ كانَ غيرَ جائِزٍ في

(1)

جامع البيان 1/ 68، 82، 88.

(2)

يُشيرُ إلى قولِه تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23].

(3)

وذلك فيما أخرجه البخاريُّ 1/ 160، 6/ 44 (806، 4581)، ومسلم 1/ 393، 399، (182، 183).

ص: 209

الأخبارِ لِمَا قد بيَّنَّا في كتابِنا: (كتابِ لطيفِ البيانِ عن أُصولِ الأحكامِ)، وغيرِه = عُلِمَ أنَّ معنى قولِه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] غيرُ معنى قولِه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، فإنَّ أهلَ الجنَّةِ ينظرون بأبصارِهم يومَ القيامةِ إلى الله، ولا يُدرِكونَه بها؛ تصديقاً لله في كلا الخبرَيْن، وتسليماً لِمَا جاءَ به تنزيلُه، على ما جاءَ به في السّورتَيْن»

(1)

.

2 -

عدمُ المُطابَقَةِ بين الدَّليلِ ومَوْضِعِ الاستدلالِ، وسببُ ذلك الاستعجالُ في الاستدلالِ، مع عدمِ التَّنبُّهِ لأنواعِ الدَّلالاتِ الأُخرى، وممَّا قالَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في ذلك: «وقد قيلَ

(2)

: معنى قولِه {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 58]: الذَّبحُ للموتِ»

(3)

، ثُمَّ أسندَ ذلك عن ابن جُرَيْج (ت: 150)، وقالَ: «وأحسَبُ أنَّ قائِلَ هذا النَّوعِ نزَعَ لقولِه {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39]، فإنَّه رُويَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قِصَّةٌ تدُلُّ على معنى ما قالَه هذا القائِلُ في قضاءِ الأمرِ

(4)

. وليس قولُه مِنْ ذلك في شيءٍ، وإنَّما هذا أمرٌ مِنْ الله تعالى ذِكرُه نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لمَن استعجَلَه فصْلَ القضاءِ بينَه وبَيْنهم مِنْ

(1)

جامع البيان 9/ 461.

(2)

يومئُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بهذا التعبيرِ إلى غرابةٍ في القولِ، أو ضعفٍ فيه، ومثلُه قولُه:(وكانَ .. يقولُ) بعد حكايةِ الأقوالِ، كما في 1/ 61، 15/ 228، 253، 17/ 551، 18/ 423، 24/ 278.

(3)

جامع البيان 9/ 281.

(4)

يشيرُ إلى حديثِ ذبحِ الموتِ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ، والذي أخرجه البخاريُّ 6/ 93 (4730)، ومسلم 6/ 311 (2849) في صحيحيهما.

ص: 210

قولِه بآيةٍ يأتيهِم بها: لو أنَّ العذابَ والآياتِ بيَدي وعِندي لعاجَلْتُكُم بالذي تسألوني مِنْ ذلك، ولكنَّه بيَدِ من هو أعلَمُ بما يُصلِحُ خلقَه مِنّي ومِنْ جميعِ خلقِه»

(1)

.

(1)

جامع البيان 9/ 281.

ص: 211

‌المبحثُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

القراءاتُ لغةً: جمعٌ واحِدُهُ قراءَةٌ، وهي مصدرٌ مِنْ قَرَأَ؛ بمعنى جَمَعَ، أو أَلْقى، كما سبقَ بيانُه في معنى القرآنِ في لغةِ العربِ

(1)

.

واصطلاحاً: وجوهُ أداءِ ألفاظِ القرآنِ المُنزَلَةُ تخفيفًا على هذه الأُمَّة، والأصلُ فيها قوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ هذا القرآنَ أُنزلَ على سبعةِ أحرفٍ، فاقرؤوا ما تيسَّرَ منه»

(2)

.

والمُرادُ بالاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني هو:

إقامَةُ القراءاتِ القُرآنيَّةِ دليلاً لتصحيحِ المعاني وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

(1)

في (ص: 157)، وينظر: تهذيب اللغة 9/ 209، ولسان العرب 1/ 124.

(2)

أخرجَه البخاري في صحيحه 6/ 184 (4992)، ومسلم في صحيحه 2/ 422 (818).

ص: 212

أو: الإبانَةُ بالقراءاتِ القرآنيَّةِ عن صِحَّةِ المعاني وبطلانِها. وذلك بأن يجعلَ معاني القراءاتِ المُختَلفَةِ في الآيةِ دليلاً على صِحَّةِ معنى آيةٍ أو بُطلانِه.

والقراءاتُ القرآنيَّةُ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) تنقسِمُ إلى قسمَيْن:

القسمُ الأوَّلُ: القراءةُ الصَّحيحةُ، وهي ما اجتمعَ فيها ثلاثةُ شروطٍ:

1 -

شُهرَةُ القراءَةِ بها، واستفاضتُها بين القُّرَّاءِ. وربما ذكرَ: إجماعَ القُرَّاءِ على صِحَّةِ القراءةِ بها، وشُذوذِ مَنْ خالفَها. وذلك فرعٌ عن اشتهارِها واستفاضَتِها. ويعبِّرُ عن ذلك بمثلِ قولِه:(جاءَتْ بها الأُمَّةُ، وقرأتْ بها القَرَأةُ، ومضى على القراءَةِ بها السَّلفُ مُستفيضٌ ذلك بينَهم، وعليها الحُجَّةُ مُجمِعةٌ)

(1)

، ووجهُ اشتراطِ ذلك ما نصَّ عليه في مواضِعَ كثيرةٍ مِنْ تفسيرِه: بأنَّ اتِّفاقَهم حُجَّةٌ، «ولا يُعترَضُ على الحُجَّةِ بقولِ مَنْ يجوزُ عليه فيما نقلَ السَّهوُ، والغفلَةُ، والخطأُ»

(2)

، ومِمَّا قالَه في ذلك:«وذلك هو القراءةُ الصَّحيحةُ عندَنا لمعنيَيْن: أحدُهُما: اتِّفاقُ الحُجَّةِ مِنْ القَرَأةِ والعلماءِ على الشَّهادةِ بتصحيحِها، وانفِرادُ المُخالِفِ لهم في ذلك، وشذوذُه عمَّا هُمْ عليه مُجمِعون، وكفى بإجماعِ الحُجَّةِ على تخطِئَةِ قراءةٍ شاهِداً على خطئِها»

(3)

، وقالَ عن بعضِ القراءاتِ:«وغيرُ جائِزةٍ قراءةُ ذلك بالياءِ؛ لشذوذِها عن قراءَةِ القَرَأةِ»

(4)

، وقالَ في موضعٍ

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 664، 2/ 161، 231، 396، 4/ 673، 5/ 276، 290، 369، 6/ 261.

(2)

جامع البيان 2/ 105. وينظر: 2/ 546، 679، 5/ 320، 6/ 122، 145، 8/ 299، 543، 545.

(3)

جامع البيان 1/ 269.

(4)

جامع البيان 2/ 609.

ص: 213

آخرَ: «والقراءةُ التي لا أستجيزُ خلافَها ما جاءَت به قَرَأَةُ الأمصارِ مُجمِعةً عليه به، نقلاً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

ولا تكفي صِحَّةُ القراءةِ سنداً؛ بل لا بدَّ مِنْ اشتِهارِها واستفاضتِها، كما قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن قراءَةٍ صحيحةِ الإسنادِ عن الزُّهري (ت: 125) في قولِه تعالى: (وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرَى)[طه: 14]

(2)

: «ولو كانَت القراءَةُ التي ذكرناها عن الزُّهريِّ قراءةً مُستفيضةً في قرَأةِ الأمصارِ = كانَ صحيحاً تأويلُ مَنْ تأوَّلَه بمعنى: أقمِ الصَّلاةَ حينَ تذكرُها»

(3)

.

2 -

أنْ توافقَ وجهاً صحيحاً في لُغةِ العربِ؛ وذلك لأمورٍ:

أوَّلُها: أنَّ القراءَةَ إذا خرجَتْ عن أوجُهِ لُغاتِ العربِ = خَرجَتْ عن كونِها قرآناً؛ لأنَّ القرآنَ إنَّما أُنزلَ بلسانِ العربِ؛ الشَّاملِ جميعَ أوجُهِ لُغاتِها.

وثانيها: أنَّ ذلك سبيلُ صِحَّةِ القراءَةِ في المعنى؛ فإنَّ الألفاظَ إذا خرجَتْ عن الوضعِ العربيِّ لها = خرجتْ المعاني عن دلالاتِ الألفاظِ المعهودةِ.

وثالثُها: أنَّ الغرضَ الأكبرَ مِنْ تنزيلِ القراءاتِ: التّيسيرُ على العربِ في تلقِّي القرآنِ زمنَ التَّنزيلِ، مع اختلافِ لُغاتِها، وتعدُّدِ لهجاتِها، فإذا

(1)

جامع البيان 20/ 238.

(2)

أخرجَها مسلم في صحيحه 2/ 308 (680)، وأبو داود في سننه 1/ 357 (436)، والنسائيُّ في سننه 1/ 323 (619)، وهي عندهُم بلامَيْن:(للذِّكرى).

(3)

جامع البيان 16/ 33.

ص: 214

خرجت القراءةُ عن شيءٍ مِنْ أوجُهِ لُغاتِها = خرجَتْ عن ذلك المقصَدِ الأعظمِ مِنها.

ومِن بيانِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في ذلك قولُه عن بعضِ القراءاتِ: «وكفى شاهِداً على خطأِ القراءَةِ بها كذلك خروجُها مِنْ قراءَةِ أهلِ الإسلامِ لو لم يكُن على خطئِها شاهِدٌ غيرُه، فكيف وهي مع ذلك خارجةٌ مِنْ المعروفِ مِنْ كلامِ العربِ»

(1)

، وقولُه عن قراءةٍ أُخرى:«وذلك لحنٌ لا تجوزُ القراءةُ به»

(2)

.

3 -

موافقتُها لرسمِ مصاحفِ المُسلمين التي بعثها عثمانُ بن عفَّان رضي الله عنه إلى أمصارِ الإسلامِ الكُبرى؛ وذلك أنَّ ما عداها منسوخٌ بالعَرضَةِ الأخيرةِ، التي جُمعَ النَّاسُ عليها، ونُسِخَتْ عنها المصاحِف

(3)

. ومِن مقالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في اشتراطِ ذلك قولُه عن بعضِ القراءاتِ: «وهي القراءةُ التي لا يجوزُ عندي غيرُها؛ لإجماعِ خطوطِ مصاحِفِ المسلمين، واتِّفاقِ قراءَةِ القَرَأةِ على ذلك»

(4)

، وقولُه:«وقد رُويَ عن ابن عباسٍ في ذلك قراءةٌ جاءَتْ مصاحِفُ المسلمين بخلافِها، وأجمعَتْ قَرَأةُ القرآنِ على تركِها»

(5)

، وقولُه:«وغيرُ جائِزٍ لنا أن نشهدَ بشيءٍ ليس في مصاحِفِنا مِنْ الكلامِ أنَّه مِنْ كتابِ الله»

(6)

.

(1)

جامع البيان 2/ 196.

(2)

جامع البيان 2/ 678. وينظر: 4/ 619، 18/ 108، 19/ 489.

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 53 - 59، والمرشد الوجيز (ص: 48 - 76).

(4)

جامع البيان 2/ 25.

(5)

جامع البيان 2/ 600.

(6)

جامع البيان 8/ 654. وينظر: 1/ 347، 2/ 725، 3/ 161، 180، 607، 7/ 684، 11/ 642.

ص: 215

وقد اجتمعتْ هذه الشُّروطُ الثَّلاثةُ في كُلِّ قراءَةٍ حكمَ عليها ابنُ جريرٍ (ت: 310) بالصِّحَّةِ والقبولِ، وقد نصَّ عليها جميعاً في هذا النَّقلِ النَّفيسِ عنه مِنْ كتابِه في القراءاتِ:(الجامعُ)، حيثُ قالَ:«ثُمَّ كلُّ مَنْ اختارَ حَرفاً مِنْ المَقبولين مِنْ الأئِمَّةِ المَشهورين بالسُّنَّةِ، والاقتداءِ بمَن مضى مِنْ عُلماءِ الشَّريعةِ = راعى في اختيارِه: الرِّوايةَ أوَّلاً، ثُمَّ موافقةَ المُصحفِ الإمامِ ثانياً، ثُمَّ العربيَّةَ ثالثاً. فمَن لم يُراعِ الأشياءَ الثَّلاثةَ في اختيارِه لم يُقبَل اختيارُه، ولم يتداوَلْه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ»

(1)

.

القسمُ الثَّاني: القراءةُ الشَّاذَّةُ، وهي كُلُّ قراءَةٍ تخلَّفَ عنها شرطٌ مِنْ شروطِ القراءةِ الصَّحيحةِ السَّابِقة، وحُكمُها: عدمُ جوازِ القراءَةِ بها. قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وهذه قراءةٌ لقَرَأةِ المسلمين مُخالِفةٌ، فغيرُ جائِزٍ لأحدٍ القراءةُ بها؛ لشذوذِها وخروجِها مِنْ قراءَةِ المتقدِّمين والمتأخِّرين، وخِلافِها ما جاءَتْ به الحُجَّةُ مِنْ المسلمين»

(2)

، وقالَ عن بعضِ القراءاتِ:«وإنْ كُنْتُ للقراءَةِ بها كارِهاً؛ لشذوذِها عن قراءَةِ القرَّاءِ، وأنَّ ما شَذَّ مِنْ القراءاتِ عمَّا جاءَتْ به الأُمَّةُ نقلاً ظاهِراً مُستفيضاً = فرأيٌ للحقِّ مُخالفٌ، وعن سبيلِ الله وسبيلِ رسولِه وسبيلِ المؤمنين مُتجانِفٌ، وإن كانَ له -لو كانَ جائِزَ القراءَةِ به- في الصَّوابِ مخرجٌ»

(3)

.

وأمثلةُ استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بالقراءاتِ على المعاني في تفسيره كثيرةٌ ظاهِرةٌ، وهي على نوعين:

(1)

شرح الدّرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع، للمنتوري (2/ 864).

(2)

جامع البيان 2/ 382.

(3)

جامع البيان 1/ 182. وينظر: 3/ 54، 180، 337، 587، 707، 4/ 385، 619، 5/ 91.

ص: 216

النَّوعُ الأوّلُ: استدلالُه بالقراءاتِ لقبولِ المعاني وتصحيحِها، ومِن ذلك قولُه: «ومِن الدَّليلِ على صِحَّةِ ما قُلنا: أنَّ ذلك كذلك في قراءَةِ ابنِ مسعودٍ: (والذي جاءوا بالصِّدقِ وصدَّقوا به)[الزُّمر: 33]

(1)

، فقد بُيِّنَ ذلك مِنْ قراءتِه؛ أنَّ {الذي} مِنْ قولِه {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزُّمَر: 33] لم يُعنَ بها واحِدٌ بعينِه، وأنَّه مُرادٌ بها جِماعٌ ذلك صِفَتُهم، ولكنَّها أُخرجَتْ بلفظِ الواحِدِ؛ إذْ لم تكُن موقَّتةً

(2)

(3)

، وقالَ: «وقد ذُكِرَ أنَّها في قراءَةِ ابنِ مسعودٍ: (ذلك جزاءُ أعداءِ الله النَّارُ دارُ الخُلْدِ)[فصلت: 28]

(4)

، ففي ذلك تصحيحُ ما قُلنا مِنْ التَّأويلِ في ذلك»

(5)

، وقالَ أيضاً:«وإنْ كانَ الذي اخترنا مِنْ التأويلِ فيه أشبهَ بالصَّوابِ؛ لإجماعِ القَرَأةِ على قراءَةِ قولِه {وَقَضَيْنَا} [الإسراء: 4] بالتَّاءِ دون الياءِ»

(6)

.

النَّوعُ الثَّاني: استدلالُه بالقراءاتِ لرَدِّ المعاني وإبطالِها، ومِن أمثلَتِه قولُه عن بعضِ المعاني:«وهذا مِنْ التأويلِ غلطٌ؛ لأنَّ أهلَ التأويلِ تأوَّلوه بخلافِ ذلك، مع إجماعِ الحُجَّةِ مِنْ القَرَأةِ على قراءتِه بالمعنى الذي جاء به تأويلُ أهلِ التأويلِ»

(7)

، وقولُه عند قولِه تعالى {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ

(1)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: القراءات الشّاذَّة، لابن خالوَيْه (ص: 132).

(2)

أي: مُحدَّدةً. ينظر: تاج العروس 5/ 134.

(3)

جامع البيان 20/ 207.

(4)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: معاني القرآن، للفرّاء 3/ 17، ومعاني القرآن، للنحّاس 6/ 264، ونسبَها القرطبيّ في الجامع لأحكامِ القرآن 18/ 414 لابنِ عبّاس رضي الله عنه.

(5)

جامع البيان 20/ 419.

(6)

جامع البيان 14/ 456. وينظر: 8/ 407، 534، 9/ 674، 11/ 622، 15/ 355، 517، 19/ 509.

(7)

جامع البيان 24/ 393.

ص: 217

بِهِنَّ} [الأحزاب: 52]: «وأمَّا الذي قالَه ابنُ زيدٍ في ذلك أيضاً فقولٌ لا معنى له؛ لأنَّه لو كانَ بمعنى المُبادلَةِ لكانَتْ القراءَةُ والتَّنزيلُ: ولا أن تُبادِلَ بهنَّ مِنْ أزواجٍ. أو: ولا أن تُبَدِّلَ بهنَّ. بضمِّ التَّاءِ، ولكنَّ القراءَةَ المُجمَعَ عليها: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} [الأحزاب: 52]، بفتحِ التَّاءِ، بمعنى: ولا أن تستبدِلَ بهنَّ»

(1)

، وقالَ أيضاً: «وفي قراءَةِ عبد الله بن مسعودٍ: {سلامٌ على إدْراسين} [الصافات: 130]

(2)

دلالَةٌ واضِحةٌ على خطأِ قولِ مَنْ قالَ: عُنيَ بذلك: سلامٌ على آلِ محمدٍ. وفسادِ قراءَةِ مَنْ قرأَ: {وإنْ الياسَ} [الصافات: 123]

(3)

بوَصلِ النُّونِ مِنْ (إنْ) بإلياسَ، وتوجيهِ الألِفِ واللامِ فيه إلى أنَّهُما أُدخِلتا تعريفاً للاسْمِ الذي هو (ياسُ)؛ وذلك أنَّ عبدَ الله كانَ يقول: إلْياسُ هو إدريسُ، ويقرأُ: {وإنَّ إدريسَ لَمِن

(1)

جامع البيان 19/ 153.

(2)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: المصاحف 1/ 332.

(3)

هو وَجهٌ لابنِ عامرٍ الشّاميِّ (ت: 118) مِنْ السَّبعةِ. ينظر: التَّيسير (ص: 187)، والنَّشر 2/ 357.

وابنُ جريرٍ (ت: 310) في ردِّه لأمثالِ هذه القراءاتِ التي تواترَت يقصِدُ إلى أحدِ مَعنيَيْن:

أحدهما: ردُّها في الاختيارِ؛ بمعنى أنَّ غيرَها أَوْلى مِنها، لوَجهٍ مِنْ وجوهِ التَّقديمِ.

وثانيهما: ردُّها في الاعتبارِ؛ بمعنى أنَّها لا تصحُّ قراءةً، بل هي باطلةٌ.

وعباراتُه تتفاوتُ في الدَّلالةِ على كلا الوَجهَيْن، ومِن هُنا دخلَ اللَّبسُ على مَنْ نسبَ ابنَ جريرٍ (ت: 310) إلى إنكارِ شيءٍ مِنْ القراءاتِ المُتواترةِ، ودون صِحَّةِ ذلك إثباتُ أمرَيْن: الأوَّلُ مِنهما: أنّ تلك القراءةَ مُتواترةٌ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310). والثّاني: أنَّ عبارتَه صريحةٌ في الإبطالِ، وغيرُ مُحتملةٍ للاختيارِ.

والمَقطوعُ به فيما وقَفتُ عليه مِنْ كلامِه في القراءاتِ: أنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) لم يرُدَّ قراءةً ثبتَتْ عنده باستفاضةِ وشُهرةِ ما قبِلَه مِنْ القراءاتِ. ولعلَّ الله أن يُيَسِّرَ تفصيلَ ذلك في دراسةٍ مُستقلَّةٍ بإذن الله. وينظر: الاختيارُ في القراءات، للدكتور عبد الفتاح شلبي، ومقالات في علوم القرآن وأصول التَّفسير (ص: 312 - 327).

ص: 218

المُرسَلين} [الصافات: 123]

(1)

، ثُمَّ يقرأُ على ذلك:{سلامٌ على إدْراسين} [الصافات: 130]، كما قرأَ الآخرون:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]»

(2)

.

وقد بلغَت المواضِعُ التي استدَلَّ فيها بالقراءاتِ على المعاني (165) موضِعاً، ونسبة ذلك مِنْ مجموع الأدلَّة (1. 5%).

ولَم يجرِ في ذِكرِ دليلِ القراءاتِ في تلك المواضِعِ على ترتيبٍ خاصٍّ، بل يذكرُها حيثُما احتاجَ إليها في الإبانةِ عن المعنى؛ ويشملُ ذلك ذكرَها ضمنَ عرضِ وجوهِ القراءاتِ في الآيةِ وتوجيهِها، وفي معرضِ ذكرِ الأقوالِ في الآيةِ، وعندَ التَّرجيحِ بينها.

‌المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

الاحتجاجُ بالقراءاتِ الصَّحيحةِ -بشُروطِها الثَّلاثةِ السَّابقةِ- مِنْ جنسِ الاحتجاجِ بالقرآنِ الكريمِ؛ لأنَّ كُلَّ قراءةٍ صحيحةٍ بمثابَةِ آيَةٍ مُستَقِلَّةٍ، وذلك أنَّ كيفيَّاتِ أداءِ الكلماتِ القرآنيَّةِ إنَّما ثَبَتَتْ بتنزيلٍ مِنْ الله تعالى ذِكرُه، فعن عمرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:«إنَّ هذا القرآنَ أُنزلَ على سبعةِ أحرفٍ، فاقرؤوا ما تيسَّرَ مِنه»

(3)

، وعن أبيِّ بن كعب رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «أنَّ جبريلَ أخبرَه: إنَّ الله يأمُرُك أن تُقرئَ أُمَّتك على سبعةِ أحرُفٍ، فأيَّما حرفٍ قرؤوا عليه فقد

(1)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: القراءات الشّاذَّة، لابن خالوَيْه (ص: 128).

(2)

جامع البيان 19/ 621. وينظر: 19/ 572، 21/ 66.

(3)

أخرجَه البخاري في صحيحه 6/ 194 (5041)، ومسلم في صحيحه 2/ 422 (818).

ص: 219

أصابوا»

(1)

، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «وقد بيَّنَّا أنَّ القراءَتَين كالآيَتَين، فزيادةُ القراءاتِ كزيادَةِ الآياتِ»

(2)

، وقالَ الشوكانيُّ (ت: 1250): «وقد تقرَّرَ أنَّ القراءَتين بمنزلةِ الآيتين»

(3)

، وقالَ الشنقيطي (ت: 1393): «إنَّ القراءتين إذا ظهرَ تعارضُهما

(4)

في آيةٍ واحِدةٍ لهُما حُكمُ الآيتين كما هو معروفٌ عند العُلماءِ»

(5)

.

أمَّا الاحتجاجُ بالقراءاتِ الشَّاذَّةِ على المعاني فالعُلماءُ فيه على مذهبَيْن:

المذهبُ الأوَّلُ: عدمُ صِحَّةِ الاحتجاجِ بها، وهو روايةٌ عن مالك (ت: 179)، وإليه ذهبَ ابنُ العربي (ت: 543)، والرَّازي (ت: 604)، وجماعةٌ مِنْ الأصوليين

(6)

. واحتجّوا بما يأتي:

1 -

أنَّ القراءَةَ الشَّاذَّةَ رُويَتْ على أنها قرآنٌ، فلم تثبُت قرآناً، فلا يثبتُ الاحتجاجُ بها؛ «ووجهُه أنَّه لمَّا لم يذكُره إلا لكونِه قرآناً، فبطلَ كونُه قرآناً = بطلَ عن أصلِه، فلا يُحتجُّ به على شيءٍ»

(7)

.

(1)

أخرجَه مسلم في صحيحه 2/ 424 (821).

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 400.

(3)

فتحُ القدير 1/ 226.

(4)

القراءات المقبولةُ لا تتعارضُ، بل تتخالَف.

(5)

أضواء البيان 2/ 11.

(6)

ينظر: أحكام القرآن 1/ 115، والتَّفسير الكبير 11/ 179، 12/ 65، وشرح صحيح مسلم، للنووي 2/ 271، ومجموع الفتاوى 13/ 394، وشرح الكوكب المنير 2/ 138 - 140. وهذا القولُ يُحكى عن الشافعيّ (ت: 204)، «ولا يصحُّ عنه، بل نصُّه واختيارُ أكثرِ أصحابِه كقولِنا» ، كما قالَ ابنُ اللحام (ت: 803) في مختصره (ص: 72)، وأيَّدَ هذا وفصَّله الزَّركشي في البحر المحيط 1/ 385.

(7)

أضواء البيان 5/ 266.

ص: 220

2 -

أنَّه يحتملُ أن يكونَ مذهباً للصَّحابي، ومع التردُّدِ بين كونِه كذلك وكونِه قرآناً = لا يُعمَلُ به.

والمذهبُ الثَّاني: صِحَّةُ الاحتجاجِ بالقراءاتِ الشَّاذّةِ، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ (ت: 150)، والشافعيّ (ت: 204)، وأحمد (ت: 241)، وعليه أكثرُ العُلماءِ، وذكرَه ابنُ عبد البَرِّ (ت: 463) إجماعاً

(1)

، واستدلّوا له بما يأتي:

1 -

أنَّ هذه القراءاتِ التي يُخبرُ الصحابيُّ أنَّه سمعها مِنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم أو ممَّن سمعها مِنه، ويعملُ بها في دينِه، ويقرأُ بها في صلاتِه = لا تخلوا إمَّا أن تكونَ قرآناً أو خبراً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإن كانَتْ قرآناً: فإمَّا أن توافقَ رسمَ المُصحفِ أو لا، فإن وافقت رسمَ المُصحفِ فهي مِنْ أحدِ الأحرفِ السَّبعةِ قطعاً، وإن لم توافق رسمَ المُصحفِ فلا سبيلَ إلى القطعِ بعدمِ كونِها مِنْ بعضِ الأحرفِ السبعةِ، وقد تقرَّرَ أنَّ الأحرفَ السَّبعةَ لا تتناقضُ في المعاني، ولا تتخالفُ في المعنى الواحِد؛ إذْ كُلُّها وحيٌ مِنْ حكيمٍ حميدٍ

(2)

. فصحَّ الاحتجاجُ بها مِنْ هذا الوجه.

فإنْ لم تكُنْ -تلك القراءاتُ- قرآناً فلا تنزلُ عن أن تكونَ خبراً نقلَه الصحابيُّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، بلفظِه أو بمعناه، وما كانَ كذلك فهو حُجَّةٌ

ص: 221

قطعاً. وبهذا تكونُ القراءةُ الشَّاذَّةُ كلاماً «مسموعاً مِنْ الشَّارعِ، وكلُّ قولِه حُجَّةٌ»

(1)

.

فإن لم تكُن خبراً مسموعاً مِنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم فلا تنزلُ عن أن تكونَ قولاً للصَّحابيِّ في معنى الآيةِ، وقولُه حُجَّةٌ. ويُنبَّه هنا إلى أنَّ هذا الاحتمالَ الأخيرَ لا يَردُ مُطلقاً فيما ينسِبُه الصحابي قراءةً إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما يقرأُ به قرآناً -كما سيأتي في الإجابةِ عن المذهب الأوَّل-، وإنَّما يُتصوَّرُ ورودُ ذلك الاحتمال فيما ينقلُه التَّابعيُّ عن الصحابيِّ موقوفاً، ظنّاً مِنه أن ذلك وجهٌ مِنْ القراءةِ له، وإنَّما قالَه الصحابيُّ تفسيراً، ومِن ثمَّ فقولُ القرطبيِّ (ت: 671): «وما يُؤثَرُ عن الصَّحابةِ والتّابعين أنَّهم قرؤوا بكذا وكذا، إنَّما ذلك على جِهةِ البيانِ والتَّفسيرِ»

(2)

، ليس على عمومِه؛ بل مِنه ما هو كذلك، ومِنه ما ينصُّ الصحابيُّ على أنَّه مِنْ قراءةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو مِنْ قراءتِه هو، أو يشتهرُ عنه هذا الوجهُ مِنْ القراءةِ، أو يُنقَلُ عنه مِنْ غيرِ طريقٍ، وأقلُّه ما يُخطئُ التابعيُّ في نسبتِه قراءةً إلى الصَّحابةِ رضي الله عنهم.

2 -

أنَّ السَّلفَ لم يزالوا يحتجّون بهذا النوعِ مِنْ القراءاتِ، ويستفيدون مِنها المعاني واللُّغاتِ والأحكامَ، قالَ مجاهد (ت: 104) في قولِه تعالى {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء: 93]: «كنَّا لا ندري ما الزُّخرف، حتى رأيناه في قراءَةِ ابن مسعودٍ:(أو يكونَ لك بيتٌ مِنْ ذهبٍ)[الإسراء: 93]

(3)

(4)

، وقالَ: «لو كنتُ قرأتُ قراءَةَ ابنَ مسعودٍ لم

(1)

قالَه ابنُ مفلح (ت: 763)، كما في شرح الكوكب المنير 2/ 139. وينظر: الجامع لأحكام القرآن 1/ 80.

(2)

الجامع لأحكام القرآن 1/ 134.

(3)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: تفسير عبد الرزّاق 2/ 317.

(4)

جامع البيان 15/ 85.

ص: 222

أحتَجْ أن أسأَلَ ابنَ عباسٍ عن كثيرٍ مِنْ القرآنِ مِمَّا سألتُ»

(1)

، وقالَ قتادةُ (ت: 117) في قولِه تعالى {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16]: «هي في مصحف ابن مسعودٍ: (وما يعبدون مِنْ دونِ الله)[الكهف: 16]

(2)

؛ فهذا تفسيرُها»

(3)

.

3 -

أنَّ مِنْ المقاصِدِ الظَّاهرةِ لتعدُّدِ القراءاتِ صحيحِها وشاذِّها = تكثيرُ المعاني، قالَ ابنُ عاشور (ت: 1393): «والظَّنُّ أنَّ الوحيَ نزلَ بالوَجهَيْن وأكثرَ = تكثيراً للمعاني، إذا جزمنا بأنَّ جميعَ الوجوهِ في القراءاتِ المشهورةِ هي مأثورَةٌ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم)

(4)

، وهذا الأثرُ للقراءاتِ الشَّاذَّةِ على المعاني كثيرٌ ظاهرٌ

(5)

، وممَّن اعتنى بإبرازِه السيوطي (ت: 911) حيثُ قالَ: «وقد اعتنيتُ في كتابي (أسرارِ التَّنزيلِ)

(6)

ببيانِ كلِّ قراءةٍ أفادَتْ معنىً زائِداً على القراءةِ المشهورةِ»

(7)

.

4 -

أنَّ كثيراً مِنْ الاستدلالِ بشواذِّ القراءاتِ إنَّما يُرادُ به إثباتُ صِحَّةِ المعنى في الاستعمالِ العربيِّ، قالَ ابنُ عاشور (ت: 1393): «ذِكرُ

(1)

جامع الترمذي 5/ 200.

(2)

قراءةٌ شاذَّةٌ. أخرجَها ابنُ جرير هنا، وعزاها السيوطي في الدُّرِّ 5/ 327 لابن أبي حاتم.

(3)

جامع البيان 15/ 182. وينظر: 3/ 621، 4/ 135، 154، 7/ 668، 15/ 622، 19/ 16، 23/ 93.

(4)

التحرير والتنوير 1/ 55.

(5)

ينظرُ: القسم الثاني من كتاب (القراءات وأثرها في التَّفسير والأحكام) 1/ 365 - 2/ 929.

(6)

مطبوعٌ باسم: (قطفِ الأزهارِ في كشفِ الأسرارِ)، ينظر منه (ص: 97).

(7)

الإتقان 2/ 534.

ص: 223

القراءَةِ كذِكرِ الشّاهدِ مِنْ كلامِ العربِ»

(1)

، وهذا النوعُ مِنْ الاستدلالِ إنَّما يُحتاجُ فيه إلى سلامةِ عربيَّةِ مَنْ تُعزى إليه القراءةُ، ولا يُلتَفَتُ فيه إلى ثبوتِها عمَّن فوقَه، «كما احتجّوا على أنَّ أصلَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] أنَّه منصوبٌ على المفعولِ المُطلَقِ = بقراءَةِ هارون العَتَكيّ

(2)

: (الحمدَ لله)[الفاتحة: 2] بالنَّصبِ -كما في الكشَّافِ-

(3)

، وبذلك يظهرُ أنَّ القراءَةَ لا تُعدُّ تفسيراً مِنْ حيثُ هي طريقٌ في أداءِ ألفاظِ القرآنِ، بل مِنْ حيثُ إنَّها شاهِدٌ لُغويٌّ»

(4)

.

وقد أجابوا عن ما احتجَّ به مَنْ منعَ ذلك بما يأتي:

1 -

أنَّه لا تلازُمَ بين الحُكمِ بعدمِ قرآنيَّتِها، وعدمِ الاحتجاجِ بها، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «ومثلُه احتجاجُ أكثرِ العلماءِ بالقراءاتِ التي صحَّت عن بعضِ الصَّحابةِ مع كونِها ليست في مصحفِ عثمان رضي الله عنه، فإنَّها تضمَّنت عملاً وعلماً، وهي خبرُ واحدٍ صحيحٍ، فاحتجّوا بها في إثباتِ العملِ، ولم يثبتوها قرآناً؛ لأنَّها مِنْ الأمورِ العلميَّةِ التي لا تثبُت إلا بيقينٍ»

(5)

.

2 -

قالَ ابنُ قدامة (ت: 620): «وقولُهم يجوزُ أن يكونَ مذهباً. قلنا:

(1)

التحرير والتنوير 1/ 25.

(2)

هارون بن موسى الأزدي العَتَكيّ بالولاء، أبو عبد الله الأعور، رأسٌ في النحو، وله قراءةٌ معروفةٌ، وصنَّف في الوجوه والنَّظائِرِ في القرآن، ومات نحو (170). ينظر: إنباه الرواة 3/ 361، وغاية النّهاية 2/ 303.

(3)

/ 19، ونسبَها ابنُ خالوَيْه (ت: 370) لبعضِ العربِ، وهي قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: القراءات الشّاذَّة (ص: 1).

(4)

التحرير والتنوير 1/ 25.

(5)

مجموع الفتاوى 20/ 260. وينظر: أضواء البيان 5/ 266.

ص: 224

لا يجوزُ ظنُّ مثلِ هذا بالصَّحابةِ رضي الله عنهم؛ فإنَّ هذا افتراءٌ على الله وكذبٌ عظيمٌ؛ إذْ جعلَ رأيَه ومذهبَه الذي ليس هو عن الله تعالى ولا عن رسولِه = قرآناً، والصَّحابةُ رضي الله عنهم لا يجوزُ نسبةُ الكذبِ إليهم في حديثِ النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيرِه، فكيف يكذبون في جعلِ مذاهبِهم قرآناً! هذا باطلٌ يقيناً»

(1)

.

والمذهبُ الثَّاني هو الصَّوابُ، وعليه أكثرُ العلماءِ، وعامَّةُ المُفسّرين، ولا يُكادُ يُرى أثرُ هذا الخلافِ في كتبِ التَّفسيرِ، بل الأصلُ فيها نقلُ هذه القراءاتِ، والاحتجاجُ بها ضمنَ قواعِدِ الاستدلالِ المُعتبرَةِ، قالَ أبو عبيدٍ القاسمُ بن سلام (ت: 224): «فأمَّا ما جاءَ مِنْ هذه الحروفُ التي لم يؤخذ علمُها إلا بالإسنادِ والرواياتِ التي تعرفُها الخاصَّةُ مِنْ العلُماءِ دونَ عوامِّ النَّاسِ = فإنَّما أردَ أهلُ العلمِ مِنها أن يستشهدوا بها على تأويلِ ما بين اللوحَيْن، ويكون دلائِلَ على معرفةِ معانيه، وعلمِ وجوهِه، وذلك كقراءَةِ حفصةَ وعائِشةَ:(حافظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ)[البقرة: 238]

(2)

، وكقراءةِ ابنِ مسعودٍ:(والسَّارقون والسَّارقاتُ فاقطعوا أيمانَهم)[المائدة: 38]

(3)

.. ، فهذه الحروفُ وأشباهٌ لها كثيرةٌ قد صارَت مفسِّرةً للقرآنِ، وقد كانَ يُروى مثلُ هذا عن بعضِ التّابعين في التَّفسيرِ فيُستَحسَنُ ذلك، فكيف إذا رُويَ عن لُبابِ أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صارَ في نفسِ القراءَةِ! فهو الآن

(1)

نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر 1/ 149. وينظر: شرح الكوكب المنير 2/ 139.

(2)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: قراءات النَّبي صلى الله عليه وسلم، للدّوري (ص: 77)، والمصاحف 1/ 352، 365، 371.

(3)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: القراءات الشّاذَّة، لابن خالوَيْه (ص: 33).

ص: 225

أكثرُ مِنْ التَّفسيرِ وأقوى، وأدنى ما يُستَنبَطُ مِنْ علمِ هذه الحروفِ: معرفةُ صحَّةِ التأويلِ. على أنَّها مِنْ العلمِ الذي لا يعرفُ العامَّةُ فضلَه، إنَّما يعرفُ ذلك العُلماءُ»

(1)

، وقالَ ابنُ جِنِّي (ت: 392): «لكنَّ غرضَنا أن نُرِيَ وجهَ قوَّةِ ما يُسمّى الآنَ شاذّاً، وأنَّه ضاربٌ في صحَّةِ الروايةِ بِجِرانِه، آخذٌ مِنْ سمتِ العربيَّةِ مُهلةَ ميدانِه؛ لئلا يَرَى مَرِيٌ

(2)

أنَّ العدولَ عنه إنَّما هو غضٌّ مِنه، أو تهمةٌ له. ومعاذ الله! وكيف يكونُ هذا والروايةُ تُنميهِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقولُ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وهذا حكمٌ عامٌّ في المعاني والألفاظِ، وأخذُه هو الأخذُ به. فكيف يسوغُ مع ذلك أن ترفضَه وتجتنبَه! فإن قَصُر شيءٌ مِنه عن بلوغِه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلن يقصُرَ عن وجهٍ مِنْ الإعرابِ داعٍ إلى الفسحةِ والإسهابِ، إلا أنَّنا وإن لم نقرأ في التِّلاوةِ به مخافَةَ الانتشارِ فيه، ونُتابعُ مَنْ يَتبَعُ في القراءةِ كلَّ جائزٍ روايةً ودرايةً، فإنَّا نعتقدُ قوةَ هذا المسمّى شاذّاً، وأنَّه مما أمرَ الله تعالى بتقبُّلِه، وأرادَ منَّا العملَ بموجبِه، وأنه حبيبٌ إليه، ومرضيٌّ مِنْ القولِ لديه. نعَمْ، وأكثرُ ما فيه أن يكونَ غيرُه مِنْ المجتمعِ عندهم عليه أقوى مِنه إعراباً، وأنهضُ قياساً؛ إذ هما جميعًا مرويَّانِ مسندانِ إلى السَّلفِ رضي الله عنهم)

(3)

.

بل نقلَ ابنُ عبد البرِّ (ت: 463) إجماعَ العُلماءِ العمليِّ على الاحتجاجِ بالقراءاتِ الشّاذّةِ في التَّفسيرِ، فقالَ: «وفي هذا الحديثِ دليلٌ على ما ذهبَ إليه العُلماءُ مِنْ الاحتجاجِ بما ليس في مُصحفِ

(1)

فضائل القرآن (ص: 195). وينظر: البرهان في علوم القرآن 1/ 336، والإتقان 2/ 533.

(2)

المَرِي: هو الرَّجلُ المقبولُ في خَلقِه وخُلُقِه. ينظر: لسان العرب 20/ 148.

(3)

المحتسب 1/ 103.

ص: 226

عُثمانَ على جِهةِ التَّفسيرِ، فكُلُّهم يفعلُ ذلك، ويُفسِّرُ به مُجملاً مِنْ القرآنِ، ومعنىً مُستَغلقاً مِنْ مُصحفِ عُثمان، وإن لم يُقطَعْ عليه بأنَّه مِنْ كتابِ الله، كما يُفعَلُ بالسُّننِ الواردةِ بنقلِ الآحادِ العُدولِ، وإن لم يُقطَعْ على معناها»

(1)

.

ومَن قصدَ مِنْ المُفسِّرين إلى عدمِ إيرادِ الشَّواذِّ مِنْ القراءاتِ استغناءً بالمُتواتِرِ مِنها، فقد فاتَه الكثيرُ مِنْ الشَّواهِدِ والدَّلائِلِ المُبيِّنةِ لمعاني الآياتِ، والمُرجِّحةِ للأقوالِ فيها، مع بُعد هذا المَسلكِ عن طريقةِ السَّلفِ.

(2)

‌المطلبُ الثالثُ: أوجه الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني.

يتفرَّعُ الحديثُ عن أوجهِ الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني إلى فرعينِ، هما:

1 -

صِيَغُ إيرادِ دليلِ القراءاتِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

2 -

أوجهُ الاستدلالِ بنَوْعَيْ القراءاتِ -صحيحِها وشاذِّها- على المعاني.

وفيما يأتي بيانُهما:

الأوَّلُ: صِيَغُ إيرادِ دليلِ القراءاتِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

(1)

الاستذكار 2/ 35، وفيه:«وإن لم يُقطَعْ على مَنعِها» ، وكأنَّه تصحيفٌ، والصّوابُ ما أثبتُّه، والله أعلمُ.

(2)

كما فعلَ الشنقيطي (ت: 1393) في تفسيره، حيثُ لا يستدلُّ بالشَّاذَّةِ استقلالاً، وإنَّما تبعاً، كما في قولِه:«ولا نعتمِدُ على البيانِ بالقراءاتِ الشَّاذَّةِ، وربَّما ذكرنا القراءةَ الشَّاذَّةَ استشهاداً للبيانِ بقراءةٍ سبعيَّةٍ» . أضواء البيان 1/ 8، 28.

ص: 227

يورِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) دليلَ القراءاتِ مبيّناً به المعنى في ثلاثِ صوَرٍ:

الأولى: التصريحُ بالاستدلالِ بالقراءَةِ، ومِن ذلك قولُه:«ومِن الدَّليلِ على صِحَّةِ ما قُلنا: أنَّ ذلك كذلك في قراءَةِ ابنِ مسعودٍ»

(1)

، وقولُه:«وفي صحَّةِ التَّنزيلِ بقولِه {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] أوضَحُ الدَّلالةِ على صِحَّةِ ما قُلنا، وفسادِ قولِ مَنْ ذكَرنا قولَه في ذلك»

(2)

.

الثّانيةُ: ذِكرُ القراءَةِ مباشرةً على سبيلِ التَّدليلِ، ومِن ذلك قولُه:«وبنحو الذي قُلنا في معنى قولِه {لَيُزْلِقُونَكَ} [القلم: 51] قالَ أهلُ التأويلِ» ، ثُمَّ أسنَدَ عن ابن مسعودٍ أنَّه كانَ يقرأُ:(وإن يَكادُ الذين كفروا ليُزْهِقُونَك)[القلم: 51]

(3)

(4)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12]: «يعني أخاً أو أختاً مِنْ أُمِّه. كما حدَّثنا .. » ، ثُمَّ أسنَدَ عن سعدِ بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أنَّه كانَ يقرأُ:(وإن كانَ رجلٌ يورَثُ كلالَةً وله أخٌ أو أختٌ مِنْ أُمِّه)[النساء: 12]

(5)

(6)

.

(1)

جامع البيان 20/ 207.

(2)

جامع البيان 1/ 635. وينظر: 4/ 219، 601، 8/ 297، 534، 11/ 622، 19/ 621.

(3)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: القراءات الشّاذَّة، لابن خالوَيْه (ص: 160).

(4)

جامع البيان 23/ 203.

(5)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: فضائل القرآن، لأبي عبيد (ص: 169).

(6)

جامع البيان 6/ 483. وينظر: 8/ 62، 12/ 296، 15/ 85، 354، 357، 517، 16/ 35.

ص: 228

الثالثة: إيرادُ القراءَةِ على سبيلِ التَّعليلِ لقبولِ المعنى أو رَدِّه، ومِن ذلك قولُه:«وإنْ كانَ الذي اخترنا مِنْ التَّأويلِ فيه أشبَهَ بالصَّوابِ؛ لإجماعِ القرَأةِ على قراءَةِ قولِه {لَتُفْسِدُنَّ} [الإسراء: 4] بالتَّاءِ دون الياءِ»

(1)

، وقولُه في معنى قولِه تعالى {وَيْكَأَنَّ} [القصص: 82]: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّةِ القولُ الذي ذكَرْنا عن قتادة، مِنْ أنَّ معناه: ألمْ ترَ، ألمْ تعلمْ. للشَّاهدِ الذي ذكَرْنا فيه مِنْ قولِ الشَّاعرِ، والرِّوايةِ عن العربِ، وأنَّ {وَيْكَأَنَّ} [القصص: 82] في خطِّ المُصحفِ حرفٌ واحِدٌ. ومتى وُجِّهَ ذلك إلى غيرِ التأويلِ الذي ذكَرْنا عن قتادة فإنَّه يصيرُ حرفَين .. ، وذلك خلافُ خطِّ جميعِ المصاحِفِ .. ، فإذْ كانَ ذلك حرفاً واحداً فالصَّوابُ مِنْ التأويلِ ما قالَه قتادة»

(2)

.

الثَّاني: أوجهُ الاستدلالِ بنَوْعَيْ القراءاتِ -صحيحِها وشاذِّها- على المعاني.

لم يُفرِّق ابنُ جريرٍ (ت: 310) بين القراءةِ الصَّحيحةِ والشَّاذَّةِ في احتجاجِه بالقراءاتِ على المعاني، بل بلغَ ما استدلَّ به مِنْ القراءاتِ الشَّاذَّةِ على المعاني (151) موضِعاً، وذلك نسبتُه (91. 5%) مِنْ مجموعِ أدلَّةِ القراءاتِ في تفسيرِه. أمَّا القراءاتُ الصَّحيحةُ فقد بلغَ ما استدلَّ به مِنها على المعاني (14) موضِعاً، وذلك نسبتُه (8. 5%) مِنْ مجموعِ أدلَّةِ القراءاتِ في تفسيرِه.

(1)

جامع البيان 14/ 456.

(2)

جامع البيان 18/ 341 - 342. وينظر: 5/ 221، 364، 701، 7/ 684، 15/ 355، 24/ 492، 554.

ص: 229

وواضِحٌ مِنْ هذه النِّسبةِ أنَّ ما تُفيدُه القراءَةُ الشَّاذَّةُ مِنْ المعاني أكثرُ؛ لأنَّها تشملُ وجوهاً مِنْ الأحرُفِ السَّبعةِ أكثرَ ممَّا اشتملَ عليه مصحفُ عثمان رضي الله عنه وما نُسِخَ عنه، ومِن ثَمَّ وقعَ الاستدلالُ بها أكثرُ، وهذا يشيرُ إلى أهميَّةِ جمعِ القراءاتِ الشَّاذَّةِ وتدوينِها؛ لا للقراءَةِ بها، وإنَّما للاستفادةِ مِنها في تبيينِ المعاني واللُّغاتِ والأحكامِ، كغيرِها مِنْ الشَّواهِدِ والدَّلائِل.

‌المطلبُ الرابع: ضوابطُ الاستدلالِ بالقراءاتِ على المعاني ومسائِلُه.

أوَّلاً: ضابطُ القراءَةِ التي يصح الاستدلالُ بها على المعاني هي: كُلُّ قراءَةٍ مأثورةٍ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وصحابتِه الكرامِ رضي الله عنهم. وما كانَ كذلك فإمَّا أن يكونَ قراءةً صحيحةً؛ وهي حُجَّةٌ إجماعاً، وإمَّا أن يكونَ قراءةً شاذَّةً؛ والصَّحيحُ مِنْ قَوْلَيْ العُلماءِ أنَّها حُجَّةٌ لا في القراءةِ بها.

ثانياً: لا فرقَ في الاحتجاجِ للمعنى بين نَوعَيْ القراءاتِ، ولا تتقدَّمُ إحداهُما على الأُخرى بهذا الاعتبارِ؛ ومِن أدلَّةِ ذلك في تطبيقِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) أنَّه لم يعتبِرْ شذوذَ القراءَةِ سبباً يمنعُ مِنْ الاستدلالِ بها، أو يؤخِّرُها عن غيرِها في جميعِ المواطِنِ التي خالفَتْ فيها قراءَةً صحيحةً. ووجهُ ذلك بيِّنٌ؛ وهو أنَّ المُقابلَةَ هنا بين معنىً ومعنىً، لا بين قراءةٍ وقراءةٍ، ومعلومٌ أنَّه لا تلازُمَ بين قطعيَّةِ ثبوتِ القراءةِ الصَّحيحةِ، وقطعيَّةِ معناها، ومِن ثَمَّ تتعادلُ معاني القراءاتِ الصَّحيحةِ والشَّاذَّةِ، وتتأخَّرُ القراءةُ الشَّاذَّةُ إن تعلَّقَ الأمرُ بالثُّبوتِ.

ص: 230

ومِن أمثلةِ ذلك ما بيَّنَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) عند قولِه تعالى {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61]، حيثُ ذكرَ القولَ الأوَّل: أنَّ المُرادَ مصراً مِنْ الأمصارِ، لا مصراً بعينِه. وذكرَ مِنْ حُجَّتِهم قراءةَ عامَّةِ القُّرَّاءِ: بتنوينِ مصرَ. ثمَّ ذكرَ القولَ الثاني: أنَّ المُرادَ مصرَ التي كانَ بها فرعون. وذكرَ مِنْ حُجَّتِهم أنَّها في قراءةِ أُبيِّ بن كعبٍ، وابنِ مسعودٍ:(مصرَ)[البقرة: 61]

(1)

بغيرِ ألفٍ. ثُمَّ قالَ: «والذي نقولُ به في ذلك: أنَّه لا دلالَةَ في كتابِ الله جلَّ ثناؤُه على الصَّوابِ مِنْ هذين التأويلَين، ولا خبَرَ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم يقطعُ مجيئُه العذرَ، وأهلُ التَّأويلِ مُتنازِعون في تأويلِه .. ، وجائزٌ أن يكونَ ذلك القرارُ مصرَ، وجائِزٌ أن يكونَ الشَّامَ. فأمَّا القراءةُ فإنَّها بالألفِ والتَّنوينِ: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61]، وهي القراءةُ التي لا يجوزُ عندي غيرُها؛ لإجماعِ خطوطِ مصاحِفِ المسلمين، واتِّفاقِ قراءَةِ القَرَأةِ على ذلك، ولم يقرأ بتركِ التنوينِ فيه وإسقاطِ الألفِ مِنه إلا مَنْ لا يجوزُ الاعتراضُ به على الحُجَّةِ فيما جاءَت به مِنْ القراءَةِ مُستفيضاً فيها»

(2)

، فالقراءةُ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) بالصَّحيحةِ فقط، وأمَّا المعنى فقد يكونُ في الصَّحيحَةِ أو الشَّاذَّةِ، ولا تتقدَّمُ إحداهُما الأُخرى بهذا الاعتبارِ، بل بغيرِه مِنْ وجوهِ الاستدلالِ.

ومثلُه ردُّه على مَنْ استدلَّ بقراءَةِ: (فما استمتعتُمْ به مِنهُنَّ إلى أجلٍ مُسمَّى)[النساء: 24]

(3)

، على أنَّ المُرادَ بالمُتعةِ في قولِه تعالى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24]: نكاحَ المُتعةِ المؤقَّت. حيثُ قالَ: «وأمَّا

(1)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: المصاحف 1/ 303، وإتحاف فضلاء البشر (ص: 180).

(2)

جامع البيان 2/ 21 - 25.

(3)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: جامع البيان 6/ 588، والمصاحف 1/ 352.

ص: 231

ما رويَ عن أبيِّ بن كعبٍ وابنِ عباسٍ مِنْ قراءَتِهِما: (فما استمتعتُمْ به مِنهُنَّ إلى أجلٍ مُسمَّى)[النساء: 24] = فقراءَةٌ بخلافِ ما جاءَتْ به مصاحِفُ المسلمين»

(1)

، وبيَّن حُجَّتَه في رَدِّ ذلك الاستدلالِ بقولِه: «وأَوْلى التأويلَيْن في ذلك بالصَّوابِ تأويلُ مَنْ تأوَّلَه: فما نكحتموه مِنهُنَّ فجامعتموه، فآتوهُنَّ أجورَهُنَّ. لقيامِ الحُجَّةِ بتحريمِ اللهِ مُتعةَ النِّساءِ على غيرِ وجهِ النِّكاحِ الصَّحيحِ أو المُلكِ الصَّحيحِ، على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم).

(2)

ويؤكِّدُ ذلك أنَّه ربَّما قدَّمَ معنى الشَّاذَّةِ على الصَّحيحةِ كما في قولِه عند قولِه تعالى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12]: «يعني أخاً أو أختاً مِنْ أُمِّه»

(3)

، وقد أَخذَ هذا التَّخصيصَ مِنْ قراءَةِ سعدِ بن أبي وقَّاص رضي الله عنه التي استدلَّ بها لهذا المعنى، وهي:(ولَه أخٌ أو أختٌ مِنْ أُمِّه)[النساء: 12]

(4)

، وهي قراءةٌ شاذَّةٌ تُخالِفُ رسمَ المُصحف، وتُخصِّصُ عمومَ قراءةِ الجمهورِ، وتُقدَّمُ عليها في المعنى. ومثلُه تقديمُه لمعنى قراءةِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه:(سلامٌ على إِدْراسينَ)[الصافات: 130]، وأنَّ المُرادَ بقراءةِ الجمهورِ:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]: إلْياسَ نفسُه -وهو إدريسُ عندَ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، وليسَ آلُه كما في قراءةِ عامَّةِ أهلِ المدينةِ

(5)

، حيثُ قالَ: «فلا وجهَ على

(1)

جامع البيان 6/ 589.

(2)

جامع البيان 6/ 588. وينظر: 2/ 390، 516، 4/ 571.

(3)

جامع البيان 6/ 483.

(4)

المرجع السابق. وسبقَ تخريجُ القراءةِ (ص: 197).

(5)

كما بيَّن ذلك في 19/ 620، وهي قراءةُ نافعٍ (ت: 169) وابنِ عامرٍ (ت: 118). ينظر: السبعة (ص: 549).

ص: 232

ما ذكرنا مِنْ قراءَةِ عبدِ الله لقراءَةِ مَنْ قرأَ ذلك: (سلامٌ على آلِ ياسينَ)[الصافات: 130]

(1)

(2)

.

لكن إن تعلَّقَ الاستدلالُ بثبوتِ القراءَةِ، وتضادَّت المعاني بين القراءَتين = فالصَّحيحةُ في محلِّ التقديمِ؛ لأنَّها قطعيَّةُ الثُّبوتِ، أمَّا الشَّاذَّةُ فمِنها الصَّحيحُ، ومِنها دون ذلك، ومِن هذا البابِ كانَ تقديمُه لمعنى القراءَةِ الصَّحيحةِ على الشَّاذَّةِ في بعضِ المواطِن، كما في قولِه عن قراءةِ مَنْ قرأَ:(ومِنْ عِندِهِ عِلمُ الكتابِ)[الرعد: 43]

(3)

: «وقد رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بتصحيحِ هذه القراءةِ وهذا التأويلِ، غيرَ أنَّ في إسنادِه نظراً»

(4)

، ثُمَّ ذكرَه، وقالَ:«وهذا خبرٌ ليس له أصلٌ عند الثِّقاتِ مِنْ أصحابِ الزُّهري؛ فإذا كانَ ذلك كذلك، وكانَت قرَأةُ الأمصارِ مِنْ أهلِ الحِجازِ والشَّامِ والعراقِ على القراءةِ الأخرى، وهي: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]، كانَ التأويلُ الذي على المعنى الذي عليه قرَأةُ الأمصارِ أَوْلى بالصَّوابِ مِمَّا خالَفَه»

(5)

، وكذا قولُه عن قراءةِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه:(فما يسْتَطيعونَ لك صرفاً)[الفرقان: 19]

(6)

: «فإنْ تكُنْ هذه الروايةُ عنه صحيحةٌ، صحَّ التأويلُ الذي تأوَّلَه ابنُ زيدٍ في قولِه {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} ، ويصيرُ قولُه {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} خبراً عن المشركين

(1)

سبقَ تخريجُ القراءةِ (ص: 188).

(2)

جامع البيان 19/ 621.

(3)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: قراءات النَّبي صلى الله عليه وسلم، للدّوري (ص: 116).

(4)

جامع البيان 13/ 586.

(5)

جامع البيان 13/ 587.

(6)

قراءةٌ شاذَّةٌ، أخرجَها ابنُ جريرٍ في هذا الموضعِ.

ص: 233

أنَّهم كذَّبوا المؤمنين»

(1)

، وذلك في مُقابِلِ قولِ مجاهدٍ (ت: 104) أنَّ ذلك خبرٌ عن أولياءِ الله في تكذيبِهم الكافرين في زعمِهم أنَّهم دعَوْهم إلى الضَّلالةِ وأمروهم بها. وهو ما اختارَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) قبلَ ذلك، واستدلَّ له بالسِّياقِ.

(2)

ويُطابقُ منهجَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في هذا البابِ تعليقُ ابنِ عطيَّة (ت: 546) على قراءةِ {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] بفتحِ القافِ وضَمِّها، وكلاهما سبعيّتان

(3)

، حيثُ قال: «قال أبو عليّ

(4)

(ت: 377): هُما لغتان .. ، والفَتحُ أَوْلى؛ لأنَّها لُغةُ أهلِ الحجازِ، والأخذُ بها أَوجبُ؛ لأنَّ القرآنَ عليها نزلَ

(5)

. قالَ القاضي أبو محمد رضي الله عنه: هذه القراءاتُ لا يُظنُّ إلا أنَّها مرويَّةٌ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وبجميعِها عارضَ جبريلُ عليه السلام مع طولِ السِّنين تَوسِعةً على هذه الأُمَّةِ، وتكملةً للسَّبعةِ الأحرفِ حسْبَ ما بيَّنّاهُ في صَدرِ هذا التَّعليقِ، وعلى هذا لا يُقالُ: هذه أَوْلى مِنْ جِهةِ نزولِ القرآنِ بها. وإن رجَحَت قِراءَةٌ فبِوَجهٍ غيرِ وَجهِ النُّزولِ»

(6)

.

(1)

جامع البيان 17/ 422.

(2)

جامع البيان 17/ 420. وينظر: 2/ 18، 5/ 276.

(3)

ينظر: السَّبعة (ص: 216).

(4)

الحسنُ بن أحمد بن عبد الغفّار، أبو عليّ الفارسيّ، مِنْ أعلمِ أهلِ زمانِه بالنَّحو، صنَّف: الحُجَّة للقُرّاءِ السَّبعة، والأغفال، مات سنة (377). ينظر: إنباه الرُّواة 1/ 308، وبُغية الوُعاة 1/ 496.

(5)

ينظر: الحجَّة للقرّاء السَّبعة 3/ 78.

(6)

المحرر الوجيز 3/ 339.

ص: 234

ثالثاً: يتعيَّنُ التفريقُ بين شذوذِ القراءةِ، وشذوذِ المعنى، فإنَّ ردَّ الاستدلالَ بالقراءةِ الشَّاذَّةِ في كثيرٍ مِنْ المواضِعِ لا لشذوذِها قراءةً؛ وإنَّما لشذوذِها معنىً، ومقابلتِها بأرجحَ مِنها في الدَّليلِ، ومثالُ ذلك ردُّه على مَنْ استدلَّ بقراءَةِ:(فما استمتعتُمْ به مِنهُنَّ إلى أجلٍ مُسمَّى)[النساء: 24]

(1)

، على أنَّ المُرادَ بالمُتعةِ في قولِه تعالى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24]: نكاحَ المُتعةِ المؤقَّت. حيثُ قالَ: «وأمَّا ما رويَ عن أبيِّ بن كعبٍ وابنِ عباسٍ مِنْ قراءَتِهِما: (فما استمتعتُمْ به مِنهُنَّ إلى أجلٍ مُسمَّى) [النساء: 24] = فقراءَةٌ بخلافِ ما جاءَتْ به مصاحِفُ المسلمين»

(2)

، وبيَّن حُجَّتَه في رَدِّ ذلك الاستدلالِ بقولِه: «وأَوْلى التأويلَيْن في ذلك بالصَّوابِ تأويلُ مَنْ تأوَّلَه: فما نكحتموه مِنهُنَّ فجامعتموه، فآتوهُنَّ أجورَهُنَّ. لقيامِ الحُجَّةِ بتحريمِ اللهِ مُتعةَ النِّساءِ على غيرِ وجهِ النِّكاحِ الصَّحيحِ أو المُلكِ الصَّحيحِ، على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم).

(3)

وبهذا يتبيَّنُ أنَّه لا تلازمَ بين القراءةِ بالشَّاذِّ والاستدلالِ به، فالأوَّلُ لا يصحُّ، بخلافِ الثَّاني

(4)

، ويوضِّحُ ذلك مِنْ الأمثلةِ أيضاً قولُه عن قراءةِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وكونوا مِنْ الصَّادقين) [التوبة: 119]

(5)

: «وتأويلُ عبدِ الله -رحمةُ الله عليه- في ذلك

(1)

سبقَ تخريجُ القراءةِ (ص: 200).

(2)

جامع البيان 6/ 589.

(3)

جامع البيان 6/ 588.

(4)

وينظر: 2/ 743، 8/ 543، 9/ 674، 10/ 366.

(5)

قراءةٌ شاذَّةٌ، أخرجَها ابنُ جريرٍ مِنْ طُرُقٍ في 12/ 69 - 70.

ص: 235

على قراءَتِه = تأويلٌ صحيحٌ، غيرَ أنَّ القراءَةَ بخلافِها»

(1)

، وقولُه عن قراءةِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه (بلى أدَّارَكَ علمُهم بالآخرة) [النمل: 66]؟

(2)

على وجهِ الاستفهامِ: «وكأنَّ ابنَ عباسٍ وجَّه ذلك إلى أنَّ مخرَجَه مخرَجَ الاستهزاءِ بالمُكذِّبين بالبَعثِ»

(3)

، ثمَّ قالَ:«فأمَّا القراءةُ التي ذكرتُ عن ابنِ عباسٍ، فإنَّها وإن كانَت صحيحةَ المعنى والإعرابِ = فخلافٌ لما عليه مصاحفُ المسلمين؛ وذلك أنَّ في (بلى) زيادةُ ياءٍ في قراءَتِه ليستْ في المصاحفِ، وهي مع ذلك قراءةٌ لا نعلمُها قرأَ بها أحدٌ مِنْ قرَأةِ الأمصارِ»

(4)

، وقالَ عن قراءةِ (أمَا أنا خيرٌ مِنْ هذا الذي هو مَهينٌ) [الزخرف: 52]

(5)

؟ على الاستفهامِ: «ولو كانَت هذه القراءَةُ قراءةً مستفيضةً في قرَأةِ الأمصارِ = لكانَتْ صحيحةً، وكانَ معناها حسناً، غيرَ أنَّها خلافُ ما عليه قرَأةُ الأمصارِ؛ فلا أستجيزُ القراءةَ بها، وعلى هذه القراءةِ -لو صحَّت- لا كُلفةَ له في معناها ولا مُؤْنةَ»

(6)

.

رابعاً: القراءةُ الشَّاذَّةُ تُعامَلُ في الاستدلالِ معاملةَ الأثرِ؛ فإن كانَت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فيُتبَعُ فيها منهجَ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ، وإن كانَت عن السَّلفِ فيُتبَعُ فيها منهجَ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ، على ما سيأتي بيانُه في كلٍّ

(1)

جامع البيان 12/ 70.

(2)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: فضائل القرآن، لأبي عبيد (ص: 180)، والمحتسب 2/ 187.

(3)

جامع البيان 18/ 108.

(4)

المرجع السابق.

(5)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: معاني القرآن، للفرّاء 3/ 35.

(6)

جامع البيان 20/ 612. وينظر: 2/ 396، 546، 16/ 37، 20/ 614، 21/ 269، 24/ 393، 560.

ص: 236

-بإذن الله-؛ ولذلك يفردُها ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن أقوالِ السَّلفِ مِنْ أهلِ التأويلِ مرّةً، ويدرجُها ضمنَها أخرى

(1)

.

خامساً: لا يُشترطُ في الاستدلالِ بالشَّاذِّ ثُبوتُه عن قارئِه على صفةِ ما يُشترطُ لصحَّةِ الحديثِ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه بمنزلةِ الاستدلالِ بقول المفسِّر؛ ولذلك يوردُهُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أحياناً ضمنَ أقوالِ أهلِ التأويلِ كما مَرَّ، ولا يجزمُ -في أكثرِ المواضِعِ- عندَ حكايتِه بنسبتِه لأصحابِه، بل يقولُ عند ذكر الشواذِّ مِنْ القراءات:«وذُكِرَ، ورُويَ، وقيلَ» ، مع استدلالِه بها

(2)

، بل ربَّما ذكرها أوَّل الأدلَّة

(3)

، أو أفردَها في الاستدلال واكتفى بها عن غيرِها

(4)

، وربَّما ذكرَ القراءةَ مبهمةً غيرَ معزوَّةٍ إلى قارئٍ، وإنَّما يقولُ:«في بعضِ الحروفِ- وفي بعضِ القراءَةِ»

(5)

. وكلُّ ذلك راجعٌ إلى منهجِه في الاستدلالِ بالسُّنَّةِ

(6)

، وأقوالِ السَّلفِ

(7)

على المعاني، كما سيتبيَّنُ في موضِعِه بإذنِ الله.

سادساً: القراءةُ الشَّاذَّةُ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) حُجَّةٌ في العربيَّةِ

(1)

ينظر: جامع البيان 2/ 390، 556، 3/ 648، 12/ 384، 15/ 517، 535، 622، 16/ 35، 19/ 56.

(2)

كما في 2/ 429، 5/ 714، 6/ 405، 7/ 80، 8/ 407، 12/ 291، 17/ 421، 20/ 156.

(3)

كما في 5/ 714، 16/ 476، 19/ 509، 21/ 96، 315، 23/ 388، 24/ 590.

(4)

كما في 5/ 661، 6/ 531، 7/ 314، 19/ 403، 457، 583، 20/ 21، 626، 21/ 398.

(5)

كما في 2/ 396، 3/ 605، 8/ 297، 15/ 357، 21/ 253.

(6)

ينظر: (ص: 222).

(7)

ينظر: (ص: 316).

ص: 237

مُطلقاً، ورُبَّما قدَّمها على مذاهبِ بعضِ أهلِ اللغةِ مِنْ البصريِّين والكوفيِّين، بلْ هي أقوى في عربيَّتِها مِنْ مُجرَّدِ أقوالِ السَّلفِ في زمنِ الاحتجاجِ، فضلاً عن نَقَلَةِ اللغةِ مِنْ أهلِ العربيَّةِ؛ لأنَّ مِنها ما قرأَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم زمناً، وما قرأَ به أصحابُه الكرامُ رضي الله عنهم حتى أجمعوا على مُصحفِ عثمانَ رضي الله عنه، قراءةً ورسماً.

فعربيَّتُها ثابِتةٌ قطعاً، مُقدَّمةٌ إجمالاً، وهي جهةٌ مُنفكَّةٌ عن القراءةِ بها، كما هو الحالُ في الاحتجاجِ بها على المعاني. قالَ الفرَّاءُ

(1)

(ت: 207): «والكتابُ أعرَبُ وأقوى في الحُجَّةِ مِنْ الشِّعرِ»

(2)

، وقالَ السيوطيّ (ت: 911): «أمَّا القرآنُ فكلُّ ما وردَ أنَّه قُرِئَ به جازَ الاحتجاجُ به في العربيَّةِ؛ سواءٌ كانَ متواتراً، أم آحاداً، أم شاذّاً. وقد أطبقَ النَّاسُ على الاحتجاجِ بالقراءاتِ الشَّاذَّةِ في العربيَّةِ، إذا لم تُخالِف قياساً معروفاً، بل ولو خالَفَتْه يُحتجُّ بها في مثلِ ذلك الحرفِ بعينِه وإنْ لم يجُز القياسُ عليه .. ، وما ذكرتُه مِنْ الاحتجاجِ بالقراءةِ الشَّاذَّةِ لا أعلمُ فيه خلافاً بين النُّحاة»

(3)

، وقالَ البغداديُّ

(4)

(ت: 1093): «فكلامُه عزَّ اسمُه أفصحُ كلامٍ وأبلَغُه، ويجوزُ

(1)

يحيى بن زياد بن عبد الله الأسديّ مولاهم الكوفيّ، أبو زيادٍ الفرّاء، إمامُ نُحاةِ الكوفةِ في زمانِه، صنَّف: معاني القرآن، وغيرَه، وتوفي سنة (207). ينظر: معجم الأدباء 6/ 2812، وبغية الوعاة 2/ 333.

(2)

معاني القرآن 1/ 14.

(3)

فيض نشر الانشراح 1/ 416. وينظر: خزانةُ الأدب 1/ 9.

(4)

عبد القادر بن عمر بن بايزيد البغداديّ، لُغويٌّ أديبٌ مُحقِّقٌ، صنَّف: خزانةَ الأدب، وشرحَ أبيات مُغني اللَّبيب، وغيرها، مات سنة (1093). ينظر: خلاصة الأثر 2/ 451، والأعلام 4/ 41.

ص: 238

الاستشهادُ بمُتواتِرِه وشاذِّهِ»

(1)

، وقد سبقَ نقلُ كلامِ ابنِ جِنِّي (ت: 392) في تأكيدِ هذا المعنى

(2)

.

ومِن تطبيقِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في ذلك قولُه: «وبعدُ، فأنَّ في قراءةِ أُبيِّ بن كعبٍ .. (وقدْ تركوكَ أنْ يعبُدوك وآلِهَتَك) [الأعراف: 127]

(3)

دلالَةً واضِحةً على أنَّ نصبَ ذلك على الصَّرفِ

(4)

(5)

، وقولُه: «و {أَنْ} في قولِه {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحُجُرات: 17] في موضِعِ نصبٍ بوقوعِ {يَمُنُّونَ} عليها، وذُكرَ أنَّ ذلك في قراءَةِ عبدِ الله:(يمُنُّونَ عليكَ إسلامَهُمْ)[الحُجُرات: 17]

(6)

، وذلك دليلٌ على صِحَّةِ ما قُلنا»

(7)

، وقالَ عن قَولَيْن لبعضِ نُحاةِ البصرةِ:«وهذان القولانِ اللذانِ ذكرتُهُما عن البصريِّ في ذلك تدفعُهُما ما رُويَ عن ابنِ مسعودٍ وأُبيٍّ مِنْ القراءةِ»

(8)

.

(1)

خزانة الأدب 1/ 9.

(2)

في (ص: 194). وينظر: في أصولِ النَّحو (ص: 45)، وضوابط الفكر النَّحويّ 1/ 296.

(3)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: فضائل القرآن، لأبي عبيد (ص: 172)، وهي في المصاحف 1/ 316 عن ابنِ مسعود رضي الله عنه.

(4)

الصَّرفُ: مُصطلحٌ كوفيٌّ يشملُ وجوهاً مِنْ الإعرابِ، تجتمعُ في مخالفةِ الثَّاني للأوَّلِ في الحُكمِ، ومن ثَمَّ عدمُ اتِّباعِه له في الإعرابِ. ينظر: الطَّبري والجهود النحوية (ص: 444).

(5)

جامع البيان 10/ 366.

(6)

قراءةٌ شاذَّةٌ. ينظر: معاني القرآن، للفرّاء 3/ 73.

(7)

جامع البيان 21/ 398.

(8)

جامع البيان 2/ 483. وينظر: 3/ 279، 587، 5/ 714، 6/ 716، 21/ 134.

ص: 239

‌المبحثُ الثّالثُ: منهجُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ على المعاني.

السُّنَّةُ لغةً: السّيرةُ والطَّريقةُ، حميدةً كانَت أو ذميمةً، ومِنه قولُه تعالى {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38]

(1)

، وقولُ الشَّاعرِ

(2)

:

فلا تجزَعنْ مِنْ سيرةٍ أنتَ سِرتَها

فأوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يسيرُها

واصطلاحاً: ما أُثِرَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِنْ قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، مِمَّا لم ينطِقْ به الكتابُ العزيزُ

(3)

. هكذا عرَّفها الأصوليّون، ويزيدُ المُحدِّثون: أو صِفةٍ خَلقيَّةٍ أو خُلُقيَّةٍ.

وذلك أنَّ الأصوليّين اعتبروا الحُجِّيَّةَ؛ فاقتصروا على ما تُستفادُ مِنه،

(1)

ينظر: الصَّحاح 5/ 2139، و تهذيب اللغة 12/ 209، ولسان العرب 17/ 89.

(2)

هو خالد بن عُتبة الهُذليّ، والبيتُ في الصَّحاح 5/ 2139، ولسان العرب 17/ 89.

(3)

ينظر: لسان العرب 17/ 89، وشرح الكوكب المنير 2/ 159، ومذكرة أصول الفقه (ص: 167).

ص: 240

وهي الأقوالُ والأفعالُ. ويتبعُ الفعلَ: التقريرُ، والتركُ، والهَمُّ، ونحوها. كما اعتبرَ المُحدِّثونَ الرِّوايةَ والخبَرَ؛ فعمَّ تعريفُهم كُلَّ ما يتَّصلُ بحالِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

والمُرادُ بالاستدلالِ بالسُّنَّةِ على المعاني هو:

إقامَةُ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ دليلاً لتصحيحِ المعاني وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

أو: الإبانَةُ بالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ عن صِحَّةِ المعاني وبطلانِها.

ويقرُبُ مِنْ دليلِ السنَّةِ بهذا المعنى: دليلُ سببِ النزولِ؛ لِما فيه مِنْ المُسنَدِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكذا دليلُ النَّظائِرِ مِنْ السُّنَّةِ، وقد نصَّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) على التفريق بينَه وبين دليلِ السُّنَّةِ عند قولِه تعالى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فقالَ:«والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك ما تظاهَرَتْ به الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم التي ذَكرْناها قبلُ في تأويلِه؛ وهو أنَّها: العصرُ. والذي حثَّ اللهُ تعالى ذِكرُه عليه مِنْ ذلك نظيرُ الذي رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الحَثِّ عليه، كما حدَّثني .. »

(2)

، ثُمَّ أسندَ الأحاديثَ الواردَةَ في فضلِ صلاةِ العَصرِ

(1)

ينظر: الموافقات 4/ 289، وفتح المغيث 1/ 14، 21.

(2)

جامع البيان 4/ 372.

ص: 241

خاصَّةً، وقالَ:«فحثَّ صلى الله عليه وسلم على المُحافظةِ عليها حثّاً لم يحُثَّ مثلَه على غيرِها مِنْ الصلواتِ، وإن كانَتْ المُحافظةُ على جميعِها واجبةً؛ فكانَ بيِّناً بذلك أنَّ التي خصَّ اللهُ بالحثِّ على المُحافظةِ عليها بعدما عمَّ الأمرَ بها جميعَ المكتوباتِ = هي التي اتَّبَعَهُ فيها نبيُّهُ صلى الله عليه وسلم، فخصَّها مِنْ الحَضِّ عليها بما لم يخصُصْ به غيرَها مِنْ الصَّلواتِ»

(1)

، فتبيَّنَ بما سبقَ تفريقُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بين الدَّليلَيْن، وابتداءُه بدليلِ السُّنَّةِ الصَّريحِ، ثُمَّ إتباعُه بدليلِ نظيرِ معنى الآيةِ ممَّا جاءَتْ به السُّنَّةُ.

فهذه الأدلَّةُ وإن تشابهَتْ في ظاهِرِها، وتداخلَتْ في بعضِ فروعِها إلَّا أنَّ لكلِّ دليلٍ مِنها منهجُه في التّلقِّي والثُّبوتِ، وضوابطُه في الاستدلالِ، ومنزِلَتُه مِنْ الأدلَّةِ، وترتيبُه مِنها، فمِن ثَمَّ لَزِمَ تمييزُ كلِّ دليلٍ مِنها عن الآخرِ بحثاً ودراسةً.

وللسُّنَّةِ النَّبويَّةِ عدَّةُ تقسيماتٍ باعتباراتٍ مُختلفةٍ

(2)

؛ يتقدَّمُها في بابِ الاستدلالِ اعتبارانِ، هُما:

الأوَّلُ: تقسيمُها باعتبارِ الثُّبوتِ إلى: مقبولٍ ومردودٍ، والمقبولُ: الصَّحيحُ والحسنُ. والمردودُ: الضَّعيفُ بمراتِبه.

الثَّاني: تقسيمُها باعتبارِ النَّقلِ إلى: مُتواترٍ وآحادٍ.

وقد أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى هذين الاعتبارين في كثيرٍ مِنْ المواطِنِ، كما في قولِه: «فأحقُّ المُفَسِّرين بإصابَةِ الحَقِّ في تأويلِ

(1)

جامع البيان 4/ 374.

(2)

ينظر: الرسالة (ص: 21، 91)، وإعلام الموقعين 4/ 84، ومختصر ابن اللحام (ص: 74).

ص: 242

القرآنِ الذي إلى عِلْمِ تأويلِه للعبادِ السَّبيلُ = أوضَحُهُم حُجَّةً فيما تأوَّلَ وفسَّرَ، مِمَّا كانَ تأويلُه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دون سائِرِ أُمَّتِه، مِنْ أخبارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم الثَّابتَةِ عنه؛ إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّقلِ المُستَفيضِ .. ، وإمَّا مِنْ جِهةِ نقلِ العُدُولِ الأثباتِ .. ، أو مِنْ جهةِ الدَّلالةِ المنصوبةِ على صِحَّتِه»

(1)

، فأشارَ إلى الثُّبوتِ، وفصَّلَ نَوْعَيْ النَّقلِ إلى: مُستفيضٍ، ونقلِ الآحادِ مِنْ العُدولِ الأثباتِ، ثُمَّ أشارَ إلى طريقِ قبولِ ما لَمْ يكُن ثابتاً مِنْ الأخبارِ. ومثلُه قولُه:«ولم يصِحَّ بشيءٍ مِنْ ذلك خبرٌ عن الرسولِ بنقلِ الواحِدِ، ولا بنقلِ الجماعةِ التي يجبُ التَّسليمُ لِما نَقَلَتْه»

(2)

.

وأمثلةُ استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بالسَّنَّةِ على المعاني في تفسيره كثيرةٌ ظاهِرةٌ، وهي على نوعين:

النَّوعُ الأوّلُ: استدلالُه بالسُّنَّةِ لقبولِ المعاني وتصحيحِها، ومِن ذلك قولُه: «وإنَّما قُلنا ذلك أَوْلى القَوْلَيْن بالصَّوابِ لصِحَّةِ الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

، وقولُه:«وبعدُ، ففي صِحَّةِ الخبرِ عنه صلى الله عليه وسلم .. الدَّلالَةُ الواضِحةُ على أنَّ الذي قُلنا مِنْ ذلك هو الصَّحيحُ مِنْ القَوْلِ»

(4)

، وقولُه:«وقد رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبرانِ يؤَيِّدانِ صِحَّةَ ما قُلنا في ذلك»

(5)

.

(1)

جامع البيان 1/ 88.

(2)

جامع البيان 2/ 507. وينظر: 3/ 217، 272، 493، 614، 5/ 261، 6/ 535، 10/ 221.

(3)

جامع البيان 21/ 446.

(4)

جامع البيان 21/ 237.

(5)

جامع البيان 24/ 663. وينظر: 4/ 520، 5/ 451، 7/ 73، 9/ 378، 10/ 147، 11/ 685.

ص: 243

النَّوعُ الثَّاني: استدلالُه بالسَّنَّةِ لرَدِّ المعاني وإبطالِها، ومِن أمثلَتِه قولُه:«وهذا الخبرُ الذي ذَكَرْنا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ أنَّ القولَ الذي قالَه الحَسَنُ .. خطأٌ»

(1)

، وقولُه عن بعضِ الأقوالِ: «وذلك دفعٌ لظاهِرِ التَّنزيلِ، وما تتابعتْ به الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

، وعلَّلَ ردَّ بعضَ الأقوالِ بقولِه: «وهذا خلافُ ما تظاهرَتْ به الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

.

وقد بلغَت المواضِعُ التي استدَلَّ فيها بالسَّنَّةِ على المعاني (527) موضِعاً، ونسبةُ ذلك مِنْ مجموع الأدلَّةِ (4. 8%).

ولا يجري في ذكرِ دليلِ السُّنَّةِ -عند إيرادِه مع الأدلَّةِ- على ترتيبٍ مُعيَّنٍ، لكنَّه في محلِّ التَّقديمِ إجمالاً، وعلى الأخصِّ ما كانَ نصّاً ثابتاً، ولا يؤَخِّرُه عن غيرِه مِنْ الأدلَّةِ إلا لعلَّةٍ على ما سيتبيَّنُ بإذنِ الله.

‌المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ على المعاني.

تكاثرَتْ الأدلَّةُ في تقريرِ صِحَّةِ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ على المعاني القرآنيَّةِ، ولُزومِ الأخذِ بما دلَّتْ عليه فيها، وفيما يأتي بيانُها:

1 -

الأدلَّةُ الدَّالَّةُ على أنَّ السُّنَّةَ وحيٌ مُنزَلٌ مِنْ عِنْدِ الله تعالى، كما في قولِه تعالى عن نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ

(1)

جامع البيان 8/ 335.

(2)

جامع البيان 14/ 448.

(3)

جامع البيان 16/ 300. وينظر: 4/ 256، 5/ 125، 6/ 548، 7/ 294، 10/ 221، 11/ 106.

ص: 244

يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، وقولِه {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ومِن ثَمَّ فجميعُ الأدلَّةِ الموجِبَةِ للاحتجاجِ بالقرآنِ الكريمِ تصلُحُ دليلاً على حُجيَّةِ السُّنَّةِ مِنْ هذا الوجهِ؛ إذْ كِلاهُما حقٌّ لا باطِلَ فيه، وهُدىً لا ضلالَ فيه، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

2 -

الأدلَّةُ الدَّالَّةُ على وجوبِ طاعةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولزومِ سُنَّتِه، وهي كثيرةٌ جدّاً، وقد جاءَتْ في صُوَرٍ مُتنوِّعَةٍ؛ كالأمرِ الصَّريحِ بالطَّاعةِ والاتِّباعِ:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وبيانِ أنَّ طاعةَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِنْ طاعةِ الله:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، والأمرِ بالرَّدِّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندَ التَّنازُعِ، والرِّضا بحُكمِه، وبيانِ أنَّ ذلك مِنْ موجِباتِ الإيمانِ ولوازِمِه:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، والتَّحذيرِ مِنْ مُخالفَةِ أمرِه صلى الله عليه وسلم، وترتيبِ الوَعيدِ على ذلك:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

ويتبعُ كلَّ ذلك لُزوماً: وجوبُ الأخذِ بما دلَّتْ عليه سُنَّةُ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِنْ المعاني، وتحكيمُها في كتابِ الله، وحُرْمَةُ مُخالفَتِها فيما دلَّتْ عليه مِنها.

3 -

الإجماعُ على صِحَّةِ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ وحُجِّيَّتِها، ووجوبِ

ص: 245

اتِّباعِها، قالَ الشَّافعيُّ (ت: 204): «لم أَسمعْ أحداً -نسَبَه الناسُ أو نسبَ نفسَه إلى علمٍ- يُخالفُ في أنَّ فَرْضَ اللهِ عز وجل اتِّباعُ أمرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والتَّسليمُ لحُكمِه»

(1)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «السُّنَّةُ إذا ثبتَتْ فإنَّ المُسلمين كلُّهُم متَّفقونَ على وجوبِ اتِّباعِها»

(2)

، وقالَ الشَّوكاني (ت: 1250): «إنَّ ثُبوتَ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ المُطهَّرةِ، واستِقلالَها بتشريعِ الأحكامِ ضرورةٌ دينيَّةٌ، ولا يُخالِفُ في ذلك إلا من لا حظَّ له في الإسلامِ»

(3)

.

4 -

الإجماعُ على أنَّ السُّنَّةَ مُبيِّنةٌ للقُرآنِ وتفسيرٌ له، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «اتَّفقَ الصَّحابةُ والتّابعون لهم بإحسانٍ وسائِرُ أئِمَّةِ الدّينِ = أنَّ السُّنَّةَ تُفسِّرُ القرآنَ وتُبيِّنُه، وتُعبِّرُ عن مُجمَلِه»

(4)

، وقالَ ابنُ الوزير (ت: 840): «النوعُ الثالثُ: التَّفسيرُ النَّبويُّ؛ وهو مقبولٌ بالنَّصِّ والإجماعِ»

(5)

.

وقد نصَّ العُلماءُ على تقديمِ دليلِ السُّنَّةِ في البيانِ عن معاني القرآنِ على غيرِه مِنْ أنواعِ الأدلَّةِ عدا نَصِّ القرآنِ، كما قالَ أبو عبيدٍ القاسمُ بن سلام (ت: 224): «السُّنَّةُ هي المُفسِّرةُ للتَّنزيلِ، والموضِّحةُ لحُدودِه وشرائِعِه»

(6)

، وقالَ أحمدُ بن حنبل (ت: 241): «السُّنَّةُ عندنا

(1)

جِماعُ العلم (ص: 11).

(2)

مجموع الفتاوى 19/ 85.

(3)

إرشادُ الفحول (ص: 69). وينظر: الموافقات 4/ 340.

(4)

مجموع الفتاوى 13/ 363.

(5)

إيثارُ الحقِّ على الخلق (ص: 152).

(6)

الفقيه والمتفقه 1/ 234.

ص: 246

آثارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والسُّنَّةُ تُفسِّرُ القرآنَ، وهي دلائِلُ القرآن»

(1)

، وقالَ أبو عمروِ بن العلاءِ (ت: 154) وعبدُ الرَّحمنِ بن مهدي (ت: 198): «الحديثُ يُفسِّرُ القرآنَ»

(2)

، وقالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «ورسولُ الله أعلَمُ بمعاني وحيِ الله وتنزيلِه»

(3)

، وقالَ أيضاً: «ولا أحدَ أعلمُ بما عنى اللهُ تبارك وتعالى بتنزيلِه مِنه عليه السلام)

(4)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «فإن أعياكَ ذلك -أي تفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ- فعليك بالسُّنَّةِ؛ فإنَّها شارِحةٌ للقرآنِ، وموضِّحةٌ له، بل قد قالَ الإمامُ أبو عبد الله محمدُ بن إدريسَ الشَّافعي: كلُّ ما حكمَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهو ممَّا فَهِمَه مِنْ القرآنِ؛ قالَ تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقالَ تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقالَ تعالى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]»

(5)

، وقالَ الزَّركشي (ت: 794): «لطالِبِ التَّفسيرِ مآخِذُ كثيرةٌ، أُمَّهاتُها أربعةٌ، الأوَّل: النَّقلُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الطِّرازُ الأوَّلُ»

(6)

.

والواقِعُ العمليُّ في كتبِ التَّفسيرِ يطابقُ ذلك الإجماعَ؛ فقد تتابعَ

(1)

طبقات الحنابلة 1/ 226.

(2)

تهذيب الكمال 34/ 127، وتاريخ بغداد 2/ 580.

(3)

جامع البيان 16/ 449.

(4)

المرجع السابق 6/ 276. وينظر: 3/ 406، 24/ 737.

(5)

مجموع الفتاوى 13/ 363. وينظر: الجواب الصحيح 3/ 17.

(6)

البرهان في علوم القرآن 2/ 156. وينظر: الموافقات 3/ 230، 4/ 183، 314، وأضواء البيان 5/ 535.

ص: 247

المُفسِّرون على اعتبارِ دليلِ السُّنَّةِ في بيانِ المعاني، وتقديمِه، والاحتجاجِ به، وقد عدَّه ابنُ جُزي (ت: 741) ثانيَ موجباتِ الترجيحِ ووجوهِه بعدَ القرآنِ، فقالَ:«إذا وردَ عنه عليه السلام تفسيرَ شيءٍ مِنْ القرآنِ عوَّلْنا عليه، لا سيَّما إن وردَ في الحديثِ الصَّحيحِ»

(1)

.

5 -

أنَّ اللهَ أوجَبَ على رسولِه صلى الله عليه وسلم تبيينَ القرآنِ للنَّاسِ قولاً وفِعلاً، فلا يحتاجونَ بعدَ بيانِه عنه إلى بيانٍ، قالَ ابنُ أبي حاتم (ت: 327): «إنَّ الله عز وجل ابتعثَ محمداً رسولَه صلى الله عليه وسلم إلى النَّاسِ كافَّةً، وأنزلَ عليه الكتابَ تبياناً لكلِّ شيءٍ، وجَعَلَه موضِعَ الإبانةِ عنه، فقالَ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقالَ عز وجل {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]، فكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو المُبيِّنُ عن الله عز وجل أمرَه، وعن كتابِه معاني ما خوطِبَ به النَّاسُ، وما أرادَ الله عز وجل به، وعُنيَ فيه»

(2)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «يجبُ أن يُعلَمَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بيَّنَ لأصحابِه معاني القرآنِ كما بيَّنَ لهم ألفاظَه، فقولُه تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناوَلُ هذا وهذا»

(3)

، ومِن ثَمَّ لزِمَ اعتمادُ السُّنَّةِ حُجَّةً في بيانِ معاني القرآن.

6 -

أنَّ مِنْ القرآنِ ما لا يُعلَمُ معناه إلا مِنْ جِهةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، كما قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وإذَ كانَ ذلك كذلك، وكانَ الله جلَّ ذِكرُه قد أخبَرَ عبادَه أنَّه قد جعلَ القرآنَ عربيّاً، وأنَّه أُنْزِلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، ثُمَّ

(1)

التسهيل 1/ 20.

(2)

الجرح والتعديل 1/ 1.

(3)

مجموع الفتاوى 13/ 331. وينظر: المجروحين 2/ 255، والصواعق المرسلة 2/ 636، والموافقات 3/ 230.

ص: 248

كانَ ظاهِرُه مُحتمِلاً خُصوصاً وعُموماً، لم يكُنْ لنا السَّبيلُ إلى العلمِ بما عنى الله تعالى ذِكرُه مِنْ خُصوصِه وعُمومِه، إلا ببيانِ من جُعِلَ إليه بيانُ القرآنِ؛ وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

، وقالَ في مبحثِ:(القولُ في الوجوهِ التي مِنْ قِبَلِها يُوصَلُ إلى معرِفةِ تأويلِ القرآنِ): «فقد تبيَّنَ ببيانِ الله جلَّ ذكرُه أنَّ ممَّا أنزلَ اللهُ مِنْ القرآنِ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما لا يوصَلُ إلى عِلمِ تأويلِه إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك تأويلُ جميعِ ما فيهِ مِنْ وجوهِ أمرِه؛ واجِبِه ونَدْبِه وإرشادِه، وصنوفِ نَهْيِه، ووظائِفِ حقوقِه، وحدودِه، ومبالِغِ فرائِضِه، ومقاديرِ اللازِمِ بعضَ خلقِه لبعضٍ، وما أشبَه ذلك مِنْ أحكامِ آيِه التي لم يُدرَك علمُها إلا ببيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأمَّتِه، وهذا وجهٌ لا يجوزُ لأحدٍ القولُ فيه إلا ببيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له تأويلَه»

(2)

.

ومِن هذا البابِ قولُ غيرِ واحدٍ مِنْ السَّلفِ: «القرآنُ أحوجُ إلى السُّنَّةِ مِنْ السُّنَّةِ إلى القرآنِ»

(3)

، وقَولُ بعضِهم:«السُّنَّةُ قاضيةٌ على الكتابِ»

(4)

، ورَأَى الإمامُ أحمدُ (ت: 241) تحسينَ تلك العبارةِ، فقالَ -وقد سُئِلَ عنها-:«ما أَجسرُ على هذا أن أقولَه، ولكنّي أقولُ: إنَّ السُّنَّةَ تُفسِّرُ القرآنَ وتُبيِّنُه»

(5)

.

7 -

أنَّ الوحيَ يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، والسُّنَّةُ وحيٌ كالقرآنِ، قالَ

(1)

جامع البيان 1/ 21.

(2)

جامع البيان 1/ 68.

(3)

الفقيه والمتفقه 1/ 230، والكفاية (ص: 30)، وجامع بيان العلم 2/ 1193، والموفقات 4/ 344.

(4)

المرجع السابق.

(5)

مسائل الإمام أحمد، رواية ابنِه عبد الله (ص: 438)، والفقيه والمتفقه 1/ 230،

ص: 249

تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، وقالَ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقد قرَّرَ الشَّافعيُّ (ت: 204) أنَّ السُّنَّةَ: «لا تُخالِفُ كتابَ الله أبداً»

(1)

، وقالَ:«وأَوْلى أنْ لا يشُكَّ عالمٌ في لُزومِها، وأن يَعلَمَ أنَّ أحكامَ الله ثُمَّ أحكامَ رسولِه لا تخْتَلِفُ، وأنَّها تجري على مِثالٍ واحِدٍ»

(2)

، وقالَ:«كُلُّ ما سَنَّ رسولُ الله مع كتابِ الله مِنْ سُنَّةٍ فهي مُوافِقةٌ كتابَ الله؛ في النَّصِّ بمثلِه، وفي الجُملَةِ بالتَّبيينِ عن الله، والتَّبيينُ يكونُ أكثرَ تفسيراً مِنْ الجُملَةِ»

(3)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «والسُّنَّةُ أيضاً تنزِلُ عليه بالوَحيِ كما ينزِلُ القرآنُ؛ لا أنَّها تُتْلى كما يُتلى»

(4)

، ومِن ثَمَّ فالسُّنَّةُ أَوْلى ما يُستشهَدُ به على معاني القرآنِ.

8 -

ورودُه في تفاسيرِ السَّلفِ، واعتمادِهم له، وأمثلتُه كثيرةٌ؛ مِنها: ما أسندَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن قتادة (ت: 117)، عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسألوني عن شيءٍ إلا بيَّنتُه لكم .. »

(5)

، وفي آخرِه:«وكانَ قتادةُ يذكرُ هذا الحديثَ عندَ هذه الآيةِ: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]»

(6)

، وقولُ الرَّبيعِ بن أنس (ت: 139): «{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]: يقولُ: حتى لا يُعبَدَ إلا الله، وذلك لا إله إلا

(1)

الرسالة (ص: 146). وينظر منه: (ص: 198، 221، 228، 546).

(2)

المرجع السابق (ص: 173).

(3)

المرجع السابق (ص: 212).

(4)

مجموع الفتاوى 13/ 364.

(5)

جزءٌ من حديثٍ أخرجه البخاري في صحيحه 9/ 53 (7089)، ومسلم في صحيحه 15/ 499 (2359).

(6)

جامع البيان 9/ 14.

ص: 250

اللهُ، عليه قاتلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وإليه دعا، فقالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم:«إنّي أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويُقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزَّكاةَ .. »

(1)

(2)

.

‌المطلبُ الثّالثُ: أوجُه الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ على المعاني.

تتبيَّنُ أوجُه الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ على المعاني عندَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) مِنْ خِلالِ أمرَيْنِ، هُما:

1 -

صِيَغُ إيرادِ دليلِ السُّنَّةِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

2 -

مراتِبُ دلالَةِ دليلِ السُّنَّةِ على المعاني.

وفيما يأتي بيانُهما:

الأوَّلُ: صِيَغُ إيرادِ دليلِ السُّنَّةِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

يُورِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) دليلَ السُّنَّةِ في صيَغٍ متعدِّدَةٍ، على النَّحوِ الآتي:

أوَّلاً: التَّصريحُ بالاستدلالِ بالسُّنَّةِ، كما في قولِه:«وكذلك قولُه {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وإنْ لم يكُن مقروناً به ذِكرُ الجماعِ والمُباشرةِ والإفضاءِ؛ فقد دلَّ على أنَّ ذلك كذلك بِوَحيِه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبيانِه ذلك على لِسانِه لعِبادِه»

(3)

، وقولِه في

(1)

جزءٌ من حديثٍ أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 14 (25)، ومسلم في صحيحه 1/ 172 (22).

(2)

جامع البيان 3/ 301. وينظر: 5/ 613، 6/ 207، 12/ 288، 363، 13/ 515، 16/ 531.

(3)

جامع البيان 4/ 169.

ص: 251

قولِه تعالى {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء: 34]: «وهذا الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يدُلُّ على صِحَّةِ ما قُلنا في تأويلِ ذلك، وأنَّ معناه: صالِحاتٌ في أديانِهِنَّ، مُطيعاتٌ لأزواجِهِنَّ، حافِظاتٌ لهُم في أنفُسِهِنَّ وأموالِهِنَّ»

(1)

.

ثانياً: ذِكرُ الحديثِ مباشرةً على سبيلِ التدليلِ، كما في قولِه:«فإنْ قالَ: وما الدَّليلُ على أنَّهم أولاءِ الذين وصَفَهم الله، وذكرَ نبأَهم في تنزيلِه على ما وصَفتَ؟ قيلَ: حدَّثَني .. ، عن عديِّ بن حاتمٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «المغضوبُ عليهِم اليَهودُ»

(2)

(3)

، وكذا استدلالُه لمعنى قولِه تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] بحديثِ عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه قالَ: «سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ على المِنبَرِ: «قالَ الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]: ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ» ثلاثاً

(4)

(5)

.

ثالثاً: إيرادُ الحديثِ على سبيلِ التَّعليلِ لقبولِ المعنى أو رَدِّه، ومِن عبارَتِه في ذلك قولُه: «وبالذي قُلنا في ذلك قالَ جماعةٌ مِنْ أهلِ التَّأويلِ، وبه الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك اخترتُ القَولَ به على

(1)

جامع البيان 6/ 693. وينظر: 1/ 194، 5/ 30، 708، 8/ 209، 19/ 283.

(2)

أخرجه الترمذي في جامعه 5/ 201 (2953)، وسعيد بن منصور في سننه 2/ 537 (179)، وأحمد في مسنده 32/ 123 (19381). وقال الترمذي (ت: 279): «حسنٌ غريبٌ» ، وحسَّنَه ابنُ حجر (ت: 852) في فتح الباري 8/ 9.

(3)

جامع البيان 1/ 186.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 56 (1917).

(5)

جامع البيان 11/ 245. وينظر: 2/ 572، 3/ 630، 5/ 647، 6/ 517، 693، 8/ 588، 10/ 248.

ص: 252

غيرِه»

(1)

، وقولُه في قَولِه تعالى {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قولُ من قالَ: معناه: وتحذِفونَ في مجالِسِكم المارَّةَ بكم، وتسخرونَ مِنهم؛ لِما ذكرنا مِنْ الرِّوايةِ بذلك عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

الثّاني: مراتِبُ دلالَةِ دليلِ السُّنَّةِ على المعاني.

أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مُقدِّمةِ تفسيرِه إلى صُوَرِ دلالَةِ السُّنَّةِ على المعاني القرآنيّةِ، وذلك بقولِه:«إنَّ ممّا أنزلَ الله مِنْ القرآنِ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما لا يُوصَلُ إلى عِلمِ تأويلِه إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم .. ، وهذا وجهٌ لا يجوزُ لأحدٍ القولُ فيه إلا ببيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له تأويلَه؛ بِنَصٍّ مِنه عليه، أو بدَلالَةٍ قد نصبَها دالَّةٍ أمَّتَه على تأويلِه»

(3)

، وهاتان الصُّورتانِ (النَّصُّ والدّلالَةُ) تشملانِ: قولَ النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو النَّصُّ. كما تشملُ فِعلَه وتقريرَه؛ وهُما الدّلالَةُ الدّالَّةُ لأُمَّتِه على المعنى في الآيةِ. فكُلُّ ما أُثِرَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم يفيدُ في بيانِ القرآنِ الكريمِ، لكنَّ مراتبَ تلك الدّلالَةِ تنقسِمُ -بحسبِ قوَّةِ دلالتِها على المعاني- إلى قِسمين، هُما:

القسمُ الأوّل: الدَّلالةُ الصَّريحةُ على المعنى؛ وهي الدَّلالةُ النَّصِّيَّةُ التي يُطابِقُ فيها بيانُ النَّبي صلى الله عليه وسلم لفظَ الآيةِ، سواءً ذُكِرَتْ الآيةُ في الحديثِ أو لا. وأمثِلَتُه في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) كثيرةٌ، مِنها قولُه: «وأَوْلى القَوْلَينِ بالصَّوابِ في ذلك ما رُويَ عن ابنِ مسعودٍ .. ، إنْ لمْ يكُنْ خبرُ

(1)

جامع البيان 16/ 427.

(2)

جامع البيان 18/ 392. وينظر: 4/ 249، 7/ 73، 5/ 451، 11/ 196، 22/ 395، 24/ 685.

(3)

جامع البيان 1/ 68. وينظر: 1/ 72.

ص: 253

حُذيفةَ الذي ذَكرْناه عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً، وإنْ كانَ صحيحاً فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أعلَمُ بما أنزَلَ الله عليه، وليسَ لأحدٍ مع قولِه الذي يصِحُّ عنه قَولٌ»

(1)

، وقولُه عندَ قولِه تعالى {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26]: «وقَدْ رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحِ قولِ من قالَ: هي الحَنْظلَةُ. خبرٌ، فإنْ صَحَّ فلا قَوْلَ يجوزُ أنْ يُقالَ غيرُه»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]: «فأعلَمَ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه أنَّ تلك الآيةَ التي أخبرَ الله جلَّ ثناؤُه عبادَه أنَّها إذا جاءَتْ لم ينفَعْ نفساً إيمانُها لم تكُنْ آمنَتْ مِنْ قبلِ ذلك = هي طلوعُ الشَّمسِ مِنْ مَغربِها. فإنَّ الذي كانَت بالعِبادِ إليه الحاجَةُ مِنْ عِلمِ ذلك هو العِلمُ مِنهم بوَقتِ نفعِ التَّوبةِ بصِفتِه، بغيرِ تحديدِه بعدِّ السنينِ والشُّهورِ والأيَّامِ، فقد بيَّن اللهُ ذلك لهم بدلالةِ الكِتابِ، وأَوْضَحَه لهم على لِسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم مُفَسَّراً»

(3)

.

القسمُ الثاني: الدَّلالةُ غيرُ الصَّريحةِ على المعنى، وهي الدَّلالةُ غيرُ النَّصِّيَّةِ، والتي لا يُطابِقُ فيها الحديثُ ألفاظَ الآيةِ، لكنَّه يُفيدُ في بيانِ المعنى وترجيحِه على وجهِ العمومِ والإجمالِ، وأمثِلَتُه كثيرةٌ، مِنها قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عندَ قولِه تعالى {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59]: «أخبرَ جلَّ ثناؤُه أنَّه أنزلَ على الذين وصَفْنا أمرَهُم الرِّجزَ مِنْ السَّماءِ، وجائِزٌ أن يكونَ ذلك كانَ طاعوناً، وجائِزٌ أن يكونَ

(1)

جامع البيان 21/ 20.

(2)

جامع البيان 13/ 654.

(3)

جامع البيان 5/ 200. وينظر: 2/ 507، 6/ 498، 11/ 312، 515، 12/ 617، 14/ 121، 15/ 47.

ص: 254

ذلك كانَ غيرَه، ولا دلالَةَ في ظاهرِ القرآنِ، ولا في أثرٍ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم ثابتٍ أيَّ أصنافِ العذابِ كانَ ذلك. فالصَّوابُ مِنْ القولِ فيه أن يُقالَ كما قالَ جلَّ ثناؤُه: أنزلَ عليهم رِجزاً مِنْ السَّماءِ بفِسْقِهم. غيرَ أنَّه يغلِبُ على نَفسي صِحَّةُ ما قالَه ابنُ زيدٍ؛ للخبرِ الذي ذكَرتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في إخبارِه عن الطَّاعونِ أنَّه رِجزٌ، وأنَّه عُذِّبَ به قومٌ قبلنا، وإن كُنْتُ لا أقولُ إنَّ ذلك كانَ يقيناً؛ لأنَّ الخبرَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا بَيانَ فيه أيُّ أُمَّةٍ عُذِّبَتْ بذلك، وقد يجوزُ أن يكونَ الذين عُذِّبوا به كانوا غيرَ الذين وصَفَ اللهُ صِفتَهُم في قولِه:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]: «يقولُ تعالى ذِكرُه: ألْهاكُم أيُّها النَّاسُ المُباهاةُ بكَثْرَةِ المالِ والعَدَدِ عن طاعةِ ربَّكم، وعمَّا يُنجيكم مِنْ سَخطِه عليكم. وبنَحوِ الذي قُلْنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ .. ، ورُوِيَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم كلامٌ يدُلُّ على أنَّ معناه التَّكاثُرُ بالمالِ»

(2)

، ثُمَّ أسنَدَ حديثَيْن في معنى ذلك، ولم يذهَبْ إلى ما فيهِما مِنْ التَّخصيصِ. ومثلُ ذلك قولُه: «والذي هو أَوْلى بتأويلِ هذه الآيةِ عندي، أعْني:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] أن يكونَ معنيّاً به: وفِّقنا للثباتِ على ما ارتضَيْتَه ووَفَّقْتَ له من أنْعمتَ عليه مِنْ عِبادِك؛ مِنْ قولٍ وعملٍ، وذلك هو الصِّراطُ المُستقيمُ .. ، وقد اختلَفَ تراجِمَةُ القرآنِ في المَعنيِّ بالصِّراطِ المُستقيمِ، يشملُ معانيَ جميعِهم في ذلك ما أخبَرْنا مِنْ التَّأويلِ فيه. ومِمَّا قالَتْه في ذلك ما رُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه،

(1)

جامع البيان 1/ 731.

(2)

جامع البيان 24/ 598.

ص: 255

عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ، وذَكَرَ القرآنَ، فقالَ:«هو الصِّراطُ المُستقيمُ»

(1)

(2)

.

‌المطلبُ الرّابع: ضوابطُ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ على المعاني ومسائِلُه.

أوَّلاً: حدَّدَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) نوعَ ما بيَّنَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأمَّتِه مِنْ القرآنِ الكريمِ، فقالَ:«مِنْ تأويلِ القرآنِ ما لا يُدرَكُ عِلمُه إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك تفصيلُ جُمَلِ ما في آيِه، مِنْ أمرِ الله ونَهيِه، وحلالِه وحرامِه، وحدودِه وفرائِضِه، وسائِرِ معاني شرائِعِ دينِه، الذي هو مُجمَلٌ في ظاهِرِ التَّنزيلِ، وبالعِبادِ إلى تفسيرِه الحاجةُ»

(3)

، وبيَّنَ وجوبَ الأخذِ به، وتحريمَ رَدِّه بقولِه:«وهذا وجهٌ لا يجوزُ لأحدٍ القولُ فيه إلا ببيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له تأويلَه؛ بِنَصٍّ مِنه عليه، أو بدَلالَةٍ قد نصبَها دالَّةٍ أمَّتَه على تأويلِه»

(4)

، فما نَصَّ عليه يجبُ الأخذُ به، وما دلَّ على المُرادِ مِنه بدلالةٍ غيرِ نصِّيَّةٍ؛ مِنْ فعلِه أو تقريرِه فلا يجوزُ رَدُّه، على ما سيأتي إيضاحُه مِنْ مسائِلَ بإذنِ الله.

(1)

أخرجه الترمذي في جامعه 5/ 172 (2906)، وابنُ أبي شيبة في مُصنفِه 6/ 125 (30007)، والدارمي في سُننه 2/ 323 (3331)، ولا يصِحُّ رَفعُه، قال ابنُ كثير (ت: 774): «وقد رُوِيَ موقوفاً عن عليٍّ، وهو أشبَه» ، وقال:«وقد وَهِمَ بعضُهم في رَفعِه، وهو كلامٌ حسنٌ صحيحٌ» . تفسيره 1/ 27، 219.

(2)

جامع البيان 1/ 171. وينظر: 1/ 703، 2/ 164، 4/ 331، 10/ 247، 15/ 124.

(3)

جامع البيان 1/ 82. وينظر: 68، 72.

(4)

جامع البيان 1/ 68. وينظر: 1/ 72.

ص: 256

ثانياً: مقدارُ ما بيَّنَته سُنَّةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ القرآنِ كثيرٌ جِدّاً، وقد نصَّ على ذلك ابنُ جريرٍ (ت: 310) بقولِه: «ولو كانَ تأويلُ الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ لا يُفسِّرُ مِنْ القرآنِ شيئاً إلا آياً بعدَدٍ- هو ما يسبِقُ إليه أَوهامُ أهلِ الغباءِ مِنْ أنَّه: لم يكُن يُفسِّرُ مِنْ القرآنِ إلا القليلَ مِنْ آيِه، واليَسيرَ مِنْ حُروفِه = كانَ إنَّما أُنْزِلَ إليه الذِّكرُ ليَترُكَ للنّاسِ بيانَ ما نُزِّلَ إليهِم، لا ليُبَيِّنَ لهم ما أُنْزِلَ إليهِم»

(1)

، ثُمَّ استدلَّ لذلك بقولِه:«وفي أمرِ الله جلَّ ثناؤُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ببلاغِ ما أَنزلَ إليه، وإعلامِه إيّاه أنَّه إنَّما نزَّلَ إليه ما أنزلَ ليُبيِّنَ للنّاسِ ما نُزِّلَ إليهِم، وقيامِ الحُجَّةِ على أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغَ وأدّى ما أُمرَه اللهُ ببلاغِه وأدائِه على ما أمرَه به، وصِحَّةِ الخبرِ عن عبد الله بن مسعودٍ بقيلِه: كانَ الرَّجلُ مِنّا إذا تعلَّمَ عشرَ آياتٍ لم يُجاوِزْهنَّ حتى يعلَمَ معانيَهنَّ والعملَ بِهنَّ = ما يُنبئُ عن جهلِ من ظنَّ أو توهَّمَ أنَّ معنى الخبرِ الذي ذَكَرنا عن عائِشَةَ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّه لم يكُنْ يُفسِّرُ مِنْ القرآنِ شيئاً إلا آياً بعدَدٍ. هو: أنَّه لم يكُنْ يُبيِّنُ لأمَّتِه مِنْ تأويلِه إلا اليَسيرَ القليلَ مِنه. هذا مَعَ ما في الخبرِ الذي رُويَ عن عائِشةَ مِنْ العلَّةِ التي في إسنادِه التي لا يجوزُ معها الاحتجاجُ به لأحدٍ مِمَّنْ علِمَ صحيحَ سندِ الآثارِ وفاسدَها في الدِّينِ»

(2)

.

ثالثاً: يجِدُ المُطالِعُ لمجموعِ كلامِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عن الأحاديثِ النَّبويَّةِ بياناً دقيقاً عن ضوابِطِ قبولِ الأخبارِ ورَدِّها، كما أكَّدَتْ تطبيقاتُه تلك الضوابطَ بوضوحٍ؛ فقد بلغَتْ الأحاديثُ التي

(1)

جامع البيان 1/ 82.

(2)

جامع البيان 1/ 82. وستأتي الإشارةُ -إن شاءَ الله- إلى تحديدِ نوعِ ذلك البيانِ النَّبويِّ (ص: 304).

ص: 257

صحَّحها ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه (138) حديثاً، كما بلغَتْ الأحاديثُ التي ضَعَّفها (46) حديثاً، وفي نقدِ الأسانيدِ والمتونِ وبيانِ العِلَلِ تعرَّضَ ل (20) حديثاً، ومِن خلالِ ذلك يُمكنُ تحديدُ ضوابطَ قَبولِ الأخبارِ ورَدِّها، وهي:

1 -

الخبرُ المقبولُ هو الصَّحيحُ الثَّابتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ما اجتمعتْ فيه ثلاثةُ شُروطٍ:

الأوَّل: أن يكونَ راويه ثقةً؛ معروفاً بعدالتِه، مُعتَمَداً عندَ أهلِ الآثارِ في روايتِه ونَقلِه، وحفظِه وإتقانِه، كما في قولِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عن بعضِ الأقوالِ: «كرِهْنا ذِكرَ الذي حُكيَ ذلك عنه؛ إذْ كانَ الذي رواه مِمَّنْ لا يُعتَمَدُ على روايتِه ونَقْلِه»

(1)

، وقولِه:«هذا مَعَ ما في الخبرِ الذي رُويَ عن عائِشةَ مِنْ العلَّةِ التي في إسنادِه التي لا يجوزُ معها الاحتجاجُ به لأحدٍ مِمَّنْ علِمَ صحيحَ سندِ الآثارِ وفاسدَها في الدِّين؛ لأنَّ راويَه مِمَّنْ لا يُعرَفُ في أهلِ الآثارِ» .

(2)

الثَّاني: أن يسمعَه راويه عن مِثلِه، ويتَّصِلَ بهم السَّندُ مِنْ أوَّلِه إلى مُنتهاه، كما في قولِ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «هذا خبرٌ في إسنادِه نَظَرٌ؛ فإنَّ سعيداً غيرُ معلومٍ له سماعٌ مِنْ سَلْمانَ»

(3)

، وقولِه: «رُويَ جميعُ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وليسَتْ الروايةُ به عنه مِنْ رِوايَةِ من يجوزُ

(1)

جامع البيان 1/ 210.

(2)

جامع البيان 1/ 83. وينظر: 1/ 88، 10/ 564، 13/ 587.

(3)

جامع البيان 8/ 122. ومُرادُه سعيد بن المُسيِّبِ، وسلمان الفارسي رضي الله عنه.

ص: 258

الاحتجاجُ بنَقْلِه؛ وذلك .. ، أنَّ الذي رَوى عنه أنَّ اللسانَيْن الآخَرَيْن: لسانُ قريشٍ وخُزاعةَ = قتادةُ، وقتادةُ لم يَلْقَه، ولم يَسمَعْ مِنه».

(1)

الثَّالثُ: أنْ يُؤَدِّيَه كما سَمِعَه مِنْ غيرِ شُذوذٍ، ولا عِلَّةٍ قادِحةٍ، كما في قولِ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «هذا خبرٌ في إسنادِه نَظَرٌ .. ، والثِّقاتُ مِنْ أهلِ الآثارِ يَقِفونَ هذا الكلامَ على سلْمانَ، ويَرْوونَه عنه مِنْ قِيلِه غيرَ مرفوعٍ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، والحُفَّاظُ الثِّقاتُ إذا تتابعوا على نقلِ شيءٍ بِصِفَةٍ، فخالَفَهُم واحِدٌ مُنفَرِدٌ وليسَ له حِفظُهُم = كانَتْ الجَماعةُ الأَثْباتُ أحَقُّ بِصِحَّةِ ما نَقَلوا مِنْ الفَرْدِ الذي ليسَ له حِفظُهُم»

(2)

، وقولِه:«وأَوْلى القَوْلين في ذلك بالصَّوابِ ما رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنْ كانَ صحيحاً، ولا أعْلَمُه صحيحاً؛ لأنَّ الثِّقاتَ الذين يُعتَمَدُ على حِفظِهِم وإتقانِهِم حدَّثوا بهذا الحديثِ عن الثَّوري فوَقَفوه على عبدِ الله بن عمرٍو ولَم يَرفعوه» .

(3)

2 -

ومتى اختلَّ شرطٌ مِنْ الشروطِ الثَّلاثةِ السَّابِقةِ كانَ الخبرُ مردوداً؛ وذلك هو الحديثُ الضَّعيفُ بمراتِبِه: كالذي اشتدَّ ضعفُه، والمكذوبُ. وبأَوْصافِه: كالشَّاذِّ، والمُنكرِ، والمُرسلِ، والمنقطعِ، ونحوِها.

رابعاً: أبانَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) صِفةَ الخبرِ (المُتواتِرِ)، وحُكمَه،

(1)

جامع البيان 1/ 61. وينظر: 3/ 216، 12/ 435، 21/ 20.

(2)

جامع البيان 8/ 122.

(3)

جامع البيان 10/ 564. وينظر: 1/ 120، 8/ 211، 11/ 314، 12/ 435، 13/ 587، 20/ 513.

ص: 259

ومَنزِلَتَه مِنْ الأخبارِ، في عددٍ مِنْ المواضِعِ، وجُملةُ الأوصافِ التي ذكرها هي:

1 -

الاستفاضةُ، والتَّواتُرُ، ونقلُ العامَّةِ.

(1)

2 -

مجيئُه مِنْ وجهٍ يمتنعُ مِنه التشاغُبُ والتخالُفُ.

(2)

3 -

وبِلا تواطُؤٍ في نَقْلِه.

(3)

4 -

ويستحيلُ فيه الكذِبُ، والخَطَأُ، والسَّهوُ.

(4)

5 -

ويوجِبُ التَّسليمَ بما فيه، ويقطعُ العُذرَ، وتقومُ به الحُجَّةُ قطعاً.

(5)

وما عدا ذلك مِنْ الأخبارِ فهو (الآحادِ)، وذكرَ له مِنْ الأوصافِ ما يأتي:

1 -

ينقُلُه الآحادُ؛ وهُم من دونَ حَدِّ التَّواتُرِ والاستفاضَةِ العامَّةِ.

(6)

2 -

أنَّ صِحَّةَ سندِه، وصِدقَ خبرِه، وعدالةَ راويهِ = توجِبُ العِلْمَ.

(7)

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 88، 2/ 439، 3/ 95، 266، 493، 16/ 300. ويَصِفُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ما دونَ ذلك ممّا تعدَّدَت طُرُقُه، واشتَهرَتْ روايتُه بقولِه:«وقد تظاهرَتْ الأخبارُ» ، وعامَّةُ ما يَصِفُه بذلك صحيحٌ ثابِتٌ، وبعضُها مِمّا تواترَ معناه. ينظر: 3/ 272، 690، 4/ 372، 5/ 42، 608، 7/ 519، 9/ 54، 340، 466، 642، 10/ 28، 15/ 432، 601.

(2)

ينظر: جامع البيان 1/ 500.

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 500.

(4)

ينظر: جامع البيان 1/ 500.

(5)

ينظر: جامع البيان 2/ 507، 6/ 503.

(6)

ينظر: جامع البيان 2/ 508.

(7)

ينظر: جامع البيان 2/ 439، 508، 3/ 493.

ص: 260

ومِن عِبارَةِ ابن جريرٍ (ت: 310) في بيانِ (التَّواترِ والآحادِ) قولُه: «ولا خبرَ بذلك عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تثبُتُ حُجَّتُه مِنْ جِهةِ النَّقلِ المُستَفيضِ، ولا مِنْ جِهةِ نقلِ الواحِدِ العدْلِ»

(1)

، وقولُه:«والخَبَرُ عمّا قد مضى وما قد سَلَفَ لا يُدرَكُ عِلمُ صِحَّتِه إلا بمجيئِه مَجيئاً يَمتَنِعُ مِنه التَّشاغُبُ والتَّواطؤُ، ويستحيلُ فيه الكذِبُ والخطأُ والسَّهوُ»

(2)

.

وقد نصَّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) على قبولِ خبرِ الواحِدِ وحُجِّيَّتِه إذا اجتمعتْ فيه شروطُ الخبرِ المَقبولِ الثَّلاثةُ السابِقُ ذِكرُها، كما بيَّنَ بطلانَ رأيِ من لا يقبلُ مِنْ الأخبارِ إلا المتواتِرَ، ومِن عِبارَتِه في ذلك قولُه: «وقد زَعَمَ بعضُ من لا يُصدِّقُ بالآثارِ، ولا يقبلُ مِنْ الأخبارِ إلا ما استفاضَ به النَّقلُ مِنْ العَوامِّ .. ، وهذا قولٌ خلافُ ما تظاهرَتْ به الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

، وقد أوجَزَ رأيَه ذلك في كتابِه (التبصيرُ في معالِمِ الدّين) بقولِه:«فإن كانَ الخبرُ الوارِدُ بذلك خبراً تقومُ به الحُجَّةُ مقامَ المُشاهدَةِ والسَّماعِ = وَجَبَت الدَّيْنونَةُ على سامِعِه بحَقيقَتِه في الشَّهادةِ عليه بأنَّ ذلك جاءَ به الخبرُ، نحوَ شهادتِه على حقيقةِ ما عايَنَ وسَمِعَ. وإنْ كانَ الخبرُ الوارِدُ خبراً لا يقطعُ مَجيئُه العُذرَ، ولا يُزيلُ الشَّكَّ غيرَ أنَّ ناقِلَه مِنْ أهلِ الصِّدقِ والعدالَةِ = وَجَبَ على سامِعِه تصديقُه في خَبَرِه في الشَّهادَةِ عليه بأنَّ ما أخبَرَه به كما أخبَرَه، كقَولِنا في أخبارِ الآحادِ العُدولِ»

(4)

.

(1)

جامع البيان 2/ 439.

(2)

جامع البيان 1/ 500.

(3)

جامع البيان 16/ 300.

(4)

(ص: 140).

ص: 261

خامساً: إذا ثبتَ الحديثُ، وكانَ نَصّاً، وسَلِمَ مِنْ المُعارِضِ الرَّاجحِ = لا يُصارُ إلى غيره، وقد أكَّدَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ذلك في مواضِعَ كثيرةٍ مِنْ تفسيرِه، كما في قولِه عن حديثِ النَّبي صلى الله عليه وسلم:«وليسَ لأحدٍ مع قولِه الذي يصِحُّ عنه قَولٌ»

(1)

، وقولِه عندَ قولِه تعالى {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26]: «وقَدْ رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحِ قولِ مَنْ قالَ: هي الحَنْظلَةُ. خبرٌ، فإنْ صَحَّ فلا قَوْلَ يجوزُ أنْ يُقالَ غيرُه»

(2)

، وقولِه أيضاً:«غيرَ أنَّه قد رُويَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في نظيرِ معنى ذلك خبرانِ؛ لو ثَبَتا أو أحدُهُما كانَ القَولُ به في تأويلِ ذلك هو الصَّوابُ»

(3)

، وقالَ بعدَ أن أَورَدَ بعضاً مِنْ أحاديثِ وجوبِ العُمرةِ:«هذه أخبارٌ لا يثبُتُ بمِثلِها في الدّينِ حُجَّةٌ؛ لِوَهْي أسانيدِها، وأنَّها مع وَهْي أسانيدِها لها مِنْ الأخبارِ أشكالٌ تُنبئُ عن أنَّ العُمرَةَ تطوّعٌ، لا فرضٌ واجِبٌ»

(4)

.

ويُلاحظُ في تلك النُّصوصِ اشتراطُ صِحَّةِ النَّقلِ، وصراحَةِ الدَّلالَةِ لوجوبِ الأخذِ بدليلِ السُّنَّةِ، وتحريمِ مُخالَفَتِه، ولابنِ جريرٍ (ت: 310) عباراتٌ أُخَرُ في وجوبِ الأخذِ بمُطلَقِ الحديثِ الوارِدِ في معنى الآيةِ، وهي محمولَةٌ على ما جمعَ هذين الوَصفَيْن، كما هو واضِحٌ مِنْ منهجِه في ذلك، ومِنه قولُه:«ولو لم يكُنْ على صِحَّةِ ما اختَرْنا في تأويلِ ذلك خبرٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لكانَ الواجِبُ مِنْ القَولِ فيه ما قُلْنا»

(5)

، وقولُه:

(1)

جامع البيان 21/ 20.

(2)

جامع البيان 13/ 654.

(3)

جامع البيان 2/ 507. وينظر: 5/ 593، 11/ 312، 12/ 617، 13/ 667، 14/ 121، 15/ 47.

(4)

جامع البيان 3/ 340. وينظر: 6/ 498.

(5)

جامع البيان 2/ 529.

ص: 262

«وهذا مَذهبٌ مِمّا يحتَمِلُه ظاهِرُ التَّنزيلِ لولا الخبرُ الذي ذكَرْتُه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم .. ؛ فإنَّ اتِّباعَ الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَوْلى بِنا مِنْ غيرِه»

(1)

.

وقد نصَّ العلماءُ كذلك على وجوبِ الأخذِ بدليلِ السُّنَّةِ (الصَّحيحِ الصَّريحِ) في الدَّلالَةِ على المعنى؛ قالَ ابنُ العربي (ت: 543): «وبعدَ تفسيرِ النَّبي صلى الله عليه وسلم فلا تفسيرَ، وليسَ للمُتعرِّضِ إلى غيرِه إلا النَّكيرُ»

(2)

، وقالَ القرطبي (ت: 671): «إذا وَرَدَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وثَبَتَ عنه نَصٌّ في شيءٍ لا يحتمِلُ التَّأويلَ = كانَ الوقوفُ عندَه»

(3)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «ومِمَّا ينبغي أن يُعلَمَ أنَّ القرآنَ والحديثَ إذا عُرِفَ تفسيرُه مِنْ جِهَةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يُحتَجْ في ذلك إلى الاستدلالِ بأقوالِ أهلِ اللغةِ ولا غيرِهم»

(4)

.

سادساً: دليلُ السُّنَّةِ بتلك الصِّفةِ مُقدَّمٌ مُطلقاً؛ ولو قَوِيَ القولُ الآخرُ، أو تقارَبَت الأقوالُ في الصِّحَّةِ، ومِن شواهِدِ ذلك قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عندَ قولِه تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك عندَنا بالصَّوابِ ما رُوِيَ به الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهم أهلُ اليمنِ؛ قومُ أبي موسى الأشعريِّ، ولولا الخبرُ الذي رُوِيَ في ذلك عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالخبرِ الذي رُوِيَ عنه، ما كانَ القَولُ عِندي في ذلك إلا قولَ من قالَ: هُمْ أبو بكرٍ

(1)

جامع البيان 4/ 132.

(2)

أحكام القرآن 3/ 88.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 12/ 252.

(4)

مجموع الفتاوى 13/ 27.

ص: 263

وأصحابُه؛ وذلك أنَّه لم يُقاتِلْ قوماً كانوا أظهروا الإسلامَ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ارتَدّوا على أعْقابِهم كُفّاراً = غيرُ أبي بكرٍ ومَن كانَ معَه ممَّن قاتَلَ أهلَ الرِّدَّةِ معَه بعدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّا ترَكْنا القَولَ في ذلك للخبرِ الذي رُوِيَ فيه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ أنْ كانَ صلى الله عليه وسلم مَعدِنَ البَيانِ عن تأويلِ ما أنزلَ الله مِنْ وَحيِه وآيِ كِتابِه»

(1)

، وقولُه:«وهذا القَولُ الذي ذكَرْناه عن عَلْقمةَ والشَّعبيِّ ومَن ذكَرْنا ذلك عنه = قَولٌ، لولا مجيءُ الصِّحاحِ مِنْ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِخِلافِه؛ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَعلَمُ بمعاني وَحيِ الله وتَنزيلِه»

(2)

، وقولُه عن قَولٍ لابنِ عباسٍ رضي الله عنه:«وهذا قَولٌ غيرُ بعيدٍ مِنْ الحَقِّ، غيرَ أنَّ الصَّحيحَ مِنْ الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .. ، والتَّسليمُ لخبَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَوْلى مِنْ التَّسليمِ لغَيرِه»

(3)

.

سابعاً: الإجماعُ الثابتُ، ونصُّ الكتابِ، مقدَّمانِ على دليلِ السُّنَّةِ، ولا يتقدَّمُ السُّنَّةَ الثَّابتةَ غيرُهما؛ وذلك أنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى، وهو أصلُ الأدلَّةِ كما سبَقَ بيانُه في دليلِ القرآنِ

(4)

، والإجماعُ الثَّابتُ أقطعُ الأدلَّةِ في إفادةِ المعنى، ولذلك يُقدِّمُه العُلماءُ في الذِّكرِ عند الاستدلالِ

(5)

.

(1)

جامع البيان 8/ 525.

(2)

جامع البيان 16/ 449.

(3)

جامع البيان 10/ 67. وينظر: 1/ 129، 12/ 617، 13/ 641، 15/ 47، 16/ 531، 18/ 614.

(4)

في (ص: 162).

(5)

ينظر: شرح مختصر الروضة 3/ 674، وشرح الكوكب المنير 4/ 600، ومذكرة أصول الفقه (ص: 491). وسيأتي بيانُ ذلك في مباحثِ دليلِ الإجماعِ بإذنِ الله.

ص: 264

وقد جرى ابنُ جريرٍ (ت: 310) في جميعِ ما اجتمعَتْ فيه تلك الأدلَّةُ على ذلك التَّرتيبِ، ومِن ذلك قولُه عن بعضِ الأقوالِ: «وذلك إنْ قالوه خرجَ من قالَه مِنْ قيلِ أهلِ الإسلامِ، وخالَفَ نَصَّ كتابِ الله تعالى ذِكرُه، وقولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

، وقولُه:«وعلى كلِّ ما قُلنا مِنْ ذلك الأُمَّةُ مُجمعةٌ، وقد رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبرٌ»

(2)

، وقولُه عن حُكمِ القراءَةِ خلفَ الإمامِ عندَ قولِه تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]: «فالإنصاتُ خلفَه لقراءتِه واجبٌ على مَنْ كانَ به مُؤتمّاً سامِعاً قراءَتَه؛ بعُمومِ ظاهِرِ القرآنِ، والخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

.

وتُقدَّمُ السُّنَّةُ الثّابتةُ فيما عدا ذلك كما مرَّ في المسائِلِ السابقةِ، وكما في قولِه عندَ قولِه تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]: «وأَوْلى التَّأويلَيْن بالصَّوابِ في ذلك قولُ من قالَ في ذلك: هُنَّ الصَّلواتُ الخَمسُ؛ لصِحَّةِ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وتواتُرِها عنه .. ، وأنَّ ذلك في سياقِ أمرِ الله بإقامةِ الصَّلواتِ»

(4)

، فقدَّمَ دليلَ السُّنَّةِ الثّابتِ على عمومِ اللَّفظِ.

ثامِناً: ما كانَ مِنْ أدلَّةِ السُّنَّةِ (غيرَ صَريحٍ) في الدَّلالَةِ على المعنى

(1)

جامع البيان 3/ 742. وينظر: 3/ 569، 12/ 583.

(2)

جامع البيان 6/ 469. وينظر: 3/ 401، 6/ 557، 682، 10/ 221، 24/ 348.

(3)

جامع البيان 10/ 667. وينظر: 4/ 398، 6/ 535، 9/ 461، 11/ 318، 14/ 448، 16/ 274.

(4)

جامع البيان 12/ 617.

ص: 265

فيُفيدُ في الاستشهادِ على المعاني، ولا يلزمُ المَصيرَ إليه، وقد يتقدَّمُه غيرُه مِنْ الأدلَّةِ، وهذا واضِحٌ مِنْ صنيعِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، حيثُ يذكرُ الحديثَ مِنْ ضِمنِ أدلَّةِ الأقوالِ، ولا يصيرُ إليه دونَ غيرِه، ويؤخِّرُ دليلَ السُّنَّةِ أحياناً؛ لعدمِ صراحتِه في كُلِّ ذلك، ومِنه قولُه عندَ قولِه تعالى {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59]: «فالصَّوابُ مِنْ القولِ فيه أن يُقالَ كما قالَ جلَّ ثناؤُه: أنزلَ عليهم رِجزاً مِنْ السَّماءِ بفِسْقِهم. غيرَ أنَّه يغلِبُ على نَفسي صِحَّةُ ما قالَه ابنُ زيدٍ؛ للخبرِ الذي ذكَرتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في إخبارِه عن الطَّاعونِ أنَّه رِجزٌ، وأنَّه عُذِّبَ به قومٌ قبلنا، وإن كُنْتُ لا أقولُ إنَّ ذلك كانَ يقيناً؛ لأنَّ الخبرَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا بَيانَ فيه أيُّ أُمَّةٍ عُذِّبَتْ بذلك، وقد يجوزُ أن يكونَ الذين عُذِّبوا به كانوا غيرَ الذين وصَفَ اللهُ صِفتَهُم في قولِه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]»

(1)

، وفي بيانِ قولِه تعالى {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57] ذكرَ ثمانيةَ أقوالٍ، واستشهدَ لبعضِها بقولِه:«وتظاهرَتْ الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: «الكَمْأَةُ مِنْ المَنِّ، وماؤها شفاءٌ للعَينِ»

(2)

(3)

، وذكرَه في أواخِرِ الأقوالِ في معنى الآيةِ، ولم يُقدِّمه على غيرِه في الاختيارِ، أو يَرُدّ ما خالَفَه.

تاسعاً: لا يجوزُ أن يُنسَبَ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم على سبيلِ الجَزمِ إلا ما

(1)

جامع البيان 1/ 731.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه 7/ 126 (5708)، ومسلم في صحيحه 5/ 202 (2049).

(3)

جامع البيان 1/ 700 - 704. وينظر: 2/ 164، 4/ 331، 10/ 248، 15/ 124، 545، 20/ 352.

ص: 266

ثَبَت، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وغيرُ جائِزٍ أن يُضافَ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم قِيلُ ذلك؛ لأنَّ الأخبارَ التي جاءَتْ بذلك عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم واهيَةُ الأسانيدِ؛ لا يجوزُ الاحتجاجُ بها في الدِّينِ»

(1)

، وقالَ عندَ قولِه تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124]: «غيرُ جائِزٍ لأحَدٍ أن يقولَ: عَنى الله بالكلماتِ اللواتي ابتلى بهنَّ إبراهيمَ شيئاً مِنْ ذلك بعَيْنِه دونَ شيءٍ، ولا عَنى به كُلَّ ذلك = إلا بحُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها؛ مِنْ خبَرٍ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم، أو إجماعٍ مِنْ الحُجَّةِ، ولم يَصِحَّ بشيءٍ مِنْ ذلك خبرٌ عن الرَّسولِ بنقلِ الواحِدِ، ولا بنقلِ الجماعةِ التي يجبُ التَّسليمُ لِما نَقلَتْه»

(2)

.

عاشراً: أخبارُ النَّبي صلى الله عليه وسلم الثابتةُ عنه لا تتعارَضُ، والتأليفُ بين ما ظاهِرُه التعارُضُ مِنها لازِمٌ، وعلى ذلك جرى ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، ومِن ذلك قَولُه:«فإذْ كانَ كِلا الخَبَرَيْن صحيحاً مَخرَجُهُما، فواجِبٌ التَّصديقُ بهما، وتوجيهُ كلِّ واحِدٍ مِنهما إلى الصَّحيحِ مِنْ وَجهٍ»

(3)

، وقولُه:«غيرُ جائِزٍ في أخبارِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن يكونَ بعضُها دافعاً بعضاً إذا ثبتَ صِحَّتُها»

(4)

، وقالَ في قولِه تعالى {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]: «غيرُ جائِزٍ أن يكونَ في أخبارِ الله أو أخبارِ رسولِه صلى الله عليه وسلم شيءٌ يدفعُ بعضُه بعضاً، فإذْ كانَ صحيحاً وعدُ الله مَنْ جاءَ

(1)

جامع البيان 3/ 217. وقد نصَّ على مثلِ ذلك في كتابِه: تهذيبِ الآثار، مسند علي (ص: 216، 271).

(2)

جامع البيان 2/ 507. وينظر: 1/ 731، 3/ 272، 614، 9/ 397.

(3)

جامع البيان 8/ 748.

(4)

جامع البيان 2/ 543.

ص: 267

مِنْ عِبادِه المؤمنين بالحَسَنةِ مِنْ الجَزاءِ عشرَ أمثالِها، ومَن جاءَ بالحَسَنةِ مِنهم أنْ يُضاعِفَها له، وكانَ الخَبَرانِ اللذان ذَكَرْناهُما عنه صلى الله عليه وسلم صحيحَيْن = كانَ غيرَ جائِزٍ إلا أنْ يكونَ أحدُهما مُجْمَلاً، والآخَرُ مُفَسَّراً؛ إذْ كانَت أخبارُه صلى الله عليه وسلم يُصَدِّقُ بعضُها بعضاً»

(1)

.

كما بيَّنَ أنَّ اعتقادَ تعارُضِ ما ثبتَتْ به السُّنَّةُ هو من ظَنِّ أهلِ الجَهلِ، وذلك في قولِه:«فقد تبيَّنَ إذن بما قُلنا صحَّةُ معنى الخَبَرَيْن .. ، وأنْ ليسَ أحدُهُما دافعاً صحَّةَ معنى الآخرِ كما ظنَّه بعضُ الجُهَّالِ»

(2)

.

حاديَ عشر: ما خالفَ الخبرَ الصَّحيحَ مَردودٌ، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «مع أنَّ في اتِّفاقِ الحُجَّةِ على تخطِئَةِ قائِلِ هذا القَولِ في قَولِه هذا كفايَةً عن الاستشهادِ على فسادِه بغيرِه، فكيفَ وهو معَ ذلك خلافٌ لما جاءَتْ به الآثارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والقياسُ عليه بالفسادِ شاهِدٌ»

(3)

، وقالَ أيضاً:«والخَبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِخِلافِ هذا القَولِ، وقَولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هو الحَقُّ دونَ غيرِه»

(4)

.

ثانيَ عشر: يصِحُّ الاستدلالُ بالحديثِ الضَّعيفِ على المعاني ما لم يكُنْ منكرَ المتنِ، أو مُناقضاً لظاهرِ الكتابِ، أو ما ثبتَ به الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو مكذوباً، أو في تقريرِ شيءٍ مِنْ الأحكامِ الاعتقاديَّةِ أو العمليّةِ. وعلى هذا درجَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه؛ لأنَّ الغرضَ

(1)

جامع البيان 7/ 36.

(2)

جامع البيان 2/ 543.

(3)

جامع البيان 3/ 401.

(4)

جامع البيان 19/ 569. وينظر: 16/ 300.

ص: 268

مِنْ إيرادِه له إثباتُ مُطلَقِ المعنى، وذلك لا يتأثَّرُ بعدمِ الجَزمِ بقائِلِه، فإنَّه إنْ لم يصحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعن الصَّحابي، أو التَّابعي، أو من نَقَلَه عنهم مِنْ السَّلفِ والأئِمَّةِ؛ ولذلك يُدرِجُه ابنُ جريرٍ (ت: 310) ضمنَ أقوالِ السَّلفِ بلا تمييزٍ، كما في قولِه:«والذي هو أَوْلى بتأويلِ هذه الآيةِ عندي، أعْني: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] أن يكونَ معنيّاً به: وفِّقنا للثباتِ على ما ارتضَيْتَه ووَفَّقْتَ له من أنْعمتَ عليه مِنْ عِبادِك؛ مِنْ قولٍ وعملٍ، وذلك هو الصِّراطُ المُستقيمُ .. ، وقد اختلَفَ تراجِمَةُ القرآنِ في المَعنيِّ بالصِّراطِ المُستقيمِ، يشملُ معانيَ جميعِهم في ذلك ما أخبَرْنا مِنْ التَّأويلِ فيه. ومِمَّا قالَتْه في ذلك ما رُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ، وذَكَرَ القرآنَ، فقالَ: «هو الصِّراطُ المُستقيمُ»

(1)

(2)

، وربما قدَّمها في الذكرِ عليه، كما في قولِه تعالى {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]، حيثُ ذكرَ خمسةً مِنْ أقوالِ السَّلفِ ثمَّ ختمَها بحديثٍ سُئِلَ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن العَدلِ، فقالَ:«العَدلُ الفِديةُ»

(3)

، وفي قولِه تعالى {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} [آل عمران: 43]، ذَكرَ في أواخِرِ أقوالِ أهلِ التَّأويلِ قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ حرفٍ يُذكَرُ فيه

(1)

سبقَ تخريجُه (ص: 221).

(2)

جامع البيان 1/ 171. وينظر: 11/ 688، 23/ 418.

(3)

جامع البيان 1/ 637. والحديثُ أخرجَه ابنُ جرير عن عمرو بن قيسٍ المُلائيِّ، عن رجلٍ من أهلِ الشَّام. وعمرو من أتباعِ التّابعين، وشيخُه مجهولٌ؛ فالحديثُ ضعيف. ينظر: تهذيب التهذيب 3/ 299.

وقد اختار ابنُ كثيرٍ (ت: 774) هذا المعنى للفِديةِ، واحتجَّ له بهذا الحديثِ، كما في تفسيرِه 1/ 395.

ص: 269

القُنوتُ مِنْ القرآنِ فهو طاعةٌ لله»

(1)

، وكذلك فَعلَ في قولِه تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]، حيثُ أدرَجَ ضِمنَ أقوالِ السَّلفِ قولَه صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ لَمّا ذَرأَ لجَهنَّمَ ما ذَرأَ، كانَ ولدُ الزِّنا ممَّن ذَرأَ لجَهنَّمَ»

(2)

. كما أنَّ ضمَّ هذا النَّوعِ مِنْ الأحاديثِ إلى أقوالِ السَّلفِ يرفعُها إلى مقامِ الاحتجاجِ في التَّفسيرِ، كما سيأتي بيانُه.

ومِن ثَمَّ نرى ابنَ جريرٍ (ت: 310) يستدلُّ بالحديثِ الضَّعيفِ مع نصِّه في ذاتِ الموضِعِ على ضعفِه، ولزومِ صِحَّةِ السَّندِ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم عند الاحتجاجِ، كما في قولِه عندَ قولِه تعالى {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46]: «فإذْ كانَ ذلك كذلك .. ، كانَ بيِّناً أنَّ ما قالَه أبو مجلَزٍ مِنْ أنَّهم: ملائِكةٌ. قولٌ لا معنى له، هذا مع من قالَ بِخِلافِه مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومع ما رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مِنْ الأخبارِ، وإنْ كانَ في أسانيدِها ما فيها»

(3)

، ثُمَّ أورَدَ الخبرَ في ذلك،

(1)

جامع البيان 5/ 400. والحديثُ أخرجه أحمد في مسنده 18/ 239 (11711)، وأبو يعلى في مسنده 2/ 522 (1379)، والطبراني في الأوسط 5/ 234 (5181)، وأبو نُعَيم في الحِليَةِ 8/ 325، وقالَ ابنُ كثيرٍ (ت: 774): «هذا الإسنادُ ضعيفٌ لا يُعتمَدُ عليه، ورفعُ هذا الحديثِ مُنكرٌ، وقد يكونُ من كلامِ الصَّحابيِّ أو من دونَه». تفسيرُه 2/ 38. وينظر منه: 3/ 61.

(2)

جامع البيان 10/ 592. والحديثُ أخرجه الطبريُّ هنا في تفسيرِه، وابنُ أبي حاتمٍ في تفسيرِه 5/ 1622 (8577)، من طريقِ معاويةَ بن إسحاقٍ الفَزاري، عن جليسٍ له بالطائِفِ، عن عبد الله بن عمرو به. وإسنادُه ضعيفٌ؛ لجهالةِ جليسِ معاويةَ بن إسحاق.

وينظر في أمثالِ تلك الأمثلةِ: 5/ 377، 466، 11/ 585، 19/ 470، 20/ 33، 22/ 237، 272. بل رُبَّما ذكرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) هذا النَّوعَ من الأحاديثِ بعد الاستدلالِ بأخبارِ بني إسرائيل، كما في 5/ 586، 15/ 390 - 401.

(3)

جامع البيان 10/ 221.

ص: 270

ومثلُه قولُه: «وقد رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتَصحيحِ ما قُلنا في ذلك خبرٌ في إسنادِه نَظَرٌ، وذلك ما حدَّثنا .. »

(1)

، وكذا قولُه:«وقد رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بنحوِ الذي قُلنا خبرٌ، وإنْ كانَ بعضُ نَقَلَتِه يَقِفُ به على ناقِلِه عنه مِنْ الصَّحابةِ» ، ثُمَّ أَوْرَدَه، وقالَ:«وقد وَقَفَ هذا الحديثَ بعضُهُم على أبي هريرة» ، ثُمَّ أَوْرَدَه مَوْقوفاً

(2)

.

وهذا يدلُّ على أنَّ مُرادَه بما لا يُحتجُّ به نوعٌ مِنْ الضَّعيفِ؛ ليس مِنْ جنسِ ما استدلَّ به هاهنا، وهو: ما ظهرتْ نكارتُه، أو بان كذِبُ راويه، أو ناقضَ ظاهرَ الكتابِ، أو ما ثبتَ به الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ما رأيتُه مُطَّرِداً في عامَّةِ ما استدلَّ به مِنْ هذا النَّوعِ مِنْ الحديثِ. ومِن أمثلَةِ ذلك قولُه في قولِه تعالى {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، حيثُ ذكرَ قولَ علقمةَ (ت: 62) والشَّعبي (ت: 103): أنَّ ذلك قبل السّاعةِ، ثُمَّ قالَ:«وقد رُوِيَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بنحوِ ما قالَ هؤلاءِ خبرٌ في إسنادِه نظرٌ»

(3)

، ثُمَّ ذكرَه وقالَ:«وهذا القَولُ الذي ذكَرْناه عن عَلْقمةَ والشَّعبيِّ ومَن ذكَرْنا ذلك عنه = قَولٌ، لولا مجيءُ الصِّحاحِ مِنْ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِخِلافِه؛ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَعلَمُ بمعاني وَحيِ الله وتَنزيلِه، والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك ما صَحَّ به الخَبرُ عنه»

(4)

، ومثلُ ذلك اختيارُه في قولِه تعالى {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 - 40] أنَّ المُرادَ: جماعةٌ مِنْ الذين مضَوا قبلَ أُمَّةِ

(1)

جامع البيان 8/ 383.

(2)

جامع البيان 8/ 734. وينظر: 3/ 716، 6/ 557، 15/ 29، 19/ 375.

(3)

جامع البيان 16/ 447.

(4)

جامع البيان 16/ 449.

ص: 271

محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وجماعةٌ مِنْ أُمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ قالَ: «وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ، وجاءَتْ به الآثارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

، ثُمَّ ذكرَها، وقالَ:«وقد رُوِيَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ مِنْ وجهٍ غيرِ صحيحٍ، أنَّه قالَ: «الثُّلَّتان جميعاً مِنْ أُمَّتي»

(2)

(3)

.

و ابنُ جريرٍ (ت: 310) في هذا موافِقٌ لِما عليه الأئِمَّةُ مِنْ أهلِ الحديثِ والرِّوايةِ، فقد نصّوا على اختِصاصِ علمِ التَّفسيرِ بنوعٍ مِنْ الرِّوايةِ في الأعَمِّ الأغلَبِ، كما في قولِ أحمدَ بن حنبل (ت: 241): «ثلاثةُ كتبٍ ليسَ لها أصولٌ؛ المغازي، والملاحِمُ، والتَّفسيرُ»

(4)

، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728) مُبيِّناً تلك العِبارةَ: «ويُروى: ليسَ لها أصلٌ. أي: إسنادٌ؛ لأنَّ الغالبَ عليها المراسيلُ .. ، والمراسيلُ إذا تعدَّدت طُرُقها، وخَلَت عن المواطأةِ قصداً، أو الاتفاقِ بغيرِ قصدٍ = كانَت صحيحةً قطعاً»

(5)

، وقالَ أيضاً:«ومعنى ذلك أنَّ الغالِبَ عليها أنَّها مُرسلَةٌ ومُنقطِعةٌ، فإذا كانَ الشيءُ مشهوراً عند أهلِ الفَنِّ قد تعدَّدت طُرُقه، فهذا مِمّا يَرجِعُ إليه أهلُ العِلمِ، بخِلافِ غيرِه»

(6)

.

وقد كانَ ذلك مِنْ أسبابِ إعراضِ بعضِ الأئمَّةِ عن الاستكثارِ مِنْ

(1)

جامع البيان 22/ 330.

(2)

أخرجه ابن عدي في الكامل 2/ 67، وضَعَّفَه بأبان بن أبي عيّاش، وهو متروكٌ، مُنكرُ الحديث. قال الدارقطني (ت: 385): هذا حديثٌ لم يثبُتْ. يُنظر: تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف، للزيلعي 3/ 404، وتهذيب التهذيب 1/ 55.

(3)

جامع البيان 22/ 330. وينظر في غيرِها من الأمثلةِ: 6/ 498، 8/ 122، 11/ 314.

(4)

الجامع لأخلاق الراوي 2/ 231.

(5)

مجموع الفتاوى 13/ 346.

(6)

تلخيص كتاب الاستغاثة 1/ 76.

ص: 272

مرويّاتِ التَّفسيرِ؛ لغلَبَةِ المَقطوعِ فيها، فقد نقلَ الذَّهبيُّ (ت: 748) قولَ مالكِ بن أنس (ت: 179): «نِعمَ الرَّجلُ معمرَ كانَ، لولا روايتُه التَّفسيرَ عن قتادةَ»

(1)

، ثُمَّ علَّقَ بقولِه:«قلتُ: يظهرُ على مالكٍ الإمامِ إعراضٌ عن التَّفسيرِ؛ لانقطاعِ أسانيدِ ذلك، فقلَّما روى مِنه، وقد وقعَ لنا جُزءٌ لطيفٌ مِنْ التَّفسيرِ مَنقولٌ عن مالك»

(2)

.

وهذه الخاصّيَّةُ في النَّقلِ استَلزَمَت خُصوصيَّةً في التَّعامُلِ والاستدلالِ، كما أشارَ ابنُ تيمية (ت: 728)، وكما في قولِه: «وهذا التَّفسيرُ هو تفسيرُ الوالبيِّ

(3)

، وأمَّا ثُبوتُ ألفاظِه عن ابنِ عباسٍ ففيها نظَرٌ؛ لأنَّ الوالبيَّ لم يسْمَعه مِنْ ابنِ عباسٍ ولم يُدرِكْه، بل هو مُنقطِعٌ، وإنَّما أَخَذَ عن أصحابِه، كما أنَّ السُّدّي أيضاً يذكرُ تفسيرَه عن ابنِ مسعودٍ، وعن ابنِ عباسٍ، وغيرِهما مِنْ أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وليسَتْ تلك ألْفاظُهُم بِعَيْنِها، بَلْ نقلُ هؤلاءِ شبيهٌ بنَقلِ أهلِ المغازي والسِّيَرِ، وهو ممّا يُستَشْهدُ به، ويُعتبَرُ به، ويُضَمُّ بعضُه إلى بعضٍ فيصيرُ حُجَّةً»

(4)

، وقد كانَ هذا جليّاً في كلامِ الأئِمَّةِ قبلَه، كما في قولِ يحيى بن سعيد

(1)

السِّيَر 7/ 9، ومُرادُه معمرَ بن راشدٍ الحافظَ المتوفى سنة (154).

(2)

المرجع السّابق.

(3)

يعني: عليّ بن أبي طلحةَ سالم بن المُخارق الهاشميّ، مولى بني العبّاسِ، اشتهرَت صحيفتُه عن ابنِ عبّاسٍ في التَّفسيرِ، واحتجَّ بها العلماءُ، وهي مِنْ أحسنِ الطُّرقِ عنه، ولم يَرَ ابنَ عبّاسٍ، وبينهما سعيدُ بن جبيرٍ (ت: 95)، أو مجاهدُ (ت: 104)، أخرجَ له مسلمٌ حديثاً واحداً، والبُخاريُّ لا يُسمّيه وإنَّما يُعلِّقُ عن ابنِ عبّاسٍ بما هو مِنْ طريقِه، مات سنة (143). ينظر: تهذيب التهذيب 3/ 171، والعجاب في بيان الأسباب 1/ 207، والإتقان 6/ 2331.

(4)

بيان تلبيس الجهمية 5/ 521.

ص: 273

القطّان

(1)

(ت: 198): «تساهلوا في أخذِ التَّفسيرِ عن قومٍ لا يوثِّقونَهم في الحديثِ، -ثُمَّ ذكرَ ليثَ بن أبي سليمٍ

(2)

، وجوَيبرَ بن سعيدٍ

(3)

، والضَّحاكَ

(4)

، ومحمدَ بن السّائِبِ

(5)

- وقالَ: هؤلاءِ لا يُحمَلُ حديثُهم، ويُكتَبُ التَّفسيرُ عنهم»

(6)

، وقالَ البيهقيُّ (ت: 458): «وأمّا النَّوعُ الثّاني مِنْ الأخبارِ، فهي أحاديثُ اتَّفقَ أهلُ العلمِ بالحديثِ على ضَعفِ مَخرجِها، وهذا النوعُ على ضِربَين: ضِربٌ رواه من كانَ معروفاً بوَضعِ الحديثِ والكذبِ فيه، فهذا الضِّربُ لا يكونُ مُستعملاً في شيءٍ مِنْ أمورِ الدّينِ إلا على وجهِ التّليينِ .. ، وضِربٌ لا يكونُ راويه مُتَّهماً بالوَضعِ، غيرَ أنَّه عُرفَ بسوءِ الحفظِ، وكثرةِ الغَلَطِ في رواياته، أو يكونُ مجهولاً؛ لم يثبُت مِنْ عدالَتِه وشرائِطِ قبولِ خبرِه ما

يُوجِبُ

(1)

هو أبو سعيد البَصريِّ، الإمامُ الحافظُ النّاقد. ينظر: الكاشف 3/ 256، وتهذيب التهذيب 4/ 357.

(2)

ليثُ بن أبي سليمٍ القرشي مولاهم، أبو بكرٍ، محدث الكوفة وأحدُ علمائها، روى عن مجاهد وطبقتِه، صدوق اختلطَ جداً لضعفِ حفظِه، مات سنة (148). ينظر: السير 6/ 179، والتقريب (ص: 817).

(3)

جوَيْبر بن سعيد الأزدي، أبو القاسم البَلخي، راوي التَّفسير، أكثرَ عن الضَّحّاك، وهو ضعيفُ الحديثِ جدّاً، مات بعد (140). ينظر: الكاشف 1/ 190، وتهذيب التهذيب 1/ 320.

(4)

الضَّحّاكُ بن مزاحمٍ الهلالي، أبو محمد الخراسانيّ، صاحبُ التَّفسيرِ، مِنْ أوعيةِ العلمِ، صدوقٌ في الحديثِ، لم يلقَ ابنَ عباسٍ رضي الله عنه، مات سنة (105). ينظر: السير 4/ 598، والتقريب (ص: 459).

(5)

محمد بن السّائبِ بن بشر الكلبي، أبو النَّضرِ الكوفيّ، النَّسّابةُ المُفسِّر، شيعيٌّ متروكُ الحديثِ، مات سنة (146). ينظر: السير 6/ 248، والتقريب (ص: 847).

(6)

الجامع لأخلاق الراوي 2/ 286. وينظر: تهذيب التهذيب 1/ 321.

ص: 274

القَبولَ، فهذا الضِّربُ مِنْ الأحاديثِ لا يكونُ مُستعملاً في الأحكامِ، كما لا تكونُ شهادةُ من هذه صِفتُه مَقبولَةً عند الحكّام، وقد يُستعملُ في الدّعواتِ، والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ، والتَّفسيرِ، والمغازي؛ فيما لا يتعلَّقُ به حُكمٌ»

(1)

، وقالَ الخطيبُ البغدادي (ت: 463): «العُلماءُ قد احتجّوا في التَّفسيرِ بقَومٍ لم يحتجّوا بهم في مُسنَدِ الأحاديثِ المُتعلِّقةِ بالأحكامِ؛ وذلك لسوءِ حِفظِهم الحديثَ، وشُغلِهم بالتَّفسيرِ، فهُم بمثابَةِ عاصمِ بن أبي النَّجودِ، حيثُ احتُجَّ به في القراءاتِ دونَ الأحاديثِ المُسنداتِ؛ لِغَلَبةِ عِلمِ القُرآنِ عليه، فصرَفَ عنايتَه إليه»

(2)

.

كما أنَّ الغالِبَ على تلك الموقوفاتِ والمقطوعاتِ في التَّفسيرِ أنَّها نُسخٌ ووِجاداتٌ، والأصلُ فيما هذا شأنُه -إذا صَحَّ الكِتابُ- ألّا يُنظَرَ إلى ناقِلِه، وإنّما العِبرَةُ بمعناه.

(3)

ثالثَ عشر: يتشدَّدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في الاستدلالِ بالحديثِ الضَّعيفِ في تقريرِ الأحكامِ؛ اعتقاديَّةً كانَت أو عمليَّةً، ولا يُورِدُ مِنه -إن أَورَدَ- سوى ما عضَدَه غيرُه مِنْ الأدلَّةِ؛ كما في قولِه بعد ذِكرِ بعضِ أحاديثِ الأحكامِ: «فهذا الخبَرُ وإن كانَ في إسنادِه ما فيه، فالقَولُ به؛

(1)

دلائل النبوة 1/ 33.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي 2/ 286. وعاصم بن أبي النَّجودِ هو الكوفيّ الإمامُ المُقرئُ أحدُ السَّبعةِ، وقد استقرَّ الأمرُ على أنَّه حسنُ الحديثِ. مات سنة (128). ينظر: الجرح والتَّعديل 6/ 340، والكاشف 2/ 49.

(3)

ينظر: الكفاية في علم الرواية (ص: 391)، وتحرير علوم الحديث 1/ 154، وأسانيد نُسَخ التفسير (ص: 59)، والتفسير النبوي (ص: 113).

ص: 275

لإجماعِ الجميعِ على صِحَّةِ القَولِ به = أَوْلى»

(1)

، وقولِه بعدما أسْنَدَ حديثَ سلمانَ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قالَ:«إذا أرسلَ الرجلُ كلبَه على الصَّيدِ فأدرَكَه وقد أكلَ مِنه، فليأكُلْ ما بَقي»

(2)

: «هذا خبرٌ في إسنادِه نَظَرٌ؛ فإنَّ سعيداً غيرُ معلومٍ له سماعٌ مِنْ سَلْمانَ، والثِّقاتُ مِنْ أهلِ الآثارِ يَقِفونَ هذا الكلامَ على سلْمانَ، ويَرْوونَه عنه مِنْ قِيلِه غيرَ مرفوعٍ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم)

(3)

، فردَّ القَولَ لضَعفِ دليلِه، ولأنَّه مُقابلٌ بما هو صحيحٌ ثابتٌ.

وذلك هو منهجُ سائِرِ الأئِمَّةِ في هذا البابِ، ومِن ذلك قولُ عبدِ الرحمن بن مهدي (ت: 198)

(4)

، وأحمدَ بن حنبل (ت: 241): «إذا روَيْنا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الحلالِ والحرامِ والسُّننِ والأحكامِ تشدَّدنا في الأسانيدِ، وإذا روَينا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في فضائِلِ الأعمالِ، وما لا يضعُ حُكماً ولا يَرفعُه تساهلنا في الأسانيدِ»

(5)

، وقولُ ابن خزيمة (ت: 311) في كتابه (التوحيد): «لسنا نحتجُّ في هذا الجِنسِ مِنْ العلمِ بالمراسيلِ المُنقطِعات»

(6)

، وقولُ الحاكِمِ (ت: 405): «وأنا بمشيئَةِ الله أُجري

(1)

جامع البيان 3/ 716.

(2)

أخرجه ابنُ جريرٍ في تفسيرِه 8/ 122، وقال ابنُ كثيرٍ (ت: 774) بعدما نقلَ كلامَ ابنَ جريرٍ (ت: 310) في تضعيفِه: «وهذا الذي قالَه ابنُ جريرٍ صحيحٌ، لكن قد رُوِيَ هذا المعنى مرفوعاً من وُجوهٍ أُخَر» ، ثُمَّ ذكرَها. تفسيره 5/ 96.

(3)

جامع البيان 8/ 121 - 122.

(4)

عبدُ الرّحمن بن مهدي بن حسّان الأزديّ مولاهم، أبو سعيد البَصريّ، الإمامُ النّاقدُ، سيّدُ الحُفّاظ، مات سنة (198). ينظر: السير 9/ 192، وتهذيب التهذيب 2/ 556.

(5)

دلائل النبوة، للبيهقي 1/ 34، والكفاية في علم الرواية (ص: 163).

(6)

/ 224. وينظر: 1/ 51.

ص: 276

الأخبارَ التي سقطَتْ على الشَّيخَينِ في كتابِ الدَّعواتِ، على مذهبِ أبي سعيدٍ عبدِ الرَّحمن بن مهديّ في قبولِها»

(1)

، وقولُ ابنِ عبد البرِّ (ت: 463): «وما لَم يكُن فيه حُكمٌ، فقد تسامحَ النّاسُ في روايتِه عن الضُّعفاءِ»

(2)

.

رابعَ عشر: يضُمُّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى الحديثِ الضَّعيفِ دليلَ ظاهِرِ الكتابِ، والإجماعِ، وأقوالِ السَّلفِ، وشواهِدِ اللغةِ، وغيرِها مِنْ أنواعِ الأدلَّةِ، وذلك ظاهِرٌ في عامَّةِ ما استدلَّ به مِمَّا حكمَ بضَعفِه مِنْ السُّنَّةِ، وقد نصَّ على ذلك المنهجِ في مُقدِّمتِه؛ حيثُ قالَ:«فأحقُّ المُفَسِّرين بإصابَةِ الحَقِّ في تأويلِ القرآنِ الذي إلى عِلْمِ تأويلِه للعبادِ السبيلُ = أوضَحُهُم حُجَّةً فيما تأوَّلَ وفسَّرَ، مِمَّا كانَ تأويلُه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دون سائِرِ أُمَّتِه، مِنْ أخبارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم الثَّابتَةِ عنه؛ إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّقلِ المُستَفيضِ .. ، وإمَّا مِنْ جِهةِ نقلِ العُدُولِ الأثباتِ .. ، أو مِنْ جهةِ الدَّلالةِ المنصوبةِ على صِحَّتِه»

(3)

، فبعدَ أن ذكرَ الأخبارَ الثَّابتةَ، وفصَّلَ طريقَيْ ثبوتِها، ذكرَ قسيمَها وهو ما لم يثبُتْ مِنْ الأخبارِ، وأرشدَ إلى منهجِ قبولِها في الاحتجاجِ، وذلك إذا دلَّتْ الدَّلالاتُ على صِحَّةِ معنى الخبرِ النَّبويِّ مِنْ غيرِ جِهةِ الإسنادِ.

ومِن شواهدِ ذلك قولُه: «وقد رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بنَحوِ الذي قُلنا مِنْ ذلك أخبارٌ، وإن كانَ في أسانيدِها نَظَرٌ، مع دليلِ الكِتابِ على

(1)

المستدرك 1/ 666.

(2)

التمهيد 16/ 267.

(3)

جامع البيان 1/ 88.

ص: 277

صِحَّتِه، على النَّحوِ الذي بيَّنتُ»

(1)

، وقولُه عن بعضِ ترجيحاتِه:«مع أنَّ ذلك أيضاً إجماعٌ مِنْ الحُجَّةِ التي لا يجوزُ خلافُها فيما جاءَت به مُتَّفِقةً عليه، وقد رُوِيَ بذلك أيضاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ، غيرَ أنَّ في إسنادِه نَظراً»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46]: «فإذْ كانَ ذلك كذلك .. ، كانَ بيِّناً أنَّ ما قالَه أبو مجلَزٍ مِنْ أنَّهم: ملائِكةٌ. قولٌ لا معنى له، هذا مع من قالَ بِخِلافِه مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومع ما رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مِنْ الأخبارِ، وإنْ كانَ في أسانيدِها ما فيها»

(3)

.

وكُلُّ ذلك لغرضِ تَقويةِ المعنى العامِّ الذي تأتَلِفُ عليه جُملَةُ هذه الأدلَّةُ، وقد أشارَ البيهقيُّ (ت: 458) إلى ذلك الغَرضِ بقولِه عمَّن ضعَّفَهم الأئِمَّةُ في روايةِ الحديثِ ورَضوهُم في التَّفسيرِ: «وإنَّما تساهلوا في أخذِ التَّفسيرِ عنهم لأنَّ ما فسَّروا به مِنْ ألفاظِه تشهدُ لهم به لُغاتُ العربِ، وإنَّما عملُهم في ذلك الجمعُ والتقريبُ فقط»

(4)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728) عن نقلِ أولئك الرّواةِ: «نقلُ هؤلاءِ شبيهٌ بنَقلِ أهلِ المغازي والسِّيَرِ، وهو ممّا يُستَشْهدُ به، ويُعتبَرُ به، ويُضَمُّ بعضُه إلى بعضٍ فيصير حُجَّةً»

(5)

.

(1)

جامع البيان 19/ 375.

(2)

جامع البيان 6/ 557.

(3)

جامع البيان 10/ 221.

(4)

دلائل النبوة 1/ 37.

(5)

بيان تلبيس الجهمية 5/ 521.

ص: 278

خامسَ عشر: مِنْ منهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في الاستدلالِ بالحديثِ الضَّعيفِ على المعاني: الاستشهادُ بما اشتدَّ ضَعفُه في غيرِ تأسيسِ المعنى. ومِن ذلك قولُه عندَ قولِه تعالى {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4]: «وذُكرَ أنَّ الأحدَ العَشرَ الكوكبَ التي رآها في منامِه ساجِدَةً مع الشَّمسِ والقَمرِ، ما حدَّثني .. »

(1)

، ثُمَّ ساقَ حديثاً فيه أسماءُ هذه الكواكبِ، وإسنادُه ضعيفٌ جِدّاً

(2)

، لكنّه لم يَعتمِده في تأسيسِ معنىً، أو نَفْيِه، بل ذكرَه بعدَ بيانِ ظاهِرِ المعنى، وأنَّ الرُّؤْيا كانَت في المنامِ، وأنَّ رُؤْيا الأنبياءِ وحيٌ، ثُمَّ ختمَ الكلامَ عن الآيةِ بهذا المعنى، وله في التَّفسيرِ محلٌّ يأتي بيانُه بإذن الله. ومثلُ ذلك صنيعُه في بيانِ معنى إفسادِ بني إسرائيلَ المذكورِ في قولِه تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4]، حيثُ ذكرَ قولَ ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ رضي الله عنهم مِنْ طريقِ السُّدّي (ت: 128) -، وابنِ زيد (ت: 182)، في معنى الإفسادِ الأوَّلِ، وهو: قَتلُهم زكريّا نبيَّ الله، مع ما سلفَ مِنهم قبلَ ذلك وبعدَه. ثُمَّ ذكرَ القولَ الآخرَ في معنى ذلك الإفسادِ، عن محمدِ بن إسحاق (ت: 152)، وهو: قتلَهُم شِعيا بن أمصيا

(3)

نبيَّ الله. واستدلَّ

(1)

جامع البيان 13/ 10.

(2)

أخرجه البزّار كما في كشف الأستار 3/ 53 (2220)، والعقيلي في الضعفاء 1/ 259، وابنُ حبان في المجروحين 1/ 250. من طريقِ الحَكمِ بن ظُهيرٍ الفزاري. قال العقيلي (ت: 322) عن الحديثِ: «لا يصِحّ» ، وقال ابن حبّان (ت: 354): «لا أصلَ له من حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)، وقال ابنُ كثير (ت: 774) في تفسيره 8/ 14: «تفرّد به الحكمُ بن ظُهيرٍ الفزاري، وقد ضعّفَه الأئِمّةُ، وتركه الأكثرون» .

(3)

مذكورٌ في أنبياءِ بني إسرائيل، قبل زكريّا ويحيى، وهو ممَّن بشَّرَ بعيسى ومحمدٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ. ينظر: تاريخ الأمم والملوك 1/ 532، والبداية والنهاية 2/ 26، وقاموس الكتاب المقدس 1/ 109.

ص: 279

للقولِ الأوَّلِ بحديثٍ طويلٍ في صِفةِ إفسادِ بني إسرائيلَ، وما بُعِثَ عليهم مِنْ الهلاك

(1)

. وقد نصَّ الأئِمَّةُ على بُطلانِ هذا الحديثِ

(2)

، لكنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) لم يذكُرْه أصلاً يقومُ عليه المعنى، بل تابِعاً لما قبلَه مِنْ الأدلَّةِ، التي تتقوّى بضَمِّ بعضِها إلى بعضٍ، وتشهدُ للمعنى العامِّ بجُملَتِها.

(3)

سادسَ عشر: يقصِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ إيرادِ عددٍ مِنْ الأحاديثِ الضَّعيفةِ إلى الاستشهادِ بجُزءٍ مِنها، دونَ ما فيه نكارةٌ في تفاصيلِها، ومِن ذلك استدلالُه على أنَّ سورَةَ النَّصرِ نعيٌ للنَّبي صلى الله عليه وسلم، بجُملَةٍ مِنْ الأحاديثِ، وأقوالِ السَّلفِ

(4)

، وذكرَ ضِمنَها حديثَ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه مرفوعاً:«نُعِيَتْ إليَّ نفسي، كأنّي مقبوضٌ في تلك السَّنةِ»

(5)

، فالشَّطرُ الأوَّلُ مِنه ثابتُ المعنى في غيرِه مِنْ الأحاديثِ

(6)

، وهو ما وقعَ الاستشهادُ به هنا، أمّا الشَّطرُ الثّاني فقالَ عنه ابنُ

(1)

جامع البيان 14/ 456 - 469.

(2)

قالَ عنه ابنُ كثير (ت: 774): «وهو حديثٌ موضوعٌ لا محالَةَ» ، ونقلَ ذلك عن شيخِه أبي الحجَّاجِ المِزِّي (ت: 742). تفسيرُه 8/ 438.

(3)

وينظر: جامع البيان 1/ 136، 24/ 556.

(4)

جامع البيان 24/ 707 - 713.

(5)

أخرجه أحمد في مسنده 3/ 366 (1873)، من طريقِ عطاء بن السّائِب. وهذا الإسناد ضعيف، قال ابنُ كثير (ت: 774): «في إسنادِه عطاءُ بن أبي مسلم الخراساني، وفيه ضعفٌ، تكلَّمَ فيه غيرُ واحِدٍ من الأئِمَّةِ» . البداية والنهاية 6/ 624.

(6)

ينظر: صحيح البخاري 6/ 179 (4970)، وسنن النسائي الكبرى 6/ 525 (11712).

ص: 280

كثيرٍ (ت: 774): «في لفْظِه نَكارَةٌ شديدةٌ، وهو قَولُه بأنَّه مَقبوضٌ في تلك السَّنةِ. وهذا باطِلٌ؛ فإنَّ الفَتحَ كانَ في سنةِ ثمانٍ، في رَمَضَانَ مِنها، كما تقَدَّمَ بيانُه، وهذا ما لا خِلافَ فيه، وقد تُوفِّيَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم في رَبيعٍ الأوَّلِ مِنْ سَنةِ إحْدى عشرَةَ، بِلا خِلافٍ أيضاً»

(1)

، ومثلُ ذلك صنيعُه عندَ قولِه تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]

(2)

، حيثُ ذكرَ -ضِمنَ أدلَّةِ الاستعانةِ بالصَّلاةِ- حديثاً مُعلَّقاً بلا إسنادٍ، بصيغةِ التَّضعيفِ، فقالَ:«وكذلك رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى أبا هريرةَ مُنبَطِحاً على بَطنِه، فقالَ له: «اشكَنْب دَرْد»

(3)

، قالَ: نعم. قالَ: «قُمْ فَصَلِّ؛ فإنَّ في الصَّلاةِ شِفاءً»

(4)

، وهو حديثٌ ظاهِرُ النَّكارةِ، إلا أنَّ في آخرِه شاهِدٌ على المعنى الذي استدلَّ له ابنُ جريرٍ (ت: 310) بسواهُ مِنْ الأدلَّةِ الثّابتةِ.

(5)

وقد وجدتُ في معنى ذلك كلاماً للمُحقِّقِ محمود شاكر (ت: 1418)، أبانَ فيه منهجَ ابنَ جريرٍ (ت: 310) في نحوِ تلك الرِّواياتِ، فقالَ: «تبيَّنَ لي ممّا راجعتُه مِنْ كلامِ الطَّبري أنَّ استدلالَ الطَّبري بهذه الآثارِ التي

(1)

البدايةُ والنهاية 6/ 624.

(2)

جامع البيان 1/ 617 - 621.

(3)

كلمةٌ فارسيّةٌ تعني: أتشتكي بطنَك؟. ينظر: سنن ابن ماجة 5/ 131.

(4)

أخرجه ابنُ ماجة في سُننِه 5/ 130 (3458)، وأحمدُ في مسندِه 15/ 28، 131 (9066، 9240)، والعقيلي في الضعفاءِ 2/ 48، وابنُ حبان في المجروحين 1/ 296، وابنُ عديّ في الكامِل 4/ 22. من طريقِ ذوّاد بن عُلبَة، عن ليثِ بن أبي سليم، وكلاهُما ضعيفٌ، وذوّادُ قالَ عنه ابنُ حبّان (ت: 354): «مُنكرُ الحديثِ جِدّاً»؛ فالحديثُ مُنكرٌ، والصَّوابُ أنَّه موقوفٌ، كما في مراجِعِ التّخريجِ.

(5)

جامع البيان 1/ 618. وينظر في غيرِه من الأمثلةِ: 20/ 74.

ص: 281

يرويها بأسانيدِها، لا يُرادُ به إلا تحقيقُ معنى لفظٍ، أو بيانُ سياقِ عِبارةٍ، وكيف اختلف المفسرون مِنْ الأوَّلين في معنىً؟ .. ، وجَعلَ استدلالَه بهذه الآثارِ كاستدلالِ المُستدلِّ بالشِّعرِ على معنى لفظٍ في كتابِ الله .. ، وهذا مذهبٌ لا بأسَ به في الاستدلالِ.

ومثلُه أيضاً ما يسوقُه مِنْ الأخبارِ والآثارِ التي لا يُشَكُّ في ضعفِها، فهو لم يَسُقْها لتكونَ مُهَيْمِنةً على تفسيرِ آي التَّنزيلِ الكريمِ، بل يَسوقُ الطَّويلَ الطَّويلَ لبيانِ معنى لفظٍ، أو سياقِ حادثةٍ، وإن كانَ الأثرُ نفسُه ممّا لا تقومُ به الحُجَّةُ في الدِّينِ، ولا في التَّفسيرِ التّامِّ لآي كتابِ الله. فاستدلالُ الطَّبري بما يُنكِرُه المُنكِرون لم يكن إلا استظهاراً للمعاني التي تدُلُّ عليها ألفاظُ هذا الكتابِ الكريمِ، كما يُستَظهَرُ بالشِّعرِ على معانيها، فهو إذن استدلالٌ يكادُ يكونُ لُغَويّاً، ولمّا لم يكُن مُستَنكَراً أن يُستدَلَّ بالشِّعرِ الذي كَذَبَ قائِلُه -ما صحَّتْ لُغَتُه- فليسَ بمُستَنكَرٍ أن تُساقَ الآثارُ التي لا يرتضيها أهلُ الحديثِ، والتي لا تَقومُ بها الحُجَّةُ في الدِّينِ، للدَّلالَةِ على المعنى المفهومِ مِنْ صَريحِ لفظِ القُرآنِ، وكيفَ فَهِمَهُ الأوائلُ، سواءٌ كانوا مِنْ الصَّحابةِ أو مَنْ دونَهُم .. ، وأرجو أن تكونَ هذه تَذكرةً تنفعُ قارئَ كتابِ الطَّبري إذا ما انتهى إلى شيءٍ ممّا عدَّه أهلُ عِلمِ الحديثِ مِنْ الغريبِ والمُنكرِ، وفي هذا مَقنَعٌ لمن أرادَ أن يعرفَ عِلمَ الأقْدَمين على وَجهِهِ، والحمدُ لله أوَّلاً وآخراً»

(1)

.

(1)

جامع البيان 1/ 453، حاشية رقم (2).

ص: 282

سابعَ عشر: يُشيرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى ضعفِ كثيرٍ مِنْ الأحاديثِ؛ بعدمِ الجَزمِ بنِسْبتِها إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بقولِه:(فيما بلغَنا، ورُوِيَ، وفيما ذُكِرَ) ونحوِها، ومِن ذلك قولُه عندَ قولِه تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]: «وإنَّما قيلَ له ذلك -فيما بلَغَنا- لأنَّه كانَ قبلَ تحويلِ قِبلَتِه مِنْ بيتِ المَقدِسِ إلى الكعبَةِ يرفعُ بصرَه إلى السَّماءِ .. »

(1)

، ثُمَّ أسنَدَ معناه عن قتادةَ (ت: 117) مرفوعاً، وانقِطاعُه ظاهِرٌ؛ فقتادةُ (ت: 117) مِنْ التّابعين. ومثلُه قولُه في قولِه تعالى {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]: «وذلك ما كانَ صلى الله عليه وسلم همَّ به مِنْ أن يَفعَلَ بعضَ الذي كانوا سَألوه فِعلَه، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكِرَ- .. »

(2)

، ثُمَّ أسندَ ذلك عن قتادةَ (ت: 117) أيضاً. وكذلك قولُه: «وقد رُوِيَ بذلك أيضاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ، غيرَ أنَّ في إسنادِه نَظَراً»

(3)

.

ثامنَ عشر: رُبَّما قدَّمَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) الحديثَ الضَّعيفَ في الذِّكرِ، وإن أخذَ بغيرِه ممّا قَوِيَت دلالتُه، كما في قولِه تعالى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، حيثُ ذكرَ الأقوالَ الثَّلاثَةَ في معنى الكرسيِّ؛ وهي: أنَّه عِلمُ الله. أو: موضِعُ قدَمَيْه. أو: العرشُ نفسُه. ثُمَّ قالَ: «لكُلِّ قولٍ مِنْ هذه الأقوالِ وَجهٌ ومَذهَبٌ، غيرَ أنَّ الذي هو أَوْلى بتأويلِ الآيةِ ما جاءَ به الأثرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(4)

، ثُمَّ أسنَدَ عن

(1)

جامع البيان 2/ 656.

(2)

جامع البيان 15/ 16.

(3)

جامع البيان 6/ 557. وينظر: 13/ 10.

(4)

جامع البيان 4/ 541.

ص: 283

رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قولَه: «إنَّ كُرسيَّه وَسِعَ السماواتِ والأرضَ، وإنَّه ليَقعُدُ عليه فما يَفضُلُ مِنه مِقدارُ أربعِ أصابِعَ .. »

(1)

الحديثَ، ثُمَّ قالَ:«وأمَّا الذي يدلُّ على صِحَّتِه ظاهِرُ القرآنِ فقولُ ابنِ عباسٍ .. : هو عِلْمُه»

(2)

، واستدلَّ له بدليلِ القرآنِ، والسِّياقِ، وأصلِ الّلفظِ في لُغةِ العربِ وأشعارِها.

فابنُ جريرٍ (ت: 310) بصَنيعِه هذا يومئُ إلى ضعفِ الحديثِ المَذكورِ؛ لِعدمِ مَصيرِه إليه، كما هو مَنهجُه فيما نصَّ عليه في مواضِعَ مِنْ تفسيرِه، وفي أمثالِه مِنْ الأحاديثِ. كما أفادَ بترتيبِه ذلك صورةً لتعظيمِ نُصوصِ الشَّرعِ، وتنبيهاً على منهجِ الأخذِ بدليلِ السُّنَّةِ، وبياناً لما يصِحُّ أن يتقدَّمَه مِنْ الأدلَّةِ حالَ ضَعفِه.

تاسعَ عشر: تكثيرُ الطُّرقِ عند الاعتمادِ على الخبرِ، ومِن ذلك إيرادُه لحديثِ:«ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ»

(3)

مِنْ سِتَّةِ طُرُقٍ، عندَ استدلالِه به على

(1)

أخرجه الدارمي في نقضِه على المُريسي 1/ 426، وابنُ خزيمةَ في التوحيد 1/ 244، وابنُ أبي عاصم في السُّنة 1/ 392 (586)، وعبدُ الله بن أحمد في السُّنة 1/ 305 (593)، وابنُ الجوزي في العلل المتناهية 1/ 4. من طريقِ عبد الله بن خليفة، عن عُمر، ومَرَّةً مُرسلاً. وإسناده ضعيف، وفيه اضطرابٌ سنداً ومَتْناً، ووسَّع ابنُ تيمية الكلامَ عليه في مجموع الفتاوى 16/ 434 - 439، ومِمّا قالَ:«وطائفةٌ من أهلِ الحديثِ تردّه لاضطرابِه، كما فعلَ ذلك أبو بكر الإسماعيلي، وابن الجوزي، وغيرُهم، لكنَّ أكثرَ أهلِ السُّنة قبلوه» ، وقال ابنُ كثير (ت: 774): «عن عبد الله بن خليفة، وليس بذاك المشهور، وفي سماعِه من عُمرَ نظرٌ، ثُمّ منهم من يرويه عن عمرَ موقوفاً، ومنهم من يرويه مُرسلاً، ومنهم من يزيد في متنِه زيادةً غريبةً، ومنهم من يحذِفُها» . تفسيره 2/ 443.

(2)

جامع البيان 4/ 541.

(3)

سبق تخريجه (ص: 220).

ص: 284

معنى قولِه تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]

(1)

، وكذا تكرارُه لحديثِ:«إنَّ الله قد أثنى عليكم -أي أهلَ قُباءٍ- بالطُّهورِ خيراً .. »

(2)

، مِنْ ثلاثة عشر طَريقٍ، عندَ استدلالِه به في قولِه تعالى {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]

(3)

.

ولا تخفى فائِدةُ هذا التِّكرارِ لطُرُقِ الحديثِ في تقويَةِ إسنادِه، وإيضاحِ معانيه، وبيانِ سِياقِه، مع مُراعاةِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) لمنهجِ الكتابِ في الاختصارِ، والاقتصارِ على بعضِ ما يُغني، كما في قولِه مُستَدِلاً لبعضِ اختيارِه:«مع ما قد رُوِيَ في ذلك عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الأخبارِ التي قد ذَكرْنا بعضَها وترَكنا ذِكرَ كثيرٍ مِنها؛ استغناءً بما ذَكرْنا مِنها عمّا لم نذكُر، وكراهةً مِنّا إطالةَ الكتابِ باستقصاءِ جَميعِه»

(4)

.

عشرون: إذا احتاج لتكرار الخبر ذكرَ ما لم يذكره مِنْ قبل، كما نَصَّ عليه في قولِه عن بعضِ الأقوالِ: «وبذلك جاءَت الأخبارُ عن

(1)

جامع البيان 11/ 244.

(2)

أخرجه ابنُ أبي شيبة في المصنّف 1/ 153، وأحمد في المسند 39/ 254 (23833)، وابن شَبّة في تاريخ المدينة 1/ 48، والبخاري في تاريخه 1/ 18. من طريق شهر بن حوشَب، عن محمد بن عبد الله بن سلام. وهو صحيحٌ بمجموعِ طُرقِه، ومنها حديثُ أبي هريرة، وأبي أيوب، وجابر، وأنس، وعويم بن ساعدة رضي الله عنهم. وينظر: سنن أبي داود 1/ 169 (45)، وجامع الترمذي 5/ 280 (3100)، وسنن ابن ماجه 1/ 308 (355)، ومسند أحمد 24/ 235 (15485)، والمجموع، للنووي 2/ 99، وفتح الباري 7/ 289.

(3)

جامع البيان 11/ 688 - 693. وينظر في مِثلِه من الأمثِلةِ: 9/ 248، 499، 10/ 14، 20/ 628.

(4)

جامع البيان 7/ 94.

ص: 285

رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقالَتْه العُلماءُ، وقد ذكرنا كثيراً مِنْ ذلك فيما مضى قبلُ، ونذكُرُ بعضَ ما لَمْ نذكُرْه قبلُ إن شاءَ الله»

(1)

.

إحدى وعشرون: يعتَمِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) الإسنادَ في النَّقلِ في عامَّةِ ما يأثِرُه مِنْ الأخبارِ، وربَّما استغنى باستفاضةِ الخبَرِ وشُهرَتِه عن إسناده، وذلك قليلٌ، ومِنه قولُه في قولِه تعالى {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]: «وهذه الآيةُ وإن كانَ مَخرَجُها عامّاً في التِّلاوةِ، فإنَّ المُرادَ بها خاصٌّ في التَّأويلِ؛ لتظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: «شفاعتي لأهلِ الكبائِرِ مِنْ أُمَّتي»

(2)

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146]: «فكُلُّ شَحمٍ سوى ما استثناهُ الله في كتابِه مِنْ البقرِ والغَنمِ فإنَّه كانَ مُحرَّماً عليهم، وبنَحوِ ذلك مِنْ القَولِ تظاهرَت الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذلك قولُه: «قاتلَ اللهُ اليهودَ؛ حُرِّمَت عليهم الشُّحومُ فجَمَلوها، ثُمَّ باعوها وأكلوا أثمانَها»

(4)

(5)

.

وكذلك يصنعُ فيما تقدَّمَ وتكرَّرَ ذِكرُه، كما في قولِه عندَ قولِه تعالى

(1)

جامع البيان 20/ 382.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه 5/ 244 (4706)، والترمذي في جامِعِه 4/ 625 (2435)، وأحمد في مسنده 20/ 439 (13222)، والحاكم في مستدركه 1/ 139 (228)، والضياءُ في المُختارة 4/ 382 (1549). وإسنادُه صحيحٌ، وصحَّحَه الترمذي (ت: 297)، والحاكمُ (ت: 405)، والضياءُ المَقدسيّ (ت: 643).

(3)

جامع البيان 1/ 637.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحِه 3/ 82 (2223)، ومسلم في صحيحِه 4/ 193 (1582).

(5)

جامع البيان 9/ 642. وينظر: 1/ 703، 7/ 702، 8/ 184، 377، 748، 9/ 461، 14/ 621.

ص: 286

{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]: «يقول: ربَّنا وتقبَّلْ عملي الذي أعمَلُه لك، وعِبادَتي إيّاك. وهذا نظيرُ الخبرِ الذي رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: «إنَّ الدُّعاءَ هو العِبادةُ» ، ثُمَّ قرأَ:«{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]»

(1)

(2)

، وقد سبقَ أن ذَكرَ هذا الحديثَ مُسنَداً قبلَ ذلك

(3)

.

ورُبَّما أشارَ إلى وجودِ الخبرِ بذلك عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لا يذكرُه؛ لاشتهارِه، أو لَمْ يَقصِدْ إلى ذِكرَه ابتداءً، وإنَّما أرادَ الإشارةَ إليه. كما في قولِه عندَ قولِه تعالى {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17]: «يقولُ: والليلِ وما جمَعَ .. ، ومِنه الوَسْقُ؛ وهو الطَّعامُ المُجتمِعُ الكثيرُ مِمّا يُكالُ أو يوزَنُ، يُقالُ: هو ستّونَ صاعاً. وبه جاءَ الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(4)

، ثُمَّ لم يذكُره، وهو يُشيرُ بذلك إلى حديثِ أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه، مرفوعاً:«الوَسْقُ ستّونَ صاعاً»

(5)

.

(1)

أخرجه الترمذي في الجامع 5/ 211 (2969)، وابنُ ماجةَ في السنن 5/ 353 (3828)، وابنُ أبي شيبةَ في المصنّف 6/ 21 (29167)، وأحمد في المُسند 30/ 297 (18352)، والبخاري في الأدب المفرد 1/ 249 (714)، والحاكم في المستدرك 1/ 667 (1802). وإسنادُه صحيحٌ، وصحَّحَه الترمذي (ت: 297)، والحاكم (ت: 405)، والذهبي (ت: 748) في تلخيص المستدرك، كما في حاشيته 1/ 667.

(2)

جامع البيان 13/ 702.

(3)

ينظر: 3/ 228.

(4)

جامع البيان 24/ 245.

(5)

أخرجه أبو داود في السنن 2/ 312 (1554)، وابنُ ماجة في السنن 3/ 288 (1832)، وأحمد في المُسند 18/ 115، 309 (11564، 11785). وفي إسنادِه ضعفٌ، وأعلَّه أبو داود (ت: 275) بالانقطاع، وقالَ ابنُ خزيمة (ت: 311): «لا خِلافَ بين العُلماءِ أنَّ الوسْقَ ستّون صاعاً» . صحيحه 4/ 38.

ص: 287

اثنان وعشرون: الدِّقَّةُ في ضَبطِ الأسانيدِ والمتونِ، وذلك شأنُ المُتقِنين مِنْ أهلِ الحَديثِ والرِّوايةِ، وذلك ظاهِرٌ مِنْ صنيعِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في كثيرٍ مِنْ المواضِعِ، حيثُ يُصَحِّحُ أسماءَ الرُّواةِ، ويُنبِّه على السَّاقِطِ مِنها في الذِّكرِ، كما في قولِه: «حدَّثنا أبو كُرَيبٍ .. ، عن يزيدَ بن زيادٍ -قالَ أبو جعفر: والصَّوابُ يزيدُ بن أبي زيادٍ

(1)

-، عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظي

(2)

(3)

، كما يُبيِّنُ موضِعَ الشَّكِّ في بعضِ الرِّواياتِ، ومَصدَرَه، حيثُ نسبَ الشَّكَّ إلى نفسِه في بعضِ الرِّواياتِ بقولِه:«الطَّبريُّ يشُكُّ»

(4)

، ونسَبَه إلى بعضِ الرُّواةِ في روايةٍ أُخرى بقولِه: «عن أبي هريرةَ أو غيرِه -شَكَّ أبو جعفرٍ الرَّازي

(5)

(6)

.

ثلاث وعشرون: العنايةُ بتوجيهِ معاني الأحاديثِ عندَ الاستدلالِ بها، وذلك مِنْ تمامِ منهجِ الاستدلالِ بالسُّنَّةِ على المعاني القُرآنيَّةِ؛ لتتبيَّنَ أوجهُ مُطابقةِ الخبرِ للمعنى المُستدلِّ به عليه، ومِن أمثلةِ ذلك قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عن بعضِ اختيارِه: «وقد رُوِيَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

هو يزيدُ بن زيادٍ، أو: ابن أبي زيادٍ المَدَنيُّ، مولى بني مخزومٍ، وقد جزمَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بنسبتِه هنا إلى ابنِ أبي زيادٍ، وفي مواضعَ نسبَه إلى زياد، كما في 16/ 604، 20/ 317. ينظر: تهذيب التهذيب 4/ 412.

(2)

محمد بن كعب بن سليم القُرَظي، أبو حمزة المدنيُّ، تابعيٌّ إمامٌ مُفسِّرٌ، مات سنة (120)، وقيل غيرَ ذلك. ينظر: الطبقات الكبرى 5/ 217، والسير 5/ 65.

(3)

جامع البيان 18/ 132. وينظر: 20/ 513.

(4)

جامع البيان 22/ 18.

(5)

هو عيسى بن ماهان التَّميميّ، قالَ عنه ابنُ عبد البرِّ (ت: 463): «هو عندهم ثِقةٌ عالمٌ بتفسيرِ القرآن» . ينظر: تهذيب التهذيب 4/ 503.

(6)

جامع البيان 22/ 35.

ص: 288

بنحوِ الذي قُلنا في ذلك خبرٌ»

(1)

، ثُمَّ أسندَ حديثَ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكينُ بالذي تردُّه اللقمةُ واللقمتان، والتَّمرةُ والتَّمرتان، إنَّما المسكينُ المُتعفِّفُ، اقرءوا إن شِئتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]»

(2)

، ووجَّه معناه بعد ذلك بقولِه:«ومعنى قولِه صلى الله عليه وسلم: «إنَّما المسكينُ المُتعفِّف» ؛ على نحوِ ما قد جرى به استعمالُ النَّاسِ مِنْ تَسميَتِهِم أهلَ الفقرِ: مساكينَ. لا على تفصيلِ المِسكينِ مِنْ الفقير. وممّا يُنبئُ أنَّ ذلك كذلك، انتِزاعُه صلى الله عليه وسلم بقولِ الله:«اقرءوا إن شِئتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]» ، وذلك في صِفةِ مَنْ ابتدأَ الله ذِكرَه ووَصَفَه بالفقرِ؛ فقالَ:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]»

(3)

، وكذلك قولُه: «وأمّا الخبرُ الذي رُوِيَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم

(4)

، -فإنَّه إن كانَ صحيحاً- فإنَّما معناه أنَّه وُضِعَ عن الحامِلِ والمُرضِعِ الصومُ ما دامتا عاجزَتَيْن عنه حتى تُطيقا فتقضيا، كما وُضِعَ عن المسافرِ في سفرِه حتى يُقيمَ فيَقضيَه، لا أنَّهما أُمرَتا بالفديةِ والإفطارِ بغيرِ وجوبِ قضاءٍ»

(5)

.

(1)

جامع البيان 11/ 515.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحِه 6/ 32 (4539)، ومسلم في صحيحِه 3/ 106 (1039).

(3)

جامع البيان 11/ 515.

(4)

يعني حديثَ أنس بن مالك الكعبي مرفوعاً: «إنَّ الله وضعَ عن المسافرِ والحاملِ والمُرضعِ الصومَ» . ينظر: المعرفة والتاريخ 2/ 467، وسنن النسائي 2/ 489 (2266)، وعلل ابن أبي حاتم 3/ 175 (784).

(5)

جامع البيان 3/ 179.

ص: 289

وبهذا تتبيَّنُ عنايةُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بمرويّاتِه مِنْ السُّنَّةِ في استدلالِه بها، وتحريرِها إسناداً ومتناً، وتجويدِ ما يختارُه مِنها؛ ببيانِ عللِ أسانيدِها، والمُنكرِ مِنْ معانيها، وقبولِ ما يصحُّ قبولُه مِنها، وتقديمِ ما يجِبُ تقديمُه وتحرُمُ مُخالفَتُه مِنْ ثابِتِها وصريحِها، وتنبيهِ حملَةِ التَّفسيرِ على أصولِ الاستدلالِ تلك؛ بنصٍّ مِنْ كلامِه، واطِّرادٍ مِنْ تطبيقِه في عامَّةِ تفسيرِه.

ص: 290

‌المبحثُ الرّابعُ: منهجُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

يقومُ معنى الإجماعِ لُغةً على تضامِّ الشيءِ

(1)

، ويُطلَقُ على معنيَيْن

(2)

:

الأوَّلُ: العزمُ على الشيءِ، يُقالُ: أجمعَ فلانٌ على كذا. إذا عزمَ عليه وصَمَّمَ. ومِنه قولُه تعالى {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، وقولُ الشّاعرِ

(3)

:

يا ليت شِعري والمُنى لا تنفعُ

هل أغدوَنْ يوماً وأمري مُجمَعُ

الثّاني: الاتِّفاقُ، يُقالُ: أجمعَ القومُ على كذا. إذا اتَّفقوا عليه.

(1)

ينظر: مقاييس اللغة 1/ 246.

(2)

ينظر: الصَّحاح 3/ 1198، ولسان العرب 5/ 403، والقاموس المحيط (ص: 639).

(3)

نسبَه في إصلاحِ المنطق لبعض الرُّجّاز (ص: 263)، وينظر: المرجع السّابق.

ص: 291

وهذا المعنى الثَّاني هو أصلُ المعنى الاصطلاحيِّ للإجماعِ، وهو: اتِّفاقُ مُجتهدي أمَّةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم بعد وفاتِه في عصرٍ مِنْ العصورِ على أمرٍ دينيٍّ

(1)

.

ويُرادُ به في خصوصِ علمِ التَّفسيرِ: اتِّفاقُ مُجتهدي أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ المُفسِّرين بعد وفاتِه في عصرٍ مِنْ العصورِ على معنىً لآياتِ القرآنِ الكريمِ.

والمُرادُ بالاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني هو:

إقامَةُ الإجماعِ دليلاً لتصحيحِ المعاني وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

أو: الإبانَةُ بدليلِ الإجماعِ عن صِحَّةِ المعاني وبطلانِها.

وللإجماعِ عدَّةُ تقسيماتٍ باعتباراتٍ مُختلفةٍ

(2)

؛ يتقدَّمُها في بابِ الاستدلالِ على المعاني تقسيمُه باعتبارِ ذاتِه إلى قسمينِ، وهما:

الأوَّلُ: الإجماعُ القوليّ، وهو الصَّريحُ، وذلك أن يتَّفقَ جميعُ المُجتهدين على الحُكمِ قولاً أو فِعلاً. «وهو حُجَّةٌ وإجماعٌ قولاً واحداً»

(3)

، ودلالتُه قطعيّةٌ؛ إذ «يُعلَمُ يقيناً أنَّه ليس فيه مُنازِعٌ، فهذا يجبُ القطعُ بأنَّه حقٌّ»

(4)

.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 10، وشرح الكوكب المنير 2/ 211، ومذكرة أصول الفقه (ص: 231).

(2)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 429، 434، ومجموع الفتاوى 11/ 341، 19/ 267.

(3)

شرح اللمع 2/ 690. وينظر: الفقيه والمتفقه 429، ومذكرة أصول الفقه (ص: 231).

(4)

مجموع الفتاوى 7/ 39. وينظر: مراتب الإجماع (ص: 28).

ص: 292

الثَّاني: الإجماعُ السُّكوتيّ أو الإقراريّ، وذلك بأن ينتشرَ القولُ أو الفعلُ عن بعضِ المُجتهدين، ويسكتَ الباقون عن مخالفتِه وإنكارِه. ومثلُه الإجماعُ الاستقرائيّ، وهو أن تُستَقرأَ أقوالُ العلماءِ في مسألةٍ فلا يُعلَمُ فيها مُخالِفٌ.

وقد كثُرَت أقوالُ العلماءِ في بيانِ حُكمِ هذا النوعِ

(1)

؛ لاحتمالِ السُّكوتِ الرِّضا وعدمَه، «والصَّحيحُ أنَّه إجماعٌ، وأنَّه حُجَّةٌ»

(2)

، وعليه جُمهورُ العلماءِ

(3)

، وأضافَ ابنُ تيمية (ت: 728) أنَّه: «حُجَّةٌ ظنيَّةٌ .. ، يحتجُّ به، ويُقدَّمُ على ما هو دونَه بالظَّنِّ، ويُقدَّمُ عليه الظَّنُّ -أي النَّصُّ المعلومُ- الذي هو أقوى مِنه»

(4)

، وذلك لأنَّ عِلمَه بعدمِ المُخالفِ ظنيٌّ وليس قطعيّاً؛ فكانَت دلالةُ هذا الإجماعِ ظنيّةٌ. قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «وإذْ كانَ ذلك كذلك، وكانَ لا اختلافَ بينهم ظاهرٌ، وكانَ ما كانَ مُستفيضاً فيهم ظاهرَ الحُجَّةِ = فالواجبُ -وإن احتملَ ذلك معنىً غيرَ الذي قالوا- التَّسليمُ لما استفاضَ بصِحَّتِه نقلُهم»

(5)

.

وأمثلةُ استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بالإجماعِ على المعاني في تفسيره كثيرةٌ ظاهِرةٌ، وهي على نوعين:

(1)

ذكرَ الزَّركشي (ت: 794) منها ثلاثةَ عشرَ قولاً. البحر المحيط 3/ 538. وينظر: المسوَّدة 2/ 649.

(2)

شرح اللمع 2/ 691.

(3)

ينظر: الإحكام، للآمدي 1/ 331، والبحر المحيط في الأصول 3/ 539، وشرح الكوكب المنير 2/ 254.

(4)

مجموع الفتاوى 19/ 268. وينظر: مراتب الإجماع (ص: 302)، وسير أعلام النبلاء 7/ 116.

(5)

جامع البيان 8/ 40.

ص: 293

النَّوعُ الأوّلُ: استدلالُه بالإجماعِ لقبولِ المعاني وتصحيحِها، ومِن ذلك قولُه:«فإن قالَ قائِلٌ: وما بُرهانُك على أن معنى قولِه {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]: إذا رجعتُم إلى أهلِكم وأمصارِكم. دونَ أن يكونَ معناه: إذا رجعتُم مِنْ مِنىً إلى مكَّةَ؟ قيلَ: إجماعُ جميعِ أهلِ العلمِ على أنَّ معناه ما قُلنا دونَ غيرِه»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الآية: «وقد أجمعَت الحُجَّةُ على أنَّ الله عز وجل لم يوجِب على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ولا على عِبادِه فرضَ الوضوءِ لِكُلِّ صلاةٍ ثُمَّ نُسِخَ ذلك. ففي إجماعِها على ذلك الدَّلالةُ الواضِحةُ على صِحَّةِ ما قُلنا»

(2)

، وقولُه مُعلِّلاً لبعضِ اختيارِه، بعدما ذكرَ قولاً للحُجَّةِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ:«وهو التَّأويلُ الصَّحيحُ عندنا؛ لِما ذكَرنا مِنْ إجماعِها عليه»

(3)

.

النَّوعُ الثَّاني: استدلالُه بالإجماعِ لرَدِّ المعاني وإبطالِها، ومِن أمثلَتِه قولُه: «وقد زعمَ بعضُهم أنَّ معنى قولِه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]: أسلِكْنا طريقَ الجنَّةِ في المعادِ. أي: قدِّمنا له، وامضِ بنا إليه .. ، وفي قولِ الله جلَّ ثناؤُه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ما يُنبئُ عن خطأِ هذا التَّأويلِ، مع شهادةِ الحُجَّةِ مِنْ المُفسِّرين على تخطِئتِه؛ وذلك أنَّ جميعَ المفسِّرين مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين مُجمعون على أنَّ معنى الصِّراطَ في هذا الموضِعِ غيرُ المعنى

(1)

جامع البيان 3/ 435.

(2)

جامع البيان 8/ 162.

(3)

جامع البيان 8/ 299. وينظر: 1/ 170، 298، 311، 2/ 181، 563، 3/ 735، 9/ 573، 15/ 227.

ص: 294

الذي تأوَّلَه قائِلُ هذا القولِ»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]: «وإنَّما وصفَه الله جلَّ ثناؤُه بالاستقامةِ؛ لأنَّه صوابٌ لا خطأَ فيه. وقد زعمَ بعضُ أهلِ الغباءِ أنَّه سمَّاه اللهُ مُستقيماً؛ لاستقامتِه بأهلِه إلى الجنَّةِ، وذلك تأويلٌ لتأويلِ جميعِ أهلِ التَّفسيرِ خلافٌ، وكفى بإجماعِ جميعِهم على خلافِه جميعَهم دليلاً على خطئِه»

(2)

، وقولُه أيضاً:«وقد زعمَ بعضُ أهلِ العربيَّةِ أنَّ معنى قولِه {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] أنَّه متشابهٌ في الفضلِ .. ، وليس هذا قولاً نستجيزُ التَّشاغلَ بالدَّلالةِ على فسادِه؛ لخروجِه عن قولِ جميعِ علماءِ التَّأويلِ، وحسبُ قولٍ بخروجِه عن قولِ جميعِ أهلِ العلمِ دلالَةٌ على خطئِه»

(3)

.

وقد بلغَت المواضِعُ التي استدَلَّ فيها بالإجماعِ على المعاني (378) موضِعاً؛ مِنها (280) موضِعاً بلا مُخالفٍ، والباقي (98) موضِعاً مع ذكرِ المُخالفِ؛ وهي على قِسمَيْن:(35) موضِعاً مِنها مع وجودِ المُخالفِ المُعتبرِ، والباقي إجماعاتٌ صحيحةٌ لا يُعتبَرُ فيها المُخالفُ، وعددُها (63) إجماعاً.

ومِن ثَمَّ تكونُ الإجماعاتُ الثَّابتةُ بلا مُخالفٍ (343) إجماعاً، وذلك نسبتُه مِنْ مجموعِ أدلَّةِ الإجماعِ (90. 7%)، والباقي هي إجماعاتٌ

(1)

جامع البيان 1/ 169.

(2)

جامع البيان 1/ 176.

(3)

جامع البيان 1/ 418. وينظر: 1/ 526، 2/ 689، 3/ 198، 571، 4/ 162، 13/ 197، 18/ 170.

ص: 295

مع وجودِ المُخالفِ المُعتبرِ، وعددُها (35) إجماعاً، وذلك نسبتُه مِنْ مجموعِ أدلَّةِ الإجماعِ (9. 3%).

ونسبةُ الاستدلالِ بدليلِ الإجماعِ عامَّةً مِنْ مجموع الأدلَّة (3. 5%).

ودليلُ الإجماعِ تابِعٌ لدليلِ الكتابِ والسُّنَّةِ؛ فبهما ثبتت حُجِّيَّتُه، ووجبَ اتِّباعُه، ولذلك يذكرُه ابنُ جريرٍ (ت: 310) بعدَهما في عددٍ مِنْ المواضِعِ، كما في قولِه عن بعضِ الأقوالِ:«وهذا تأويلٌ يدُلُّ ظاهرُ التلاوةِ على خلافِه، مع إجماعِ أهلِ التَّأويلِ على تخطئتِه»

(1)

، وقولِه أيضاً:«وذلك قولٌ إن قالَه قائِلٌ خلافٌ لظاهرِ كتابِ الله، ولِما أجمعَ عليه جميعُ أهلِ الإسلامِ»

(2)

.

والأكثرُ في كلامِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) تقديمُ الإجماعِ على غيرِه مِنْ الأدلَّةِ؛ لقطعيَّةِ دلالَتِه على المعنى وثُبوتِه، وذلك مذهبُ عامَّةِ الأصوليِّين، قالَ ابنُ القطّان

(3)

(ت: 628): «والذي يقتضيه إجماعُ المُحقِّقين تقديمَ الإجماعِ في الرُّتبةِ على الكتابِ والسُّنَّةِ، وإن كانَت أصولَ الإجماعِ؛ فإنَّما يُقطَعُ بهما إذا كانا نصوصاً لا تقبلُ التَّأويلَ، ولا تحتملُه أصلاً، فأمّا إذا كانَت ظواهِرُهما في مقاصِدِهما لا تبلغُ مبلغَ

(1)

جامع البيان 1/ 693.

(2)

جامع البيان 3/ 180. وينظر: 3/ 178.

(3)

علي بن محمد بن عبد الملك الحميريّ الفاسي، أبو الحسنِ ابنُ القطّان المالكيّ، القاضي الحافظُ النّاقدُ، صنَّفَ: بيانَ الوهمِ والإيهامِ، وغيرَه، ومات سنة (628). ينظر: السير 22/ 306، وشذرات الذَّهبِ 7/ 225.

ص: 296

النُّصوصِ، فالإجماعُ أحقُّ بالتَّقديمِ في ترتيبِ الحِجاجِ؛ فإنَّ الإجماعَ لا مجالَ لطرقِ التَّأويلِ فيه»

(1)

، وقالَ الطُّوفي

(2)

(ت: 716): «الإجماعُ مُقَدَّمٌ على باقي أدلَّةِ الشَّرعِ؛ لقطعيَّتِه، وعِصمتِه، وأَمْنِه مِنْ نسخٍ أو تأويلٍ»

(3)

، ومِن أمثلةِ ذلك عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) قولُه عن بعضِ الأقوالِ: «وذلك إن قالوه خرجَ مَنْ قالَه مِنْ قيلِ أهلِ الإسلامِ، وخالفَ نصَّ كتابِ الله تعالى ذِكرُه، وقولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(4)

، وقولُه:«مع أنَّ في اتِّفاقِ الحُجَّةِ على تخطئةِ قائلِ هذا القولِ في قولِه هذا كفايةً عن الاستشهادِ على فسادِه بغيرِه، فكيف وهو مع ذلك خلافٌ لما جاءَت به الآثارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والقياسُ عليه بالفسادِ شاهِدٌ»

(5)

، وقولُه:«وعلى كُلِّ ما قُلنا مِنْ ذلك الأمَّةُ مُجمِعةٌ، وقد رُويَ عن رسولِ الله بذلك خبرٌ»

(6)

.

وحين لا يكونُ الإجماعُ قطعيّاً فإنَّه ربَّما قدَّمَ عليه سواه مِنْ الأدلَّة، كما في قولِه: «وأَوْلى هذه الأقوالِ بالصَّوابِ في تأويلِ قولِه {لَا تَحْسَبَنَّ

(1)

الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 68.

(2)

سليمان بن عبد القويّ الطّوفيّ، أبو الرَّبيع الحنبليّ، حافظٌ أصوليٌّ مفسِّرٌ، صنَّفَ: الإكسيرَ في قواعد التَّفسيرِ، والإشاراتِ الإلهيَّة، مات سنة (716). ينظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 302، وبغية الوعاة 1/ 599.

(3)

شرح مختصر الروضة 3/ 763. وينظر: شرح الكوكب المنير 4/ 600، ومذكرة أصول الفقه (ص: 491).

(4)

جامع البيان 3/ 741.

(5)

جامع البيان 3/ 401.

(6)

جامع البيان 6/ 469. وينظر: 1/ 311، 3/ 435، 645، 4/ 169، 5/ 91، 6/ 401، 14/ 357.

ص: 297

الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] الآية. قولُ مَنْ قالَ: عُنيَ بذلك أهلُ الكتابِ .. ؛ لأنَّ قولَه {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] الآية. في سياقِ الخبرِ عنهم، وهو شبيهٌ بقصَّتِهم، مع اتِّفاقِ أهلِ التَّأويلِ على أنَّهم المعنيّون بذلك»

(1)

، وقولِه:«وأَوْلى الأقوالِ بالصِّحَّةِ في تأويلِ قولِه {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، قولُ مَنْ قالَ: السبيلُ التي جعلها الله جلَّ ثناؤُه للثَّيِّبَيْن المُحصَنَيْن الرَّجمُ بالحجارةِ، وللبِكرَيْن جلدُ مائةٍ ونفيُ سنةٍ؛ لصِحَّةِ الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه رجمَ ولم يجلِدْ، وإجماعِ الحُجَّةِ التي لا يجوزُ عليها فيما نقلَته مُجمِعةً عليه = الخطأُ والسَّهوُ والكذبُ»

(2)

.

‌المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

اتَّفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ شرعيَّةٌ، يجبُ الأخذُ به، وتحرُمُ مُخالفتُه، قالَ الخطيبُ البغداديّ (ت: 462): «إجماعُ أهلِ الاجتهادِ في كُلِّ عصرٍ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرعِ، ودليلٌ مِنْ أدلَّةِ الأحكامِ، مقطوعٌ على مَغِيبِه، ولا يجوزُ أن تجتمعَ الأمَّةُ على الخطأِ»

(3)

. والأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ كثيرةٌ متظاهرةٌ، وقد ذكرَ أكثرُ العلماءِ وعامَّةُ الأصوليِّين أنَّه لا مدخلَ للعقلِ في إثباتِ الإجماعِ دليلاً؛ لأنَّ

(1)

جامع البيان 6/ 307.

(2)

جامع البيان 6/ 498. وينظر: 1/ 290، 693، 2/ 102.

(3)

الفقيه والمتفقه 1/ 397. وينظر: الرسالة (ص: 472، 475)، ومجموع الفتاوى 19/ 176، 20/ 10.

ص: 298

العقلَ لا يمنعُ مِنْ إجماعِ طائِفةٍ كثيرةٍ مِنْ النَّاسِ على الكذبِ أو الخطأِ؛ كأصحابِ المِلَلِ الضَّالَّةِ، والأديانِ المُحرَّفةِ

(1)

، لكنَّ الله تعالى عصمَ هذه الأمَّةَ في إجماعِها؛ فلا تجتمعُ على باطلٍ أبداً، وإذا أجمعَتْ على أمرٍ فهو الحَقُّ. ومِن الأدلَّةِ على ذلك ما يأتي:

أوَّلاً: قولُه تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، ووجه الدَّلالةِ أنَّ الله تعالى جمعَ بين مشاقَّةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم واتِّباعِ غيرِ سبيلِ المؤمنين في الوعيدِ، -وسبيلُ المَرءِ: ما يختارُه مِنْ قولٍ أو فعلٍ أو اعتقادٍ-، فدلَّ على أنَّ كُلّاً مِنهما مُحرَّمٌ، ومِن ثَمَّ فاتِّباعُ سبيلِ المؤمنين واجِبٌ، وذلك معنى كونِ الإجماعِ حُجَّةً

(2)

، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «والآيةُ دلَّت على أنَّ مُتَّبعَ غيرِ سبيلِ المؤمنين مُستحقٌّ للوعيدِ، كما أنَّ مُشاقَّ الرسولِ مِنْ بعدِ ما تبيَّنَ له الهُدى مُستحقٌّ للوعيدِ، ومعلومٌ أنَّ هذا الوصفَ يوجِبُ الوعيدَ بمُجرَّدِه، فلو لم يكُن الوصفُ الآخرُ يدخلُ في ذلك لكانَ لا فائِدةَ في ذِكرِه»

(3)

.

ثانياً: قولُه تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى

(1)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 425، وأصول السَّرخسي 1/ 295، والبحر المحيط في الأصول 3/ 491.

(2)

ينظر: أحكام القرآن، للشافعي (ص: 39)، والفقيه والمتفقه 1/ 399، ومجموع الفتاوى 7/ 38.

(3)

مجموع الفتاوى 19/ 178. وينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 400.

ص: 299

النَّاسِ} [البقرة: 143]، والوَسَطُ: العَدلُ الخِيارُ

(1)

. ودلالَةُ الآيةِ مِنْ ثلاثةِ وجوهٍ

(2)

:

1 -

أنَّ هذه الأمَّةَ عدلٌ خيارٌ؛ لا تُبلِّغُ عن الله إلا الحقَّ، فاتَّفاقُها على تبليغِ الشَّرعِ حقٌّ.

2 -

أنَّ الله جعلَهم شُهداءَ على النَّاسِ، وأقامَ شهادتَهم مقامَ شهادةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ومَن كانَ كذلك فقولُه حُجَّةٌ قطعاً؛ لأنَّهم لا يشهدون بالباطلِ، وإنَّما يشهدون بالحقِّ.

3 -

أنَّهم لو كانوا يشهدون بباطلٍ أو خطأٍ لم يكونوا شُهداءَ الله في الأرضِ، فدلَّ ذلك على أنَّ الأُمَّةَ لا تشهدُ على الله إلا بحقٍّ، فكانَ إجماعُهم حُجَّةً.

ثالثاً: قولُه تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، ووجه الدَّلالةِ أنَّ الله وصفَ الأمَّةَ بأنَّهم يأمرون بكلِّ معروفٍ، وينهون عن كلِّ مُنكرٍ، فلو قالَت الأمَّةُ في الدّينِ بما هو ضلالٌ لم تكُن كذلك، فكانَ إجماعُها حُجَّةً.

(3)

رابعاً: قولُه تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ووجه الدَّلالةِ أنَّه إذا لم يوجَد تنازعٌ فالاتِّفاقُ على الحُكمِ كافٍ عن الرَّدِّ إلى الكتابِ والسُّنَّةِ، وهذا هو حقيقةُ الإجماعِ، «ولو كانوا قد يجتمعون

(1)

ينظر: صحيح البخاري 4/ 134 (3339)، وجامع البيان 2/ 627.

(2)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 406، ومجموع الفتاوى 19/ 177.

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى 19/ 176، وشرح الكوكب المنير 2/ 217.

ص: 300

على ضلالةٍ لكانوا حينئِذٍ أَوْلى بوجوبِ الرَّدِّ إلى الله والرَّسولِ مِنهم إذا تنازعوا»

(1)

.

خامساً: الآياتُ الكثيرةُ الدَّالَّةُ على وجوبِ الاجتماعِ، والنَّهي عن الافتراقِ، كقولِه تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقولِه {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، ونحوِها مِنْ الآياتِ، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «وهذا أحدُ الأدلَّةِ على أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ قاطعةٌ؛ فإنَّهم إذا اجتمعوا كانوا مُطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعةُ الله ورحمتُه بفعلٍ لم يأمر الله به؛ مِنْ اعتقادٍ، أو قولٍ، أو عملٍ، فلو كانَ القولُ أو العملُ الذي اجتمعوا عليه لم يأمُر الله به، لم يكن ذلك طاعةً لله ولا سبباً لرحمتِه»

(2)

.

سادساً: دلالةُ السُّنَّةِ النبويَّةِ، «وهي أقربُ الطُّرقِ في إثباتِ كونِ الإجماعِ حُجَّةً قاطعةً»

(3)

، فقد تظاهرَت الأحاديثُ عن جمهرَةٍ مِنْ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، في تقريرِ وجوبِ لزومِ الجماعةِ، وتركِ الفُرقةِ، وعِصمةِ هذه الأمَّةِ عن الخطأِ والضَّلالِ، ومِنها

(4)

:

1 -

قولُه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أرادَ بحبوحةَ

(5)

الجنَّةِ فليلزمْ الجماعةَ»

(6)

،

(1)

مجموع الفتاوى 19/ 91. وينظر: الإحكام، للآمدي 1/ 289.

(2)

مجموع الفتاوى 1/ 17. وينظر: الإحكام، للآمدي 1/ 288.

(3)

الإحكام، للآمدي 1/ 290. وينظر: المستصفى (ص: 173).

(4)

ينظر: قوادح الاستدلال بالإجماع (ص: 130 - 140).

(5)

هي التمكُّن في المقامِ. ينظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 99.

(6)

أخرجه الترمذي في الجامع 4/ 465 (2165)، وابن ماجة في السنن 4/ 40 (2363) مختصراً، وأحمد في المسند 1/ 269 (114)، والنسائي في السنن الكبرى 8/ 284 (9175)، والحاكم في المستدرك 1/ 197 (387). من حديث عمر رضي الله عنه، وإسناده صحيح، وطرُقه كثيرةٌ، قالَ الترمذي (ت: 297): «حديث حسن صحيح غريب .. ، وقد رويَ هذا الحديث من غيرِ وجهٍ عن عمرَ» ، وصحَّحَه الحاكمُ، وأقرَّه الذَّهبي.

ص: 301

واستدلَّ به الشَّافعيُّ (ت: 204) مِنْ جِهةِ أنَّه لا يقدرُ أحدٌ على لُزومِ أبدانِ جماعةٍ مُتفرِّقين في البُلدانِ، ولو حصلَ اجتماعُ أبدانٍ فلا معنى للُزومِه، فكانَ المُرادُ قطعاً: لزومُ جماعتِهم في التَّحليلِ والتَّحريمِ والطَّاعةِ.

(1)

2 -

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «لا تزالُ طائِفةٌ مِنْ أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، حتى يأتي أمرُ الله»

(2)

، ووجه دلالتِه أنَّ وجودَ الطائِفةَ القائمةَ بالحقِّ إلى يومِ القيامةِ يضمنُ عدمَ اتِّفاقِ الأمَّةِ على ضلالةٍ، وهذا معنى حُجِّيَّةِ الإجماعَ.

3 -

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون شهداءُ الله في الأرضِ»

(3)

، ووجه دلالتِه أنَّ الله جعلَهم شُهداءَه على أحكامِه، وشُهداءُ الله عُدولٌ، فشهادَتُهم على شيءٍ مِنْ أحكامِه واجِبةُ القبولِ، وهذا معنى حُجِّيَّةِ الإجماعَ.

4 -

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ فارقَ الجماعةَ ماتَ ميتةً جاهليَّةً»

(4)

، ووجه دلالَتِه مِنْ جِنسِ ما استدلَّ به الشَّافعيُّ (ت: 204) في الحديثِ الأوَّلِ، وقد تُوُعِّدَ هنا مَنْ فارقَ الجماعةَ، فدلَّ على وجوبِ لزومِها؛ وذلك بلزومِ أقوالِها في الدِّينِ، وهذا هو معنى حُجِّيَّةِ الإجماع.

والاحتجاجُ بمجموعِ هذه الأحاديثِ وأمثالِها يقعُ مِنْ وجهَيْن:

(1)

ينظر: الرسالة (ص: 475).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه 9/ 101 (7311)، ومسلم في صحيحه 5/ 57 (1920).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 169 (2642)، ومسلم في صحيحه 3/ 18 (949).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه 9/ 47 (7054)، ومسلم في صحيحه 4/ 549 (1849).

ص: 302

أوَّلُهما: ما نصَّ عليه الأئمَّةُ مِنْ أنَّ مجموعَ هذه النُّصوصِ يُفيدُ تواتراً معنويّاً يُقطَعُ به على حُجِّيَّةِ الإجماعِ، قالَ الخطيبُ البغداديّ (ت: 462) عن هذه الأحاديثِ: «إنَّها أحاديثُ تواتُرٍ مِنْ طريقِ المعنى؛ لأنَّ الألفاظَ الكثيرَةَ إذا وردت مِنْ طُرُقٍ مُختلفةٍ ورُواةٍ شَتّى ومعناها واحِدٌ = لم يجُزْ أن يكونَ جميعُها كذِباً، ولم يكُن بُدٌّ مِنْ أن يكونَ بعضُها صحيحاً»

(1)

، وقالَ الشَّاطبي (ت: 790): «للاجتماعِ مِنْ القوَّةِ ما ليس للافتراقِ، ولأجلِه أفادَ التَّواترُ القطعَ، وهذا نوعٌ مِنه، فإذا حصلَ مِنْ استقراءِ أدلَّةِ المسألةِ مجموعٌ يُفيدُ العلمَ فهو الدَّليلُ المطلوبُ .. ، وإذا تأمَّلتَ أدلَّةَ كونِ الإجماعِ حُجَّةً، أو خبرَ الواحدِ، أو القياسِ حُجَّةً، فهو راجِعٌ إلى هذا المساقِ؛ لأنَّ أدلَّتها مأخوذةٌ مِنْ مواضِعَ تكادُ تفوتُ الحصرَ، وهي مع ذلك مُختلِفةُ المساقِ لا ترجعُ إلى بابٍ واحدٍ، إلا أنَّها تنتظِمُ المعنى الواحدَ الذي هو المقصودُ بالاستدلالِ عليه»

(2)

.

وثانيهما: «أنَّ هذه الأحاديثَ لم تزلْ ظاهرةً مشهورةً بين الصَّحابةِ ومَن بعدهم، مُتمسَّكاً بها فيما بينهم في إثباتِ الإجماعِ، مِنْ غيرِ خلافٍ فيها ولا نكيرٍ، إلى زمانِ وجودِ المُخالفين، والعادةُ جاريةٌ بإحالةِ اجتماعِ الخلقِ الكثيرِ، والجَمِّ الغفيرِ -مع تكرُّرِ الأزمانِ، واختلافِ هِمَمِهم ودواعيهم ومذاهبِهم- على الاحتجاجِ بما لا أصلَ له في إثباتِ أصلٍ مِنْ أصولِ الشَّريعةِ؛ وهو الإجماعُ المحكومُ به على الكتابِ

(1)

الفقيه والمتفقه 1/ 424. وينظر: المستصفى (ص: 173).

(2)

الموافقات 1/ 29. وينظر: الإحكام، للآمدي 1/ 290.

ص: 303

والسُّنَّةِ، مِنْ غيرِ أن يُنبِّه أحدٌ على فسادِه وإبطالِه، وإظهارِ النَّكيرِ فيه»

(1)

، وهذا ليس إثباتاً للإجماعِ بالإجماعِ، وإنَّما استدلالٌ بالعادةِ الجاريةِ في مثلِ ذلك.

سابعاً: أنَّه قد ثبتَ في كُلِّ عصرٍ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين فمَن بعدَهم القطعُ بتخطئَةِ المُخالفِ للإجماعِ، وشدَّدوا النَّكيرَ عليه، وعدّوا ذلك مُروقاً مِنْ الدِّينِ، وما حملَهم على ذلك إلا وجودُ مُستندٍ قاطعٍ دلَّ على تخطئَةِ المُخالفِ، ووجوبِ اتِّباعِ الإجماعِ

(2)

، وهذا أيضاً ممّا جرَتْ به العادةُ في مثلِه.

ثامِناً: أنَّ الله تعالى جعلَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم خاتمَ النَّبيِّين، وحكمَ ببقاءِ شريعتِه إلى يومِ القيامةِ، فلا بُدَّ مِنْ ظهورِ شريعتِه في النَّاسِ إلى يومِ القيامةِ، وقد انقطعَ الوحيُ بموتِه، فعرَفنا ضرورةً أنَّ طريقَ بقاءِ شريعته يتمثَّلُ في عِصمةِ الله أُمَّتَه مِنْ أن يُجمعوا على ضلالةٍ، فإنَّ الإجماعَ على الضَّلالةِ رفعٌ للشَّريعةِ.

(3)

هذه جُملةُ الأدلَّةِ القاطعةِ بحُجِّيَّةِ الإجماعِ، وقد أفادَتْ مِنْ ضمنِ ما أفادَتْ أمرَيْن:

الأوَّل: لا يُشترَطُ لصِحَّةِ الإجماعِ أن يبلغَ المُجمعون عددَ التَّواترِ؛

(1)

الإحكام، للآمدي 1/ 293. وينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 424.

(2)

ينظر: الكوكب المنير 2/ 223، وقوادح الاستدلال بالإجماع (ص: 145).

(3)

ينظر: أصول السَّرخسي 1/ 295، وكشف الأسرار 3/ 260.

ص: 304

لأنَّ الدَّليلَ الشَّرعيَّ لم يشترطْ ذلك، بل علَّقَ العصمةَ على الاتِّفاقِ فقط، دون اشتراطِ عددٍ مُعيَّنٍ، فمتى ثبتَ الاتِّفاقُ قامتْ به الحُجَّةُ.

(1)

الثّاني: الإجماعُ حُجَّةٌ ماضيةٌ في جميعِ العصورِ، سواءٌ في ذلك عصرَ الصَّحابةِ فمَن بعدَهم؛ لأنَّ أدلَّةَ الإجماعِ عامَّةٌ مُطلَقةٌ، فلا يصحُّ حصرُها بغيرِ دليلٍ شرعيٍّ.

(2)

‌المطلبُ الثالثُ: أوجه الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني.

تتبيَّنُ أوجهُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني عندَ ابنِ جرير (ت: 310) ببيانِ جانبَيْن، هما:

3 -

صِيَغُ إيرادِ دليلِ الإجماعِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

4 -

أوجهُ الاستدلالِ بدليلِ الإجماعِ على المعاني.

وفيما يأتي بيانُهما:

أوَّلاً: صِيَغُ إيرادِ دليلِ الإجماعِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

تعدَّدتْ الصِّيغُ التي عبَّرَ بها ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن الإجماعِ في تفسيرِه، والذي يدخلُ مِنها في بابِ الإجماعِ اتِّفاقاً هو: ما نصَّ فيه على لفظِ الإجماعِ وما في معناه مِنْ تصاريفِه، أو الاتِّفاقِ، أو نفي الخلافِ. وهو ما اعتبرناه في جميعِ المواضِعِ التي اُحصِيَتْ مِنْ إجماعاتِه، ومِن عباراتِه في ذلك: (أجمعَ أهلُ التَّأويلِ، جميعُ

(1)

ينظر: شرح الكوكب المنير 2/ 224، ونزهة الخاطر العاطر 1/ 285.

(2)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 427، ونزهة الخاطر العاطر 1/ 307.

ص: 305

المُفسرين مُجمعون، اتَّفقَ أهلُ التَّأويلِ، لا خلافَ بين أهلِ التَّأويلِ، لم يُخالف في ذلك أحدٌ)

(1)

.

وتلك العباراتُ تتفاوتُ في الدَّلالةِ على معنى الإجماعِ وقطعيَّتِه:

1 -

فأعلاها ما تأكَّدَ فيه الإجماعُ بذكرِ وصفَيْن فأكثرَ، مِنْ مثلِ قولِه:(أجمعَ أهلُ التَّأويلِ جميعاً لا خلافَ بينهم، لا خلافَ بين أهلِ التَّأويلِ جميعاً)

(2)

.

2 -

ثُمَّ يليه ما ذُكرَ فيه لفظُ الإجماعِ صراحةً، ويلحقُ به ما تصرَّفَ مِنه ممّا في معناه، وذلك كقولِه:(جميعُ الأُمَّةِ، جميعُ أهلِ التَّأويلِ، الجميعُ مُجمعون)

(3)

، وقريبٌ مِنه التعبيرُ باتِّفاقِ العلماءِ، كما في قولِه:(اتِّفاقُ جميعِ السَّلف، اتِّفاقُ أهلِ التَّأويلِ)

(4)

.

3 -

ثُمَّ يليها نفيُ الخلافِ، ومِن ذلك قولُه:(لا خلافَ بين جميعِ الأُمَّةِ، لا خلافَ بين أهلِ التَّأويلِ)

(5)

.

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 170، 169، 223، 553، 3/ 650، 6/ 504، 616.

(2)

ينظر: جامع البيان 1/ 311، 3/ 650.

(3)

ينظر: جامع البيان 3/ 433، 571، 4/ 332.

(4)

ينظر: جامع البيان 5/ 607، 6/ 307، 616. وبعضُ العلُماءِ يُفرِّقُ بين الإجماعِ والاتِّفاقِ؛ فيجعل الاتِّفاقَ خاصّاً باتِّفاقِ الأئمَّةِ الأربعةِ، أو اتِّفاقِ علماءِ المذهبِ، وأكثرُ ما يوجدُ ذلك في كتبِ الفقه، والأظهرُ أنَّهما بمعنىً، وهما كذلك لُغةً، وفي استعمالِ كثيرٍ من الأئمةِ؛ كابنِ عبد البرّ (ت: 463)، وابن رشد (ت: 595)، والنووي (ت: 676)، وابنِ تيمية (ت: 728)، وربَّما استعملَ أحدُهم الاتِّفاقَ بالمعنى الأخصِّ، أمّا التعبيرُ باتِّفاقِ العلماءِ فهو مُرادِفٌ للإجماعِ. وينظر: موسوعة الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 14).

(5)

جامع البيان 5/ 608، 6/ 7.

ص: 306

وله عباراتٌ أُخرى قريبةُ المعنى مِنْ الإجماعِ، وشديدةُ الشَّبهِ بألفاظِه، إلا أنَّها ليست نصّاً في إرادةِ الإجماعِ؛ ولذلك لم تُعتبَرْ مِنْ النَّوعِ السَّابقِ، إلا إن وُجِدَ في سياقِ كلامِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) ما يدلُّ على إرادتِه الإجماعَ بها، فإنَّا نعتبرُها كذلك، ومِن ألفاظِه في ذلك:(عامَّةُ المفسرين، تفسيرُ المفسرين، جماعةُ أهلِ التَّأويلِ، تأويلُ أهلِ التَّأويلِ، تأويلُ أهلِ العلمِ، أقوالُ أهلِ العلمِ، عامَّةُ علماءِ المسلمين، قالَ أهلُ التَّأويلِ)

(1)

.

وبالتّأمُّلِ في أساليبِ إيرادِ تلك الصِّيغِ دليلاً على المعاني عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، نجدُه يسوقُها في ثلاثِ صورٍ:

الأولى: التَّصريحُ بالاستدلالِ بالإجماعِ، كما في قولِه:«فإن قالَ قائِلٌ: فإنَّ ذِكرَ الجِماعِ غيرُ موجودٍ في كتابِ الله تعالى ذِكرُه، فما الدَّلالةُ على أنَّ معناه ما قُلتَ؟ قيلَ الدَّلالةُ على ذلك إجماعُ الأُمَّةِ جميعاً على أنَّ ذلك معناه»

(2)

، وقولِه عن بعضِ الأقوالِ:«وهذا أيضاً تأويلٌ لقولِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ مُخالفٌ، وكفى بذلك شاهداً على خطئِه»

(3)

.

الثانيةُ: ذِكرُ الإجماعِ مباشرةً على سبيلِ التَّدليلِ، كما في قولِه: «وأجمعَ أهلُ التَّأويلِ جميعاً على أنَّ الله تعالى ذِكرُه قد جعلَ لأهلِ

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 228، 431، 624، 2/ 575، 690، 3/ 645، 649، 8/ 689، 15/ 225.

(2)

جامع البيان 4/ 169.

(3)

جامع البيان 3/ 571.

ص: 307

الفاحشةِ مِنْ الزُّناةِ والزَّواني سبيلاً بالحدودِ التي حكمَ بها فيهم»

(1)

، وقولِه في قولِه تعالى {وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136]: «وهُم: أوثانُهم. بإجماعٍ مِنْ أهلِ التَّأويلِ عليه»

(2)

.

الثالثةُ: إيرادُ الإجماعِ على سبيلِ التعليلِ لقبولِ المعنى أو رَدِّه، ومِن ذلك قولُه:«والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك أنَّ الحدَّ الذي لا يُجزئ المُتيمِّمَ أن يُقصِّرَ عنه في مَسحِه بالتُّرابِ مِنْ يديه: الكفَّانُ إلى الزَّندَيْن؛ لإجماعِ الجميعِ على أنَّ التَّقصيرَ عن ذلك غيرُ جائِزٍ»

(3)

، وقولُه مُعلِّلاً فسادَ بعضِ الأقوالِ:«لإجماعِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ على تخطئةِ ما ادَّعى مِنْ التَّأويلِ في ذلك، وكفى شاهداً على خطأِ مقالةٍ إجماعُهم على تخطِئتِها»

(4)

.

ثانياً: أوجهُ الاستدلالِ بدليلِ الإجماعِ على المعاني.

تتعدَّدُ أوجه استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بالإجماعِ على المعاني إلى نوعَيْن:

أوَّلُهما: أوجه الاستدلالِ بالإجماعِ بحسبِ مصدَرِه، وينقسمُ بهذا الاعتبارِ إلى قسمَيْن

(5)

:

(1)

جامع البيان 6/ 504.

(2)

جامع البيان 9/ 573.

(3)

جامع البيان 7/ 90.

(4)

جامع البيان 2/ 689.

(5)

ينظر: الرسالة (ص: 357)، والفقيه والمتفقه 1/ 434، وقواطع الأدلَّة 3/ 218.

ص: 308

1 -

إجماعُ العامَّةِ؛ وهو اتِّفاقُ جميعِ المسلمين على أمرٍ شرعيٍّ. وهذا عامٌّ يشملُ العلماءَ وغيرَهم؛ وذلك فيما لا يجوزُ الجَهلُ به مِنْ الدّينِ، وما عُلِمَ ضرورةً، كإجماعِهم على القِبلةِ أنَّها الكَعبةُ، وعلى وجوبِ الصَّلاةِ، وتحريمِ الزِّنا، ونحوِها. وممّا نقلَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ ذلك قولُه: «وفي إجماعِ أهلِ الإسلامِ جميعاً على تصويبِ قولِ القائلِ: اللهم إنّا نستعينُك. وتخطِئَتِهم قولَ القائلِ: اللهم لا تجُرْ علينا = دليلٌ واضِحٌ على خطأِ ما قالَ الذين وصفتُ قولَهم»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية: «فكلُّ هؤلاءِ اللواتي سمّاهنَّ الله تبارك وتعالى وبيَّنَ تحريمَهنَّ في هذه الآيةِ، مُحرَّماتٌ غيرُ جائزٍ نكاحُهنَّ لمَن حرَّمَ الله ذلك عليه مِنْ الرِّجالِ، بإجماعِ جميعِ الأُمَّةِ، لا اختلافَ بينهم في ذلك»

(2)

.

2 -

إجماعُ الخاصَّةِ؛ وهو اتِّفاقُ جميعِ المجتهدين على أمرٍ شرعيٍّ. وهو خاصٌّ بأهلِ العلمِ دون غيرِهم؛ كإجماعِهم على أنَّ الوَطءَ مُفسِدٌ للصَّومِ، وأنَّ البيِّنةَ على المُدَّعي واليَمينَ على المُدَّعى عليه، ونحوِها. وممّا نقلَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) عنهم قولُه في قولِه تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، «والمُكفِّرُ مُخيَّرٌ في تكفيرِ يمينِه التي حنثَ فيها، بإحدى هذه الحالاتِ الثَّلاثِ التي

(1)

جامع البيان 1/ 162.

(2)

جامع البيان 6/ 555. وينظر: 3/ 101، 4/ 103، 6/ 628. ورُبَّما أرادَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بإجماعِ الأُمَّةِ: علمائَها. فهو عامٌّ مخصوصٌ، كما في 1/ 399، 3/ 735.

ص: 309

سمّاها الله في كتابِه .. ، بإجماعٍ مِنْ الجَميعِ، لا خلافَ بينهم في ذلك»

(1)

، وقولُه عن بعضِ اختيارِه:«وإنَّما قُلنا ذلك هو الصَّوابُ؛ لإجماعِ أهلِ التَّأويلِ عليه»

(2)

، وقولُه مُعلِّلاً فسادَ بعضِ الأقوالِ:«لخروجِه عن أقوالِ جميعِ الصَّحابةِ والتّابعين فمَن بعدَهم مِنْ الخالِفين؛ مِنْ أهلِ التَّفسيرِ والتَّأويلِ»

(3)

.

ثانيهما: أوجه الاستدلالِ بالإجماعِ بحسبِ مُتعلَّقِه، وينقسمُ بهذا الاعتبارِ إلى قسمَيْن:

1 -

الإجماعُ على المعنى المباشرِ، وهذا الإجماعُ هو دليلُ المعنى الذي يؤسِّسُه، ويشهدُ له نصّاً بالصَّوابِ أو الخطأِ، وهو حُجَّةٌ قطعاً، يجبُ الأخذُ به، وتحرمُ مُخالفتُه، ومثالُه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «وأمّا قولُه {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، فلا خلافَ بينَهم في أنَّ معناه: ولن يجعلَ الله للكافرين يومئذٍ على المؤمنين سبيلاً»

(4)

، وقولُه:«وإنَّما قُلنا ما قُلنا مِنْ ذلك لإجماعِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ على أنَّ إسماعيلَ معنيٌّ بالخبرِ الذي أخبرَ الله عنه وعن أبيه أنَّهما كانا يقولانِه؛ وذلك قولُهما: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]»

(5)

.

(1)

جامع البيان 8/ 648.

(2)

جامع البيان 8/ 332.

(3)

جامع البيان 1/ 223. وينظر: 1/ 176، 290، 526، 6/ 504، 9/ 573.

(4)

جامع البيان 7/ 609.

(5)

جامع البيان 2/ 563. وينظر: 3/ 735، 4/ 162، 6/ 469، 504، 9/ 573، 13/ 197.

ص: 310

2 -

الإجماعُ المُمَهِّدُ لدليلِ المعنى، فهو هنا: دليلُ الدَّليلِ؛ وصورتُه: أن يَذكرَ الإجماعَ على إحدى مُقدِّماتِ الدَّليلِ الذي يريدُ الاستدلالَ به على المعنى، فالإجماعُ هنا ليسَ هو الدَّليلُ لصِحَّةِ المعنى أو بُطلانِه، وإنَّما خادمٌ للدَّليلِ المُباشِرِ على المعنى، ومُمَهِّدٌ له، ويُقدِّمُه مِنْ هذا الوجهِ. ووجودُ هذا النَّوعِ مِنْ الإجماعِ في سياقِ الاحتجاجِ به على المعنى لا يوجِبُ الأخذَ به، أو تحريمَ مُخالفتِه، وإنَّما النَّظرُ في دليلِه الذي مُهِّدَ له به، ومثالُه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في قولِه تعالى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] بعدَ أن اختارَ أنَّه الحَدُّ: «وإنَّما قُلنا الواجبُ عليها إذا هي امتنعَت مِنْ الالْتعانِ بعدَ الْتِعانِ الزَّوجِ: الحَدُّ الذي وصَفْنا؛ قياساً على إجماعِ الجميعِ على أنَّ الحَدَّ إذا زالَ عن الزَّوجِ بالشَّهاداتِ الأربعِ، على تصديقِه فيما رماها به = أنَّ الحَدَّ عليها واجِبٌ»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 2]: «والذي هو أَوْلى بتأويلِ الآيةِ عندنا ما قالَه مُجاهدٌ، ومَن قالَ: هُمْ الملائِكةُ؛ لأنَّ الله جلَّ ثناؤُه ابتدأَ القَسَمَ بنوعٍ مِنْ الملائِكةِ؛ وهُم الصَّافّون. بإجماعٍ مِنْ أهلِ التَّأويلِ، فلَأن يكونَ الذي بعدَه قَسَماً بسائِرِ أصنافِهم أشْبَه»

(2)

، فدليلُ الإجماعِ في هذين المثالَيْن جاءَ مُمَهِّداً للاستدلالِ بنظيرِ المعنى، وبالسّياقِ.

(1)

جامع البيان 17/ 187.

(2)

جامع البيان 19/ 494. وينظر: 5/ 569، 6/ 407، 595، 7/ 673، 8/ 181، 401، 402، 11/ 514.

ص: 311

‌المطلبُ الرابع: ضوابطُ الاستدلالِ بالإجماعِ على المعاني ومسائِلُه.

أوَّلاً: أبانَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) صِفةَ الإجماعِ في جُملةٍ مِنْ المواضِعِ، يتبيَّنُ بها مفهومُه، وتتحدَّدُ معالِمُه، وهي:

1 -

اتِّفاقُ أهلِه عليه.

(1)

2 -

لا يجوزُ عليهم فيه الخطأُ، والكذبُ، والسَّهوُ، والتواطؤُ والتَّشاعُرُ، وذلك لمحلِّ العِصمةِ فيه.

(2)

3 -

النَّقلُ المُستفيضُ وراثةً عمَّن لا يجوزُ خلافُه مِنْ الحُجَّةِ، وذلك في عامَّةِ الإجماعاتِ التي يحكيها، وليس ذلك وصفاً لازماً عندَه لكلِّ إجماعٍ.

(3)

4 -

يقطعُ العذرَ مجيئُه، ويدفعُ الشَّكَّ ورودُه، وذلك مِنْ أثرِه، وقوَّةِ دلالَتِه

(4)

؛ ولذلك يدعُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ظاهرَ القرآنِ والسُّنَّةِ لدلالةِ الإجماعِ القَطعيَّةِ

(5)

.

ومِن عِبارَتِه في بيانِ ما سبقَ قولُه: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك .. ، بنقلِ الحُجَّةِ التي لا يجوزُ الخطأُ فيما نقلَته مُجمِعةً عليه، ولا السَّهوُ، ولا

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 615، 6/ 557.

(2)

ينظر: جامع البيان 2/ 66، 3/ 262، 6/ 498، 7/ 93.

(3)

ينظر: جامع البيان 4/ 235، 5/ 609، 6/ 465، 8/ 40، 645.

(4)

ينظر: جامع البيان 6/ 464، 7/ 91.

(5)

ينظر: جامع البيان 8/ 182، 645، 21/ 474.

ص: 312

التواطؤُ والتَّشاعرُ»

(1)

، وقولُه:«وأمّا الذي قُلنا .. ، فما لا خلافَ فيه مِنْ أهلِ العلمِ جميعاً، فصحَّ ما قُلنا في الآيةِ مِنْ التَّأويلِ بالنَّقلِ المُستفيضِ وراثةً عمَّن لا يجوزُ خلافُه»

(2)

، وقولُه:«ذلك قالَته الأُمَّةُ عن بيانِ الله جلَّ ثناؤُه على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فنقلَتْه أُمَّةُ نبيِّه عليه السلام نقلاً مُستفيضاً، قطعَ العُذرَ مجيئُه، ودفعَ الشَّكَّ فيه عن قلوبِ الخلقِ ورودُه»

(3)

.

وقد ذكرَ ياقوتُ الحمويّ

(4)

(ت: 626) شيئاً مِنْ معنى الإجماعِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) مِنْ بعضِ كُتبِه المفقودةِ، فقالَ: «وقد كانَ محمد بن داود الأصبهاني

(5)

لمّا صنَّفَ كتابَه المعروفَ ب (كتابِ الوصولِ إلى معرفةِ الأصولِ) ذكرَ في بابِ الإجماعِ عن أبي جعفرٍ الطّبريِّ أنَّ الإجماعَ عنده: إجماعُ هؤلاءِ المُقدَّمِ ذِكرُهم الثّمانيةُ نفرٍ دون غيرِهم

(6)

؛

(1)

جامع البيان 7/ 93.

(2)

جامع البيان 4/ 235.

(3)

جامع البيان 6/ 464.

(4)

هو شهابُ الدّين أبو عبدِ الله البغداديّ، رحّالةٌ أديبٌ أخباريٌّ مؤَرِّخٌ، صنَّفَ: معجمَ الأدباءِ، ومعجمَ البُلدانِ، وغيرها، مات سنة (626). ينظر: السير 22/ 312، وشذرات الذّهب 7/ 212.

(5)

هو ابنُ داود الظّاهريِّ (ت: 270)، وكانَ عالماً مُتفنِّناً، خلفَ أباه في الفتوى، ومات سنة (297)، وقد كانَ بين أبيه وابنِ جريرٍ (ت: 310) مكاتباتٌ وردودٌ. ينظر: معجم الأدباء 6/ 2460، والسير 13/ 109.

(6)

يعني أبا حنيفة (ت: 150)، وصاحبيه أبا يوسف (ت: 183)، ومحمدَ بن الحسن (ت: 189)، والأوزاعيَّ (ت: 157)، والثَّوريَّ (ت: 161)، ومالكَ بن أنس (ت: 179)، والشّافعيَّ (ت: 204)، وإبراهيمَ بن خالد الكلبي (ت: 240) أبا ثور. وهم مَنْ أقامَ عليهم ابنُ جريرٍ (ت: 310) كتابَه الجليلَ: (اختلافُ علماءِ الأمصارِ في أحكامِ شرائِعِ الإسلامِ). ينظر: معجم الأدباء 6/ 2457.

ص: 313

تقليداً مِنه لمّا قالَ أبو جعفر: أجمعوا، وأجمعَت الحُجَّةُ على كذا. ثُمَّ قالَ في تصديرِ بابِ الخِلافِ: ثُمَّ اختلفوا فقالَ مالكٌ، وقالَ الأوزاعيُّ كذا، وقالَ فلانٌ كذا = أن الذين حكى عنهم الإجماعَ هم الذين حكى عنهم الاختلافَ، وهذا غلطٌ مِنْ ابنِ داود، ولو رجعَ إلى كتابِه في رسالةِ (اللطيفِ)، وفي رسالةِ (الاختلافِ)، وما أَودعَه كثيراً مِنْ كُتُبِه؛ مِنْ أنَّ الإجماعَ هو: نقلُ المُتواترين لِما أجمعَ عليه أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الآثارِ، دون أن يكونَ ذلك رأْياً ومأْخوذاً مِنْ جِهةِ القياسِ = لعلِمَ أنَّ ما ذهبَ إليه مِنْ ذلك غلطٌ فاحِشٌ، وخطأٌ بيِّنٌ»

(1)

، وما فهمَه ياقوتُ (ت: 626) مِنْ معنى الإجماعِ عندَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) لا يكادُ ينطبقُ على مذهبِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) الذي نصَّ عليه، وسارَ عليه باطِّرادٍ؛ فاشتراطُ التّواترِ، وقصرُ الإجماعِ على طبقةِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم = كُلُّ ذلك مِمّا يُخالفُ منهجَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) فيه، وسيأتي بيانُ ذلك -بإذنِ الله- في شروطِ الإجماعِ، وربَّما كانَ بعضُ ذلك رأْياً لابنِ جريرٍ (ت: 310) في أوَّلِ أمرِه وتأليفِه، فكتابُ (الاختلافِ)«أوَّلَ ما صَنَّفَ مِنْ كُتُبِه»

(2)

، ثُمَّ تحرَّرَ له سواه بعد ذلك.

وقد أفادَ هذا النَّصُّ فيما أفادَ: أنَّ الخطأَ في فهمِ معنى الإجماعِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) قديمٌ؛ ولعلَّ مردَّ ذلك إلى أنَّ تعريفَه للإجماعِ لم يكُنْ ظاهراً مُتداولاً في عامَّةِ كُتُبِه، وربَّما أبانَ عنه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في بعضِ كتبِه في الأصولِ غيرَ أنَّها لم تشتهِرْ عنه، أو فُقِدَتْ مُبكِّراً فيما

(1)

معجم الأدباء 6/ 2457.

(2)

معجم الأدباء 6/ 2458.

ص: 314

فَقِدَ مِنْ كُتُبِه، فصارَ مَنْ رأى كلاماً لابنِ جريرٍ (ت: 310) في الإجماعِ في بعضِ كُتُبِه عدَّه مذهبَه في الإجماعِ، بلا جمعٍ أو استقصاءٍ؛ فظهرَ الخللُ في كثيرٍ مِنْ تلك المعاني عند عرضِها على مجموعِ كلامِه، والله أعلمُ.

ثانياً: أبانَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) حُكمَ الإجماعِ نصّاً في كثيرٍ مِنْ المواضِعِ، وممّا قرَّرَه في ذلك ما يأتي:

1 -

لا يجوزُ خلافُ الحُجَّةِ فيما جاءَت به مُتَّفقةً عليه.

(1)

2 -

الواجبُ التسليمُ لما أجمعوا، وإن احتملَتْ الآيةُ معنىً غيرَ الذي ذكروا.

(2)

3 -

لم يخالفْ الإجماعَ أحدٌ يجوزُ الاعتراضُ به على الأُمَّةِ.

(3)

4 -

لولا ما ذكرتُ مِنْ الإجماعِ لقلتُ به.

(4)

5 -

حسبُ قولٍ خطأً أن يكونَ خلافَ الإجماعِ.

(5)

ومِن عِبارَتِه في بيانِ ما سبقَ قولُه: «غيرُ جائزٍ عندنا أن يُتعدَّى ما أجمعَتْ عليه الحُجَّةُ»

(6)

، وقولُه: «ولهذا الذي قالَه مذهبٌ ووَجهٌ، لولا أنَّ أهلَ التَّأويلِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين على خِلافِه، وغيرُ جائزٍ لأحدٍ

(1)

ينظر: جامع البيان 6/ 557.

(2)

ينظر: جامع البيان 8/ 40، 709، 23/ 179، 24/ 334.

(3)

ينظر: جامع البيان 6/ 557، 3/ 198، 5/ 609.

(4)

ينظر: جامع البيان 5/ 609، 15/ 137، 21/ 474.

(5)

ينظر: جامع البيان 11/ 69.

(6)

جامع البيان 23/ 179.

ص: 315

خلافُهم فيما كانوا عليه مُجمعين»

(1)

، وقولُه:«وذلك قولٌ خلافٌ لقولِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين، وحسبُ قَولٍ خطأً أن يكونَ خلافاً لِقَولِ مَنْ ذَكرْنا»

(2)

.

ثالثاً: شروطُ الإجماعِ جاءَتْ ظاهرةً في كثيرٍ مِنْ مواضِعِ الإجماعاتِ التي ذكرَها ابنُ جريرٍ (ت: 310)، وهذا بيانُها:

1 -

أن يكونَ مستَندُه نصّاً شرعيّاً، وقد نصَّ على ذلك في مواضِعَ كثيرةٍ؛ مِنها قولُه:«قالَ جماعةُ أهلِ التَّأويلِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين ومَن بعدَهم مِنْ الخالِفين .. ؛ واعتلَّ قائِلو هذه المقالَةِ بأنَّ للجُنبِ التيمُّمَ إذا لم يجدِ الماءَ في سفرِه بإجماعِ الحُجَّةِ على ذلك نقلاً عن نبيِّها صلى الله عليه وسلم؛ الذي يقطعُ العذرَ، ويُزيلُ الشَّكَّ»

(3)

، وقولُه: «بإجماعِ الحُجَّةِ على ذلك نقلاً عن نبيِّها صلى الله عليه وسلم)

(4)

، وقولُه:«وفي إجماعِ الجميعِ على أنَّ حكمَ الله في أهلِ الحربِ مِنْ المُشركين قتلُهم؛ أمُّوا البيتَ الحرامَ أو البيتَ المقدسَ، في أشهُرِ الحُرُمِ وغيرِها = ما يُعلمُ أنَّ المنعَ مِنْ قَتلِهم إذا أمُّوا البيتَ الحرامَ منسوخٌ»

(5)

، ولا نسخَ إلا بنصٍّ، كما قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «نسخُ الأحكامِ مِنْ قِبلِ الله جلَّ وعزَّ، لا مِنْ قِبلِ العِبادِ» .

(6)

(1)

جامع البيان 24/ 334.

(2)

جامع البيان 11/ 69.

(3)

جامع البيان 7/ 91.

(4)

جامع البيان 7/ 335.

(5)

جامع البيان 8/ 40. وينظر: 3/ 715، 6/ 464، 465، 8/ 181، 188.

(6)

جامع البيان 3/ 644. وقد سبق تقريرُ ذلك (ص: 135).

ص: 316

وعلى هذا الشَّرطِ جُمهورُ العلماءِ، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «لا يوجدُ مسألةٌ يتَّفقُ الإجماعُ عليها إلا وفيها نصٌّ»

(1)

.

2 -

أن يكونَ مِنْ المُجتهدين في هذا العلم، وقد وصفَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أهلَ الإجماعِ ب (الحُجَّةِ)، ولا يكونُ كذلك إلا مَنْ كانَ مِنْ أهلِ الاجتهادِ فيه، ومثلُه وصفُهم ب (أهلِ التَّأويلِ)، و (علماءِ الأُمَّةِ)، ولا يتأهَّلُ لذلك إلا المُجتهِدُ، وممّا قالَه في ذلك:«أجمعَت الحُجَّةُ مِنْ أهلِ التَّأويلِ جميعاً على أنَّ الصِّراطَ المُستقيمَ هو الطريقُ الواضِحُ الذي لا اعوجاجَ فيه»

(2)

، وقالَ:«وهذا قولٌ خلافُ تأويلِ أهلِ العلمِ الذين تُرتضى معرفتُهم بتأويلِ القرآن»

(3)

.

وابنُ جريرٍ (ت: 310) يعتبرُ إجماعَ كُلِّ أهلِ فنٍّ في فنِّهم؛ فينقُلُ عن أهلِ التَّأويلِ في فنِّهم، وكذا عن القرَّاءِ، وأهلِ العلمِ بالسِّيَرِ، وأخبارِ الأوَّلين، وأهلِ اللغةِ، وغيرِهم، كُلٌّ في فَنِّه الذي هو مِنْ أهلِ الاجتهادِ فيه، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121]: «وأَوْلى هذَيْن القولَيْن بالصَّوابِ قولُ مَنْ قالَ: عُنيَ بذلك يومَ أُحدٍ؛ لأنَّ الله جلَّ ثناؤُه قالَ في الآيةِ التي بعدها {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل عمران: 122]، ولا خلافَ بين أهلِ التَّأويلِ أنَّه عُنيَ بالطّائفتَيْن بنو سَلِمةَ وبنو حارِثةَ، ولا خلافَ بين أهلِ

(1)

مجموع الفتاوى 19/ 195. وينظر: الرسالة (ص: 472)، وشرح الكوكب المنير 2/ 259.

(2)

جامع البيان 1/ 170.

(3)

جامع البيان 1/ 431. وينظر: 1/ 176، 223، 5/ 608، 13/ 87.

ص: 317

السِّيَرِ والمعرفةِ بمغازي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الذي ذكرَ الله تبارك وتعالى مِنْ أمرِهِما إنَّما كانَ يومَ أُحدٍ دون يومِ الأحزابِ»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]: «وفي إجماعِ جميعِ قَرأَةِ أهلِ الإسلامِ على كسرِ الألفِ مِنْ {إِنْ} دليلٌ واضِحٌ على خطأِ تأويلِ مَنْ تأوَّلَ {إِنْ} بمعنى (إذْ) في هذا المَوضِعِ»

(2)

.

وقد نصَّ العلماءُ على اعتبارِ مَنْ له أثرٌ في العلمِ مِنْ المُجتهدين في كُلِّ إجماعٍ، قالَ ابنُ قدامةَ (ت: 620): «مَنْ يَعرِفُ مِنْ العلمِ ما لا أثرَ له في معرفةِ الحُكمِ؛ كأهلِ الكلامِ واللغةِ والنّحوِ، ودقائقِ الحسابِ = فهو كالعامّيِّ لا يُعتدُّ بخلافِه؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ عاميٌّ بالنِّسبةِ إلى ما لم يُحَصِّل علمَه، وإن حصَّلَ علماً سواه»

(3)

، وقالَ ابنُ القيّم (ت: 751): «الاعتبارُ في الإجماعِ على كُلِّ أمرٍ مِنْ الأمورِ الدّينيَّةِ بأهلِ العلمِ به دون غيرِهم»

(4)

.

3 -

أن يكونَ مِنْ الجميعِ بلا مُخالفٍ مُعتبرٍ، وتلك حقيقةُ الإجماعِ: الاتِّفاقُ العامُّ. فلو خالفَ واحدٌ مِنْ أهلِ الاجتهادِ لما كانَ إجماعاً، وذلك ما نراه في كثيرٍ مِنْ تعبيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عن الإجماعِ، مِنْ نحوِ ذِكرِه:(الجميعَ، والأُمَّةَ، وجميعاً، وأهلَ المِلَّةِ) ونحوَها مِنْ الألفاظِ العامَّةِ، كما في قولِه: «وذلك إن قالَه قائلٌ خروجٌ مِنْ قولِ أهلِ

(1)

جامع البيان 6/ 7.

(2)

جامع البيان 1/ 526. وينظر: 8/ 314، 325، 13/ 87، 17/ 197.

(3)

نزهة الخاطر العاطر 1/ 287.

(4)

مختصر الصواعق المرسلة (ص: 537). وينظر: شرح الكوكب المنير 2/ 224.

ص: 318

المِلَّةِ»

(1)

، وقولِه:«وفي إجماعِ أهلِ الإسلامِ جميعاً .. ، دليلٌ واضِحٌ على خطأِ ما قالَ»

(2)

.

وقد قرَّرَ أهلُ العلمِ أنَّ خلافَ الواحدِ مِنْ المجتهدين إنَّما يمنعُ انعقادَ الإجماعِ في أحَدِ ثلاثةِ أحوالٍ:

الأولى: أن يكونَ خلافاً مُعتبراً، فيما يسوغُ فيه الاجتهادُ، أمّا خلافُه بغيرِ دليلٍ مُعتبرٍ، أو في مقابلِ النَّصِّ = فشُذوذٌ لا يؤثِّرُ في صِحَّةِ الإجماعِ وانعقادِه.

الثّانية: أن لا يُنكِرَ عليه أهلُ الإجماعِ قولَه، فإن أنكروا قولَه فلا يُعتدُّ بخلافِه، وذلك مِنه أيضاً في معنى الشُّذوذِ.

الثّالثة: أن لا يقولَ بقولِ أهلِ الإجماعِ، ثُمَّ ينفردَ عنهم برأيه؛ فتلك حقيقةُ الشُّذوذِ؛ لتحقُّقِ العِصمةِ لرأيهم حالَ الإجماعِ، فالخروجُ عنه بعدَ ذلك شذوذٌ عن الصَّوابِ، قالَ الغزاليُّ (ت: 505): «الشَّاذُّ عبارةٌ عن الخارجِ عن الجماعةِ بعدَ الدُّخولِ فيها، ومِن دخلَ في الإجماعِ لا يُقبلُ خلافُه بعدَه؛ وهو الشُّذوذُ، أمّا الذي لم يدخُلْ أصلاً فلا يُسمّى شاذّاً»

(3)

.

أمّا إن كانَ المُخالِفُ مِنْ أهلِ الاجتهادِ، وكانَ خِلافُه فيما يسوغُ فيه ذلك، ولم يُنكِر عليه أهلُ العلمِ غيرُه، ولم يكُن على رأيهم ثُمَّ خالفَهم = فلا إجماعَ، ولا شُذوذَ، ولكُلٍّ رأيُه، والرَّدُّ في ذلك إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «وإذا قيلَ: المُعتبرُ مِنْ أمَّةِ محمدٍ

(1)

جامع البيان 1/ 92.

(2)

جامع البيان 1/ 162. وينظر: 1/ 223، 3/ 198، 5/ 609.

(3)

المستصفى (ص: 184). وينظر: الإحكام، لابن حزم 2/ 83.

ص: 319

بعُلمائِها. قيلَ: إذا اتَّفقت علماؤُها على شيءٍ فالباقون يُسلِّمون لهم ما اتَّفقوا عليه، لا يُنازعونَهم فيه؛ فصارَ هذا إجماعاً مِنْ المؤمنين، ومَن نازعَهم بعلمٍ فهذا لا يثبُتُ الإجماعُ دونَه كائناً مَنْ كانَ، أمّا مَنْ ليس مِنْ أهلِ العلمِ فيما تكلَّموا فيه، فذاك وجودُه كعدمِه .. ، وبالجُملةِ: العِصمةُ إنّما هي للمؤمنين لأمَّةِ محمدٍ لا لبعضِهم، لكن إذا اتَّفقَ علماؤُهم على شيءٍ، فسائِرُهم موافقون للعلماءِ، وإذا تنازعوا ولو كانَ المُنازعُ واحداً، وجبَ ردُّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرَّسولِ. وما أحدٌ شذَّ بقولٍ فاسدٍ عن الجمهورِ إلا وفي الكتابِ والسُّنَّةِ ما يُبيِّن فسادَ قولِه، وإن كانَ القائلُ كثيراً .. ، وأمّا القولُ الذي يدلُّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ فلا يكونُ شاذّاً، وإن كانَ القائلُ به أقلَّ مِنْ القائلِ بذاك القولِ»

(1)

.

ومذهبُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في هذا البابِ أنَّه: لا يعتدُّ بخلافِ الواحدِ والاثنين ونحوِهما مِنْ الأقلِّ، في مقابلِ الجمهورِ الأعظمِ مِنْ الُمجتهدين، كما في قولِه:«لم يأتِ بأنَّ بعضَ ذلك غيرُ داخلٍ في الآيةِ خبرٌ عن الله، ولا عن رسولِه، وكانَت الأمَّةُ أكثرُها مُجمِعٌ على أنَّه فيه داخلٌ»

(2)

، وقالَ:«والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك عندي .. ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ على ذلك»

(3)

، وقد ذكرَ قبلَه خلافَ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه.

(4)

(1)

النبوات 1/ 593. وينظر: الرسالة (ص: 560)، والآراء الشاذَّة في أصول الفقه 1/ 124، 133 - 164.

(2)

جامع البيان 9/ 641.

(3)

جامع البيان 11/ 525.

(4)

وربّما تأثَّرَ بذلك ابنُ عطيّةَ (ت: 546) في تفسيرِه، وذلك في قولِه عن سورةِ الشّورى:«هذه السّورةُ مكيّةٌ بإجماعٍ مِنْ أكثرِ المُفسِّرين» 7/ 498.

ص: 320

ويرى القولَ المُخالفَ هنا شذوذاً، كما في قولِه:«لإجماعِ الحُجَّةِ على أنَّ ذلك تأويلُ الآيةِ، ولا يُعارضُ بالقولِ الشَّاذِّ ما استفاضَ به القولُ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين»

(1)

، وقالَ عن قولٍ لابنِ سيرين (ت: 110): «قولٌ بعيدٌ مِنْ الصَّوابِ؛ لشذوذِه، وخروجِه عمّا عليه الحُجَّةُ مُجمِعةٌ»

(2)

، ولا يَعدُّ خلافَ المُخالِفِ في هذا مُعتبَراً، كما في قولِه:«لإجماعِ جميعِ الحُجَّةِ .. ، لم يُخالفْ ذلك مَنْ يجوزُ أن يُعتَدَّ خلافاً»

(3)

، وقالَ:«لا خلافَ بين الجميعِ إلا مَنْ لا يُعدُّ خلافاً»

(4)

.

إلا إن كانَ المُخالِفَيْن أو أكثرَ مِنْ الصَّحابةِ؛ فإنّه يعتدُّ بخلافِهم، كما في ظاهرِ قولِه عند قولِه تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]: «والمُكفِّرُ مخيَّرٌ في تكفيرِ يمينِه التي حنثَ فيها، بإحدى هذه الحالاتِ الثَّلاثِ التي سمّاها اللهُ في كتابِه .. ، بإجماعٍ مِنْ الجميعِ، لا خلافَ بينهم في ذلك. فإن ظنَّ ظانٌّ أنَّ ما قُلنا مِنْ أنَّ ذلك إجماعٌ مِنْ الجميعِ ليس كما قُلنا؛ لِما حدَّثنا .. » ، ثُمَّ أسندَ أثرَيْن عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أمرَ فيها المُكفِّرَ بالعِتقِ بلا تخيير؛ لأنَّه موسِرٌ، ثُمَّ قالَ: «ونحو هذا مِنْ الأخبارِ التي رُويَت عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ وغيرِهما، فإنَّ ذلك مِنهم كانَ على وجهِ الاستحبابِ لمَن أمَروه بالتَّكفيرِ بما أمَروه به بالتَّكفيرِ مِنْ الرِّقابِ، لا على أنَّه كانَ لا يُجزئُ عندَهم التَّكفيرُ

(1)

جامع البيان 4/ 423.

(2)

جامع البيان 9/ 529.

(3)

جامع البيان 7/ 83.

(4)

جامع البيان 7/ 321. وينظر: 7/ 328، 8/ 147، 11/ 191.

ص: 321

للموسِرِ إلا بالرَّقبةِ؛ لأنَّه لم يَنقُلْ أحدٌ عن أحدٍ مِنهم أنَّه قالَ: لا يُجزئُ الموسِرَ التَّكفيرُ إلا بالرَّقبةِ. والجميعُ مِنْ علماءِ الأمصارِ قديمِهم وحديثِهم مُجمِعون على أنَّ التَّكفيرَ بغيرِ الرِّقابِ جائزٌ للموسِرِ»

(1)

، فيُفهَمُ مِنْ ذلك أن لو ثبتَت المُخالفةُ عنهما لكانَ لذلك أثرٌ على القَولِ بالإجماعِ، مع ما لأقوالِ الصَّحابةِ مِنْ المكانةِ على الخصوصِ.

وسيأتي بيانُ أثرِ مذهبِه في هذا الشَّرطِ في تفسيرِه بإذنِ الله.

4 -

أن يكونَ مِنْ الأحياءِ الموجودين في ذلك العصرِ، لا في كُلِّ العصورِ؛ لأنَّه مُمتنِعٌ، ومآلُه إلى إبطالِ الاستدلالِ بالإجماعِ، لأنَّ وجودَ أهلِ الإجماعِ مُتَّصلٌ في كُلِّ زمانٍ إلى قُبيلِ قيامِ السّاعةِ

(2)

. والقاعدةُ في هذا: أنَّ الماضي لا يُعتبَر، والمُستَقبلُ لا يُنتَظر. وقد سارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه مُعتبراً هذا الشَّرطَ؛ حيثُ ينسِبُ الإجماعَ إلى الصَّحابةِ، والتّابعين، والسَّلفِ، ونحوِهم مِنْ أهلِ كُلِّ عصرٍ.

(3)

5 -

أن يكونَ المُجمعون عدولاً، ويتضمَّنُ ذلك الإسلامَ، والاستقامةَ اعتقاداً وعملاً. وعليه جمهورُ العلماءِ

(4)

، والظَّاهرُ مِنْ صنيعِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) اشتراطُ ذلك؛ فإنَّه يُعرِّفُ أهلَ الإجماعِ في أكثرِ المواضِعِ ب (الحُجَّةِ)، وذلك يتضمَّنُ معنيَيْن هُما: أهليَّتَهم للاجتهادِ،

(1)

جامع البيان 8/ 648.

(2)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 400، ونزهة الخاطر العاطر 1/ 306، وشرح الكوكب المنير 2/ 248.

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 169، 223، 580، 4/ 162.

(4)

ينظر: أصول السَّرخسي 1/ 310، ونزهة الخاطر العاطر 1/ 290، وشرح الكوكب المنير 2/ 228.

ص: 322

وعدالَتَهم. ولم أجدْ له نقلاً للإجماعِ عن غيرِ أهلِ العدالةِ؛ كأهلِ الأهواءِ والبدعِ.

(1)

رابعاً: توجيه ما حكاهُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ الإجماعِ مع وجودِ المُخالفِ.

ذهبَ جماعةٌ مِنْ العلماءِ إلى ما ذهبَ إليه ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ انعقادِ الإجماعِ مع مُخالفةِ الواحدِ أو الاثنَيْن مُطلقاً

(2)

، ورأوا أنَّ ذلك الانفرادَ مِنْ المُخالفِ موجِبٌ لردِّ قولِه. وخالَفَهم جماهيرُ العلماءِ، وبيَّنوا أنَّ الانفرادَ مُعتبرٌ ممَّن كانَ مِنْ أهلِ الاجتهادِ، وفي خلافٍ سائغٍ، ولم تُنكِر الجماعةُ قولَه. فلا يكونُ اتِّفاقُ البقيَّةِ حُجَّةً مع هذا الخلافِ. وهذا هو الصَّوابُ، والمُوافِقُ لعُمومِ أدلَّةِ حُجِّيَّةِ الإجماعِ السَّابقِ ذكرها.

(3)

وقد بلغت الإجماعاتُ التي حكاها ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه مع وجودِ المُخالفِ (98) إجماعاً، الثَّابتُ مِنها في ذكرِ الإجماعِ مع

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 170، 298، 2/ 66، 3/ 262.

(2)

كابنِ خويزمنداد (ت: 390) من المالكية، وابنِ حمدان (ت: 695) من الحنابلة، وبعضِ المعتزلة، وهو روايةٌ عن أحمد (ت: 241)، والصَّحيحُ موافقتُه للجمهورِ، ونُسِبَ إلى أبي بكرٍ الجصَّاص (ت: 370) من الأحنافِ، ولا يصحُّ عنه؛ لأنَّه لا يرى انعقادَ الإجماعِ إن ساغَ للمُخالفِ الاجتهادُ فيما ذهبَ إليه. وينظر: قواطع الأدلَّة 3/ 297، والبحر المحيط في الأصول 3/ 522، وشرح الكوكب المنير 2/ 229، وقوادح الاستدلال بالإجماع (ص: 240)، والآراء الشَّاذَّة في أصول الفقه 1/ 439.

(3)

لبيانِ الأقوالِ وأدلَّتِها والترجيح بينها تنظر مراجع الحاشيةِ السابقةِ.

ص: 323

وجودِ المُخالفِ المُعتبرِ (35) إجماعاً

(1)

، والباقي إجماعاتٌ صحيحةٌ لا يُعتبَرُ فيها المُخالفُ، وعددُها (63) إجماعاً، وفيما يأتي توجيهُ عدمِ اعتبارِ المُخالفِ فيها:

1 -

أنَّ المُخالفَ فيها غيرُ معتبرٍ في أهلِ الإجماعِ؛ إمّا لعدمِ الأهليَّةِ؛ كخلافِ المعتزلةِ والقدريَّةِ، وإمّا لكونِه ليس مِنْ أهلِ الفَنِّ؛ فحكمُه فيه كالعامّيِّ؛ كخلافِ بعضِ أهلِ اللغةِ لأهلِ التَّفسيرِ كافَّةً، أو خلافِ بعضِ أهلِ التَّأويلِ لأهلِ العلمِ بالمغازي والسِّيَرِ فيما هو مِنْ عِلمِهم. ومثالُ ذلك قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في رَدِّه على القائلين بالتَّفويضِ مِنْ أهلِ القدرِ: «وفي إجماعِ أهلِ الإسلامِ جميعاً على تصويبِ قولِ القائلِ: اللهم إنّا نستعينُك. وتخطِئَتِهم قولَ القائلِ: اللهم لا تجُرْ علينا = دليلٌ واضِحٌ على خطأِ ما قالَ الذين وصفتُ قولَهم، إذْ كانَ تأويلُ قولِ القائلِ عندَهم: اللهم إنّا نستعينُك: اللهم لا تترُك معونتنا التي تركُكَها جَوْرٌ مِنك»

(2)

، وقولُه: «وقد زعمَ بعضُ أهلِ العلمِ بالغريبِ مِنْ أهلِ البصرةِ

(3)

، أنَّ مجازَ قولِه {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]: ويُفرغَ عليهم الصَّبرَ ويُنزِّلَه عليهم، فيَثبُتون لعدوِّهِم. وذلك قولٌ خلافٌ لقولِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ مِنْ الصَّحابةِ

(1)

سبقَ التَّمثيلُ لها، وينظر: جامع البيان 1/ 693، 2/ 66، 3/ 120، 530، 735، 4/ 162، 6/ 307.

(2)

جامع البيان 1/ 161 - 162. وينظر: 12/ 583، 15/ 54.

(3)

هو أبو عبيدة معمر بن المُثنّى (ت: 210)، في كتابِه مجاز القرآن 1/ 242. وقد وصفَه ابنُ جريرٍ بعدمِ العلمِ بأقوالِ السَّلفِ وأهلِ التأويلِ، وردَّ عليه في كثيرٍ من المواضعِ، وينظر كتاب: أقوال أبي عبيدة في تفسيرِ الطبري.

ص: 324

والتّابعين، وحسبُ قولٍ خطأً أن يكونَ خِلافاً لقولِ مَنْ ذَكَرنا»

(1)

، وذكرَ قولَ ابنِ زيدٍ (ت: 182): «قالَ له اللهُ عز وجل حين رجعَ مِنْ غَزوِه {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] الآية، {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، أرادوا أن يُغيِّروا كلامَ الله الذي قالَ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ويَخرجوا معه، وأبى اللهُ ذلك عليهِم ونبيُّه صلى الله عليه وسلم)

(2)

، ثُمَّ قالَ:«وهذا الذي قالَه ابنُ زيدٍ لا وجهَ له؛ لأنَّ قولَه الله عز وجل {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]، إنَّما أُنْزِلَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُنصَرَفَه مِنْ تبوكَ، وعُنيَ به الذين تخلَّفوا عنه حين توجَّه إلى تبوكَ لغزوِ الرّومِ، ولا اختلافَ بين أهلِ العلمِ بمغازي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ تبوكَ كانَتْ بعد فتحِ خيبرَ، وبعد فتحِ مكةَ أيضاً»

(3)

.

وقد بلغت الإجماعاتُ مِنْ هذا النَّوعِ (35) إجماعاً.

2 -

أنَّ قولَ المُخالفِ ليس ثابتاً عنه؛ فلا ينتقضُ به الإجماعُ، ومثالُه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «وأما القولُ الذي رُويَ عن شَهرِ بن حَوْشَبٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن عُمرَ رضي الله عنه؛ مِنْ تفريقِه بين طلحةَ وحُذَيْفةَ وامرأتَيْهِما اللتَيْن كانَتا كتابيَّتَيْن = فقولٌ لا معنى له؛ لخِلافِه ما الأُمَّةُ مُجتمعَةٌ على تحليلِه بكتابِ الله تعالى ذِكرُه، وخبرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم. وقد رُويَ عن عمرَ بن الخطّابِ رضي الله عنه مِنْ القولِ خلافُ ذلك بإسنادٍ هو أصَحُّ مِنه،

(1)

جامع البيان 11/ 68. وينظر: 1/ 418، 526، 2/ 688، 3/ 180، 649، 661، 13/ 197، 16/ 274.

(2)

جامع البيان 21/ 263.

(3)

المرجع السابق. وينظر: جامع البيان 6/ 682، 17/ 197.

ص: 325

وهو ما حدَّثني .. »

(1)

، ثُمَّ ذكرَ أثرَيْن عن عمرَ رضي الله عنه في معنى ذلك. ومثلُه قولُه بعدما ذَكرَ أوجهَ القراءةِ في {السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93]: «وممّا يُبينُ عن أن ذلك كذلك أنَّ جميعَ أهلِ التَّأويلِ الذين رُويَ لنا عنهم في ذلك قولٌ لم يُحكَ لنا عن أحدٍ مِنهم تفصيلٌ بين فتحِ ذلك وضَمِّه، ولو كانا مُختَلفَيْ المعنى لنُقِلَ الفصلُ مع التَّأويلِ إن شاءَ اللهُ، ولكن معنى ذلك كانَ عندَهم غيرَ مُفتَرِقٍ، ففَسَّروا الحرفَ بغيرِ تفصلٍ مِنهم بين ذلك. وأمّا ما رُويَ عن عكرمةَ في ذلك، فإنَّ الذي نقلَ ذلك عن أيّوبَ: هارونُ

(2)

. وفي نَقلِه نظرٌ، ولا نعرِفُ ذلك عن أيّوبَ مِنْ روايةِ ثِقاتِ أصحابِه»

(3)

، وقد بلغت الإجماعاتُ مِنْ هذا النَّوعِ (4) إجماعاتٍ.

3 -

أنَّ بعضَه يُظنُّ فيه مخالفٌ وليس الأمرُ كذلك؛ لأنَّ معنى أقوالِهم واحدٌ مُجمعٌ عليه، فيحكي فيه ابنُ جريرٍ (ت: 310) الإجماعَ، ويظنُّه بعضُهم ممّا فيه خلافٌ، ومثالُه قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في قولِه تعالى {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]: «فالذين وجَّهوا تأويلَ ذلك إلى الزِّنا قالوا: الزِّنا ضررٌ في الدِّينِ، وهو مِنْ العَنَتِ. والذين وجَّهوه إلى الإثمِ قالوا: الآثامُ كُلُّها ضررٌ في الدِّينِ، وهي مِنْ العَنَتِ. والذين وجَّهوه إلى العقوبةِ التي تُعنِتُه في بدنِه مِنْ الحَدِّ فإنَّهم قالوا:

(1)

جامع البيان 3/ 715 - 716.

(2)

هارون هو ابنُ موسى الأعور المُقرئ (ت: قبل 200)، وأيوبُ هو السّختياني (ت: 131). ينظر: غاية النهاية 2/ 303، وتهذيب التهذيب 1/ 200. وهارون بن موسى، والراوي عنه حجاجُ بن محمد، من أهل القراءاتِ المشهورين، وعنهم أخذَ القاسمُ بن سلام (ت: 224) جُملةً من اختيارِه في القراءةِ كما في: قراءات القراء المعروفين، للأندرابي (ص: 142)، وينظر: غاية النهاية 1/ 186.

(3)

جامع البيان 15/ 386. وينظر: 6/ 469، 8/ 332.

ص: 326

الحَدُّ مضرَّةٌ على بدنِ المحدودِ في دُنياه، وهو مِنْ العَنَتِ. وقد عمَّ اللهُ بقولِه {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] جميعَ معاني العَنَتِ، ويجمعُ جميعَ ذلك الزِّنا؛ لأنَّه يوجِبُ العقوبةَ على صاحبِه في الدنيا بما يُعنِتُ بدنَه، ويكتسبُ به إثماً ومضرَّةً في دينِه ودنياه. وقد اتَّفقَ أهلُ التَّأويلِ الذين هُمْ أهلُه على أنَّ ذلك معناه»

(1)

، وقد بلغت الإجماعاتُ مِنْ هذا النَّوعِ اثنين.

وتحسُنُ الإشارةُ هنا إلى أنَّ التعاملَ مع خلافِ المُفسِّرين بهذا المنهجِ الجريريِّ يُبرزُ حقيقةً امتازَ بها علمُ التَّفسيرِ؛ وهي: أنَّ مادَّةَ الإجماعِ فيه أكثرُ مِنْ مادَّةِ الخلافِ، وتحقيقُ ذلك مِنْ وجوهٍ؛ منها: أنَّ أكثرَ اختلافِ المُفسِّرين من قبيلِ اختلافِ التنوُّعِ لا اختلافَ التضادِّ كما هو معلومٌ، وكثيرٌ مِنْ اختلافِ التنوُّعِ مردُّهُ إلى قَولٍ واحدٍ تنوَّعَت أساليبُ المُفسِّرين في التَّعبيرِ عنه؛ ما بين تفسيرٍ بالمثالِ، وباللازمِ، وبجُزءِ المعنى، وبما يؤولُ إليه المعنى .. ونحوِ ذلك، لكنَّه في حقيقتِه معنىً واحد، وهو ما وقعَ إجماعُهم عليه، وإن تفاوتَتْ أساليبُهم في البيانِ عنه. والوصولُ إلى تلك الغايةِ الجليلةِ يتحقَّقُ باكتسابِ أمرَيْن لازِمَيْن:

الأوَّلُ: تمامُ استيعابِ أقوالِ المُفسِّرين في الآيةِ؛ باختلافِ أسانيدِها وألفاظِها.

الثّاني: حُسنُ توجيهِ أقوالِهم، وصِحَّةُ فهمِ مقاصدِهم، ودِقَّةُ البيانِ عنهم.

(1)

جامع البيان 6/ 616. وينظر: 8/ 645.

ص: 327

وقد اجتمعا في ابنِ جريرٍ (ت: 310) على التَّمامِ

(1)

، وما أحسنَ أن يتصدّى أهلُ التّأويلِ بعدَه لحَصرِ مواضِعِ الخلافِ بين المُفسِّرين في تفسيرِه، ثُمَّ التمييزُ بين نَوعَيْ الاختلافِ بينهم، ثُمَّ التّأليفُ بين أقوالِهم بذكرِ المعنى الجامعِ لما اختلفَتْ فيه عباراتُهم. وأجلُّ الثِّمارِ مِنْ ذلك: بيانُ قلَّةِ الخلافِ على الحقيقةِ في التَّفسيرِ، وتحديدُ مقدارِ ما يصحُّ فيه الإجماعُ مِنْ المعاني.

4 -

أنَّ قولَ المُخالفِ يحتملُ معنىً لا ينتقضُ به الإجماعُ، كقولِ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «وأَوْلى التَّأويلَيْن بالآيةِ تأويلُ مَنْ قالَ: إنَّ قولَ الله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] نزلَت في المنافقين الذين كانوا على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانَ معنيّاً بها كُلُّ مَنْ كانَ بمثلِ صِفَتِهم مِنْ المنافقين بعدَهم إلى يومِ القيامة. وقد يحتمِلُ قولُ سلمانَ عندَ تلاوةِ هذه الآيةِ: ما جاءَ هؤلاءِ بعدُ. أن يكونَ قالَه بعدَ فناءِ الذين كانوا بهذه الصِّفةِ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، خبراً مِنه عمَّن هو جاءٍ مِنهم بعدَهم ولمّا يَجئْ بعدُ، لا أنَّه عنى أنَّه لم يمضِ ممَّن ذلك صِفتُه أحدٌ. وإنَّما قُلنا: أَوْلى التَّأويلَيْن بالآيةِ ما ذَكرنا؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ على أنَّ ذلك صفةُ مَنْ كانَ بين ظَهرانَيْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، مِنْ المنافقين، وأنَّ هذه الآياتِ فيهم نزلَتْ، والتَّأويلُ المُجمَعُ عليه أَوْلى بتأويلِ القرآنِ مِنْ قَولٍ لا دلالةَ على صِحَّتِه مِنْ أصلٍ ولا نظيرٍ»

(2)

، وقد بلغت الإجماعاتُ مِنْ هذا النَّوعِ (4) إجماعاتٍ.

(1)

سيأتي مزيدُ بيانٍ لها في مبحثِ: ضوابطِ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

(2)

جامع البيان 1/ 298. وينظر: 3/ 715، 8/ 134، 11/ 367.

ص: 328

5 -

أنَّ خلافَ المُخالِفِ وقعَ بعدَ انعقادِ الإجماعِ، فلا يُعتبَرُ؛ وهذا التَّوجيهُ يصدُقُ على خلافِ بعضِ أتباعِ التّابعين ومَن بعدَهم، بعد استقرارِ اتِّفاقِ الصَّحابةِ والتّابعين على معنىً بلا خلافٍ، ويُمثَّلُ لذلك بانفرادِ عبدِ الرحمن بن زيدِ

(1)

(ت: 182)، وابنِ عُيَيْنة

(2)

(ت: 198)، ونحوِهم. وقد بلغَتْ الإجماعاتُ التي حكاها ابنُ جريرٍ (ت: 310) مع وجودِ المُخالفِ مِنْ هذا النَّوعِ: (9) إجماعاتٍ. ومِن أمثلتِها قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «وأَوْلى القَولَيْن في تأويلِ قولِه تعالى {وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة: 243] بالصَّوابِ قولُ مَنْ قالَ: عنَى بالألوفِ كثرةَ العددِ. دون قولِ مَنْ قالَ: عنَى به الائتلافَ. بمعنى ائتلافِ قلوبِهم .. ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ على أنَّ ذلك تأويلُ الآيةِ، ولا يُعارَضُ بالقولِ الشَّاذِّ ما استفاضَ به القَولُ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين»

(3)

، والقائِلُ بالقولِ الثَّاني ابنُ زيدٍ (ت: 182). وكذلك قولُه في قولِه تعالى {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحِجر: 19]: «مِنْ كُلِّ شيءٍ بقَدرٍ مُقَدَّرٍ، وبحدٍّ معلومٍ»

(4)

، ثُمَّ ذكرَ قولَ ابنَ زيدٍ (ت: 182) بأنَّ المُرادَ: الأشياءَ التي تُوزَنُ؛ مِنْ

(1)

بن أسلَم العَدَويّ المَدَنيّ، من الطبقةِ الوسطى من أتباعِ التّابعين؛ كثيرُ الرِّوايةِ، ضعيفُ الحديث، قالَ عنه ابنُ عدي (ت: 365): «له أحاديثٌ حِسانٌ، وهو ممّن احتملَه النّاسُ، وصدَّقَه بعضُهم، وهو ممّن يُكتَبُ حديثُه» . الكامل في الضعفاء 5/ 448. وينظر: الطبقات الكبرى 3/ 296، وتقريب التهذيب (ص: 578).

(2)

هو سفيانُ بن عيينةَ بن أبي عمران، أبو محمدٍ الهلالي، من الطبقةِ الوسطى من أتباعِ التّابعين، كثيرُ الروايةِ، إمامٌ فقيهٌ حُجَّةٌ. ينظر: الطبقات الكبرى 3/ 333، وتقريب التهذيب (ص: 395).

(3)

جامع البيان 4/ 423.

(4)

جامع البيان 14/ 34.

ص: 329

الذَّهبِ، والفضَّةِ، والنُّحاسِ، ونحوِها. وقالَ:«وأَوْلى القَولَيْن عندنا بالصَّوابِ القولُ الأوَّلُ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ عليه»

(1)

.

6 -

أنَّ الخلافَ فيه غيرُ مُعتبرٍ، ولا يسوغُ فيه الاجتهادُ؛ وذلك إمَّا لمُخالفةِ الدَّليلِ النَّصِّيّ، أو لاعتِمادِه على دليلٍ باطلٍ، وذلك في مَوضعٍ واحدٍ، عند قولِه تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قولُ مَنْ قالَ: عنَى به رُؤيا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما رأى مِنْ الآياتِ والعِبرِ في طريقِه إلى بيتِ المَقدسِ، وبيتَ المَقدسِ ليلَةَ أُسرِيَ به .. ، وإنَّما قُلنا ذلك أَوْلى بالصَّوابِ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ على أنَّ هذه الآيةَ إنَّما نزلَت في ذلك، وإيّاه عنَى الله عز وجل بها»

(2)

، ولم يعتبِر القولَ المُخالفَ أنَّها: رُؤيا مَنامٍ؛ وذلك حينَ رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَنامِه قوماً يعلون مِنبَرَه. وذلك لأنَّ عُمدتَهم حديثٌ ضعيفٌ جدّاً في إسنادِه، ومُنكرٌ في مَتنِه، ومُخالفٌ لنصوصٍ قطعيَّةٍ ثابتةٍ.

(3)

7 -

نسبَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) الخلافَ في (8) مواضعَ إلى مُبهمٍ غيرِ مُعيَّنٍ، ومع تردُّدِ سببِ ذلك بين أن يكونَ بعضَ الأوجهِ المُعتبرَةِ السَّابقةِ، أو أنَّه على أصلِه في هذا البابِ؛ فإنَّ الأرجحَ فيها عدمُ اعتبارِ المُخالفِ؛ وذلك بالنَّظرِ إلى موضوعِها؛ كاللغةِ، وما يصفُ به قائِلَها مِنْ أوصافٍ لا يصفُ بها أحداً مِنْ الحُجَّةِ مِنْ أهلِ العلمِ، كقولِه: «فإن

(1)

جامع البيان 14/ 37. وينظر: 4/ 162، 5/ 91، 9/ 641، 23/ 214.

(2)

جامع البيان 14/ 646.

(3)

المرجع السابق، وينظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 9/ 36 - 38.

ص: 330

ظنَّ ذو غباءٍ»

(1)

. ومِن أمثلةِ ذلك قولُه: «وقد زعمَ بعضُ الزَّاعمين أنَّ قولَه {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] معنيٌّ به الشياطينُ، وأنَّ قولَه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] معنيٌّ به النَّاسُ. وذلك قولٌ لقولِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ مُخالِفٌ؛ وذلك أنَّهم مُجمعون على أنَّ قولَه {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] معنيٌّ به اليهودُ دونَ الشياطينِ»

(2)

، وقولُه: «وإذْ كانَ ذلك معنى الآيةِ بإجماعِ الحُجَّةِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ، فبيِّنٌ خطأُ قولِ مَنْ زعمَ أنَّ معنى قولِه {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]: ولا الذين ظلموا مِنهم. وأنَّ معنى {إِلَّا} بمعنى الواو

(3)

(4)

.

8 -

أنَّ تعبيرَه فيها يختلفُ عن الإجماعِ العامِّ بلا مُخالِفٍ غالباً، حيث يذكرُ في صيغتِه (الحجَّةَ)، والتي يُفهَم مِنها أنَّ قولَ الواحِدِ والاثنين مقابَلٌ بقولِ عامّةِ العلماءِ، وهُم الحُجَّةُ دونَ مَنْ شَذَّ. ومِن أوضحِ الأمثلةِ على ذلك قولُه: «وفي إجماعِ الجميعِ مِنْ الحُجَّةِ على أنَّه غيرُ جائزٍ لزوجِها غِشيانُها بانقطاعِ دمِ حيضِها، إذا لم يكُن هنالك نجاسةٌ دونَ التَّطهُّرِ بالماءِ إذا كانَت واجِدتَه = أدَلُّ الدَّليلِ على أنَّ معناه: فإذا تطهَّرنَ الطُّهرَ الذي يَجزيهِنَّ به الصَّلاةُ. وفي إجماعِ الجميعِ مِنْ الأُمَّةِ على أنَّ الصَّلاةَ لا تحِلُّ لها إلا بالاغتسالِ أوضَحُ الدَّلالةِ على

(1)

جامع البيان 4/ 303.

(2)

جامع البيان 2/ 369.

(3)

كأنَّه يعني أبا عبيدة (ت: 210) فهذا قولُه في مجاز القرآن 1/ 60.

(4)

جامع البيان 2/ 688. وينظر: 2/ 492، 10/ 629، 14/ 647، 18/ 171، 24/ 348.

ص: 331

صحَّةِ ما قُلنا»

(1)

، فالإجماعُ الأوَّلُ ذكرَ فيه قبلَ ذلك خلافَ بعضِ أهلِ التَّأويلِ، أمَّا الثّاني فلا مُخالِفَ له. وجمعَ بينهما في موضعٍ آخرَ فقالَ فيما فيه مُخالفٌ:«أكذَبَه جميعُ أهلِ العلمِ»

(2)

، وقالَ فيما لا مخالفَ فيه:«خالفَ في ذلك الأُمَّةَ»

(3)

، وقالَ في موضِعٍ آخرَ:«وإنَّما قُلنا ذلك أَوْلى الأقوالِ بالصَّوابِ؛ لأنَّه لا خلافَ بين الحُجَّةِ أنَّ مَنْ نصبَ حرباً للمسلمين على الظُّلمِ مِنه لهم، أنَّه لهم مُحاربٌ. ولا خلافَ فيه»

(4)

، فأكَّدَ مُرادَه في آخرِ كلامِه بنفي الخِلافِ مُطلقاً، وأنَّه ليسَ ممّا يُخالِفُ فيه بعضُهم الحُجَّةَ مِنْ أهلِ العلمِ.

9 -

إذا حكى ابنُ جريرٍ (ت: 310) هذا النَّوعَ مِنْ الإجماعِ ضَمَّ إليه غيرَه مِنْ الأدلَّةِ، كما في قولِه:«وأمّا مَنْ قالَ عُنيَ بذلك ما ذبحَه المُسلمُ فنسيَ ذكرَ اسمِ الله. فقولٌ بعيدٌ مِنْ الصَّوابِ؛ لشُذوذِه وخروجِه عمّا عليه الحُجَّةُ مُجمِعةٌ مِنْ تحليلِه، وكفى بذلك شاهِداً على فسادِه، وقد بيَّنّا فسادَه مِنْ جهةِ القياسِ في كتابِنا المُسمّى (لطيفُ القولِ في أحكامِ شرائعِ الدِّينِ)»

(5)

، وقولِه: «والذي هو أَوْلى بتأويلِ ذلك: القولُ الذي ذَكرناه عن هؤلاءِ؛ وهو أنَّ ذلك خبرٌ مِنْ الله جلَّ وعزَّ عن السّامريِّ أنَّه وصفَ موسى بأنَّه نسِيَ ربَّه، وأنَّ ربَّه الذي ذهبَ يريدُه هو

(1)

جامع البيان 3/ 735.

(2)

جامع البيان 8/ 382.

(3)

جامع البيان 8/ 383.

(4)

جامع البيان 8/ 372. وينظر: 6/ 557.

(5)

جامع البيان 9/ 529.

ص: 332

العِجلُ الذي أخرجَه السّامريُّ. لإجماعِ الحُجَّةِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ عليه، وأنَّه عقيبَ ذكرِ موسى، فهو بأن يكونَ خبراً مِنْ السّامريِّ عنه بذلك أشْبَه مِنْ غيرِه»

(1)

.

وبعدُ؛ فبهذا التفصيلِ تتبيَّنُ قيمةُ ما حكاه ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ الإجماعاتِ في التَّفسيرِ؛ التي رُبَّما قلَّلَ بعضُ نقلَةِ التَّفسيرِ قيمةَ نقلِها واعتمادِها عنه، فلزمَ الأمرُ مزيداً مِنْ البيانِ والتَّحريرِ.

وقد تحصَّلَ مِنْ ذلك أنَّ الإجماعاتِ التي ثبتَ وجودُ المُخالفِ المُعتبَرِ فيها -بعد الفحصِ والدراسةِ- قليلةُ العددِ، حيثُ بلغَت (35) إجماعاً، ونسبتُها مِنْ مجموع ما استُدِلَّ به مِنْ الإجماعات (9. 3%). ثُمَّ هذا العددُ الذي لم يثبُتْ إجماعاً، يُميِّزُه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في التَّعبيرِ، ويضَمُّ إليه غيرَه في التَّدليلِ، ولا تنزلُ مرتبتُه عن أن يكونَ في أعلى درجاتِ قولِ جمهورِ العلماءِ والمفسِّرين، وله مَنزلتُه مِنْ الاحتجاجِ التي سيأتي بيانُها بإذنِ الله، وحسبُه قوَّةً أن يكونَ أقربَ ما يكونُ مرتبةً مِنْ الإجماعِ الثّابتِ.

خامساً: دليلُ الإجماعِ كافٍ عن غيرِه، والنُّصوصُ عن ابنِ جريرٍ (ت: 310) في تأكيدِ ذلك كثيرةٌ ظاهرةٌ؛ مِنها قولُه: «وليس هذا قولاً نستجيزُ التَّشاغلَ بالدَّلالةِ على فسادِه؛ لخروجِه عن قولِ جميعِ

(1)

جامع البيان 16/ 143. وينظر: 1/ 693، 6/ 682، 8/ 162، 325، 383، 15/ 386، 24/ 348.

ص: 333

علماءِ أهلِ التَّأويلِ، وحسبُ قولٍ بخروجِه عن قولِ جميعِ أهلِ العلمِ دلالةٌ على خطئِه»

(1)

، وقولُه:«وفي إجماعِ أهلِ التَّأويلِ على خلافِ هذا القولِ الكفايةُ المُغنيَةُ عن الاستشهادِ على فسادِه بغيرِه»

(2)

. كما أنَّه أوضَحُ في الدَّلالةِ عن غيرِه، حيثُ يصِفُه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في كثيرٍ مِنْ المواطنِ بأنَّه: (أدلُّ الدَّليل، وأوضَحُ الدَّلالةِ)

(3)

.

سادساً: الدِّقَّةُ في تحديدِ موضعِ الإجماعِ مِنْ المعنى، والجوابُ عمّا يورَدُ عليه، وذلك مِنْ تمامِ إقامةِ الدَّليلِ وتحريرِه، ولابنِ جريرٍ (ت: 310) في ذلك عنايةٌ ظاهرةٌ؛ وممّا ذكرَه مِنْ ذلك قوله: «وقد اختلفَ أهلُ التَّأويلِ في المَعنيِّ بقولِه {اهْبِطُوا} [البقرة: 36]، مع إجماعِهم على أنَّ آدمَ وزوجتَه ممَّن عُنِيَ به»

(4)

، وقوله:«ثُمَّ اختلفَ أهلُ التَّأويلِ في تأويلِ قولِه {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، بعدَ إجماعِ جميعِهم على أنَّ تأويلَ سائرِ الآيةِ على ما قد قُلنا في ذلك مِنْ التَّأويلِ»

(5)

، وفي حديثِه عن كفَّارَةِ اليمينِ قرَّرَ أنَّ المُكفِّرَ مُخيَّرٌ في تكفيرِ يمينِه التي حنثَ فيها بإحدى الثَّلاثِ التي سمَّى الله تعالى في كتابِه؛ وهي: إطعامُ عشرَةِ مساكينَ، أو كِسوتُهم، أو تحريرُ رقبةٍ؛ وذلك:

(1)

جامع البيان 1/ 418.

(2)

جامع البيان 16/ 274. وينظر: 1/ 134، 223، 2/ 689، 3/ 120، 339، 401، 8/ 325، 649.

(3)

ينظر: جامع البيان 3/ 735، 4/ 162، 7/ 328.

(4)

جامع البيان 1/ 572.

(5)

جامع البيان 6/ 215.

ص: 334

‌المبحثُ الخامسُ: منهجُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوّل: مفهومُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

السَّلفُ لغةً: «السّينُ واللامُ والفاءُ أصلٌ يدلُّ على تقدُّمٍ وسبقٍ؛ من ذلك السَّلفُ: الذين مضوا»

(1)

، وكُلُّ من تقدَّمك وما قدَّمته فهو سلفٌ لك

(2)

، ومِنه قولُ الشّاعر

(3)

:

مضوا سَلَفاً قصدُ السبيلِ عليهم

وصرفُ المنايا بالرِّجالِ تقلَّبُ

أرادَ: أنَّهم تقدَّمونا وقصدُ سبيلِنا عليهم.

واصطلاحاً: يُطلقُ مصطلحُ السَّلفِ ويُرادُ به أحدُ مُفهومَين:

الأوّل: الصَّحابةُ والتّابعون وأتباعُ التّابعين. أو هُمْ: جمهورُ الصَّحابةِ والتّابعين وأتباعِ التّابعين. وهذه الدّلالةُ التّاريخيّةُ لهذا

(1)

مقاييس اللغة 1/ 567.

(2)

ينظر: تهذيب اللغة 12/ 299، ولسان العرب 11/ 58.

(3)

هو طُفَيل الغَنَوي، يرثي قومَه، والبيتُ في ديوانِه (ص: 56).

ص: 336

المُصطلحِ، ومُستندُها حديثُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه مرفوعاً:«خيرُ النّاسِ قرني، ثُمَّ الذين يَلونَهم، ثُمَّ الذين يَلونَهم»

(1)

، والقَرنُ هم: أهلُ كُلِّ زمانٍ واحدٍ متقاربٍ يشتركون فيه أمراً مقصوداً

(2)

. ومن ثَمَّ فقرْنُ النَّبي صلى الله عليه وسلم هُمْ الصَّحابةُ، والثّاني: التّابعون، والثّالثُ: تابعوهُم

(3)

.

وذهبَ ابنُ تيمية (ت: 728) إلى أنَّ الاعتبارَ في القرونِ الثّلاثةِ بجُمهورِ أهلِ القرنِ؛ وهو وَسطُه؛ فجمهورُ الصَّحابةِ انقرضوا بانقِضاءِ الخُلفاءِ الأربعةِ، وجمهورُ التّابعين انقرضوا في أواخرِ عصرِ صِغارِ الصَّحابةِ، وجمهورُ تابعي التّابعين انقرضوا في أواخرِ الدّولةِ الأمويّة وأوائِلِ العبّاسيّة.

(4)

الثّاني: الصَّحابةُ والتّابعون وأتباعُهم؛ ممَّن التزمَ الكتابَ والسُّنَّةَ ولم يتلبَّس ببدعةٍ، ومَن تبعَهم بإحسانٍ. وهذه الدّلالةُ المنهجيّةُ لهذا المُصطلح، ومُستندُها ما وردَ في بيانِ الفِرقةِ النّاجيةِ في حديثِ الافتراقِ المشهورِ:«ما أنا عليه وأصحابي»

(5)

؛ حيثُ ربطَ النَّبي صلى الله عليه وسلم الفرقةَ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 171 (2652)، ومسلم في صحيحه 6/ 68 (2533).

(2)

ينظر: لسان العرب 17/ 209، والنهاية في غريب الحديث 4/ 45، وفتح الباري 7/ 8.

(3)

ينظر: شرح مسلم، للنووي 6/ 67،، وتنبيه الرجل العاقل 2/ 577، ومجموع الفتاوى 4/ 157.

(4)

ينظر: مجموع الفتاوى 10/ 357.

(5)

أخرجه الترمذي في الجامعِ 5/ 26 (2641)، والمروزي في السُّنَّة (ص: 23) (59)، والحاكم في المستدركِ 1/ 218 (444). وقالَ الترمذي (ت: 297): «حديثٌ مُفسَّرٌ غريبٌ» ، وله شواهدُ صحيحةٌ يرتقي بها إلى القبولِ؛ ذكرَ بعضَها الحاكمُ (ت: 405) وقالَ: «هذه أسانيدُ تُقامُ بها الحُجَّةُ في تصحيحِ هذا الحديثِ» . وقد جاءَ في تفسيرِ هذه اللفظةِ ومعناها نصوصٌ شرعيّةٌ كثيرةٌ تُنظَر في الاعتصام (ص: 470، 476).

ص: 337

النّاجيةَ بما كانوا عليه مِنْ منهجٍ مُحدَّدٍ واضحِ المعالمِ، لا بحقبةٍ زمنيّةٍ مُجرَّدةٍ.

ومفهومُ السَّلفِ بهذه الدّلالةِ أساسٌ للدَّلالةِ التّاريخيّةِ السّابقةِ؛ فإنَّه ما يشتركُ فيه أهلُ تلك القرونِ، ويجتمعون عليه، كما أنَّه صفةَ جُمهورِهم كذلك. ويزيدُ هذا المفهومُ عن الدّلالةِ التّاريخيّةِ باشتمالِه مَنْ انتسبَ إلى السَّلفِ ممّن تأخّرَ به الزّمنُ عنهم، والانتسابُ إليهم صحيحٌ مقبولٌ، كما قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «لا عيبَ على مَنْ أظهرَ مذهبَ السَّلفِ وانتسبَ إليه واعتزى إليه، بل يجبُ قبولُ ذلك مِنه بالاتفاقِ؛ فإنَّ مذهبَ السَّلفِ لا يكونُ إلا حقّاً»

(1)

، وحقيقةُ الانتسابِ إلى السَّلفِ: التزامُ منهجِهم في تلقّي النُّصوصِ، وفَهمِها، والاستدلالِ بها.

(2)

فالسَّلفُ من أهلِ القرونِ المُفضَّلةِ سلفٌ لُغةً وتاريخاً ومَنهجاً، والسَّلفُ ممَّن بعدَهم سلفٌ لُغةً ومَنهجاً، والسَّلفُ مِنْ أهلِ العصرِ سلفٌ مَنهجاً.

وعلى كلا المفهومَين التاريخيّ والمنهجيّ جرى استعمالُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه؛ فإنَّه لا يعتبرُ مِنْ السَّلفِ مَنْ خالفَ منهجَهم وهديَهم العامَّ، كما لا يخرجُ به عن أتباعِ التّابعين، وإن ذكرَ مَنْ بَعدَهم سمّاهم:(الخلفَ)، و (المتأخّرين)، ومِن قولِه في ذلك: «وبمثلِ الذي

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى 4/ 149.

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى 24/ 172، والاعتصام (ص: 439).

ص: 338

قُلنا في ذلك تظاهرتْ الروايةُ عن السَّلفِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين»

(1)

، وقولِه:«وأمّا آخرون ممَّن خالفَ أقوالَ السَّلفِ، وتأوَّلوا القرآنَ بآرائِهم، فإنَّهم قالوا في ذلك أقوالاً مُختلفةً .. »

(2)

.

والمُرادُ بالاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني هو:

إقامَةُ أقوالِ السَّلفِ دليلاً لتصحيحِ المعاني وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

أو: الإبانَةُ بأقوالِ السَّلف عن صِحَّةِ المعاني وبطلانِها.

وأمثلةُ استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بأقوالِ السَّلفِ على المعاني في تفسيرِه كثيرةٌ ظاهِرةٌ، وهي على نوعين:

النَّوعُ الأوّلُ: استدلالُه بأقوالِ السَّلفِ لقبولِ المعاني وتصحيحِها، ومِن ذلك قولُه:«فقد أبانَ تأويلُ مَنْ ذكَرنا تأويلَه -مِنْ أهلِ التَّأويلِ- قولَه {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] عن صِحَّةِ ما قُلنا في تأويلِه»

(3)

، وقولُه:«وهذا هو أَوْلى الوَجهَيْن في ذلك بالصَّوابِ؛ لأنَّ تفسيرَ أهلِ التَّفسيرِ بذلك جاءَ»

(4)

، وقولُه في قولِه تعالى {أَكَادُ

(1)

جامع البيان 2/ 714.

(2)

جامع البيان 13/ 86. وينظر: 1/ 20، 45، 84، 158، 461، 2/ 162، 12/ 434، 23/ 248.

(3)

جامع البيان 2/ 687.

(4)

جامع البيان 15/ 178.

ص: 339

أُخْفِيهَا} [طه: 15]: «والذي هو أَوْلى بتأويلِ ذلك مِنْ القَولِ قولُ مَنْ قالَ: أكادُ أُخفيها مِنْ نَفسي. لأنَّ تأويلَ أهلِ التَّأويلِ بذلك جاءَ»

(1)

.

النَّوعُ الثَّاني: استدلالُه بأقوالِ السَّلفِ لرَدِّ المعاني وإبطالِها، ومِن أمثلَتِه قولُه:«وهذا قولٌ يشهدُ على بُطولِه وفسادِه الأخبارُ المُتظاهرةُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه بنحوِ الذي حدَّثنا .. »

(2)

، ثُمَّ أسندَ أثرَيْن عن أنسِ بن مالكٍ، وأبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنهم. ومثلُه قولُه مُعلِّقاً على بعضِ الأقوالِ الباطلةِ:«وذلك دفعٌ لظاهرِ التَّنزيلِ، وما تتابعتْ به الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وجاءَتْ به الآثارُ عن الأئِمَّةِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين»

(3)

.

وقد بلغَت المواضِعُ التي استدَلَّ فيها بأقوالِ السَّلفِ على المعاني (5236) موضِعاً، ونسبةُ ذلك مِنْ مجموعِ الأدلَّة (48. 1%)، وهو أكثرُ دليلٍ وقعَ الاستدلالُ به في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وذلك يكشِفُ وَجهاً مِنْ أهميَّتِه للمُفسِّرِ، وتقدُّمِه في بابِ الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ، ولا غروَ، فهو الإطارُ الحاوي لجميعِ الأدلَّةِ سواه؛ وفيه التَّطبيقُ الأجلُّ والأكملُ لباقي الأدلَّةِ، كما أنَّه الجامعُ للأدلَّةِ المُعتبرَةِ، والحافظُ لها فلا تخرجُ عنه، وهو المانعُ لغيرِها مِنْ الدخولِ إلى شيءٍ مِنْ بيانِ معاني القرآنِ الكريمِ، ومِن ثمَّ استحقَّ هذا الدَّليلُ العنايةَ الفائقةَ التي أولاها إيّاه ابنُ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله.

(1)

جامع البيان 16/ 37. وينظر: 13/ 125، 475، 15/ 529، 20/ 162، 21/ 404، 22/ 248.

(2)

جامع البيان 2/ 398.

(3)

جامع البيان 14/ 448. وينظر: 3/ 89، 7/ 116، 10/ 339، 19/ 621، 20/ 162، 22/ 7.

ص: 340

وابنُ جريرٍ (ت: 310) يختمُ الأدلّةَ بذكرِ دليلِ أقوالِ السَّلفِ في الأعمِّ الأغلبِ، ويُمهِّدُ لذلك بقولِه:«وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ»

(1)

، فهو عندَه كالمُهَيمنِ عليها، والضّابطِ لها؛ ولهذا معنىً يأتي ذكرُه في المسائلِ والضّوابطِ بحولِ الله.

‌المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

إذا أجمعَ السَّلفُ على قولٍ فهو الحَقُّ، واتِّباعُهم فيه واجبٌ تحرُمُ مُخالفَتُه، وقد سبقَ تقريرُ ذلك في دليلِ الإجماعِ. أمَّا ما دونَ ذلك مِنْ أقوالِ السَّلفِ؛ ممّا قالَه بعضُهم وانتشرَ عنه أو لم ينتشِرْ، فالصَّحيحُ أنَّه حُجَّةٌ في دينِ الله بشرطَيْن:

الأوَّلُ: ألّا يُخالِفَ نصّاً ثابتاً مِنْ كتابٍ أو سُنَّةٍ.

الثّاني: ألّا يُخالِفَه أحدٌ مِنْ الصَّحابةِ، فإن خالفَه صحابيٌّ فالأَوْلى مِنهما ما شهدَ له دَليلُ الوَحي.

وما كانَ كذلك فيصحُّ الاحتجاجُ به، وتحرُمُ مُخالفتُه، ولا يجوزُ الإحداثُ بعدَه.

(2)

(1)

جامع البيان 2/ 517. وينظر: 1/ 624، 2/ 20، 88، 4/ 562، 5/ 31، 11/ 53، 13/ 18، 19/ 455.

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 14، وإجمالُ الإصابة في أقوال الصَّحابة (ص: 56)، وإعلامُ الموقعين 6/ 36، والموافقات 4/ 128، 446، وقطف الأزهار (ص: 91).

وقد نبَّه ابنُ قدامة (ت: 620) إلى أنَّ المُرادَ بالمُخالفةِ هنا: «نفيُ ما أثبتوه، أو إثباتُ ما نفَوه» ؛ وليسَ زيادةُ البيانِ، والتَّمثيلِ، وما لا يُبطِلُ أقوالَهم. ينظر: نزهة الخاطر العاطر 1/ 311.

ص: 341

وقد تظاهرت الأدلَّةُ النَّقليَّةُ والعقليَّةُ على تقريرِ ذلك، وفيما يأتي بيانُها:

أوَّلاً: قولُه تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، فالآيةُ صريحةٌ في الثَّناءِ على مَنْ اتَّبعَ السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصارِ؛ وهم أئِمَّةُ السَّلفِ وقادَتُهم رضي الله عنهم، والاتِّباعُ يتضمَّنُ صحَّةَ ما هُمْ عليه من الدِّينِ؛ ومن ذلك سلامةُ فهمِهم لكتابِ الله تعالى، والثَّناءُ على مَنْ اتَّبَعهم في ذلك، وقد احتجَّ الإمامُ مالك (ت: 179) بهذه الآيةِ على وجوبِ اتِّباعِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم.

(1)

ثانياً: قولُه تعالى {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137]، فعلَّقَ الله تعالى الهدايةَ بالإيمانِ بمثلِ ما آمنَ به النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم، فالإيمانُ التَّامُّ إيمانُهم، ولا شكَّ أنَّ ذلك نتيجةُ فهمِهم السَّليمُ لكتابِ الله تعالى، فمن أخذَ بما كانوا عليه في ذلك فقد أخذَ بالهُدى والحَقِّ، وسَلِمَ مِنْ الشِّقاقِ.

ثالثاً: قولُه تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ

(1)

ينظر: إعلامُ الموقعين 5/ 556. وقد اعتنى ابنُ القيم (ت: 751) ببيانِ وجوبِ اعتمادِ الأقوالِ السّلفيَّةِ في كتابِه هذا، ففصَّلَ دلالةَ هذه الآيةِ في (10) صفحاتٍ 5/ 556 - 566، وذكرَ بعدها (46) وجهاً مُستدلاً بها على هذا المعنى 5/ 556، وكذلك فعل الشّاطبيُّ (ت: 790) في الموافقات 4/ 446، وينظر: فهمُ السّلفِ الصّالح للنصوصِ الشّرعيّة، ومنهجُ الاستدلالِ على مسائلِ الاعتقادِ عند أهلِ السنّةِ 2/ 501.

ص: 342

غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، والسَّلفُ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين وأتباعِهم هم أئِمَّةُ سبيلِ المؤمنين الذين توعَّدَ الله تعالى مَنْ خالفَهم، وضَمنَ الصَّوابَ لمَن وافقَهم.

رابعاً: قولُه تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، والسَّلفُ أوَّلُ مَنْ يدخلُ في هذا قطعاً، ومثلُه قولُه صلى الله عليه وسلم:«خيرُ النّاسِ قرني، ثُمَّ الذين يلونَهم، ثُمَّ الذين يلونَهم»

(1)

، فهذه القرونُ خيرُ الأُمَّةِ بإطلاقٍ بإجماعِ المسلمين

(2)

، «وذلك يقتضي تقديمَهم في كُلِّ بابٍ مِنْ أبوابِ الخَيرِ، وإلّا لو كانَ خيراً مِنْ بعضِ الوجوه فلا يكونون خيرَ الأُمَّةِ مُطلقاً»

(3)

.

كما تدلُّ هذه الخيريَّةُ على صِحَّةِ ما كانوا عليه مِنْ الفهمِ لدينِ الله وكتابِه.

ودلَّت الآيةُ أيضاً على أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عن المُنكرِ مِنْ أظهرِ ما اتَّصفَ به الصَّحابةُ رضي الله عنهم، وذلك يتضمَّنُ أمرَهم بكُلِّ معروفٍ، ونهيَهم عن كُلِّ مُنكرٍ، «فلو كانَت الحادثةُ في زمانِهم لم يُفتِ فيها إلا مَنْ أخطأَ مِنهم، لم يكُن أحدٌ مِنهم قد أمرَ فيها بمعروفٍ، ولا نهى فيها عن مُنكرٍ؛ إذ الصَّوابُ معروفٌ بلا شَكٍّ، والخطأُ مُنكرٌ مِنْ بعضِ الوجوهِ»

(4)

.

(1)

سبقَ تخريجُه (ص: 294).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى 4/ 157.

(3)

إعلامُ الموقعين 5/ 574.

(4)

إعلامُ الموقعين 5/ 569.

ص: 343

خامساً: قولُه تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، والوَسطُ: الخيارُ العُدولُ

(1)

. والصَّحابةُ -ومِن بعدِهم السَّلفُ- أكملُ الأُمَّةِ اتِّصافاً بذلك، وأوَّلُ مَنْ يشمَلُهم معناها، ومِن ثَمَّ ففَهمُهم لكتابِ الله أصحُّ الفهومِ وأعدلُها، والأخذُ به أخذٌ بالصَّوابِ قطعاً.

سادساً: قولُه صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الرّاشدين المَهديّين، عضّوا عليها بالنّواجِذِ، وإيّاكُم ومُحدثاتُ الأُمورِ»

(2)

الحديثُ، وهذا تأكيدٌ بالغٌ في الأمرِ بالأخذِ بما كانَ عليه خُلفاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، مع وصفِهم بالاهتداءِ، وقَرنِ سُنَّتِهم بسُنَّتِه عليه السلام، «وهذا يتناولُ ما أفتوا به وسَنّوه للأُمَّةِ وإن لم يتقدَّم مِنْ نبيِّهم فيه شيءٌ، وإلا كانَ ذلك مِنْ سُنَّتِه، ويتناولُ ما أفتى به جميعُهم أو أكثَرُهم أو بعضُهم؛ لأنَّه علَّقَ ذلك بما سنَّه الخُلفاءُ الرّاشدون، ومعلومٌ أنَّهم لم يسُنّوا ذلك وهم خُلفاءُ في آنٍ واحدٍ، فعُلِمَ أنَّ ما سنَّه كلُّ واحدٍ مِنهم في وقتِه فهو مِنْ سُنَّةِ الخُلفاءِ الرّاشدين»

(3)

.

سابعاً: عامَّةُ الآياتِ والأحاديثِ التي أثنى الله فيها ورسولُه صلى الله عليه وسلم على

(1)

ينظر: جامع البيان 2/ 627.

(2)

أخرجه أبو داود في السنن 4/ 200 (4607)، والترمذي في الجامع 5/ 44 (2276)، وابن ماجة في السنن 1/ 15 (42)، وأحمد في المسند 4/ 126 (17182)، والدارمي في المسند 1/ 57 (59)، وابن حبان في صحيحه 1/ 178، والحاكم في مستدركه 1/ 176 (329). وقالَ الترمذي (ت: 279): «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ» ، وصحَّحه ابنُ حبان (ت: 354)، والحاكم (ت: 405)، وهو حديثٌ صحيحٌ بطُرقِه وشواهدِه.

(3)

إعلامُ الموقعين 5/ 581.

ص: 344

الصَّحابةِ رضي الله عنهم؛ مِنْ مثلِ قولِه تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية، وقولِه {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] الآية، ونحوِها؛ إذْ فيها تنبيهٌ للأُمَّةِ على كمالِ دينِهم، وصحَّةِ علمِهم، ووضوحِ حُجَّتِهم، فمَن أرادَ نيلَ ما نالوه مِنْ الخَيريَّةِ، وكمالِ الدِّينِ، والرِّضوانِ في الدُّنيا والآخرةِ = فليس له إلا سبيلَهم في الفَهمِ، وما يتبعُه مِنْ العلمِ والعملِ.

ثامناً: أنَّ الصَّحابةَ هم أهلُ اللسانِ الذي نزلَ به القُرآنُ، فاعتبارُ أقوالِهم مِنْ هذا الوجهِ مُكَمِّلٌ للوجهِ الشَّرعيِّ الموجِبِ لذلك، قالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «وأمّا بيانُ الصَّحابةِ فإن أجمعوا على ما بيّنوه فلا إشكالَ في صحَّتِه .. ، وإن لم يُجمعوا عليه فهل يكونُ بيانُهم حُجَّةً، أم لا؟ هذا فيه نظرٌ وتفصيلٌ، ولكنَّهم يترجَّحُ الاعتمادُ عليهم في البيانِ مِنْ وجهَيْن: أحدُهما: معرِفتُهم باللسانِ العربيّ؛ فإنَّهم عربٌ فُصحاءُ، لم تتغيّر ألسنتُهم، ولم تنزِل عن رُتبتِها العُليا فصاحَتُهم، فهم أعرَفُ في فهمِ الكتابِ والسُّنَّةِ مِنْ غيرِهم، فإذا جاءَ عنهم قَولٌ أو عملٌ واقِعٌ موقعَ البيانِ صَحَّ اعتمادُه مِنْ هذه الجِهةِ»

(1)

، وقالَ:«ما نُقلَ مِنْ فهمِ السَّلفِ الصّالحِ للقرآنِ فإنَّه كلَّه جارٍ على ما تقضي به العربيَّةُ»

(2)

.

تاسعاً: أنَّ الصَّحابةَ أعرَفُ النّاسِ بأسبابِ النّزولِ ومُلابساتِه، وحالِ مَنْ نزلَ عليهم القرآنُ، وذلك مِنْ أعظمِ ما يُستعانُ به على فهمِ مُرادِ الله

(1)

الموافقات 4/ 127.

(2)

الموافقات 4/ 253.

ص: 345

تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وهذا ممّا اختصّوا به عن غيرِهم، ولم يشرَكُهم فيه أحدٌ ممّن بعدَهم، قالَ الشّاطبي (ت: 790) مُبيّناً الوجهَ الثّاني مِنْ وجوهِ ترجيحِ الاعتمادِ على بيانِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم: «الثّاني: مُباشرتُهم للوقائِعِ والنّوازلِ، وتنزيلِ الوحي بالكتابِ والسُّنَّةِ؛ فهم أقعدُ في فهمِ القرائِنِ الحاليَّةِ، وأعرفُ بأسبابِ التَّنزيلِ، ويُدركون ما لا يُدرِكُه غيرُهم بسببِ ذلك، والشّاهدُ يرى ما لا يرى الغائِبُ. فمتى جاءَ عنهم تقييدُ بعضِ المُطلقاتِ، أو تخصيصُ بعضِ العُموماتِ؛ فالعملُ عليه صوابٌ، وهذا إن لم يُنقلْ عن أحدٍ منهم خلافٌ في المسألةِ، فإن خالَفَ بعضُهم فالمسألَةُ اجتهاديّةٌ»

(1)

.

عاشراً: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بيّنَ للصحابةِ معاني القرآنِ كما بيّن لهم ألفاظَه، وكذلك بلّغَه الصَّحابةُ لمن بعدَهم، قالَ أبو عبدِ الرّحمن السُّلَمي

(2)

(ت: 74): «حدَّثنا الذين كانوا يُقرِئونَنا القرآنَ مِنْ أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنَّهم كانوا إذا تعلَّموا مِنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم عشرَ آياتٍ لم يُجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها مِنْ العلمِ والعملِ، قالوا: فتعلَّمنا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعاً»

(3)

، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «يجبُ أن يُعلَمَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابِه معاني القرآنِ كما بيَّن لهم ألفاظَه، فقولُه تعالى

(1)

الموافقات 4/ 128. وينظر: درء تعارض العقل والنقل 1/ 183، وإعلام الموقعين 6/ 20.

(2)

هو عبد الله بن حبيب الكوفي، من كبارِ التّابعين، ومن أبناءِ الصحابةِ، الإمام المُقرئ، قرأ على عثمانَ وعليّ وابنِ مسعودٍ وزيدٍ وأُبيّ رضي الله عنهم، مات سنة (74). ينظر: معرفة القرّاء الكبار 1/ 146، وغاية النهاية 1/ 370.

(3)

مصنف عبد الرزاق 3/ 380، ومسند أحمد 38/ 466، وجامع البيان 1/ 74.

ص: 346

{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناولُ هذا وهذا»

(1)

، وقالَ:«فقولُنا بتفسيرِ الصَّحابةِ والتّابعين لِعِلمِنا بأنَّهم بلَّغوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يصلْ إلينا إلا بطريقِهم، وأنَّهم عَلِموا معنى ما أنزلَ اللهُ على رسولِه تلقّياً عن الرسولِ، فيمتنعُ أن نكونَ نحن مُصيبين في فهمِ القرآنِ وهم مخطئون، وهذا يُعلَمُ بُطلانُه ضرورةً؛ عادةً وشرعاً»

(2)

، وقالَ ابنُ القيّم (ت: 751): «فالصَّحابةُ أخذوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ألفاظَ القرآنِ ومعانيه، بل كانَت عنايتُهم بأخذِ المعاني مِنْ عنايتِهم بالألفاظِ؛ يأخذون المعاني أوَّلاً، ثُمَّ يأخذون الألفاظَ ليَضبِطوا بها المعاني حتّى لا تشِذَّ عنهم. قالَ حبيبُ بن عبدِ الله البَجَلي، وعبدُ الله بن عمرَ: «تعلَّمنا الإيمانَ، ثُمَّ تعلَّمنا القرآنَ، فازدَدنا إيماناً» ، فإذا كانَ الصَّحابةُ تلقَّوا عن نبيِّهم معاني القرآنِ كما تلقَّوا عنه ألفاظَه لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لُغةِ أحدٍ؛ فنقلُ معاني القرآنِ عنهم كنقلِ ألفاظِه سواءٌ»

(3)

، وتلقّي الصَّحابةِ معاني القرآنِ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في أقوالِ الأئمَّةِ السّابقين أعمُّ مِنْ أن يكونَ قوليّاً؛ إذْ يشملُ كُلَّ ما يُستفادُ مِنه بيانٌ مِنْ أقوالِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأفعالِه، وتقريراتِه، كما يدُلُّ عليه قَولُهم:(فتعلَّمنا العلمَ والعملَ، وتعلَّمنا الإيمانَ).

فمِن ثَمَّ ليس شيءٌ مِنْ القرآنِ خفيَّ المعنى عن عامَّةِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم فلا

(1)

مجموع الفتاوى 13/ 331. وينظر: مجموع الفتاوى 5/ 155، وبغية المرتاد (ص: 330).

(2)

بغية المرتاد (ص: 332).

(3)

مختصر الصواعق المرسلة (ص: 511).

ص: 347

يَعلمُ معناه مِنهم أحدٌ، «وهذا ممّا يجبُ القطعُ به»

(1)

؛ ولا تكتملُ خيريَّتُهم وفضلُهم مع كتمِ شيءٍ مِنه عمَّن بعدهم، بل كانَت عنايتُهم بأداءِ المعاني وبيانِها أبلغُ مِنْ عنايتِهم بأداءِ الألفاظِ وجَمعِها.

حاديَ عشر: دلالَةُ العادةِ المطَّردةِ في مثلِ ذلك، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «التَّفسيرُ الثّابتُ عن الصَّحابةِ والتّابعين إنَّما قبلوه لأنَّهم قد علموا أن الصَّحابةَ بلَّغوا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لفظَ القرآنِ ومعانيه جميعاً، كما ثبتَ ذلك عنهم، مع أنَّ هذا مما يُعلَمُ بالضَّرورةِ عن عادتِهم؛ فإن الرَّجلَ لو صنَّفَ كتابَ علمٍ في طبٍّ أو حسابٍ أو غيرِ ذلك، وحفظَه تلامذتُه، لكانَ يُعلَمُ بالاضْطرارِ أنَّ هِمَمَهم تَشوَّقُ إلى فهمِ كلامِه ومعرفةِ مُرادِه، وأنَّ بمجرَّدِ حفظِ الحروفِ لا تكتفي به القلوبُ، فكيف بكتابِ الله الذي أمرَ ببيانِه لهم، وهو عصمتُهم، وهداهُم، وبه فرَقَ اللهُ بين الحقِّ والباطلِ، والهدى والضَّلالِ، والرَّشادِ والغيِّ، وقد أمرَهم بالإيمانِ بما أخبرَ به فيه، والعملِ بما فيه، وهم يتلقَّونَه شيئاً بعد شيءٍ، كما قالَ تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] الآية، وقالَ تعالى {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]، وهل يتوهَّمُ عاقلٌ أنَّهم كانوا إنَّما يأخذون مِنه مجرَّدَ حروفِه وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم، ولا ما يقرؤونَه، ولا تشتاقُ نفوسُهم إلى فهمِ هذا القَولِ، ولا يسألونَه عن ذلك، ولا يبتدئُ هوَ بيانَه لهم!! هذا ممّا يُعلَمُ بُطلانُه أعظمَ ممّا يُعلَمُ بطلانُ كتمانِهم ما تتوفَّرُ الهممُ

(1)

مجموع الفتاوى 17/ 390.

ص: 348

والدَّواعي على نقلِه»

(1)

، وقالَ:«بل مِنْ المَعلومِ أنَّ رغبةَ الرَّسولِ في تعريفِهم معاني القرآنِ أعظمُ مِنْ رغبتِه في تعريفِهم حروفَه؛ فإنَّ معرفةَ الحروفِ بدونِ المعاني لا تُحصِّلُ المقصودَ، إذ اللفظُ إنَّما يُرادُ للمعنى»

(2)

.

ثانيَ عشر: أنَّ ذلك هو مقتضى الفِطرةَ، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «مِنْ المُحالِ أن تكونَ القرونُ الفاضلةُ؛ القرنُ الذي بُعِثَ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ الذين يَلونَهم، ثمَّ الذين يَلونَهم، كانوا غيرَ عالِمين وغيرَ قائِلين في هذا البابِ بالحقِّ المُبينِ؛ لأنَّ ضدَّ ذلك إمّا عدمُ العلمِ والقولِ، وإما اعتقادُ نقيضِ الحقِّ، وقولِ خلافِ الصِّدقِ، وكلاهُما مُمتنعٌ؛ أمّا الأوَّل: فلأنَّ مَنْ في قلبِه أدنى حياةٍ، وطلبٍ للعلمِ، أو نَهمَةٍ في العبادةِ يكونُ البحثُ عن هذا البابِ، والسؤالُ عنه، ومعرفةُ الحقِّ فيه أكبرَ مقاصدِه، وأعظمَ مطالبِه .. ؛ وليست النفوسُ الصَّحيحةُ إلى شيءٍ أشوقَ مِنها إلى معرفةِ هذا الأمرِ، وهذا أمرٌ معلومٌ بالفِطرةِ الوَجْديَّةِ، فكيف يُتصوَّرُ مع قيامِ هذا المُقتضي -الذي هو مِنْ أقوى المُقتضياتِ- أن يتخلفَّ عنه مُقتضاه في أولئك السادةِ، في مجموعِ عصورِهم، هذا لا يكادُ يقعُ في أَبلَدِ الخلقِ، وأشدِّهم إعراضاً عن الله، وأعظمِهم إكباباً على طلبِ الدُّنيا، والغفلةِ عن ذكر الله تعالى، فكيفَ يقعُ في أولئك! وأمّا كونُهم كانوا مُعتقدين فيه غيرَ الحقِّ أو قائليه، فهذا لا يعتقدُه مسلمٌ، ولا عاقلٌ عرفَ حالَ القَومِ»

(3)

.

(1)

بغية المرتاد (ص: 330).

(2)

مجموع الفتاوى 5/ 157.

(3)

مجموع الفتاوى 5/ 7.

ص: 349

ثالثَ عشر: أنَّ واقِعَ الحالِ يشهدُ بتمامِ بيانِ الصَّحابةِ لجميعِ القرآنِ، فقد أبانوا للنّاسِ في أكثرَ مِنْ مشهدٍ سَعةَ علمِهم بكتابِ الله تعالى فلا يخفى على عامَّتِهم مِنه شيءٌ، كما قالَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه:«والذي لا إله غيرُه ما نزلتْ آيةٌ مِنْ كتابِ الله إلّا وأنا أعلمُ فيمَ نزَلَتْ، وأينَ نزَلَتْ، ولو أعلمُ مكانَ أحدٍ أعلَمَ مِنّي بكتابِ الله تبلُغُه الإبلُ لأَتيتُه»

(1)

، وقالَ أبو الطُّفَيْل رضي الله عنه:«شهدتُ عليّاً يخطُبُ، وهو يقولُ: سَلوني، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتُكُم. وسلوني عن كتابِ الله، فوالله ما مِنْ آيةٍ إلا وأنا أعلمُ أبِلَيْلٍ نزلَتْ، أمْ بنهارٍ، أمْ في سَهلٍ، أم في جَبلٍ»

(2)

، ومِنهم المَؤيَّدُ مِنْ الله على البيانِ؛ بدُعاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في قولِه لابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه:«اللهم فقِّهه في الدِّينِ، وعلِّمه التَّأويلَ»

(3)

، وقالَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه:«نعمَ تُرجُمانُ القرآنِ ابنُ عبّاسٍ، لو أدركَ أسْنانَنا ما عَشَرَه منّا رجلٌ»

(4)

.

كما أنَّ من التّابعين من تلقّى جميعَ التفسيرِ عن الصَّحابةِ رضي الله عنهم، فقد سألَ مجاهدٌ (ت: 104) ابنَ عبّاسٍ عن تفسيرِ القرآنِ كاملاً، وقالَ:

(1)

صحيح البخاري 6/ 187 (5002)، وصحيح مسلم 6/ 15 (2463).

(2)

تفسير عبد الرزاق 3/ 234، وجامع البيان 21/ 480.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 41 (143)، ومسلم في صحيحه 6/ 32 (2477)، بدونِ قولِه:«وعلِّمه التأويل» ، وأخرجه بها أحمدُ في مسنده 4/ 225 (2397)، وابنُ حبّان في صحيحه 15/ 531 (7055)، والحاكمُ في مستدركه 3/ 615 (6280)، وصحَّحا إسنادَه، وكذا صحّحَه ابنُ عبد البرّ في الاستيعاب 3/ 935، والبوصيريُّ في إتحاف الخيرة 7/ 285، وحسَّنَه المقدسي في الأحاديثِ المُختارة 10/ 223.

(4)

فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل 2/ 957، وجامع البيان 1/ 84. ومعنى قولِه:«ما عَشَرَه» أي: ما بلغَ عُشرَ علمِه.

ص: 350

«عرضتُ القرآنَ على ابنِ عبّاسٍ ثلاثَ عرَضاتٍ، أوقِفُه عند كُلِّ آيةٍ منه، وأسألُه عنها»

(1)

، كما كتبَ عنه التفسيرَ كاملاً، قالَ ابنُ أبي مُلَيْكة (ت: 117): «رأيتُ مُجاهداً يسألُ ابنَ عبّاسٍ عن تفسيرِ القرآنِ ومعه ألواحُه، فيقولُ له ابنُ عباسٍ: اكتُبْ. قالَ: حتى سأَلَه عن التّفسيرِ كُلِّه»

(2)

، وقالَ أبو الجَوزاءِ (ت: 83): «أقمتُ مع ابنِ عبّاسٍ وعائشةَ اثنتَيْ عشرةَ سنةً، ليس مِنْ القرآنِ آيةٌ إلا سألتُهم عنها»

(3)

، وقالَ الشّعبيُّ (ت: 104): «والله ما مِنْ آيةٍ إلا قد سألتُ عنها»

(4)

.

رابعَ عشر: أنَّ أئِمَّةَ الإسلامِ لم يزالوا على القَولِ بحجّيَّةِ أقوالِ السَّلفِ، والاستدلالِ بها قبولاً وردّاً، ولم يُخالفْ في ذلك إلا شُذوذٌ من الفقهاءِ والمتكلِّمين

(5)

؛ فقد قرَّرَ جمهورُ العلماءِ أنَّ الصَّحابةَ إذا اختلفوا على قَولَيْن أو أكثرَ فلا يجوزُ لمن بعدَهم إحداثُ قولٍ ثالثٍ مُخالفٍ؛ لأمرَيْن:

أوَّلُهما: أنَّ اختلافَهم على قَولَيْن بمثابةِ اتِّفاقِهم على قولٍ واحدٍ في أنَّ الحقَّ في أحدِهما، ومن ثَمَّ أُلحِقَتْ هذه المسألةُ في كُتبِ الأصولِ

(1)

جامع البيان 1/ 85، وتذكرة الحفّاظ، للقيسراني 2/ 706.

(2)

جامع البيان 1/ 85.

(3)

التاريخ الكبير 2/ 16، والثّقات، لابن حبّان 4/ 4.

(4)

جامع البيان 1/ 81. ومِمّا بلغَنا ممّن فسَّرَ القرآنَ كاملاً مِنْ السَّلفِ: الضَّحاكُ بن مزاحم (ت: 105)، كما في الجرح والتعديل 3/ 319، ومقاتُل بن سليمان (ت: 150)، وتفسيرُه مطبوعٌ، ويحيى بن سلّام (ت: 200)، وقد طُبعَ بعضُ تفسيرِه.

(5)

ينظر: المستصفى 1/ 192، والمسوَّدة 2/ 634، والآراء الشّاذَّة في أصول الفقه 1/ 459.

ص: 351

ببابِ الإجماعِ، قالَ الجوَيْنيُّ

(1)

(ت: 478): «إذا اختلفَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على قَولَيْن واستمرّوا على الخِلافِ، فالذي صارَ إليه مُعظمُ المُحقِّقين أنَّ اختراعَ قَولٍ ثالثٍ خرقٌ للإجماعِ»

(2)

، وعلَّلَ ذلك بقولِه:«إنَّ نفسَ المصيرِ إلى القولِ الواحدِ إجماعٌ على نفي ما عداه، وكذلك إذا حصروا المذاهبَ في قَوْلَيْن فقد نفَوا ما عداهُما»

(3)

، وقالَ الغزاليُّ (ت: 505): «لأنَّهم أجمعوا على الحَصرِ، فذُهولُهم عن الحقِّ على ممرِّ الأيّامِ مع كثرتِهم مُحالٌ»

(4)

.

وثانيهما: أنَّ في القَولِ بجوازِ إحداثِ قولٍ بعد ما استقرَّ خلافُ السَّلفِ عليه نِسبةُ الأُمَّةِ إلى إضاعةِ شيءٍ مِنْ الدِّينِ، وعدمِ اهتدائِها إلى الحقِّ في تلك الأزمانِ، وعِلمُ مَنْ بعدَهم به، وكُلُّ ذلك مِمَّا تظاهرت الأدلَّةُ ببُطلانِه كما مَرَّ.

(5)

وهذه بعضُ نصوصِ الأئِمَّةِ في تقريرِ ذلك: قالَ أبو حنيفة (ت: 150): «إذا جاءَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأسِ والعينِ، وإذا جاءَ

(1)

عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجوَيْنيّ، أبو المعالي إمامُ الحرمَيْن، شيخُ الشّافعيَّة، صنَّفَ: غياثَ الأممِ، ونهايةَ المَطلبِ، وغيرها، مات سنة (478). ينظر: السير 18/ 468، وطبقات الشّافعية الكبرى 5/ 165.

(2)

البرهان في أصول الفقه 1/ 273.

(3)

التلخيص في أصول الفقه 3/ 91.

(4)

المنخول من تعليقات الأصول (ص: 417). وينظر: الموافقات 3/ 284.

(5)

ينظر: أصول السّرَخسي 1/ 310، وقواطع الأدلَّة 3/ 266، والمستصفى 1/ 192، والمسودة 2/ 634، وإعلامُ الموقعين 5/ 550، والبحر المحيط في الأصول 3/ 580، وشرح الكوكب المنير 2/ 264. وتقريرُ أهلِ العلمِ في هذه المسألةِ يشملُ التّفسيرَ والأحكامَ؛ إذْ لا فرقَ بينهما. ينظر: مجموع الفتاوى 13/ 59.

ص: 352

عن الصَّحابةِ نختارُ مِنْ أقوالِهم -فلا يَخرجُ عن أقوالِهم-، وإذا جاءَ عن التّابعين زاحمناهم»

(1)

، وقالَ الأوزاعيُّ (ت: 157): «اصبرْ نفسَك على السُّنَّةِ، وقِفْ حيثُ وقفَ القَومُ، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عمّا كَفّوا، واسلُك سبيلَ سلفِك الصّالحِ، فإنَّه يسعُك ما وَسِعَهم»

(2)

، وقالَ مالكُ بن أنس (ت: 197): «وما تأوَّلَه مِنها -أي: النُّصوصُ الشَّرعيَّة- السَّلفُ الصّالحُ تأوَّلناه، وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعُنا أن نُمسكَ عمّا أمسكوا عنه، ونتبعَهم فيما بيّنوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأَوه في الحوادثِ، ولا نخرُجَ من جماعتِهم فيما اختلفوا فيه أوفي تأويلِه»

(3)

، وقالَ الشّافعيُّ (ت: 204): «هم فوقَنا في كُلِّ عملٍ واجتهادٍ وورَعٍ وعقلٍ، وأمرٍ استُدركَ به علمٌ واستُنبطَ به، وآراؤهم لنا أحمدُ وأَوْلى بنا مِنْ رأينا عند أنفُسِنا، ومَن أدرَكْنا ممّن يُرضى، أو حُكيَ لنا عنه ببلَدِنا، صاروا فيما لم يعلموا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيه سُنَّةً إلى قولِهم إن اجتمعوا، أو قَولِ بعضِهم إن تفرَّقوا، وهكذا نقولُ، ولم نخرُجْ عن أقاويلِهم، وإن قالَ أحدُهم ولم يُخالِفه غيرُه أخذْنا بقولِه»

(4)

، وقالَ أيضاً:«فلَمْ يكُنْ لي عندي خِلافُهم، ولا الذَّهابُ إلى القياسِ والقياسُ مُخرِجٌ مِنْ جميعِ أقوالِهم»

(5)

، وقالَ أحمدُ بن حنبل (ت: 241): «أرأيتَ إن أجمعوا هل له أن يخرجَ مِنْ

(1)

إعلامُ الموقعين 5/ 555.

(2)

شرح أصول اعتقاد أهل السُّنّة والجماعة 1/ 174.

(3)

اجتماعُ الجيوشِ الإسلامية (ص: 155).

(4)

إعلام الموقعين 2/ 150. وينظر: المستدرك على مجموع الفتاوى 2/ 126.

(5)

الرسالة (ص: 569).

ص: 353

أقاويلِهم! هذا قَولٌ خبيثٌ، قَولُ أهلِ البدعِ، لا ينبغي لأحدٍ أن يخرجَ مِنْ أقاويلِ الصَّحابةِ إذا اختلفوا»

(1)

، وقالَ أبو حاتم الرّازيُّ (ت: 327): «العلمُ عندنا ما كانَ عن الله تعالى؛ مِنْ كتابٍ ناطِقٍ ناسخٍ غيرَ منسوخٍ، وما صحَّتْ الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ممّا لا مُعارِضَ له، وما جاءَ عن الألِبّاءِ مِنْ الصَّحابةِ؛ ما اتَّفقوا عليه، فإذا اختلفوا لم يُخرَجْ مِنْ اختلافِهم، فإذا خَفِيَ ذلك ولم يُفهَم فعن التّابعين، فإذا لم يوجَد عن التّابعين فعن أئِمَّةِ الهُدى مِنْ أتْباعِهم»

(2)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «إجماعُهم لا يكونُ إلا معصوماً، وإذا تنازعوا فالحقُّ لا يخرجُ عنهم»

(3)

، وقالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «كُلُّ ما جاءَ مُخالِفاً لما عليه السَّلفُ الصّالحُ فهو الضَّلالُ بعينِه»

(4)

.

قالَ ابنُ القيّم (ت: 751): «وهذا منصوصُ أبي حنيفةَ، ومذهبُ مالكٍ، ونصَّ عليه أحمدُ، والشّافعيُّ في القديمِ والجديدِ، وصرَّح به محمدُ بن الحسنِ، وإسحاقُ بن راهويه، وأبو عبيدٍ القاسمُ بن سلّام، وهو قولُ جمهورِ الحنفيّة، وأصحابِ مالكٍ، وجمهورِ أصحابِ أحمد»

(5)

، وقالَ:«وأئِمَّةُ الإسلامِ كلُّهم على قبولِ قولِ الصَّحابي»

(6)

.

(1)

العُدَّة في أصول الفقه 4/ 1059. وينظر: المسودة 2/ 616.

(2)

الفقيه والمتفقه 1/ 432.

(3)

مجموع الفتاوى 13/ 24.

(4)

الموافقات 3/ 284.

(5)

إعلامُ الموقعين 5/ 550. وينظر: مجموع الفتاوى 20/ 14.

(6)

إعلامُ الموقعين 5/ 554. وينظر: بيان تلبيس الجهمية 6/ 401، وإجمالُ الإصابة في أقوال الصحابة (ص: 36)، والصّارمُ المنكي (ص: 318)، والموافقات 4/ 457.

ص: 354

خامسَ عشر: أنَّ القولَ بخلافِ ذلك يَلزمُ مِنه القولُ بباطلٍ كثيرٍ؛ مِنْ مثلِ عدمِ تمامِ بيانِ النَّبي صلى الله عليه وسلم للقرآنِ، أو جهلِ الصَّحابةِ بشيءٍ مِنْ معاني كتابِ الله الذي أنزلَه الله بلسانِهم، وبيّنَه لهم نبيُّهم، أو كتمِهم لشيءٍ مِنْ تلك المعاني عمَّن بعدَهم، وما يتبعُ ذلك مِنْ تصحيحِ استدلالِ أهلِ الأهواءِ والبدعِ بجنسِ ذلك مِنْ وجوهِ الأدلَّةِ الباطلةِ، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «ومَنْ زعمَ أنَّه لم يَبيّن لهم معاني القرآنَ، أو أنَّه بيّنها وكتموها عن التّابعين، فهو بمنزلةِ مَنْ زعمَ أنَّه بيّنَ لهم النَّصَّ على عليٍّ، وشيئاً آخرَ مِنْ الشَّرائعِ والواجباتِ، وأنَّهم كتموا ذلك، أو أنَّه لم يُبيّنْ لهم معنى الصلاةِ والزكاةِ والصّيامِ والحجِّ، ونحوِ ذلك مما يزعمُ القرامطةُ أنَّ له باطناً يُخالفُ الظّاهرَ، كما يقولون: إنَّ الصلاةَ معرفةُ أسرارِهم، والصّيامَ كتمانُ أسرارِهم، والحجَّ زيارةُ شيوخِهم .. ، ونحو ذلك مِنْ تفسيرِ القرامطةِ»

(1)

.

سادسَ عشر: أن عدمَ اعتبارِ أقوالِ السَّلفِ في التَّفسيرِ مِنْ أعظمِ أسبابِ الخطأِ في التَّأويلِ، والشّذوذِ فيه، وشاهدُ ذلك قولُ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه للخوارجِ حين ناظرَهم:«جِئتُكم مِنْ عند المهاجرين والأنصارِ؛ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وليسَ فيكم مِنهم أحدٌ .. ، وعليهم نزلَ القرآنُ، وهُم أعلمُ بتأويلِه»

(2)

، وكانَ قتادة (ت: 117) إذا قرأَ قولَه تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] يقولُ: «لعَمْري لقد كانَ في أهلِ بدرٍ، والحُدَيْبيةِ الذين شهِدوا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بيعةَ الرِّضوانِ مِنْ

(1)

بغية المرتاد (ص: 331).

(2)

جامع بيان العلم وفضله 2/ 962.

ص: 355

المهاجرين والأنصارِ = خبرٌ لمَن استَخْبر، وعِبرةٌ لمَن استعبَرَ، لمَن كانَ يعقِلُ أو يُبصِرُ: إنَّ الخوارجَ خرجوا وأصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ كثيرٌ بالمدينةِ والشّامِ والعراقِ، وأزواجُه يومئذٍ أحياءٌ، والله إنْ خرجَ مِنهم ذكرٌ ولا أُنثى حَروريّاً قَطُّ، ولا رضوا الذي هُمْ عليه، ولا مالَئوهُم فيه .. ، بل كانوا يُبغضونَهم بقلوبِهم، ويُعادونَهم بألسِنتِهم، وتشتدُّ والله عليهم أيدِيهم إذا لَقوهُم، ولَعَمْري لو كانَ أمرُ الخوارجِ هُدىً لاجتمعَ، ولكنَّه كانَ ضلالاً فتفرَّقَ، وكذلك الأمرُ إذا كانَ مِنْ عندِ غيرِ الله وجدْتَ فيه اختلافاً كثيراً»

(1)

.

قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «أصلُ وقوعِ أهلِ الضّلالِ في مثلِ هذا التّحريفِ: الإعراضُ عن فهمِ كتابِ الله تعالى كما فهِمَه الصَّحابةُ والتّابعون»

(2)

، وقالَ:«مَنْ عدلَ عن مذاهبِ الصَّحابةِ والتّابعين وتفسيرِهم إلى ما يُخالفُ ذلك كانَ مُخطِئاً في ذلك، بل مُبتدعاً»

(3)

، وقالَ الشّاطبيُّ (ت: 790) مُبيّناً دليلَ بُطلانِ بعضِ التّفاسيرِ: «والدَّليلُ على ذلك أنَّه لم يُنقلْ عن السَّلفِ الصّالحِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين تفسيرٌ للقرآنِ يُماثِلُه أو يُقاربُه، ولو كانَ عندَهم معروفاً لنُقلَ؛ لأنَّهم كانوا أحرى بفهمِ ظاهرِ القرآنِ وباطِنِه باتِّفاقِ الأئِمَّةِ، ولا يأتي آخرُ هذه الأُمَّةِ بأهدى ممّا كانَ عليه أوَّلُها، ولا هُمْ أعرفُ بالشَّريعةِ مِنهم»

(4)

.

ومن ثمَّ كانَ أبرزَ ما يُقرِّرُه مَنْ رجعَ عن المذاهبِ الباطلةِ في تأويلِ

(1)

جامع البيان 5/ 207.

(2)

درءُ تعارض العقل والنقل 5/ 383.

(3)

مجموع الفتاوى 13/ 361. وينظر منه: 7/ 119، 13/ 59، 243.

(4)

الموافقات 4/ 248.

ص: 356

القرآنِ وفَهمِ الشّريعةِ = التأكيدُ على قدرِ فهمِ السَّلفِ، ومكانتِه مِنْ الدّينِ، ومِن ذلك قولُ أبي المعالي الجوَيْنيِّ (ت: 478) لمّا رجعَ عن التَّأويلِ مُستدلاً على ذلك بفعلِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم: «وهم صفوةُ الإسلامِ، والمُستقلّون بأعباءِ الشّريعةِ، وكانوا لا يألون جُهداً في ضبطِ قواعدِ المِلَّةِ، والتّواصي بحِفظِها، وتعليمِ النّاسِ ما يحتاجون إليه منها، فلو كانَ تأويلُ هذه الآي والظّواهرِ مُسوَّغاً ومَحتوماً لأوشكَ أن يكونَ اهتمامُهم بها فوقَ اهتمامِهم بفروعِ الشَّريعةِ»

(1)

.

‌المطلبُ الثّالثُ: أوجه الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

يتفرَّعُ الحديثُ عن أوجهِ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني إلى فرعينِ، هما:

1 -

صِيَغُ إيرادِ دليلِ أقوالِ السَّلفِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

2 -

أوجهُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

وفيما يأتي بيانُهما:

الأوَّلُ: صِيَغُ إيرادِ دليلِ أقوالِ السَّلفِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310).

يورِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) دليلَ أقوالِ السَّلفِ مبيّناً به المعنى في ثلاثِ صوَرٍ:

الأولى: التَّصريحُ بالاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ، ومِن ذلك قولُه: «مع أنَّ فيما حدَّثنا .. ، عن السُّدّي:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]، قالَ:

(1)

العقيدة النّظاميّة (ص: 33).

ص: 357

إلياسَ. وفي قراءةِ عبدِ الله بن مسعودٍ: (سلامٌ على إدْراسينَ)

(1)

. دلالَةٌ واضِحةٌ على خطأِ قولِ مَنْ قالَ: عُنيَ بذلك: سلامٌ على آلِ محمدٍ»

(2)

، وقولُه:«والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا أنَّ في الكلامِ متروكاً استُغنيَ بدلالةِ ما ذُكِرَ عليه مِنْ ذِكرِه» ، ثُمَّ قالَ:«وفيما حدِّثتُ .. ، عن الضَّحاكِ يقولُ في قولِه {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3]: قالوا: كيفَ يُحيينا الله وقد صِرْنا عِظاماً ورُفاتاً، وضلَلْنا في الأرضِ! = دلالَةٌ على صِحَّةِ ما قُلنا مِنْ أنَّهم أنكروا البَعثَ إذْ تُوعِّدوا به»

(3)

، وقولُه:«وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك جاءَ الأثرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقالَ به أهلُ التَّأويلِ»

(4)

.

الثانية: ذِكرُ أقوالِ السَّلفِ مباشرةً على سبيلِ التَّدليلِ، ومِن ذلك قولُه:«يعني بقولِه {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]: أفلا تفقَهون وتفهَمون قُبحَ ما تأْتون مِنْ معصيَتِكم ربَّكم التي تأمُرون النّاسَ بخلافِها، وتنهَونَهم عن ركوبِها، وأنتم راكِبوها .. ، كما حدَّثنا به»

(5)

، ثُمَّ أسندَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه:«{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]: أفلا تفقَهون»

(6)

، ثُمَّ قالَ: «وهذا يدُلُّ على صِحَّةِ ما قُلنا مِنْ أمرِ أحبارِ يهودِ بني إسرائيلَ غيرَهم

(1)

قراءةٌ شاذَّةٌ، سبقَ تخريجُها (ص: 188).

(2)

جامع البيان 19/ 621.

(3)

جامع البيان 21/ 404.

(4)

جامع البيان 22/ 249. وينظر: 13/ 125، 16/ 49، 19/ 469، 692، 20/ 162، 21/ 376.

(5)

جامع البيان 1/ 616.

(6)

جامع البيان 1/ 617.

ص: 358

باتِّباعِ مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنَّهم كانوا يقولون: هو مبعوثٌ إلى غيرِنا»

(1)

، وكذا قولُه في قولِه تعالى {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]: «يقولُ تعالى ذِكرُه: قالَ العالِمُ: إنَّك لن تُطيقَ الصَّبرَ معي؛ وذلك أنّي أعملُ بباطِنِ علمٍ علَّمَنيه الله، ولا عِلمَ لك إلا بالظاهرِ مِنْ الأمورِ، فلا تصبرُ على ما ترى مِنّي مِنْ الأفعالِ. كما ذَكرْنا عن ابنِ عبّاسٍ قبلُ مِنْ أنَّه كانَ رجُلاً يعمَلُ على الغَيْبِ، قد عُلِّمَ ذلك»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم: 30]: «معناه: وقضى يومَ قضى أمورَ خلقِه لي أن يُؤْتيَني الكتابَ. كما حدَّثني»

(3)

، ثُمَّ أسندَ عن عكرمةَ (ت: 105) قولَه: «قضى أن يُؤْتيَني الكتابَ فيما قضى»

(4)

.

الثّالثةُ: إيرادُ أقوالِ السَّلفِ على سبيلِ التَّعليلِ لقبولِ المعنى أو رَدِّه، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36]: «فأمّا سببُ وصولِه إلى الجنَّةِ حتى كلَّمَ آدمَ بعدَ أن أخرجَه الله مِنها وطرَدَه عنها، فليسَ فيما رُويَ عن ابنِ عباسٍ ووهبِ بن مُنبِّهٍ في ذلك معنىً يجوزُ لذي فهمٍ مُدافعتُه .. ، ومُمكنٌ أن يكونَ وصلَ إلى ذلك بنحوِ الذي قالَه المُتأوِّلون، بل ذلك -إن شاءَ الله- كذلك؛ لتتابُعِ أقوالِ أهلِ التَّأويلِ على تصحيحِ ذلك»

(5)

، وقولُه عن بعضِ الأقوالِ: «وهذا هو أَوْلى الوَجهَيْن

(1)

المرجع السابق.

(2)

جامع البيان 15/ 334.

(3)

جامع البيان 15/ 529.

(4)

المرجع السابق. وينظر: 1/ 511، 621، 622، 632، 2/ 10، 5/ 251، 11/ 640، 16/ 561.

(5)

جامع البيان 1/ 569.

ص: 359

بالصَّوابِ؛ لأنَّ تفسيرَ أهلِ التَّفسيرِ بذلك جاءَ»

(1)

، وقولُه:«وإنَّما قُلنا ذلك هو الصَّوابُ؛ لما قد قدَّمنا من الرِّوايةِ عن أهلِ التَّأويلِ»

(2)

.

الثَّاني: أوجهُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني.

تنقسمُ أوجه استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بأقوالِ السَّلفِ على المعاني إلى وجهَيْن:

1 -

الاستدلالُ بقولِ جمهورِ السَّلفِ، ويأتي التعبيرُ عنه في كلامِ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بصورتَيْن:

أولاهُما: التعبيرُ ب (الإجماعِ)، وقد سبقَ بيانُ مذهبِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في حكايةِ الإجماعِ

(3)

؛ وأنَّ مِنه: ما خالفَ فيه الواحدُ أو الاثنان عامَّةَ العلماءِ. وقد تكرَّرَ هذا النّوعُ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في (35) موضِعاً، وهو في أعلى درجاتِ قولِ الجمهورِ، وأقربُ ما يكونُ مرتبةً من الإجماعِ الثّابتِ.

(4)

وثانيهما: التعبيرُ بما يدلُّ على الكثرَةِ؛ ممّا لا يصلُ لحدِّ الإجماعِ، وذلك مِنْ نحوِ قولِه: (عامَّةُ المفسّرين، تفسيرُ المفسرين، جماعةُ أهلِ التَّأويلِ، تأويلُ أهلِ التَّأويلِ، تأويلُ أهلِ العلمِ، أقوالُ أهلِ العلمِ،

(1)

جامع البيان 15/ 178.

(2)

جامع البيان 24/ 225. وينظر: 2/ 733، 13/ 475، 16/ 37، 17/ 434، 19/ 467، 24/ 196.

(3)

(ص: 280).

(4)

سبقَ بيانُ هذا النّوعِ والتمثيلُ له (ص: 283).

ص: 360

عامَّةُ علماءِ المسلمين، قالَ أهلُ التَّأويلِ)

(1)

. ومِن قولِه في ذلك: «قالَ عامَّةُ المُفسِّرين: تأويلُ قولِ الله جلَّ ثناؤُه {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]: هذا الكتابُ»

(2)

، وقولِه في قولِه تعالى {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]: «ويَعني بالكتابِ: القرآنَ. وقد بيَّنتُ فيما مضى لمَ سُمِّيَ القرآنُ كتاباً، وما تأويلُه. وهو قولُ جماعةِ أهلِ التَّأويلِ»

(3)

.

2 -

الاستدلالُ بقولِ الواحدِ مِنْ السَّلفِ، وذلك كثيرٌ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، ومِن ذلك قولُه:«{الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]: ذو العظمةِ، الذي كُلُّ شيءٍ دونَه، فلا شيءَ أعظمُ مِنه؛ كما حدَّثني .. ، عن ابنِ عبّاسٍ: {الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]: الذي قد كمُلَ في عظمتِه»

(4)

، ولم يذكُرْ أثراً لغيرِه، وكذا قولُه:«وبنحوِ ما قُلنا في ذلك قالَ ابنُ إسحاقَ، حدَّثنا .. ، عن محمّد بن إسحاق: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] أي: لا يهديهم في الحُجَّةِ عند الخصومةِ لما هُمْ عليه من الضّلالةِ»

(5)

.

(1)

ينظر: جامع البيان 1/ 431، 624، 2/ 563، 690، 3/ 645، 649، 8/ 689، 9/ 23، 24/ 314.

(2)

جامع البيان 1/ 228.

(3)

جامع البيان 2/ 575.

(4)

جامع البيان 4/ 544.

(5)

جامع البيان 4/ 577. وينظر: 6/ 181، 185، 221.

ص: 361

‌المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بأقوالِ السَّلفِ على المعاني ومسائِلُه.

أوَّلاً: يعبِّرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن قولِ الصحابيِّ بالأثرِ، ومِن ذلك قولُه:«وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك جاءَ الأثرُ»

(1)

، ثُمَّ أسندَ قولاً لابنِ مسعودٍ رضي الله عنهم. ومثلُه قولُه: «وبذلك جاءَ الأثرُ عن عمرَ بن الخطّابِ رضي الله عنه)

(2)

.

ثانياً: يرتِّبُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أقوالَ السَّلفِ في الاستدلالِ؛ مبتدِئاً بالصَّحابةِ، ثُمَّ التّابعين، ثُمَّ أتباعِ التّابعين، وذلك الأغلبُ في تفسيرِه، وربَّما خالفَ لمعنىً يقتضيه

(3)

، والمُقدَّمُ مِنْ الصَّحابةِ في أكثرِها ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنه، وآخرُ مَنْ ينقلُ عنه مِنْ السَّلفِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ: عبدَ الرَّحمن بن زيدٍ (ت: 182)، وهو مِنْ الطّبقةِ الوسطى مِنْ أتباعِ التّابعين

(4)

، وقلَّ مَنْ يُخرِّجُ له ابنُ جريرٍ (ت: 310) ممَّن بعدَه.

(5)

ثالثاً: كُلُّ من رَوى له ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ السَّلفِ قولاً مُستدلاً به على المعنى فهو مِنْ أهلِ التَّأويلِ؛ فإنَّ مِنْ منهجِه في جميعِ كتابِه أن

(1)

جامع البيان 6/ 262.

(2)

جامع البيان 22/ 519. وينظر: 18/ 38.

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 94، 276، 3/ 56، 143، 300، 14/ 6 - 13، 24/ 292، 293، 295، 503.

(4)

كما سبقَ في ترجمتِه (ص: 287).

(5)

ينظر: جامع البيان 1/ 158، 188، 730، 4/ 8، 12/ 272، 444، 20/ 97 - 98، 22/ 479 - 480.

ص: 362

يُقدِّمَ لقولِ السَّلفِ بقولِه: «وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ»

(1)

، فلا ينقُلُ في معنى الآيةِ إلا عمَّن كانَ مرضيّاً قولُه في التَّفسيرِ، وكانَ أهلاً له، ويشهدُ لذلك وصفُه لهم ب (الحُجَّةِ) عند قولِه تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38]: «وذلك أنَّ ظاهرَ الخطابِ بذلك إنَّما هو للّذين قالَ لهم جلَّ ثناؤُه {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، والذين هُمْ مَنْ سمَّيْنا في قولِ الحُجَّةِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين الذين قدَّمْنا الروايةَ عنهم»

(2)

، وهو بذلك التّعبيرِ يُخرجُ نوعَيْن مِنْ المتكلِّمين في التَّفسيرِ:

أوَّلهما: مَنْ لم يكُنْ مِنْ أهلِ هذا العلمِ؛ كأهلِ اللُّغةِ مثلاً، فإنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) يُفرِدُهم بالذِّكرِ عن أهلِ التَّأويلِ، ويُميّزُ قولَهم عن قولِهم -كما سيأتي بيانُه-.

ثانيهما: مَنْ لم يكُنْ مرضيّاً في هذا العلمِ، فإنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) لا يضمُّ قولَه مع قولِ الحُجَّةِ مِنْ أهلِ التَّأويلِ مِنْ السَّلفِ، وإذا رأى ذكرَ قولِه فإنَّه يُلحِقُه بعدَ تمامِ بيانِ الآيةِ، ويُبهِمُ قائلَه، ويورِدُه بصيغةٍ تومئُ إلى كونِه مَرجوحاً، أو ضَعيفاً مُنكراً، ومِن ذلك قولُه: «وقد زعمَ بعضُهم أنَّ معنى قولِه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]: أسلِكْنا طريقَ الجنَّةِ في المعادِ. أي: قدِّمنا له، وامضِ بنا إليه. كما قالَ جلَّ ثناؤُه {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]، أي: أدخِلوهم النّارَ. كما تُهدى

(1)

جامع البيان 1/ 624. وينظر: 2/ 20، 88، 517، 4/ 562، 5/ 31، 11/ 53، 13/ 18، 19/ 455.

(2)

جامع البيان 1/ 590.

ص: 363

المرأةُ إلى زوجِها، يعني بذلك أنَّها تُدخَلُ إليه .. ، وفي قولِ الله جلَّ ثناؤُه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ما يُنبئُ عن خطأِ هذا التَّأويلِ، مع شهادةِ الحُجَّةِ مِنْ المُفسِّرين على تخطِئتِه»

(1)

، وقولُه:«وقد زعمَ بعضُ الزّاعمين أنَّ قولَه {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] معنيٌّ به الشّياطينُ، وأنَّ قولَه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] معنيٌّ به النّاسُ. وذلك قولٌ لقولِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ مُخالفٌ»

(2)

.

ويشهدُ لهذا المعنى مِنْ صنيعِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) قولُ ياقوتٍ الحمويِّ (ت: 626): «ولم يتعرَّضْ لتفسيرٍ غيرِ مَوْثوقٍ به؛ فإنَّه لم يُدخِلْ في كتابِه شيئاً عن مُحمّد بن السائبِ الكَلْبي، ولا مُقاتلَ بن سليمانَ، ولا مُحمّدَ بن عمرَ الواقديّ؛ لأنَّهم عندَه أظِنَّاءٌ»

(3)

.

رابعاً: يُورِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أحياناً قولَه: «قالَ أهلُ التَّأويلِ» ، أو:«قالَ جماعةٌ من أهلِ التَّأويلِ» ، ثمّ لا يذكرُ إلا واحداً منهم، كما

(1)

جامع البيان 1/ 169.

(2)

جامع البيان 2/ 369. وينظر: 1/ 197، 267، 2/ 369، 3/ 721.

(3)

معجم الأدباء 6/ 2454. وقال بعد ذلك: «وكانَ إذا رجعَ إلى التّاريخِ والسِّيَرِ وأخبارِ العربِ حكى عن محمد بن السّائبِ الكلبيِّ، وعن ابنِه هشام، وعن محمد بن عمر الواقديِّ، وغيرِهم فيما يُفتقَرُ إليه ولا يُؤْخذُ إلا عنهم»، وذلك صحيح، لكنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) قد أخرجَ شيئاً عن الكلبيِّ (ت: 146) في التَّفسيرِ، كما في 10/ 521، 561، 572، 12/ 469، 14/ 193، 16/ 565، ويُلاحظُ في تلك المواضعِ أنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) يُخرجُ له مقروناً، وعن الثِّقاتِ عنه؛ كمعمرَ (ت: 153)، وسفيانَ الثوري (ت: 161).

ص: 364

في قولِه: «وبنحوِ ما قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ»

(1)

، ثُمَّ أسندَ عن السُّدِّي (ت: 128) قولَه: «{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275]: أمّا الموعِظةُ فالقُرآنُ، وأمّا {مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]: فله ما أكلَ من الرِّبا»

(2)

، ولم يروِ لغيرِه، ومثلُه قولُه:«وبنحوِ ما قُلنا في قولِه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] قالَ جماعةٌ مِنْ أهلِ التَّأويلِ»

(3)

، ثُمَّ أسندَ عن قتادة (ت: 117) قولَه: «{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، يقولُ: فبرَحمةٍ مِنْ الله لِنْتَ لهُم»

(4)

، ولم يورِدْ عن غيرِه شيئاً.

وهذا الصنيعُ مِنْ ابنِ جريرٍ (ت: 310) يُخرَّجُ على وَجهَيْن:

أوَّلهما: أنّه اختصرَ، واجتزأ بقولِ الواحدِ مِنْ السَّلفِ عن ذكرِ قولِ غيرِه ممَّن وافقَه، ويشهدُ له قولُه:«وبنحوِ ما قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ، وممَّن قالَ ذلك أيضاً الضَّحاكُ»

(5)

، ثُمَّ أسندَ قولَه:«فضَّلَ الله الإسلامَ على كلِّ دينٍ، فقالَ {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، إلى قولِه {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وليس يُقبَلُ فيه عملٌ غيرُ الإسلامِ، وهي الحنفيَّةُ»

(6)

، ولم يذكُرْ غيرَه.

(1)

جامع البيان 5/ 44.

(2)

المرجع السّابق.

(3)

جامع البيان 6/ 185.

(4)

المرجع السّابق. وينظر: جامع البيان 5/ 120.

(5)

جامع البيان 7/ 528.

(6)

المرجع السّابق.

ص: 365

ثانيهما: أنَّ قولَ الواحدِ -اشتهرَ عنه أم لم يشتهِرْ- مع عدمِ مخالفةِ غيرِه مِنْ السَّلفِ له، وعدمِ ذكرِهم لغيرِه مِنْ الأقوالِ = بمثابةِ قولِ عامَّتِهم، كما سلفَ في بعضِ وجوه حُجِّيَّةِ أقوالِ السَّلفِ. وشواهدُ هذا في صنيعِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) كثيرةٌ، مِنها قولُه:«وبمثلِ ما قُلنا في ذلك قالَ جماعةُ أهلِ التَّأويلِ»

(1)

، ثُمَّ أسندَ عن السُّدِّي (ت: 128) قولَه: «{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 282]، يقولُ: أعدلُ عندَ الله»

(2)

، ولم يذكُرْ غيرَه.

خامساً: مِنْ المعلومِ أنَّ أقوالَ السَّلفِ تأتي على وجوهٍ مِنْ التَّعبيرِ، تتفاوتُ في الدَّلالةِ على المعنى؛ فمِنها التَّفسيرُ على اللفظِ، ومنها التَّفسيرُ على المعنى -كما سبقَ بيانُه-

(3)

، قالَ النَّحاسُ (ت: 338) بعد ذِكرِ بعضِ أقوالِ السَّلفِ في التَّفسيرِ: «ولم يَشرَحوا ذلك بأكثرَ مِنْ هذا؛ لأنَّه ليس مِنْ مذاهبِ الأوائلِ، وإنَّما يأتي الكلامُ عنهم مُجمَلاً، ثم يتأوَّلُه أهلُ النَّظَرِ على ما يوجِبُه المعنى»

(4)

.

وقد تميَّزَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بحُسنِ توجيهِه لأقوالِ السَّلفِ، وصحَّةِ فهمِ مقاصدِهم، ودِقَّةِ البيانِ عنهم، وقدرتِه على جمعِ المعاني المؤتلفةِ في معنىً عامٍّ يُتقِنُ التّعبيرَ عنه، ومِن قولِه في ذلك: «وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ، وإن خالَفَت ألفاظُ تأويلِهم ألفاظَ تأويلِنا،

(1)

جامع البيان 5/ 104.

(2)

المرجع السّابق.

(3)

(ص: 63).

(4)

معاني القرآن 1/ 77.

ص: 366

غيرَ أنَّ معنى ما قالوا في ذلك آيلٌ إلى معنى ما قُلنا فيه»

(1)

، وقولِه:«{أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33]، يقولُ تعالى ذِكرُه: أمْ تُنبِّئونَه بظاهرٍ مِنْ القَولِ مَسموعٍ، وهو في الحقيقةِ باطلٌ لا صِحَّةَ له. وبنحوِ ما قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ، غيرَ أنَّهم قالوا {أَمْ بِظَاهِرٍ} [الرعد: 33] معناه: أمْ بباطلٍ. فأتَوا بالمعنى الذي تدلُّ عليه الكلمةُ دونَ البيانِ عن حقيقةِ تأويلِها»

(2)

، وقولِه عندَ قولِه تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89]: «{وَالْحُكْمَ} [الأنعام: 89] يعني: الفهمَ بالكتابِ ومعرفةَ ما فيه مِنْ الأحكامِ. ورُويَ عن مجاهدٍ في ذلك .. ، قالَ: الحكمُ هو اللُّبُّ. وعَنى مُجاهدٌ إن شاءَ الله ما قُلتُ؛ لأنَّ اللُّبَّ هو العقلُ، فكأنَّه أرادَ أنَّ الله آتاهُم العقلَ بالكتابِ، وهو بمعنى ما قُلنا مِنْ أنَّه الفهمُ به»

(3)

، وقولِه:«رُويَ عن قتادةَ في تأويلِ قولِه {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] أنَّه: يَكذِبون. وأحسبُ أنَّ قتادةَ عَنى بتأويلِه ذلك كذلك أنَّهم يَكذِبون في وَصفِهم اللهَ بما كانوا يَصِفونه به؛ مِنْ ادِّعائِهم له بنينَ وبناتٍ، لا أنَّه وجَّهَ تأويلَ الوصفِ إلى الكذِبِ»

(4)

.

سادساً: أَوْلى ما توَجَّه إليه أقوالُ السَّلفِ ما أبانوه بأنفُسِهم مِنْ مقاصِدِهم، وهذا مِنْ تمامِ العدلِ والإنصافِ؛ فإنَّ خيرَ مَنْ يُبينُ عن مقصدِ المُتكلِّمِ نفسُه، وقد اعتمدَ ذلك ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه،

(1)

جامع البيان 4/ 165. وينظر: 21/ 494، 22/ 52، 96، 235.

(2)

جامع البيان 13/ 549. وينظر: 1/ 477، 2/ 272، 23/ 470.

(3)

جامع البيان 9/ 387.

(4)

جامع البيان 9/ 457. وينظر: 1/ 93، 586، 615، 3/ 523، 10/ 487، 16/ 241.

ص: 367

كما في قولِه: «وفيما بيَّنّا مِنْ ذلك البيانُ الواضِحُ على أنَّ الآيةَ لخاصٍّ، كما قالَ ابنُ عباسٍ، وذلك ما حدَّثني .. »

(1)

، ثُمَّ أسندَ عن ابنِ عباسٍ -مِنْ طريقِ العَوفيّين

(2)

-: «{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، يقول: هُمْ أهلُ الكتابِ. وقالَ: هي خاصَّةٌ وعامَّةٌ»

(3)

، ثُمَّ قالَ:«يعني بقولِه: هي خاصَّةٌ وعامَّةٌ: هي خاصَّةٌ في المسلمين في مَنْ لم يُؤَدِّ زكاةَ مالِه مِنهم، وعامَّةٌ في أهلِ الكتابِ؛ لأنَّهم كُفَّارٌ لا تُقبَلُ مِنهم نفقاتُهم إن أنفَقوا. يدُلُّ على صِحَّةِ ما قُلنا في تأويلِ قولِ ابنِ عباسٍ هذا ما حدَّثني .. »

(4)

، ثُمَّ أسندَ عن ابنِ عباسٍ -من طريقِ ابنِ أبي طلحةَ

(5)

-: «{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34]، إلى قولِه {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]، قالَ: هُمْ الذين لا يؤَدّون زكاةَ أموالِهم. قالَ: وكُلُّ مالٍ لا تؤَدّى زكاتُه؛ كانَ على ظهرِ الأرضِ أو في بطنِها، فهو كنزٌ، وكلُّ مالٍ تؤَدّى زكاتُه فليسَ بكنزٍ؛ كانَ على ظهرِ الأرضِ أو في

(1)

جامع البيان 11/ 432.

(2)

هي طريقُ محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطيّة بن سعد العَوفيّ القَيسيّ، يقولُ فيها:«حدَّثنا أبي، قالَ: حدَّثنا عمّي، قالَ: حدَّثنا أبي، عن أبيه، عن ابنِ عبّاسٍ» ، ورجالُ هذه النُّسخةِ ضعفاءُ، غيرَ محمد بن سعدٍ وجدِّه عطيَّة؛ فيقبلان التَّحسين، قالَ السّيوطي (ت: 911): «وطريقُ العَوفيِّ عن ابنِ عبّاسٍ أخرجَ مِنها ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ كثيراً، والعَوفيُّ ضعيفٌ ليسَ بواهٍ، وربَّما حسَّنَ له التِّرمذيُّ» . الإتقان 6/ 2337. وقد التزمَ ابنُ أبي حاتم (ت: 327) أن يُخرِّجَ أصحَّ ما وردَ، كما في مقدمة تفسيرِه 1/ 14. ينظر: الإتقان 6/ 2335، وأسانيد نسخ التَّفسير (ص: 280).

(3)

جامع البيان 11/ 432.

(4)

المرجع السابق.

(5)

سبقَت ترجمتُه والتَّعريفُ بطريقِه عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه (ص: 238).

ص: 368

بطنِها»

(1)

، ومِن ذلك أيضاً قولُه في مَوضعٍ:«وأمّا ابنُ زيدٍ فقد أبانَ عن نفسِه ما قصدَ بتأويلِه ذلك»

(2)

.

وقرَّرَ أيضاً أنَّه لا وجهَ لتوجيهِ كلامِ أحدٍ مِنْ السَّلفِ بعدَ بيانِه هو عن مَقصدِه مِنه، كما في قولِه بعدَ أن أورَدَ قولاً لابنِ عباسٍ رضي الله عنه، ومجاهدٍ (ت: 104): «وقد بيَّنَ ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ ما أرادا مِنْ المعنى في قراءتِهما ذلك على ما قرَأا، فلا وجهَ لقولِ هذا القائِلِ ما قالَ مع بيانِهما عن أنفُسِهما ما قصَدا إليه مِنْ معنى ذلك»

(3)

.

سابعاً: يتلخَّصُ منهجُ ابنِ جريرٍ في التأليفِ بين أقوالِ السَّلفِ المُتغايرةِ في التفسيرِ في أمرَيْن هُما:

1 -

تحديدُ أصلِ معنى اللفظِ.

2 -

وصْلُ أقوالِ السَّلفِ بذلك الأصلِ.

ومِن شواهدِ ذلك ما أوردَه بعد ذِكرِ اختلافِ السَّلفِ في معنى قولِه تعالى {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94]، حيثُ قالَ: «وقد بيَّنّا أنَّ أصلَ التفنيدِ: الإفسادُ. وإذْ كانَ ذلك كذلك فالسَّفاهةُ والهرَمُ والكَذِبُ وذهابُ العقلِ، وكلُّ معاني الإفسادِ، تدخلُ في التَّفنيدِ؛ لأنَّ أصلَ ذلك كلِّه الفسادُ. والفسادُ في الجِسمِ: الهَرَمُ وذهابُ العقلِ والضَّعفُ. وفي الفعلِ: الكذِبُ واللَّومُ بالباطلِ .. ، فقد تبيَّنَ -إذْ كانَ الأمرُ على ما

(1)

جامع البيان 11/ 432.

(2)

جامع البيان 1/ 448.

(3)

جامع البيان 10/ 370.

ص: 369

وصَفنا- أنَّ الأقوالَ التي قالَها مَنْ ذكَرْنا قولَه في قولِه {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94]، على اختِلافِ عباراتِهم عن تأويلِه = متقاربةُ المعاني، مُحتمِلٌ جميعَها ظاهِرُ التَّنزيلِ؛ إذْ لم يكُنْ في الآيةِ دليلٌ على أنَّه معنيٌّ به بعضُ ذلك دونَ بعضٍ»

(1)

، ومثلُه قولُه:«والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك أن يُقالَ كما قالَ الله عز وجل: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]. وجائِزٌ أن يكونَ ذلك الفَلَكُ كما قالَ مُجاهدُ: كحديدةِ الرَّحى. وكما ذُكرَ عن الحَسَنِ: كطاحونةِ الرَّحى. وجائِزٌ أن يكونَ: مَوجاً مكفوفاً. وأن يكونَ: قُطبَ السَّماءِ. وذلك أنَّ الفَلَكَ في كلامِ العرَبِ هو: كُلُّ شيءٍ دائِرٍ .. ، وإذْ كانَ كلُّ ما دارَ في كلامِها فلَكاً، ولم يكُنْ في كتابِ الله، ولا في خبرٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا عمَّن يقطعُ قولُه العُذرَ، دليلٌ يدُلُّ على أيِّ ذلك هو مِنْ أيٍّ = كانَ الواجبُ أن نقولَ فيه ما قالَ، ونسكُتَ عمّا لا عِلمَ لنا بِه»

(2)

.

ثامناً: اعتنى ابنُ جريرٍ (ت: 310) بنقدِ أقوالِ السَّلفِ عنايةً ظاهِرةً، كما أشارَ إلى ما في بعضِها مِنْ نكارَةٍ أو غرابةٍ، وقد جاءَ ذلك النَّقدُ في صورَتَيْن:

1 -

نقدُ متونِ مرويّاتِ السَّلفِ، كما في قولِه بعدَ أن أوردَ قولَ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه من طريقِ العَوفيّين- في عِدَّةِ أصحابِ بدرٍ، وأنَّهم كانوا ثلاثَمائة وثلاثةَ عشرَ رجلاً، وكانَ المشركون مِثلَيْهم، حيثُ قالَ: «وهذه

(1)

جامع البيان 13/ 341.

(2)

جامع البيان 16/ 266. وينظر: 13/ 443، 14/ 509، 17/ 620.

ص: 370

الرِّوايةُ خلافُ ما تظاهرَتْ به الأخبارُ عن عِدَّةِ المشركين يومَ بدرٍ؛ وذلك أنَّ النّاسَ إنَّما اختلفوا في عددِهم على وجهَيْن؛ فقالَ بعضُهم: كانَ عددُهم ألفاً. وقالَ بعضُهم: ما بَيْن التسعِمائةِ إلى الألفِ»

(1)

، وقولِه بعدَ أن أورَدَ قولَ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه:«{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدَّثر: 29]، يقولُ: مُعرِّضةٌ» ، ثُمَّ قالَ:«وأخشى أن يكونَ خبرُ عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ هذا، غلطاً، وأن يكونَ موضِعُ (مُعرِّضةً) (مُغيِّرةً)، لكنْ صُحِّفَ فيه»

(2)

، وقولِه أيضاً:«فإن ظنَّ ظانٌّ أنَّ الخبرَ الذي رُويَ عن محمدِ بن كعبٍ صحيحٌ، فإنَّ في استحالةِ الشَّكِّ مِنْ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم في أنَّ أهلَ الشِّركِ مِنْ أهلِ الجَحيمِ، وأنَّ أبوَيْه كانا مِنهم = ما يدفعُ صِحَّةَ ما قالَه محمدُ بن كعبٍ، إن كانَ الخبرُ عنه صحيحاً»

(3)

.

2 -

نقدُ أسانيدِ مرويّاتِ السَّلفِ، كما في قولِه:«وذلك قولٌ يُروى عن ابنِ عباسٍ، تركنا ذِكرَه؛ لأنَّ في إسنادِه مَنْ لا نستجيزُ ذِكرَه»

(4)

، وقولِه بعدَ أن أسندَ خبراً عن عمرَ بن الخطّابِ رضي الله عنه: «وهذا الحديثُ خطأٌ؛ أعني حديثَ هشامِ بن عروةَ

(5)

، إنَّما هو: هشامُ بن عروةَ عن أبيه. ليس فيه عمرُ، كذلك حُدِّثتُ عن ابنِ عُليَّةَ وغيرِه»

(6)

، وكذا قولُه

(1)

جامع البيان 5/ 247.

(2)

جامع البيان 23/ 435. ويُصحِّحُ ذلك أنَّ ابنَ أبي حاتم (ت: 327) أخرجَه بلفظِ: «مغيِّرةً». كما في الإتقان 2/ 41 ط/ محمد أبو الفضل.

(3)

جامع البيان 2/ 482. وينظر: 1/ 489، 2/ 154، 23/ 453، 24/ 618.

(4)

جامع البيان 19/ 606.

(5)

هشام بن عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ القرشيّ، أبو المنذر، تابعيٌّ إمامٌ حافظٌ، مات سنة (145) وقيل غيرَ ذلك. ينظر: السير 6/ 34، وتهذيب التهذيب 4/ 275.

(6)

جامع البيان 14/ 549.

ص: 371

في قولِه تعالى {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]: «وقد ذُكرَ أنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في قومٍ مِنْ اليهودِ بأعْيانِهم، مِنْ وجهٍ لم تثبُتْ صِحَّتُه»

(1)

.

تاسعاً: يعتني ابنُ جريرٍ (ت: 310) بالتَّرجيحِ بين الرّواياتِ المُتعارضةِ عن المفسِّرِ الواحدِ، واختيارِ أصحِّها وأرجَحِها، ومِن ذلك قولُه عن بعضِ الأقوالِ:«وهذا قولٌ وجدتُه عن مجاهدٍ، وأخشى أن يكونَ غلطاً؛ لأنَّ الصَّحيحَ مِنْ الرِّوايةِ عنه ما قد ذَكَرنا قبلُ»

(2)

، وفي قولِه تعالى {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] أوردَ قولَ ابنَ عباسٍ -من طريقِ معاويةَ بن صالحٍ

(3)

عن ابنِ أبي طلحةَ-: «الأعنابَ والدُّهنَ»

(4)

، ثُمَّ أخرجَ عنه قولَه -من طريقِ فرجِ بنِ فضالةَ

(5)

عن ابنِ أبي طلحةَ-: «فيه يَحلِبون»

(6)

، ثُمَّ قالَ:«وأمّا القَولُ الذي روَى الفرجُ بنُ فضالةَ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، فقَولٌ لا معنى له؛ لأنَّه خلافُ المعروفِ مِنْ كلامِ العربِ، وخلافُ ما يُعرَفُ مِنْ قولِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما»

(7)

.

(1)

جامع البيان 9/ 185. وينظر: 1/ 61، 5/ 534، 13/ 298، 18/ 627، 21/ 211، 24/ 485.

(2)

جامع البيان 8/ 332.

(3)

معاويةُ بن صالحٍ بن حُدَيْرٍ الحضرميّ، أبو عمرو الحِمصيّ، قاضي الأندلس، صدوقٌ إمامٌ، مات سنة (158). ينظر: الكاشف 3/ 157، والتَّقريب (ص: 955).

(4)

جامع البيان 13/ 194.

(5)

فرجُ بن فضالةَ بن النُّعمانِ التَّنوخيّ، أبو فضالة الحمصيّ، ضعيفُ الرِّواية، يُكتبُ حديثُه، وله مناكير، مات سنة (176). ينظر: الكاشف 2/ 379، وتهذيب التهذيب 3/ 382، والتَّقريب (ص: 780).

(6)

جامع البيان 13/ 195.

(7)

جامع البيان 13/ 198. وينظر: 1/ 486، 9/ 164، 10/ 97، 12/ 247.

ص: 372

عاشراً: قولُ جمهورِ السَّلفِ عندَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) مُقدَّمٌ في الجُملةِ على قولِ آحادِهم، ومن شواهدِ ذلك قولُه مُعلِّلاً بعضَ اختيارِه:«وأَوْلى الأقوالِ بالصَّوابِ في ذلك .. ؛ لتظاهُرِ الأخبارِ بذلك عن الصَّحابةِ والتّابعين وعامَّةِ أهلِ التَّأويلِ. وأمّا القَولُ الذي رواه مجاهدٌ عن ابنِ عباسٍ فقَولٌ غيرُ بعيدٍ مِنْ الصَّوابِ، ولكنَّ الأخبارَ المُتظاهرَةَ عن الصَّحابةِ والتّابعين بخلافِه، وكرِهنا القَولَ به مِنْ أجلِ ذلك»

(1)

، ومثلُه عندَ قولِه تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]، حيثُ أوردَ قولَ الجُمهورِ أنَّها نزلَتْ في رجلٍ مِنْ الأنصارِ. ثُمَّ ذكرَ قولَ الحسنِ (ت: 110) أنَّها نزلَتْ في أهلِ الكتابِ. ثُمَّ قالَ: «وأشبَهُ القَولَيْن بظاهرِ التَّنزيلِ ما قالَ الحسنُ؛ مِنْ أنَّ هذه الآيةَ معنيٌّ بها أهلَ الكتابِ، على ما قالَ. غيرَ أنَّ الأخبارَ بالقَولِ الآخرِ أكثرُ، والقائلين به أعلمُ بتأويلِ القرآنِ»

(2)

.

وعلى مثلِ ذلك نصَّ ابنُ جُزي (ت: 741) في مقدِّمةِ تفسيرِه؛ حيثُ قالَ في ثالثِ موجباتِ التَّرجيحِ ووجوهِه بعدَ القرآنِ والسُّنَّةِ: «أن يكونَ القولُ قولَ الجُمهورِ وأكثرِ المُفسِّرين؛ فإنَّ كثرةَ القائلين بالقولِ يقتضي ترجيحَه»

(3)

، ثُمَّ قالَ في رابعِ تلك الوجوهِ:«أن يكونَ القولُ قولَ مَنْ يُقتدى به مِنْ الصَّحابةِ؛ كالخُلفاءِ الأربعةِ، وعبدِ الله بن عباسٍ»

(4)

.

(1)

جامع البيان 9/ 23.

(2)

جامع البيان 5/ 561.

(3)

التسهيل 1/ 20.

(4)

المرجع السابق.

ص: 373

حاديَ عشر: يرجّحُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أقوالَ الصَّحابةِ مِنْ السَّلفِ في الجُملةِ؛ وذلك لِما لهُم مِنْ الخصائِصِ التي لا يَشرَكُهم فيها مَنْ بعدَهم، كما في قولِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عنهم: «هُمْ كانوا أعلمَ بمعاني القرآنِ، والسَّببِ الذي فيه نزَلَ، وما أُريدَ به»

(1)

، كما أنَّ تفاسيرَ مَنْ بعدَهم مِنْ التّابعين كانَت وعاءً احتوى تفاسيرَ الصَّحابةِ، وبنى عليها، ولم يَخرُجْ عنها بما يُبطِلُها. ومِن شواهدِ تطبيقاتِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في هذا البابِ قولُه في قولِه تعالى {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46]: «لا خبرَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يصحُّ سندُه، ولا آيةَ مُتَّفقٌ على تأويلِها، ولا إجماعَ مِنْ الأمَّةِ على أنَّهم ملائِكةٌ. فإذْ كانَ ذلك كذلك، وكانَ ذلك لا يُدرَكُ قياساً، وكانَ المُتعارَفُ بين أهلِ لسانِ العربِ أنَّ الرِّجالَ اسمٌ يجمعُ ذكورَ بني آدمَ دونَ إناثِهم، ودونَ سائِرِ الخلقِ غيرِهم = كانَ بيِّناً أنَّ ما قالَه أبو مِجلَزٍ مِنْ أنَّهم: ملائِكةٌ. قولٌ لا معنى له، وأنَّ الصَّحيحَ مِنْ القَولِ في ذلك ما قالَه سائِرُ أهلِ التَّأويلِ غيرَه، هذا مع مَنْ قالَ بخِلافِه مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومع ما رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مِنْ الأخبارِ، وإن كانَ في أسانيدِها ما فيها»

(2)

، وقولُه: «وبنحوِ ما قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ، وجاءَت الرِّوايةُ عن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110]: «وهذا التَّأويلُ الذي ذهبَ إليه الحسنُ وقتادةُ في ذلك -إذا قُرئَ بتشديدِ الذَّالِ وضمِّ الكافِ- خِلافٌ لِما ذكرنا

(1)

جامع البيان 21/ 131.

(2)

جامع البيان 10/ 221.

(3)

جامع البيان 11/ 51.

ص: 374

مِنْ أقوالِ جميعِ مَنْ حكينا قولَه مِنْ الصَّحابةِ؛ لأنَّه لم يوجِّه الظَّنَّ في هذا المَوضِعِ مِنهم أحدٌ إلى معنى العلمِ واليقينِ»

(1)

.

ثانيَ عشر: اعتمادُ أقوالِ الصَّحابةِ فيما لا مجالَ للرَّأْي فيه، وذلك ظاهرٌ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، ومِن ذلك قولُه:«فإن قالَ قائِلٌ: وهل في الجنَّةِ قائِلةٌ فيُقالَ: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] فيها؟ قيل: معنى ذلك: وأحسنُ فيها قراراً في أوقاتِ قائِلَتِهم في الدُّنيا؛ وذلك أنَّه ذُكرَ أنَّ أهلَ الجنَّةِ لا يمرُّ بهم في الآخرةِ إلا قدرُ ميقاتِ النَّهارِ، مِنْ أوَّلِه إلى وقتِ القائِلةِ، حتى يسكنوا مساكِنَهم في الجنَّةِ، فذلك معنى قولِه {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]»

(2)

، ثُمَّ أسندَ معنى ذلك عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، مُستدلاً به. ومثلُ ذلك قولُه في قولِه تعالى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]: «وقد زعمَ بعضُ أهلِ العربيّةِ

(3)

أنَّ اللؤلؤَ والمرجانَ يخرجُ مِنْ أحدِ البَحرَيْن، ولكن قيلَ:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن: 22]، كما يُقالُ: أكَلتُ خُبزاً ولَبَناً .. ، وليس ذلك كما ذهبَ إليه، بل ذلك كما وصَفتُ قبلُ مِنْ أنَّ ذلك يخرجُ مِنْ أصدافِ البحرِ عن قطرِ السّماءِ؛ فلذلك قيلَ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن: 22]، يعني به البَحرَيْن»

(4)

، ثُمَّ استدلَّ لذلك بقولِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه:«إنَّ السّماءَ إذا أمطرَت فتحَت الأصدافُ أفواهَها، فمنها اللؤلؤُ»

(5)

.

(1)

جامع البيان 13/ 397. وينظر: 21/ 131.

(2)

جامع البيان 17/ 434.

(3)

هو أبو عبيدة معمر بن المُثنّى (ت: 210)، كما في مجاز القرآن 2/ 244.

(4)

جامع البيان 22/ 208.

(5)

المرجع السابق. وينظر: جامع البيان 24/ 384.

ص: 375

ومِن المَعلومِ أنَّ قولَ الصحابيِّ فيما لا مجالَ للرَّأْي فيه له حُكمُ المَرفوعِ، قالَ السّيوطيُّ (ت: 911): «التَّفسيرُ الواردُ عن الصحابيِّ فيما يتعلَّقُ بأمرِ الآخرةِ له حُكمُ الرَّفعِ بإجماعِ أهلِ الحديثِ»

(1)

.

ثالثَ عشر: يُقدِّمُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أقوالَ الصَّحابةِ على غيرِهم في أسبابِ النّزولِ؛ لِما لها مِنْ القوَّةِ، فقد عدَّها أهلُ العلمِ من قبيلِ المُسندِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كما قالَ الحاكمُ (ت: 405): «ليعلمَ طالبُ هذا العلمِ أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ الذي شهدَ الوَحيَ والتَّنزيلَ عندَ الشَّيخَيْن حديثٌ مُسندٌ»

(2)

، وقد قيلَ في معنى ذلك ثلاثةُ أوجهٍ:

1 -

أنَّه مثلُه في الاحتجاجِ.

2 -

أنَّه مثلُه مِنْ جهةِ أنَّهم تلقَّوْه عن بيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لهم، ونقلوه عنه بلفظِه أو بمعناه. ذكرَ هذين الوَجهَيْن ابنُ القيِّم (ت: 751)، وقالَ عن الثَّاني:«وهو أحسنُ الوَجهَيْن»

(3)

.

3 -

أنَّ ذلك خاصٌّ بما نقلوه مِنْ أسبابِ النُّزولِ، وذلك رأيُ الحاكمِ (ت: 405) في كتابِه (معرفةِ علومِ الحديثِ)؛ حيثُ ذكرَ قولاً لأبي هريرةَ رضي الله عنه في التَّفسيرِ، ثُمَّ قالَ:«وأشباهُ هذا مِنْ المَوْقوفاتُ يُعدُّ في تفسيرِ الصَّحابةِ، فأمّا مَنْ يقولُ: إنَّ تفسيرَ الصحابيِّ مُسندٌ. فإنَّما يقولُ في غيرِ هذا النَّوعِ»

(4)

، ثُمَّ مثَّلَ له بقولٍ لجابرِ بن عبد الله رضي الله عنه في

(1)

الإتحاف بتمييز ما تبعَ فيه البيضاويُّ صاحبَ الكشّاف (مخطوط، ص: 4). وينظر: النُّكت على كتاب ابن الصّلاح 2/ 530، وتدريب الرّاوي 1/ 283.

(2)

المستدرك على الصَّحيحين 2/ 284. وينظر: 1/ 80، 211، 726، 2/ 289، 4/ 619.

(3)

إعلام الموقعين 6/ 33.

(4)

معرفة علوم الحديث (ص: 148).

ص: 376

سببِ نزولٍ، ثُمَّ قالَ:«هذا الحديثُ وأشباهُه مُسندةٌ عن آخِرِها وليست بمَوقوفةٍ، فإنَّ الصحابيَّ الذي شهدَ الوحيَ والتَّنزيلَ، فأخبرَ عن آيةٍ مِنْ القرآنِ أنَّها نزلَت في كذا وكذا = فإنَّه حديثٌ مُسندٌ»

(1)

.

ومِن شواهدِ تقديمِ أقوالِ الصَّحابةِ في أسبابِ النُّزولِ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) قولُه: «وأَوْلى هذه الأقوالِ في ذلك عندي بالصَّوابِ أن يُقالَ: عُنيَ بذلك: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] قَومٌ مِنْ المنافقين، وجائزٌ أن يكونَ كانَ مِمَّنْ دخلَ في هذه الآيةِ ابنُ صوريّا

(2)

، وجائِزٌ أن يكونَ أبو لُبابةَ، وجائِزٌ أن يكونَ غيرُهما، غيرَ أنَّ أثبتَ شيءٍ رُويَ في ذلك ما ذكرناه مِنْ الرِّوايةِ قبلُ عن أبي هريرةَ والبراءِ بنِ عازبٍ؛ لأنَّ ذلك عن رجُلَيْن مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانَ ذلك كذلك، كانَ الصَّحيحُ مِنْ القَولِ فيه أن يُقالَ: عُنيَ به عبدُ الله بن صوريّا»

(3)

، وقولُه: «والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا أنَّ الذي قالَه مسروقٌ في تأويلِ ذلك أشْبَه بظاهرِ التَّنزيلِ؛ لأنَّ قولَه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] في سياقِ توبيخِ الله تعالى ذِكرُه مُشرِكي قُريشٍ، واحتجاجاً لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، وهذه الآيةُ نظيرةُ سائِرِ الآياتِ قبلَها .. ، غيرَ أنَّ الأخبارَ قد وردَتْ عن جماعةٍ مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأنَّ ذلك عُنيَ به عبدُ الله بن سلامٍ، وعليه أكثرُ أهلِ

(1)

معرفة علوم الحديث (ص: 149). وينظر: تدريب الرّاوي 1/ 1/ 288.

(2)

هو عبد الله بن صوريّا الأعور، مِنْ أعلمِ يهودَ بالتّوراةِ زمنَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتدَّ بعد إسلامِه، وذَكرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) خبرَه قبل ذلك في جامع البيان 8/ 414. وينظر: السيرة النبوية، لابن هشام 1/ 564.

(3)

جامع البيان 8/ 419.

ص: 377

التَّأويلِ، وهُم كانوا أعلَمَ بمعاني القرآنِ، والسَّببِ الذي فيه نزلَ، وما أُريدَ به»

(1)

.

رابعَ عشر: يهتمُّ بثبوتِ الأثرِ في الاستدلالِ عند الحاجةِ؛ كتعارضِ الأقوالِ عن المُفسِّرِ الواحدِ، أو ظهورِ أثرِ ثبوتِ الخبرِ في التَّرجيحِ، ومن ذلك قولُه:«وأما القولُ الذي رُويَ عن شَهرِ بن حَوْشَبٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن عُمرَ رضي الله عنه؛ من تفريقِه بين طلحةَ وحُذَيْفةَ وامرأتَيْهِما اللتَيْن كانَتا كتابيَّتَيْن = فقولٌ لا معنى له؛ لخِلافِه ما الأُمَّةُ مُجتمعَةٌ على تحليلِه بكتابِ الله تعالى ذِكرُه، وخبرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم. وقد رُويَ عن عمرَ بن الخطّابِ رضي الله عنه من القولِ خلافُ ذلك بإسنادٍ هو أصَحُّ منه»

(2)

، وقولُه:«وقد ذكَرْنا الخبرَ الذي رُويَ عن ابنِ مسعودٍ وعن ابنِ عباسٍ أنَّهما كانا يقولان .. ، فإن كانَ ذلك صحيحاً -ولستُ أعلَمُه صحيحاً، إذْ كُنْتُ بإسنادِه مُرتاباً- فإنَّ القَولَ الذي رُويَ عنهما هو القَولُ، وإن يكُن غيرَ صحيحٍ فأَوْلى بتأويلِ الآيةِ ما قُلنا»

(3)

، وقولُه:«وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّةِ ما ذكَرْنا عن ابنِ عباسٍ .. ؛ لأنَّ ذلك أصحُّ الأسانيدِ التي رُويَ عن صحابيٍّ فيه قَولٌ مَخرجاً، وأشبَه الأقوالِ بما دلَّ عليه ظاهرُ التَّنزيلِ»

(4)

، وقولُه عن بعضِ الأقوالِ:«وذلك قَولٌ يُروى عن ابنِ عباسٍ، تركنا ذِكرَه؛ لأنَّ في إسنادِه مَنْ لا نستجيزُ ذِكرَه»

(5)

.

(1)

جامع البيان 21/ 131.

(2)

جامع البيان 3/ 715.

(3)

جامع البيان 1/ 375.

(4)

جامع البيان 15/ 136.

(5)

جامع البيان 19/ 606. وينظر: 4/ 654، 16/ 576، 640، 17/ 95، 21/ 211.

ص: 378

خامسَ عشرَ: لا يجوزُ القولُ بخلافِ قولِ السَّلفِ وإن كانَ مُحتمَلاً، وهذا تطبيقٌ عمليٌّ مِنْ ابنِ جريرٍ (ت: 310) لِما تقرَّرَ مِنْ حُجِّيَّةِ أقوالِ السَّلفِ، ومِن قولِه في ذلك:«وهذه الأقوالُ وإن كانَت غيرَ بعيداتِ المعنى مِمَّا تحتملُه الآيةُ مِنْ التَّأويلِ، فإنَّ تأويلَ أهلَ التَّأويلِ مِنْ علماءِ سَلفِ الأُمَّةِ بخلافِها؛ فلذلك لم نستجِزْ صرفَ تأويلِ الآيةِ إلى معنىً مِنها»

(1)

، وقولُه:«وإذْ كانَ ذلك كذلك، وكانَ لا اختِلافَ بينهم ظاهرٌ، وكانَ ما كانَ مُستفيضاً فيهم ظاهرَ الحُجَّةِ = فالواجِبُ -وإن احتملَ ذلك معنىً غيرَ الذي قالوا- التَّسليمُ لما استفاضَ بصحَّتِه نقلُهم»

(2)

، وردَّ قولاً وقالَ:«وهذا قَولٌ مُخالفٌ تأويلَ مَنْ ذكَرْنا تأويلَه مِنْ أهلِ العِلمِ في تأويلِ {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة: 177]، وإنْ كانَ صحيحاً على مذهَبِ العربيَّةِ»

(3)

، وعِلَّةُ ذلك تتبيَّنُ في المسائِلِ الآتيةِ.

سادسَ عشر: القولُ بخلافِ قولِ السَّلفِ خطأٌ قطعاً؛ إذْ لو كانَ صواباً لقالَه السَّلفُ، وقد قرَّرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مُقدِّمتِه أنَّ ضابطَ إصابةِ الحقِّ في التَّفسيرِ: عدمُ الخروجِ عن أقوالِ السَّلفِ؛ فقالَ: «أحقُّ المفسِّرين بإصابةِ الحقِّ في تأويلِ القرآنِ الذي إلى علمِ تأويلِه للعبادِ السَّبيلُ أوضَحُهم حُجَّةً فيما تأوَّلَ وفسَّرَ .. ، كائِناً مَنْ كانَ ذلك المُتأوِّلُ والمُفسِّرُ، بعدَ ألّا يكونَ خارجاً تأويلُه وتفسيرُه ما تأوَّلَ وفسَّرَ مِنْ ذلك عن أقوالِ السَّلفِ مِنْ الصَّحابةِ والأئِمَّةِ، والخلفِ مِنْ التّابعين وعُلماءِ الأُمَّةِ»

(4)

.

(1)

جامع البيان 2/ 138.

(2)

جامع البيان 8/ 40.

(3)

جامع البيان 3/ 89. وينظر: 8/ 91، 14/ 524، 16/ 104،

(4)

جامع البيان 1/ 89.

ص: 379

ومِن شواهدِ تطبيقِ ذلك في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) قولُه عن بعضِ الأقوالِ: «وهذا القَولُ مع خروجِه مِنْ أقوالِ أهلِ العلمِ، قَولٌ لا وجهَ له»

(1)

، وقولُه: «فأمّا الذي ذُكرَ عن محمد بن أبي موسى

(2)

فإنَّه -مع خروجِه مِنْ قَولِ أهلِ التَّأويلِ- بعيدٌ مِمّا يدلُّ عليه ظاهرُ التَّنزيلِ .. ، ولا دلالةَ في الآيةِ على ما قالَه، ولا أثرَ عمَّن يُعلَمُ بقولِه صِحَّةُ ذلك»

(3)

.

بل جعلَ ابنُ جريرٍ (ت 310) ذلك شاهداً كافياً على خطأِ القولِ، كما في قولِه عن بعضِ الأقوالِ أنَّه:«قولٌ لقَولِ أهلِ التَّأويلِ مُخالفٌ، وكفى بخروجِه عن قَولِ أهلِ العلمِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين، فمَن بعدَهم مِنْ الخالِفين، على خطئِه شاهداً»

(4)

، وقولِه:«وتأويلُ أهلِ التَّأويلِ بخِلافِ ما ذكَرْنا مِنْ هذا القَولِ، وكفى بذلك شاهِداً على فسادِه»

(5)

.

سابعَ عشر: انحصارُ أقوالِ السَّلفِ في قَولَيْن فأكثرَ إجماعٌ مِنهم على أنَّ الصوابَ في أحدِها، وهذا ظاهرٌ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)؛ إمّا بالنَّصِّ عليه، أو بالحكمِ بصِحَّةِ قَولٍ لقيامِ الدَّليلِ على بُطلانِ الآخرِ؛

(1)

جامع البيان 3/ 649.

(2)

شيخٌ بصريٌّ، يروي عن ابنِ عبّاسٍ، ذكرَه البخاريّ (ت: 256) في تاريخه الكبير 1/ 236، وابنُ حبّان (ت: 354) في الثِّقاتِ 5/ 376، وقالَ الذَّهبيّ (ت: 748): «لا يُعرَف» . ميزان الاعتدال 4/ 50. وينظر: غنية الملتمس (ص: 363)، وتعجيل المنفعة 2/ 214.

(3)

جامع البيان 7/ 541. وينظر: 2/ 138، 7/ 593، 13/ 86، 15/ 386، 18/ 319.

(4)

جامع البيان 7/ 116.

(5)

جامع البيان 8/ 565. وينظر: 18/ 301.

ص: 380

حيثُ لا قولَ لأهلِ التَّأويلِ غيرُهما، ومِن شواهدِ ذلك قولُه:«وأَوْلى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ ما قالَه ابنُ عباسٍ .. ؛ لأنَّه لا خِلافَ بين جميعِ أهلِ التَّأويلِ أنَّ تأويلَ ذلك غيرُ خارجٍ عن أحدِ الوَجهَيْن اللذَيْن وصفتُ .. ، فإذْ كانَ لا قولَ في تأويلِ ذلك إلا أحدُ القَوْلَين اللذَيْن وصفتُ، ثُمَّ كانَ أحدُهما غيرَ موجودةٍ على صِحَّتِه الدَّلالةُ مِنْ الوَجهِ الذي يجبُ التَّسليمُ له = صَحَّ الوَجهُ الآخرُ»

(1)

، وقولُه:«وهذا قَولٌ لا نعلمُ له قائِلاً مِنْ مُتقدِّمي العلمِ قالَه وإن كانَ له وجهٌ؛ فإذا كانَ ذلك كذلك، وكانَ غيرُ جائِزٍ عندَنا أن يُتعدّى ما أجمعَتْ عليه الحُجَّةُ، فما صَحَّ مِنْ الأقوالِ في ذلك إلا أحدُ الأقوالِ التي ذكَرْناها عن أهلِ العلمِ»

(2)

، وكذا قولُه:«فإذا فسدَ هذانِ القَولانِ فلا قَولَ قالَ به القُدوةُ مِنْ أهلِ العلمِ إلا الثّالثُ»

(3)

، وقولُه:«وفي فسادِ هذا القَولِ بالذي ذكَرْنا، أَبينُ الدَّلالةِ على صِحَّةِ القَولِ الآخرِ؛ إذْ لا قَولَ في ذلك لأهلِ التَّأويلِ غيرُهما»

(4)

.

ثامنَ عشر: يُضيفُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) قيوداً وألفاظاً يعتمدُها في بيانِه للمعنى اعتماداً على أقوالِ السَّلفِ، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]: «يقولُ تعالى ذِكرُه: قالَ العالِمُ: إنَّك لن تُطيقَ الصَّبرَ معي؛ وذلك أنّي أعملُ بِباطنِ عِلمٍ علَّمَنيه اللهُ، ولا

(1)

جامع البيان 1/ 533.

(2)

جامع البيان 23/ 179.

(3)

جامع البيان 12/ 583.

(4)

جامع البيان 4/ 466. وينظر: 4/ 638، 6/ 707، 7/ 266، 286، 24/ 419.

ص: 381

عِلمَ لك إلا بالظّاهرِ مِنْ الأمورِ، فلا تصبِرُ على ما ترى مِنّي مِنْ الأفعالِ. كما ذَكرْنا مِنْ الخَبرِ عن ابنِ عباسٍ قبلُ

(1)

، مِنْ أنَّه كانَ رجلاً يعملُ على الغَيْبِ، قد عُلِّمَ ذلك»

(2)

، وقولِه في قولِه تعالى {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]: «يعني: الصّابرين عند البأسِ على ما ينالُهم في ذاتِ الله مِنْ جُروحٍ وألَمٍ ومَكروهٍ. كما حدَّثنا .. ، عن ابنِ إسحاقَ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142]، وتُصيبوا مِنْ ثوابي الكرامةَ، ولَمْ أختبِرْكُم بالشِّدَّةِ، وأبتليكُم بالمَكارِه، حتى أعلَمَ صِدقَ ذلك مِنكم؛ الإيمانُ بي، والصَّبرُ على ما أصابَكم فيَّ؟»

(3)

، فحملَ الصَّبرَ العامَّ في الآيةِ على الصَّبرِ على المكارِه، كما ذكرَ ابنُ إسحاقَ (ت: 150).

تاسعَ عشر: يتقي ابنُ جريرٍ (ت: 310) ما لَمْ يَسبِقهُ إليه أحدٌ مِنْ السَّلفِ، ومِن ذلك قولُه عند قولِه تعالى {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]: «وقدْ كانَ -لو أنَّ المُفسِّرين كانوا فسَّروه كذلك-: وهُزّي إليك رُطباً بجِذعِ النَّخلةِ. بمعنى: على جذعِ النَّخلةِ = وجهاً صَحيحاً، ولكن لستُ أحفظُ عن أحدٍ أنَّه فسَّرَه كذلك»

(4)

، وقولُه في قولِه تعالى {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 101]: «ولو قيلَ: تأويلُه: فما كانَ هؤلاءِ الذين ورِثوا الأرضَ يا مُحمّدُ مِنْ

(1)

ذكرَه في 15/ 327.

(2)

جامع البيان 15/ 334. وقد ذكرَ خبرَ ابنَ عبّاسٍ رضي الله عنه قبلَ ذلك 15/ 327.

(3)

جامع البيان 6/ 91. وينظر: 16/ 79، 168.

(4)

جامع البيان 15/ 512.

ص: 382

مُشرِكي قومِك مِنْ بعدِ أهلِها الذين كانوا بها، مِنْ عادٍ وثمودَ = ليؤْمنوا بما كذَّبَ به الذين وَرِثوها عنهم مِنْ توحيدِ الله ووَعْدِه ووَعيدِه. كانَ وَجهاً ومَذهباً، غيرَ أنّي لا أعلمُ قائِلاً قالَه مِمَّنْ يُعتَمَدُ على عِلْمِه بتأويلِ القرآنِ»

(1)

، وقولُه مُعلِّلاً ردَّ بعضِ الأقوالِ:«وذلك ما لا نعلَمُ أحداً مِنْ أهلِ العلمِ قالَه»

(2)

.

عشرون: يُفرِّقُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بين القَولِ بما لَم يَرِدْ عن السَّلفِ في التَّفسيرِ، والقولِ بخلافِ ما وردَ عنهم، فالثّاني هو المَمنوعُ قَطعاً، أمّا الأوَّلُ فصحيحٌ مَوجودٌ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)؛ ومَنهجُه فيه نظيرُ مَنهجِ السَّلفِ فيما وردَ عنهم، فلا يخرجُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عن أقوالِ السَّلفِ فيما رُويَ عنهم، ولا يخرُجُ عن مَنهجِهم فيما لم يُروَ عنهم فيه قَولٌ مِنْ معاني الآياتِ. وأمثلةُ ذلك مِنْ المواضعِ التي أبانَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) معناها ولم يروِ فيها شيئاً عن السَّلفِ كثيرةٌ ظاهرةٌ

(3)

.

والخَلطُ بين هَذيْن الأَمرَيْن في التَّفسيرِ: (القَولُ بما لم يَرِدْ عن السَّلفِ)، و (القَولُ بخلافِ ما وردَ عنهم) = مِنْ أكبرِ أسبابِ الخَطأِ في التَّفسيرِ، والخروجِ عن طريقةِ أئِمَّةِ المُفسِّرين فيه، كما أنَّ ذلك الخَلطَ هو مَنشأُ الشُّبهةِ التي يُثيرُها مَنْ لا يتحرَّجُ مِنْ الخروجِ عن أقوالِ السَّلفِ فيما وردَ عنهم؛ وهي قَولُهم: إنَّ عدمَ الخروجِ عن أقوالِ السَّلفِ في

(1)

جامع البيان 10/ 339.

(2)

جامع البيان 3/ 409. وينظر: 12/ 605، 16/ 38.

(3)

ينظر: جامع البيان 2/ 190 - 194، 3/ 293، 523، 10/ 403، 22/ 80 - 81، 386 - 387.

ص: 383

التَّفسيرِ فيه تركُ تفسيرِ كثيرٍ مِنْ الآياتِ التي لم يَرِدْ عن السَّلفِ فيها قَولٌ، كما فيه حَجْرُ معانٍ كثيرةٍ صحيحةٍ لم ترِدْ عنهم فيها. والجوابُ عن ذلك يسيرٌ وظاهرٌ في منهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)؛ وهو: صِحَّةُ القَولِ بما لم يَرِدْ عنهم فيه شيءٌ مِنْ المعاني، وبمِثلِ منهجِهم. وذلك معنىً غيرُ معنى الخروجِ عمّا وردَ عنهم.

إحدى وعشرون: قولُ السَّلفِ هو الحاكمُ على أقوالِ أهلِ العربيّةِ في معاني الآياتِ، ومع كثرةِ ما أَوردَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ أقوالِ أهلِ العربيّةِ، ومذاهبِهم في المعاني، إلّا أنَّه لا يُقدِّمُ مِنْ أقوالِهم غيرَ ما وافقَ تأويلَ السَّلفِ، ويُميِّزُ أقوالَهم عن قَولِ أهلِ التَّفسيرِ.

ومن شواهِدِ ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80]: «والّلبوسُ عند العربِ: السِّلاحُ كُلُّه .. ، وأمّا في هذا المَوضِعِ فإنَّ أهلَ التَّأويلِ قالوا: عَنى الدُّروعَ»

(1)

، وقولُه:«والقَولُ الذي يقولُه أهلُ العلمِ أَوْلى بالصَّوابِ، وهو القَولُ الأوَّلُ الذي ذكَرْتُ .. ، وبذلك جاءَتْ الرِّوايةُ عن جماعةٍ مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والقَوْلان الآخران على مذاهبِ أهلِ العربيَّةِ»

(2)

، وقولُه:«والصّوابُ عندي في ذلك ما قالَ أهلُ العلمِ الذين حكَيْنا قولَهم؛ لأنَّهم أعلمُ بذلك، وإنْ كانَ للذي قالَه مَنْ ذكَرْنا قولَه مِنْ أهلِ العربيَّةِ وجهٌ»

(3)

، وقولُه: «والقَولُ الذي

(1)

جامع البيان 16/ 329.

(2)

جامع البيان 20/ 162.

(3)

جامع البيان 24/ 437.

ص: 384

قالَه مَنْ حكَيْنا عنه مِنْ أهلِ البَصرةِ قَولٌ لا نعلمُ أحداً مِنْ أهلِ التَّأويلِ قالَه، وإن كانَ له وجهٌ؛ فلذلك ترَكْنا القولَ به»

(1)

.

ولأنَّ الإعرابَ فرعٌ عن المعنى فإنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) يُقدِّمُ مِنْ وجوهِ الإعرابِ ما وافقَ المعنى الواردَ عن السَّلفِ، ومن ذلك قولُه: «وفي نصبِ {أَمَدًا} [الكهف: 12] وجهان: أحدُهما: أن يكونَ منصوباً على التَّفسيرِ

(2)

مِنْ قولِه {أَحْصَى} [الكهف: 12]، كأنَّه قيلَ: أيُّ الحِزبَيْن أصوَبُ عدداً لِقَدرِ لُبْثِهم. وهذا أَوْلى الوَجهَيْن في ذلك بالصَّوابِ؛ لأنَّ تفسيرَ أهلِ التَّفسيرِ بذلك جاءَ»

(3)

.

اثنان وعشرون: بيَّنَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أسبابَ مخالفةِ أقوالِ السَّلفِ في التَّفسيرِ في عِدَّةِ مواضِعَ مِنْ تفسيرِه، ومِن خلالِ تلك النُّقولِ تتلخَّصُ أهمُّ أسبابِ مُخالفةِ أقوالِ السَّلفِ في الآتي:

1 -

الاعتدادُ بالرَّأيِ، وحملُ القرآنِ عليه بلا دليلٍ مُعتبرٍ، كما في قولِه:«وقد زعمَ بعضُ أهلِ العلمِ بلُغاتِ العربِ مِنْ أهلِ البصرةِ أنَّ معنى قولِه {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39]: بكتابٍ مِنْ الله. مِنْ قَولِ العربِ: أنشدَني فلانٌ كلِمةَ كذا. يُرادُ به قصيدةُ كذا. جهلاً مِنه بتأويلِ الكلمةِ، واجتراءً على ترجمةِ القرآنِ برأيِه»

(4)

، وقولِه: «وأمّا آخرون

(1)

جامع البيان 22/ 7. وينظر: 3/ 89، 12/ 528، 13/ 125، 473، 538، 16/ 49، 18/ 19.

(2)

مصطلحٌ نحويٌّ كوفيٌّ بمعنى: التمييز. ينظر: النحو وكتب التفسير 1/ 585، والطَّبري والجهود النحوية في تفسيرِه (ص: 437).

(3)

جامع البيان 15/ 178. وينظر: 18/ 19.

(4)

جامع البيان 5/ 374.

ص: 385

مِمَّنْ خالفَ أقوالَ السَّلفِ، وتأوَّلوا القرآنَ بآرائِهم، فإنَّهم قالوا في ذلك أقوالاً مُختلفةً»

(1)

، فذكرَ قولَيْن لهم، ثُمَّ أبطلَهُما، وقالَ:«هذا مع خِلافِهما جميعَ أهلِ العلمِ بتأويلِ القرآنِ، الذين عنهم يُؤخَذُ تأويلُه»

(2)

.

2 -

حملُ الكلامِ على أيِّ وجهٍ يحتملُه، كما في قولِه:«وأمّا الذين ذكَرْنا قولَهم مِنْ أهلِ العربيّةِ، فقد قالوا على مذهبِ العربيّةِ، غيرَ أنَّهم أغفَلوا معنى الكلمةِ، وحَمَلوها على غيرِ وَجْهِها مِنْ التَّأويلِ، وإنّما ينبغي أن يُحملَ الكلامُ على وجهِه مِنْ التَّأويلِ، ويُلتمَسُ له على ذلك الوجهِ للإعرابِ في الصِّحَّةِ مَخرَجٌ، لا على إحالةِ الكلمةِ عن معناها ووَجْهِها الصَّحيحِ مِنْ التَّأويلِ»

(3)

، وقولِه:«وإنَّما اختَرْنا هذا القَولَ على غيرِه مِنْ الأقوالِ لموافقتِه أقوالَ أهلِ العلمِ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين .. ، فأمّا الذين قالوا في ذلك غيرَ ما قُلنا مِمَّنْ قالَ فيه على وَجْهِ الانتِزاعِ مِنْ كلامِ العربِ، مِنْ غيرِ أن يعزوَه إلى إمامٍ مِنْ الصَّحابةِ أو التّابعين، وعلى وَجْهِ تحميلِ الكلامِ غيرَ وَجْهِه المَعروفِ، فإنَّهم اختلفوا في معناه بيْنَهم»

(4)

، ثُمَّ ذكرَ أقوالَهم، وقالَ:«وكُلُّ هذه الأقوالِ التي ذكَرْناها عمَّن ذكَرْنا توجيهٌ مِنهم للكلامِ إلى غيرِ الأغلبِ عليه مِنْ وجوهِه عند المُخاطَبين به، ففي ذلك -مع خِلافِهم تأويلَ أهلِ العلمِ فيه- شاهِدا عدلٍ على خطأِ ما ذَهبوا إليه فيه»

(5)

.

(1)

جامع البيان 13/ 86.

(2)

المرجع السابق.

(3)

جامع البيان 18/ 19.

(4)

جامع البيان 16/ 39.

(5)

جامع البيان 16/ 41.

ص: 386

‌المبحثُ السّادسُ: منهجُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني.

أصلُ اللُّغةِ في كلامِ العربِ لُغوَةٌ؛ مِنْ لَغا إذا تكلَّمَ

(1)

. وقيلَ: مِنْ لَغِيَ بالأمرِ إذا لَهجَ به

(2)

. وقيلَ: مِنْ اللَّغوِ؛ وهو النُّطقُ

(3)

، أو هو الطَّرحُ؛ لِما فيها مِنْ طرحِ الكلامِ

(4)

.

أمّا في الاصطلاحِ فإنَّ أشهرَ ما عُرِّفَت به اللُّغةُ قَولُ ابنِ جِنّي (ت: 392): «أصواتٌ يُعبِّرُ بها كلُّ قَومٍ عن أغراضِهم»

(5)

، وقيلَ:«هي الكلامُ المُصطلحُ عليه بين كُلِّ قبيلٍ»

(6)

.

(1)

ينظر: تهذيب اللغة 8/ 173.

(2)

ينظر: مقاييس اللغة 2/ 480.

(3)

ينظر: لسان العرب 20/ 118.

(4)

ينظر: تاج العروس 39/ 462.

(5)

الخصائص 1/ 87. وينظر: مقدمات تفسير الأصفهاني (ص: 125)، والمعجم الوسيط (ص: 831).

(6)

تاج العروس 39/ 462.

ص: 388

فلُغةُ العربِ هي: ما تُعبِّرُ به العربُ عن مقاصدِها؛ مِنْ ألفاظِها، وأساليبِ معانيها التي تُورَدُ بها.

والمُرادُ بالاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني هو:

إقامَةُ لغةِ العربِ دليلاً لتصحيحِ المعاني وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

أو: الإبانَةُ بدليلِ اللُّغةِ عن صِحَّةِ المعاني وبطلانِها.

وابنُ جريرٍ (ت: 310) يجمعُ في استدلالِه بلُغةِ العربِ بين ما نُقلَ مِنْ نثرِها وشعرِها، وسنجمعُ بينهما في عامَّةِ المسائلِ فيما يأتي بإذنِ الله.

وأمثلةُ استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) باللُّغةِ على المعاني في تفسيره كثيرةٌ ظاهِرةٌ، وهي على نوعين:

النَّوعُ الأوَّلُ: استدلالُه باللُّغةِ لقبولِ المعاني وتصحيحِها، ومن ذلك قولُه في قولِه تعالى {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 107]: «وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ مَنْ قالَ: عَنى بالعِوَجِ: المَيَلَ؛ وذلك أنَّ ذلك هو المعروفُ في كلامِ العربِ»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66]: «وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ مَنْ قالَ: معناه: إنّا لمُعذَّبون. وذلك أنَّ الغرامَ عند العربِ: العذابُ. ومِنه قولُ الأعشى

(2)

:

(1)

جامع البيان 16/ 166.

(2)

هو ميمون بن قيس بن جندل، الأعشى الكبير، مِنْ أعلامِ شُعراءِ الجاهليَّةِ وفحولِهم، ومِن أصحابِ المُعلَّقاتِ، أدركَ زمنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم يُسلِم. ينظر: طبقات فحول الشّعراء 1/ 52، والأغاني 9/ 80.

والبيت في ديوانِه (ص: 9).

ص: 389

إن يُعاقِب يكُن غراماً وإن يُعْ

طِ جَزيلاً فإنَّه لا يُبالي»

(1)

.

وقولُه في قولِه تعالى {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]: «ومِن الدَّليلِ على صِحَّةِ ما قُلنا مِنْ معنى الإسرافِ أنَّه على ما قُلنا، قَولُ الشّاعرِ

(2)

:

أعطَوا هُنَيْدةَ

(3)

يحدوها ثمانيةٌ

ما في عطائِهم مَنٌّ ولا سَرَفُ»

(4)

.

وقولُه في قولِه تعالى {أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]: «ومِن الدَّليلِ على أنَّ الأثاثَ هو المتاعُ، قَولُ الشّاعرِ

(5)

:

أهاجَتك الظَّعائِنُ يومَ بانوا

بذي الرِّئْيِ الجَميلِ مِنْ الأثاثِ»

(6)

.

النَّوعُ الثّاني: استدلالُه باللُّغةِ لرَدِّ المعاني وإبطالِها، ومن أمثلَتِه قولُه عن بعضِ التَّأويلِ في قولِه تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]: «وهذا التَّأويلُ وإن كانَ وجهاً مِنْ وجوهِ التَّأويلِ، فإنَّ الصَّحيحَ مِنْ القولِ فيه ما قُلنا؛ لأنَّ الغُرورَ إنَّما هو الخِداعُ في كلامِ العربِ، وإذْ كانَ كذلك فلا وجهَ لصَرْفِه إلى معنى القِلَّةِ؛ لأنَّ الشيءَ قد يكونُ قليلاً وصاحبُه مِنه في غيرِ خِداعٍ ولا غرورٍ، فأمّا الذي هو في

(1)

جامع البيان 22/ 352.

(2)

هو جرير الخَطفي، والبيت في ديوانه 1/ 174.

(3)

هو اسمٌ لكُلِّ مائةٍ مِنْ الإبلِ وغيرِها. ينظر: تاج العروس 9/ 348.

(4)

جامع البيان 9/ 618.

(5)

هو محمد بن نمير الثقفي، والبيت في مجاز القرآن 1/ 365.

(6)

جامع البيان 14/ 318. وينظر: 2/ 693، 7/ 272، 12/ 84، 18/ 341، 470، 24/ 725.

ص: 390

غرورٍ، فلا القليلُ يصِحُّ له ولا الكثيرُ، ممّا هو مِنه في غُرورٍ»

(1)

، وقولُه عن قَولٍ يُذكرُ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه:«وأمّا القولُ الذي روى الفرجُ بن فضالَةَ، عن علي بن أبي طلحةَ، فقَولٌ لا معنى له؛ لأنَّه خلافُ المعروفِ مِنْ كلامِ العربِ، وخلافُ ما يُعرفُ مِنْ قولِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما»

(2)

، وأَوردَ قولَ ابنَ زيدٍ (ت: 182): «{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفِيل: 4]: قالَ: السّماءِ الدُّنيا. قالَ: والسَّماءُ الدُّنيا اسمُها سجّيلٌ»

(3)

، ثُمَّ قالَ:«وهذا القولُ الذي قالَه ابنُ زيدٍ لا نعرفُ لصِحَّتِه وجهاً في خبرٍ ولا عقلٍ ولا لُغةٍ، وأسماءُ الأشياءِ لا تُدركُ إلا مِنْ لُغةٍ سائِرةٍ، أو خبرٍ مِنْ الله تعالى ذِكرُه»

(4)

.

وقد بلغَت المواضِعُ التي استدَلَّ فيها باللُّغةِ على المعاني (2183) موضِعاً، ونسبةُ الاستدلالِ بدليلِ اللُّغةِ من مجموع الأدلَّة (20. 1%)، وهي نِسبةٌ كبيرةٌ، تأتي بعد دليلِ أقوالِ السَّلفِ في الكثرةِ؛ وذلك لِما لدليلِ اللُّغةِ مِنْ الأهميَّةِ في الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ. وقد جاءَ استدلالُه باللُّغةِ على وَجهَيْن:

1 -

استدلالُه بمنثورِ كلامِ العربِ، وذلك في (974) موضِعاً، ونِسبةُ ذلك مِنْ أدلَّةِ اللُّغةِ (44. 6%).

2 -

استدلالُه بأشعارِ العربِ، وذلك في (1209) مواضِعَ، ونِسبةُ ذلك مِنْ أدلَّةِ اللُّغةِ (55. 4%).

(1)

جامع البيان 6/ 289.

(2)

جامع البيان 13/ 198.

(3)

جامع البيان 24/ 635.

(4)

المرجع السابق. وينظر: 1/ 651، 2/ 154، 471، 6/ 510، 11/ 609، 24/ 525.

ص: 391

وابنُ جريرٍ (ت: 310) -عند الحاجةِ لاستِعمالِ دليلِ اللُّغةِ- يُقدِّمُه في الأكثرِ، وغالباً ما يقترنُ ذِكرُه بدليلِ أقوالِ السَّلفِ؛ لما لها مِنْ الأثرِ على توجيه الاستدلالِ اللغويِّ وضبطِه، على ما سيتبيَّنُ بإذنِ الله.

‌المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني.

توافرَتْ الأدلَّةُ على صِحَّةِ الاحتجاجِ بلغةِ العربِ على معاني كلامِ الله تعالى، وفيما يأتي بيانُها:

أوَّلاً: أنَّ الله تعالى وصفَ كتابَه بأنَّه عربيٌّ؛ فقالَ تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقالَ {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113]، وبيَّنَ أنَّه بلسانِ العربِ نازلٌ؛ فقالَ سبحانه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وقالَ {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12]، ونفى عنه كُلَّ لسانٍ غير لسانِ العربِ فقالَ سبحانه {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقالَ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَت: 44]، قالَ الشّافعي (ت: 204): «والقرآنُ يدلُّ على أنْ ليس مِنْ كتابِ الله شيءٌ إلا بلسانِ العربِ»

(1)

.

فلمّا كانَ ذلك كذلك كانَت لغةُ العربِ أَولى ما يُستدلُّ بها على معاني القرآنِ الكريمِ؛ لنزولِه مطابقاً لألفاظِها وأساليبِها وعادتِها في

(1)

الرسالة (ص: 42).

ص: 392

كلامِها، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «الواجبُ أن تكونَ معاني كتابِ الله المُنزَّلِ على نبيّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لمعاني كلامِ العربِ موافقةً، وظاهرُه لظاهرِ كلامِها مُلائِماً .. ، فإذْ كانَ ذلك كذلك، فبيّنٌ إذْ كانَ موجوداً في كلامِ العربِ الإيجازُ والاختصارُ، والاجتزاءُ بالإخفاءِ مِنْ الإظهارِ، وبالقلَّةِ مِنْ الإكثارِ في بعضِ الأحوالِ، واستعمالُ الإطالةِ والإكثارِ، والتَّردادِ والتَّكرارِ .. ، أن يكونَ ما في كتابِ الله المُنزَّلِ على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلك في كلِّ ذلك له نظيراً، وله مِثلاً وشبيهاً»

(1)

، ومِن هذا الوَجهِ كانَ توجيهُ الصَّحابةِ النّاسَ إلى اعتمادِ كلامِ العربِ في فهمِ القرآن؛ فقالَ عمرُ بن الخطّابِ رضي الله عنه:«أيُّها النّاسُ: عليكُم بديوانِكم شعرِ الجاهليَّةِ؛ فإنَّ فيه تفسيرَ كتابِكم، ومعاني كلامِكم»

(2)

، وقالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنه:«إذا خفيَ عليكم شيءٌ مِنْ القرآنِ فابتغوه في الشِّعرِ؛ فإنَّه ديوانُ العربِ»

(3)

.

ثانياً: اتِّفاقُ عملِ المُفسِّرين مِنْ السَّلفِ فمن بعدَهم على صِحَّةِ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني القرآنيَّةِ، وذلك مِنهم إجماعٌ عمليٌّ، وقد سبقَهم «إجماعُ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على تفسيرِ القرآنِ على شرائطِ اللُّغةِ»

(4)

، وقد أسندَ أبو عبيدٍ القاسمُ بن سلّامٍ (ت: 224)

(1)

جامع البيان 1/ 12. وقارِن بما في الرسالة (ص: 52).

(2)

الكشف والبيان 6/ 19، والجامع لأحكام القرآن 12/ 332.

(3)

عزاه السيوطي في الدرّ 8/ 237 لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وغيرهم. وينظر: الجامع لأخلاق الراوي 2/ 295.

(4)

مقدمتان في علوم القرآن (ص: 201)، وقد حكى الإجماعَ فيه صاحبُ كتابِ (المباني لنظمِ المعاني).

ص: 393

عن عبيدِ الله بن عبدِ الله بن عُتبةَ، عن ابنِ عباسٍ:«أنَّه كانَ يُسألُ عن القرآنِ فيُنشدُ فيه الشِّعرَ»

(1)

، ثُمَّ قالَ:«يعني أنَّه كانَ يستشهدُ به على التَّفسيرِ»

(2)

، ويشهدُ لهذا المعنى قولُ يوسف بن مهران

(3)

، وسعيد بن جبير (ت: 95): «كنّا نسمعُ ابنَ عباسٍ كثيراً ما يُسألُ عن القرآنِ، فيقولُ: هو كذا أو كذا، ما سمعتُم الشّاعرَ يقول كذا وكذا؟»

(4)

، وقالَ أبو عبيدٍ (ت: 224) أيضاً: «في حديثِ أبي وائلٍ في قولِ الله عز وجل {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، قالَ: دلوكُها: غروبُها؛ وهو في كلامِ العربِ: دلَكَتْ براحِ»

(5)

، ثُمَّ قالَ: «وفي هذا الحديثِ حُجَّةٌ لمن ذهبَ بالقرآنِ إلى كلامِ العربِ -إذا لم يكُنْ فيه حلالٌ ولا حرامٌ

(6)

-؛ ألا تراه يقولُ: وهو في كلامِ العربِ دلكَتْ براحِ»

(7)

، وقد جعلَ ابنُ جُزي (ت: 741) دليلَ اللُّغةِ مِنْ موجباتِ التَّرجيحِ في التَّفسيرِ، فقالَ:«الخامسُ: أن يدُلَّ على صِحَّةِ القولِ كلامُ العربِ»

(8)

.

(1)

فضائل القرآن (ص: 205).

(2)

المرجع السابق.

(3)

يوسف بن مِهران البَصريّ، روى عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، ذكرَه ابنُ سعدِ (ت: 230) في الطَّبقةِ الثّانيةِ مِنْ التّابعين، ووثَّقَه وأبو زرعة (ت: 264). ينظر: الطبقات الكبرى 7/ 115، والجرح والتعديل 9/ 229.

(4)

الطبقات الكبرى (الجزء المُتمّم لطبقات الصَّحابة) 1/ 162، والجامع لأخلاق الراوي 2/ 294.

(5)

غريب الحديث 2/ 388.

(6)

مُرادُه بذلك ما نقلَه الشَّرعُ مِنْ المعاني، وصارَتْ له حقيقةٌ شرعيَّةٌ، أو ما كانَ موضوعُه إثباتَ حكمٍ شرعيٍ؛ فإنَّ اللغةَ لا مدخلَ لها في ذلك بعد شهادتِها بصحَّةِ لفظِه وتركيبِه على سَنَنِ كلامِ العربِ.

(7)

غريب الحديث 2/ 388.

(8)

التسهيل 1/ 20.

ص: 394

واستدلالاتُ السَّلفِ باللُّغةِ على التَّفسيرِ غايةٌ في الكثرةِ، ومِنها قولُ إبراهيم النَّخعي (ت: 96): «العربُ تقولُ: اشْرِ لي كذا وكذا. أي: بِعْ لي كذا وكذا. وتلا هذه الآية {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]، يقول: باعوه»

(1)

، وقولُ عبدِ الله بن كثيرٍ (ت: 120) في قولِه تعالى {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113]: «سمِعنا العربَ تقولُ: آناءُ الليلِ: ساعاتُ الليلِ»

(2)

، وقولُ عبدِ الرحمن بن زيدٍ (ت: 182) في قولِه تعالى {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18]: «ما نَعرِفُ المذؤومَ والمَذمومَ إلا واحداً، ولكن تكونُ الحروفُ منتَقَصَةً، وقد قالَ الشاعرُ لعامرٍ: يا عامِ. ولحارثٍ: يا حارِ. وإنَّما أُنْزِلَ القرآنُ على كلامِ العربِ»

(3)

، وقالَ عكرمةُ (ت: 105): «كانَ ابنُ عباسٍ إذا سُئِلَ عن شيءٍ مِنْ القرآنِ، أنشدَ شِعراً مِنْ أشعارِهم»

(4)

، وسُئِلَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنه عن قولِه تعالى {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]، فقالَ: «المَريجُ: الشيءُ المُنكرُ؛ أما سمعتَ قولَ الشّاعرِ

(5)

:

فجالَتْ والتمستُ به حشاها

فخرَّ كأنَّه خُوطٌ مَريجُ

(6)

(7)

.

(1)

جامع البيان 13/ 51.

(2)

جامع البيان 5/ 696.

(3)

جامع البيان 10/ 104.

(4)

مصنف ابن أبي شيبة 5/ 278. وينظر: البسيط، للواحدي 1/ 405.

(5)

البيتُ في ديوان الهذليين 3/ 103، في شعرِ عمرو بن الداخل، ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 222 إلى أبي ذؤيب الهذلي، وليس في ديوانِه.

(6)

الخوطُ المَريجُ: غصنٌ له شعبٌ قِصارٌ قد التبَسَت. ينظر: تهذيب اللُّغة 11/ 51.

(7)

جامع البيان 21/ 406.

ص: 395

وقالَ عكرمةُ (ت: 105): «{أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]: ألّا تميلوا. ثُمَّ قالَ: أما سمعتَ إلى قولِ أبي طالبٍ:

بميزانِ قِسطٍ وَزنُه غيرُ عائِلِ»

(1)

.

وقد نُقلَ عن الإمامِ أحمدَ بن حنبل (ت: 241) المنعُ مِنْ الاستشهادِ بالشِّعرِ على القرآنِ؛ وذلك في قولِه حين سُئِلَ عن القرآنِ يُتمثَّلُ له بشيءٍ مِنْ الشِّعرِ؟ فقالَ: «ما يُعجبُني»

(2)

، وليس ذلك بمُخالِفٍ لما سبقَ تقريرُه؛ لأنَّه ليس نصّاً في المَنعِ

(3)

، وفي حالِ ثبوتِه عنه فقد اختُلِفَ في توجيهِه على أقوالٍ؛ فقيلَ: ظاهرُه المنعُ. وقيلَ: بل الكراهةُ. وقيلَ: بل مُرادُه مَنْ يصرفُ الآيةَ عن ظاهرِها المُتبادرِ إلى معانٍ مُحتملةٍ يدُلُّ عليها القليلُ مِنْ كلامِ العربِ المنقولِ شِعراً

(4)

. ولو حُمِلَ على إرادةِ المنعِ مِنْ الاحتجاجِ بالشِّعرِ على معاني القرآنِ -ولو كراهةً- لكانَ اجتهاداً مُقابَلاً بعملِ عامَّةِ السَّلفِ والأئِمَّةِ على ما سبقَ بيانُه، وحسبُه ذلك بُعداً عن الصَّوابِ.

كما لا يُعارِضُ هذا البابَ تورُّعُ بعضِ العلماءِ عن قَرْنِ الشِّعرِ بالقرآنِ في الذِّكرِ؛ كما في قولِ ابنِ فارسٍ (ت: 395): «القَبْرُ: قبرُ الميّت، يُقالُ: قبَرْتُه أقبُرُه؛ قالَ الأعشى

(5)

:

(1)

جامع البيان 6/ 377. وينظر: 14/ 302، 15/ 509، 609، 16/ 243، 22/ 130، 240، 23/ 187.

(2)

مصنف ابن أبي شيبة 5/ 278. وينظر: البسيط، للواحدي 1/ 405.

(3)

ينظر: روح المعاني 1/ 10، والمدخل المُفصّل 1/ 247.

(4)

ينظر: العُدَّة في أصول الفقه 3/ 720، والمسوَّدة في أصول الفقه 1/ 383، والتحرير والتنوير 1/ 23.

(5)

ديوانُه (ص: 139).

ص: 396

لو أسندَتْ مَيْتاً إلى نحرِها

عاشَ ولم يُنقَلْ إلى قابِرِ

فإنْ جعلتَ له مكاناً يُقبَرُ فيه قُلتَ: أقْبَرْتُه؛ قالَ الله تعالى {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]. قُلنا: ولولا أنَّ العلماءَ تجوَّزوا في هذا لَما رأَيْنا أن يُجمَعَ بين قَولِ الله وبين الشِّعرِ في كتابٍ، فكيفَ في ورقةٍ أو صفحةٍ؛ ولكنّا اقتدينا بهم، والله تعالى يغفرُ لنا، ويعفو عنّا وعنهم»

(1)

، فذلك رأيٌ خاصٌّ للواحدِ في نفسِه، ولا يُقضى به على مناهجِ العلومِ، وهو ما يُفهمُ مِنْ نصِّ ابنِ فارسٍ (ت: 395) على أنَّها عادةُ العلماءِ، وأنَّهم قدوتُه في ذلك، وأنَّه لهم تبعٌ، وإن كانَ رأيُه التورُّعُ عن ذلك.

وقد أجابَ ابنُ الأنباريّ

(2)

(ت: 328) عمّا أُنكِرَ على بعضِ النَّحويّين مِنْ ذلك، فقالَ بعدَ أن أَوردَ كثيراً مِنْ استشهاداتِ السَّلفِ بالشِّعرِ على التَّفسيرِ:«وهذا كثيرٌ في الحديثِ عن الصَّحابةِ والتّابعين إلا أنّا نجتزئُ بما ذكَرْنا كراهيةً لتطويلِ الكتابِ، وإنَّما دعانا إلى ذكرِ هذا أنَّ جماعةً لا علمَ لهم بحديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا معرفةَ لهم بلغةِ العربِ، أنكروا على النَّحويّين احتجاجَهم على القرآنِ بالشِّعرِ، وقالوا: إذا فعلتُم ذلك جعلتُم الشِّعرَ أصلاً للقرآنِ»

(3)

، ثُمَّ أجابَ عن ذلك بقولِه: «فأمّا ما ادَّعَوه على النَّحويّين مِنْ أنَّهم جعلوا الشِّعرَ أصلاً للقرآنِ، فليس كذلك،

(1)

مقاييس اللغة 2/ 381. وينظر: الصّاحبي (ص: 34).

(2)

محمد بن القاسم بن محمد الأنباري، أبو بكر، لُغويٌّ أديبٌ آيةٌ في الحفظِ، صنَّفَ: إيضاح الوقف والابتداء، والأضداد، وغيرها، مات سنة (328). ينظر: نزهة الألباء (ص: 231)، وإنباه الرّواة 3/ 201.

(3)

إيضاح الوقف والابتداء (ص: 74).

ص: 397

إنَّما أرادوا أن يتبيَّنوا الحرفَ الغريبَ مِنْ القرآنِ بالشِّعرِ؛ لأنَّ الله تعالى قالَ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزُّخرُف: 3]، وقالَ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وقالَ ابنُ عباسٍ: الشِّعرُ ديوانُ العربِ. فإذا خَفيَ عليهم الحرفُ مِنْ القرآنِ الذي أنزلَه الله بلغةِ العربِ رجعوا إلى ديوانِها فالتمسوا معرفةَ ذلك مِنه»

(1)

، وقالَ أيضاً:«وجاءَ عن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم مِنْ الاحتجاجِ على غريبِ القرآنِ ومُشْكِلِه باللُّغةِ والشِّعرِ ما بيَّنَ صِحَّةَ مذهبِ النَّحويّين في ذلك، وأَوْضحَ فسادَ مذهبِ مَنْ أنْكرَ عليهم»

(2)

.

ثالثاً: أنَّ الجهلَ بدليلِ لغةِ العربِ مِنْ أعظمِ ما يوقِعُ في التَّأويلاتِ الباطلةِ لآيِ القرآنِ الكريمِ، ولذلك كثُرَ تحذيرُ السَّلفِ مِنْ الكلامِ في التَّفسيرِ لغيرِ العالمِ بكلامِ العربِ؛ مِنْ ذلك قولُ مجاهد (ت: 104): «لا يَحلُّ لأحدٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أن يتكلَّمَ في كتابِ الله إذا لم يكُنْ عالماً بلُغاتِ العربِ»

(3)

، وقولُ الحسن (ت: 110): «أهلكتهُم العُجْمةُ؛ يتأوَّلون القرآنَ على غيرِ تأويلِه»

(4)

، وقولُ الزُّهري (ت: 124): «إنَّما أخطأَ النّاسُ في كثيرٍ مِنْ تأويلِ القرآنِ لجَهلِهم بلغةِ العربِ»

(5)

، وقولُ مالك بن أنس (ت: 179): «لا أوتى برجلٍ يُفسِّرُ كلامَ الله وهولا يعرفُ

(1)

المرجع السابق.

(2)

إيضاح الوقف والابتداء (ص: 45).

(3)

البرهان في علوم القرآن 1/ 292.

(4)

خلق أفعال العباد (ص: 61)، والاعتصام (ص: 181).

(5)

الزّينة في الكلمات الإسلاميّة (ص: 124)، وخطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأوّل (ص: 63).

ص: 398

لغةَ العربِ إلا جعلتُه نكالاً»

(1)

، وقالَ أيوبٌ السّختياني (ت: 131)، والشّافعيُّ (ت: 204): «عامَّةُ مَنْ تزندقَ بالعراقِ لجَهلِهم بالعربيّةِ»

(2)

، وقالَ الواحدي (ت: 468): «ما حدثت البدعُ والأهواءُ المُضلَّةُ إلا مِنْ الجهلِ بلغةِ العربِ»

(3)

.

‌المطلبُ الثّالثُ: أوجه الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني.

يُورِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) دليلَ اللُّغةِ في ثلاثِ صوَرٍ:

الأولى: التَّصريحُ بالاستدلالِ باللُّغةِ، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]: «إنْ قالَ لنا قائِلٌ: وكيفَ أخبرَ الله جلَّ وعزَّ عمَّن قد وصَفَه بالخشوعِ له بالطّاعةِ أنَّه يَظنُّ أنَّه مُلاقيه، والظَّنُّ شكٌّ، والشّاكُّ في لقاءِ الله جلَّ ثناؤُه عندَك بالله كافرٌ؟ قيلَ: إنَّ العربَ قد تُسمّي اليقينَ ظنّاً، والشَّكَّ ظنّاً، نظيرَ تسميَتِهم الظُّلمةَ سُدفةً، والضياءَ سُدفةً، والمُغيثَ صارِخاً، والمُستغيثَ صارِخاً، وما أشْبَه ذلك مِنْ الأسماءِ التي تُسمِّي بها الشّيءَ وضِدَّه، ومِمّا يدُلُّ على أنَّه يُسمّى به اليقينُ قولُ دُرَيْدِ ابنِ الصِّمَّةِ

(4)

:

(1)

شعب الإيمان 3/ 543، والبسيط للواحدي 1/ 411.

(2)

الزّينة في الكلمات الإسلاميّة (ص: 124)، والبسيط، للواحدي 1/ 408.

(3)

البسيط 1/ 408.

(4)

دريدُ بن الصِّمَّةِ معاوية بن الحارث، مِنْ هوازن، شاعرٌ فارسٌ شجاعٌ، أدركَ الإسلام فلم يُسلم، وشهدَ حُنين مُظاهراً مع الكفّارِ ومات بها. ينظر: الشِّعر والشُّعراء (ص: 749)، والأغاني 10/ 5.

والبيتُ في الأصمعيّات (ص: 107)، وفيه:«علانيةً ظُنّوا بأَلْفَي مُدجَّجٍ» ، أي: قلتُ لهم علانيةً.

ص: 399

فقلتُ لهم ظُنّوا بأَلفَيْ مُدجَّجٍ

سَراتُهمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ

يعني بذلك: تيَقَّنوا أَلفَيْ مُدجَّجٍ تأتيكُم. وقولُ عمِيرةَ بن طارقٍ

(1)

:

بأنْ تَغتَزوا قَوْمي وأَقْعُدَ فيكمُ

وأَجْعلَ مِنّي الظَّنَّ غَيْباً مُرَجَّماً

يعني: وأَجْعلَ مِنّي اليقينَ غَيْباً مُرَجَّماً. والشَّواهدُ مِنْ أشعارِ العربِ وكلامِها على أنَّ الظَّنَّ في معنى اليقينِ أكثَرُ مِنْ أن تُحصى، وفيما ذَكَرْنا لمَن وُفِّقَ لفَهمِه كِفايَةٌ»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29]: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّةِ عندي قولُ مَنْ قالَ: معنى ذلك: والتفَّت ساقُ الدُّنيا بِساقِ الآخرةِ، وذلك شِدَّةُ كربِ الموتِ بشِدَّةِ هَوْلِ المَطْلعِ؛ والذي يدُلُّ على أنَّ ذلك تأويلُه قولُه {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30]، والعربُ تقولُ لكُلِّ أمرٍ اشتدَّ: قد شمَّرَ عن ساقِه، وكشفَ عن ساقِه، ومِنه قولُ الشّاعرِ

(3)

:

فإذْ شمَّرَتْ لك عن ساقِها

فوَيْهاً رَبيعَ ولا تَسْأمِ»

(4)

.

الثانيةُ: ذِكرُ اللُّغةِ مباشرةً على سبيلِ التَّدليلِ، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ

(1)

عميرَة بن طارق بن حصينة اليَربوعيّ التَّميميّ، شاعرٌ فارسٌ. ينظر: نهاية الأرب 15/ 383.

والبيتُ في شرح نقائض جرير والفرزدق (ص: 216، 906)، والأضداد (ص: 14).

(2)

جامع البيان 1/ 623.

(3)

هو قيس بن زهير، كما في لسان العرب 17/ 462، والأغاني 17/ 144؛ والقافيةُ فيه مضمومةٌ.

(4)

جامع البيان 23/ 522. وينظر: 1/ 344، 19/ 633، 21/ 329، 598، 24/ 756.

ص: 400

يُحْبَرُونَ} [الروم: 15]: «فأعْلمَهم بذلك تعالى أنَّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحاتِ؛ مِنْ المَنظرِ الأنيقِ، واللذيذِ مِنْ الأراييحِ، والعَيشِ الهَنيِّ = فيما يحبّون، ويُسرّون به، ويُغبَطون عليه. والحَبْرَةُ عند العربِ: السُّرورُ والغِبْطةُ. قالَ العجّاجُ

(1)

:

فالحمدُ لله الذي أعطى الحَبَرْ

مواليَ الحَقِّ إن المَوْلى شَكَرْ»

(2)

.

وقولُه أيضاً: «وقولُه {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المَسَد: 5]، يقولُ: في عُنقِها. والعربُ تُسمّي العُنُقَ: جِيداً. ومِنه قولُ ذي الرُّمَّةِ

(3)

:

فعَيْناكِ عَيْناها، ولَوْنُكِ لَوْنُها

وجِيدُكِ إلا أنَّها غيرُ عاطلٍ»

(4)

.

الثّالثةُ: إيرادُ اللُّغةِ على سبيلِ التَّعليلِ لقبولِ المعنى أو رَدِّه، ومِن ذلك قولُه:«وأَوْلى القَوْلَين في ذلك بالصَّوابِ، قَولُ مَنْ قالَ: معنى {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} [النحل: 41]: لنُحِلَّنَّهم ولَنُسكِنَنَّهم؛ لأنَّ التَّبوُّءَ في كلامِ العربِ: الحُلولُ بالمكانِ، والنُّزولُ به»

(5)

، وقولُه في قولِه تعالى {يَخْرُجُ

(1)

هو عبد الله بن رُؤبة التَّميميّ، والعجّاجُ لقبُه، ويكنّى أبا الشَّعثاء، لقيَ أبا هريرة رضي الله عنه، وسمعَ مِنه أحاديثَ، وهو شاعرٌ راجزٌ مشهور. ينظر: طبقات فحول الشّعراء 2/ 753، والشّعر والشّعراء (ص: 591).

والبيتُ في ديوانِه (ص: 4).

(2)

جامع البيان 18/ 471.

(3)

غيلان بن عُقبة بن مسعود، أبو الحارث، وذو الرُّمَّةِ لقبه، شاعرٌ مُجيدٌ مشهورٌ، عاصرَ الفرزدق وجريراً، وله ديوانٌ مطبوعُ. ينظر: الشّعر والشّعراء (ص: 524)، والأغاني 18/ 5.

والبيتُ في ديوانِه 2/ 1341.

(4)

جامع البيان 24/ 722. وينظر: 13/ 398، 14/ 521، 20/ 272، 22/ 226، 337، 23/ 604، 610.

(5)

جامع البيان 14/ 225.

ص: 401

مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7]: «والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا قَولُ مَنْ قالَ: هو مَوْضِعُ القِلادةِ مِنْ المرأةِ حيثُ تقعُ عليه مِنْ صَدرِها؛ لأنَّ ذلك هو المَعروفُ في كلامِ العربِ، وبه جاءَت أشعارُهم، قالَ المُثَقِّبُ العَبديُّ

(1)

:

ومِن ذهبٍ يُسَنُّ على تَريبٍ

كلَوْنِ العاجِ ليس بذِي غُضونِ»

(2)

.

‌المطلبُ الرّابع: ضوابطُ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني ومسائِلُه.

تبيَّنَ ممّا سبقَ تأكيدُ العلماءِ على وجوبِ العلمِ بلُغةِ العربِ لمَن يقصِدُ إلى تفسيرِ القرآنِ، وأنَّ ذلك مِنْ أَوْلى واجباتِ المُفسِّرِ وشروطِه، فلا يحلُّ لغيرِ العالمِ بلُغةِ العربِ أن يتكلَّمَ في شيءٍ مِنْ معاني كتابِ الله، بل «لا يكفي في حقِّه تعلُّمُ اليسيرَ مِنها»

(3)

، ومِن ثَمَّ قدَّمَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) لتفسيرِه ببيانِ عددٍ مِنْ قضايا اللُّغةِ ومسائِلِها، التي يدخلُ الخللُ في كثيرٍ مِنْ المعاني مِنْ جهةِ الجهلِ بها؛ فقالَ مُبيِّناً ذلك:

(1)

عائذُ بن مِحصن بن ثعلبةَ، والمُثقِّب لقبُه، مِنْ بني عبد القَيْس، شاعرٌ جاهليٌّ قديمٌ، له قصائد مِنْ عيون الشِّعر. ينظر: طبقات فحول الشّعراء 1/ 271، والشّعر والشّعراء (ص: 395).

والبيتُ في ديوانِه (ص: 159).

(2)

جامع البيان 24/ 296. وينظر: 5/ 265، 7/ 641، 9/ 353، 11/ 303، 12/ 449، 15/ 216.

(3)

البرهان في علوم القرآن 1/ 295. وينظر ما سبقَ في حُجِّيَّةِ الاستدلالِ بلغةِ العربِ على المعاني (ص: 344).

ص: 402

«وأوَّلُ ما نبْدأُ به مِنْ القيلِ في ذلك الإبانةُ عن الأسبابِ التي البدايةُ بها أَولى، وتقديمُها قبلَ ما عداها أحْرى؛ وذلك البيانُ عمّا في آيِ القرآنِ مِنْ المعاني التي مِنْ قِبَلِها يدخُلُ اللَّبسُ على مَنْ لم يُعانِ رياضةَ العلومِ العربيَّةِ، ولم تستَحْكِم معرفتُه بتصاريفِ وُجوهِ مَنْطقِ الألْسُنِ السَّليقيَّةِ الطَّبيعيَّةِ»

(1)

.

وقد ظهرَ أثرُ تمكُّنِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في علومِ العربيَّةِ في كُلِّ تفسيرِه؛ فسلامةُ لُغتِه، وبلاغةُ عبارتِه، ودِقَّةُ ألفاظِه، وجَوْدةُ قياسِه، وتحريرُ مسائلِه اللغويَّةِ والتَّفسيريَّةِ، ومنهجُ استدلالِه بدليلِ اللُّغةِ في تفسيرِه = كُلُّ ذلك أثرٌ مِنْ آثارِ إمامتِه في علمِ اللُّغةِ، وتقدُّمِه فيه، ولا أدلَّ على ذلك مِنْ شهادةِ إمامِ الكوفيّين في عصرِه أبي العبّاسِ ثعلبَ (ت: 291) له بقولِه: «ذاكَ مِنْ حُذّاقِ مذهبِ الكوفيّين»

(2)

، قالَ ابنُ مجاهدٍ (ت: 324): «وهذا كثيرٌ من أبي العباسِ ثعلبَ؛ لأنَّه كانَ شديدَ النَّفْسِ، قليلَ الشَّهادةِ لأحدٍ بالحِذقِ في عِلمِه»

(3)

، وقد عارضَ اللُّغويُّ المُبرِّزُ أبو عمرَ الزّاهدُ، المشهورُ بغُلامِ ثعلبَ (ت: 345) تفسيرَ ابنَ جريرٍ (ت: 310) مِنْ أوَّلِه إلى آخرِه فما رأى فيه حرفاً واحداً خطأً في نحوٍ ولا لُغةٍ

(4)

.

وقد كانَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) حافظاً بارِعاً للشِّعرِ، ففي رحلتِه الثّانية

(1)

جامع البيان 1/ 8.

(2)

معجم الأدباء 6/ 2451.

(3)

المرجع السابق.

(4)

معجم الأدباء 6/ 2453. وينظر منه: 6/ 2467.

ص: 403

لمصرَ «لقيَه أبو الحسنِ ابنِ سراجٍ

(1)

فوجدَه فاضِلاً في كُلِّ ما يُذاكِرُه به مِنْ العلمِ، ويُجيبُ في كُلِّ ما يسألُه عنه، حتى سألَه عن الشِّعرِ فرآه فاضِلاً بارِعاً فيه، فسألَه عن شعرِ الطِّرمَّاحِ

(2)

وكانَ مَنْ يقومُ به مفقوداً في البلدِ، فإذا هو يحفظُه، فسُئِلَ أن يُمليَه حِفظاً بغَريبِه، فعهدي به وهو يُمليه عند بيتِ المالِ في الجامعِ»

(3)

، ومِمَّن أخذَ عنهم ابنُ جريرٍ (ت: 310) الشِّعرَ أبو العبّاسِ ثعلبَ (ت: 291) قبلَ اشتِهارِه، حيثُ قالَ:«قرأَ عليَّ أبو جعفرَ الطَّبريُّ شِعرَ الشُّعراءِ قبلَ أن يَكثُرَ النّاسُ عندي بمُدَّةٍ طويلةٍ»

(4)

، ولابنِ جريرٍ (ت: 310) «شِعرٌ فوقَ شِعرِ العُلماءِ»

(5)

.

وقد ضمَّنَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) كثيراً مِنْ عِلمِه باللُّغةِ في تفسيرِه، قالَ عبدُ العزيزِ بن محمّد الطّبري:«وقد بانَ فضلُه في علمِ اللُّغةِ والنَّحوِ على ما ذكرَه في كتابِ التَّفسيرِ وكتابِ التَّهذيبِ مُخبِراً عن حالِه فيه»

(6)

، وقد انتشرَ تفسيرُه وتداولَه أئمّةُ اللُّغةِ في زمانِه، وكانَ مِنهم في محلِّ

(1)

هو عليُّ بن الحسنِ بن سراجٍ ابن أبي الأزهرِ المصريّ، الحافظ، سكن بغداد، وتوفي سنة (308). ينظر: تاريخ بغداد 13/ 385، والسير 14/ 283.

(2)

هو الطِّرمّاحُ بن حكيم الطّائيّ الكوفيّ، مِنْ فحولِ الشُّعراءِ الإسلاميّين وفُصحائِهم، والغريبُ في شعرِه كثيرٌ، وكانَ على رأيِ الأزارقةِ الخوارجِ. ينظر: الشِّعر والشُّعراء (ص: 585)، والأغاني 12/ 25.

(3)

معجم الأدباء 6/ 2448.

(4)

معجم الأدباء 6/ 2451.

(5)

المُحمَّدون مِنْ الشُّعراءِ وأشعارُهم (ص: 187). وفي معجم الأدباء 6/ 2449 قصَّةُ إتقانِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) لعلمِ العَروضِ في ليلةٍ.

(6)

معجم الأدباء 6/ 2451.

ص: 404

الرِّضا والقبولِ، قالَ أبو بكرِ ابن كامل (ت: 350): «أملى علينا ابنُ جريرٍ كتابَ التَّفسيرِ مئةً وخمسين آيةً، ثُمَّ خَرجَ بعد ذلك إلى آخرِ القرآنِ فقرأَهُ علينا، وذلك في سنةِ سبعين ومائتين، واشتهرَ الكتابُ وارتفعَ ذِكرُه، وأبو العباسِ أحمدُ بن يحيى ثعلبُ، وأبو العباسِ محمدُ بن يزيدٍ المبرِّدُ = يحيَيَان، ولأهلِ الإعرابِ والمعاني معقِلان، وكانَ أيضاً في الوقتِ غيرُهما؛ مثلُ: أبي جعفرَ الرُّستُمي، وأبي الحسن ابنِ كيسانَ، والمفَضَّلِ بن سلمةَ، والجعدِ، وأبي إسحاقٍ الزَّجَّاجِ، وغيرِهم من النَّحويّين مِنْ فُرسانِ هذا اللسانِ، وحُمِلَ هذا الكتابُ مشرقاً ومغرباً، وقرأه كلُّ مَنْ كانَ في وقتِه مِنْ العلماءِ، وكلٌّ فضَّلَه وقدَّمَه»

(1)

.

ولابنِ جريرٍ (ت: 310) كتابٌ في اللُّغةِ والنّحوِ على مذهبِ الكوفيّين

(2)

، وقد كانَ أقامَ علمَه باللُّغةِ على مذهبِهم، ثُمَّ استقلَّ بنظرِه بعدَ ذلك مُتَّبِعاً الدَّليلَ، وظهرَ ذلك جليّاً في تفسيرِه؛ فمرَّةً يوافقُ الكوفيّين -وهو كثيرٌ-، ومرَّةً البصريّين، وأخرى يستقلُّ برأيِه عنهما

(3)

؛ وذلك أثرٌ مِنْ منهجِه العلميِّ، فمَن ملكَ آلةَ الاجتهادِ، وعرفَ الأدلَّةَ وميَّزَها، وعرفَ مذاهبَ العلماءِ وأقوالَهم، ومواضِعَ إجماعِهم وخِلافِهم = لا يسَعُه إلا الاجتهادُ والنَّظرُ والاستدلالُ؛ إذْ لا معنى للتَّقليدِ مع ظهورِ الدَّليلِ لِمِثْلِه، ولا يصحُّ منه.

(1)

معجم الأدباء 6/ 2452.

(2)

معجم الأدباء 1/ 191، 6/ 2444.

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 235، 557، 3/ 639، 11/ 650، 18/ 9، 23/ 473، 474، والنَّحو وكتب التَّفسير 1/ 581، 597، والطَّبري والجهود النحوية في تفسيرِه (ص: 400).

ص: 405

ثُمَّ إنَّ المعنى عمادُ الإعرابِ، وقد كانَ لتمكُّنِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) مِنْ تحديدِ المعاني وتحريرِها، واعتمادِه الأثرَ وأقوالَ السَّلفِ في ذلك = أكبرُ الأثرِ في اختيارِ وجوهِ إعرابِها، وتصحيحِ ما وافقَها، وردِّ ما خالَفَها، وذلك ما لَمْ يتيسَّرْ مثلُه لكثيرٍ مِنْ أهلِ اللُّغةِ قبلَه وبعدَه، فجاءَ اختيارُه اللُّغوي مستفيداً مِمَّنْ قبلَه، مُستقِلاً بنفسِه فيما دلَّ عليه دليلُ المعنى.

وفيما يأتي بيانٌ لضَوابط الاستدلالِ باللُّغةِ على المعاني ومسائِله عند ابنِ جريرٍ (ت: 310):

أوّلاً: أنزلَ الله تعالى كتابَه على عادةِ العربِ في كلامِها، وقد قرَّرَ ذلك ابنُ جريرٍ (ت: 310) في كثيرٍ مِنْ المواطنِ؛ ومِن ذلك قولُه: «وأمّا وجه صِحَّةِ القولِ في ذلك فهو أنَّ الله تعالى ذِكرُه خاطبَ بالقرآنِ العربَ على ما يعرفونَه مِنْ كلامِهم، وجرى به خِطابُهم بينَهم»

(1)

، وقولُه معلِّلاً قبولَ بعضِ المعاني:«لمّا كانَ مفهوماً في كلامِ العربِ معناه خاطبَهم بما في لُغتِهم وكلامِهم»

(2)

، وقولُه:«وإنَّما يجوزُ توجيهُ معاني ما في كتابِ الله الذي أنزلَه على محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ الكلامِ إلى ما كانَ موجوداً مثلَه في كلامِ العربِ، دون ما لَمْ يكُنْ موجوداً في كلامِها»

(3)

، وقولُه مُبطِلاً بعضَ المعاني:«فإن أجازوا ذلك خرجوا مِنْ معروفِ كلامِ العربِ، وخالفوا مَنطِقها، وما يُعرفُ في لسانِها»

(4)

.

(1)

جامع البيان 16/ 38.

(2)

جامع البيان 15/ 144 طبعة/ شاكر.

(3)

جامع البيان 2/ 644.

(4)

جامع البيان 2/ 471. وينظر: 2/ 249، 3/ 634، 12/ 288، 24/ 737.

ص: 406

وتقريرُ ذلك أصلٌ لازمٌ لتصحيحِ الاستشهادِ على معاني القرآنِ بكلامِ العربِ، وقد أشارَ العلماءُ إلى ذلك؛ فقالَ الشافعيُّ (ت: 204): «وإنَّما بدأتُ بما وصفتُ مِنْ أنَّ القرآنَ نزَلَ بلسانِ العربِ دون غيرِه؛ لأنَّه لا يَعلَمُ مِنْ إيضاحِ جُمَلِ الكتابِ أحدٌ جَهِلَ سَعَةَ لسانِ العربِ، وكثرَةَ وجوهِه، وجِماعَ معانيه وتفرُّقَها، ومَن عَلِمَه انتفتْ عنه الشُّبهُ التي دخلَتْ على من جهِلَ لسانَها. فكانَ تنبيهُ العامَّةِ على أنَّ القرآنَ نزلَ بلسانِ العربِ خاصَّةً = نصيحةً للمسلمين، والنَّصيحةُ لهم فرضٌ لا ينبغي تركُه»

(1)

، وقالَ الشّاطبي (ت: 790): «لا بُدَّ في فهمِ الشَّريعةِ مِنْ اتِّباعِ معهودِ الأُمّيّين؛ وهُم العربُ الذين نزلَ القرآنُ بِلِسانِهم، فإن كانَ للعربِ في لسانِهم عُرْفٌ مُستمرٌّ فلا يصحُّ العدولُ عنه في فهمِ الشَّريعةِ، وإن لم يكُنْ ثَمَّ عُرْفٌ فلا يصحُّ أن يَجري في فهمِها على ما لا تعرفُه، وهذا جارٍ في المعاني والألفاظِ والأساليبِ»

(2)

، ولا شكَّ أنَّ الجهلَ بذلك يوقِعُ «في الشُّبَه والإشكالاتِ التي يتعذَّرُ الخروجُ مِنها إلا بهذه المَعرفةِ»

(3)

.

ثانياً: لم يَنزِل القرآنُ على لسانِ أحدٍ مِنْ العربِ بعينِه، ولا بلسانِ جميعِهم، بل كانَ نزولُه على لسانِ بعضِ العربِ، وذلك ما قرَّرَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في مبحثٍ عقدَه في مقدِّمةِ تفسيرِه بعنوانِ: (القولُ في اللُّغةِ التي نزلَ بها القرآنُ مِنْ لُغاتِ العربِ)، قالَ فيه: «قد دلَّلْنا على

(1)

الرسالة (ص: 50).

(2)

الموافقات 2/ 131.

(3)

الموافقات 4/ 154.

ص: 407

صِحَّةِ القولِ بما فيه الكفايةُ لمَن وفِّقَ لفهمِه، على أنَّ الله جلَّ ثناؤُه أنزلَ جميعَ القرآنِ بلسانِ العربِ دونَ غيرِها مِنْ ألسُنِ سائرِ أجناسِ الأُممِ، وعلى فسادِ قولِ مَنْ زعمَ أنَّ مِنه ما ليس بلسانِ العربِ ولُغتِها. فنقولُ الآنَ -إذْ كانَ ذلك صحيحاً- في الدَّلالةِ عليه بأيِّ ألسُنِ العربِ أُنزلَ: أبألسُنِ جميعِها، أم بألسُنِ بعضِها؟ إذْ كانَت العربُ -وإن جمعَ جميعَهم اسمُ أنَّهم عربٌ- فهم مُختلفو الألسُنِ بالبيانِ، متباينو المنطقِ والكلامِ .. ، فإذْ كانَ ذلك كذلك، وكانَت الأخبارُ قد تظاهرَت عنه صلى الله عليه وسلم بما حدَّثنا به .. »

(1)

، ثُمَّ أوردَ إحدى وأربعينَ روايةً لحديثِ نزولِ القرآنِ على الأحرفِ السَّبعةِ

(2)

، ثُمَّ قالَ:«صَحَّ وثبتَ أنَّ الذي نزلَ به القرآنُ مِنْ ألسُنِ العربِ البعضُ مِنها دونَ الجميعِ؛ إذْ كانَ معلوماً أنَّ ألسِنتَها ولُغاتِها أكثرُ مِنْ سبعةٍ، بما يُعجَزُ عن إحصائِه»

(3)

، وقد أقامَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) استنتاجَه ذلك على مُقدِّمتَيْن:

أولاهُما: أنَّ المُرادَ بالأحرفِ السَّبعةِ في الحديثِ: سبعُ لُغاتٍ مِنْ لُغاتِ العربِ، في حرفٍ واحدٍ وكلمةٍ واحدةٍ، باختلافِ الألفاظِ واتِّفاقِ المعاني، كقولِ القائلِ:(هلُمَّ، وتعالَ، وأقبِلْ، وإليَّ .. )

(4)

. واستدلَّ لذلك بأربعةِ أدلَّةٍ

(5)

، هي:

(1)

جامع البيان 1/ 20.

(2)

جامع البيان 1/ 21 - 40.

(3)

جامع البيان 1/ 41.

(4)

ينظر: جامع البيان 1/ 42، 43، 52.

(5)

ينظر: جامع البيان 1/ 43 - 49. وهذا رأيُ جماعةٍ كثيرةٍ من العلماءِ؛ وهو مِنْ أقوى المذاهبِ في تفسيرِ الأحرفِ السَّبعةِ. ينظر: فضائل القرآن، لأبي عبيد (ص: 203)، والتمهيد، لابن عبد البر 6/ 17، والإبانة، لمكي القيسي (ص: 80)، والمرشد الوجيز (ص: 91)، والأحرف السبعة، لعتر (ص: 168).

ص: 408

1 -

أنَّ الصَّحابةَ إنّما تمارَوا وخالفَ بعضُهم بعضاً في نفسِ التِّلاوةِ، دون ما في ذلك مِنْ المعاني، وقد صوَّبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم جميعَهم على ذلك، ولو كانَ اختلافُهم فيما دلَّتْ عليه تلاواتُهم مِنْ معاني التحليلِ والتحريمِ، والوَعدِ والوعيدِ، لكانَ مُستحيلاً أن يُصوِّبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم جميعَهم؛ لِما في ذلك مِنْ الأمرِ بالشيءِ وضِدِّه، وذلك مُحالٌ.

2 -

أنَّ الصَّحابةَ رضي الله عنهم ما كانَ ليَقَعَ مِنهم إنكارٌ على معنىً جاءَ به القرآنُ، بل عادَتُهم القبولُ والتَّسليمُ، وعلى الإقرارِ بذلك كانَ إسلامُ مَنْ أسلمَ مِنهم، فما الوَجه الذي أوجبَ إنكارَ مَنْ أنكرَ مِنهم إن لم يكُنْ ذلك اختلافاً مِنهم في الألفاظِ واللغاتِ.

3 -

ورودُ النَّصِّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ وذلك في قولِه في بعضِ طُرُقِ الحديثِ: «كقولك هلُمَّ وتعالَ»

(1)

.

4 -

صِحَّةُ الأخبارِ بمثلِ ذلك عن بعضِ السَّلفِ، وقد أوردَ مِنها إحدى عشرَ أثراً.

وثانيهما: أنَّ لُغاتَ العربِ أكثرُ مِنْ سبعِ لُغاتٍ، بما يُعجَزُ عن إحصائِه، وهذا صحيحٌ مشهورٌ.

(2)

(1)

الحديث بهذه الزيادة أخرجه الطّحاوي في شرح مشكل الآثار 8/ 126 (3118)، وابن أبي شيبة في مصنّفه 6/ 138 (30122)، وأحمد في مسنده 34/ 70 (20425)، وفي إسنادِه ضعف. وجاءت هذه الزيادةُ موقوفةً عن ابنِ مسعود رضي الله عنه عند أبي عبيد في فضائل القرآن (ص: 207)، والطبري في تفسيرِه 1/ 46، 13/ 77، بإسنادٍ صحيحٍ.

(2)

ينظر: الرسالة (ص: 42)، والصّاحبي (ص: 24)، والخصائص 1/ 398، والمزهر 1/ 202.

ص: 409

وفي تحديدِ تلك اللغاتِ يقولُ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «فإن قالَ لنا قائِلٌ: فهل لك مِنْ علمٍ بالألسُنِ السَّبعةِ التي نزلَ بها القرآنُ؟ وأيُّ الألسُنِ هي مِنْ ألسُنِ العربِ؟ قلنا: أمّا الألسُنُ السِّتَّةُ التي قد نزلَتْ القراءةُ بها فلا حاجةَ بنا إلى معرفتِها؛ لأنّا لو عرفناها لم نقرأ اليومَ بها، مع الأسبابِ التي قدَّمنا ذِكرَها. وقد قيلَ: إنَّ خمسةً مِنها لعَجُزِ هوازنَ

(1)

، واثنين مِنها لقريشٍ وخُزاعةَ، رُويَ جميعُ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وليست الرِّوايةُ به عنه مِنْ روايةِ مَنْ يجوزُ الاحتجاجُ بنَقلِه»

(2)

.

ثالثاً: يتبيَّنُ مِنْ صنيعِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) نوعَ ما يُستدَلُّ له بلُغةِ العربِ مِنْ المعاني؛ وذلك ما يتَّصلُ بألفاظِ القرآنِ الكريمِ، وأساليبِ ورودِها؛ مِنْ جهةِ صحَّةِ تلك الألفاظِ والأساليبِ أو عدمِها، وقِلَّتِها أو كثرتِها. ولا يعتبرُ دليلُ اللُّغةِ فيما وراءَ ذلك مِنْ تفاصيلِ معاني العقائدِ والأحكامِ ونحوِها ممّا جاءَ به دليلُ الشَّرعِ؛ لأنَّ اللُّغةَ لا يُستدل بها لتقريرِ الدينِ، وإنَّما لفهمِه، فإذا دلَّ دليلُ اللُّغةِ على صِحَّةِ معنى في لفظِه وتركيبِه مِنْ الكلامِ، فذلك مُنتهى أمرِه، ولا صِلةَ له فيما وراءَ ذلك مِنْ الأحكامِ.

ولم أجِدْ في جميعِ مواضع استدلالاتِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) باللُّغةِ ما يُخالفُ ذلك، بل كانَ دقيقاً في تمييزِ حُكمِ اللُّغةِ مِنْ حُكمِ الشَّرعِ،

(1)

فسَّرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عجُزَ هوازن بعد ذلك، فقالَ:«والعَجُزُ مِنْ هوازن: سعدُ بن بكرٍ، وجُشَمُ بن بكرٍ، ونصرُ بن معاويةَ، وثقيفٌ» . جامع البيان 1/ 62، وهو نصُّ أبي عبيد (ت: 224) في فضائل القرآن (ص: 204).

(2)

جامع البيان 1/ 61.

ص: 410

وكلامِ أهلِ اللُّغةِ مِنْ كلامِ أهلِ التَّفسيرِ، ومواضِعَ ما يُستدلُّ له في كُلٍّ مِنهما، ومِن ذلك قولُه:«وهذا القولُ الآخرُ على مذهبِ العربيَّةِ أصحُّ، والأوَّلُ إلى مذهبِ أهلِ التَّأويلِ أقربُ»

(1)

.

وقد نصَّ أهلُ اللُّغةِ على لزومِ ذلك لمَن رامَ الاحتجاجَ باللُّغةِ على شيءٍ مِنْ نصوصِ الشَّرعِ؛ فقالَ أبو عبيدة معمرُ بن المُثنّى (ت: 210) بعد أن ذكرَ نماذجَ مِنْ استشهاداتِ السَّلفِ باللُّغةِ: «يجوزُ هذا عندي فيما كانَ مِنْ الغريبِ والإعرابِ، فأمّا ما كانَ مِنْ الحلالِ والحرامِ، والأمرِ والنَّهي، والنّاسخِ والمنسوخِ، فليس لبشرٍ أن يتكلَّمَ فيه برأيه إلا ما فسَّرَته سُنَّةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقالَ فيه الصَّحابةُ والتّابعون بإحسانٍ بعدهم»

(2)

، وقالَ أبو عبيدٍ القاسمُ بن سلّامٍ (ت: 224) مُعلِّقاً على بعضِ استشهاداتِ السَّلفِ بكلامِ العربِ: «وفي هذا الحديثِ حُجَّةٌ لمن ذهبَ بالقرآنِ إلى كلامِ العربِ إذا لم يكُنْ فيه حلالٌ ولا حرامٌ؛ ألا تراه يقولُ: وهو في كلامِ العربِ دلكَتْ براحِ»

(3)

، وقالَ ابنُ فارسٍ (ت: 395): «لُغةُ العربِ يُحتجُّ بها فيما اختُلِفَ فيه؛ إذا كانَ التّنازعُ في اسمٍ أو صفةٍ أو شيءٍ ممّا تستعملُه العربُ مِنْ سَنَنِها في حقيقةٍ ومجازٍ، أو ما أشبه ذلك، فأمّا الذي سبيلُه الاستنباطُ، أو ما فيه لدلائلِ العقلِ مجالٌ = فإنَّ العربَ وغيرَهم فيه سواءٌ؛ لأنَّ سائلاً لو سألَ

(1)

جامع البيان 16/ 477. وينظر: 15/ 28، 386، 18/ 18 - 19، 21/ 153، 23/ 443، 24/ 27.

(2)

الزِّينةُ في الكلمات الإسلامية (ص: 131 - 133).

(3)

غريب الحديث 2/ 388.

ص: 411

عن دلالةٍ مِنْ دلائلِ التَّوحيدِ، أو حُجَّةٍ في أصلِ فقهٍ أو فرعِه، لم يكُن الاحتجاجُ فيه بشيءٍ مِنْ لغةِ العربِ، إذْ كانَ موضوعُ ذلك غيرَ اللغاتِ»

(1)

.

رابعاً: ما ثبتَ عن بعضِ العربِ ثبتَ للعربِ، وقد سارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) على ذلك كما في قولِه: «وكتابُ الله الذي أنزلَه على محمدٍ بلسانِها، فليس لأحدٍ أن يتلوَه إلا بالأفصَحِ مِنْ كلامِها، وإن كانَ معروفاً بعضُ ذلك في لغةِ بعضِها، فكيف بما ليس بمعروفٍ مِنْ لُغةِ حيٍّ ولا قبيلةٍ مِنها! وإنَّما هو دَعوى لا ثَبَتَ بها ولا صِحَّةٌ»

(2)

، وفي جُملةٍ مِنْ استدلالاتِه اللغويَّةِ يَستدِلُّ بما ثبتَ لبعضِ قبائلِ العربِ دون غيرِها، ويرى ذلك كافيًا في الحكمِ بعربيَّتِها، وصحَّةِ الاستدلالِ بها، كما في قولِه عند قولِه تعالى {طه} [طه: 1]: «والذي هو أَولى بالصَّوابِ عندي مِنْ الأقوالِ فيه قولُ مَنْ قالَ: معناه: يا رجلُ. لأنَّها كلمةٌ معروفةٌ في عكٍّ

(3)

فيما بلغني، وأنَّ معناه فيهم: يا رجلُ. وأُنشِدَ لمُتَمِّمِ ابن نُويرةَ

(4)

:

هتفتُ بطه في القتالِ فلم يُجِبْ

فخِفتُ عليه أن يكونَ مُوائِلاً

(5)

(6)

.

(1)

الصّاحبي (ص: 49) طبعة/ السيّد صقر.

(2)

جامع البيان 12/ 200.

(3)

عكّ: قبيلةٌ يُضافُ إليها مِخلافٌ باليمنِ. معجم البلدان 3/ 343.

(4)

متمِّم بن نُويْرة بن جَمرةَ بن شدّادٍ التَّميميّ، أبو نهشل، شاعرٌ اشتهرَ بقصيدتِه في رثاءِ أخيه الفارسِ الشَّاعرِ المغوار مالك بن نُوَيْرة. ينظر: الشّعر والشّعراء (ص: 337)، والأغاني 15/ 203.

والبيتُ في ديوانِه (ص: 131).

(5)

المُوائِلُ: الطالبُ للنَّجاةِ. ينظر: لسان العرب 14/ 240.

(6)

جامع البيان 16/ 8.

ص: 412

وقولِه في قولِه تعالى {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85]: «والصَّوابُ مِنْ هذه الأقوالِ قولُ مَنْ قالَ: معنى المُقيتِ: القديرُ. وذلك أنَّ ذلك -فيما يُذكرُ- كذلك بلُغةِ قريشٍ، ويُنشَدُ للزُّبيرِ بن عبد المُطَّلبِ، عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:

وذي ضِغْنٍ كفَفْتُ النَّفسَ عنه

وكُنتُ على مساءَتِه مُقيتاً

أي: قادراً»

(1)

.

وقد أشارَ إلى ذلك المعنى في الاستدلالِ ابنُ جِنّي

(2)

(ت: 392)، فعقدَ باباً في خصائِصِه بعنوانِ:(بابُ اختلافِ اللُّغاتِ وكلُّها حُجَّةٌ)، وقالَ فيه: «ليس لك أن ترُدَّ إحدى اللُّغتَيْن بصاحِبتها؛ لأنَّها ليست أحقَّ بذلك مِنْ رسيلَتِها

(3)

، لكن غايةَ ما لك أن تتخيَّرَ إحداهُما فتُقوّيها على أُختِها، وتعتقدُ أنَّ أقوى القياسَيْن أقبلُ لها، وأشدُّ أُنْساً بها، فأمّا رَدُّ إحداهُما بالأُخرى فلا»

(4)

، وقالَ أبو حيّان (ت: 745): «كُلُّ ما كانَ لُغةً لقبيلةٍ قِيسَ عليه»

(5)

.

خامساً: تثبتُ اللُّغةُ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) مِنْ أحدِ طريقَيْن؛

(1)

جامع البيان 7/ 272. وينظر: 2/ 358، 403، 4/ 385، 7/ 456، 12/ 389، 16/ 413.

(2)

هو عثمان بن جِنّي، أبو الفَتحِ المَوصليّ، عالمٌ باللُّغةِ والأدبِ، صنَّفَ: الخصائص، وسرّ صناعة الإعراب، وشرَحَ شعرَ المُتنبّي وأجادَ، ومات سنة (392). ينظر: إنباه الرُّواة 2/ 335، وشذرات الذَّهب 4/ 494.

(3)

الرَّسيلُ: الموافقُ لك في النِّضالِ ونحوِه. ينظر: لسان العرب 13/ 302.

(4)

الخصائص 1/ 398.

(5)

الاقتراح في أصول النَّحو 2/ 1099.

ص: 413

هما: السَّماعُ، والقياسُ. وقد نصَّ عليهما بقولِه:«فإن قالَ لنا قائلٌ: فهل لذلك في (فَعَل ويَفْعَل) أصلٌ كانَ مِنه بناءُ هذا الاسمِ؟ قيلَ: أمّا سماعاً فلا، ولكن استدلالاً»

(1)

، وقولِه:«فإن قالَ: فإن كانَ جائزاً أن يُقالَ لمن عبدَ الله: ألَهَه. على تأويلِ ابنِ عبّاسٍ ومُجاهدٍ، فكيف الواجبُ في ذلك أن يُقالَ إذا أرادَ المُخبِرُ الخَبرَ عن استيجابِ الله ذلك على عبدِه؟ قيلَ: أمّا الرِّوايةُ فلا روايةَ به عندنا، ولكنَّ الواجبَ على قياسِ ما جاءَ به الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي حدَّثنا .. »

(2)

، وقولُه:«وأمّا (النَّهارُ) فإنَّه لا تكادُ العربُ تجمَعُه؛ لأنَّه بمنزلةِ الضَّوءِ، وقد سُمِعَ في جَمْعِه: النُّهُر .. ، ولو قيلَ في جَمْعِ قليلِه: أنْهِرَةٌ. كانَ قياساً»

(3)

. وقد اتَّفقتْ على ذلك كلمةُ أهلِ العربيَّةِ

(4)

، وفيما يأتي بيانُهما:

1 -

السَّماعُ، ويُرادُ به:«ما ثبتَ مِنْ كلامِ مَنْ يوثَقُ بفصاحتِه»

(5)

، وهذا أجلُّ أصلٍ تثبتُ به اللُّغةُ ويُحتَجُّ لها به إجماعاً

(6)

، وبه عُرِفَت طريقةُ العربِ في كلامِها، وما هو مِنْ لُغتِها، وما ليس كذلك، وليس «لأحدٍ أن يشرعَ شيئاً لم تتكلَّمْ به العربُ»

(7)

، و «إذا صحَّ السَّماعُ تعيَّنَ

(1)

جامع البيان 1/ 121.

(2)

جامع البيان 1/ 123.

(3)

جامع البيان 3/ 10. وينظر: 1/ 102، 2/ 385، 441، 4/ 210، 7/ 609، 15/ 566، 24/ 110.

(4)

ينظر: الخصائص 1/ 395، 423، ولمع الأدلة في النحو (ص: 81)، والاقتراح في أصول النَّحو 1/ 219.

(5)

الاقتراح في أصول النَّحو 1/ 414.

(6)

ينظر: ضوابط الفكر النحوي 1/ 212.

(7)

شرح المُفصَّل، لابن يعيش 4/ 52.

ص: 414

الاتِّباعُ»

(1)

. ويشملُ السَّماعُ: القرآنَ الكريمَ، والحديثَ النَّبوي، وكلامَ العربِ. وبيانُها فيما يأتي مِنْ المسائِلِ بإذنِ الله.

2 -

القياسُ، ويُرادُ به: القوانينُ المُستنبَطَةُ مِنْ تتَبُّعِ لسانِ العربِ

(2)

. وقيلَ في معناه: «حملُ ما لمْ يُنقَل على ما نُقِلَ إذا كانَ في معناه»

(3)

، قالَ ابنُ فارسٍ (ت: 395): «أجمعَ أهلُ اللُّغةِ -إلا مَنْ شَذَّ عنهم- على أنَّ للُغةِ العربِ قياساً»

(4)

، ولا بُدَّ للقياسِ في اللُّغةِ مِنْ أصلٍ يُبنى عليه؛ وهو: السَّماعُ

(5)

. فيُعاملُ القياسُ مع السَّماعِ مُعاملةَ الفرعِ مع الأصلِ، ومِن ثَمَّ «فالقياسُ أبداً يُترَكُ للسَّماعِ، وإنَّما يُلجَأُ إليه إذا عُدمَ في الشيءِ السَّماعُ، فأمّا أن يُتركَ السَّماعُ للقياسِ فخطأٌ فاحشٌ، وعُدولٌ عن الصَّوابِ بيّنٌ»

(6)

.

ولا يصحُّ القياسُ إلا على الأكثرِ المُطَّردِ مِنْ كلامِ العربِ، قالَ سيبوَيْه

(7)

(ت: 180): «الأقلُّ: نوادرُ تُحفظُ ولا يُقاسُ عليها، ولكنَّ

(1)

النَّظم الأَوْجَز، لابن مالك (ص: 17).

(2)

ينظر: كشاف اصطلاحات الفنون 2/ 1347، وضوابط الفكر النحوي 1/ 425.

(3)

الإعراب في جدل الإعراب (ص: 45). وينظر: الاقتراح في أصول النَّحو 2/ 740.

(4)

الصّاحبي (ص: 35).

(5)

ينظر: الاقتراح في أصول النَّحو 1/ 220.

(6)

المسائل الحلبيّات (ص: 55). وينظر: الخصائص 1/ 156، 162.

(7)

عمرو بن عثمان بن قَنبر، أبو بِشر البَصريّ، وسيبويه لقبُه، إمامُ اللُّغةِ والعربيَّةِ، صنَّفَ كتابَه الفذَّ في اللُّغةِ، مات سنة (180). ينظر: أخبار النَّحويّين البصريّين (ص: 63)، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 66).

ص: 415

الأكثرَ يُقاسُ عليه»

(1)

، وما خرجَ عن بابِه ونظائِرِه فهو: الشَّاذُّ عندهم؛ الذي لا يُقاسُ عليه.

(2)

وقاعدةُ هذا البابِ التي أقامَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) عليها تفسيرَه هي أنَّ: كُلَّ ما لم يثبُتْ سماعاً، أو يصحّ قياساً، فليس مِنْ كلامِ العربِ. وما كانَ كذلك فلا تثبتُ به لُغةٌ، ولا يُحتجُّ به على معنىً، وليس في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) شيءٌ يُخالفُ ذلك، بل شَواهدُه لا تُحصى كثرةً، ولم أجِدْ في تفسيرِه استدلالاً بلُغةٍ غيرِ مسموعةٍ، أو قياسٍ غيرِ صحيحٍ، بل نصوصُه صريحةٌ في المنعِ مِنْ الاستشهادِ بمثلِ ذلك ورَدِّه، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31]: «وقد زعمَ بعضُهم أنَّ الوِزْرَ: الثِّقلُ والحِمْلُ. ولستُ أعلمُ ذلك كذلك في شاهدٍ، ولا مِنْ رِوايةِ ثِقةٍ عن العربِ»

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]: «فأمّا فعيلٌ في الحصرِ بمعنى وصفِه بأنَّه الحاصرُ، فذلك ما لا نجدُه في كلامِ العربِ؛ فلذلك قُلتُ: قولُ الحسنِ أَولى بالصَّوابِ في ذلك. وقد زعمَ بعضُ أهلِ العربيَّةِ مِنْ أهلِ البصرةِ أنَّ ذلك جائزٌ، ولا أعلمُ لِما قالَ وَجْهاً يَصِحُّ إلا بعيداً، وهو أن يُقالَ: جاءَ حصيرٌ. بمعنى: حاصِرٌ، كما قيلَ: عليمٌ. بمعنى: عالمٌ، و: شهيدٌ. بمعنى شاهدٌ. ولم يُسمَعْ ذلك مُستعملاً في

(1)

الكتاب 4/ 8. وينظر: الأصول، لابن السرَّاج 1/ 56، والأغفال 2/ 10، وضوابط الفكر النحوي 1/ 446.

(2)

ينظر: الخصائص 1/ 140، ولمع الأدلة في النحو (ص: 105)، والاقتراح في أصول النَّحو 2/ 757.

(3)

جامع البيان 9/ 216.

ص: 416

الحاصِرِ كما سمِعنا في عالِمٍ وشاهدٍ»

(1)

، وقولُه مُعلِّلاً ردَّ بعضِ المعاني:«ولستُ أعلمُ سماعَ ذلك مِنْ العربِ صحيحاً»

(2)

.

سادساً: يشملُ السَّماعُ الذي تثبتُ به اللُّغةُ ثلاثةَ أنواعٍ مِنْ الكلامِ: القرآنَ الكريمَ، والحديثَ النَّبويَّ، وكلامَ العربِ. وقد أشارَ إليها ابنُ جريرٍ (ت: 310) بقولِه معلِّلاً ردَّ إحدى القراءاتِ: «أنَّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيءٍ مِنْ كتابِ الله، ولا في خبرٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا موجودٍ في لغةِ أحدٍ مِنْ العربِ»

(3)

، وفيما يأتي بيانُها:

1 -

القرآنُ الكريمُ، وهو أجلُّ وأصحُّ وأفصحُ ما تثبتُ به اللُّغةُ ويُحتَجُّ لها به بإجماعٍ

(4)

، ويشملُ ذلك قراءاتِه المشهورةِ والشّاذَّةِ باتِّفاقِ أهلِ اللُّغةِ

(5)

، قال الفرّاءُ:«والكِتابُ أعرَبُ وأقوى في الحُجَّةِ مِنْ الشِّعرِ»

(6)

. وأمثلةُ ذلك في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) غايةٌ في الكثرةِ؛ مِنها قولُه في قولِه تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61]: «وأَولى القَولَيْن في ذلك بالصَّوابِ قولُ مَنْ قالَ: هي قُصورٌ في السَّماءِ؛ لأنَّ ذلك في كلامِ العربِ؛ {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]»

(7)

، وفي

(1)

جامع البيان 14/ 510.

(2)

جامع البيان 9/ 211. وينظر: 1/ 651، 2/ 381، 6/ 395، 467، 10/ 81، 20/ 615، 24/ 635.

(3)

جامع البيان 1/ 269.

(4)

ينظر: الاقتراح في أصول النَّحو 1/ 416، وشرح كفاية المتحفظ (ص: 100)، وفي أصول النحو (ص: 28).

(5)

ينظر ما سبقَ في مسائل دليلِ القراءاتِ (ص: 205).

(6)

معاني القرآن 1/ 14.

(7)

جامع البيان 17/ 484.

ص: 417

قولِه تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] قرَّرَ أنَّ {الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 63] في محلِّ رفعٍ، وقالَ:«وإنَّما كانَ كذلك وإن كانَ مِنْ نعتِ الأولياءِ؛ لمجيئِه بعد خبرِ الأولياءِ، والعربُ كذلك تفعلُ .. ، كما قالَ الله {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ: 48]»

(1)

، وقالَ أيضاً: «وبعدُ، فإنَّ في قراءةِ أُبيِّ بن كعبٍ .. {وقدْ تركوكَ أنْ يعبُدوك وآلِهَتَك} [الأعراف: 127] دلالَةً واضِحةً على أنَّ نصبَ ذلك على الصَّرفِ

(2)

(3)

.

وشواهدُ القرآنِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) أقوى وأصدقُ مِنْ كُلِّ حُجَّةٍ، كما في قولِه بعدما ذكرَ شواهدَ أشعارِ العربِ على بعضِ أساليبِها في الكلامِ:«ومِنه قولُ الله؛ وهو أصدقُ قيلٍ، وأثبتُ حُجَّةً: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]، فخاطبَ، ثُمَّ رجعَ إلى الخبرِ عن الغائبِ، ولم يقُلْ: وجرَيْن بكم»

(4)

.

2 -

الحديثُ النَّبوي، وهو أجلُّ ما تثبتُ به اللُّغةُ بعد كتابِ الله تعالى، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أفصحُ العربِ قاطبةً، ولا يتقدَّمُ كلامَه في الفصاحةِ والبيانِ كلامُ بشرٍ بإجماعٍ

(5)

، قالَ الشّافعي (ت: 204): «ولسانُ العربِ أوسَعُ الألسنةِ مَذهباً، وأكثرُها ألفاظاً، ولا نعلمُه يُحيطُ بجميعِ

(1)

جامع البيان 12/ 213.

(2)

مصطلحٌ نحويٌّ كوفيٌّ، سبق التَّعريفُ به (ص: 206).

(3)

جامع البيان 10/ 366. وينظر: 1/ 149، 166، 551، 5/ 533، 715، 14/ 144، 21/ 134، 398.

(4)

جامع البيان 1/ 156.

(5)

ينظر: المزهر 1/ 165، وفيض نشر الانشراح 1/ 446، وفي أصول النحو (ص: 47).

ص: 418

علمِه إنسانٌ غيرُ نبيٍّ»

(1)

. وقد سارَ على الاحتجاجِ بحديثِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في اللُّغةِ والنَّحو عامَّةُ أئِمَّةِ اللُّغةِ، ولا يُعلمُ عن أحدِهم التوقُّفُ في ذلك، حتى ظهرَ بعضُ علماءِ اللُّغةِ المتأخِّرين

(2)

ومنعَ مِنْ الاستشهادِ بالحديثِ لتصحيحِ قواعدِ العربيَّةِ وأحكامِها؛ لبعضِ العِللِ

(3)

. ولم يلتفِت الأئمَّةُ المُحقِّقون إلى ذلك القولِ، بعد أن بيَّنوا خطأَه، بل انعقدَ إجماعُهم العمليُّ على خِلافِه، قالَ ابنُ الطَّيّبِ الفاسي

(4)

(ت: 1170): «ما رأيتُ أحداً مِنْ الأشياخِ المُحقِّقين إلا وهو يستدلُّ بالأحاديثِ على القواعدِ النَّحويَّةِ والألفاظِ اللغويَّةِ، ويستنبطون مِنْ الأحاديثِ النَّبويَّةِ الأحكامَ النَّحويَّةَ والصَّرفيَّةَ واللغويَّةَ، وغيرَ ذلك مِنْ أنواعِ العلومِ اللسانيَّةِ، كما يستخرجون مِنها الأحكامَ الشَّرعيَّةَ»

(5)

، وبحسبِ ما حقَّقَته إحدى

(1)

الرسالة (ص: 42). وينظر: الصّاحبي (ص: 24).

(2)

أوَّلُ مَنْ أظهرَ هذا القولَ أبو الحسن ابنُ الضّائعِ (ت: 680)، وتبعَه أبو حيّان الأندلسيّ (ت: 745).

(3)

تعرَّضَ لهذه المسألةِ بشيءٍ مِنْ التَّفصيلِ السيوطيُّ (ت: 911) في الاقتراح في أصول النحو 1/ 446، والبغداديُّ (ت: 1093) في خزانة الأدب 1/ 9، وأوفى مَنْ تكلَّمَ عنها وأجادَ ابنُ الطيّبِ الفاسي (ت: 1170) في كتابَيْه: شرح كفايةِ المتحفّظ (ص: 96)، وفيض نشر الانشراح 1/ 446. وفي ضوابط الفكر النحوي 1/ 339 تحريرٌ جيّدٌ لأقوالِ العلماءِ، وجمعٌ وافٍ للأبحاثِ المعاصرةِ حولَها.

(4)

محمد بن الطِّيب بن محمد الفاسيّ المغربيّ المالكيّ، عالمٌ لُغويٌّ مُحدِّثٌ، صنَّفَ: إضاءَة الرّاموس، وله حاشية على الجلالَيْن، وغيرها، مات سنة (1170). ينظر: سلك الدُّرر 4/ 91، وفهرس الفهارس 2/ 1067.

(5)

شرح كفاية المتحفظ (ص: 100).

ص: 419

الباحثاتِ

(1)

فقد بلغَ ما استشهدَ به أئمَّةُ النَّحوِ الأوائلِ مِنْ الحديثِ (87) حديثاً شريفاً، و (29) أثراً عن الصَّحابةِ رضي الله عنهم

(2)

.

ولعلَّ مِنْ سببِ قلَّةِ تلك الشَّواهدِ بالنِّسبةِ إلى غيرِها ما نعلمُه مِنْ تهيُّبِهم مِنْ نِسبةِ شيءٍ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دون العلمِ بثبوتِه، ولم يكُنْ مِنْ شأنِ أهلِ اللُّغةِ الفحصُ عن ذلك، ولم تظهرْ مجاميعُ الحديثِ المعتمَدةِ -كالصَّحيحَينِ والسُّننِ الأربعةِ ومُسندِ أحمدَ- إلا بعد استِتْمامِ البناءِ لأصولِ كلامِ العربِ وقواعدِه بسنينَ طويلةٍ

(3)

.

وقد سارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه على هذا النَّهجِ، ومِن شواهدِ استدلالِه بالحديثِ على مسألةٍ لغويّةٍ قولُه: «فإن قالَ: فإن كانَ جائزاً أن يُقالَ لمن عبدَ الله: ألَهَه. على تأويلِ ابنِ عبّاسٍ ومُجاهدٍ، فكيف الواجبُ في ذلك أن يُقالَ إذا أرادَ المُخبِرُ الخَبرَ عن استيجابِ الله ذلك على عبدِه؟ قيلَ: أمّا الرِّوايةُ فلا روايةَ به عندنا، ولكنَّ

(1)

هي د. خديجة الحديثي، في كتابِها: موقفُ النُّحاةِ مِنْ الاحتجاجِ بالحديثِ الشَّريف (ص: 88)، وقد جمعَت إحصائَها ممّا ذكرَه أبو عمرو بن العلاءِ (ت: 154)، والخليلُ بن أحمد (ت: 175)، وسيبويه (ت: 180)، والفرّاء (ت: 207)، والمُبرِّد (ت: 285)، والزَّجاج (ت: 311)، وغيرُهم مِنْ أئِمةِ اللغةِ المتقدِّمين.

(2)

وينظر: النُّحاة والحديث النبوي الشريف (ص: 93)، والحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية (ص: 335)، ففيهما إحصاءات وشواهد لبناءِ أئمةِ اللغةِ قواعدَها على الحديثِ النبويّ الشّريفِ.

(3)

رجَّحَ بعضُ الباحثين أنَّ البخاريَّ فرغَ مِنْ تأليفِ كتابِه الصَّحيحِ سنةَ (233)، وذلك بعدَ أن دُوِّنَ النَّحوُ في كتابِ سيبويه بما يزيدُ عن نصفِ قرنٍ. ينظر: ضوابط الفكر النحوي 1/ 370.

ص: 420

الواجبَ على قياسِ ما جاءَ به الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي حدَّثنا .. ، أن يُقالَ: اللهُ جلَّ ثناؤُه إلهُ العبدِ، والعبدُ ألَهَه. وأن يكونَ قولُ القائلِ: اللهُ. مِنْ الكلامِ أصلُه: الإلهُ»

(1)

.

3 -

كلامُ العربِ، وهو أوسعُ وأشملُ مصدرٍ تثبتُ به اللُّغةُ، و «لا خلافَ بين أئمَّةِ العربيَّةِ في أنَّ كلامَ العربِ كُلَّه؛ نظْمَه ونثْرَه يُستدلُّ به على إثباتِ القواعدِ العربيَّةِ مُطلَقاً؛ مِنْ لُغةٍ، وصرفٍ، ونحوٍ، وغيرِ ذلك»

(2)

. ويشملُ كلامُ العربِ: الشِّعرَ والنَّثرَ. وإنَّما يُحتجُّ منهُما «بما ثبتَ عن الفصحاءِ المَوثوقِ بعربيَّتِهم»

(3)

، ولتحقيقِ ذلك أصَّلَ العلماءُ أصولاً تضمنُ سلامةَ العربيَّةِ الفصحى (اللُّغةَ الأدبيَّةَ المُشتركةَ)، وحِفظَها على ما كانَتْ عليه في أزهى عصورِها؛ قُبَيْلَ ظهورِ الإسلامِ، وحين تنزُّلِ القرآنِ الكريمِ

(4)

.

وفيما يأتي تعريفٌ موجزٌ بتلك الأصولِ:

أوَّلُها: تحديدُ مَنْ تُؤخذُ عنهم اللُّغةُ مِنْ النَّقَلةِ، والشَّرطُ فيهم: الثِّقةُ والعدالةُ. قالَ ابنُ فارس (ت: 395): «إنَّما تُؤخذُ اللُّغةُ مِنْ الرُّواةِ الثِّقاتِ ذوي الصِّدقِ والأمانةِ، ويُتَّقى المُظَنّون»

(5)

، وأفردَ ابنُ جنّي (ت: 392)

(1)

جامع البيان 1/ 123.

(2)

شرح كفاية المتحفظ (ص: 101).

(3)

الاقتراح في أصول النَّحو 1/ 526. وينظر: لمع الأدلة (ص: 81).

(4)

هذه المسألةُ وثيقةُ الصِّلةِ بإعجازِ القرآنِ الكريمِ. ينظر: مداخل إعجاز القرآن (ص: 165)، والإعجاز البلاغي، لمحمد أبو موسى (ص: 13، 15).

(5)

الصّاحبي (ص: 62) طبعة/ السيّد صقر.

ص: 421

باباً في خصائِصِه بعنوانِ: (بابٌ في صدقِ النَّقَلةِ، وثِقةِ الرُّواةِ والحَمَلةِ)

(1)

، وقرَّرَ ابنُ الأنباري

(2)

(ت: 577) هذا الشَّرطَ بقولِه: «أن يكونَ ناقلُ اللُّغةِ عدلاً؛ رجلاً كانَ أو امرأةً، حُرّاً كانَ أو عبداً»

(3)

.

وعلى هذا سارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، فلا يقبلُ اللُّغةَ إلا عن ثِقةٍ، كما في قولِه:«وقد زعمَ بعضُهم أنَّ الوِزرَ: الثِّقلُ والحِملُ. ولستُ أعرفُ ذلك كذلك في شاهدٍ، ولا مِنْ روايةِ ثِقةٍ عن العربِ»

(4)

، وفي قولِه تعالى {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15]، أجابَ عمَّن جعلَ الإخفاءَ بمعنى: الإظهارَ. فقالَ: «الذين وجَّهوا معناه إلى الإظهارِ إنَّما اعتمدوا على بَيْتٍ لامرئِ القَيسِ بن عابِسٍ الكِنديِّ. حُدِّثتُ عن معمرِ بن المُثَنّى أنَّه قالَ: أَنشَدَنيه أبو الخطّابِ، عن أهلِه في بَلَدِه

(5)

:

فإنْ تَدفِنوا الدّاءَ لا نُخْفِه

وإن تَبعثوا الحربَ لا نقعُدِ

بضَمِّ النّونِ مِنْ: نُخْفِه. ومعناه: لا نُظهِرْه. فكانَ اعتمادُهم في تَوْجيه الإخفاءِ في هذا المَوضِعِ إلى الإظهارِ على ما ذَكروا مِنْ سماعِهم هذا البَيْت، على ما وصَفتُ مِنْ ضَمِّ النّونِ مِنْ: نُخْفِه. وقد أنشَدَني الثِّقةُ عن الفرّاءِ:

(1)

الخصائص 2/ 502.

(2)

عبد الرَّحمن بن محمد الأنباري، أبو البركاتِ كمال الدّين، الأديبُ اللُّغويُّ، صنَّف: البيان في غريبِ إعرابِ القرآن، ونزهة الألبّاء، وغيرها، مات سنة (577). ينظر: إنباه الرّواة 2/ 169، وبغية الوُعاة 2/ 86.

(3)

لمع الأدلة (ص: 85). وينظر: الخصائص 1/ 411، والمزهر 1/ 48، والاقتراح في أصول النَّحو 1/ 563.

(4)

جامع البيان 9/ 216.

(5)

البيت مَنسوبٌ في مجاز القرآن 2/ 17، ولسان العرب 18/ 256، لامرئِ القَيْس بن عابس رضي الله عنه، وهو صحابيٌّ شاعرٌ، كما في أُسْد الغابة 1/ 137. والبيتُ أيضاً في ديوان امرئِ القَيْس بن حُجْر (ص: 186).

ص: 422

فإنْ تَدفِنوا الدّاءَ لا نَخْفِه

بفتحِ النّونِ مِنْ: نَخْفِه. مِنْ: خَفِيتُه أخْفيه. وهو أَوْلى بالصَّوابِ؛ لأنَّه المعروفُ مِنْ كلامِ العربِ»

(1)

.

ويتفرَّعُ عن شرطِ العدالةِ: اشتراطُ الإسنادِ إلى الرّاوي

(2)

، قالَ ابنُ الأنباري (ت: 577): «العدالةُ شرطٌ في قبولِ النَّقلِ، والجهلُ بالنّاقلِ وانقطاعُ سندِ النَّقلِ يوجِبان الجهلَ بالعدالةِ؛ فإنَّ مَنْ لم يُذكَرْ اسمُه، أو ذُكرَ اسمُه ولم يُعرَفْ، لم تُعرفْ عدالتُه، فلا يُقبلُ نقلُه»

(3)

، وقالَ السيوطي (ت: 911): «الاعتمادُ على ما رواه الثِّقاتُ عنهم بالأسانيدِ المُعتبرةِ؛ مِنْ نثرِهم ونَظمِهم»

(4)

، والنقلُ عن الحُجَّةِ حُجَّةٌ؛ فلو نقلَ عن (ثقةٍ، أو حُجَّةٍ) ولم يُسمِّه لصحَّ مِنه؛ لتوفُّرِ شرطِ العدالةِ، «وقد وقعَ ذلك لسيبويه كثيراً؛ يعني به الخليلَ وغيرَه، وكانَ يونسُ

(5)

يقول: حدَّثني الثِّقةُ

(1)

جامع البيان 16/ 37. وينظر: 12/ 477، 24/ 628.

(2)

المعنى المقصودُ للإسنادِ في الرِّواية اللغويّةِ يتحقَّقُ بصِحَّةِ النَّقلِ عن راوي الشَّاهدِ وناقِلِه؛ لأنَّ ذلك كافٍ في تصحيحِ الاحتجاجِ بنقلِه عمَّن نقلَه عنه، ولو لم تُعرَفْ عينُ القائلِ، وذلك خلافُ معنى الإسنادِ في الرِّوايةِ الحديثيَّةِ، وقد قرَّرَ ذلك وأحسنَ تفصيلَه صاحبُ كتابِ: مصادر الشعر الجاهلي (ص: 274 - 283).

(3)

لمع الأدلة (ص: 90). وينظر: المزهر 1/ 96.

(4)

الاقتراح في أصول النحو 1/ 544.

(5)

يونس بن حبيب الضَّبّي البَصريّ، إمامٌ في اللُّغةِ والنَّحوِ، صاحبُ أبي عمرو بن العلاءِ، وشيخُ سيبوَيْه، مات سنة (182). ينظر: أخبار النَّحويّين البصريّين (ص: 51)، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 51).

ص: 423

عن العربِ. فقيلَ له: مَنْ الثِّقةُ؟ قالَ: أبو زيد

(1)

. قيلَ له: فلمَ لا تُسمّيه؟ قالَ: هو حيٌّ بعدُ، فأنا لا أُسمّيه»

(2)

، وتلك عادةُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، ومِن ذلك قولُه:«وقالَ غيرُه مِنْ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ»

(3)

، يعني: أبا عبيدةَ معمرَ بن المُثنّى (ت: 210)

(4)

، وقولُه:«أنشدني الثِّقةُ عن الفرّاءِ»

(5)

، وقولُه: «وقد حدَّثني الحارثُ، عن أبي عُبيدٍ، قالَ: أخبرَني اليَزيديُّ

(6)

والأصمعيُّ

(7)

، كلاهُما عن أبي عمرٍو

(8)

، قالَ: ما سمعتُ أحداً مِنْ العربِ يقولُ: أَوْقفتُ الشّيءَ. بالألفِ»

(9)

.

ويلحقُ بهذا البابِ أيضاً: عدمُ صِحَّةِ الاحتجاجِ بما لا يُعرفُ قائِلُه،

(1)

سعيد بن أَوْس بن ثابت الأنصاريّ، أبو زيدٍ البَصريّ، إمامٌ في اللُّغةِ والنَّحوِ، له كتابُ النَّوادر، ومات سنة (215). ينظر: أخبار النَّحويّين البصريّين (ص: 68)، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 165).

(2)

المرجع السابق 1/ 628.

(3)

جامع البيان 10/ 320.

(4)

مجاز القرآن 1/ 220.

(5)

جامع البيان 16/ 37.

(6)

يحيى بن المُباركِ اليَزيديّ، أبو محمد البَصريّ، أخذَ عن أبي عمرو بن العلاءِ، ومات سنة (202). ينظر: أخبار النَّحويّين البصريّين (ص: 56)، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 61).

(7)

عبد الملك بن قُرَيْب بن عليّ الباهليّ، أبو سعيد الأصمعيّ البَصريّ، حافظُ اللُّغةِ، وراويةُ الشِّعر، مات سنة (216). ينظر: أخبار النَّحويّين البصريّين (ص: 72)، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 167).

(8)

زبّانُ بن العلاءِ المازنيّ، أبو عمرو البَصريّ، الإمامُ الحافظُ المُقرئُ اللُّغويّ، مات سنة (154). ينظر: طبقات القرّاء 1/ 91، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 35).

(9)

جامع البيان 9/ 207. وينظر: 2/ 19، 416، 6/ 661، 9/ 414، 415، 14/ 188، 15/ 250.

ص: 424

إلا إن رواه عربيٌّ يُحتجُّ بكلامِه، قالَ السيوطيُّ (ت: 911): «لا يجوزُ الاحتجاجُ بشعرٍ أو نثرٍ لا يُعرَفُ قائِلُه، صرَّحَ بذلك ابنُ الأنباريِّ في (الإنصافِ)

(1)

، وكأنَّ علَّةَ ذلك: خَوفُ أن يكونَ لمولَّدٍ، أو مَنْ لا يوثَقُ بفصاحتِه»

(2)

.

وقد اعتنى ابنُ جريرٍ (ت: 310) عنايةً ظاهرةً بنسبَةِ اللُّغاتِ والأبياتِ إلى قائِليها؛ فيُسمّي في اللُّغاتِ القائِلَ، أو القبيلةَ، أو جهتَها ومكانَها، ويعزو الشِّعرَ إلى قائِلِه، ويُميِّزُهم عند الاشتراك (كامرئِ القَيسِ بن حُجْر، وابن عابسٍ الكِنديِّ)

(3)

، و (أعشى بني ثعلبةَ، وهمدان)

(4)

، و (نابغةِ بني ذُبيان، وبني جَعْدة)

(5)

، ويُصحِّحُ نسبةَ بعضِ الأبياتِ. ومِن

(1)

(ص: 294، 350، 365).

(2)

الاقتراح في أصول النحو 1/ 621. وينظر: خزانة الأدب 1/ 15.

(3)

امرؤ القَيس بن حُجْر بن الحارثِ بن عَمرو الكِنديّ، مِنْ أصحابِ المُعلَّقاتِ، ومِن أشعرِ الجاهليّين. وامرؤ القَيس بن عابس الكِنديّ، صحابيٌّ شاعرٌ. ينظر: أسد الغابة 1/ 137، وطبقات فحول الشّعراء 1/ 51.

وينظر: جامع البيان 1/ 549، 4/ 12، 10/ 526، 16/ 37.

(4)

أعشى بني ثَعلبةَ هو الأعشى الكبير ميمون بن قيس، وأعشى هَمْدان هو عبد الرَّحمن بن عبد الحارث، مِنْ شعراء الدّولةِ الأمويّة. ينظر: طبقات فحول الشّعراء 1/ 52، والأغاني 6/ 27.

وينظر: جامع البيان 1/ 165، 539، 715.

(5)

النّابغةُ الذّبياني هو زيادُ بن معاوية، مِنْ مُقدَّمي شعراءِ الجاهليَّةِ وأصحابِ المُعلَّقاتِ. والنَّابغةُ الجَعديّ هو قيسُ بن عبد الله، شاعرٌ مُتقنٌ مُخضرمٌ، عُمِّر وأسلمَ. ينظر: طبقات فحول الشّعراء 1/ 51، 123.

وينظر: جامع البيان 1/ 103، 334، 3/ 48، 102.

ص: 425

شواهدِ ذلك قولُه: «وأصلُ السَّواءِ: الوَسَطُ. ذُكِرَ عن عيسى بن عمرَ النَّحويِّ

(1)

أنَّه قالَ: مازلتُ أكتبُ حتى انقطعَ سَوائي. يعني: وَسَطي»

(2)

، وقولُه:«وأمّا الزَّوجُ فإنَّ أهلَ الحجازِ يقولون لامرأةِ الرَّجلِ: هي زَوجُه. بمنزِلةِ الزَّوجِ الذَّكرِ .. ، وتميمٌ وكثيرٌ مِنْ قَيْسٍ وأهلُ نجدٍ يقولون: هي زَوجَتُه»

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]: «وقد ذُكرَ أنَّ الحصَبَ في لُغةِ أهلِ اليمنِ: الحطبُ. فإن يكُنْ ذلك كذلك، فهو أيضاً وجهٌ صحيحٌ، وأمَّا ما قُلنا مِنْ أنَّ معناه: الرَّميُ. فإنَّه في لُغةِ أهلِ نجدٍ»

(4)

، وقولُه:«وقد زعمَ بعضُ الرُّواةِ أنَّ بعضَ النّاسِ أنشدَه في (أكْبَرْنَ) بمعنى: حِضنَ. بيتاً لا أحسبُ أنَّ له أصلاً؛ لأنَّه ليس بالمعروفِ عند الرُّواةِ»

(5)

، وقولُه في قولِه تعالى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]-وأسندَ عن ابنِ وهبٍ

(6)

(ت: 197): «أنَّ ابنَ زيدٍ أنشَدَه:

قُعودٌ لدى الأبوابِ طُلّابُ حاجةٍ

عَوَانٍ مِنْ الحاجاتِ أو حاجةً بِكراً

(1)

هو عيسى بن عُمر الثَّقفيّ البَصريّ، مولى خالد بن الوليد رضي الله عنه، مِنْ أئمَّةِ اللُّغةِ، شيخُ الخليلِ بن أحمد، مات سنة (149). ينظر: أخبار النَّحويّين البَصريّين (ص: 49)، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 40).

(2)

جامع البيان 2/ 416. وينظر: طبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 42).

(3)

جامع البيان 2/ 358.

(4)

جامع البيان 16/ 413. وينظر: 2/ 403، 4/ 385، 7/ 456، 12/ 389.

(5)

جامع البيان 13/ 132.

(6)

عبد الله بن وهبِ بن مسلم القُرشيّ مولاهم، أبو محمد المِصريّ المالكيّ، الفقيهُ الإمامُ الحافظُ، صنَّفَ: الجامع في تفسيرِ القرآن، والمغازي، مات سنة (197). ينظر: السّير 9/ 223، وتهذيب التّهذيب 2/ 453.

ص: 426

قالَ أبو جعفرٍ: والبيتُ للفرزدقِ

(1)

(2)

، وقولُه عن شاهدٍ شِعريٍّ: «ومِنه قولُ ابنِ الزِّبَعْرى

(3)

، وقيلَ إنَّه لأبي سُفيانَ بن الحارثِ بن عبد المُطَّلبِ»

(4)

.

وربما استشهد بما لم يُسمِّ قائلَه

(5)

؛ لإحدى علَلٍ ثلاثٍ:

1 -

اختصاراً؛ لاشتِهارِ الشَّاهدِ عند أهلِ اللُّغةِ، وثُبوتِه في كُتبِهم، كما في تركِه نسبةَ بعضِ أبياتِ المُعلَّقاتِ، وما لا يَخفى قائِلُه

(6)

، وكذا استشهادُه بأبياتٍ مِنْ القصيدةِ، ونسبةُ بعضِها إلى الشّاعرِ في مواضِعَ دون أخرى، ممّا يدُلُّ على عِلمِه بها.

(7)

أو لتكرُّرِ ورودِ الشّاهدِ في موضِعٍ آخرَ مِنْ التَّفسيرِ منسوباً؛ فيستغني به عن تكرارِ نسبتِه إليه.

(8)

(1)

في ديوانِه (ص: 227).

(2)

جامع البيان 2/ 88.

(3)

عبد الله بن الزِّبَعرى بن قيس السَّهميّ، مِنْ أبرعِ شعراءِ قريش، كانَ يهجو المسلمين ويُحرِّضُ عليهم، ثُمَّ أسلمَ يوم الفتح. ينظر: طبقات فحول الشّعراء 1/ 234، والاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 901.

(4)

جامع البيان 13/ 669. وينظر: 3/ 77، 9/ 663، 13/ 483.

(5)

كما في 1/ 93، 104، 118، 608، 4/ 193، 210، 214. وقد أحصى بعضُ الباحثين الشَّواهدَ الشِّعريَّةَ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) فبلغَتْ: (2260) شاهداً؛ المنسوبُ مِنها: (962) شاهداً، بنِسبةِ (42. 5%)، وغيرُ المَنسوبِ (1298). وذكرَ أنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) فاقَ في نسبةِ الشّواهدِ الشِّعريَّةِ لقائليها جميعَ المُفسِّرين؛ لتقدُّمِه، وسعةِ معرفتِه بشعرِ العربِ. ينظر: الشّاهد الشّعري في تفسيرِ القرآن الكريم (ص: 541).

(6)

ينظر: جامع البيان 1/ 680، 2/ 189، 470، 6/ 455.

(7)

ينظر: جامع البيان 6/ 225، 12/ 45، 14/ 324، 19/ 403، 24/ 296.

(8)

ينظر: جامع البيان 1/ 722، 6/ 356. و 3/ 640، 16/ 42. و 2/ 189، 18/ 480، 24/ 424.

ص: 427

2 -

للاختلافِ في نسبتِه، فيُجمِلُ القائِلَ، مع كَونِهم جميعاً محلَّ الاحتجاجِ.

3 -

ثقةً بمَن ينقلُ عنه؛ وأغلبُ نقلِه عن مؤلَّفاتِ أئِمَّةِ اللُّغةِ، وممّا أسندَه عنهم سماعاً؛ وقد أكثرَ النَّقلَ عن الفرَّاءِ (ت: 207)

(1)

، وأبي عبيدةَ معمرِ بن المُثنّى (ت: 210)

(2)

.

كما نقلَ عن عيسى بن عمر (ت: 149)، وأبي عمرو بن العلاءِ (ت: 154)، ويونسِ بن حبيبٍ (ت: 182)، والكِسائيّ

(3)

(ت: 189)، والأخفشِ

(4)

(ت: 215)، وأبي عُبيْدٍ القاسمُ بن سلّامٍ (ت: 224)، في مواضِعَ

(5)

. قالَ ياقوتُ الحمويُّ (ت: 626) في سياقِ تعريفِه بتفسيرِ (جامعِ البيانِ): «وذكرَ فيه مجموعَ الكلامِ والمعاني مِنْ كتابِ عليّ بن حمزةَ الكسائيّ، ومِن كتابِ يحيى بن زيادٍ الفرّاءِ،

(1)

ينظر: جامع البيان 8/ 244، 9/ 487، 10/ 208، 320، 12/ 44. وقد سمّاه في (84) موضِعاً، وربَّما نقلَ عنه ولم يُسمِّه. ينظر: الطَّبري والجهود النّحويةُ في تفسيرِه (ص: 408 - 418).

(2)

ينظر: جامع البيان 3/ 358، 8/ 244، 13/ 74، 504. وقد سمّاه في (21) موضِعاً، ولا يُسمّيه في الأكثرِ. ينظر: أقوالُ أبي عبيدة في تفسيرِ الطبري (ص: 43)، والطَّبري والجهود النّحويةُ في تفسيرِه (ص: 420).

(3)

عليّ بن حمزةَ الكسائيّ الأسديّ مولاهم، أبو الحسنِ الكوفيّ، الإمامُ المُقرئُ النَّحويّ، صنَّف: معاني القرآن، والحروف، مات سنة (189). ينظر: طبقات القرّاء 1/ 149، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 127).

(4)

سعيد بن مَسعدةَ المُجاشعيّ البَصريّ، الأخفشُ الأَوسط، عالمٌ باللُّغةِ والنَّحوِ، صنَّف: معاني القرآن، وغيره، مات سنة (215). ينظر: أخبار النَّحويّين البَصريّين (ص: 66)، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 72).

(5)

ينظر: جامع البيان 2/ 416، 9/ 207، 548، 10/ 460، 598، 656، 13/ 74، 125، 22/ 52.

ص: 428

ومِن كتابِ أبي الحسنِ الأخفشِ، ومِن كتابِ أبي علي قُطرب

(1)

، وغيرِهم، ممّا يقتضيه الكلامُ عند حاجتِه إليه؛ إذْ كانَ هؤلاءِ هُمْ المُتكلِّمون في المعاني، وعنهم يُؤخذُ معانيه وإعرابِه، ورُبَّما لم يُسمِّهم إذا ذكرَ شيئاً مِنْ كلامِهم»

(2)

.

والقاعدةُ العامُّةُ عند أهلِ اللُّغةِ في بابِ الشَّواهدِ: أنَّ المُهمَّ في الشَّاهدِ الرَّاوي لا القائلُ؛ إذْ به تتبيَّنُ صِحَّةُ الاحتجاجِ مِنْ عدمِه، وهو المُرادُ

(3)

. وقد اعتمدَ العلماءُ ما رواهُ سيبويه (ت: 180) عن العربِ ممّا لا يُعرفُ قائِلُه؛ ثِقةً به، قالَ البغداديّ (ت: 1093): «الشّاهدُ المجهولُ قائِلُه وتَتِمَّتُه إنْ صدرَ مِنْ ثِقةٍ يُعتمدُ عليه قُبلَ، وإلا فلا؛ ولهذا كانَت أبياتُ سيبويه أصحَّ الشَّواهدِ، اعتَمدَ عليها خلفٌ بعد سلفٍ، مع أنَّ فيها أبياتاً عديدةً جُهلَ قائِلوها، وما عيبَ بها ناقِلوها، وقد خرجَ كتابُه إلى النّاسِ والعلماءُ كثيرٌ، والعنايةُ بالعلمِ وَكِيدةٌ، ونُظرَ فيه وفُتِّشَ، فما طعنَ أحدٌ مِنْ المُتقدِّمين عليه، ولا ادَّعى أنَّه أتى بشِعرٍ مُنكرٍ»

(4)

.

ولأجلِ ذلك يقعُ الاستشهادُ كثيراً بأشعارِ القبائِلِ دون تعيينِ قائلٍ

(1)

محمد بن المُستَنير، أبو عليّ النَّحويّ اللُّغويّ، المعروفُ بقُطرُب، صنَّف: إعراب القرآن، والنَّوادر، وغيرها، مات سنة (206). ينظر: وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 99)، وبغية الوعاة 1/ 242.

(2)

معجم الأدباء 6/ 2454. ولم أجِدْ لقُطربَ (ت: 206) ذكرٌ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، ولعلَّه لمْ يُسمِّه.

(3)

ينظر: الطبري والجهود النحوية في تفسيرِه (ص: 381)، والشّاهد الشعري في تفسيرِ القرآن (ص: 542).

(4)

خزانة الأدب 1/ 16. وقد بلغت الأبياتُ المجهولةُ في كتابِ سيبويه (342) بيتاً، بإحصاءِ مؤلّفِ كتابِ: بحوث ومقالات في اللغة (ص: 90)، وبلغَ ما عُرِفتْ نسبتُه مِنها (233)، والباقي (109) غيرُ معروفةِ النِّسبةِ. وينظر: ضوابط الفكر النحوي 1/ 388.

ص: 429

مِنها بعينِه، كما في قولِ ابنِ جريرٍ (ت: 310): «ومِنه قولُ الهُذَلي»

(1)

، وشُعراءُ هذَيلٍ كثيرون، وقولِه:«وقالَ رجلٌ مِنْ بني أسدٍ»

(2)

، وقولِه:«وقالَ بعضُ بني عقيلٍ»

(3)

، وأمثالِ ذلك، وأكثرُ ما يقعُ ذلك عندَ نِسبةِ اللّهجاتِ دونَ الأبياتِ.

ثانيها: تحديدُ مستوى اللُّغةِ التي تكونُ معياراً يُحكَمُ به ويُقاسُ عليه، وقد قصدَ أئمَّةُ اللُّغةِ «إلى وضعِ قواعدَ للُغةٍ واحدةٍ كانَ يُخشى عليها مِنْ فسادِ الألسنةِ، وانتشارِ اللحنِ؛ هي لُغةُ: القرآنِ الكريمِ، والشِّعرِ الجاهليِّ، وكلامِ العربِ المُطَّردِ دون لُغةِ الكلامِ العاديِّ، وهذا ما يُعرَفُ ب (اللُّغةِ الأدبيَّةِ) التي رأى اللغويون الأوائِلُ أنَّها تُمثِّلُ العربيَّةَ الفُصحى الجامعةَ للعربِ على اختلافِ قبائلِهم، وتباعُدِ أماكنِ سُكناهم»

(4)

، كما أنَّهم لم يرفضوا ما خالفَ تلك (اللُّغةَ المُشتركةَ) مِنْ اللهجاتِ الخاصَّةِ ببعضِ القبائلِ، ولم يُخطِّئوا مِنها شيئاً، بل سمَّوْها: لُغاتٍ. قالَ ابنُ جنّي (ت: 392) بعد أن ذكرَ أمثالاً لتلك اللهجاتِ: «وكيفَ تصرَّفَت الحالُ فالنّاطقُ على قياسِ لُغةٍ مِنْ لُغاتِ العربِ مُصيبٌ غيرُ مُخطئٍ، وإن كانَ غيرُ ما جاءَ به خيراً مِنه»

(5)

.

وقد كانَ ذلك المعيارُ حاضِراً فيما قَبِلَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) وقدَّمَ مِنْ اللغاتِ، وفيما تركَ وأخَّرَ مِنها، بل جعلَ مِنْ ذلك أصلاً في التّوجيهِ

(1)

جامع البيان 9/ 355.

(2)

جامع البيان 1/ 154، 211، 9/ 503، 19/ 619، 24/ 696.

(3)

جامع البيان 4/ 385، 10/ 225، 12/ 140، 19/ 504، 24/ 171.

(4)

ضوابط الفكر النحوي 1/ 222. وينظر: الاحتجاج بالشِّعر في اللغةِ (ص: 84).

(5)

الخصائص 1/ 400، ضمن:(باب اختلافِ اللغات وكلُّها حُجَّةٌ).

ص: 430

والاستدلالِ؛ فقالَ: «وهذا القَولُ وإنْ كانَ مَذهباً مِنْ المذاهبِ، فليس بالأشهرِ الأفصحِ في كلامِ العربِ، والذي هو أَولى بكتابِ الله أن يُوجَّهَ إليه مِنْ اللُّغاتِ الأفصحُ الأعرفُ مِنْ كلامِ العربِ، دونَ الأنْكرِ الأجْهلِ مِنْ مَنطِقِها»

(1)

، وقالَ أيضاً:«كتابُ الله جلَّ ثناؤُه نزلَ بأُفصَحِ لُغاتِ العربِ، وغيرُ جائِزٍ توجيهُ شيءٍ مِنه إلى الشّاذِّ مِنْ لُغاتِها وله في الأفصحِ الأَشهرِ معنىً مفهومٌ، ووَجهٌ معروفٌ»

(2)

.

ثالثها: تحديدُ عصورِ الاحتجاجِ بالمَسْموعِ، والذي يبدأُ مِنْ زمنِ الجاهليةِ قبل الإسلامِ بنحوِ قرنَيْن مِنْ الزَّمانِ، وينتهي بأواخرِ القرنِ الثّاني لأهلِ الأمصارِ، ويمتدُّ إلى نهايةِ القرنِ الرّابعِ لأهلِ الباديةِ

(3)

. قالَ أبو عبيدة معمرُ بن المُثنّى (ت: 210): «افتُتِحَ الشِّعرُ بامرئِ القَيْسِ، وخُتمَ بابنِ هَرْمةَ

(4)

(5)

. وباعتبارِ هذا المعيارِ الزَّمنيِّ قُسِمَ الشُّعراءُ

(6)

إلى أربعِ طبقاتٍ:

1 -

الجاهليّين.

(1)

جامع البيان 2/ 693.

(2)

جامع البيان 10/ 80. وينظر: 6/ 580، 7/ 503، 8/ 20، 12/ 483، 15/ 65، 16/ 95، 123.

(3)

ينظر: الاحتجاج بالشِّعرِ في اللغة (ص: 83)، وضوابط الفكر النحوي 1/ 222.

(4)

إبراهيم بن عليّ بن سلمةَ بن عامر بن هَرْمَةَ القرشيّ، أبو إسحاق المدنيّ، شاعرٌ فصيحٌ مجيدٌ، مات سنة (176). ينظر: طبقات الشّعراء، لابن المُعتزّ (ص: 20)، والشّعر والشّعراء (ص: 753).

(5)

المزهر 2/ 411.

(6)

جاءَ التَّحديدُ للشِّعرِ، والنَّثرُ مثلُه في ذلك؛ وإنَّما تكلَّموا على الشِّعرِ «لأنَّ المحفوظَ المنقولَ أغلَبُه شعرٌ». شرح كفاية المتحفظ (ص: 101).

ص: 431

2 -

المُخضرَمين.

3 -

الإسلاميّين أو المُتقدِّمين، وآخرُهم: إبراهيمُ بن هَرْمةَ (ت: 176).

4 -

المُوَلَّدين أو المُحدَثين، وهم «مَنْ جاءَ بعد عصرِ المائتَيْن، وأوَّلُهم بشّارُ بن بُرْدٍ

(1)

، وأبو نُوَاسٍ

(2)

(3)

.

قالَ ابنُ الطّيبِ الفاسي (ت: 1170): «فأمّا الجاهليّون والمُخضرَمون فقد أجمعوا على الاستشهادِ بكلامِهم، وإثباتِ القواعدِ في سائِرِ الفنونِ بنَثارِهم ونَظمِهم، وأمّا الطّبقةُ الثّالثةُ وكلُّهم الإسلاميّون، فاختلفوا في الاستدلالِ بكلامِهم، وأطبقَ المُحقّقون على الاستشهادِ به ولم يعبَئوا بالخِلافِ في ذلك

(4)

، وأمّا طبقةُ المولَّدين فلا يُستشهدُ بكلامِهم في القواعدِ النَّحويَّةِ والألفاظِ العربيَّةِ

(5)

، بل يجوزُ الاستشهادُ بشِعرِهم في

(1)

بشّارُ بن بُرد، مولى بني عُقَيل، أبو معاذ، شاعرٌ مُفلقٌ، رَأسُ المُحدَثين مِنْ الشُّعراءِ والمُقدَّمُ فيهم بإجماعِ الرُّواةِ، قتلَه المَهديُّ سنة (167). ينظر: طبقات الشّعراء، لابن المُعتزّ (ص: 21)، والأغاني 3/ 94.

(2)

الحسنُ بن هانئ، مولى الحكم بن سعد العَشيرة، أبو عليّ، شاعرٌ مُجيدٌ مطبوعٌ، مات سنة (195). طبقات الشّعراء، لابن المُعتزّ (ص: 193)، والشّعر والشّعراء (ص: 796).

(3)

شرح أبيات مغني اللبيب 3/ 391.

(4)

وهو رأيُ جمهورِ أهلِ اللغةِ، ولعلَّ المخالفين في ذلك -كأبي عمرو بن العلاءِ (ت: 154) والأصمعي (ت: 216) - إنّما أرادوا ترغيبَ النّاسِ في حفظِ أشعارِ المُتقدِّمين وروايتِها، وتأكيدِ العنايةِ بها، دون ما يسهلُ حِفظُه وتدوينُه مِنْ أشعارِ مَنْ بعدَهم. ينظر: الشّاهد الشعري في تفسير القرآن (ص: 100).

(5)

خالفَ في ذلك الزَّمخشريُّ (ت: 538)، واستشهدَ بشعرِ أبي تمام (ت: 231) في موضِعٍ واحدٍ، مضموماً لشاهدٍ آخرَ، وقالَ:«وهو وإن كانَ مُحدَثاً لا يُستشهدُ بشعرِه في اللغةِ، فهو مِنْ علماءِ العربيَّةِ، فاجعلْ ما يقولُه بمَنزلةِ ما يرويه، ألا ترى إلى قولِ العلماءِ: الدَّليلُ عليه بيتُ الحماسةِ. فيقتنعون بذلك لوُثوقِهم بروايتِه وإتقانِه» الكشاف 1/ 93. وقد ردَّ العلماءُ ذلك ولم يعتبروه؛ إذْ «مِنْ البَيِّنِ أنَّ إتقانَ الرِّوايةِ لا يستلزمُ إتقانَ الدَّرايةِ». خزانة الأدب 1/ 7. وينظر: شرح كفاية المتحفظ (ص: 101).

ص: 432

المعاني والبيانِ والبديعِ فقط»

(1)

، وقالَ السّيوطي (ت: 911): «أجمعوا على أنَّه لا يُحتَجُّ بكلامِ المولَّدين والمُحدَثين»

(2)

.

ولم يخرُج ابنُ جريرٍ (ت: 310) فيما استشهدَ به مِنْ كلامِ العربِ عن عصورِ الاحتجاجِ، كما لم يستشهدْ ببَيْتِ أحدٍ مِنْ المولَّدين في لُغةٍ أو نحوٍ، ويشهدُ لذلك أمورٌ:

1 -

البحثُ والتَّتبُّعُ؛ وهو ما أَثْبتَه أيضاً صاحبُ كتابِ: (الشّاهدِ الشِّعريّ في تفسيرِ القرآنِ الكريمِ)، حيثُ أحصى الشَّواهدَ الشِّعريَّةَ لأربعةِ تفاسيرَ مِنها تفسيرُ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وذكرَ مِنْ شروطِ قبولِ الشّاهدِ الشِّعريِّ: أن يكونَ القائلُ مِمّن يُحتَجُّ بشِعرِه. وقالَ فيه: «وقد طبَّقَ المُفسِّرون هذا الشَّرطَ في شواهدِهم اللغويَّةِ والنَّحويَّةِ، ولم يستشهدوا بشاهدٍ مِنْ الشِّعرِ على سبيلِ الاستقلالِ لغَيْرِ مَنْ ينطبقُ عليه هذا الشَّرطُ، إلا الزَّمخشريَّ -كما تقدَّمَ- في مسألةٍ واحدةٍ»

(3)

، وقالَ: «وأمّا الطَّبريُّ في تفسيرِه فقد التزمَ بالاستشهادِ بأشعارِ الطَّبقاتِ الثَّلاثِ الأولى بصرامةٍ، وآخرُ الشُّعراءِ الذين استشهدَ بشِعرِهم هم: إبراهيمُ بن هَرْمةَ، وابنُ ميّادةَ الذبيانيّ

(4)

، وأبو نُخَيْلَةَ

(1)

شرح كفاية المتحفظ (ص: 101). وينظر: الخصائص 1/ 79.

(2)

الاقتراح في أصول النَّحو 1/ 611. وينظر: خزانة الأدب 1/ 5، وفيض نشر الانشراح 1/ 619.

(3)

الشاهد الشعري في تفسيرِ القرآن الكريم (ص: 531).

(4)

الرَّمّاحُ بن أَبرَد بن ثَوبان الذُّبيانيّ، أبو شراحيل، وميّادةُ أُمُّه، شاعرٌ فصيحٌ مطبوعٌ، مِنْ شُعراءِ الدَّولتَيْن الأمويَّة والعبّاسيَّة. ينظر: الشّعر والشّعراء (ص: 771)، والأغاني 2/ 171.

ص: 433

السَّعديّ الرَّاجِزُ

(1)

، وهؤلاءِ مِنْ الذين ذكرَ العلماءُ أنَّه قد خُتِمَ بهم الشِّعرُ»

(2)

.

2 -

ردُّ ابنِ جريرٍ (ت: 310) لعددٍ مِنْ الشَّواهدِ الخارجةِ عن ذلك، كما في قولِه:«وقد زعمَ بعضُ الرُّواةِ أنَّ بعضَ النّاسِ أنشدَه في (أكْبَرْنَ) بمعنى: حِضنَ. بيتاً لا أحسبُ أنَّ له أصلاً؛ لأنَّه ليس بالمعروفِ عند الرُّواةِ»

(3)

، وهو بيتٌ مصنوعٌ مُختلقٌ كما قالَ ابنُ عطية (ت: 546)

(4)

، وقالَ أيضاً: «وقد رُويَ عن بعضِ أهلِ الحجازِ بيتٌ مِنْ الشِّعرِ .. ، رأيتُ رُواةَ الشِّعرِ وأهلَ العلمِ بالعربيَّةِ مِنْ أهلِ العراقِ يُنكِرونَه؛ وذلك قَولُ قائِلِهم:

فزجَجْتُه مُتمكِّناً

زجَّ القَلوصَ أبي مزادةَ»

(5)

.

والبيتُ لأحدِ الموَلَّدين مِنْ شُعراءِ المدينةِ

(6)

، قالَ البغداديّ (ت: 1093): «وهذا البيتُ لم يعتمِدْ عليه مُتقِنو كتابِ سيبويه، حتى قالَ السِّيرافيّ

(7)

: لم يُثْبِتْه أحدٌ مِنْ أهلِ الرِّوايةِ»

(8)

.

(1)

أبو نُخَيْلة بن حَزن بن زائدة بن لقيط السَّعديّ، كنيتُه أبو الجُنَيْد، شاعرٌ رجّازٌ كثيرُ المعاني، عاصرَ الدَّولتَيْن. ينظر: طبقات الشّعراء، لابن المعتزّ (ص: 63)، والأغاني 20/ 251.

(2)

الشاهد الشعري (ص: 103).

(3)

جامع البيان 13/ 132.

(4)

المحرر الوجيز 7/ 495. وينظر: مجاز القرآن 1/ 309.

(5)

جامعُ البيانِ 9/ 576.

(6)

ينظر: خزانة الأدب 4/ 415.

(7)

الحسنُ بن عبد الله بن المَرزُبان، أبو سعيد السّيرافيّ البَصريّ، مِنْ أعلمِ النّاسِ بنحوِ البصريّين، شرحَ كتابَ سيبوَيْه، ومات سنة (368). طبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 119)، وإنباه الرّواة 1/ 348.

(8)

المرجع السابق 4/ 416.

ص: 434

3 -

ما نعلمُه مِنْ عنايةِ اللغوييّن والمُفسّرين وعامَّةِ العلماءِ بتفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) منذُ عصرِ مؤلِّفِه، وعلى مرِّ العصورِ، ولو كانَ قد وقعَ شيءٌ مِنْ ذلك لنبَّهوا إليه، وتداعَوا إلى إصلاحِه، على عادةِ العلماءِ في مِثلِه.

رابعها: تحديدُ الإطارِ المكاني لمَن يُحتجُّ بكلامِهم مِنْ العربِ، وقد اعتمَدَ أئمَّةُ اللُّغةِ لتحديدِ ذلك على المستوى الذي عدّوه فصيحاً مِنْ الكلامِ؛ فقبلوا مِمَّنْ لم تفسُدْ لُغتُهم، وطرحوا مِنْ اللهجاتِ ما خالفَ مقاييسَ الفصحى المُشتركةِ. ومِن ثَمَّ كثُرَ الأخذُ عن القبائلِ التي عاشَت في وسطِ جزيرةِ العربِ وشرقيِّها؛ لعُزلَتِهم، وقِلَّةِ اختلاطِهم بغيرِهم مِنْ الأمَمِ، ممّا دخلَ على العربيَّةِ بالفسادِ، ولهذا المعنى عقدَ ابنُ جنّي (ت: 392) باباً في خصائِصِه بعنوانِ: (ترك الأخذِ عن أهلِ المَدَرِ كما أُخِذَ عن أهلِ الوَبَرِ)، قالَ فيه:«علَّةُ امتناعِ ذلك ما عرضَ للُغاتِ الحاضِرةِ وأهلِ المدَرِ مِنْ الاختلالِ والفسادِ والخَطَلِ، ولو عُلِمَ أنَّ أهلَ مدينةٍ باقون على فصاحتِهم، ولم يعترِضْ شيءٌ مِنْ الفسادِ للُغتَهم، لوَجبَ الأخذُ عنهم كما يُؤخذُ عن أهلِ الوبَرِ. وكذلك أيضاً لو فشا في أهلِ الوبَرِ ما شاعَ في لغةِ أهلِ المدَرِ مِنْ اضطرابِ الألسنةِ وخبالِها، وانتقاضِ عادةِ الفصاحةِ وانتشارِها، لوجبَ رفضُ لُغتِها، وتركِ تلقّي ما يردُ عنها»

(1)

.

(1)

الخصائص 1/ 393. وقد أحصى صاحبُ كتابِ: الشَّاهد الشّعري في تفسير القرآن الكريم (ص: 450) قبائلَ شُعراءِ الشَّواهدِ عند المُفسّرين، ورتَّبَ القبائلَ بحسبِ كثرةِ شواهدِ شُعرائِها في كتبِ التفسيرِ، فجاءَ في الخمسةِ الأوَلِ: تميم، ثُمَّ كِنانة، ثُمَّ بكر، ثُمَّ الأزْدُ، ثُمَّ هُذَيل.

ص: 435

وسببُ قِلَّةِ النَّقلِ عن بعضِ القبائلِ المشهورةِ بالفصاحةِ؛ كقرَيِشٍ، وأزْدِ السَّراةِ، وبَجيلةَ، وثَقيفٍ؛ لا لعدمِ صِحَّةِ الاحتجاجِ بكلامِها، كيفَ وهي مِنْ أعلى القبائلِ فصاحةً باتِّفاقٍ

(1)

! وإنَّما لقلَّةِ شُعراءِها، أو لذهابِ شعرِ كثيرٍ مِنْ شُعرائِها وعدمِ حفظِه

(2)

؛ وعُظمُ ما يُستشهدُ به مِنْ الشِّعرِ. كما أنَّ لبُعدِها عن مركزَيْ نقلَةِ اللُّغةِ: البصرةِ والكوفةِ. سببٌ في قِلَّةِ النَّقلِ عنها، قالَ السيوطيّ (ت: 911): «والذي نقلَ اللُّغةَ واللسانَ العربيَّ عن هؤلاءِ، وأَثْبَتَها في كتابٍ، وصَيَّرَها عِلماً وصِناعةً = هُمْ أهلُ الكوفةِ والبصرةِ فقط، مِنْ بَيْن أمصارِ العربِ»

(3)

.

ولم أجِدْ لاختلافِ القبائلِ، ومواقِعِها أثرٌ في استشهادِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بكلامِها، وإنَّما كانَ المعيارُ عندَه: مستوى الفصاحةِ، وجودةَ اللُّغةِ، واشتهارَها. فقد استشهدَ بنثرِ وشعرِ عامَّةِ قبائِلِ العربِ، ولم يُقدِّمْ مِنها قبيلةً على أخرى، إلا ما قدَّمته الفصاحةُ، وشَهدَ له شاهدُ الشُّهرةِ والكَثرَةِ، وعامَّةُ الأمثلةِ فيما سبقَ مِنْ كلامِه شواهدُ على ذلك.

(4)

سابعاً: مِنْ مصادرِ اللُّغةِ التي استفادَ مِنها ابنُ جريرٍ (ت: 310) كثيراً: أقوالُ السَّلفِ. وذلك مِنْ أظهرِ ما تميَّزَ به هذا التَّفسيرُ عن كثيرٍ مِنْ كُتبِ اللُّغةِ والمعاني، وقد أعانَه على ذلك ما ضمَّنَه تفسيرَه مِنْ آلافِ

(1)

ينظر: الفاضل، للمُبرِّد (ص: 113)، والعمدة، لابن رشيق 1/ 88.

(2)

ينظر: الشعر والشعراء (ص: 60).

(3)

الاقتراح في أصول النحو 1/ 539. وينظر: ضوابط الفكر النحوي 1/ 234.

(4)

وينظر: جامع البيان 2/ 693، 6/ 580، 10/ 80. والشاهد الشِّعري في تفسير القرآن (ص: 115).

ص: 436

الرِّواياتِ عن أهلِ التَّأويلِ مِنْ السَّلفِ؛ ممّن يدخلُ في شرطِ الاحتجاجِ في لُغةِ العربِ.

وقد أثمرَ هذا النَّوعُ مِنْ الاحتجاجِ اللُّغويِّ قوَّةً في استدلالاتِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) على المعاني، وزادَ دليلَ اللُّغةِ ثراءً، واتِّساعاً. وقد جاءَ مُعظمُه في بيانِ معاني ألفاظِ القرآنِ وأساليبِه مِنْ جِهةِ العربيَّةِ، ومِن شواهدِ ذلك قولُه ردّاً على بعضِ أئِمَّةِ اللُّغةِ في تفريقِه بين (السَّدِّ) و (السُّدِّ):«لم نجِدْ لذلك شاهداً يُبِينُ عن فُرقانِ ما بين ذلك على ما حُكيَ عنهما، وممّا يُبينُ عن أنَّ ذلك كذلك أنَّ جميعَ أهلِ التَّأويلِ الذين رُويَ لنا عنهم في ذلك قولٌ، لم يُحْكَ لنا عن أحدٍ مِنهم تفصيلٌ بين فتحِ ذلك وضَمِّه، ولو كانا مُختلفَيْ المعنى لنُقلَ الفَصْلُ مع التَّأويلِ، إنْ شاءَ الله، ولكنْ معنى ذلك كانَ عندهم غيرَ مُفترقٍ، ففسَّروا الحرفَ بغَيْرِ تفصيلٍ مِنهم بين ذلك»

(1)

، وقولُه:«الدُّلوكُ في كلامِ العربِ: المَيْلُ. يُقالُ مِنه: دلكَ فُلانٌ إلى كذا. إذا مالَ إليه. ومِنه الخبرُ الذي رُويَ عن الحسنِ: أنَّ رجلاً قالَ له: أَيُدالِكُ الرَّجلُ امرأتَه؟ يعني بذلك: أيَميلُ بها إلى المُماطلةِ بحقِّها؟»

(2)

، وقولُه: «والأحقافُ ما وصَفتُ مِنْ الرَّمالِ المُستطيلةِ المُشرِفةِ، كما قالَ العجّاجُ:

باتَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ أحْقَفا

وكما حدَّثني .. »

(3)

، ثُمَّ أسندَ عن ابنِ زيدٍ (ت: 182) قولَه:

(1)

جامع البيان 15/ 386.

(2)

جامع البيان 15/ 28.

(3)

جامع البيان 21/ 153.

ص: 437

«الأحقافُ الرَّملُ الذي يكونُ كهيئَةِ الجبلِ، تدعوه العربُ: الحِقْفَ. ولا يكونُ أحقافاً إلا مِنْ الرَّملِ»

(1)

.

وممّا قرَّرَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في هذا البابِ: أنَّ الصَّحابةَ أعلمُ بالغريبِ مِنْ أهلِ الغريبِ، والصَّوابُ في قولِهم دون قولِهم. وذلك في تعليقِه على قولِ الرَّاجزِ

(2)

:

غُدوَةَ حتى دَلَكَتْ بِراحِ

حيثُ قالَ: «ويُروى: بَراحِ. بفتحِ الباءِ، فمَن روى ذلك (بِراحِ) بكسرِ الباءِ فإنَّه يعني: أنَّه يضعُ النّاظرُ كفَّه على حاجِبِه مِنْ شُعاعِها؛ ليَنظُرَ ما بَقيَ مِنْ غيابِها. وهذا تفسيرُ أهلِ الغريبِ؛ أبي عُبيدةَ، والأصمعيِّ، وأبي عمروٍ الشَّيْبانيِّ

(3)

، وغيرِهم. وقد ذكرتُ في الخبرِ الذي روَيتُ عن عبدِ الله بن مسعودٍ أنَّه قالَ حينَ غربتِ الشَّمسُ: دَلَكَتْ بِراحٍ. يعني: ب (راحٍ) مكاناً. ولستُ أدري هذا التَّفسير -أعني قولَه: بِراحٍ مكاناً- مِنْ كلامِ مَنْ هو ممّن في الإسنادِ، أو مِنْ كلامِ عبدِ الله؟ فإنْ يكُنْ مِنْ كلامِ عبدِ الله، فلا شكَّ أنَّه كانَ أعلمَ بذلك مِنْ أهلِ الغريبِ الذين ذكرتُ قولَهم، وأنَّ الصَّوابَ في ذلك قولُه دونَ قولِهم، وإنْ لم يكُنْ مِنْ كلامِ عبدِ الله، فإنَّ أهلَ العربيَّةِ كانوا أعلمَ بذلك مِنه»

(4)

. وقد نبَّه ابنُ

(1)

المرجع السابق. وينظر: 1/ 217، 650، 9/ 551، 11/ 597، 14/ 188، 20/ 624، 23/ 443.

(2)

هو في معاني القرآن للفراءِ 2/ 129، ومجاز القرآن 1/ 388.

(3)

إسحاقُ بن مِرار الشَّيبانيّ، أبو عمرو البغداديّ، واسعُ العلمِ باللُّغةِ والشّعرِ، حافظٌ للغَريبِ، صنَّف: الجيمَ، والنَّوادر، ومات سنة (206). ينظر: مراتبُ النَّحويّين (ص: 111)، بغية الوُعاة 1/ 439.

(4)

جامع البيان 15/ 28. وينظر: 7/ 626.

ص: 438

جنّي (ت: 392) إلى مثلِ هذا المعنى في قولِه عن تأويلٍ لابنِ عباسٍ رضي الله عنه استَغربَ ظاهرَه: «ينبغي أن يُحسَنَ الظَّنُّ بابنِ عباسٍ، فيُقالُ: إنَّه أعلمُ بلُغةِ القَومِ مِنْ كثيرٍ مِنْ عُلمائِهم»

(1)

.

ويُنبَّه هنا إلى أنَّ بعضَ المعاني التي يذكُرُها أهلُ اللُّغةِ صحيحةٌ على مُقتضى كلامِ العربِ، لكنَّ الأصلَ الذي سارَ عليه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه أنَّه: ما كُلُّ ما صَحَّ لُغةً صَحَّ تفسيراً. إذْ إنَّ معرفةَ معنى اللفظِ لُغةً أُولى مراحلِ بيانِ المعنى، وليستْ آخرَها، فثمَّةَ أدلَّةٌ يتحدَّدُ بها المعنى المُرادَ غيرَ دليلِ اللُّغةِ؛ مِنْ أجلِّها: أقوالُ السَّلفِ.

(2)

والاستشهادُ بأقوالِ السَّلفِ في قضايا اللُّغةِ هو المُطابقُ لأصولِ الاستدلالِ في اللُّغةِ على ما سبقَ تقريرُه، قالَ ابنُ عاشور (ت: 1393): «ويدخلُ في مادَّةِ الاستعمالِ العربيِّ ما يُؤْثرُ عن بعضِ السَّلفِ في فهمِ معاني بعضِ الآياتِ على قوانين استعمالِهم»

(3)

. وإقلالُ أهلِ اللُّغةِ مِنْ الاستشهادِ بها هو مِنْ جِنسِ إقلالِهم النِّسبيِّ مِنْ الاستشهادِ بالحديثِ النَّبويِّ

(4)

؛ ولعلَّ مِنْ سببِ ذلك أيضاً انصرافُ هِمَّتِهم إلى التَّلقّي عن الأعرابِ، وتتَبُّعِ القبائلِ والبوادي؛ لجمعِ لُغاتِ أهلِها، وحِفظِها، وتدوينِها، فانشغلوا بذلك عن استخراجِ مِثلِه مِنْ كلامِ السَّلفِ، والذّين قد دُوِّنَتْ كثيرٌ مِنْ أقوالِهم، مع ما لبعضِ أهلِ اللُّغةِ مِنْ الرَّأيِ في الأخذِ عن المُتأخّرين مِنْ العربِ؛ رعايةً للُّغةِ القديمةِ، واهتماماً بها.

(5)

(1)

المحتسب 2/ 403.

(2)

سبقَ تفصيلُ ذلك (ص: 337). وينظر: 18/ 18، 19، 24/ 27.

(3)

التحرير والتنوير 1/ 23.

(4)

سبقت الإشارةُ إلى ذلك (ص: 370).

(5)

سبقت الإشارةُ إلى ذلك قريباً (ص: 380)، حاشية (7).

ص: 439

وممّا يدلُّ على عنايةِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بأقوالِ السَّلفِ في قضايا اللُّغةِ، ما سبقَ بيانُه مِنْ اهتمامِه بتمييزِ تفسيرِ السَّلفِ على اللَّفظِ، وتفسيرِهم على المعنى

(1)

؛ وذلك لتصحيحِ الاستدلالِ بما قالوه على جهةِ بيانِ المعنى اللَّفظيِّ في لُغةِ العربِ، وحمايةِ ما قالوه على خلافِ ذلك مِنْ الوجوهِ؛ كيلا يُساء فهمُه، أو يتسارعُ قليلُ المعرفةِ بمنزلتِهم وعلمِهم، فيُخطِئَهم فيما كانوا به أعلمَ، وله أحفظَ.

ثامناً: يعتني ابنُ جريرٍ (ت: 310) برواياتِ الأبياتِ، ويُنبِّه إلى الاختلافِ فيها عند الاستشهادِ؛ لِما لذلك مِنْ الأثرِ على صِحَّةِ الاستدلالِ بالشّاهدِ، فقد يكونُ الشَّاهدُ في روايةٍ دون أُخرى، وقد تترجَّحُ إحداهُما على الأُخرى، ورُبَّما دخلَ بعضَ الرِّواياتِ الصُّنعُ والتَّعديلُ لمقصدٍ مِنْ المقاصدِ.

وقد علَّلَ أهلُ اللُّغةِ تعدُّدَ رواياتِ الأبياتِ بجُملةٍ مِنْ العِللِ

(2)

؛ تتلخَّصُ فيما يأتي:

1 -

اعتمادُ الأعرابِ والرُّواةِ على المشافهةِ في النَّقلِ، وكلٌّ يتكلَّمُ على مُقتضى سجيَّتِه التي فُطِرَ عليها، ولا ضيرَ في ذلك إذ القائلُ والنَّاقلُ حُجَّةٌ.

2 -

احتمالُ أن يكونَ الشَّاعرُ أنشدَه على كلا الوَجهَيْن، مرَّةً هكذا، ومرَّةً هكذا

(3)

، وقد أرجعَ الشّاطبيُّ (ت: 790) ذلك إلى المعهودِ عن

(1)

في (ص: 63). وينظر: جامع البيان 7/ 109، 12/ 241، 13/ 125.

(2)

ينظر: شرح أبيات سيبويه 2/ 96، والاقتراح في أصول النحو 1/ 624، وضوابط الفكر النحوي 1/ 401.

(3)

ينظر مثالُه في: جامع البيان 12/ 45.

ص: 440

العربِ مِنْ العنايةِ بالمعاني بالقَصْدِ الأوَّلِ، ثُمَّ إصلاحُ الألفاظِ بحسبِها، فقالَ بعد أن ذكرَ أمثلةً لتغييرِ الشُّعراءِ لألفاظٍ في أبياتِهم:«وقد جاءَتْ أشعارُهم على رواياتٍ مُختلفةٍ، وبألفاظٍ مُتباينةٍ، يُعلَمُ مِنْ مجموعِها أنَّهم كانوا لا يلتزِمون لفظاً واحداً على الخُصوصِ بحيث يُعدُّ مُرادِفُه أو مُقارِبُه عيباً أو ضَعفاً، إلا في مواضِعَ مخصوصةٍ لا يكونُ ما سِواه مِنْ المواضِعِ محمولاً عليها، وإنَّما معهودُها الغالبُ ما تقدَّمَ»

(1)

.

3 -

أخذُ الشُّعراءِ بعضُهم مِنْ بعضِ، وهذا أمرٌ معروفٌ موجودٌ، وربَّما أورثَ هذا الاشتباهُ اللَّبسَ لدى الرُّواةِ، وبَّما اختلفَ به المعنى أو الإعرابُ.

والأصلُ العامُّ عند أهلِ اللُّغةِ: قبولُ كُلِّ الرِّواياتِ التي وردَت عن العربِ والرُّواةِ الثِّقاتِ. فالرِّواياتُ لا تتدافعُ، ولا تُرَدُّ روايةٌ بروايةٍ إذا ثبَتَتا عن ثِقَةٍ

(2)

، قالَ أبو علي الفارسيّ (ت: 377): «إذا اختلفت الرِّوايةُ، وكانَ أحدُ الفريقَيْن أضْبطَ، وعضدَ الضَّبطَ والثَّبَتَ القياسُ وموافقةُ الأشْباهِ = كانَ الأخذُ بما جمعَ هذين الوصفَيْن أَوْلى وأَرْجحَ»

(3)

.

وابنُ جريرٍ (ت: 310) في استشهادِه بالأبياتِ على المعاني لم يُغفِلْ ما يعرضُ لبعضِها مِنْ الاختلافِ؛ بل يعتني بذكرِ رواياتِها، ويُبيِّنُ وجهَ اختلافِ المعاني باختِلافِها، وما لا يؤَثِّرُ فيه الاختلافُ، ويقدِّمُ مِنها ما

(1)

الموافقات 2/ 134.

(2)

ينظر: شرح الجُمل (ص: 865)، والاقتراح في أصول النحو 1/ 642، وفيض نشر الانشراح 1/ 516.

(3)

الحجَّةُ للقراءِ السّبعةِ 1/ 289.

ص: 441

ترجَّحَ. ومن ذلك قولُه: «ويعني بقولِه {تَمُورُ} [الطور: 9]: تدورُ وتُكْفأُ. وكانَ معمرُ بن المُثَنّى

(1)

يُنشِدُ بيتَ الأعشى

(2)

:

كأنَّ مِشيَتَها مِنْ بَيتِ جارتِها

مَوْرُ السَّحابةِ لا رَيثٌ ولا عَجَلُ

فالمَوْرُ على روايتِه: التَّكفُّؤُ والتَّرَهْيؤُ

(3)

في المِشيَةِ. وأمّا غيرُه فإنَّه كانَ يرويه: مَرُّ السَّحابةِ»

(4)

، وقولُه في قولِه تعالى {مَذْءُومًا} [الأعراف: 18]: «والذَّأمُ: العَيبُ .. ، وقد أنشدَ بعضُهم هذا البَيتَ

(5)

:

صحِبتُك إذْ عَيْني عليها غِشاوةٌ

فلمّا انجلَتْ قطَّعتُ نَفْسي أُذيمُها

وأكثرُ الرُّواةِ على إنشادِه: أَلومُها»

(6)

، وقولُه في قولِه تعالى {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72]: «مِنْ قولِ العربِ: عَدَنَ فُلانٌ بأرضِ كذا. إذا أقامَ بها، وخَلَدَ بها .. ، وقد أنشَدَ بعضُ الرُّواةِ بيتَ الأعشى

(7)

:

وإن يَستَضيفوا إلى حُكمِه

يُضافوا إلى راجِحٍ قد عَدَنْ

ويُنشَدُ: قد وزَنْ»

(8)

.

(1)

مجاز القرآن 2/ 231.

(2)

ديوانُه (ص: 55)، وهو فيه على الرِّوايةِ الثّانيةِ.

(3)

فسَّرَه أبو عبيدةَ (ت: 210) بقولِه: أي تَكَفّأَ كما تَرَهْيأُ النَّخلَةُ العَيْدانَةُ. مجاز القرآن 2/ 231.

(4)

جامع البيان 21/ 571.

(5)

البيتُ للحارثِ بن خالدٍ المخزومي، وهو في شعرِه المجموع (ص: 101). وينظر: جامع البيان 1/ 271.

(6)

جامع البيان 10/ 102.

(7)

ديوانُه (ص: 19)، وفيه:«إلى هادِنٍ قد رزَنْ» .

(8)

جامع البيان 11/ 559. وينظر: 1/ 346، 5/ 222، 15/ 510، 18/ 300.

ص: 442

ومِن اختلافِ الرِّواياتِ الذي لا يؤثِّرُ في المعنى ما ذكرَه في قولِه عند قولِه تعالى {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24]: «والسَّريُّ معروفٌ في كلامِ العربِ أنَّه: النَّهرُ الصَّغيرُ. ومِنه قولُ لبيدِ بن ربيعةَ

(1)

:

فتوَسَّطا عُرْضَ السَّريِّ وصَدَّعا

مَسْجورةً مُتجاوِراً قُلّامُها

ويُروى: فبَيَّتا مَسْجورَةً. ويُروى أيضاً: فغادَرا»

(2)

، ومِثلُه في قولِه تعالى {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13]: «ومِنه قولُ أعشى بني ثعلبةَ

(3)

:

فرعُ نبعٍ يهتزُّ في غُصُنِ المَجْ

دِ غزيرُ النَّدى شديدُ المِحالِ

هكذا كانَ يُنشِدُه معمرُ بن المُثَنّى

(4)

، فيما حُدِّثتُ عن عليِّ بن المُغيرةِ، عنه. وأمّا الرُّواةُ بعدُ فإنَّهم يُنشِدونَه:

فرعُ فرعٍ يهتزُّ في غُصُنِ المَجْ

دِ كثيرُ النَّدى عظيمُ المِحالِ»

(5)

.

ومِن جُملةِ عنايةِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بهذا البابِ: تصحيحُ رواياتِ الأبياتِ، ومِن ذلك قولُه فيما أنشدَه ابنُ جُريجٍ (ت: 150) في خبرٍ ذكرَه: «وقالَ في ذلك

(6)

:

نَفَرَتْ قَلوصي عن خيولِ مُحمدِ

وعَجْوَةٍ مَنثورَةٍ كالعُنْجُدِ

(7)

(1)

شرح ديوان لبيد بن ربيعة (ص: 307).

(2)

جامع البيان 15/ 510.

(3)

هو الأعشى الكبيرُ، والبيتُ في ديوانِه (ص: 7).

(4)

مجاز القرآن 1/ 325.

(5)

جامع البيان 13/ 483. وينظر: 1/ 346، 6/ 377، 661، 15/ 557.

(6)

أي: معبَدُ بن أبي معبدٍ الخُزاعيّ. كما في السيرة النبوية، لابن هشام 2/ 210.

(7)

العُنْجُد: هو الزَّبيبُ. ينظر: تاج العروس 8/ 422.

ص: 443

واتَّخذَتْ ماءَ قُدَيْدٍ

(1)

مَوعِدي

قالَ أبو جعفرٍ: هكذا أنشدَنا القاسمُ

(2)

، وهو خطأٌ، وإنَّما هو:

قد نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَي مُحمدِ

وعَجْوَةٍ مِنْ يَثربٍ كالعُنْجُدِ

تَهوي على دينِ أبيها الأتلَدِ

قد جَعَلَتْ ماءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدي

وماءَ ضَجْنانَ

(3)

لها ضُحى الغَدِ»

(4)

.

تاسعاً: مِنْ تمامِ الاستدلالِ بالأبياتِ على المعاني عند ابنِ جريرٍ (ت: 310): بيانُ معاني الأبياتِ، وذلك في تفسيرِه كثيرٌ، ومِنه قولُه: «والحِزبُ هُمْ: الأنصار. ويعني بقولِه {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} [المائدة: 56]: فإنَّ أنصارَ الله. ومِنه قولُ الرَّاجزِ

(5)

:

وكيف أضْوَى وبِلالٌ حِزْبي

يعني بقولِه: أَضْوى: أُستَضْعفُ وأُضامُ. مِنْ الشَّيءِ الضّاوي. ويعني

(1)

قُدَيْد: مجرى وادٍ كبيرٍ يبعدُ عن مكة جهةَ المدينةِ (120) كيلاً. معجم البلدان 7/ 23، ومعجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (ص: 249).

(2)

هو راوي الخبر: القاسمُ بن محمد، شيخُ الطَّبري. ينظر: معجم شيوخ الطَّبري (ص: 407).

(3)

ضَجْنان: جبلٌ بناحيةِ مكةَ، يبعُدُ (54) كيلاً على طريقِ المدينةِ. ينظر: معجم البلدان 5/ 225، ومعجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (ص: 183).

(4)

جامع البيان 6/ 251. وينظر: 9/ 488.

(5)

هو رُؤبةُ بن العجّاجِ، والرَّجزُ في ديوانِه (ص: 16).

ص: 444

بقولِه: وبِلالٌ حِزْبي. يعني: ناصِري»

(1)

، وفي معنى قولِه تعالى {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة: 2] أَوردَ ثلاثةَ أقوالٍ لأهلِ العربيَّةِ، ثُمَّ قالَ: «واحتجَّ جميعُهم ببَيْتِ الشّاعرِ

(2)

:

ولقد طعَنتُ أبا عُيَيْنةَ طَعنةً

جَرَمَتْ فَزارةُ بعدَها أن يَغضَبوا

فتأوَّلَ ذلك كُلُّ فريقٍ مِنهم على المعنى الذي تأوَّلَه مِنْ القرآنِ»

(3)

، ثُمَّ بيَّنَ جميعَ ذلك، ومثلُه قولُه عند قولِه تعالى {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]: «أضافَ الإبصارَ إلى النَّهارِ، وإنَّما يُبصَرُ فيه، وليس النَّهارُ مِمّا يُبصِرُ .. ، وذلك كما قالَ جريرٌ

(4)

:

لقد لُمْتِنا يا أُمَّ غيلانَ في السُّرى

ونُمتِ وما ليلُ المَطيِّ بنائِمِ

فأضافَ النَّومَ إلى الليلِ ووصَفَه به، ومعناه نَفسُه؛ أنَّه لم يكُنْ نائِماً فيه هو ولا بعيرُه»

(5)

.

وربَّما أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى موضوعِ الأبياتِ وما سيقَتْ فيه على الإجمالِ، بما يُعينُ على فهمِ معناها، كما في قولِه: «ومِنه قولُ

(1)

جامع البيان 8/ 532.

(2)

نُسبَ لأبي أسماء بن الضّريبة، وقيلَ لغيرِه، ينظر: لسان العرب 14/ 360، وخزانة الأدب 10/ 291.

(3)

جامع البيان 8/ 44.

(4)

جرير بن عطيّة بن حُذيفة الخَطَفيّ، أبو حَزْرَة التَّميميّ، أشعرُ أهلِ الإسلامِ مع الفرزدقِ والأخطلِ، وله معهما نقائض، وديوانُه مطبوعٌ، مات سنة (110). ينظر: الشّعر والشّعراء (ص: 464)، والأغاني 8/ 5.

والبيتُ في ديوانِه 2/ 993.

(5)

جامع البيان 12/ 228. ينظر: 1/ 455، 467، 2/ 466، 4/ 542، 11/ 354، 18/ 175، 20/ 17.

ص: 445

أبي ذُؤَيبٍ الهُذليِّ

(1)

في صفةِ فرسٍ»

(2)

، وقولِه:«واستشهدوا على ذلك مِنْ قولِهم بقَولِ ذي الرُّمَّةِ في صفةِ نارٍ نَعَتَها»

(3)

.

ومِن المسائِلِ المُتعلِّقةِ بمعاني الشَّواهدِ في بابِ الاستدلالِ، ما قرَّرَه العلماءُ مِنْ أنَّه: لا يُلتفَتُ إلى ما في الشّاهدِ مِنْ المعاني النازلةِ وما يُستحيا مِنْ ذِكرِه، وأكثرُ ما يرِدُ ذلك في الأشْعارِ والأمْثالِ، وعلى ذلك عامَّةُ العلماءِ مِنْ أهلِ اللُّغةِ والغريبِ والتَّفسيرِ وغيرِهم؛ لأنَّ الغرضَ مِنْ إيرادِها معرفةُ وجْهِ كلامِ العربِ، وسَنَنِ كلامِها، وما أرادوه مِنْ المعاني، بغضِّ النَّظرِ عمّا سوى ذلك مِنْ قبيحِ الألفاظِ والأغراضِ، وفي ذلك يقولُ الجُرجانيّ (ت: 471): «راوي الشِّعرَ حاكٍ، وليس على الحاكي عَيبٌ، ولا عليه تَبِعةٌ، إذا هو لم يقصِدْ بحكايتِه أن ينصُرَ باطِلاً، أو يَسوءَ مُسلِماً، وقد حكى الله تعالى كلامَ الكُفّارِ. فانظُرْ إلى الغرضِ الذي رُويَ له الشِّعرُ، ومِن أجلِه أُريدَ، وله دُوِّنَ .. ، وقد استشهدَ العلماءُ لغَريبِ القرآنِ وإعرابِه بالأبياتِ فيها الفُحشُ، وفيها ذِكرُ الفعلِ القَبيحِ، ثُمَّ لم يَعِبْهم ذلك؛ إذْ كانوا لم يَقصِدوا إلى ذلك الفُحشِ ولم يُريدوه، ولم يَرْوُوا الشِّعرَ مِنْ أجلِه»

(4)

، وقالَ الآلوسيّ (ت: 1270): «وقد ذَمَّ العلماءُ جريراً والفرزدق

(5)

في

(1)

خُوَيْلد بن خالد بم مُحرِّث الهُذَليّ، أبو ذُؤَيب، شاعرٌ فحلٌ مِنْ المُخضرمين، أسلمَ وحسُنَ إسلامُه، وماتَ في غزاةٍ في إفريقية مع عبد الله بن الزُّبَيْر رضي الله عنه. ينظر: الشّعر والشّعراء (ص: 653)، والأغاني 6/ 187.

(2)

جامع البيان 9/ 335. وينظر: 7/ 293، 8/ 92، 10/ 348.

(3)

جامع البيان 7/ 704.

(4)

دلائل الإعجاز (ص: 12).

(5)

همّامُ بن غالب بن صَعْصَعة بن ناجية المُجاشعيّ، والفرزدقُ لقبُه، مِنْ أشعرِ أهلِ الإسلامِ، وديوانُه مطبوعٌ، مات سنة (110). ينظر: الشّعر والشّعراء (ص: 471)، والأغاني 21/ 193.

ص: 446

تهاجيهِما، ولم يذُمّوا مَنْ استشهدَ بذلك على إعرابٍ وغَيرِه مِنْ عِلمِ اللسانِ»

(1)

. وفي تركِ الاستشهادِ بمثلِ ذلك مِنْ كلامِ العربِ فَوتُ ذخيرةٍ كثيرةٍ مِنْ ألفاظِ العربِ، وأساليبِ كلامِها، وما يتبعُ ذلك مِنْ أحوالِها، قالَ العسكريّ (ت: 395): «على أنَّ العلماءَ لو تركوا روايةَ سخيفِ الشِّعرِ لسقطَتْ عنهم فوائدُ كثيرةٌ، ومحاسِنُ جَمَّةٌ مَوْفورةٌ، في مِثلِ شعرِ الفرزدقِ، وجريرٍ، والبَعيثِ

(2)

، والأخطلِ

(3)

، وغيرِهم»

(4)

.

وهذا النَّوعُ مِنْ الشَّواهدِ قليلٌ جدّاً في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) مُقارنةً بعددِ الشَّواهدِ في تفسيرِه

(5)

، وهذا يدُلُّ على حُسنِ انتِقاءِه لشواهدِه، وكثرةُ الشَّواهدِ عند العالمِ في المسألةِ الواحدةِ والمعنى الواحدِ يُعينُ على اختيارِ الأكملِ مِنها معنىً.

ومع ذلك فابنُ جريرٍ (ت: 310) لا يتحرَّجُ مِنْ إيرادِ تلك الشَّواهدِ عند الحاجةِ، بل ربَّما كرَّرَ ذكرَ بعضِها في أكثرَ مِنْ موضِعٍ، ويرى أنَّ

(1)

روح المعاني 19/ 201.

(2)

خِداشُ بن بِشر بن خالد المُجاشعيّ، أبو مالك التَّميميّ، والبَعيثُ لقبُه، أخطَبُ بني تميمٍ، شاعرٌ مُجيدٌ. ينظر: طبقات فحول الشّعراء 2/ 534، و الشّعر والشّعراء (ص: 497).

(3)

غياثُ بن غَوث بن الصَّلت التَّغلبيّ، أبو مالك، والأخطلُ لقبٌ غلبَ عليه، شاعرٌ نصرانيٌّ فحلٌ مُجيدٌ، مِنْ طبقةِ جريرٍ والفرزدقِ. ينظر: الشّعر والشّعراء (ص: 483)، والأغاني 8/ 201.

(4)

ديوان المعاني 1/ 431.

(5)

وقد بلغَت: (2260) شاهداً. ينظر: الشّاهد الشِّعري في تفسيرِ القرآن الكريم (ص: 398).

ص: 447

مصلحةَ إيرادِه تعلو دائِماً على ما في معناه، ولسنا مُضطرّين -بعدَ بيانِ منهجِه- إلى التَّصريحِ بنقلِ شيءٍ ممّا أوردَ مِنْ ذلك، وحسبُنا الإشارةُ إلى مواضعَ مِنْ الأمثلةِ: فمِنها ما أوردَه شاهداً لمعنى (الإعصارِ) عند قولِه تعالى {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} [البقرة: 266]

(1)

، وأعادَه شاهداً لمعنى (التَّبذيرِ) عند قولِه تعالى {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]

(2)

، وكذا ما أَوردَه شاهداً لمعنى (يَخِرُّ) في قولِه تعالى {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]

(3)

.

عاشراً: ما وردَ في الشِّعرِ على وجهِ الضَّرورةِ لا يُقاسُ عليه، وعِلَّةُ تخصيصِ الشِّعرِ بذلك ما يخضعُ له الشَّاعرُ مِنْ أحكامِ الوَزنِ والقوافي، ولأنَّه موضِعٌ أُلِفَت فيه الضَّرائرُ، «فالشِّعرُ موضِعُ اضْطرارٍ، وموقِفُ اعتذارٍ، وكثيراً ما يُحرَّفُ فيه الكَلِمُ عن أبنيَتِه، وتُحالُ فيه المُثلُ عن أَوضاعِ صيَغِها لأجْلِه»

(4)

، ولأجلِ ذلك «يُغتفرُ في الشِّعرِ ما لا يُغتفَرُ في غَيْرِه»

(5)

، قالَ الخليلُ بن أحمد

(6)

(ت: 170): «الشُّعراءُ أُمراءُ الكلامِ، يصرفونَه أنّى شاءوا، ويجوزُ لهم ما لا يجوزُ لغيرِهم مِنْ إطلاقِ المعنى وتقييدِه، ومِن تصريفِ اللفظِ وتعقيدِه، ومدِّ المقصورِ، وقصرِ الممْدودِ، والجمعِ بين لُغاتِه، والتَّفريقِ بين صِفاتِه، واستخراجِ ما كلَّت الألسُنُ

(1)

جامع البيان 4/ 690.

(2)

جامع البيان 14/ 565.

(3)

جامع البيان 17/ 528. وينظر: 2/ 119، 3/ 231.

(4)

الخصائص 2/ 404. وينظر: ضرائر الشعر، لابن عصفور (ص: 13).

(5)

همع الهوامع 2/ 150.

(6)

الخليلُ بن أحمد بن عمرو الفراهيديّ الأزديّ، ذكيٌّ شاعرٌ عالمٌ بالنَّحوِ، واضعُ علم العروض، وله كتابَ العَيْن، مات سنة (170). ينظر: مراتب النَّحويّين (ص: 45)، وطبقات النَّحويّين واللُّغويّين (ص: 47).

ص: 448

عن وَصْفِه ونَعْتِه، والأذهانُ عن فهمِه وإيضاحِه، فيُقرِّبون البعيدَ، ويُبعِّدون القريبَ، ويُحتجُّ بهم، ولا يُحتجُّ عليهم»

(1)

.

والمُرادُ بالضَّرورةِ في بابِ الشِّعرِ: الخروجُ عن الأصولِ المُطَّردةِ مِنْ كلامِ العربِ إلى دونِها ممّا تكلَّموا به في الشِّعرِ خاصَّةً

(2)

. وذلك شبيهُ المعنى ب (الشُّذوذِ) في بابِ النَّثرِ؛ إذْ كِلاهُما خروجٌ عمّا اطَّردَ مِنْ كلامِ العربِ لعِلَّةٍ مِنْ سماعٍ أو قياسٍ.

وحُكمُهما واحدٌ، وهو: الاعتصامُ بالأصولِ، وحفظُ ما خالَفَها، مع عدمِ القياسِ عليها. وذلك ما اتَّفقتْ عليه كلمةُ أهلِ اللُّغةِ؛ ومِن مقولاتِهم في ذلك:«اعلمْ أنَّه يجوزُ في الشِّعرِ ما لا يجوزُ في الكلامِ»

(3)

، و «ما جاءَ لضرورةِ الشِّعرِ لا يورِدُ نقضاً»

(4)

، و «الضَّرورةُ ليست موضِعَ احتجاجٍ»

(5)

.

ومِن ثَمَّ فإنَّ النُّحاةَ لم يُقيموا أيَّةَ قاعدةٍ أصليَّةٍ على ضرورةٍ شِعريَّةٍ، مهما كانَت الثِّقةُ كبيرةً بفصاحةِ الشَّاعرِ؛ «لأنَّ الشَّاعرَ قد يضطرُّ فيقولُ

(1)

منهاج البلغاء (ص: 143).

(2)

جُمهورُ أهلِ اللُّغةِ -ومِنهم سيبويه- لا يُفرِّقون بين ما يَلجأُ إليه الشَّاعرُ وله عنه مندوحةٌ، وما ليس كذلك، وخالفَ بعضُ النُّحاةِ -كابنِ مالكٍ (ت: 672) - وقصرَ الضَّرورةَ على ما ليس للشَّاعرِ عنه مَندوحة. والصَّوابُ الأوَّلُ؛ إذْ ما مِنْ تركيبٍ إلا ويُمكنُ استبدالُه بتَركيبٍ آخر. ينظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي 1/ 273، وخزانة الأدب 1/ 31، 33، وسيبويه والضرورة الشعرية (ص: 35).

(3)

الكتاب 1/ 53. وينظر: 2/ 384.

(4)

أسرارُ العربية، لابن الأنباري (ص: 130)، ومُرادُه: لا ينقضُ القواعدَ. كما في سياقِ كلامِه.

(5)

شرح المفصّل، لابن يعيش 1/ 51.

ص: 449

فيه ما لا يقولُه في كلامِه»

(1)

، إلا إن عضدَه مِنْ النَّثرِ ما يرفعُه عن مقامِ الاضطرارِ

(2)

.

ويُتنبَّه هنا إلى أنَّه ليس مِنْ الضَّرورةِ الكلامُ بما لا يجوزُ في العربيَّةِ بوَجه؛ لأنَّ الضَّرورةَ -كما سبقَ- خروجٌ عن أصلٍ مُطَّردٍ معمولٍ به، إلى أصلٍ آخرَ دونَه، فليس في ذلك خروجٌ عن نِظامِ العربيَّةِ بحالٍ، قالَ ابنُ فارس (ت: 395): «الشُّعراءُ أُمراءُ الكلامِ؛ يقصرون الممدودَ، ويمدّون المَقصورَ، ويُقدِّمون ويؤخِّرون، ويومِئون ويُشيرون، ويختلسون، ويُعيرون ويَستَعيرون. فأمّا لحنٌ في إعرابٍ، أو إزالةٌ عن نهجِ صوابٍ، فليس لهم ذلك، ولا معنى لقولِ مَنْ يقولُ: إنَّ للشَّاعرِ أن يأتيَ في شِعرِه بما لا يجوزُ .. ، وما جعلَ الله الشُّعراءَ معصومين يُوَقَّوْن الخَطأَ والغَلطَ، فما صحَّ مِنْ شِعرِهم فمَقبولٌ، وما أَبَته العربيَّةُ وأصولُها فمَردودٌ»

(3)

، كما أنَّ الضَّروراتِ سماعيَّةٌ موقوفةٌ على النَّقلِ، فلا يصحُّ للمولَّدين فمَن بعدَهم أن يبتدِعوا ضرورةً لم يرِدْ بها سماعٌ، وإن جازَ لهم مِنها ما جازَ لمَن قبلَهم

(4)

، قالَ الآلوسيّ (ت: 1270): «ليس لأحدٍ مِنْ المولَّدين أن يسلُك غيرَ مسلكٍ سلكوه، ولا أن يبتدعَ أُسلوباً غيرَ أُسلوبٍ عرفوه، فلا مساغَ لأحدٍ أن يضطرَّ إلى غيرِ ما اضطرّوا إليه، أو يُخالفَهم في أصلٍ مضَوا عليه»

(5)

.

(1)

البسيط في شرح جُملِ الزَّجَاجي (ص: 999). وينظر: (ص: 1024).

(2)

اختلفوا في مقدارِ النَّثرِ الذي يرتفعُ به حُكمُ الاضطرارِ. ينظر لذلك: ضوابط الفكر النحوي 1/ 498.

(3)

الصّاحبي (ص: 213). وينظر: الكتاب 2/ 406، والمقتضب 3/ 354.

(4)

ينظر: الخصائص 1/ 326، 329.

(5)

الضرائر (ص: 9).

ص: 450

ولم يخرجْ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في استشهادِه بالشِّعرِ عن تلك الضَّوابطِ، فقد أشارَ إلى ضيقِ الشِّعرِ، وما يُفارقُ فيه الكلامَ مِنْ الاضطرارِ، وأنَّ ذلك لا يُخرجُه عن حَدِّ كلامِ العربِ، لكنَّه بذلك دون مرتبةِ الاحتجاجِ، ومِن ذلك قولُه عند قولِه تعالى {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحِجر: 20]: «وقد قيلَ إنَّ {وَمَنْ} في موضِعِ خَفضٍ عَطفاً به على الكافِ والميمِ في قولِه {وَجَعَلْنَا لَكُمْ} [الحِجر: 20]، بمعنى: وجعَلْنا لكم فيها معايشَ ولمَن لستُم له برازِقين. وأحسبُ أنَّ منصوراً

(1)

في قولِه: هو الوحشُ. قصدَ هذا المعنى، وإيّاه أرادَ. وذلك وإنْ كانَ له وجهٌ في كلامِ العربِ، فبَعيدٌ، قليلٌ؛ لأنَّها لا تكادُ تُظاهرُ على معنىً في حالِ الخفْضِ، ورُبَّما جاءَ في شعرِ بعضِهم في حالِ الضَّرورةِ، كما قالَ بعضُهم

(2)

:

هلّا سألتَ بذي الجماجمِ عنهمُ

وأبي نُعَيْمٍ ذي اللِّواءِ المُحْرَقِ

فرَدَّ (أبا نُعَيْمٍ) على الهاءِ والميمِ في (عنهم)، وقد بيَّنتُ قُبحَ ذلك في كلامِهم»

(3)

، وقولُه: «فعطفَ بظاهرٍ على مَكنيٍّ مخفوضٍ، وذلك غيرُ فصيحٍ مِنْ الكلامِ عند العربِ؛ لأنَّها لا تَنْسُقُ بظاهرٍ على مَكنيٍّ في الخَفضِ إلّا في ضرورةِ شِعرٍ، وذلك لضيقِ الشِّعرِ، وأمّا الكلامُ فلا شيءَ يضْطرُّ المُتكلِّمَ إلى اختيارِ المَكروهِ مِنْ المَنطقِ، والرَّديءِ في

(1)

ابنُ المعتمر السُّلميّ، الحافظُ القُدوةُ، مات سنة (132). ينظر: السّير 5/ 402، وتهذيب التَّهذيب 4/ 159.

(2)

أنشدَه الفرّاء (ت: 207) في معاني القرآن 2/ 86.

(3)

جامع البيان 14/ 38.

ص: 451

الإعرابِ مِنه، وممّا جاءَ في الشِّعرِ مِنْ رَدِّ ظاهرٍ على مَكنيٍّ في حالِ الخَفضِ قَولُ الشَّاعرِ

(1)

:

نُعلِّقُ في مثلِ السَّواري سُيوفَنا

وما بينها والكَعْبِ غَوْطٌ نَفانِفُ

(2)

فعطفَ ب (الكَعبِ) وهو ظاهرٌ، على الهاءِ والألفِ في قولِه:(بينهما) وهي مَكنيَّةٌ»

(3)

.

إحدى عشر: ينقسِمُ دليلُ اللُّغةِ باعتبارِ القوَّةِ إلى خَمسِ مراتبَ، جاءَ ذكرُها ظاهراً في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وهي على التَّرتيبِ:

1 -

ما أجمعَتْ عليه العربُ، وقد حكى ابنُ جريرٍ (ت: 310) إجماعَ العربِ في (13) موضِعاً؛ مِنها قولُه: «أجمعَتْ الحُجَّةُ مِنْ أهلِ التَّأويلِ جميعاً على أنَّ الصِّراطَ المُستقيمَ هو: الطَّريقُ الواضحُ الذي لا اعوِجاجَ فيه. وكذلك ذلك في لُغةِ جميعِ العربِ»

(4)

، وقولُه:«وفي إجماعِ جميعِهم على صِحَّةِ قولِ القائلِ: لا تقُمْ. وفسادِ قولِ القائلِ: سرَّني تقومُ. بمعنى: سرَّني قيامُك. = الدَّليلُ الواضحُ على فسادِ دعوى المُدَّعي أنَّ مع {لَا} التي في قولِه {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] ضميرَ (أنْ)، وصِحَّةِ القولِ الآخرِ»

(5)

.

كما حكى ابنُ جريرٍ (ت: 310) إجماعَ أهلِ اللُّغةِ في (6) مواضِعَ مِنْ

(1)

هو مسكينُ الدَّارميّ، والبيتُ في ديوانِه (ص: 53).

(2)

أي: بين سيوفِنا حين نعلِّقها وبين كعبِ الرَّجلِ مِنّا المَهوى البعيدُ. يَكني بذلك عن طولِ القامةِ. ينظر: خزانة الأدب 5/ 125، وحاشية الصبّان على شرح الأشموني 3/ 170.

(3)

جامع البيان 6/ 346. وينظر: 2/ 227، 8/ 542، 15/ 264، 19/ 36.

(4)

جامع البيان 1/ 170.

(5)

جامع البيان 1/ 557. وينظر: 1/ 117، 118، 125، 137، 159، 170، 3/ 344.

ص: 452

تفسيرِه

(1)

؛ مِنها وقولُه في قولِه تعالى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في اللؤلؤِ أنَّه: هو الذي قد عرَفَه النَّاسُ ممّا يخرجُ مِنْ أصدافِ البحرِ مِنْ الحَبِّ. وأمّا المَرْجانُ فإنّي رأيتُ أهلَ المعرفةِ بلسانِ العربِ لا يُدافعون أنَّه جمعُ مَرْجانةٍ، وأنَّه الصِّغارُ مِنْ اللؤلؤ»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63] بعد أن بيَّنَ أنَّ {الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 63] في موضِعِ رفعٍ: «وإنَّما كانَ كذلك وإن كانَ مِنْ نَعتِ الأولياءِ؛ لمَجيئِه بعد خبرِ الأولياءِ، والعربُ كذلك تفعلُ .. ، وقد اختلفَ أهلُ العربيَّةِ في العلَّةِ التي مِنْ أجلِها قيلَ ذلك كذلك، مع أنَّ إجماعَ جميعِهم على أنَّ ما قُلنا هو الصَّحيحُ مِنْ كلامِ العربِ»

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1 - 2]: «ولا اختِلافَ أيضاً بين أهلِ العربيَّةِ في أنَّ معنى قولِه {قَيِّمًا} [الكهف: 2]-وإنْ كانَ مؤَخَّراً- التَّقديمُ إلى جَنْبِ {الْكِتَابَ} [الكهف: 1]»

(4)

.

وقد صرَّحَ أهلُ اللُّغةِ بحُجِّيَّةِ إجماعِ العربِ، وعدَّه ابنُ جنّي (ت: 392) مِنْ أدلَّةِ النَّحوِ مع السَّماعِ والقياسِ

(5)

، وأشارَ

(1)

إجماعُ أهلِ اللغةِ عند النُّحاةِ هو: «إجماعُ نُحاةِ البَلَدَيْن البَصرةِ والكوفةِ» . الاقتراح في أصول النَّحو 1/ 699.

(2)

جامع البيان 22/ 208.

(3)

جامع البيان 12/ 214.

(4)

جامع البيان 15/ 142. وينظر: 1/ 150، 626، 5/ 618، 10/ 458.

(5)

الاقتراح في أصول النحو 1/ 219. وينظر: الخصائص 1/ 216.

ص: 453

السّيوطيُّ (ت: 911) إلى صعوبةِ الوقوفِ عليه؛ فقالَ: «وإجماعُ العربِ أيضاً حُجَّةٌ، ولكنْ أنّى لنا بالوقوفِ عليه. ومِن صُوَرِه: أن يتكلَّمَ العربيُّ بشيءٍ، ويبلُغَهم، ويسكتون عليه»

(1)

.

2 -

الأغلبُ والأكثرُ والمشهورُ والمُستفيضُ والأفصحُ من كلامِ العربِ، وقد كرَّرَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) الاستدلالَ بهذا النَّوعِ في (225) موضِعاً؛ مِنها قولُه عن بعضِ الأقوالِ: «وهذا القولُ وإن كانَ مَذْهباً مِنْ المذاهبِ، فليس بالأشهرِ الأفصحِ في كلامِ العربِ، والذي هو أَولى بكتابِ الله أن يُوجَّهَ إليه مِنْ اللُّغاتِ الأفصحُ الأعرفُ مِنْ كلامِ العربِ، دون الأنْكرِ الأجْهلِ مِنْ مَنطِقها»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3]: «وأمّا ما قالَ مجاهدُ مِنْ أنَّ يومَ الحجِّ إنَّما هو أيّامُه كُلُّها، فإنَّ ذلك وإن كانَ جائِزاً في كلامِ العربِ، فليس بالأشْهرِ الأعرفِ مِنْ كلامِ العربِ مِنْ معانيه، بل أغلَبُ على معنى اليومِ عندهم أنَّه: مِنْ غروبِ الشَّمسِ إلى مِثلِه مِنْ الغَدِ. وإنَّما مَحمَلُ تأويلِ كتابِ الله على الأشهرِ الأعرفِ مِنْ كلامِ مَنْ نزلَ الكتابُ بلسانِه»

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]: «وإنَّما قُلنا ذلك أَولى بالصَّوابِ -وهو قولُ الحسنِ البَصري الذي روَيْناه عنه

(4)

- لأنَّ النَّفْرَ قد بيَّنّا فيما

(1)

الاقتراح في أصول النحو 2/ 714. وينظر: الإجماعُ في الدَّراسات النَّحوية (ص: 31).

(2)

جامع البيان 2/ 693.

(3)

جامع البيان 11/ 337.

(4)

يعني قولَه في معنى الآيةِ: «ليتفقَّهَ الذين خرجوا بما يُريهِم الله مِنْ الظُّهورِ على المُشركين والنُّصرةِ، ويُنذِروا قومَهم إذا رجعوا إليهم» . جامع البيان 12/ 82.

ص: 454

مضى أنَّه إذا كانَ مُطلقاً بغيرِ صِلَةٍ بشيءٍ، أنَّ الأغلبَ مِنْ استعمالِ العربِ إيّاه في الجِهادِ والغَزْوِ؛ فإذْ كانَ ذلك هو الأغلبَ مِنْ المعاني فيه، وكانَ جلَّ ثناؤُه قالَ {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]، عُلِمَ أنَّ قولَه {لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة: 122] إنَّما هو شرطٌ للنَّفْرِ لا لغَيرِه،؛ إذْ كانَ يليه دون غيرِه مِنْ الكلامِ»

(1)

.

وقد نصَّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) على أنَّ لتقديمِ الأشهرِ الأغلبِ مِنْ أدلَّةِ اللُّغةِ عِلَلٌ تقتضيهِ، وذلك في قولِه:«إنَّ التَّأويلَ مصروفٌ إلى الأغلبِ مِنْ استعمالِ المُخاطَبين بالتَّنزيلِ، ما لم يأتِ دليلٌ يجِبُ مِنْ أجلِه صرْفُه إلى غيرِ ذلك؛ لعلَلٍ قد بيَّنّاها في غيرِ موضِعٍ»

(2)

، وقد ظهرَ لي مِنْ تلك العِلَلِ ثلاثٌ:

أوَّلُها: وهو أظهرُ تلك العِلَلِ؛ ما ذكرَه في قولِه: «كتابُ الله تعالى نزلَ بأفصحِ لُغاتِ العربِ، وغيرُ جائزٍ توجيهُ شيءٍ مِنه إلى الشَّاذِّ مِنْ لُغاتِها وله في الأفصحِ الأشهرِ معنىً مفهومٌ، ووَجهٌ معروفٌ»

(3)

.

ثانيها: أنَّ الإفهامَ إنَّما يكونُ بما يفهمُه عامَّةُ العربِ؛ وهو الأشهرُ الأعرفُ الأفصحُ مِنْ كلامِها، وذلك ما نصَّ عليه بقولِه -بعد أن قرَّرَ وجوبَ الأخْذِ بالأشهرِ الأغلبِ-:«ذلك أنَّه جلَّ ثناؤُه إنَّما خاطبَهم بما خاطبَهم به؛ لإفهامِهم معنى ما خاطبَهم به»

(4)

.

(1)

جامع البيان 12/ 84. وينظر: 6/ 337، 7/ 161، 9/ 124، 11/ 487، 22/ 361، 24/ 27، 137.

(2)

جامع البيان 15/ 366.

(3)

جامع البيان 10/ 80. وينظر: 1/ 309، 7/ 684.

(4)

جامع البيان 12/ 407.

ص: 455

ثالثُها: أنَّ فيه السَّلامةُ مِنْ التَّأويلِ والتَّقديرِ الذي يلحقُ غيرَ الأشهرِ الأفصحِ في غالبِ الأمرِ، وهو ما أشارَ إليه بقولِه:«وإنَّما قُلتُ ذلك أَولى التَّأويلَيْن بالكلامِ؛ لأنَّ ذلك أظْهرُ معنيَيْه، وأنَّه لا حاجةَ بنا -إذا وجَّهْنا تأويلَ الكلامِ إلى ذلك- إلى تحويلِ معنى اللامِ التي في قولِه {وَهُمْ لَهَا} [المؤمنون: 61] إلى غيرِ معناها الأغلبِ عليها»

(1)

.

3 -

عادةُ العربِ في كلامِها، وربَّما سمَّاها: اللُّغةَ الجيِّدةَ، والقياسَ الصَّحيحَ. ومُرادُه بها: المعتادُ مِنْ كلامِ العربِ؛ ممّا ثبتَ به السَّمعُ، وقَبِلَه القياسُ. وهو أكثرُ ما استدلَّ به ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنْ مراتبِ دليلِ اللُّغةِ؛ حيثُ بلغت مواضِعُ استدلالِه به (730) موضِعاً؛ مِنها قولُه في معنى قولِه تعالى {وَيْكَأَنَّ} [القصص: 82]: «وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّةِ القولُ الذي ذكَرنا عن قتادةَ؛ مِنْ أنَّ معناه: ألَمْ تَرَ، ألَمْ تعلَمْ. للشّاهدِ الذي ذكَرنا فيه مِنْ قولِ الشَّعرِ، والرِّوايةِ عن العربِ»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]: «وأَولى القَولَيْن في ذلك بالصَّوابِ قَولُ مجاهدٍ

(3)

؛ لأنَّ العربَ تُسَمّي كُلَّ صانِعٍ خالِقاً»

(4)

، وقولُه في قولِه تعالى {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]: «وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ مَنْ قالَ: معنى ذلك إلا بحُجَّةٍ وبيِّنةٍ. لأنَّ ذلك هو معنى السُّلطانِ في كلامِ العربِ»

(5)

.

(1)

جامع البيان 17/ 73.

(2)

جامع البيان 18/ 341.

(3)

يعني قولَه: «خيرُ الصّانعين» . جامع البيان 17/ 25.

(4)

المرجعُ السّابق.

(5)

جامع البيان 22/ 221. وينظر: 7/ 272، 11/ 609، 17/ 484، 21/ 329، 23/ 557، 24/ 525.

ص: 456

ويلاحظُ هنا أنَّ كلا المَرْتبتَيْن الثانيةِ والثالثةِ متداخلَتان، فكلاهُما فصيحٌ، جارٍ على ما اطَّردَ مِنْ كلامِ العربِ، غيرَ أنَّ الثانيةَ غلبَتْ في الاستعمالِ، واشتَهرَتْ على الألسُنِ، فتقدَّمَتْ على الثَّالثةِ لبعضِ العِلَلِ السّابقِ ذكرَها، وقد أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى ذلك بقولِه: «وإنَّما قُلنا: هذا القولُ أَولى بتأويلِ ذلك؛ لأنَّ ذلك هو المعروفُ في كلامِ العربِ، المُستَفيضُ فيهم، وما خالَفَه مِنْ القَولِ -وإن كانَ له وجْهٌ- فغَيرُ مُستَعمَلٍ فيما وجَّهَه إليه مَنْ وجَّهَه إليه»

(1)

؛ فأفادَ أنَّ المعنى المَرجوحَ صحيحٌ لُغةً، وقليلُ الاستعمالِ.

والمراتبُ الثَّلاثُ السّابقةُ كُلُّها موضِعُ احتجاجٍ صحيحٍ، وعليها تُبنى أصولُ العربيَّةِ، وشَذَّ بعضُ المُتأخِّرين

(2)

فاشترطَ النَّقلَ المُستفيضَ، وشواهِدَ الشِّعرِ المُتناصرةَ، عند الاحتجاجِ باللُّغةِ لِما يوجِبُ العلمَ مِنْ نُصوصِ الشَّرعِ، وأجازَ فيما دون ذلك العملَ بخبرِ الواحدِ والاثنين، والاستشهادَ بالبيتِ والبيتَيْن. ولا معنى لهذا التَّفريقِ الحادثِ؛ لأنَّ بابَ الاحتجاجِ مبنيٌّ على تصحيحِ اللَّفظِ على مُقتضى قواعدِ العربيَّةِ وأَوضاعِها، ولا صِلةَ لذلك بما تُستخدَمُ فيه الألفاظُ مِنْ المعاني، فإذا ثبتَ استعمالُ العربِ للَفْظةٍ في معنىً فهو عربيٌّ صحيحٌ، أيّاً كانَ ذلك المعنى. ولا دلالةَ مِنْ شرعٍ أو عقلٍ تشهدُ لشروطِ هذه القِسمةِ بالصَّوابِ، كما لم يَلتفِتْ إليها أهلُ العربيَّةِ في أصولِهم، ولا يَخفى أنَّها

(1)

جامع البيان 16/ 586.

(2)

ذهب إلى ذلك الماورديُّ (ت: 450)، وتبِعَه الزَّركشيُّ (ت: 794)، والسّيوطيُّ (ت: 911). ينظر: النكت والعيون 1/ 37 وفي عبارتِه اضْطرابٌ، والبرهان 1/ 294، والإتقان 6/ 2299.

ص: 457

مِمّا تسرَّبَ مِنْ أثرِ بعضِ العلومِ، مع قيامِ الدَّليلِ على بُطلانِها فيها كذلك.

(1)

4 -

القليلُ والشّاذُّ والضَّرورةُ والنّادرُ غيرُ الفاشي، وهذا النَّوعُ يقَبلُه ابنُ جريرٍ (ت: 310) ضمنَ حيِّزِ اللُّغةِ، ويقصُرُ الاحتجاجَ به في الواردِ فيه بعَيْنِه، ولا يَقيسُ عليه غيرَه، ولا يَبني قاعِدةً على شيءٍ مِنه بحالٍ. وممّا أَوردَه مِنْ ذلك قولُه معلِّلاً تأخيرَ بعضِ وجوهِ القراءةِ:«وهذه القراءةُ أَولى القراءَتَيْن عندي بالصَّوابِ؛ لأنَّ يَهْدي بمعنى: يَهْتَدي. قليلٌ في كلامِ العربِ غيرُ مُستَفيضٍ»

(2)

، وقولُه:«وأَولى القَولَيْن عندَنا بالصَّوابِ في ذلك قَولُ مَنْ قالَ بقَولِ السُّدّي .. ؛ لعِلَّتَيْن، إحداهما: أنَّ (إذْ) إنَّما تُصاحبُ -في الأغلبِ مِنْ كلامِ العربِ المُستعْمَلِ بينَها- الماضي مِنْ الفِعلِ، وإن كانَت قد تُدخِلُها في موضِعِ الخبرِ عمّا يحدُثُ إذا عرَفَ السّامعون معناها، وذلك غيرُ فاشٍ، ولا فصيحٌ في كلامِهم»

(3)

، وقولُه في ردِّ بعضِ المعاني:«وذلك في مذاهبِ العربيَّةِ ضعيفٌ، ومِن كلامِ العربِ بعيدٌ»

(4)

.

وقد اتَّفقَتْ كلمةُ أهلِ اللُّغةِ على ما سارَ عليه ابنُ جريرٍ (ت: 310) في هذا النَّوعِ مِنْ الكلامِ، ومِن قولِهم في ذلك: «الضَّرورةُ والنَّادرُ ممّا لا

(1)

ينظر: أخبار الآحاد في الحديث النبوي (ص: 69)، وموقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة 1/ 163.

(2)

جامع البيان 14/ 218.

(3)

جامع البيان 9/ 135.

(4)

جامع البيان 5/ 685. وينظر: 3/ 720، 4/ 153، 7/ 683، 11/ 417، 14/ 38، 39، 16/ 514.

ص: 458

حُكمَ لهما، ولا يُعتَرَضُ على الكثرَةِ بهما»

(1)

، و «الشَّاذُّ القليلُ لا يُعتَدُّ به، ولا يُبنى عليه»

(2)

، و «الشُّذوذُ حُكمُه أن يُقصرَ على ما جاءَ فيه، ولا يُتَعدّى به إلى غَيرِه»

(3)

.

5 -

الفاسدُ والمُنكرُ واللَّحنُ والغَلَطُ وما لا يُعرَفُ وغيرُ الجائِزِ، وما كانَ كذلك فليس مِنْ كلامِ العربِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، ولا يَحتجُّ به في معنىً فضلاً عن أصْلٍ. ومِن كلامِه فيه قولُه عند قولِه تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]: «وقد وجَّه بعضُ مَنْ ضَعُفَتْ معرِفتُه بكلامِ العربِ معنى ذلك إلى أنَّه مِنْ المؤَخَّرِ الذي معناه التَّقديمُ، وزعمَ أنَّ معنى ذلك: ولقد خلقناكم، ثُمَّ قُلنا للملائِكةِ اسْجُدوا لآدمَ، ثُمَّ صوَّرْناكم. وذلك غيرُ جائِزٍ في كلامِ العربِ؛ لأنَّها لا تُدخلُ ثُمَّ في الكلامِ وهي مُرادٌ بها التَّقديمُ على ما قَبلَها مِنْ الخبرِ»

(4)

، وقولُه:«ولَسْنا نعرِفُ في كلامِ العربِ (مِنْ) بمعنى الكافِ؛ لأنَّ (مِنْ) تَدخلُ في كلامِهم بمعنى التَّبعيضِ، والكافُ بمعنى التَّشْبيهِ، وإنَّما يُوضَعُ الحرفُ مكانَ آخرَ غيرِه إذا تقاربَ معنياهما، فأمّا إذا اختلفَتْ معانيهما فغَيْرُ مَوجودٍ في كلامِهم وَضعُ أحدِهما عقيبَ الآخرِ، وكتابُ الله تعالى ذِكرُه وتَنْزيلُه أَحرى الكلامِ أن يُجَنَّبَ ما خرجَ عن المفهومِ، والغايةِ في الفصاحةِ مِنْ كلامِ مَنْ نزلَ بلِسانِه»

(5)

، وقولُه:

(1)

الأغفالُ، لأبي عليّ الفارسي 2/ 10.

(2)

البسيط في شرح جُملِ الزَّجَاجي (ص: 179).

(3)

الحُجَّة للقراء السبعة 4/ 438. وينظر: الخصائص 1/ 140، 153، ولمع الأدلة (ص: 107).

(4)

جامع البيان 10/ 80.

(5)

جامع البيان 8/ 108.

ص: 459

«غيرُ موجودٍ في شيءٍ مِنْ كلامِ العربِ أن يُقالَ: علِمتُ كذا. بمعنى: رأَيْتُه. وإنَّما يجوزُ توجيهُ معاني ما في كتابِ الله الذي أنْزلَه على محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ الكلامِ إلى ما كانَ موجوداً مثلَه في كلامِ العربِ، دون ما لم يكُنْ موجوداً في كلامِها»

(1)

.

والقاعدةُ العامَّةُ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) في هذه المراتبِ الخَمسِ: أنَّ كلَّ مرتبةٍ مقدَّمةٌ على ما بعدَها، ما لم يأتِ الدَّليلُ بإرادةِ التّاليةِ دونَها. وقد نصَّ على ذلك في كثيرٍ مِنْ المواضعِ؛ مِنها قَولُه:«غيرَ أنَّ الكلامَ إذا تُنوزِعَ في تأويلِه، فحَمْلُه على الأَغلبِ الأَشهرِ مِنْ معناه أحَقُّ وأَولى مِنْ غَيرِه، ما لم تأتِ حُجَّةٌ مانعةٌ مِنْ ذلك يَجبُ التَّسليمُ لها»

(2)

، وقولُه:«توجيهُ معاني كلامِ الله إلى الأشهرِ أَولى، ما لم تَثبُتْ حُجَّةٌ بخلافِه يَجبُ التَّسليمُ لها»

(3)

، ووَصفَ الانتقالَ مِنْ الأعلى إلى الأدنى في ذلك ب (الاضْطرارِ)، فقالَ في قولِه تعالى {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]: «ولم يضْطَرَّنا شيءٌ إلى أن نجعلَ عاصماً في معنى معصومٍ، ولا أن نجعلَ (إلا) بمعنى (لكن)، إذْ كُنّا نجِدُ لذلك في معناه الذي هو معناه في المَشهورِ مِنْ كلامِ العربِ = مَخْرجاً صَحيحاً»

(4)

.

كما بيَّنَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) نوعَ الحُجَّةِ التي يُصرَفُ بها الكلامُ على ذلك الوَجْهِ، فقالَ: «الواجِبُ أن تُوَجَّه معاني كلامِ الله إلى الأغلبِ

(1)

جامع البيان 2/ 644. وينظر: 6/ 467، 501، 7/ 109، 12/ 595، 17/ 309، 19/ 650، 24/ 635.

(2)

جامع البيان 9/ 298.

(3)

جامع البيان 15/ 8. وينظر: 10/ 80، 12/ 407، 6/ 337، 20/ 406، 24/ 137.

(4)

جامع البيان 12/ 418.

ص: 460

الأشهرِ مِنْ وُجوهِها المَعروفةِ عند العربِ، ما لم يكُنْ بخلافِ ذلك ما يَجبُ التَّسليمُ له مِنْ حُجَّةِ خَبَرٍ أو عَقلٍ»

(1)

، وزادَ ذلك تَفصيلاً في موضِعٍ آخرَ فقالَ:«حُجَّةٌ يجِبُ التَّسليمُ لها؛ مِنْ كتابِ الله عز وجل، أو خبرٍ عن الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، أو إجماعٍ مِنْ أهلِ التَّأويلِ»

(2)

.

(1)

جامع البيان 16/ 288.

(2)

جامع البيان 6/ 337.

ص: 461

‌المبحثُ السّابعُ: منهجُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

الأحوالُ لُغةً: جمعُ حالٍ، وأصْلُه (حَوَلَ)، «والحاءُ والواوُ واللامُ أصلٌ واحِدٌ، وهو تحرُّكٌ في دَوْرٍ»

(1)

، والحالُ الوَقتُ، وحالُ الإنسانِ هيئَتُه، وما يكونُ عليه مِنْ خيرٍ وشرٍّ.

(2)

والنُّزولُ لُغةً: مصدرُ (نَزَلَ)، و «النُّونُ والزّاءُ واللّامُ كلمةٌ صحيحةٌ تدُلُّ على هُبوطِ الشَّيءِ ووُقوعِه»

(3)

.

والمُرادُ ب (أحوالِ النُّزولِ): ما يحتَفُّ بنزولِ القرآنِ الكريمِ مِنْ

(1)

مقاييس اللغة 1/ 327.

(2)

ينظر: تهذيب اللغة 5/ 158، ولسان العرب 13/ 195، 201.

(3)

مقاييس اللغة 2/ 554. وينظر: تهذيب اللغة 13/ 144، ولسان العرب 14/ 179.

ص: 462

هَيئاتٍ وأَوقاتٍ يُتوصَّلُ بها إلى معرفةِ معانيه

(1)

. ويشملُ ذلك أنواعاً مِنْ الأحوالِ؛ وهي:

1 -

زمنُ النُّزولِ ومكانُه؛ ويشمَلُهما مُصطلحُ: المكِّيّ والمدَنيّ؛ سواءٌ أُريدَ به المكانُ: مكةُ والمدينةُ. أو أُريدَ به الزَّمانُ: ما قبلَ الهِجرةِ فمَكِّيٌّ، وما بعدَها فمَدنيٌّ

(2)

، وهو المَشهورُ مِنْ هذا الاصطلاحِ

(3)

.

2 -

سببُ النُّزولِ؛ وهو: ما نزلَ قرآنٌ بشأْنِه وقتَ وقوعِه

(4)

. ويشملُ ذلك كُلَّ قَولٍ أو فعلٍ وقعَ مِمَّنْ عاصروا التَّنزيلَ وتعلَّقَ به النُّزولُ؛ كسُؤالٍ، أو دعاءٍ، أو حادثةٍ، أو خبرٍ، ونحوِها، كما يشملُ قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفِعلَه، وما كانَ مِنْ الصّحابةِ رضي الله عنهم، أو المنافقين، أو اليهودِ، أو المشركين.

(5)

3 -

قصَصُ الآيِ؛ وتشملُ نَوعينِ مِنْ القَصَصِ:

أ - أحوالُ وأخبارُ مَنْ نزلَ عليهم القرآنُ مِنْ العربِ.

ب - أحوالُ وأخبارُ مَنْ سِواهُم مِنْ الأُمَمِ. وتشتملُ ثلاثةَ أصنافٍ مِنْ الأخبارِ:

1 -

أخبارَ الأنبياءِ وأقوامِهم مِنْ غيرِ بني إسرائيلَ؛ كنبيِّ الله هودٍ،

(1)

ينظر في استعمالِ هذا المُصطلحَ: المحرر الوجيز 11/ 402، 417، وتفسير ابن كثير 12/ 242، 13/ 141.

(2)

ينظر: التسهيل 1/ 12، والمكي والمدني في القرآن الكريم 1/ 42.

(3)

نَصَّ عليه الشِّنقيطي (ت: 1393) في مذكرة أصول الفقه (ص: 500).

(4)

ينظر: لباب النُّقول (ص: 8)، ومناهل العرفان 1/ 108.

(5)

ينظر: المحرَّر في أسباب نزول القرآن 1/ 104، والمحرَّر في علوم القرآن (ص: 129).

ص: 463

وصالحٍ، وشُعَيْبٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، ونَحوِهم مِنْ الأُمَمِ مِنْ غيرِ بني إسرائيلَ.

2 -

أخبارَ الأنبياءِ الواردِ ذِكرُهم في كُتبِ بني إسرائيلَ مِنْ غيرِ أنبيائِهم؛ كآدمَ، ونوحاً، وإبراهيمَ، ولوطاً، ونحوِهم مِنْ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما جرى مِنْ أقوامِهم.

3 -

أخبارَ أنبياءِ بني إسرائيلَ وأقوامِهم؛ كموسى، وداودَ، وسليمانَ، وزكريّا، ويحيى، وعيسى، ونحوِهم مِنْ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.

وأعَمُّ أحوالِ النُّزولِ الثَّلاثةِ: قصَصُ الآيِ؛ لاشتِمالِها لما قبل نزولِ القرآنِ الكريمِ وبعده

(1)

، ثُمَّ أخَصُّ منها سببُ النُّزولِ؛ لأنَّه مقصورٌ على وقتِ نزولِ القرآنِ الكريمِ، ورُبَّما تأخَّرَ قليلاً

(2)

، ولكنْ لا يصِحُّ أن يكونَ النُّزولُ قبلَ سبَبِه، ثُمَّ أخَصُّ منهما زمنُ النُّزولِ ومكانُه؛ فإنَّه لا يكونُ إلا مُطابِقاً لوَقتِ النُّزولِ.

وحين تكونُ أحوالُ النُّزولِ مِنْ قبيلِ الحديثِ النَّبويِّ، أو أقوالِ

(1)

ما قبلَ نزولِ الآيِ مثل نزولِ سورةِ الفيلِ في قصَّةِ أصحابِ الفيلِ. وما بعدَ النَّزولِ مثل قولِ عمرَ رضي الله عنه: «لمّا نزلَت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] جعَلْتُ أقولُ: أيَّ جَمعٍ يُهزَمُ؟ فلمّا كانَ يومَ بَدرٍ رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَثِبُ في الدِّرعِ وهو يقولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. فعرَفتُ تأويلَها يومئِذٍ» ، ومثلُه قولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه فيها:«كانَ ذلك يومَ بدرٍ، نزلَت هذه الآيةُ» ، جامع البيان 22/ 157، 185، وتفسير ابن كثير 13/ 303. فسورةُ القمرِ مكِّيّةٌ، والحدثُ الذي أشارَت إليه مَدَنيٌّ.

(2)

كما في حادِثةِ الإفكِ، فقد تأخَّرَ النُّزولُ عن الحادثةِ شهراً. ينظر: المحرَّر في أسباب النزول 2/ 749.

ص: 464

السَّلفِ، فينبغي التَّنبُّه إلى منهجِ الاستدلالِ بتلك الأدلَّةِ على ما سبقَ بيانُه، مُضافاً إليها ضوابطُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ فيما يأتي بإذنِ الله.

ويُلاحَظُ في أحوالِ النُّزولِ ارتباطُها الوَثيقُ بعلمِ التّاريخِ والسِّيَرِ، وذلك لِما فيها مِنْ أحداثِ وأخبارِ وأسماءِ مَنْ نزلَ فيهم القرآنُ، وقد أشارَ إلى ذلك السّيوطيّ (ت: 911) بقولِه عن علمِ (أسبابِ النُّزولِ): «زعمَ زاعِمٌ أنَّه لا طائِلَ تحتَ هذا الفَنِّ لجَرَيانِه مجرى التّاريخِ، وأخطأَ في ذلك، بل له فوائِدٌ»

(1)

.

كما يُلاحَظُ اشتِمالُ قصَصِ الآيِ على أخبارِ وأحوالِ الأُمَمِ السّابقةِ، وأشْهرُ مَنْ نُقلَ عنهم ذلك: بنو إسرائيلَ. وقد أَفرَدتُ الحديثَ عن الاستدلالِ بأخبارِ بني إسرائيلَ على المعاني في مبحثٍ تالٍ مُستقلٍّ؛ لكثرةِ أدلَّتِه، واختصاصِه بكثيرٍ مِنْ المسائلِ.

والمُرادُ بالاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني هو:

إقامَةُ أحوالِ النُّزولِ دليلاً لتصحيحِ المعاني وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

أو: الإبانَةُ بدليلِ أحوالِ النُّزولِ عن صِحَّةِ المعاني وبطلانِها.

وأمثلةُ استدلالِ ابنِ جرير (ت: 310) بأحوالِ النُّزولِ على المعاني في تفسيره كثيرةٌ ظاهِرةٌ، وهي على نوعين:

النَّوعُ الأوَّلُ: استدلالُه بأحوالِ النُّزولِ لقبولِ المعاني وتصحيحِها، ومِن ذلك قولُه: «وهذا القولُ الذي قالَه مُجاهدٌ أَولى بتأويلِ الآيةِ؛ لصِحَّةِ الخبرِ الذي ذكَرْناه قبلُ عن ابنِ عباسٍ، أنَّ هذه الآيةَ نَزَلَت على

(1)

الإتقان 1/ 190.

ص: 465

رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في قِصَّةِ المَجاعَةِ التي أصابَتْ قُريشاً بدُعاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وأمْرِ ثُمامةَ بن أُثالٍ، وذلك لا شكَّ أنَّه كانَ بعد وَقْعَةِ بدرٍ»

(1)

، وقولُه:«وأَولى القَولَيْن في ذلك بالصَّوابِ قَولُ مَنْ قالَ: الذي تولّى كِبْرَه مِنْ عُصبَةِ الإفْكِ كانَ عبدَ الله بن أُبَيٍّ. وذلك أنَّه لا خِلافَ بين أهلِ العلمِ بالسِّيَرِ أنَّ الذي بدَأ بذِكرِ الإفْكِ، وكانَ يَجمَعُ أهلَه ويُحدِّثُهم: عبدُ الله بن أُبَيّ ابن سلول، وفِعلُه ذلك على ما وصَفْتُ كانَ توَلّيه كِبْرَ ذلك الأمرَ»

(2)

، وكذا قولُه في قولِه تعالى {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]: «وإنَّما اختَرْنا ما قُلنا في ذلك مِنْ التأويلِ؛ لتواتُرِ الأخْبارِ وتظاهُرِها بأنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ قبلَ تحريمِ الخَمرِ والمَيْسرِ، فكانَ معلوماً بذلك أنَّ الإثمَ الذي ذكَرَه الله في هذه الآيةِ فأضافَه إليهما إنَّما عنى به الإثمَ الذي يحدُثُ عن أسبابِهما على ما وصَفْنا، لا الإثمَ بعد التَّحريمَ»

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ مُبيّناً سببَ الاقتصارِ على ذِكرِ الحَرِّ دون البَرْدِ: «وأَولى القَولَيْن في ذلك بالصَّوابِ قولُ مَنْ قالَ: إنَّ القَومَ خُوطِبوا على قَدرِ معرفتِهم .. ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه إنَّما عَدَّدَ نِعَمَه التي أنعمَها على الذين قُصِدوا بالذِّكرِ في هذه السّورةِ دون غَيرِهم، فذكرَ أياديَه عندهم»

(4)

.

(1)

جامع البيان 17/ 95.

(2)

جامع البيان 17/ 197.

(3)

جامع البيان 3/ 180.

(4)

جامع البيان 14/ 324. وينظر: 3/ 383، 664، 7/ 49، 566، 8/ 50، 534، 9/ 87، 22/ 574.

ص: 466

النَّوعُ الثّاني: استدلالُه بأحوالِ النُّزولِ لرَدِّ المعاني وإبطالِها، ومن أمثلَتِه قولُه عن قولِه تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة: 275]: «ليس المَقصودُ مِنْ الرِّبا في هذه الآيةِ النَّهيَ عن أكلِه خاصَّةً، دون النَّهيِ عن العملِ به، وإنَّما خصَّ اللهُ وصفَ العاملين به في هذه الآيةِ بالأكلِ؛ لأنَّ الذين نزلَتْ فيهم هذه الآياتُ يومَ نزلَتْ كانَتْ طُعمَتُهم ومَأكَلُهم مِنْ الرِّبا، فذَكَرَهم بصِفَتِهم، مُعظِّماً بذلك عليهم أمرَ الرِّبا، ومُقبِّحاً إليهم الحالَ التي هم عليها في مَطاعِمِهم»

(1)

، وذكرَ قولَ ابنِ زيدٍ (ت: 182): «كانَت العربُ في الجاهليَّةِ يتبادَلون بأزواجِهم، يُعطي هذا امرأتَه هذا، ويأخُذُ امرأتَه، فقال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52]: لا بأسَ أن تُبادلَ بجاريَتِك ما شِئتَ أن تُبادلَ، فأمّا الحرائرُ فلا. قالَ: وكانَ ذلك مِنْ أعمالِهم في الجاهليَّةِ»

(2)

، ثُمَّ قالَ:«وأمّا الذي قالَه ابنُ زيدٍ في ذلك أيضاً فقَولٌ لا معنى له؛ لأنَّه لو كانَ بمعنى المُبادلةِ لكانت القراءةُ والتَّنزيلُ: ولا أن تُبادلَ بهنَّ مِنْ أزواجٍ. أو: ولا أن تُبدِّلَ بهنَّ .. ، مع أنَّ الذي ذكرَ ابنُ زيدٍ مِنْ فِعلِ الجاهليَّةِ غيرُ معروفٍ في أُمَّةٍ نعلمُه مِنْ الأُمَمِ، فيُقالَ: كانَ ذلك مِنْ فِعلِهم، فنُهيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن فِعلِ مِثلِه»

(3)

.

وقد بلغَت المواضِعُ التي استدَلَّ فيها بأحوالِ النُّزولِ على المعاني

(1)

جامع البيان 5/ 42.

(2)

جامع البيان 19/ 152.

(3)

جامع البيان 19/ 153. وينظر: 8/ 69، 21/ 263.

ص: 467

(360)

موضِعاً، ونِسبةُ الاستدلالِ بدليلِ أحوالِ النُّزولِ مِنْ مجموع الأدلَّةِ (3. 3%). وقد جاءَ استدلالُه بأحوالِ النُّزولِ على ثلاثةِ أنحاءٍ:

1 -

استدلالُه بزمنِ النُّزولِ ومكانِه، وذلك في (16) موضِعاً، ونِسبةُ ذلك مِنْ أدلَّةِ أحوالِ النُّزولِ (4. 4%).

2 -

استدلالُه بسببِ النُّزولِ، وذلك في (286) موضِعاً، ونِسبةُ ذلك مِنْ أدلَّةِ أحوالِ النُّزولِ (79. 5%).

3 -

استدلالُه بقَصَصِ الآيِ مِنْ أخبارِ العربِ، وذلك في (58) موضِعاً، ونِسبةُ ذلك مِنْ أدلَّةِ أحوالِ النُّزولِ (16. 1%).

وليس لذكرِ دليلِ أحوالِ النُّزولِ ترتيبٌ معيَّنٌ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، بل يوردُه حيثُما احتاجَ إليه في مواضعِ الاستدلالِ، إلا أنَّه كثيراً ما يُدرجُه ضِمنَ أقوالِ السَّلفِ؛ فيقولُ:«وبنَحوِ الذي قُلْنا في ذلك قالَ أهلُ التَّأويلِ»

(1)

، ثُمَّ يذكرُ سببَ النُّزولِ أو زمنَه أو قِصَّتَه مِنْ روايةِ بعضِ السَّلفِ؛ وعلَّةُ ذلك أنَّ أحوالَ النُّزولِ لا تُعرَفُ بغَيْرِ النَّقلِ، كما سيأْتي بيانُه بإذنِ الله، وناقِلوها هُمْ السَّلفُ قَطعاً، وإنَّما يُميَّزُ مِنْ كلامِهم في ذلك ما كانَ مرفوعاً إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

‌المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

يُمكنُ إجمالُ الأدلَّةِ على صِحَّةِ الاحتجاجِ بأحوالِ النُّزولِ على معاني كلامِ الله تعالى فيما يأتي:

(1)

ينظر: جامع البيان 11/ 142، 675، 17/ 178، 23/ 42.

ص: 468

أوَّلاً: أنَّ الله تعالى وصفَ كتابَه في مواضِعَ كثيرةٍ بأنَّه عربيٌّ، فقالَ تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، وقالَ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزُّمَر: 28]، وقالَ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فُصِّلَت: 3]، وذلك يدُلُّ على نُزولِه بلسانِ العربِ، كما جاءَ النَّصُّ عليه في مثلِ قولِه تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وقولِه {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف: 12]، كما يدُلُّ على نُزولِه على معهودِ العربِ، ومجاري أحوالِهم وعاداتِهم وعلومِهم، وهو ما أشارَ إليه الشّاطبيُّ (ت: 790) في حديثِه عن أُمِّيَّةِ الشَّريعةِ

(1)

، مُستدلّاً له بثلاثةِ أدلَّةٍ، وهي:

1 -

نصُّ الوَحيِ، وذلك في قولِه تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، وقولِه {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} [الأعراف: 158]، وقولِه صلى الله عليه وسلم:«إنّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ؛ لا نكتُبُ ولا نحسبُ»

(2)

الحديث، وفيه تفسيرُ معنى الأُمِّيَّةَ بعدمِ العلمِ بالحسابِ والكتابِ.

2 -

مقتضى العقلِ، فلو لم يكُن نزولُ القرآنِ على ما يعهدون لما كانَ عندَهم مُعجِزاً، ولكانوا يخرجون عن مُقتضى التَّعجيزِ بقولِهم: هذا على غيرِ ما عهِدنا، إذْ ليس لنا عَهدٌ بمِثلِ هذا الكلامِ؛ مِنْ جِهةِ أنَّه ليس بمَفهومٍ ولا مَعروفٍ في أحوالِنا.

3 -

واقعُ الحالِ، وذلك «أنَّ العربَ كانَ لها اعتِناءٌ بعلومٍ ذكَرَها النَّاسُ، وكانَ لعُقلائِهم اعتناءٌ بمكارِمِ الأخلاقِ، واتِّصافٌ بمحاسِنِ

(1)

ينظر: الموافقات 2/ 109 - 150.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 27 (1913)، ومسلم في صحيحه 3/ 158 (1080).

ص: 469

شِيَمٍ؛ فصَحَّحَت الشَّريعةُ مِنها ما هو صحيحٌ وزادَت عليه، وأبطلَت ما هو باطلٌ، وبيَّنَت منافعَ ما ينفعُ مِنْ ذلك، ومضارَّ ما يضُرُّ مِنه»

(1)

.

ومِن ثَمَّ يتقرَّرُ أنَّه: كما لا يصِحُّ فهمُ القرآنِ بغيرِ لسانِ العربِ، فكذلك لا يصِحُّ فهمُه على غيرِ معهودِ العربِ ومجاري أحوالِها.

ثانياً: أنَّ مِنْ القرآنِ ما لا يُمكنُ فهمُه على الصَّوابِ بغيرِ معرفةِ أحوالِ مَنْ نزلَ فيهم؛ لأنَّه جارٍ على عُرفِهم، قالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «ما تقرَّرَ مِنْ أُمِّيَّةِ الشَّريعةِ، وأنَّها جاريةٌ على مذاهبِ العربِ، ينبني عليه قواعدُ .. ، مِنها: أنَّه لا بُدَّ في فهمِ الشَّريعةِ مِنْ اتِّباعِ معهودِ الأمِّيّين؛ وهم: العربُ الذين نزلَ القرآنُ بلسانِهم، فإن كانَ للعربِ في لسانِهم عُرْفٌ مُستمرٌّ، فلا يصحُّ العدولُ عنه في فهمِ الشَّريعةِ، وإن لم يكُنْ ثَمَّ عُرْفٌ، فلا يصحُّ أن يُجْرى في فَهمِها على ما لا تعرِفُه»

(2)

.

ومِن هنا شَرَطَ العُلماءُ العلمَ بأحوالِ النُّزولِ في العالِمِ ومَن أرادَ أن يتكلَّمَ في التَّفسيرِ، فقالَ الشّافعي (ت: 204): «لا يحِلُّ لأحدٍ يُفتي في دينِ الله إلّا رجُلاً عارِفاً بكتابِ الله؛ بناسِخِه ومَنْسوخِه، ومُحكَمِه ومُتشابِهِه، وتأويلِه وتَنْزيلِه، ومَكِّيِّه ومدَنِيِّه، وما أُريدَ به، وفيما أُنْزِلَ»

(3)

، وقالَ ابنُ فارس (ت: 395): «وفي كتابِ الله جلَّ ثناؤُه ما لا يُعلَمُ معناه إلا بمعرِفةِ قِصَّتِه»

(4)

، وقالَ أبو القاسمِ

(1)

الموافقات 2/ 112.

(2)

الموافقات 2/ 131.

(3)

الفقيه والمتفقه 2/ 331.

(4)

الصّاحبي (ص: 42).

ص: 470

النَّيْسابوري

(1)

(ت: 406) بعد أن عدَّدَ وُجوهاً مِنْ علمِ المَكّيِّ والمَدنِيِّ: «فهذه خمسةٌ وعشرون وَجهاً، مَنْ لم يَعرِفْها، ويُميِّزْ بينها، لم يحِلّ له أن يتكلَّمَ في كتابِ الله عز وجل)

(2)

، وقالَ ابنُ عاشور (ت: 1393): «وقد تصفَّحتُ أسبابَ النُّزولِ التي صَحَّت أسانيدُها، فوجدتُها خمسةَ أقسامٍ: الأوَّلُ: هو المَقصودُ مِنْ الآيةِ ويتوقَّفُ فهمُ المُرادِ مِنها على عِلمِه، فلا بُدَّ مِنْ البَحثِ عنه لِلمُفسِّرِ»

(3)

.

ثالثاً: شهادةُ العقلِ بأنَّ أحوالَ النُّزولِ خيرُ ما يُستعانُ بها على تعيينِ المُرادِ مِنْ المعاني، قالَ الواحديّ (ت: 468) عن أسبابِ النُّزولِ: «هي أَوفى ما يجبُ الوقوفُ عليها، وأَولى ما تُصرَفُ العنايةُ إليها، لامتناعِ معرفةِ تفصيلِ الآيةِ، وقَصْدِ سبيلِها، دون الوقوفِ على قِصَّتِها، وبيانِ نُزولِها»

(4)

، وقالَ ابنُ دقيقٍ العيد (ت: 702): «بيانُ سبَبِ النُّزولِ طريقٌ قويٌّ في فَهمِ معاني الكتابِ العزيزِ»

(5)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «معرفةُ سببِ النُّزولِ يُعينُ على فَهمِ الآيةِ؛ فإنَّ العلمَ بالسَّبَبِ يُورِثُ العلمَ بالمُسَبَّبِ»

(6)

، وبيَّنَ الشّاطبيُّ (ت: 790) «أنَّ علمَ المعاني والبيانِ

(1)

الحسنُ بن محمد بن حبيب بن أيّوب النَّيسابوريّ، أبو القاسم، العالمُ المُفسّر الواعظ، صنَّف: تفسيرَ القرآن، والتَّنزيل وترتيبه، ومات سنة (406). ينظر: السّير 17/ 237، وشذرات الذّهب 5/ 41.

(2)

التَّنزيلُ وتَرتيبُه (ص: 27).

(3)

التحرير والتنوير 1/ 47.

(4)

أسباب نزول القرآن (ص: 96).

(5)

البرهان في علوم القرآن 1/ 22. وينظر: الإتقان 1/ 190.

(6)

مجموع الفتاوى 13/ 339.

ص: 471

الذي يُعرَفُ به إعجازُ نَظْمِ القرآنِ، فَضْلاً عن معرفةِ مقاصِدِ العربِ = إنَّما مدارُه على معرفةِ مُقتضياتِ الأحوالِ»

(1)

.

وقد ذكرَ ابنُ عاشور (ت: 1393)(أخبارَ العربِ) ضمنَ مَبحثِ: استِمدادِ علمِ التَّفسيرِ. وقالَ: «فبمَعرفةِ الأخبارِ يُعرَفُ ما أشارَتْ له الآياتُ مِنْ دقائِقِ المعاني»

(2)

.

رابعاً: أنَّ العلمَ بأحوالِ النُّزولِ خيرُ ما يُستعانُ به كذلك في دفعِ الشُّبَهِ والإشكالاتِ الواردةِ على المعاني، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «مَنْ لم يُحِطْ عِلماً بأسبابِ الكِتابِ والسُّنَّةِ عَظُمَ خَطَؤُه»

(3)

، وقالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «الجَهلُ بأسبابِ التَّنزيلِ مُوقِعٌ في الشُّبَهِ والإشكالاتِ، ومُورِدٌ للنُّصوصِ الظّاهرةِ مَوْرِدَ الإجمالِ حتى يقعَ الاختلافُ، وذلك مَظَنَّةُ وقوعِ النِّزاعِ .. ، وهكذا شأنُ أسبابِ النُّزولِ في التَّعريفِ بمعاني المُنَزَّلِ، بحيث لو فُقدَ ذِكرُ السَّببِ لم يُعْرَفْ مِنْ المُنَزَّلِ معناه على الخُصوصِ، دون تطرُّقِ الاحتمالاتِ، وتوَجُّهِ الإشكالاتِ»

(4)

، وقالَ:«معرفةُ عاداتِ العربِ في أقوالِها وأفعالِها ومجاري أحوالِها حالةَ التَّنزيلِ -وإن لم يكُنْ ثَمَّ سبَبٌ خاصٌّ- لا بُدَّ لمَن أرادَ الخَوضَ في علمِ القرآنِ مِنه، وإلا وقعَ في الشَّبَهِ والإشكالاتِ التي يتعذَّرُ الخروجُ مِنها إلا بهذه المَعرفةِ»

(5)

.

(1)

الموافقات 4/ 146.

(2)

التحرير والتنوير 1/ 25.

(3)

المسوَّدة 1/ 308.

(4)

الموافقات 4/ 146. وقد قرَّرَ ذلك أيضاً ابنُ السَّيّدِ البَطليَوسي (ت: 521) في الإنصافِ (ص: 178).

(5)

المرجع السابق 4/ 154.

ص: 472

ومِن هنا شابَهَتْ أحوالُ النُّزولِ السّياقَ؛ إذْ كلاهما يعيِّنان المُرادَ، ويُضيفان قُيوداً على مُطلَقِ المعنى اللُّغويِّ، ويمنعان العمومَ عند عدمِ القرائنِ، ويدفعان الشُّبهَ والإشكالاتِ عن المعاني

(1)

، ومِن ثَمَّ كانَت قِسماً مِنْ أقسامِ السّياقِ في استعمالاتِ أهلِ المعاني والبيانِ

(2)

.

خامساً: اعتمادُ السَّلفِ على أحوالِ النُّزولِ في بيانِ المعاني، والاستدلالِ لها، وذلك مِنهم هديٌ عامٌّ لا يُعرَفُ عنهم فيه خِلافٌ، ومِن نُصوصِهم في أهميَّةِ ذلك قَولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه:«والذي لا إله غيرُه ما نزلتْ آيةٌ من كتابِ الله إلّا وأنا أعلمُ فيمَ نزَلَتْ؟ وأينَ نزَلَتْ؟ ولو أعلمُ مكانَ أحدٍ أعلَمَ مِنّي بكتابِ الله تبلُغُه الإبلُ لأَتيتُه»

(3)

، قالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «وهذا يُشيرُ إلى أنَّ عِلمَ الأسبابِ مِنْ العلومِ التي يكونُ العالمُ بها عالِماً بالقُرآنِ. وعن الحسنِ أنَّه قالَ: ما أنزلَ الله آيةً إلا وهو يُحِبُّ أن يُعلَمَ فيمَ أُنزِلَتْ؟ وماذا أرادَ بها. وهو نَصٌّ في المَوضِعِ، مُشيرٌ إلى التَّحريضِ على تعلُّمِ عِلمِ الأسبابِ. وعن ابنِ سيرين قالَ: سألتُ عَبيدَةَ عن شَيءٍ مِنْ القُرآنِ، فقالَ: اتَّقِ الله وعليك بالسَّدادِ؛ فقد ذهبَ الذين يعلمون فيمَ أُنْزِلَ القرآنُ»

(4)

، ومِن شواهدِ حِرصِهم في هذا البابِ قولُ عكرمة (ت: 105) في قولِه تعالى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100]: «طلبتُ اسمَ هذا الرَّجلِ أربعَ عشرةَ سنةً حتى

(1)

ينظر: ملاك التأويل 1/ 399.

(2)

ينظر: دلالة السياق (ص: 113)، ودلالة السياق القرآني وأثرها في التفسير 1/ 88.

(3)

صحيح البخاري 6/ 187 (5002)، وصحيح مسلم 6/ 15 (2463).

(4)

الموافقات 4/ 153. وينظر: فضائل القرآن، لأبي عُبيد (ص: 42)، وجامع البيان 1/ 80.

ص: 473

وجدتُه»

(1)

، قالَ القرطبي (ت: 671): «وفي قولِ عكرمةَ هذا دليلٌ على شرفِ هذا العلمِ قديماً، وأنَّ الاعتناءَ به حَسَنٌ، والمَعرفةَ به فَضلٌ، ونَحوٌ مِنه قولُ ابنِ عباسٍ: مكَثتُ سنتَيْن أُريدُ أن أسألَ عُمرَ عن المَرأتَيْن اللَّتَيْن تظاهرَتا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعُني إلا مهابتُه

(2)

(3)

.

وشواهدُ استدلالِ السَّلفِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني كثيرةٌ مُتوافرَةٌ؛ مِنها قولُ سعيد بن جبير (ت: 95) في قولِه تعالى {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3]: «قالَ: القِداحُ؛ كانوا إذا أرادوا أن يَخرُجوا في سَفرٍ جعلوا قِداحاً للخروجِ والجلوسِ، فإن وقعَ الخُروجُ خرجوا، وإن وقعَ الجُلوسُ جلسوا»

(4)

، وحين سُئِلَ عن قولِه تعالى {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]، أهُو عبدُ الله بن سلَامٍ؟ قالَ:«هذه السُّورةُ مكيَّةٌ، فكيف يكونُ عبدَ الله بن سلَامٍ!»

(5)

، وقالَ مُجاهد (ت: 104): «كانوا يحُجّون ولا يَتَّجِرون، فأنزلَ الله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، في المَواسِمِ»

(6)

، وقالَ عطاءُ الخراسانيّ (ت: 135): «إنَّما نزلَ القرآنُ على قَدرِ معرِفتِهم؛ ألا ترى إلى قولِ الله تعالى ذِكرُه {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81]، وما جعلَ لهم مِنْ السُّهولِ أعظمُ وأكثَرُ؛ ولكنَّهم

(1)

الاستيعاب في معرفةِ الأصحاب 2/ 750. وينظر: الجامع لأحكام القرآن 7/ 67.

(2)

الأثرُ في صحيح البخاري 6/ 156 (4913)، وصحيح مسلم 4/ 66 (1479)، وفيه:«مكثتُ سنةً» .

(3)

الجامع لأحكام القرآن 7/ 67.

(4)

جامع البيان 8/ 73.

(5)

جامع البيان 13/ 856.

(6)

جامع البيان 3/ 502.

ص: 474

كانوا أصحابَ جبالٍ، ألا ترى إلى قولِه {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، وما جعلَ لهم مِنْ غيرِ ذلك أعظمُ مِنه وأكثرُ؛ ولكنَّهم كانوا أصحابَ وبَرٍ وشَعَرٍ، ألا ترى إلى قولِه {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43]، يُعَجِّبُهم مِنْ ذلك، وما أنزلَ مِنْ الثَّلجِ أعظمُ وأكثرُ؛ ولكنَّهم كانوا لا يُعرَفون به، ألا ترى إلى قولِه {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، وما تَقي مِنْ البَرْدِ أكثرُ وأعظمُ؛ ولكنَّهم كانوا أصحابَ حَرٍّ»

(1)

.

وعلى هَديِ السَّلفِ في هذا جرى عملُ المُفَسِّرين، وقد نَصَّ بعضُهم على ذلك، فقالَ ابنُ عطيَّة (ت: 546) عن تفسيرِه: «وقَصَدتُ أن يكونَ جامِعاً وَجيزاً؛ لا أذكرُ مِنْ القَصَصِ إلا ما لا تنفَكُّ الآيةُ إلا به»

(2)

، وقالَ القُرطبي (ت: 671): «وأُضربُ عن كثيرٍ مِنْ قَصَصِ المُفسِّرين، وأخبارِ المُؤَرِّخين، إلا ما لا بُدَّ مِنه، ولا غِنىً عنه للتَّبيِين»

(3)

، وقالَ ابنُ جُزَيّ (ت: 741): «وأمّا نحنُ فاقتصَرنا في هذا الكِتابِ مِنْ القَصَصِ على ما يتوقَّفُ التَّفسيرُ عليه»

(4)

، وقالَ ابنُ سعدي (ت: 1376): «فالنَّظرُ لسياقِ الآياتِ، مع العِلمِ بأحوالِ الرَّسولِ وسيرَتِه مع أصحابِه وأعْدائِه وقتَ نُزولِه، مِنْ أعظمِ ما يُعينُ على مَعرِفتِه، وفَهمِ المُرادِ مِنه»

(5)

.

بل جعلَ بعضُ العُلماءِ أحوالَ النُّزولِ مِنْ معنى علمِ التَّفسيرِ، فقالَ

(1)

جامع البيان 14/ 323.

(2)

المحرر الوجيز 1/ 10.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 1/ 8.

(4)

التّسهيل 1/ 18.

(5)

تيسير الكريم الرحمن 1/ 12.

ص: 475

الثَّعلبي (ت: 427): «قالت العُلماءُ: التَّفسيرُ: عِلمُ نُزولِ الآيةِ، وشَأنِها، وقِصَّتِها، والأسبابِ التي نزلَت فيها»

(1)

، وقالَ أبو حيَّان (ت: 745): «التَّفسيرُ عِلمٌ يُبحَثُ فيه عن كيفيَّةِ النُّطقِ بألفاظِ القرآنِ، ومَدلولاتِها، وأحكامِها الإفراديَّةِ والتَّركيبيَّةِ، ومعانيها التي تُحمَلُ عليها حالَةَ التَّركيبِ، وتَتِمّاتٍ لذلك»

(2)

، ثُمَّ قالَ:«وقَولُنا: وتَتِمّاتٍ لذلك. هو: معرفةُ النَّسخِ، وسَبَبِ النُّزولِ، وقِصَّةٍ توضِحُ بعضَ ما انبَهمَ في القرآنِ، ونحوِ ذلك»

(3)

، وقالَ الشَّوكاني (ت: 1250): «المَقصودُ في كُتُبِ التَّفسيرِ ما يتعلَّقُ بتَفسيرِ ألفاظِ الكِتابِ العَزيزِ، وذِكرِ أسبابِ النُّزولِ، وبيانِ ما يُؤْخذُ مِنه مِنْ المسائِلِ الشَّرعيَّةِ. وما عدا ذلك فهو فَضْلَةٌ لا تدعو إليه حاجةٌ»

(4)

.

وعِلَّةُ ضَمِّ أحوالِ النُّزولِ إلى صُلْبِ علِم التَّفسيرِ: أنَّ فيها تحديدًا للمُرادِ في مواضِعَ، كما أنَّ التَّفسيرَ: بيانُ المُرادِ مِنْ معاني القرآنِ الكريمِ. كما سبقَ تعريفُه، ولا يتِمُّ البيانُ إلا بدَفعِ الشُّبَه اللازمةِ، وزوالِ الإشكالِ، قالَ ابنُ تيميّة (ت: 728) في كلامِه على قولِه تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]: «الدَّليلُ لا يَتِمُّ إلاّ بالجوابِ عن المُعارِضِ؛ فالأدلَّةُ تشتبِه كثيراً بما

(1)

الكشفُ والبيان 1/ 87. وبه عرّفَه الزَّركشي (ت: 794)، والجُرجاني (ت: 816)، وابنُ ناصرِ الدّين الدِّمشقي (ت: 842)، والبَركوي (ت: 981). ينظر: البرهان 2/ 148، والتعريفات (ص: 67)، ومجالس في تفسير قوله تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (ص: 122، 337)، ومقدمة المفسرين (ص: 125).

(2)

البحر المحيط 1/ 121.

(3)

المرجع السابق. وينظر منه: 1/ 153.

(4)

فتح القدير 3/ 289.

ص: 476

يُعارضُها، فلا بُدَّ مِنْ الفَرقِ بين الدَّليلِ الدّالِّ على الحقِّ، وبين ما عارضَه؛ ليتبيَّنَ أنَّ الذي عارضَه باطلٌ. فالدَّليلُ يحصلُ به الهُدى وبيانُ الحقِّ، لكن لا بُدَّ مع ذلك مِنْ الفُرقانِ؛ وهو الفَرقُ بين ذلك الدَّليلِ وبين ما عارضَه»

(1)

. ومِن ثَمَّ لم يَقتصِرْ أهلُ التَّفسيرِ على لُغةِ العربِ في بيانِ المعاني -وإن كانَت أعظمَ ما يُستعانُ به لذلك-، بل ضَمّوا إليها ما لا بُدَّ مِنه مِنْ أحوالِ النُّزولِ؛ لتمامِ الواجبِ مِنْ البيانِ، وأشاروا إلى أنَّ مِنها ما يزيدُ عن الحاجةِ فلا يُستَرسَلُ فيه، كما قالَ ابنُ جُزَيّ (ت: 741): «وأما القَصَصُ فهي مِنْ جُملَةِ العلومِ التي تَضَمَّنَها القرآنُ، فلا بُدَّ مِنْ تفسيرِه، إلا أنَّ الضَّروريَّ مِنه ما يتوقَّفُ التَّفسيرُ عليه، وما سِوى ذلك زائِدٌ مُستَغنىً عنه»

(2)

.

(3)

‌المطلبُ الثّالثُ: أوجه الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني.

تتنوَّعُ صِيَغُ إيرادِ دليلِ أحوالِ النُّزولِ عند ابنِ جرير (ت: 310) إلى ثلاثةِ أنواعٍ:

الأوَّل: التَّصريحُ بالاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ، ومِن ذلك قولُه: «وقد أبانَ الخبرُ الذي ذكرناه عن سعيد بن المُسيّبِ وسليمانَ بن يسارٍ أنَّ قولَه

(1)

النُّبوّات (ص: 45).

(2)

التّسهيل 1/ 17.

(3)

ومِن هذا البابِ فرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بين التَّفسيرِ والتَّأويلِ؛ فجعلَ التَّفسيرَ لبيانِ المعنى، والتَّأويلَ لإزالةِ الإشكالِ. أو: التَّفسيرَ للَّفظِ، والتَّأويلَ للمَعنى. وهما مُتقارِبان. ومِن ثَمَّ فأخصُّ وَصفٍ يوصَفُ به أهلُ هذا العلمِ هو أنَّهم:(أهلُ التَّأويلِ)، وعلى هذا سارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، فخصَّهم بهذا الاسم، وميَّزَهم به دونَ غيرِه.

ص: 477

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] الآية، نزَلَتْ في أمرِ رافعِ بن خَديجٍ وزوجتِه .. ، ففي ذلك دليلٌ واضِحٌ على أنَّ قولَه {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] إنَّما عنَى به: وأُحضِرَت أنفُسُ النِّساءِ الشُّحَّ بحُقوقِهنَّ مِنْ أزواجِهنَّ. على ما وَصَفْنا»

(1)

، وذكرَ قولَ ابنَ عباسٍ رضي الله عنه:«لمّا نزلَتْ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] في القومِ الذين كانوا حرَّموا النِّساءَ واللَّحمَ على أنفُسِهم، قالوا: يا رسولَ الله، كيف نصنَعُ بأيْمانِنا التي حلَفْنا عليها؟ فأَنزلَ اللهُ تعالى ذِكرُه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الآية»

(2)

، ثُمَّ قالَ:«فهذا يدُلُّ على ما قُلنا مِنْ أنَّ القومَ كانوا حرَّموا ما حرَّموا على أنفُسِهم بأيْمانٍ حلَفوا بها، فنزلَتْ هذه الآيةُ بسبَبِهم»

(3)

.

الثّاني: ذِكرُ أحوالِ النُّزولِ مباشرةً على سبيلِ التَّدليلِ، ومِن ذلك قولُه:«القولُ في تأويلِ قولِه {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]. ذُكرَ أنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سببِ جماعةٍ مِنْ ضُعفاءِ المسلمين، قالَ المشركون له: لو طرَدتَ هؤلاءِ عنك لَغَشيناك وحضَرْنا مَجلِسَك»

(4)

، ثُمَّ ذَكرَ الرِّواياتِ بذلك. ومثلُه قولُه في قولِه تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ

(1)

جامع البيان 7/ 565.

(2)

جامع البيان 8/ 616.

(3)

المرجع السابق. وينظر: 9/ 87.

(4)

جامع البيان 9/ 258.

ص: 478

يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]: «وكانَ معنى مَكرِ قومِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم به ليُثْبِتوه كما حدَّثنا .. »

(1)

، ثُمَّ أسندَ رواياتِ السَّلفِ في سببِ نزولِها.

الثّالثُ: إيرادُ أحوالِ النُّزولِ على سبيلِ التعليلِ لقبولِ المعنى أو رَدِّه، ومِن ذلك قولُه:«وإنَّما قُلنا: إنَّ القولَ الأوَّلَ أولى بتأويلِ الآيةِ؛ لأنَّ الله عز وجل أنزلَ قِصَّةَ أصحابِ الكَهفِ على نبيِّه احتِجاجاً بها على المشركين مِنْ قومِه، على ما ذكَرْنا في الرِّوايةِ عن ابنِ عباسٍ»

(2)

، وهو سببُ نزولِها الذي أوردَه قبلَ ذلك

(3)

، ومِثلُه قولُه في قولِه تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]: «وأَولى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ مَنْ قالَ: عُنيَ بها الذين قالوا: لو عرَفْنا أحبَّ الأعمالِ إلى الله لعمِلْنا به. ثُمَّ قصَّروا في العملِ بعدَ ما عرَفوا. وإنَّما قُلتُ: هذا القولُ أَولى بها؛ لأنَّ الله جلَّ ثَناؤُه خاطبَ بها المؤمنين فقالَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الصف: 2]. ولو كانَت نزلَتْ في المنافقين لم يُسَمَّوْا ولم يُوصَفوا بالإيمانِ»

(4)

.

(1)

جامع البيان 11/ 134.

(2)

جامع البيان 15/ 157.

(3)

جامع البيان 15/ 143.

(4)

جامع البيان 22/ 609. وينظر: 15/ 142، 22/ 103.

ص: 479

‌المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ على المعاني ومسائِلُه.

أوَّلاً: طريقُ العِلمِ بأحوالِ النُّزولِ هو النَّقلُ وحدَه، ولا مدخلَ للعقلِ في ذلك، وقد أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى ذلك بقولِه عن آيةٍ تعدَّدَت فيها الأسبابُ: «ولا خبرَ تَثْبُتُ به الحُجَّةُ أنَّها نزلَت في شيءٍ. ولا دلالَةَ في كتابٍ، ولا حُجَّةَ عَقْلٍ أيُّ ذلك عُنيَ بها»

(1)

، فخَصَّ النُّزولَ بالنَّقلِ، وعمَّ الدَّلالَةَ بالنَّقلِ والعَقْلِ. وقالَ عن أسبابٍ تعدَّدَت:«ولا علمَ لنا بأيِّ ذلك مِنْ أيٍّ؛ إذْ كانَ لا خبرَ بأحدِهما يوجِبُ الحُجَّةَ، ويُتوَصَّلُ به إلى يقينِ العلمِ به، وليس مِمّا يُدرَكُ عِلمُه بفِطرةِ العقلِ»

(2)

.

وقد أكَّدَ العُلماءُ هذا المعنى أيضاً، فقالَ الثَّعلبي (ت: 427): «قالت العُلماءُ: التَّفسيرُ: عِلمُ نُزولِ الآيةِ، وشَأنِها، وقِصَّتِها، والأسبابِ التي نزلَت فيها. فهذا وأضرابُه محظورَةٌ على النّاسِ القَولُ فيها إلا باستِماعٍ وأثَرٍ»

(3)

، وقالَ الواحديّ (ت: 468): «ولا يَحِلُّ القَولُ في أسبابِ نُزولِ الكتابِ إلا بالرِّوايةِ والسَّماعِ مِمَّنْ شاهدَ التَّنزيلَ، ووَقَفَ على الأسْبابِ»

(4)

، وقالَ صاحبُ (المباني في علمِ المعاني): «الذين شاهدوا الأحوالَ، وعرَفوا سبَبَ نزولِ الآياتِ مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ الذين بعدَهم مِمَّنْ كانوا مِنْ عِلمِ تلك الأحوالِ بمنزلةِ

(1)

جامع البيان 14/ 341.

(2)

جامع البيان 11/ 572.

(3)

الكشفُ والبيان 1/ 87.

(4)

أسباب نزول القرآن (ص: 96).

ص: 480

مَنْ شاهدَها؛ لِقُربِ عهدِهم بها، واستِفاضةِ أخبارِها لديهم؛ وهُم التابعون = هُمْ مَنْ كانَ يجوزُ لهم تفسيرُ آياتِ القرآنِ على مُقتضى ما شاهدوه وعرَفوه مِنْ أسبابِ نزولِها، وأحوالِ مَنْ نزَلَت فيهم، وليس لمَن بعدهم مِمَّنْ لم يتحقَّقوا تلك الأحوالَ إلا بأخبارٍ تُنقَلُ إليهم على ألْسِنةِ الرُّواةِ مِمّا لا يُقطَعُ على مُغيَّبِه باليَقينِ = أن يتعاطَوا هذا الوَجهَ مِنْ التَّفسيرِ، وإنَّما عليهم أن يَتْبَعوا أولئك السّابقين، ويتطلَّبوا مذاهبَهم وأقوالَهم في ذلك»

(1)

.

ومِن ثَمَّ فمَنهجُ قبولِ مرويّاتِ أحوالِ النُّزولِ يتفاوَتُ بحسبِ نوعِ الرِّوايةِ؛ فما كانَ مِنها عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلَه حُكمُ ما يُروى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في مَنهجَيْ النَّقلِ والاستدلالِ؛ على ما سبقَ بيانُه في دليلِ السُّنَّةِ، وما كانَ مِنه مِنْ أقوالِ السَّلفِ فيُرجَعُ فيه إلى مَنهجِ النَّقلِ عنهم، والاستدلالِ بأقوالِهم؛ فيما سبقَ بيانُه في دليلِ أقوالِ السَّلفِ.

ولا يَخرُجُ المَنقولُ في أحوالِ النُّزولِ عن هذين الوَجْهَيْن، وفي الجُملَةِ فإنَّ مرويَّاتِ أحوالِ النُّزولِ مِنْ جِنسِ مرويّاتِ التَّفسيرِ في عمومِها، وفي هذا يقولُ ابنُ تيميّة (ت: 728): «وأمّا أحاديثُ سبَبِ النُّزولِ فغالبُها مُرسَلٌ ليس بمُسنَدٍ، ولهذا قالَ الإمامُ أحمد بن حنبل: ثلاثُ علومٍ لا إسنادَ لها -وفي لفظٍ: ليس لها أصلٌ-: التَّفسيرُ، والمغازي، والملاحِمُ. يعني أنَّ أحاديثَها مُرْسلَةٌ»

(2)

، وقالَ مُجمِلاً منهجَ التَّعاملِ معها: «والمراسيلُ إذا تعدَّدت طرقُها، وخَلَت عن المواطأةِ

(1)

مقدِّمتان في علوم القرآن (ص: 195).

(2)

منهاج السنّة النَّبويّة 7/ 435.

ص: 481

قَصداً، أو الاتِّفاقِ بغيرِ قَصدٍ، كانَت صحيحةً قَطعاً، فإنَّ النَّقلَ إمّا أن يكونَ صِدقاً مطابِقاً للخَبرِ، وإمّا أن يكونَ كذباً تعمَّدَ صاحِبُه الكذِبَ، أو أخطأَ فيه، فمتى سَلِمَ مِنْ الكذبِ العَمدِ والخطأِ كانَ صِدقاً بلا رَيْبٍ .. ، وهذا الأصلُ يَنبغي أن يُعرَفَ؛ فإنَّه أصلٌ نافِعٌ في الجَزمِ بكثيرٍ مِنْ المَنقولاتِ في الحديثِ والتَّفسيرِ والمَغازي، وما يُنقَلُ مِنْ أقوالِ النّاسِ وأفعالِهم، وغيرِ ذلك»

(1)

، وقد سبقَ التَّعريفُ بمَنهجِ العلماءِ في التَّعامُلِ مع تلك المرويَّاتِ، وإيضاحُ منهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) فيها كذلك.

(2)

ثانياً: كلُّ معنىً أضافَتْه أحوالُ النُّزولِ إلى المعنى اللُّغويِّ فهو في محلِّ التَّقديمِ والاعتبارِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، ومِن شواهدِ ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]: «نزلَتْ هذه الآيةُ في قومٍ كانوا لا يدخلون إذا أَحرَموا بُيوتَهم مِنْ قِبَلِ أبْوابِها»

(3)

، ثُمَّ أسندَ ذلك مرويّاً عن السَّلفِ، ثُمَّ قالَ:«فتأويلُ الآيةِ إذنْ: وليس البِرُّ أيُّها النَّاسُ بأن تَأتوا البيوتَ في حالِ إحرامِكم مِنْ ظُهورِها .. »

(4)

، وهذا مِمّا أضافَه سبَبُ النُّزولِ على لفظِ الآيةِ كما هو ظاهرٌ. ومثلُه قولُه في قولِه تعالى {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26]: «يقولُ جَلَّ ثناؤُه للجَهَلَةِ مِنْ العربِ الذين كانوا يتعرَّوْن للطَّوافِ بالبيتِ، اتِّباعاً مِنهم أمرَ

(1)

مجموع الفتاوى 13/ 347.

(2)

(ص: 233، 324).

(3)

جامع البيان 3/ 283.

(4)

جامع البيان 3/ 288.

ص: 482

الشَّيطان، وتَرْكاً مِنهم طاعةَ الله .. »

(1)

، فهذا التَّخصيصُ في المعنى مأخوذٌ مِنْ حالِ العربِ في ذلك، وهو ما أسندَه بعد ذلك عن السَّلفِ، وجَرى عليه فيما تلاها مِنْ الآياتِ

(2)

. وكذلك فعلَ في قولِه تعالى {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8]، فقالَ:«يقولُ تعالى ذِكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وإذا جاءَك يا محمدُ هؤلاءِ الذين نُهوا عن النَّجوى، الذين وصَفَ الله جلَّ ثناؤُه صِفَتَهم، حيَّوْك بغيرِ التَّحيَّةِ التي جعَلَها الله لك تحيَّةً، وكانَت تحيَّتُهم التي كانوا يُحيّونَه بها -التي أخبرَ الله أنَّه لم يُحَيِّه بها- فيما جاءَت به الأَخبارُ أنَّهم كانوا يقولون: السّامُّ عليكم»

(3)

، ثُمَّ أسنَدَ الرِّواياتِ الواردةِ بذلك، وجرى على تفسيرِها فيما بعدها.

وهذا مِنْ الأَوجُهِ التي يتفرَّدُ بمعرِفتِها السَّلفُ مِنْ أهلِ التأويلِ عن أهلِ اللُّغةِ.

ثالثاً: يشيرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى ما يَقوى به الاستدلالُ بأحوالِ النُّزولِ عند الحاجةِ؛ كاتِّفاقِ العلماءِ عليه، أو صِحَّةِ الخبرِ به، أو استفاَضتِه عندَ أهل الأخبارِ، ونحوِ ذلك، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]: «وأمّا دلالَتُنا على ما قُلنا -مِنْ أنَّه نفيٌ مِنْ الله تعالى ذِكرُه عن شُهورِ الحَجِّ- الاختلافُ الذي كانَت الجاهليَّةُ تختلفُ فيها بينَها قبلُ كما وصَفْنا، وأمّا دلالَتُنا على أنَّ الجاهليَّةَ كانَت

(1)

جامع البيان 10/ 119.

(2)

جامع البيان 10/ 120.

(3)

جامع البيان 22/ 470. وينظر: 6/ 521، 138، 7/ 49، 366، 566، 8/ 50، 11/ 216، 14/ 518.

ص: 483

تفعلُ ذلك، فالخَبَرُ المُستَفيضُ في أهلِ الأخبارِ أنَّ الجاهليَّةَ كانَت تفعلُ ذلك»

(1)

، وقولُه:«وأَولى هذه الأقوالِ بالصَّوابِ في تأويلِ قولِه {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] الآية، قَولُ مَنْ قالَ: عُنيَ بذلك أهلُ الكتابِ الذين أخبرَ الله جلَّ وعزَّ أنَّه أخذَ ميثاقَهم، لَيُبَيِّنُنَّ للنّاسِ أمرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا يكْتُمونَه؛ لأنَّ قولَه {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] الآية، في سياقِ الخبرِ عنهم، وهو شَبيهٌ بقِصَّتِهم، مع اتِّفاقِ أهلِ التأويلِ على أنَّهم المَعنيّون بذلك»

(2)

، وكذا قولُه مُعلِّلاً بعضَ المعاني:«لأنَّ هذه السُّورةَ لا تدافُعَ بين أهلِ العلمِ في أنَّها نزلَت بعد يومِ الحُدَيْبيةِ»

(3)

.

كما يُشيرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى عدمِ ثُبوتِ السَّبَبِ عند رَدِّه له، كما في قولِه {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]: «وقد ذُكِرَ أنَّ هذه الآيةَ نزَلَت في قَومٍ مِنْ اليهودِ بأعْيانِهم، مِنْ وَجْهٍ لم تَثْبُت صِحَّتُه»

(4)

.

رابعاً: أحوالُ النُّزولِ خيرُ ما يُستعانُ به في كشفِ الإشكالاتِ الواردةِ على معاني الآياتِ، واستعمالُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) لها في ذلك كثيرٌ ظاهرٌ، ومِن شواهدِه قولُه في قولِه تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15]: «وإنَّما خصَّ جلَّ

(1)

جامع البيان 3/ 493.

(2)

جامع البيان 6/ 307.

(3)

جامع البيان 8/ 50. وينظر: 2/ 283، 639، 3/ 375، 7/ 49.

(4)

جامع البيان 9/ 185.

ص: 484

ثناؤُه ذكرَ الرَّوضةِ في هذا الموضعِ؛ لأنَّه لم يكنْ عند الطَّرَفين أحسنَ منظراً، ولا أطيبَ نشراً مِنْ الرّياضِ، ويدلُّ على أنَّ ذلك كذلك قولُ أعشى بني ثعلبةَ

(1)

:

ما روضَةٌ مِنْ رياضِ الحَزْنِ مُعشِبَةٌ

خضراءُ جادَ عليها مُسبِلٌ هطِلٌ

يُضاحكُ الشَّمسَ مِنها كَوكَبٌ شَرِقٌ

مؤَزَّرٌ بعَميمِ النَّبتِ مُكتَهِلُ

يوماً بأطيَبَ مِنها نَشرَ رائِحةٍ

ولا بأحسنَ مِنها إذْ دنا الأُصُلُ

فأعْلَمَهم بذلك تعالى: أنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ مِنْ المَنظَرِ الأنيقِ، واللذيذِ مِنْ الأراييحِ، والعَيْشِ الهنيِّ، فيما يُحبّون، ويُسرّون به، ويُغْبَطون عليه»

(2)

، ومثلُه قولُه في قولِه تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]: «فإنْ قالَ لنا قائِلٌ: أَفرأَيتَ مَنْ عَمِلَ ما نهى الله عنه مِنْ الرِّبا في تجارتِه ولم يأْكُلْه، أيَستحقُّ هذا الوعيدَ مِنْ الله؟ قيلَ: نَعم، وليس المقصودُ مِنْ الرِّبا في هذه الآيةِ الأكلُ، إلا أنَّ الذين نزلَتْ فيهم هذه الآياتُ يومَ نزلَتْ كانَت طُعمَتُهم ومأْكَلُهم مِنْ الرِّبا، فذكَرَهم بصفَتِهم مُعظِّماً بذلك عليهم أمرَ الرِّبا، ومُقبِّحاً إليهم الحالَ التي هُمْ عليها في مطاعِمِهم»

(3)

.

خامساً: زمنُ النُّزولِ ومكانُه أَولى ما يُستدَلُّ به في بابِ النَّسخِ؛ لاعتمادِه على معرفةِ المُتقدِّمِ مِنْ المتأخِّرِ مِنْ الأحكامِ، وقد استَعملَه

(1)

ديوانه (ص: 57).

(2)

جامع البيان 18/ 470.

(3)

جامع البيان 5/ 41. وينظر: 3/ 55، 288، 721، 6/ 521، 602، 8/ 69، 10/ 141، 14/ 323.

ص: 485

ابنُ جريرٍ (ت: 310) في عِدَّةِ مواضِعَ لذلك المَقصَدِ، ومِنه قولُه: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك ما قالَه عطاءُ بن مَيْسرةَ، مِنْ أنَّ النَّهيَ عن قتالِ المشركين في الأشهرِ الحُرُمِ مَنسوخٌ بقولِ الله جلَّ ثناؤُه {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وإنَّما قُلنا ذلك ناسِخٌ لقولِه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]؛ لتظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه غزا هوازِنَ بِحُنَينٍ

(1)

، وثَقيفاً بالطّائِفِ، وأرْسلَ أبا عامرٍ إلى أُوطاسٍ

(2)

لِحَربِ مَنْ بها مِنْ المشركين في بعضِ الأشْهرِ الحُرُمِ .. ، وأُخرى أنَّ جميعَ أهلِ العلمِ بسِيَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا تَتدافَعُ أنَّ بيعةَ الرِّضوانِ على قِتالِ قُريشٍ كانَت في ذي القَعْدةِ، وأنَّه صلى الله عليه وسلم إنَّما دعا أصحابَه إليها يومئِذٍ .. ، فإذا كانَ ذلك كذلك فَبَيِّنٌ صِحَّةُ ما قُلنا في قولِه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، وأنَّه مَنسوخٌ»

(3)

، وقولُه: «فإن ظَنَّ ذو غَفلَةٍ أنَّ قِتالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مَنْ قاتَلَ مِنْ أنْسِباءِ المؤمنين مِنْ مُشرِكي قريشٍ إنَّما كانَ بعدما نُسِخَ قولُه {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90]. فإنَّ أهلَ التأويلِ أَجمَعوا على

(1)

من أوديَةِ مكة، ويقعُ شَرقيّها بقرابة (30) كيلاً، وتسمّى اليوم (الشّرائع)، وأعلاه صدر حُنين، ويصبُّ في وادي المُغمَّس ثمّ عرنة. ينظر: معجم البلدان 3/ 190، ومعجم المعالم الجغرافيّة في السّيرة النّبويّة (ص: 107).

(2)

وادٍ في ديارِ هوازن، شمالَ شَرقيّ مكة، وشمالَ بلدةَ عشيرَة، التي تبعدُ عن مكة قرابة (190) كيلاً. ينظر: معجم البلدان 1/ 224، ومعجم المعالم الجغرافيّة في السّيرة النّبويّة (ص: 34).

(3)

جامع البيان 3/ 663.

ص: 486

أنَّ ذلك نُسِخَ ب (براءةَ)، و (براءَةُ) نزلَت بعد فتحِ مكَّةَ ودُخولِ قريشٍ في الإسلامِ»

(1)

.

وقد نبَّهَ العلماءُ إلى أهميَّةِ ذلك في بابِ النَّسخِ، فقالَ النَّحّاس (ت: 338): «إنَّما يُذكَرُ ما نزلَ بمكَّةَ والمدينةَ؛ لأنَّ فيه أعظمَ الفائِدةِ في النّاسخِ والمَنسوخِ»

(2)

، وقالَ مكيُّ بن أبي طالب (ت: 437) في بابِ (مُقدِّماتِ النّاسخِ والمَنسوخِ): «يجبُ أن تَعلَمَ المَكيَّ مِنْ السُّوَرِ مِنْ المَدَنيَّ؛ فذلك مِمّا يُقوِّي ويُفهِمُ معرفةَ النّاسخِ والمَنسوخِ»

(3)

.

سادساً: قصَّةُ الآيةِ وسبَبُ نزولِها داخلان قطعاً في معناها؛ ولا يصِحُّ إخراجُهما مِنه إلا بدليلٍ، وعلى ذلك جرى استدلالُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بهما في تفسيرِه؛ فيُثبِتُ ما دلَّا عليه مِنْ المعنى ابتداءً، ثُمَّ يُضيفُ ما أفادَه عمومُ اللَّفظِ بعد ذلك، على ما سيأتي بيانُه. ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]: «وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ -على ما قالَه أهلُ التأويلِ في تأويلِه- أن يكونَ معناه: ولا تَنكِحوا مِنْ النِّساءِ نِكاحَ آبائِكم، إلا ما قد سَلَفَ مِنكم فمضى في الجاهليَّةِ، فإنَّه كانَ فاحشةً ومَقْتاً وساءَ سَبيلاً .. ، فإن قالَ قائِلٌ: وكيف يكونُ هذا القَولُ مُوافِقاً قولَ مَنْ ذكَرتَ قولَه مِنْ أهلِ التأويلِ، وقد علِمتَ أنَّ الذين ذكَرتَ قولَهم في ذلك إنَّما قالوا: أُنْزِلَت هذه الآيةُ في النَّهيِ عن نِكاحِ حلائِلِ الآباءِ.

(1)

جامع البيان 7/ 294. وينظر: 3/ 178، 311، 22/ 574.

(2)

الناسخ والمنسوخ 2/ 611.

(3)

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخِه (ص: 113).

ص: 487

وأنت تذكُرُ أنَّهم إنَّما نُهوا أن يَنكِحوا نِكاحَهم. قيلَ له: إنَّما قُلنا: إنَّ ذلك هو التأويلُ المُوافقُ لظاهرِ التَّنزيلِ؛ إذْ كانَت (ما) في كلامِ العربِ لغَيرِ بني آدمَ، وأنَّه لو كانَ المَقصودُ بذلك النَّهيُ عن حلائِلِ الآباءِ دون سائِرِ ما كانَ مِنْ مناكِحِ آبائِهم حراماً ابتِداءُ مِثلِه في الإسلامِ، بنَهي الله جلَّ ثناؤُه عنه، لَقيلَ: ولا تَنكِحوا مَنْ نكحَ آباؤُكم مِنْ النِّساءِ إلا ما قد سلفَ .. ، وأمّا قولُه، فإنَّه يُدخِلُ في (ما) ما كانَ مِنْ مناكِحِ آبائِهم التي كانوا يتناكحونَها في جاهليَّتِهم، فحرَّمَ عليهم في الإسلامِ بهذه الآيةِ نكاحَ حلائِلِ الآباءِ، وكُلَّ نِكاحٍ سواه نهى الله تعالى ذِكرُه ابْتِداءَ مِثلِه في الإسلامِ، مِمّا كانَ أهلُ الجاهليَّةِ يتناكَحونَه في شِرْكِهم»

(1)

، فأثبَتَ معنى السَّبَبِ أوَّلاً، ثُمَّ أشارَ إلى العمومِ وأخذَ به، مع إقرارِه بهذا مِنْ موضِعِ الإيرادِ الذي أَوردَه على اختيارِه.

وهذا الاعتبارُ اللّازمُ لقِصَّةِ الآيةِ وسبَبِها قبلَ ما يَشمَلُه لفظُها محلُّ اتِّفاقٍ بين أهلِ العلمِ، قالَ السّيوطي (ت: 911): «دخولُ صورَةِ السَّبَبِ قَطعيٌّ، وإخراجَها بالاجتِهادِ مَمنوعٌ، كما حكى الإجماعَ عليه القاضي أبو بكرٍ في (التَّقريب)

(2)

، ولا التِفاتَ إلى مَنْ شَذَّ فجوَّزَ ذلك»

(3)

. قالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «اللَّفظُ العامُّ إذا وردَ على سبَبٍ فلا بُدَّ أن يكونَ

(1)

جامع البيان 6/ 552. وينظر: 3/ 347، 376.

(2)

هو الإمام أبو بكر محمد بن الطَّيِّب الباقلّاني (ت: 403)، وكتابُه هو (التقريب والإرشاد) في أصول الفقه، وهو ثلاثةُ كتبٍ: كبير، وأوسط، وصغير وهو المَطبوع. وقالَ الزَّركشيّ (ت: 794) عن الكبير: «هو أجلُّ كتابٍ صُنِّفَ في هذا العلمِ مُطلقاً» . البحر المحيط في أصول الفقه 1/ 5.

(3)

الإتقان 1/ 190.

ص: 488

السَّببُ مُندَرِجاً فيه»

(1)

، وقالَ الطُّوفي (ت: 716): «السَّببُ أخَصُّ بالحُكمِ مِنْ غيرِه مِنْ صُوَرِه؛ لأنَّ اللَّفظَ وردَ بياناً لحُكمِ السَّبَبِ، فكانَ مقطوعاً به»

(2)

.

سابعاً: نزولُ الآيةِ على سبَبٍ لا يمنَعُ العمومَ إلا بدَليلٍ، وجميعُ مواضِعِ استدلالِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بأسبابِ النُّزولِ شواهدُ على هذا، وقد نصَّ على ذلك في قولِه:«الآيةُ قد تَنزِلُ في خاصٍّ مِنْ الأمرِ، ثُمَّ يكونُ حُكمُها عامّاً في كُلِّ ما جانَسَ المعنى الذي أُنزِلَت فيه»

(3)

، وقولِه:«وقد تَنزِلُ الآيةُ في الشَّيءِ ثُمَّ يُعَمُّ بها كلُّ مَنْ كانَ في معناه»

(4)

، وقولِه:«معَ أنَّ الآيةَ تَنزِلُ في معنىً، فتَعُمُّ ما نزَلَت به فيه وغيرَه، فيَلزَمُ حُكمُها جميعَ ما عمَّتْه؛ لِما قد بيَّنّا مِنْ القولِ في العُمومِ والخُصوصِ في كِتابِنا (كتابِ البيانِ عن أصولِ الأحكامِ)»

(5)

، وأشارَ إلى أنَّ ذلك الأكثرَ، فقالَ:«فإنَّ الآيةَ قد كانَت تنزِلُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسَبَبٍ خاصٍّ مِنْ الأُمورِ، والحُكمُ بها على العامِّ، بل عامَّةُ آيِ القرآنِ كذلك»

(6)

.

وهذا الأصلُ هو ما يذكُرُه العلُماءُ في قاعدةِ: (العبرةِ بعُمومِ اللَّفظِ

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 441. وينظر: مجموع الفتاوى 15/ 365، 32/ 113.

(2)

شرح مختصر الروضة 2/ 506. وينظر: شرح الكوكب المنير 3/ 187.

(3)

جامع البيان 4/ 554.

(4)

جامع البيان 6/ 330.

(5)

جامع البيان 6/ 578. وينظر: 5/ 214، 7/ 475، 8/ 368، 9/ 23، 407، 14/ 341، 19/ 493.

(6)

جامع البيان 9/ 618.

ص: 489

لا بخصوصِ السَّبَبِ)، وهو قَولُ جمهورِ العلماءِ كأبي حنيفةَ (ت: 150)، والشَّافعي (ت: 204)، وأحمدَ بن حنبل (ت: 241)، وعليه أكثرُ المُحقِّقين والأصوليّين

(1)

، قالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «العبرةُ بعمومِ اللَّفظِ لا بخصوصِ السَّبَبِ، عند عامَّةِ العلماءِ»

(2)

، وقالَ ابنُ كثير (ت: 774): «الأخذُ بعمومِ اللَّفظِ لا بخصوصِ السَّبَبِ عن الجماهيرِ مِنْ العلماءِ»

(3)

، وقالَ ابنُ سعدي (ت: 1376): «وهذا الأصلُ اتَّفقَ عليه المُحَقَّقون مِنْ أهلِ الأُصولِ وغيرِهم»

(4)

.

ثامناً: عند تَعدُّدِ الأسبابِ في المَوضِعِ الواحدِ يُقَدِّمُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) الأصَحَّ، فإنْ لم تتفاضَلْ يُثْبتُ ما اتَّفقَت عليه مِنْ المعاني، ثُمَّ يَحكُمُ بالعُمومِ، ومِن قولِه في ذلك عند قولِه تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]: «وقد يجوزُ أن تكونَ الآيةُ نزلَت في شَأنِ عُبادةَ بن الصّامتِ وعبدِ الله بن أُبَيِّ ابن سَلولَ وحُلَفائِهما مِنْ اليهودِ، ويجوزُ أن تكونَ نزلَت في أبي لُبابةَ بسَبَبِ فِعلِه في بني قُرَيظةَ، ويجوزُ أن تكونَ نزلَت في شَأنِ الرَّجُلَيْن اللَّذين ذَكرّ السُّدّي أنَّ أحدَهما هَمَّ باللَّحاقِ بدَهلكِ اليهوديِّ، والآخرَ بنصرانيٍّ بالشّامِ، ولم يَصِحَّ بواحدٍ مِنْ هذه الأقوالِ خبرٌ يَثْبُتُ بمِثلِه حُجَّةٌ فيُسَلَّمُ لصِحَّتِه القَولُ بأنَّه كما قيلَ. فإذْ كانَ

(1)

ينظر: البحر المحيط في الأصول 2/ 357، وشرح الكوكب المنير 3/ 177، والتحرير والتنوير 1/ 46.

(2)

مجموع الفتاوى 31/ 58. وينظر: 31/ 28.

(3)

تفسير القرآن العظيم 7/ 56. وينظر: الإتقان في علوم القرآن 1/ 196.

(4)

القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص: 8).

ص: 490

ذلك كذلك، فالصَّوابُ أن يُحكَمَ لظاهرِ التَّنزيلِ بالعُمومِ على ما عَمَّ، ويَجوزُ ما قالَه أهلُ التأويلِ فيه مِنْ القَولِ الذي لا عِلمَ عندَنا بخِلافِه، غيرَ أنَّه لا شَكَّ أنَّ الآيةَ نزلَت في مُنافقٍ كانَ يُوالي يهودَ أو نصارى؛ خَوفاً على نفسِه مِنْ دوائِرِ الدَّهرِ؛ لأنَّ الآيةَ بعد هذه تَدُلُّ على ذلك»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74]: «والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا أن يُقالَ: إنَّ الله تعالى أخبَرَ عن المُنافقين أنَّهم يَحلِفون بالله كَذِباً على كلِمةِ كُفرٍ تكلَّموا بها أنَّهم لم يقولوها، وجائِزٌ أن يكونَ ذلك القَولُ ما رُوِيَ عن عُروةَ أنَّ الجُلاسَ قالَه، وجائِزٌ أن يكونَ قائِلُه عبدَ الله بن أُبيٍّ ابنَ أبي سَلولَ، والقَولُ ما ذكرَ قتادةُ عنه أنَّه قالَ، ولا علمَ لنا بأيِّ ذلك مِنْ أيٍّ؛ إذْ كانَ لا خبرَ بأحدِهما يوجِبُ الحُجَّةَ، ويُتوَصَّلُ به إلى يقينِ العلمِ به، وليس مِمّا يُدرَكُ عِلمُه بفِطرةِ العقلِ، فالصَّوابُ أن يُقالَ فيه كما قالَ الله جلَّ ثناؤُه»

(2)

.

تاسعاً: يُنبِّه ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى عدمِ الاشتغالِ بالاختلافِ الواردِ في بعضِ الأخبارِ مِمّا لا أثرَ له في بيانِ المعنى، ففي قولِه تعالى {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، ذكرَ معانيَ تلك الألفاظِ، ثُمَّ قالَ:«وقد اختلفَ أهلُ التأويلِ في صِفاتِ المُسمّياتِ بهذه الأسماءِ، وما السَّببُ الذي مِنْ أجلِه كانَت تَفعلُ ذلك؟»

(3)

، ثُمَّ أورَدَ عن السَّلفِ الأخبارَ الطَّويلةَ في تفصيلِ ذلك، ثُمَّ قالَ: «وهذه أمورٌ

(1)

جامع البيان 8/ 507.

(2)

جامع البيان 11/ 572. وينظر: 14/ 341.

(3)

جامع البيان 9/ 30.

ص: 491

كانَت في الجاهليَّةِ فأبطَلَها الإسلامُ، فلا نَعرِفُ قوماً يَعملون بها اليَومَ، فإذا كانَ ذلك كذلك، وكانَ ما كانَت الجاهليَّةُ تعملُ به لا يُوصَلُ إلى عِلمِه؛ إذْ لم يَكُنْ له في الإسلامِ أثرٌ، ولا في الشِّركِ نَعرِفُه إلا بخَبَرٍ، وكانَت الأخبارُ عمّا كانوا يَفعلون مِنْ ذلك مُختلفةً الاختلافَ الذي ذكَرنا = فالصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك أن يُقالَ: أمّا معاني هذه الأسماءِ فما بيَّنّا في ابتِداءِ القَولِ في تأويلِ هذه الآيةِ. وأمّا كيفيَّةُ عملِ القَومِ في ذلك، فما لا عِلمَ لنا به. وقد وردَت الأخبارُ بوَصفِ عملِهم في ذلك على ما قد حكَيْنا، وغيرُ ضائِرٍ الجَهلُ بذلك إذا كانَ المُرادُ مِنْ عِلمِه المُحتاجِ إليه موَصِّلاً إلى حقيقتِه؛ وهو: أنَّ القَومَ كانوا يُحرِّمون مِنْ أنعامِهم على أنفُسِهم ما لم يُحرِّمْه الله؛ اتِّباعاً مِنهم خُطُواتِ الشَّيطانِ، فوبَّخَهم الله تعالى ذِكرُه بذلك»

(1)

، وقد أفادَ هذا النَّقلُ أمرَيْن هامَّيْن في هذا البابِ:

أوَّلَهما: أنَّ مِنْ تلك الأخبارِ المأثورةِ عن أحوالِ العربِ ما يُحتاجُ إليه في بيانِ المعاني، وأنَّ ما أوردَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) مِنها إنَّما كانَ لهذا الغَرَضِ. هذا مَفهومُ عبارَتِه الذي يُوافِقُ صنيعَه في عامَّةِ تَفسيرِه.

وثانيهما: أنَّ ما لا يضُرُّ الجهلُ به مِمّا تخالفَت فيه تلك الأخبارُ لا يَنبغي الاشتغالُ به؛ لخرجِه عن حَدِّ البيانِ للمعاني.

عاشراً: سبَبُ النُّزولِ وسياقُ الآياتِ مُتآخِيان، إذْ كِلاهما في حقيقةِ الأمرِ سياقٌ واحِدٌ؛ أحدُهما (سياقُ الحالِ)، والآخرُ (سياقُ المَقالِ)،

(1)

جامع البيان 9/ 39. وينظر: 8/ 663.

ص: 492

فإذا خالَفَ سبَبُ النُّزولِ سياقَ الآياتِ انقطعَت صِلَتُه بها، إلّا أن يَدخُلَ في عُمومِها. وقد كانَ الأمرُ كذلك في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، فهما مُتَّفِقانِ مُطلَقاً، مُتعاضِدان في بيانِ المعنى بلا تَخالُفَ، فإذا وقعَ شيءٌ مِنْ ذلك فالسّياقُ اللَّفظيُّ أَثْبَتُ وأقطَعُ، ومِن ثَمَّ كانَ السّياقُ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) أعظمُ مُؤَثِّرٍ في الحُكمِ على الأسبابِ قبولاً ورَدّاً، وفي التَّرجيحِ بينها، ثُمَّ يأتي بعده مِنْ وجوهِ التَّرجيحِ ما يأتي؛ كثُبوتِ الخبرِ، وشهودِ الصَّحابيِّ، ونحوِ ذلك.

(1)

ومِن شواهدِ ذلك قولُه في قولِه تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]: «واختلفَ أهلُ التأويلِ فيمَن عُنيَ بهذه الآيةِ، وفيمَن نزلَتْ؛ فقالَ بعضُهم: نزلَتْ في الزُّبيرِ بن العوّام وخَصْمٍ له مِنْ الأنصارِ، اختصَما إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في بعضِ الأُمورِ .. ، وقالَ آخرون: بل نزلَت هذه الآيةُ في المُنافقِ واليَهوديِّ اللَّذَيْن وصفَ الله صِفَتَهما في قولِه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] .. ، وهذا القَولُ أَولى بالصَّوابِ؛ لأنَّ قولَه {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] في سياقِ قِصَّةِ الذين ابتَدأَ الله الخبرَ عنهم بقولِه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60]، ولا دلالَةَ تَدُلُّ على انقِطاعِ قِصَّتِهم، وإلحاقُ بعضِ ذلك بِبَعضٍ -ما لم تأتِ دلالَةٌ على انقِطاعِه-

(1)

ينظر في أثرِ السياقِ على سببِ النُّزولِ: المحرر في أسباب النزول 1/ 180، ودلالةُ السياقِ القرآني 2/ 394.

ص: 493

أَولى. فإن ظَنَّ ظانٌّ أنَّ في الخبرِ الذي رُويَ عن الزُّبيرِ وابنِ الزُّبيرِ مِنْ قِصَّتِه وقِصَّةِ الأنصاريِّ في شِراجِ

(1)

الحَرَّةِ، وقَولِ مَنْ قالَ في خبَرِهما: فنَزَلَت {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]. ما يُنبئُ عن انقِطاعِ حُكمِ هذه الآيةِ وقِصَّتِها مِنْ قِصَّةِ الآياتِ قبلَها = فإنَّه غيرُ مُستحيلٍ أن تكونَ الآيةُ نزلَت في قِصَّةِ المُحتكِمين إلى الطّاغوتِ، ويكونَ فيها بيانُ حُكمِ ما اختصَمَ فيه الزُّبيرُ وصاحبُه الأنصاريِّ؛ إذْ كانَ في الآيةِ دلالَةٌ على ذلك، وإذْ كانَ ذلك غيرَ مُستحيلٍ، فإنَّ إلحاقَ معنى بعضِ ذلك بِبَعضٍ أَولى، مادامَ الكلامُ مُتَّسِقةً معانيه على سياقٍ واحدٍ، إلا أن تأتيَ دلالةٌ على انقِطاعِ بعضِ ذلك مِنْ بعضٍ، فيُعدَلَ به عن معنى ما قبلَه»

(2)

.

ومثلُه قولُه عند قولِه تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]: «والصَّوابُ مِنْ القولِ في ذلك أن يُقالَ: إنَّ الله تعالى ذِكرُه أمرَ في هذه الآيةِ عبادَه بالوَفاءِ بعُهودِه التي يَجعَلونها على أنفُسِهم، ونهاهُم عن نَقضِ الأَيْمانِ بعد تَوكيدِها على أنفُسِهم لآخَرين، بعُقودٍ تكونُ بَينهم بحَقٍّ، مِمّا لا يَكرَهُه الله. وجائِزٌ أن تكونَ نزلَت في الذين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بِنَهْيِهم عن نَقضِ بَيْعَتِهم؛ حَذَراً مِنْ قِلَّةِ عَدَدِ المُسلمين، وكَثرَةِ عَدَدِ المُشركين. وأن تكونَ نزلَت في الذين أرادوا الانتقالَ بحِلفِهم عن حُلَفائِهم؛ لقِلَّةِ عَدَدِهم، في آخرين لكَثرَةِ عَدَدِهم. وجائِزٌ أن تكونَ في غيرِ ذلك، ولا

(1)

هي: مسايلُ الماءِ مِنْ الحَرَّةِ إلى السَّهلِ. ينظر: لسان العرب 2/ 131.

(2)

جامع البيان 7/ 201 - 205.

ص: 494

خبرَ تَثبُتُ به الحُجَّةُ أنَّها نزلَت في شَيءٍ، ولا دلالةَ في كتابٍ، ولا حُجَّةَ عَقْلٍ أيُّ ذلك عُنيَ بها»

(1)

، فأسبابُ النُّزولِ الواردةُ هنا مُتساويةٌ عنده، ولا فضلَ لأحدِها على الآخرِ. ثُمَّ بعدَ هذه الآيةِ في قولِه تعالى {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]، استدرَكَ وقالَ:«وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ تأويلَ بُريدةَ الذي ذَكَرنا عنه في قولِه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، والآياتِ التي بعدَها، أنَّه عُنيَ بذلك الذين بايَعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على الإسلامِ، عن مُفارقةِ الإسلامِ لقِلَّةِ أهلِه، وكَثرَةِ أهلِ الشِّركِ = هو الصَّوابُ، دون الذي قالَ مُجاهدٌ أنَّهم عُنوا به؛ لأنَّه ليس في انتقالِ قَومٍ بحِلفٍ عن حُلفائِهم إلى آخَرين غيرِهم صَدٌّ عن سبيلِ الله، ولا ضَلالٌ عن الهُدى، وقد وصفَ تعالى ذِكرُه في هذه الآيةِ فاعِلي ذلك أنَّهم باتِّخاذِهم الأيمانَ دَخَلاً بينهم، ونَقْضِهم الأيمانَ بعد تَوكيدِها = صادُّون عن سبيلِ الله، وأنَّهم أهلُ ضَلالٍ في التي قبلَها، وهذه صِفةُ أهلِ الكُفرِ بالله، لا صِفةَ أهلِ النُّقلَةِ بالحِلفِ عن قَومٍ إلى قَومٍ»

(2)

، فرجعَ إلى تصحيحِ الأَولى مِنْ أسبابِ النُّزولِ فيما سبقَ بدلالةِ السّياقِ في الآياتِ بعدَها.

إحدى عشَرَ: سبَبُ النُّزولِ الواردِ عن الصَّحابي مُقدَّمٌ على ما جاءَ عن غيرِه

(3)

؛ وذلك لمعنى مشاهدةِ التَّنزيلِ وحضورِه، ومِن شواهدِ ذلك

(1)

جامع البيان 14/ 340.

(2)

جامع البيان 14/ 348. وينظر: 8/ 367، 507، 11/ 658.

(3)

سبقت الإشارةُ إلى نحوِ ذلك في ضوابط الاستدلالِ بأقوالِ السلف (ص: 329).

ص: 495

قولُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في قولِه تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، بعد أن ذكرَ فيها سبَباً عن جابرِ بن عبدِ الله رضي الله عنه، وآخرَ عن مُجاهدٍ (ت: 104)، قالَ مُرَجِّحاً:«والذي هو أَولى بالصَّوابِ في ذلك: الخبرُ الذي روَيْناه عن جابرٍ؛ لأنَّه قد أدركَ أمرَ القَومِ وشاهدَهم»

(1)

، ومثلُه قولُه:«وأَولى هذه الأقوالِ في ذلك عندي بالصَّوابِ أن يُقالَ: عُنيَ بذلك: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] قَومٌ مِنْ المُنافقين، وجائِزٌ أن يكونَ كانَ مِمَّنْ دخلَ في هذه الآيةِ ابنُ صُورِيا، وجائِزٌ أن يكونَ أبو لُبابَةَ، وجائِزٌ أن يكونَ غيرُهما، غيرَ أنَّ أثْبَتَ شيءٍ رُوِيَ في ذلك ما ذَكَرناه مِنْ الرِّوايةِ قَبلُ عن أبي هُريرة والبَراءِ بن عازِبٍ؛ لأنَّ ذلك عن رجُلَيْن مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كانَ ذلك كذلك، كانَ الصَّحيحُ مِنْ القَولِ فيه أن يُقالَ: عُنِيَ به عبدُ الله بن صُورِيا»

(2)

، ورُواةُ السَّببَيْن الآخرَيْن هما: الشَّعبيُّ (ت: 103)، والسُّدِّيُّ (ت: 128).

وجُمهورُ العلماءِ على ترجيحِ قولِ صاحبِ القِصَّةِ وشاهدِها على غيرِه مِمَّنْ لم يَشهَدْ، قالَ ابنُ قدامة (ت: 620) في تعدادِ المُرَجِّحاتِ عند التَّعارُضِ: «الرّابعُ: أن يكونَ راوي أحدَهما صاحبُ الواقِعَةِ»

(3)

.

(1)

جامع البيان 22/ 649.

(2)

جامع البيان 8/ 418. وينظر: 21/ 131.

(3)

نزهة الخاطر العاطر 2/ 397. وينظر: الإحكام، للآمدي 2/ 297، وشرح الكوكب المنير 4/ 637.

ص: 496

اثنى عشَرَ: لا أثرَ لصيغةِ البناءِ لغيرِ المعلومِ (قِيلَ، ذُكِرَ، رُوِيَ) في اعتمادِ أحوالِ النُّزولِ أو الاستدلالِ بها، وذلك ظاهِرٌ مِنْ مَنهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: 77]، حيثُ ذكرَ قولَ ابنَ عباسٍ رضي الله عنه: أنَّ ذلك كانَ يومَ بدرٍ. ثُمَّ ذكرَ قولَ مجاهدٍ (ت: 104): أنَّ ذلك في المجاعةِ التي أصابَت قُريشاً. ثُمَّ قالَ: «وهذا القَولُ الذي قالَه مجاهدٌ أَولى بتأويلِ الآيةِ؛ لصِحَّةِ الخبرِ الذي ذكَرْناه قَبلُ عن ابنِ عباسٍ، أنَّ هذه الآيةَ نزلَت على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في قِصَّةِ المَجاعةِ التي أصابَتْ قُريشاً بِدُعاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وأَمرِ ثُمامةَ بن أَثالٍ، وذلك لا شَكَّ أنَّه كانَ بعد وَقْعةِ بَدرٍ»

(1)

، وكانَ قد ذكرَ الخبرَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه قبلَ ذلك بقولِه:«وذُكِرَ أنَّ هذه الآيةَ نزلَت على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين أخذَ الله قُريشاً بسِنِيِّ الجَدبِ»

(2)

، فلا أثرَ لتلك الصِّيغةِ على تصحيحِه واعتمادِه للأثرِ. ومثلُ ذلك قولُه في قولِه تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]: «وذُكِرَ أنَّ هذه الآياتِ مِنْ أوَّلِ هذه السُّورةِ نزلَت في شأنِ حاطبِ بن أبي بَلتعةَ، وكانَ كتَبَ إلى قُريشٍ بمكَّةَ يُطلِعُهم على أمرٍ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد أَخْفاه عنهم، وبذلك جاءَت الآثارُ والرِّوايةُ عن جماعةٍ مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وغيرِهم»

(3)

.

كما يورِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) تلك الصِّيَغَ في استِدلالِه بمرويّاتٍ

(1)

جامع البيان 17/ 95.

(2)

في 17/ 93.

(3)

جامع البيان 22/ 559. وينظر: 3/ 283، 6/ 430، 18/ 283، 10/ 137.

ص: 497

مَشهورةٍ ثابتةٍ في الصِّحاحِ والسُّنَنِ والمسانيدِ، مع اعتِمادِه عليها، كما في قولِه عند قولِه تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]: «وذُكِرَ أنَّ هذه الآيةَ لمّا نزلَت بَدَأَ بِبَني جَدِّه عبدِ المُطَّلبِ ووَلَدِه، فحذَّرَهم وأنذَرَهم»

(1)

، وقولِه:«وقولُه: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]. يقولُ جلَّ ثناؤُه: وانفلقَ القمرُ. وكانَ ذلك فيما ذُكِرَ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكَّةَ، قبلَ هِجرَتِه إلى المَدينةِ»

(2)

.

وقد ظهرَ لي باستقراءِ تلك الصِّيغِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) أنَّه يسوقُها في تفسيرِه لتمييزِ مرويَّاتِ التّواريخِ والأخبارِ والسِّيَرِ والأنسابِ ونحوِها عن غيرِها مِنْ المرويّاتِ؛ كأحاديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأقوالِ السَّلفِ مِنْ غيرِ ذلك النَّوعِ. فإذا أوردَها ابنُ جريرٍ (ت: 310) في سياقِ حديثٍ نبويٍّ، أو قولٍ لأحدِ السَّلفِ مِمّا سبقَ وَصفُه، فإنَّه يُشيرُ بذلك -في الأعمِّ الأغلَبِ- إلى ضَعفِه، أو غرابتِه، أو رُجحانِ غيرِه عليه. وقد سبقَت الإشارةُ إلى بعضِ هذا، وسيأتي تأكيدُه في مسائِلِ دليلِ الرِّواياتِ الإسرائيليّةِ بحولِ الله تعالى.

(3)

(1)

جامع البيان 17/ 654.

(2)

جامع البيان 22/ 103.

(3)

ينظر: (ص: 181)، حاشية (2)، و (ص: 484).

ص: 498

‌المبحثُ الثّامنُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الاستدلالِ بالرِّواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

وفيه أربعةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوَّلُ: مفهومُ الاستدلالِ بالرِّواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

(1)

الرِّواياتُ: جمعُ روايةٍ؛ وهي: حملُ الكلامِ ونَقلُه.

(2)

والإسرائيليَّةُ لُغةً: نِسبةٌ إلى (إسرائيلَ)، ومعناه: عبدُ الله، وصَفوةُ الله، وسَريُّ الله. وهو: يعقوبُ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ عليهم السلام

(3)

. والتأنيثُ فيها باعتبارِ الموصوفِ المَحذوفِ: القِصَّةُ، أو الأخبارُ الإسرائيليَّةِ.

(1)

أفردتُ كتابًا عن: "الإسرائيليَّاتُ في تفسيرِ ابنِ جرير الطَّبري الرُّواةُ والموضوعاتُ والمقاصِد"، وطُبعَ عن مركز تكوين للدراسات والأبحاث، سنة 1439.

(2)

ينظر: لسان العرب 19/ 66، والمعجم الوسيط (ص: 384).

(3)

ينظر: جامع البيان 1/ 593، ولسان العرب 13/ 26، وتاج العروس 10/ 52، 38/ 275.

ص: 499

واصطلاحاً: ما نُقلَ عن بني إسرائيلَ في أخبارِ أقوامِهم، والأُمَمِ السَّابقةِ لأُمَّةِ مُحمّد صلى الله عليه وسلم، والمَبدأِ، والمعادِ. ويشملُ ذلك صِنفَيْن مِنْ الأخبارِ:

1 -

أخبارَ الأنبياءِ الواردِ ذِكرُهم في كُتبِ بني إسرائيلَ مِنْ غيرِ أنبيائِهم؛ كآدمَ، ونوحاً، وإبراهيمَ، ولوطاً، ونحوِهم مِنْ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما جرى مِنْ أقوامِهم.

2 -

أخبارَ أنبياءِ بني إسرائيلَ وأقوامِهم؛ كموسى، وداود، وسليمان، وزكريّا، ويحيى، وعيسى، ونحوِهم مِنْ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.

وإنّما خُصَّت النِّسبةُ في هذه الأخبارِ بِبَني إسرائيلَ؛ لأنَّ أكثرَ الواردِ مِنْ ذلك عنهم، وفي أنبيائِهم، ومِن كتُبِهم، والتوسُّعُ في هذا يُشبِهُ ما ذكرَه ابنُ كثيرٍ (ت: 774) بقولِه: «ولْيُعلَمْ أنَّ كثيراً مِنْ السَّلفِ كانوا يُطلِقون التَّوراةَ على كُتُبِ أهلِ الكِتابِ، فهي عِندَهم أعَمُّ مِنْ التي أنزلَها الله على موسى، وقد ثبتَ شاهِدُ ذلك مِنْ الحديثِ»

(1)

.

والمُرادُ بالاستدلالِ بالرِّواياتِ الإسرائيليّةِ على المعاني هو:

إقامَةُ الإسرائيليّاتِ دليلاً لتصحيحِ المعاني وقبولِها، أو إبطالِها ورَدِّها.

أو: الإبانَةُ بالإسرائيليّاتِ عن صِحَّةِ المعاني وبطلانِها.

وأمثلةُ استدلالِ ابنِ جرير (ت: 310) بالرِّواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني في تفسيره كثيرةٌ ظاهِرةٌ، وهي على نوعَيْن:

(1)

البداية والنهاية 2/ 259.

ص: 500

النَّوعُ الأوّلُ: استدلالُه بالإسرائيليّاتِ لقبولِ المعاني وتصحيحِها، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]: «وأَولى هذه الأقوالِ بالصَّوابِ قولُ ابنِ عباسٍ الذي رواه الأعمشُ، عن حَبيبٍ، عن سعيدٍ عنه، أنَّ ذلك: العروقُ ولحومُ الإبلِ؛ لأنَّ اليهودَ مُجمِعَةٌ إلى اليومِ على ذلك مِنْ تحريمِهما، كما كانَ عليه مِنْ ذلك أوائلُها»

(1)

، وخبرُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه الذي أشارَ إليه فيه قِصَّةُ يعقوبَ عليه السلام في ذلك

(2)

. وكذلك قولُه: «القَولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ} [البقرة: 102]. إن قالَ لنا قائِلٌ: وما هذا الكلامُ مِنْ قَولِه {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، ولا خبرَ مضى قبلُ عن أحدٍ أنَّه أضافَ الكفرَ إلى سليمانَ، بل إنَّما ذكرَ اتِّباعَ مَنْ اتَّبعَ مِنْ اليهودِ ما تلَتْه الشَّياطينُ .. ؟ قيلَ: وَجهُ ذلك أنَّ الذين أضافَ الله جلَّ ثناؤُه إليهم اتِّباعَ ما تلَتْه الشَّياطينُ على عهدِ سليمانَ مِنْ السِّحرِ والكُفرِ مِنْ اليهودِ، نَسَبوا ما أضافَه الله تعالى ذِكرُه إلى الشَّياطينِ مِنْ ذلك إلى سليمانَ بن داودَ، وزَعَموا أنَّ ذلك كانَ مِنْ عمَلِه ورِوايتِه، وأنَّه إنَّما كانَ يستَعبِدُ مَنْ كانَ يستَعبِدُ مِنْ الإنسِ والجِنِّ والشَّياطينِ وسائِرِ خَلقِ الله بالسِّحرِ، فحَسَّنوا بذلك -مِنْ رُكوبِهم ما حرَّمَ الله عليهم مِنْ السِّحرِ- لأنفُسِهم عند مَنْ كانَ جاهِلاً بأمرِ الله ونَهيِه، وعند مَنْ كانَ لا عِلمَ له بما أنزلَ الله في ذلك مِنْ التَّوراةِ .. ، فنفَى الله عن سليمانَ عليه السلام أن يكونَ كانَ ساحِراً أو كافراً، وأَعلمَهم أنَّهم اتَّبعوا في عملِهم بالسِّحرِ ما تلَتْه الشَّياطينُ في عهدِ

(1)

جامع البيان 5/ 586.

(2)

المرجع السابق.

ص: 501

سليمانَ، دون ما كانَ سليمانُ يأمُرُهم به مِنْ طاعةِ الله، واتِّباعِ ما أمرَهم به في كِتابِه الذي أنزلَه على موسى صلى الله عليه. ذِكرُ الدَّلالةِ على صِحَّةِ ما قُلنا مِنْ الأخبارِ والآثارِ»

(1)

، ثُمَّ أَوردَ قصَّةَ سليمان عليه السلام عن عددٍ مِنْ السَّلفِ. وفي قولِه تعالى {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26] ذَكرَ قولَ مَنْ قالَ: إنَّها حُرِّمَت أبداً عليهم فلم يدخلوها. ورجَّحَ القولَ الآخرَ: بأنَّ من بَقيَ مِمَّنْ حرَّمَها الله عليهم دخلوها مع موسى عليه السلام، بعد التَّيْهِ أربعينَ سنةٍ. وقالَ: «وذلك لإجماعِ أهلِ العلمِ بأخبارِ الأوَّلين أنَّ عوجَ بن عناقَ قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم، فلو كانَ قَتلُه إيّاه قبلَ مصيرِه في التَّيْهِ -وهو مِنْ أعظمِ الجَبّارين خَلقاً- لم تَكُنْ بنو إسرائيلَ تَجزَعُ مِنْ الجَبّارين الجَزعَ الذي ظهرَ مِنها، ولكنَّ ذلك كانَ إن شاءَ الله بعد فناءِ الأُمَّةِ التي جَزِعَت

(2)

، وعصَت ربَّها، وأبَت الدُّخولَ على الجَبّارين مَدينتَهم»

(3)

، وقولُه أيضاً:«فإن قالَ لنا قائِلٌ: فما صِفةُ تَسويَةِ الله السَّماواتِ التي ذكرَها في قَولِه {فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29]؛ إذْ كُنَّ قد خُلِقنَ سَبعاً قبل تَسويَتِه إيّاهُنَّ؟ وما وَجهُ ذِكرِ خَلقِهنَّ بعد ذِكرِ خلقِ الأرضِ، أَلأنَّها خُلقَت قبلَها، أم لِمَعنىً غيرِ ذلك؟ قيلَ: قد ذكَرْنا ذلك في الخبرِ الذي رَوَيْناه عن ابنِ إسحاقَ، ونزيدُ ذلك تَوْكيداً بما نضُمُّ إليه مِنْ أخبارِ السَّلفِ المُتقَدِّمين وأقوالِهم»

(4)

، ومِمّا في تلك الأخبارِ تفصيلُ بَدْءِ الخَلقِ عن بني إسرائيلَ.

(1)

جامع البيان 2/ 322.

(2)

مُرادُه: بعد فناءِ أكثرِها، كما في كلامِه قبلَ موضِعِ النَّقلِ.

(3)

جامع البيان 8/ 314.

(4)

جامع البيان 1/ 461. وينظر: 2/ 129، 323، 4/ 455، 466، 5/ 296، 385، 7/ 658، 13/ 158.

ص: 502

النَّوعُ الثّاني: استدلالُه بالإسرائيليّاتِ لرَدِّ المعاني وإبطالِها، ومن أمثلَتِه قولُه في قولِه تعالى {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: 248]: «وأَولى القولَيْن في ذلك بالصَّوابِ ما قالَه ابنُ عباسٍ ووَهبُ بن مُنبِّهٍ؛ مِنْ أنَّ التّابوتَ كانَ عند عَدوٍّ لبَني إسرائيلَ كانَ سلَبَهموه .. ، فإن ظَنَّ ذو غَفلَةٍ أنَّهم كانوا قد عَرَفوا ذلك التّابوتَ وقدرَ نَفعَه وما فيه وهو عند موسى ويُوشَعَ، فإنَّ ذلك ما لا يَخفى خَطؤُه؛ وذلك أنَّه لم يَبلُغنا أنَّ موسى لاقى عَدوّاً قَطُّ بالتّابوتِ، ولا فتاه يوشَعَ، بل الذي يُعرَفُ مِنْ أمرِ موسى وأمرِ فِرْعون ما قَصَّ الله مِنْ شَأنِهما، وكذلك أَمرُه وأمرُ الجَبّارين، وأمّا فتاه يوشَعَ فإنَّ الذين قالوا هذه المَقالةَ زَعموا أنَّ يوشَعَ خَلَّفَ في التَّيْه حتى رُدَّ عليهم حين مَلكَ طالوتُ، فإن كانَ الأمرُ على ما وَصَفوه فأيُّ الأحوالِ للتّابوتِ الحالُ التي عَرَفوه فيها فجازَ أن يُقالَ: إنَّ آيةَ مُلكِه أن يَأتيَكم التّابوتُ الذي قد عَرَفتموه، وعَرَفتم أمرَه؟ وفي فَسادِ هذا القَولِ بالذي ذَكَرنا أبيَنُ الدَّلالةِ على صِحَّةِ القَولِ الآخرِ؛ إذْ لا قَولَ في ذلك لأهلِ التَّأويلِ غيرُهما»

(1)

، وفي قولِه تعالى {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]، ذكرَ قولَ السُّدِّيّ (ت: 128) في قِصَّةِ دخولِ أبَوَيْ يوسفَ مصرَ، وأنَّه خرجَ لاستقبالِهم. وذكرَ قولَ ابنَ جُرَيْج (ت: 150) أنَّ ذلك مِنْ المُقدَّمِ والمُؤَخَّرِ، وأنَّ المعنى عنده: سوفَ أستَغفرُ لكم رَبّي إن شاءَ الله، إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ، فلمّا دَخلوا على يوسفَ آوى إليه أبَوَيْه وقالَ: ادخُلوا مصرَ. ثُمَّ قالَ ابنُ

(1)

جامع البيان 4/ 466.

ص: 503

جريرٍ (ت: 310): «والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا ما قالَه السُّدِّيّ، وهو أنَّ يوسفَ قالَ ذلك لأَبوَيْه ومَن معهما مِنْ أَولادِهما وأهاليهم قبلَ دخولِهم مِصرَ، حين تلقّاهم؛ لأنَّ ذلك في ظاهرِ التَّنزيلِ كذلك، فلا دلالةَ تدُلُّ على صِحَّةِ ما قالَ ابنُ جُرَيْج»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]: «معنى ذلك: وإذْ واعَدْنا موسى أربَعين ليلةً بتَمامِها. فالأربَعون اللَّيلةَ كلُّها داخِلةٌ في الميعادِ، وقد زعمَ بعضُ نَحوِيّي البَصرةِ أنَّ معناه: وإذْ واعَدْنا موسى انقِضاءَ أربَعين ليلةً، أي: رَأسَ الأربَعين .. ، وذلك خِلافُ ما جاءَت به الرِّوايةُ عن أهلِ التَّأويلِ، وخِلافُ ظاهرِ التِّلاوةِ»

(2)

، والرِّواية هي ما ذكرَه بعد ذلك عن أبي العاليةِ (ت: 93)، والرَّبيعِ بن أنس (ت: 139)، وابنِ إسحاقَ (ت: 150)، من تفصيلِ عددِ الأيّامِ والشُّهورِ.

وقد بلغَت المواضِعُ التي استدَلَّ فيها بالإسرائيليّاتِ على المعاني (322) موضِعاً، ونسبة ذلك من مجموع الأدلَّة (3%).

ولمّا كانت الإسرائيليّاتُ أخباراً مرويَّةً، فإنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) يذكرُها ضمنَ أقوالِ السَّلفِ؛ لأنَّهم رُواتُها وناقِلوها، مع تمييزِه بين ما كانَ اجتهاداً مِنْ أقوالِهم، وما كانَ نقلاً عمَّن قبلَهم، كما في قولِه: «فإن قالَ لنا قائِلٌ: فما صِفةُ تَسويَةِ الله السَّماواتِ التي ذكرَها في قَولِه {فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29]؛ إذْ كُنَّ قد خُلِقنَ سَبعاً قبل تَسويَتِه إيّاهُنَّ؟ وما وَجهُ ذِكرِ خَلقِهنَّ بعد ذِكرِ خلقِ الأرضِ، أَلِأنَّها خُلقَت قبلَها، أم لِمَعنىً

(1)

جامع البيان 13/ 351.

(2)

جامع البيان 1/ 667. وينظر: 1/ 652، 663.

ص: 504

غيرِ ذلك؟ قيلَ: قد ذكَرْنا ذلك في الخبرِ الذي رَوَيْناه عن ابنِ إسحاقَ، ونزيدُ ذلك تَوْكيداً بما نضُمُّ إليه مِنْ أخبارِ السَّلفِ المُتقَدِّمين، وأقوالِهم»

(1)

، وذكرَ بعد ذلك من أقوالِهم ما كانَ مِنْ رَأيِهم واجتِهادِهم، وما كانَ مِنْ روايتِهم مِنْ أخبارِ بني إسرائيلَ.

فمِن هذا الوَجهِ يحصُلُ التَّداخلُ بين دَليلَي الإسرائيليّاتِ وأقوالِ السَّلفِ، وقد كانَ لهذا أثرُه المَحمودُ على الاستدلالِ بالإسرائيليّاتِ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310)، على ما سيأتي بيانُه بحولِ الله.

‌المطلبُ الثّاني: حُجِّيَّةُ الاستدلالِ بالرِّواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

إنَّ الاستدلالَ بأخبارِ بني إسرائيلَ هو مِنْ جِنسِ الاستدلالِ بأخبارِ العربِ وأحوالِهم التي نزلَ فيها القرآنُ، ومِن ثَمَّ فما ذُكِرَ في (قصَصِ الآيِ) في أحوالِ النُّزولِ: مِنْ صِحَّةِ الاستدلالِ بها لتَمامِ بيانِ المعنى، وتعيينِ المُرادِ، وإزالةِ الشُّبَهِ والإشكالاتِ، وجَرَيانِ عملِ السَّلفِ على استِعمالِها في التَّفسيرِ = يُقالُ مِثلُه في الإسرائيليّاتِ، بل أكثرُ؛ وذلك لمزيدِ عنايةِ الشَّريعةِ بهذا النَّوعِ مِنْ الأخبارِ، وقد تجلَّت تلك العنايةُ في صُورٍ:

الأولى: بيانُ الموقِفِ العامِّ مِنْ أقوالِهم وأخبارِهم، وقد جاءَ ذلك نَصَّاً في قولِه تعالى {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310):

(1)

جامع البيان 1/ 461.

ص: 505

«يقولُ تعالى ذِكرُه للمؤمنين به وبرسولِه الذين نهاهم أن يُجادِلوا أهلَ الكتابِ إلا بالتي هي أحسنُ: إذا حدَّثَكم أهلُ الكتابِ أيُّها القَومُ عن كُتُبِهم، وأخبروكم عنها بما يُمكِنُ، ويَجوزُ أن يكونوا فيه صادِقين، وأن يكونوا فيه كاذِبين، ولَم تعلَموا أمرَهم وحالَهم في ذلك = فقولوا لهم:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] مِمّا في التَّوراةِ والإنجيلِ، {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت: 46]، يقول: ومَعبودُنا ومَعبودُكم واحِدٌ. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، يقولُ: ونحن له خاضِعون مُتذَلِّلون بالطّاعةِ فيما أمرَنا ونهانا. وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك جاءَ الأثرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

، ثُمَّ أسندَ عن أبي هريرة رضي الله عنه قولَه: كانَ أهلُ الكتابِ يقرءون التَّوراةَ بالعِبرانيَّةِ، فيُفسِّرونَها بالعربيَّةِ لأهلِ الإسلامِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«لا تُصَدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: آمنّا بالذي أُنزلَ إلينا وأنزلَ إليكم، وإلاهُنا وإلاهُكم واحِدٌ، ونحن له مُسلمون»

(2)

.

الثَّانيةُ: الإذنُ لهذه الأُمَّةِ في أن تُحَدِّثَ عن بني إسرائيلَ، وقد جاءَ ذلك صريحاً في قولِه صلى الله عليه وسلم:«حَدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرَجَ»

(3)

، قالَ مالكُ بن أنسٍ (ت: 179): «المُرادُ جوازُ التَّحدُّثِ عنهم بما كانَ مِنْ أمرٍ حسَنٍ، أمّا ما عُلمَ كَذِبُه فلا»

(4)

، وقالَ الشّافعيُّ (ت: 204):

(1)

جامع البيان 18/ 421.

(2)

جامع البيان 18/ 422. والحديثُ أخرجه البخاري في صحيحه 6/ 20 (4485).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه 4/ 170 (3461).

(4)

فتح الباري 6/ 575.

ص: 506

«المَعنى: حدِّثوا عن بني إسرائيلَ بما لا تعلمون كَذِبَه، وأمّا ما تُجوِّزونَه فلا حرجَ عليكم في التَّحدُّثِ به عنهم»

(1)

. كما أرشدَ القرآنُ إلى إباحةِ التَّحديثِ عنهم فيما اتَّفقوا فيه وما اختلفوا فيه، فقالَ تعالى عن عِدَّةِ أصحابِ الكَهفِ:{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف: 22].

الثَّالثةُ: إرشادُ الأمَّةِ إلى الموقِفِ مِمَّا لا تعلمُ صِدقَه أو كَذِبَه مِنْ أخبارِهم، وذلك في قولِه صلى الله عليه وسلم:«ما حدَّثَكم أهلُ الكتابِ فلا تُصدِّقوهم ولا تُكذِّبوهم، وقولوا: آمنّا بالله ورسولِه. فإن كانَ باطِلاً لم تُصدِّقوه، وإن كانَ حَقّاً لم تُكذِّبوه»

(2)

، قالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «وإنَّما أمرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بهذا لأنّا قد أُمِرنا أن نُؤمنَ بما أُنْزِلَ إليهم، وقد أخبرَ الله تعالى أنَّهم يَكذِبون ويُحرِّفون، فما حدَّثوا به إذا لم نعلَمْ صِدقَهم فيه ولا كَذبَهم لم نُكَذِّبه؛ لجوازِ أن يكونَ مِمَّا أُنزلَ، ولم نُصدِّقه؛ لجوازِ أن يكونَ مِمَّا كَذَبوه»

(3)

، ومِن ثَمَّ قَسَمَ العلماءُ الموقِفَ مِنْ أخبارِ بني إسرائيلَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ

(4)

، وهي:

(1)

المرجع السابق. وينظر: أحكام القرآن، لابن العربي 3/ 347.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه 4/ 238 (3644)، وعبد الرزاق في مصنفه 6/ 110 (10160)، وأحمد في مسنده 28/ 460 (17225)، وإسناده حسن. وله شاهدٌ مختصرٌ عند البخاري في صحيحه 6/ 20 (4485).

(3)

تلخيص كتاب الاستغاثة 2/ 582.

(4)

ينظر: جامع البيان 18/ 421، ومجموع الفتاوى 13/ 366، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير 1/ 10.

ص: 507

الأوَّلُ: ما علِمنا صِحَّتَه بشهادةِ شَرعِنا له بالصِّدقِ، وأصَحُّه ما جاءَ في كتابِ الله عنهم؛ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف: 13]، {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99]، ومثلُه ما ذكرَه عنهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فهذا القِسمُ لازِمُ القَبولِ، مع الاستِغناءِ بما وردَ في شريعتِنا عنه، وإلى هذا أرشدَ القرآنُ فقال تعالى بعد ذِكرِ عِدَّةِ أصحابِ الكهفِ مؤَدِّباً نبيَّه بذلك:{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]، أي: بعد ما جاءَك مِنْ خبرِهم في كتابِ الله. واستمعَ صلى الله عليه وسلم لحبرٍ مِنْ أحبارِ اليهودِ قالَ له: «يا مُحمَّد، إنّا نجدُ أنَّ الله يجعلُ السَّماواتِ على إصبعٍ، والأرضين على إصبعٍ، والشَّجرَ على إصبعٍ، والماءَ على إصبعٍ، والثَّرى على إصبعٍ، وسائرَ الخلائقِ على إصبعٍ، فيقولُ: أنا المَلكُ. فضَحكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى بدَتْ نواجِذُه؛ تصديقاً لقولِ الحَبْر، ثُمَّ قرأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَر: 67]»

(1)

. ومِن هذا البابِ أيضاً إنكارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على عمرَ بن الخطّابِ رضي الله عنه حين رأى معه صُحُفاً مِنْ التَّوراةِ، بقولِه: «أمُتهوِّكونَ

(2)

فيها يا ابنَ الخطَّابِ، والذي نفسي بيَدِه لقد جِئتُكم بها بيضاءَ نقيَّةً .. ، والذي نفسي بيَدِه لو أنَّ موسى كانَ حيّاً ما وَسِعَه إلا أن يتَّبعَني»

(3)

،

(1)

أخرجَه البخاري في صحيحه 6/ 126 (4811)، ومسلم في صحيحه 4/ 2147 (2786).

(2)

قالَ البَغَويّ (ت: 516): «أي: مُتحيِّرون أنتم في الإسلامِ، لا تعرِفون دينَكم حتى تأخذوه مِنْ اليهودِ والنَّصارى» . شرح السُّنَّة 1/ 270، وقالَ ابنُ الأثير (ت: 606): «التَّهوُّك كالتَّهوُّر، وهو الوقوعُ في الأمر بغيرِ رَويَّةٍ .. ، وقيلَ: هو التحَيُّر» . النهاية 5/ 243.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 312 (26421)، وأحمد في مسنده 23/ 349 (15156)، وابن أبي عاصم في السنّة 1/ 67 (50)، وله طرق كثيرة، ذكرَها ابنُ حجر (ت: 852)، ثم قالَ:«وهذه جميع طرق هذا الحديث، وهي وإن لم يكُن فيها ما يُحتَجُّ به لكنَّ مجموعُها يقتضي أنَّ لها أصلاً» فتح الباري 13/ 535.

ص: 508

ومِنه أيضاً قولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه: «يا معشرَ المسلمين كيف تسألون أهلَ الكتابِ! وكتابُكم الذي أُنزلَ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم أحدَثُ الأخبارِ بالله، تَقرؤونَه لم يُشَبْ، وقد حدَّثَكم الله أنَّ أهلَ الكتابِ بدَّلوا ما كتبَ الله، وغيَّروا بأيديهم الكتابَ، فقالوا: هو مِنْ عند الله؛ ليَشتروا به ثَمناً قليلاً، أفلا يَنهاكم ما جاءَكم مِنْ العلمِ عن مُسائَلَتِهم، ولا والله ما رأينا مِنهم رجُلاً قَطُّ يسألُكم عن الذي أُنزلَ عليكم»

(1)

.

الثّاني: ما علِمنا كذبَه بما في شَرعِنا مِمّا يُخالفُه، فهذا باطلٌ مردودٌ.

الثّالثُ: ما لم نعلَمْ صِدقَه ولا كذبَه، فهذا موقوفٌ لا نُصدِّقُه ولا نُكذِّبُه، وتجوزُ حكايَتُه والاعتبارُ به، ويَصِحُّ الاستشهادُ به والاعتضادُ.

وكُلُّ هذا يدُلُّ على مزيدِ عنايةِ الشَّريعةِ بهذا البابِ مِنْ الأخبارِ؛ حيثُ أحاطَت ما يُنقَلُ مِنها بضوابطَ تحفَظُ ما فيها مِنْ الحَقِّ، وتحتاطُ له، وتُبطِلُ ما فيها مِنْ الباطلِ، في غايةٍ مِنْ العدلِ والإنصافِ.

وقد كانَ لتوجيهاتِ الشَّريعةِ تلك أكبرُ الأثرِ في عنايةِ السَّلفِ بمنهجِ الاستدلالِ بالإسرائيليّاتِ في التَّفسيرِ أكثرَ مِنْ غيرِها مِنْ الأخبارِ؛ لمَا أَولاها الشَّرعُ مِنْ الاهتمامِ، فظهرَ في نقلِهم التَّحرّي، وسُؤالُ مَنْ أسلمَ مِنْ أهلِ الكتابِ، ومَن اشتهرَ بالعلمِ مِنهم على الخُصوصِ، والنَّقلُ

(1)

صحيح البخاري 3/ 181. وينظر: تلخيص كتاب الاستغاثة 1/ 56، 2/ 581، والبداية والنهاية 1/ 29.

ص: 509

المُباشِرُ مِنْ كُتُبِهم، مع نقدِ هذه الأخبارِ وفَحصِها، والاقتصارِ مِنها على ما تُباحُ روايتُه.

(1)

وأمثلةُ استدلالاتِ السَّلفِ بالإسرائيليّاتِ في التَّفسيرِ كثيرةٌ جدّاً، ومِن ذلك ما نقلَه ابنُ جريرٍ (ت: 310)، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، ومجاهدٍ (ت: 104)، ووَهبِ بن مُنبِّهٍ (ت: 114)، وقتادةَ (ت: 117)، ومحمدِ بن كعب القُرَظي (ت: 120)، ومحمدِ بن قَيسٍ المدَنيّ

(2)

، فقالَ:«ذكرَ جميعُهم أنَّ السَّببَ الذي مِنْ أجلِه قالَ لهم موسى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] نحوُ السَّببِ الذي ذكرَه عَبيدةُ وأبو العاليةِ والسُّدّيّ، غيرَ أنَّ بعضَهم ذكرَ أنَّ الذي قتلَ القتيلَ الذي اختُصِمَ في أمرِه إلى موسى كانَ أخا المَقتولِ، وذكرَ بعضُهم أنَّه كانَ ابنَ أخيه، وقالَ بعضُهم: بل كانوا جماعةً ورَثةً استَبْطئوا حياتَه. إلا أنَّهم جميعاً مُجمِعون على أنَّ موسى إنَّما أمرَهم بذَبحِ البقرةِ مِنْ أجلِ القَتيلِ إذْ احتكَموا إليه»

(3)

، وذكرَ عطاءُ بن أبي رباحٍ (ت: 114) قصَّةَ إهباطِ آدمَ إلى الأرضِ، وقالَ فيها:«وأنزلَ الله ياقوتةً مِنْ ياقوتِ الجنَّةِ، فكانَت على موضِعِ البيتِ الآن، فلَم يزَلْ يطوفُ به حتى أنزلَ الله الطّوفان، فرُفِعَت تلك الياقوتةُ، حتى بعثَ الله إبراهيمَ فبناه، فذلك قولُ الله {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]»

(4)

، وقالَ محمدُ بن كعبٍ

(1)

ينظر: جامع البيان 10/ 420، 12/ 545، 19/ 391، 594، 597، والإسرائيليّات في التفسير والحديث (ص: 55)، ونقد الصحابة والتابعين للتفسير (ص: 198).

(2)

قاصُّ عمر بن عبد العزيز، أبو إبراهيم، ثقةٌ عالمٌ. ينظر: الكاشف 3/ 91، وتهذيب التّهذيب 3/ 681.

(3)

جامع البيان 2/ 81.

(4)

جامع البيان 2/ 551.

ص: 510

القُرَظي (ت: 120): «بلَغني أنَّ قومَ شُعَيْبٍ عُذِّبوا في قطعِ الدَّراهمِ، ثُمَّ وجَدتُ ذلك في القرآنِ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]»

(1)

، وذكرَ السُّدّي (ت: 128) قصَّةَ ظُهورِ السِّحرِ في بني إسرائيلَ، وأنَّ الشَّيطانَ تمثَّلَ لهم وأراهم موضِعَ كُتُبٍ، «فلمّا أخرَجوها قالَ الشَّيطانُ: إنَّ سليمانَ إنَّما كانَ يَضبطُ الإنسَ والشَّياطينَ والطَّيرَ بهذا السِّحرَ. ثُمَّ طارَ فذَهبَ، وفشا في النّاسِ أنَّ سليمانَ كانَ ساحِراً، واتَّخذَت بنو إسرائيلَ تلك الكُتُبِ، فلمّا جاءَ مُحمدً خاصَموه بها، فذلك حين يقولُ الله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]»

(2)

.

وعلى هَديِ السَّلفِ في هذا سارَ المُحقِّقون في علمِ التَّفسيرِ، وانتفعوا مِنْ هذه الأخبارِ بمقدارِ ما انتفعَ بها أسلافُهم رضي الله عنهم، أخذاً بالرُّخصةِ الشَّرعيَّةِ، واقتداءً بهَديِ خيرِ القُرونِ، فظهرَ جليّاً في عامَّةِ كتبِ التَّفسيرِ الاستعانةُ بها في بيانِ المعاني، خلا بعضَ التَّفاسيرِ المُتأخِّرةِ التي منعَ أصحابُها مِنْ الاستشهادِ بهذه الأخبارِ في التَّفسيرِ مُطلَقاً، وقصرَ بعضُهم الرُّخصةَ الشَّرعيَّةَ في التَّحديثِ بالمُباحِ عنهم على غيرِ التفسيرِ

(3)

؛ لأنَّ في ذكرِها مقرونةً به تصديقٌ بما فيها. وهذا

(1)

جامع البيان 12/ 545.

(2)

جامع البيان 2/ 313. وينظر: 2/ 61، 554، 10/ 566، 568، 13/ 155، 85، 211، 18/ 69، 218، وتفسير يحيى بن سلّام 1/ 176، 185، 324، 2/ 593.

(3)

ذهبَ إلى هذا أحمد محمد شاكر (ت: 1377) في مقدِّمةِ تفسيرِه: عمدةُ التفسير 1/ 14، واستَحسنَه د. محمد حسين الذَّهبي (ت: 1397) في كتابِه: الإسرائيليّات في التفسيرِ والحديثِ (ص: 167)، وظهرَت بعد ذلك مشاريعُ رسائلَ جامعيَّةٍ لغرضِ (تَنقيَةِ) كتبِ التَّفسيرِ مِنْ هذه الرِّواياتِ!.

ص: 511

تخصيصٌ بلا دليلٍ، مع مُخالفتِه منهجَ العلماءِ السّابقين في ذلك، وواضِحٌ أنَّه لا يلزمُ مِنْ ذكرِها تصديقُ ما فيها والقطعُ به، وإلا بطلَت الرُّخصةُ بالتَّحديثِ عنهم على ما جاءَ بها النَّصُّ الشَّرعيُّ.

‌المطلبُ الثّالثُ: أوجه الاستدلالِ بالرِّواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني.

يورِدُ ابنُ جرير (ت: 310) دليلَ الإسرائيليّاتِ مبيّناً به المعنى في ثلاثِ صوَرٍ:

الأولى: التَّصريحُ بالاستدلالِ بالإسرائيليّاتِ، ومِن ذلك قولُه: «فالخبرُ الذي ذكرناه عن وَهبِ بن مُنبِّهٍ في قِصَّةِ يأجوجَ ومأجوجَ

(1)

، يدُلُّ على أنَّ الذين قالوا لذي القَرنَيْن:{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94]، إنَّما أعلَموه خَوفَهم ما يَحدُثُ مِنهم مِنْ الإفسادِ في الأرضِ، لا أنَّهم شَكَوا مِنهم إفساداً كانَ مِنهم، فيهم أو في غيرِهم .. ، فإذْ كانَ ذلك كذلك بالذي بيَّنّا، فالصَّحيحُ مِنْ تأويلِ قولِه {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94]: إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ سيُفسِدون في الأرضِ»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]: «وأَولى هذه الأقوالِ بالصَّوابِ أحدُ القَولَيْن اللَّذَين ذكرناهما عن وَهبِ بن مُنبِّهٍ، مِنْ أنَّ شَبَه عيسى أُلقيَ على جميعِ مَنْ كانَ في البَيتِ مع عيسى حين أُحيطَ به وبهم، مِنْ غيرِ مَسألةِ عيسى إيّاهم

(1)

هو خبرٌ طويلٌ ذكرَه في 15/ 390 - 398.

(2)

جامع البيان 15/ 401.

ص: 512

ذلك، ولكن ليُخزِيَ الله بذلك اليَهودَ، ويُنقِذَ به نَبيَّه عليه السلام مِنْ مَكروهِ ما أرادوا به مِنْ القَتلِ، ويَبتليَ به مَنْ أرادَ ابتلاءَه مِنْ عِبادِه في قيلِه في عيسى، وصِدقِ الخَبرِ عن أمرِه. أو القَولُ الذي رواه عبدُ العزيزِ

(1)

، عنه»

(2)

، ثُمَّ فصَّلَ وجهَ صوابِهما بعد ذلك. ومثلُه قولُه:«وقولُه {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] يعني: فاختلَفتُم وتنازَعتُم .. ، وكانَ تدارُؤُهم في النَّفسِ التي قتَلوها كما حدَّثني .. ، عن مُجاهدٍ، قالَ: صاحبُ البقرَةِ رجُلٌ مِنْ بني إسرائيلَ، قتلَه رجلٌ، فألقاه على بابِ ناسٍ آخرين، فجاءَ أَولياءُ المَقتولِ فادَّعَوا دمَه عندهم، فانتَفَوا مِنه»

(3)

، ثُمَّ أسندَ نحوَ ذلك عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، وعَبيدةَ السَّلمانيّ (ت: قبل 70)، وقتادة (ت: 117)، ومحمَّدِ بن كعبٍ القُرَظي (ت: 120)، ومحمَّدِ بن قَيسٍ المَدَني، وابنِ زيدٍ (ت: 182)، وقالَ:«فكانَ اختِلافُهم وتنازعُهم وخِصامُهم بينهم في أمرِ القَتيلِ الذي ذكَرنا أَمرَه على ما روَيْنا عن عُلمائِنا مِنْ أهلِ التأويلِ = هو الدَّرْءُ الذي قالَ الله جلَّ ثناؤُه لذُرِّيَّتِهم وبقايا أَولادِهم: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72]»

(4)

.

الثّانية: ذِكرُ الإسرائيليّاتِ مباشرةً على سبيلِ التَّدليلِ، ومِن ذلك قولُه: «وأمّا قولُه: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] فإنَّ ابنَ عباسٍ كانَ يقولُ في ذلك -فيما ذُكِرَ عنه- ما حدَّثني به .. ، عن ابنِ عباسٍ

(1)

هذا وَهمٌ، والصَّوابُ: عبدُ الصَّمدِ. وهو عبدُ الصَّمدِ بن مَعقلٍ. كما في 7/ 651، 660.

(2)

جامع البيان 7/ 658.

(3)

جامع البيان 2/ 117.

(4)

جامع البيان 2/ 123. وينظر: 2/ 59، 4/ 482، 486، 597، 613، 5/ 382، 12/ 456، 16/ 368.

ص: 513

في قولِه: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86]، يقول: أعلَمُ أنَّ رُؤيا يوسفَ صادقةٌ، وأنّي سأسجُدُ له»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]: «وأمّا تأويلُ ذَبحِهم أبناءَ بني إسرائيلَ، واستِحيائِهم نساءَهم، فإنَّه كانَ فيما ذُكرَ لنا عن ابنِ عباسٍ وغيرِه كالذي حدَّثنا به .. »

(2)

، ثُمَّ أسندَ عن جماعةٍ مِنْ السَّلفِ تفصيلَ ذلك مِنْ أخبارِ بني إسرائيلَ. ومثلُ ذلك قولُه:«القَولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50]. إن قالَ لنا قائِلٌ: كيف غرَّقَ الله فِرعونَ ونجّى بني إسرائيلَ؟ قيلَ: كما حدَّثنا .. »

(3)

، ثُمَّ أسندَ قِصَّةَ ذلك مِنْ أخبارِ بني إسرائيلَ عن جماعةٍ مِنْ السَّلفِ.

الثّالثة: إيرادُ الإسرائيليّاتِ على سبيلِ التَّعليلِ لقبولِ المعنى أو رَدِّه، ومِن ذلك قولُه: «القَولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]. وتأويلُ ذلك: وما يُعلِّمُ الملَكان مِنْ أحدٍ مِنْ النّاسِ الذي أُنزلَ عليهما مِنْ التَّفريقِ بين المَرءِ وزوجِه، حتى يقولا له: إنَّما نحن بلاءٌ وفِتنةٌ لبني آدمَ، فلا تَكفُرْ برَبِّك. كما حدَّثني .. ، عن السُّدِّي، قالَ: إذا أتاهما -يعني هاروتَ وماروتَ- إنسانٌ يُريدُ السِّحرَ، وعَظاه وقالا له: لا تَكفُرْ، إنَّما نحن فِتنةٌ. فإذا أبى قالا له: ائْتِ هذا الرَّمادَ فبُلْ عليه. فإذا بالَ عليه خرجَ مِنه نورٌ يَسطعُ

(1)

جامع البيان 13/ 307.

(2)

جامع البيان 1/ 646.

(3)

جامع البيان 1/ 655. وينظر: 1/ 667، 669، 2/ 114، 4/ 467، 7/ 689، 18/ 393، 24/ 325.

ص: 514

حتى يَدخُلَ السَّماءَ، وذلك الإيمانُ، وأقبلَ شَيءٌ أسودُ كهَيئَةِ الدُّخانِ حتى يدخُلَ في مسامِعِه وكُلِّ شَيءٍ مِنه، فذلك غضبُ الله، فإذا أخبرَهما بذلك علَّماه السِّحرَ، فذلك قولُ الله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] الآية»

(1)

، وقولُه:«القَولُ في تأويلِ قولِه عز وجل {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. ذُكرَ أنَّ امرأةَ العزيزِ لمّا همَّت بيوسفَ وأرادَت مُراودتَه، جعلَت تَذكُرُ محاسِنَ نَفسِه، وتُشوِّقُه إلى نَفسِها. كما حدَّثنا .. »

(2)

، ثُمَّ ذكرَ تفاصيلَ ذلك عن ابنِ إسحاقَ (ت: 150)، والسُّدِّي (ت: 182). وكذلك قولُه في قولِه تعالى {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7]: «اليَمُّ الذي أُمِرَت أن تُلقيَه فيه هو النِّيلُ. كما حدَّثنا .. ، عن السُّدِّي: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7]. قالَ: هو البَحرُ، وهو النِّيلُ»

(3)

.

‌المطلبُ الرّابعُ: ضوابطُ الاستدلالِ بالرِّواياتِ الإسرائيليَّةِ على المعاني ومسائِلُه.

أوَّلاً: مصدرُها النَّقلُ المَحضُ، وقد أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى ذلك بقولِه عند قولِه تعالى {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ

(1)

جامع البيان 2/ 355.

(2)

جامع البيان 13/ 80.

(3)

جامع البيان 18/ 157. وينظر: 2/ 538، 4/ 455، 12/ 533، 15/ 528، 17/ 457، 18/ 154.

ص: 515

هَارُونَ} [البقرة: 248]: «جائزٌ أن تكونَ تلك البَقيَّةُ العصا، وكِسَرَ الألواحِ، والتَّوراةَ، أو بعضَها والنَّعلَيْن، والثّيابَ، والجهادَ في سبيلِ الله. وجائزٌ أن يكونَ بعضَ ذلك، وذلك أمرٌ لا يُدرَكُ عِلمُه مِنْ جِهةِ الاستِخراجِ ولا اللُّغةِ، ولا يُدرَكُ عِلمُ ذلك إلا بخبَرٍ يُوجِبُ عنه العِلمَ، ولا خبرَ عند أهلِ الإسلامِ في ذلك للصِّفةِ التي وصَفْنا»

(1)

، وقولِه أيضاً:«والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا أن يُقالَ: إنَّ الله جلَّ ثناؤُه أخبرَ عن إبراهيمَ خليلِه أنَّه وابنَه إسماعيلَ رفعا القواعدَ مِنْ البَيتِ الحرامِ. وجائزٌ أن يكونَ ذلك قواعدَ بيتٍ كانَ أهبطَه مع آدمَ، فجعلَه مكانَ البيتِ الحرامِ الذي بمكَّةَ، وجائزٌ أن يكونَ ذلك كانَ القُبَّةَ التي ذكرَها عطاءٌ مِمّا أنشأَه الله مِنْ زَبَدِ الماءِ، وجائزٌ أن يكونَ كانَ ياقوتةً أو دُرَّةً أُهبِطتا مِنْ السَّماءِ، وجائزٌ أن يكونَ كانَ آدمُ بناه ثُمَّ تهدَّمَ حتى رفعَ قواعدَه إبراهيمُ وإسماعيلُ. ولا عِلمَ عندنا بأيِّ ذلك كانَ مِنْ أيٍّ؛ لأنَّ حقيقةَ ذلك لا تُدركُ إلا بخبرٍ عن الله، أو عن رسولِه صلى الله عليه وسلم بالنَّقلِ المُستفيضِ، ولا خبرَ بذلك تقومُ به الحُجَّةُ فيَجبَ التَّسليمُ لها، ولا هو -إذْ لم يكُن به خَبرٌ على ما وصَفْنا- مِمّا يُدرَكُ عِلمُه بالاستدلالِ والمقاييسِ، فيُمثَّلَ بغيرِه، ويُستنبطَ عِلمُه مِنْ جِهةِ الاجتهادِ، فلا قَولَ في ذلك أَولى بالصَّوابِ مِمّا قُلنا»

(2)

، وقولِه بعدما أوردَ وجوهاً مُحتملةً مِنْ تلك الأخبارِ: «ولا دلالةَ له في كتابٍ، ولا أثرٍ عن الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا في إجماعِ الأُمَّةِ على أيِّ ذلك كانَ، وإذْ لم يكُنْ ذلك موجوداً مِنْ

(1)

جامع البيان 4/ 477.

(2)

جامع البيان 2/ 556.

ص: 516

الوَجهِ الذي ذكَرْتُ فالصَّوابُ أن يُقالَ فيه كما قالَ الله عز وجل، حتى تَثبُتَ حُجَّةٌ بصِحَّةِ ما قيلَ في ذلك مِنْ الوَجهِ الذي يَجبُ التَّسليمُ له، فيُسلَّمُ لها حينئذٍ»

(1)

.

والأصلُ في نقلِ هذه الأخبارِ الرِّوايةُ عن السَّلفِ، وبه اكتفى ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه؛ فلم يورِدْ مِنْ أخبارِهم شيئاً عن غيرِ السَّلفِ، ولا يمنعُ ذلك مِنْ الاستدلالِ بها مِنْ غيرِ طريقِهم؛ كالنَّقلِ المُباشرِ عن كُتُبِهم، لكنَّ الواردَ عن السَّلفِ مِنْ تلك الأخبارِ يمتازُ بأمورٍ، منها:

1 -

أنَّه محفوفٌ بالتثَبُّتِ في النَّقلِ؛ فمِن المُستفيضِ عنهم النَّقلُ المُباشرُ عن كُتُبِ أهلِ الكتابِ، وسؤالُ مَنْ أسلمَ مِنْ أهلِ الكتابِ، والعلماءِ مِنهم على وجهِ الخصوصِ؛ ككَعبِ الأحبارِ

(2)

(ت: 32)، وأبي الجَلْدِ

(3)

، ووَهبِ بن مُنبِّهٍ

(4)

(ت: 114)، ومِن شواهِدِ ذلك سؤالاتِ الصَّحابةِ لكَعبِ الأحبارِ (ت: 32)

(5)

، وسؤالاتِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه لأبي

(1)

جامع البيان 13/ 68. وينظر: 10/ 509، 13/ 59، 15/ 351، 17/ 612، 18/ 32، 157، 224.

(2)

كعبُ بن ماتع الحِميَريّ، أبو إسحاق، كعبُ الأحبارِ، العلّامةُ الحَبْرُ، أدركَ الجاهليّة، وكانَ يهوديّاً فأسلمَ في أيّامِ أبي بكرٍ أو عمر رضي الله عنهم، مات سنة (32). ينظر: السّير 3/ 489، وتهذيب التّهذيب 3/ 471.

(3)

جيلانُ بن أبي فروةَ الجَوْنيّ الأزديّ، أبو الجَلْدِ البَصريّ، ثقةٌ عابدٌ، عالمٌ بكتبِ أهلِ الكتابِ. ينظر: الطبقات الكبرى 4/ 116، والتاريخ الكبير 2/ 251.

(4)

وهب بن مُنبِّه بن كامل اليمانيّ، أبو عبد الله الأبْناويّ، مفسِّرٌ مؤَرِّخٌ ثِقةٌ، عالمٌ بكتبِ أهلِ الكتابِ، صنَّف في التَّفسيرِ، ومات سنة (114). ينظر: الطبقات الكبرى 3/ 353، والسّير 4/ 544.

(5)

جامع البيان 15/ 375، 16/ 630، 17/ 301، 22/ 33، 24/ 195.

ص: 517

الجَلْدِ

(1)

، وقولِ ابنِ إسحاقَ (ت: 150): «عن أبي عَتّابٍ -رجلٌ مِنْ تَغلِبَ، كانَ نَصرانيّاً عُمراً مِنْ دَهرِه، ثُمَّ أسلمَ بعدُ، فقَرأَ القرآنَ، وفَقِه في الدِّينِ، وكانَ -فيما ذُكرَ له- نصرانيّاً أربعينَ سنةً، ثُمَّ عُمِّرَ في الإسلامِ أربعينَ سنةً- قالَ .. »

(2)

، وقولُه أيضاً:«حدَّثني بعضُ مَنْ يسوقُ أحاديثَ الأعاجمِ مِنْ أهلِ الكتابِ، مِمَّنْ قد أسلمَ، مِمّا توارثوا مِنْ علمِ ذي القَرْنَين .. »

(3)

.

ومِن عباراتِ السَّلفِ الدَّالَّةِ على ذلك قولُهم: «أما إنَّه مَكتوبٌ عندك في كِتابِك»

(4)

، «وهو مكتوبٌ عندهم في الكتابِ الأوَّلِ»

(5)

، «حدَّثني بعضُ أهلِ العلمِ بالكتابِ الأوَّلِ»

(6)

، «وأهلُ التَّوراةِ يَدرُسون»

(7)

، «إنَّ في التَّوراةِ»

(8)

.

2 -

سعَةُ عِلمِهم بالشَّريعةِ، وحُسنُ تمييزِهم بين ما يُقبَلُ مِنْ هذه الأخبارِ وما يُرَدُّ، وهم أعلَمُ مِنْ غَيرِهم بهذا، وفي ذلك ما فيه مِنْ الرِّعايةِ والاحتياطِ للمعاني القرآنيةِ.

3 -

سعَةُ عِلمِهم بمعاني القرآنِ الكريمِ، وقد أفادَ ذلك أمرَيْن:

أوَّلَهما: تحديدُ مقدارِ ما يُحتاجُ إليه مِنْ هذه الأخبارِ لبيانِ المعاني

(1)

جامع البيان 1/ 360، 361، 364، 553.

(2)

جامع البيان 14/ 502.

(3)

جامع البيان 15/ 389.

(4)

جامع البيان 2/ 212.

(5)

جامع البيان 1/ 604.

(6)

جامع البيان 8/ 301، 310، 10/ 420، 19/ 603.

(7)

جامع البيان 1/ 567، 1/ 553.

(8)

جامع البيان 18/ 618.

ص: 518

والحُكمِ عليها، فلا يُزادُ على مِقدارِ الحاجةِ مِنها؛ لأنَّها مَقصودةٌ لغيرِها لا لِذاتِها.

وثانيهما: دِقَّةُ تمييزِهم بين ما وردَت به الآياتُ مِنْ المعاني، وما زادَته الإسرائيليّاتُ عليها، ومِن ذلك قولُ ابنِ إسحاق (ت: 150): «فهذا ما وصلَ إلينا في كتابِ الله مِنْ خبرِ موسى فيما طلبَ مِنْ النَّظرِ إلى رَبِّه، وأهلُ الكتابِ يَزعُمون وأهلُ التَّوراةِ أنْ قد كانَ لذلك تَفسيرٌ وقِصَّةٌ وأُمورٌ كثيرةٌ ومُراجعَةٌ لم تَأتِنا في كتابِ الله. فالله أعلمُ»

(1)

، وكذا قَولُه:«خرجَت الرُّسلُ -فيما يَزعمُ أهلُ التَّوراةِ- مِنْ عند إبراهيمَ إلى لوطٍ بالمؤتَفِكةِ، فلمّا جاءَت الرُّسلُ لوطاً {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} [هود: 77]، وذلك مِنْ خَوفِ قَومِه عليهم، أن يَفضَحوه في ضَيفِه، فقالَ: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]»

(2)

. وقد ظهرَ أثرُ ذلك في دِقَّةِ تعبيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) عن نَحوِ ذلك مِنْ المعاني، كما في قولِه:«وقولِه {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20]. يقولُ: وجاءَ مِنْ أقصى مدينةِ هؤلاءِ القَومِ الذين أَرسَلتُ إليهم هذه الرُّسلَ، رجلٌ يسعى إليهم، وذلك أنَّ أهلَ مدينتِه هذه عزموا واجتمَعَت آراؤُهم على قتلِ هؤلاءِ الرُّسلِ الثَّلاثةِ -فيما ذُكرَ-، فبلغَ ذلك هذا الرَّجلَ، وكانَ منزِلُه أقصى المدينةِ، وكانَ مُؤمِناً، وكانَ اسمُه -فيما ذُكرَ- حبيبُ بن مُرَى»

(3)

.

4 -

سعةُ عِلمِهم بأخبارِ أهلِ الكتابِ، وفيهم مَنْ اشتُهرَ بذلك،

(1)

جامع البيان 10/ 420.

(2)

جامع البيان 12/ 497.

(3)

جامع البيان 19/ 419.

ص: 519

كعبدِ الله بن عمروِ بن العاصِ رضي الله عنه، وكعبِ الأحبارِ (ت: 32)، ووَهبِ بن مُنبِّهٍ (ت: 114)، ومحمّدِ بن إسحاقَ (ت: 150)، ونَحوِهم.

ثُمَّ مرويّاتُ السَّلفِ مِنْ تلك الأخبارِ على مراتبَ؛ أعلاها ما وردَ عن الصَّحابةِ رضي الله عنهم، قالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «ما نُقِلَ في ذلك عن بعضِ الصَّحابةِ نَقلاً صحيحاً فالنَّفسُ إليه أسكَنُ مِمّا نَقِلَ عن بعضِ التّابعين؛ لأنَّ احتمالَ أن يكونَ سمِعَه مِنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو مِنْ بعضِ مَنْ سمِعَه مِنه أقوى، ولأنَّ نقلَ الصَّحابةِ عن أهلِ الكتابِ أقلُّ مِنْ نقلِ التّابعين»

(1)

.

وجُملةُ القَولِ إنَّ ورودَ الخبرِ الإسرائيليّ عن السَّلفِ مزيَّةٌ، فلا غرابةَ في اقتصارِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) على النَّقلِ عن السَّلفِ في هذا البابِ بلا زيادةٍ.

ثانياً: يستعينُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بكلامِ أهلِ العلمِ بالتّاريخِ والسِّيَرِ والأنسابِ في تحريرِ الأخبارِ الإسرائيليّةِ، ونَقدِها، وتقريرِ ما يُقبَلُ مِنها وما يُرَدُّ؛ وذلك أنَّهم أهلُ هذا الفَنِّ، والمُقَدَّمون فيه، فإجماعُهم فيه مُعتبَرٌ، وتتابُعُ أقوالِهم فيه مُقَدَّمٌ، وهذا منهجُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في جميعِ الفنونِ؛ فأهلُ التّأويلِ في التَّفسيرِ، وأهلُ القراءاتِ في القراءةِ، وأهلُ الحديثِ في الرِّوايةِ، وأهلُ الأُصولِ والفقهِ في الأحكامِ، وأهلُ اللُّغةِ في اللُّغةِ، وهكذا في سائِرِ العلومِ

(2)

، وهذا مِنه رحمه الله غايةٌ في الإنصافِ، وكمالِ العقلِ، ورسوخِ العلمِ، مع كونِه أيضاً مِنْ أهلِ العلمِ

(1)

مجموع الفتاوى 13/ 345.

(2)

ينظر ما سبقَ ذِكرُه (ص: 276).

ص: 520

بالتّاريخِ والسِّيَرِ والأنسابِ، بل كتابُه في التّاريخِ مِنْ أجلِّ الكُتُبِ في بابِه.

ومِن شواهدِ ذلك قولُه في قولِه تعالى {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]: «وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أن يُقالَ: هي الأرضُ المُقدَّسةُ. كما قالَ نبيُّ الله موسى صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ القَولَ في ذلك بأنَّها أرضٌ دون أرضٍ، لا تُدرَكُ حقيقةُ صِحَّتِه إلا بالخبرِ، ولا خبرَ بذلك يجوزُ قطعُ الشَّهادةِ به، غيرَ أنَّها لن تَخرُجَ مِنْ أن تكونَ مِنْ الأرضِ التي بين الفُراتِ وعريشِ مِصرَ؛ لإجماعِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ والسِّيَرِ والعلماءِ بالأخبارِ على ذلك»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} [المائدة: 27]: «وأَولى القَولَيْن في ذلك عندي بالصَّوابِ أنَّ اللذَيْن قرَّبا القُربانَ كانا ابنَيْ آدمَ لِصُلبِه، لا مِنْ ذُرِّيَّتِه مِنْ بني إسرائيلَ؛ وذلك أنَّ الله عز وجل يتعالى عن أن يُخاطِبَ عبادَه بما لا يُفيدُهم به فائدةً، والمُخاطَبون بهذه الآيةِ كانوا عالِمين أنَّ تقريبَ القُربانِ لله لم يكُن إلا في ولَدِ آدمَ، دون الملائِكةِ والشَّياطينِ وسائرِ الخَلقِ غيرِهم .. ، وإذْ كانَ غيرَ جائزٍ أن يُخاطبَهم خطاباً لا يُفيدُهم به معنىً، فمَعلومٌ أنَّه عَنى ابنَيْ آدمَ لِصُلبِه، لا ابنَيْ بَنيه اللذِين بَعُدَ مِنه نَسَبُهم، مع إجماعِ أهلِ الأخبارِ والسِّيَرِ والعلمِ بالتَّأويلِ على أنَّهما كانا ابنَيْ آدمَ لِصُلبِه، وفي عهدِ آدمَ وزمانِه، وكفى بذلك شاهِداً»

(2)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}

(1)

جامع البيان 8/ 286.

(2)

جامع البيان 8/ 325.

ص: 521

[الأنبياء: 71]: «وإنَّما اختَرنا ما اختَرنا مِنْ القَولِ في ذلك لأنَّه لا خِلافَ بين جميعِ أهلِ العلمِ أنَّ هِجرَةَ إبراهيمَ مِنْ العراقِ كانَت إلى الشَّامِ، وبها كانَ مُقامُه أيّامَ حياتِه، وإن كانَ قد كانَ قَدِمَ مكَّةَ، وبَنى بها البَيتَ، وأسْكنَها إسماعيلَ ابنَه مع أُمِّه هاجرَ، غيرَ أنَّه لم يُقِمْ بها، ولم يتَّخِذها وَطناً لِنَفسِه، ولا لوطٌ»

(1)

.

ثالثاً: كيف يُميَّزُ الخبرُ الإسرائيليّ مِنْ جُملَةِ الأخبارِ؟

إنَّ مِمّا يُشكِلُ في بابِ الاستدلالِ بالإسرائيليّاتِ ما يحصلُ مِنْ التَّداخلِ في بعضِ هذه الأخبارِ بين أن تكونَ مِنْ الغَيبِ الذي سَمِعَه الصَّحابيُّ مِنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يَنسُبه إليه، أو تكونَ مِنْ الغَيبِ الذي نَقلَه عن بني إسرائيلَ مِنْ غيرِ نسبتِه إليهم. ولِحَلِّ هذا الإشكالِ ذكرَ بعضُ العلماءِ مِنْ شروطِ الحُكمِ بالرَّفعِ للخبرِ الغَيْبيِّ الموقوفِ على الصَّحابيّ: ألّا يكونَ راويه مِمَّنْ عُرِفَ بالأَخذِ عن بني إسرائيلَ

(2)

. والصَّوابُ عدمُ اعتِبارِ هذا الشَّرطِ؛ لأمرَيْن

(3)

:

1 -

أنَّ مقامَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم لا يَحتمِلُه؛ إذ لا يصحُّ اعتقادُ أن يروي الصَّحابيُّ خبراً غيبيّاً جازِماً به، مُعتمِداً عليه، مِنْ غيرِ طريقِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهم مِنْ أبصرِ النّاسِ بحدودِ ما أباحَهُ الشَّرعُ مِمّا يُروى عن بني إسرائيلَ، وأنَّه للاستشهادِ لا للجَزمِ والاعتقادِ، قالَ ابنُ

(1)

جامع البيان 16/ 315. وينظر: 8/ 314، 9/ 383، 385، 15/ 161، 18/ 310.

(2)

ينظر: النُّكتُ على كتاب ابن الصّلاحِ 2/ 532.

(3)

ينظر: فتح المغيث 1/ 229، وما لَه حُكمُ الرَّفع من أقوالِ الصَّحابة وأفعالِهم (ص: 64، 76).

ص: 522

تيميّة (ت: 728): «ما نُقِلَ في ذلك عن بعضِ الصَّحابةِ نَقلاً صحيحاً فالنَّفسُ إليه أسكَنُ مِمّا نَقِلَ عن بعضِ التّابعين؛ لأنَّ احتمالَ أن يكونَ سمِعَه مِنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو مِنْ بعضِ مَنْ سمِعَه مِنه أقوى، ولأنَّ نقلَ الصَّحابةِ عن أهلِ الكتابِ أقلُّ مِنْ نقلِ التّابعين، ومع جَزمِ الصّاحبِ فيما يقولُه فكيف يُقالُ: إنَّه أخذَه عن أهلِ الكتابِ. وقد نُهو عن تَصديقِهم!»

(1)

.

2 -

أنَّ في ذلك هَدرٌ لنصوصٍ غَيبيَّةٍ كثيرةٍ، لمُجرَّدِ الاحتمالِ بلا قرينةٍ مُعتبرةٍ.

ومع تصحيحِ عدمِ اعتبارِ ذلك الشَّرطِ للحُكمِ برَفعِ ما يرويه الصَّحابيُّ مِنْ الغيبيّاتِ غيرَ مَنسوبٍ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنَّ التَّحرّي في هذا النَّوعِ مِنْ المرويّاتِ مَطلوبٌ، وخاصَّةً فيما يرويه الصَّحابيُّ مِنْ ذلك غيرَ جازمٍ به؛ لشَبَهِه الكبير بطريقتِهم في عدمِ الجزمِ بالخبرِ الغَيْبيِّ الذي يَأثِرونَه عن بني إسرائيلَ.

ومِن خِلالِ تعامُلِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) مع هذه الأخبارِ في تفسيرِه، يُمكنُ تمييزُ الخبرِ الإسرائيليِّ عنده بأَحَدِ طريقَيْن:

الأَوَّلُ: النصُّ؛ ويشملُ:

أ- النَّقلَ مِنْ كُتُبِهم، ومِن عباراتِهم في ذلك:«نجِدُ مَكتوباً في الإنجيلِ»

(2)

، «وهو مكتوبٌ عندهم في الكتابِ الأوَّلِ»

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى 13/ 345.

(2)

جامع البيان 18/ 313.

(3)

جامع البيان 1/ 604. وينظر: 2/ 212، 10/ 491.

ص: 523

ب- النَّقلَ عن أحبارِهم ورُواتِهم، كما في قولِهم:«حدَّثني بعضُ أهلِ العلمِ بالكتابِ الأوَّلِ»

(1)

، «وأهلُ التَّوراةِ يَقولون»

(2)

.

الثَّاني: القرائنُ؛ وتشملُ:

أ- القرائِنَ اللَّفظيةَ، كقولِهم:«كُنّا نُحدَّث»

(3)

، «ذُكرَ لنا»

(4)

، «بلَغَنا»

(5)

، في سياقِ أخبارِ أنبيائِهم، وأحاديثِ بَدءِ الخلقِ، ونحوِ ذلك.

ب- القرائِنَ الحاليَّةَ، كأن يكونَ النّاقِلُ للخَبرِ مِنْ مُسلِمةِ أهلِ الكتابِ؛ كعبدِ الله بن سلَامٍ رضي الله عنه، وكعبِ الأحبارِ (ت: 32)، أو يُعرَفَ بالتَّحديثِ عنهم؛ كوَهبِ بن مُنبِّهٍ (ت: 114)، وابنِ إسحاقَ (ت: 150)، وقتادة (ت: 117)، والسُّدِّي (ت: 128)، ونحوِهم، في سياقِ أخبارِ أنبيائِهم، وعجائِبِ أحوالِهم، ونحوِها.

ولا تخفى إفادةُ الطَّريقِ الأوَّلِ للقَطعِ بكونِ الخبرِ مِنْ الإسرائيليّاتِ، بخلافِ الطَّريقِ الثّاني الذي يُفيدُ الظَّنَّ الغالبَ.

رابعاً: تتنوَّعُ الأغراضُ التي يُساقُ لها دليلُ الإسرائيلياتِ إلى ثلاثةِ أغراضٍ:

الأوَّلُ: تعيين المُبهماتِ، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96]: «يقولُ تعالى ذِكرُه: فلمّا أن جاءَ يعقوبَ البَشيرُ

(1)

جامع البيان 8/ 301.

(2)

جامع البيان 1/ 553. وينظر: 1/ 567، 8/ 310، 321، 10/ 420، 19/ 603.

(3)

جامع البيان 4/ 569.

(4)

جامع البيان 4/ 569.

(5)

جامع البيان 4/ 464. وينظر: 4/ 576، 5/ 355، 8/ 291، 9/ 132، 356.

ص: 524

مِنْ عند ابنِه يوسفَ، وهو المُبَشِّرُ برسالةِ يوسفَ، وذلك بريدٌ -فيما ذُكرَ- كانَ يوسفُ أبرَدَه إليه، وكانَ البَريدُ -فيما ذُكرَ- والبَشيرُ: يهوذا بن يعقوبَ، أخا يوسفَ لأبيه»

(1)

، ثُمَّ أسندَ ذلك عن السَّلفِ، ومثلُه قولُه:«القَولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58]. أمّا البابُ الذي أُمِروا أن يَدخلوه فإنَّه قيلَ: هو بابُ الحِطَّةِ مِنْ بَيتِ المَقدسِ»

(2)

، ثُمَّ أسندَ ذلك عن بعضِ السَّلفِ، ومثلُه قولُه في قولِه تعالى {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} [البقرة: 260]: «يعني بذلك جلَّ ثناؤُه: قالَ الله له: فخُذْ أربعةً مِنْ الطَّيرِ. فذُكرَ أنَّ الأربعةَ مِنْ الطَّيرِ: الدِّيكُ، والطاووسُ، والغُرابُ، والحَمامُ»

(3)

، ثُمَّ أسندَه عن بعضِ السَّلفِ.

الثّاني: تبيينُ المُجملاتِ وتفصيلُها، وذلك أكثرُ ما تُساقُ لأجلِه الإسرائيليّاتُ، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50]: «ومعنى قولِه {فَرَقْنَا بِكُمُ} [البقرة: 50]: فصَلْنا بكم البَحرَ؛ لأنَّهم كانوا اثنَىْ عشرَ سِبطاً، ففَرقَ البحرَ اثنَيْ عشرَ طريقاً، فسلَك كُلُّ سِبطٍ مِنهم طريقاً مِنها، فذلك فَرْقُ الله جلَّ ثناؤُه بهم البَحرَ، وفَصلُه بهم بتَفريقِهم في طُرُقِه الاثنَيْ عشرَ»

(4)

، ثُمَّ أسندَ ذلك عن السُّدّي (ت: 128). وكذا قولُه في قولِه تعالى {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]: «والصَّوابُ مِنْ التَّأويلِ عندنا أنَّ القَومَ لم يكادوا

(1)

جامع البيان 13/ 343.

(2)

جامع البيان 1/ 713.

(3)

جامع البيان 4/ 633. وينظر: 1/ 146، 642، 666، 2/ 81، 115، 4/ 568، 8/ 293.

(4)

جامع البيان 1/ 654.

ص: 525

يَفعلون ما أمرَهم الله به مِنْ ذَبحِ البَقرةِ للخَلَّتين كلتَيْهما؛ إحداهما: غلاءُ ثَمنِها، مع ما ذُكرَ لنا مِنْ صِغرِ خطرِها، وقِلَّةِ قيمَتِها. والأُخرى: خَوفُ عظيمِ الفَضيحةِ على أنفُسِهم بإظهارِ الله نبيَّه موسى صلواتُ الله عليه وأتباعَه على قاتِلِه»

(1)

، ثُمَّ أسندَ كُلَّ ذلك. ومثلُه قولُه في قولِه تعالى {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} [يوسف: 19]: «وفي الكلامِ مَحذوفٌ استُغنيَ بدلالةِ ما ذُكِرَ عليه فتُركَ، وذلك: فأدلى دَلوَه، فتعلَّقَ به يوسفُ فخرجَ، فقالَ المُدلي: يا بُشرى هذا غُلامٌ. وبالذي قُلنا في ذلك جاءَت الأخبارُ عن أهلِ التأويلِ»

(2)

.

الثّالثُ: دفعُ الشُّبَهِ وإزالةُ الإشكالاتِ، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36]: «فأمّا سببُ وصولِه إلى الجنَّةِ حتى كلَّمَ آدمَ بعد أن أخرجَه الله مِنها وطردَه عنها، فليس فيما رُويَ عن ابنِ عباسٍ ووَهبِ بن مُنبِّهٍ في ذلك معنىً يجوزُ لذي فَهمٍ مُدافعتُه .. ، فالقَولُ في ذلك أنَّه قد وصلَ إلى خطابِهما على ما أخبرَنا الله تعالى ذِكرُه، ومُمكِنٌ أن يكونَ وصلَ إلى ذلك بنحوِ الذي قالَه المُتأوِّلون، بل ذلك إن شاءَ الله كذلك؛ لتتابُعِ أقوالِ أهلِ التأويلِ على تَصحيحِ ذلك»

(3)

، ومثلُ ذلك قولُه: «فإن قالَ قائلٌ: وكيف قالَ زكريّا وهو نبيُّ الله: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]. وقد بشَّرَته الملائكةُ بما بشَّرَته به عن أمرِ الله إيّاها به؟ أشِكَّ في صِدقِهم؟

(1)

جامع البيان 2/ 114.

(2)

جامع البيان 13/ 42. وينظر: 1/ 462، 569، 645، 2/ 6، 47، 76، 120، 4/ 467، 8/ 290.

(3)

جامع البيان 1/ 569.

ص: 526

فذلك ما لا يجوزُ أن يوصَفَ به أهلُ الإيمانِ بالله، فكيف الأنبياءُ والمُرسلون؟ أم كانَ ذلك مِنه استِنكاراً لقُدرَةِ رَبِّه، فذلك أعظمُ في البَليَّةِ؟ قيل: كانَ ذلك مِنه صلى الله عليه وسلم على غيرِ ما ظنَنتَ، بل كانَ قِيلُه ما قالَ مِنْ ذلك كما حدَّثني»

(1)

، ثُمَّ ذكرَ خبراً فيه سببُ ذلك عن السُّدّي (ت: 128)، وعكرمةَ (ت: 105)، ثُمَّ جمعَ ذلك بقولِه:«فكانَ قَولُه ما قالَ مِنْ ذلك، ومراجعَتُه ربَّه فيما راجعَ فيه بقولِه: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} [آل عمران: 40]؛ للوسوسَةِ التي خالَطَت قلبَه مِنْ الشَّيطانِ، حتى خيَّلَت إليه أنَّ النِداءَ الذي سَمعَه كانَ نداءً مِنْ غيرِ الملائكةِ، فقالَ: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} [آل عمران: 40]. مُستَثْبِتاً في أمرِه، ليتقرَّرَ عنده بآيةٍ، يُريه الله في ذلك أنَّه بشارَةٌ مِنْ الله على ألسُنِ ملائكتِه، ولذلك قالَ: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران: 41]»

(2)

.

وأغراضُ الاستدلالِ بالإسرائيليّاتِ هذه مِنْ جِنسِ أغراضِ الاستدلالِ بأحوالِ النُّزولِ، وفيها بيانٌ لبعضِ مقاصدِ الشَّريعةِ مِنْ إباحةِ التَّحديثِ بتلك الأخبارِ عن بني إسرائيلَ، وبيانُ وَجهِ عنايةِ السَّلفِ والمُفسِّرين بها في سياقِ تفسيرِ كلامِ الله عز وجل.

خامساً: بالتأمُّلِ في أغراضِ الاستدلالِ بالإسرائيليّاتِ السّابقةِ نجِدُ أنَّها لا تُؤَسِّسُ المعنى -غالباً- بل تُثَبِّتُه وتوضِّحُه، وذلك مِنْ جُملَةِ معنى التَّفسيرِ وغرضِ المُفَسِّرِ على ما سبقَ بيانُه، ومَن جعلَ مِنْ الأئِمَّةِ

(1)

جامع البيان 5/ 382. وينظر: 1/ 460، 461، 679، 2/ 322.

(2)

جامع البيان 5/ 382. وينظر: 1/ 460، 461، 679، 2/ 322. وينظر تعليقاتُ المُحقِّقِ محمود شاكر (ت: 1418) في طبعتِه لجامع البيان 1/ 453، 458، 462.

ص: 527

الإسرائيليّاتِ مِنْ أدلَّةِ التَّأنيسِ لا التَّأسيسِ فمُرادُه: في الأكثرِ. وفي معنى ذلك يقولُ ابنُ تيميّة (ت: 728): «الإسرائيليّاتُ يُعتضَدُ بها، ولا يُعتمدُ عليها»

(1)

، وقالَ:«الأحاديثُ الإسرائيليّةُ تُذكَرُ للاستشهادِ لا للاعتقادِ .. ، وغالبُ ذلك مِمّا لا فائدةَ فيه تعودُ إلى أمرٍ دينيٍّ»

(2)

، وقالَ ذلك كذلك ابنُ كثيرٍ (ت: 774) في مقدِّمةِ تفسيرِه

(3)

، وأشارَ إلى نحوِ ذلك أيضاً بقولِه:«ولسنا نذكرُ مِنْ الإسرائيليّاتِ إلا ما أذِنَ الشّارعُ في نقلِه؛ مِمّا لا يُخالفُ كتابَ الله وسُنَّةَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وهو القِسمُ الذي لا يُصدَّقُ ولا يُكذَّبُ، مِمّا فيه بَسطٌ لمُختصرٍ عندنا، أو تسميةٌ لمُبهمٍ وردَ به شَرعُنا مِمّا لا فائدةَ في تعيينِه لنا، فنذكرَه على سبيلِ التَّحلّي به، لا على سبيلِ الاحتياجِ إليه، والاعتمادِ عليه، وإنَّما الاعتمادُ والاستنادُ على كتابِ الله، وسُنَّةِ رسولِه»

(4)

، وقالَ البِقاعيّ (ت: 885): «حكمُ النَّقلِ عن بني إسرائيلَ -ولو كانَ فيما لا يُصَدِّقُه كتابُنا ولا يُكَذِّبُه- الجَوازُ، وإن لم يَثبُت ذلك المَنقولُ، وكذا ما نُقِلَ عن غيرِهم مِنْ أهلِ الأديانِ الباطلةِ؛ لأنَّ المَقصودَ: الاستئناسُ لا الاعتمادُ، بخلافِ ما يُستدَلُّ به في شَرعِنا، فإنَّه العُمدةُ في الاحتجاجِ للدّينِ فلا بُدَّ مِنْ

(1)

مجموع الفتاوى 1/ 343.

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 366.

(3)

تفسير القرآن العظيم 1/ 10.

(4)

البداية والنهاية 1/ 28. وابنُ كثيرٍ (ت: 774) في تفسيرِه مُضطربُ المنهجِ في تعامُلِه مع الإسرائيليّاتِ؛ فيرُدُّ عدداً مِنْ الأقوالِ لمُجرَّدِ أنَّها مرويَّةٌ عن بني إسرائيل بل لاحتمالِ كَونِها مرويَّةً عنهم (كما في 6/ 343، 484، 10/ 301، 413)، مع نصِّه على صِحَّةِ الرِّوايةِ عنهم فيما يجوِّزُه العقلُ (ينظر: 1/ 10، 9/ 411، 13/ 180)، بل واستدلالِه الصَّريحِ بها (كما في 9/ 188 - 189، 232، 10/ 452، 12/ 23).

ص: 528

ثُبوتِه»

(1)

، ثُمَّ قالَ مُدَلِّلاً على ذلك:«فالذي عندنا مِنْ الأدلَّةِ ثلاثةُ أقسامٍ: موضوعاتٌ، وضِعافٌ، وغيرُ ذلك. فالذي ليس بموضوعٍ ولا ضَعيفٍ مُطلَقَ ضَعفٍ يُورَدُ للحُجَّةِ. والضَّعيفُ المُتماسكُ للتَّرغيبِ. والموضوعُ يُذكرُ لبيانِ التَّحذيرِ مِنه بأنَّه كذبٌ. فإذا وازَنت ما يَنقُلُه أئِمَّتُنا عن أهلِ دينِنا للاستدلالِ لشَرعِنا بما يَنقُلُه الأئِمَّةُ عن أهلِ الكتابِ = سقطَ مِنْ هذه الأقسامِ الثَّلاثةِ في النَّقلِ عنهم ما هو للحُجَّةِ؛ فإنَّه لا يُنقَلُ عنهم ما يُثبَتُ به حُكمٌ مِنْ أحكامِنا. ويبقى ما يُصَدِّقُه كتابُنا، فيجوزُ نَقلُه، وإن لم يُكُن في حَيِّزِ ما يَثبُتُ في حُكمِ الموعظةِ لنا. وأمّا ما كذَّبَه كتابُنا، فهو كالموضوعِ لا يجوزُ نَقلُه إلا مَقروناً ببيانِ بُطلانِه»

(2)

.

سادساً: يؤَكِّدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) الأخبارَ الإسرائيليّةَ بغيرِها مِنْ الأدلَّةِ، ومِن ذلك توكيدُها بإجماعِ أهلِ التأويلِ على الأخذِ بها، كما في قولِه عند قولِه تعالى {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4]، حيثُ ذكرَ الأخبارَ الطَّويلةَ في صِفةِ إفسادِهم، ثُمَّ قالَ:«وأمّا إفسادُهم في الأرضِ المَرَّةَ الآخِرَةَ، فلا اختلافَ بين أهلِ العلمِ أنَّه كانَ قتلَهم يحيى بن زكريّا»

(3)

، ورجَّحَ بعضَ أوجهِ القراءةِ في قولِه تعالى {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23]، وقالَ: «ثُمَّ في إجماعِ الحُجَّةِ في تأويلِها على أنَّهما رجُلانِ مِنْ أصحابِ موسى مِنْ بني إسرائيلَ؛ وأنَّهما

(1)

الأقوالُ القويمةُ في حكمِ النقلِ عن الكتبِ القديمةِ (مخطوط، ورقة: 34)، بواسطة: الإسرائيليّات في التفسير والحديث (ص: 54). ويُنظر (ص: 71) مِنْ القِسمِ المطبوعِ مِنْ الأقوالِ القويمةِ، ضمن مجلة معهد المخطوطات العربية، المجلد 26، الجزء 2.

(2)

المرجع السابق. وينظر: أحكام القرآن، لابن العربي 3/ 199، وتفسير ابن كثير 9/ 411.

(3)

جامع البيان 14/ 469.

ص: 529

يوشَعُ وكالبُ، ما أَغنى عن الاستشهادِ على صِحَّةِ القراءةِ بفَتحِ الياءِ في ذلك، وفسادِ غيرِه، وهو التأويلُ الصَّحيحُ عندنا؛ لما ذكَرْنا مِنْ إجماعِها عليه»

(1)

.

وكذا توكيدُها بأخبارِ السَّلفِ، كما في قولِه:«فإن قالَ لنا قائِلٌ: فما صِفةُ تَسويَةِ الله السَّماواتِ التي ذكرَها في قَولِه {فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29]؛ إذْ كُنَّ قد خُلِقنَ سَبعاً قبل تَسويَتِه إيّاهُنَّ؟ وما وَجهُ ذِكرِ خَلقِهنَّ بعد ذِكرِ خلقِ الأرضِ، أَلِأنَّها خُلقَت قبلَها، أم لِمَعنىً غيرِ ذلك؟ قيلَ: قد ذكَرْنا ذلك في الخبرِ الذي رَوَيْناه عن ابنِ إسحاقَ، ونزيدُ ذلك تَوْكيداً بما نضُمُّ إليه مِنْ أخبارِ السَّلفِ المُتقَدِّمين وأقوالِهم»

(2)

، ومِمّا في تلك الأخبارِ تفصيلُ بَدْءِ الخَلقِ عن بني إسرائيلَ. وكذا قولُه في قولِه تعالى {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36]: «فأمّا سببُ وصولِه إلى الجنَّةِ حتى كلَّمَ آدمَ بعد أن أخرجَه الله مِنها وطردَه عنها، فليس فيما رُويَ عن ابنِ عباسٍ ووَهبِ بن مُنبِّهٍ في ذلك معنىً يجوزُ لذي فَهمٍ مُدافعتُه .. ، فالقَولُ في ذلك أنَّه قد وصلَ إلى خطابِهما على ما أخبرَنا الله تعالى ذِكرُه، ومُمكِنٌ أن يكونَ وصلَ إلى ذلك بنحوِ الذي قالَه المُتأوِّلون، بل ذلك إن شاءَ الله كذلك؛ لتتابُعِ أقوالِ أهلِ التأويلِ على تَصحيحِ ذلك»

(3)

.

وكذلك توكيدُها بظاهرِ القرآنِ، ففي قولِه تعالى {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]، ذكرَ قولَ السُّدِّيّ (ت: 128) في قِصَّةِ دخولِ أبَوَيْ يوسفَ مصرَ، وأنَّه خرجَ

(1)

جامع البيان 8/ 299. وينظر: 4/ 613، 13/ 68، 285، 16/ 315.

(2)

جامع البيان 1/ 461.

(3)

جامع البيان 1/ 569.

ص: 530

لاستقبالِهم. وذكرَ قولاً آخرَ لابنِ جُرَيْج (ت: 150)، ثُمَّ قالَ:«والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا ما قالَه السُّدِّيّ، وهو أنَّ يوسفَ قالَ ذلك لأَبوَيْه ومَن معهما مِنْ أَولادِهما وأهاليهم قبلَ دخولِهم مِصرَ، حين تلقّاهم؛ لأنَّ ذلك في ظاهرِ التَّنزيلِ كذلك، فلا دلالةَ تدُلُّ على صِحَّةِ ما قالَ ابنُ جُرَيْج»

(1)

، وقالَ أيضاً:«وفي خبرِ الله تعالى عن قيلِ إبراهيمَ حين أفلَ القَمرُ: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77] الدَّليلُ على خطأِ هذه الأقوالِ التي قالَها هؤلاءِ القَومُ، وأنَّ الصَّوابَ مِنْ القَولِ في ذلك الإقرارُ بخبرِ الله تعالى ذِكرُه الذي أخبرَ عنه، والإعراضُ عمّا عداه»

(2)

، وهو القَولُ الذي اختاره مِنْ بين الأقوالِ، وفيه تفاصيلُ خبرِ إبراهيم عليه السلام، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، وابنِ إسحاقَ (ت: 150)، وأنَّ ذلك على ظاهرِه، دون باقي الأقوالِ التي صرفَت ذلك إلى معنى الإنكارِ أو التَّعجُّبِ أو غيرِهما.

سابعاً: شروطُ الاستدلالِ بما تُباحُ روايتُه مِنْ الأخبارِ الإسرائيليّةِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) تتلخَّصُ في ثلاثةِ شروطٍ، هي:

الأوَّلُ: أن يحتملَه ظاهرُ لَفظِ الآيةِ، بمعنى: ألّا يوجدَ في تركيبِ الآيةِ ما يمنَعُ مِنه.

الثّاني: ألّا يُعارِضَ نَصّاً شرعيّاً، فإذا جاءَ النَّصُّ الشَّرعيُّ مِنْ الكتابِ أو السُّنَّةِ الثّابتةِ بخلافِه، حكَمنا ببُطلانِ ما خالَفَ النَّصَّ مِنْ ذلك الخبَرِ.

(1)

جامع البيان 13/ 351.

(2)

جامع البيان 9/ 361.

ص: 531

الثّالثُ: أن يكونَ مُمكِناً عقلاً، غيرَ مُستَحيلٍ وُقوعِه، وقد نبَّه قولُه تعالى {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22]، إلى أنَّ للعَقلِ مَدخلًا في مَعرفةِ صوابِ تلك الأخبارِ مِنْ خطئِها، وما يُقبَلُ مِنها وما يُرَدُّ، قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنه:«أنا مِنْ القَليلِ؛ كانوا سبعةً وثامنُهم كلبُهم»

(1)

؛ وذلك أنَّه سكتَ عن العدَدِ الثَّالثِ، ولم يُبطِلْه كما أبطلَ الأوَّلَيْن. وهذا إنَّما يُعلَمُ بطريقِ العقلِ.

(2)

وقد نَصَّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) على تلك الشُّروطِ في قولِه تعالى {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36]، فقالَ: «فأمّا سببُ وصولِه إلى الجنَّةِ حتى كلَّمَ آدمَ بعد أن أخرجَه الله مِنها وطردَه عنها، فليس فيما رُويَ عن ابنِ عباسٍ ووَهبِ بن مُنبِّهٍ في ذلك معنىً يجوزُ لذي فَهمٍ مُدافعتُه؛ إذْ كانَ ذلك قولاً لا يدفَعُه عقلٌ، ولا خبرَ يلزَمُ تصديقُه مِنْ حُجَّةٍ بخلافِه، وهو مِنْ الأُمورِ المُمكِنةِ. فالقَولُ في ذلك أنَّه قد وصلَ إلى خطابِهما على ما أخبرَنا الله تعالى ذِكرُه، ومُمكِنٌ أن يكونَ وصلَ إلى ذلك بنحوِ الذي قالَه المُتأوِّلون، بل ذلك -إن شاءَ الله- كذلك؛ لتتابُعِ أقوالِ أهلِ التأويلِ على تَصحيحِ ذلك، وإن كانَ ابنُ إسحاقَ قد قالَ في ذلك .. : الله أعلمُ، أكَما قالَ ابنُ عباسٍ وأهلُ التَّوراةِ، أم خلَصَ إلى آدمَ وزوجتِه بسُلطانِه الذي جعلَ الله له ليَبتليَ به آدمَ وذُرّيَّتَه؟ وأنَّه يأتي ابنَ آدمَ في نومتِه ويقَظَتِه، وفي كلِّ حالٍ مِنْ أحوالِه حتى يَخلُصَ إلى ما أرادَ مِنه

(1)

جامع البيان 15/ 219.

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 367.

ص: 532

حتى يَدعوَه إلى المَعصيَةِ .. ، فالله أعلمُ أيُّ ذلك كانَ فتابا إلى ربِّهما. قالَ أبو جعفرٍ: وليس في يَقينِ ابنِ إسحاقَ -لو كانَ قد أيْقنَ في نَفسِه- أنَّ إبليسَ لم يَخلُصْ إلى آدمَ وزوجتِه بالمُخاطبةِ بما أخبرَ الله عنه أنَّه قالَ لهما وخاطَبَهما به، ما يَجوزُ لذي فَهمٍ الاعتراضُ به على ما وردَ مِنْ القَولِ مُستفيضاً في أهلِ العلمِ، مع دلالةِ الكتابِ على صِحَّةِ ما استفاضَ مِنْ ذلك بينهم = فكيفَ بشَكِّه؟ واللهَ نسألُ التّوفيقَ»

(1)

.

فكلُّ خبرٍ جمعَ تلك الشُّروطَ الثَّلاثةَ صَحَّ الاستدلالُ به في التَّفسيرِ، فإذا كانَ مَنقولاً عن بعضِ السَّلفِ فهي ميزَةٌ فيه مُعتبرَةٌ، فإذا استفاضَ بينهم، أو أجمَعوا على القَولِ به، أو لم يُعرَفْ عنهم سواه = تعيَّنَ تَقديمُه على غيرِه.

ويُلاحظُ في تلك الشُّروطِ مُطابقَتُها لضوابطِ الاحتجاجِ بالخبرِ الضَّعيفِ في دليلِ السُّنَّةِ

(2)

، كما يسلُك ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تَقويَتِها بغيرِها مِنْ الأدلَّةِ نفسَ المَنهجِ هنالك

(3)

، وهذا يُشيرُ لمعنى التَّشابُه بينهما الذي سبقَ ذكرُه عن البِقاعيّ (ت: 885).

(4)

ويتبيَّنُ مِمّا سبقَ أيضاً أنَّه: لا يُشترطُ لصِحَّةِ الاستدلالِ بالخبرِ الإسرائيليّ قيامُ الدَّليلِ على صِحَّةِ معناه، وإنَّما المَطلوبُ: عدمُ الدَّليلِ على بُطلانِه، فهذا كافٍ لتصحيحِ ذلك الاستدلالِ؛ وذلك أنَّ الشَّرعَ قد دَلَّ على أنَّ فيما يُحدِّثُ به أهلُ الكتابِ حقٌّ، والحقُّ فيه إمّا أن يكونَ

(1)

جامع البيان 1/ 569.

(2)

(ص: 234).

(3)

(ص: 242).

(4)

(ص: 467). وينظر: تفسير ابن كثير 13/ 180.

ص: 533

مَقطوعاً به؛ وذلك لموافقتِه شرعَنا، وإمّا أن يكونَ مُحتمِلاً، وذلك فيما لم يُبطِله شرعُنا، وكلاهما في دائرَةِ القَبولِ؛ أمّا الأوَّلُ فلازِمُ التَّصديقِ؛ لأنَّه حَقٌّ صريحٌ، وأمّا الآخرُ فيُعتبرُ به؛ لاحتمالِ صِدقِه، وعدمِ الدَّليلِ على كَذِبِه. وكلاهما يشتركان في عدمِ الدَّليلِ على البُطلانِ كما هو ظاهرٌ. وذلك هو الشَّأنُ في بابِ الأخبارِ والتَّواريخِ عموماً، قالَ الشّافعيُّ (ت: 204) في قولِه صلى الله عليه وسلم: «حَدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرَجَ .. »

(1)

: «المَعنى: حدِّثوا عن بني إسرائيلَ بما لا تعلمون كَذِبَه، وأمّا ما تُجوِّزونَه فلا حرجَ عليكم في التَّحدُّثِ به عنهم»

(2)

، وقالَ ابنُ كثيرٍ (ت: 774): «هو محمولٌ على الإسرائيليّاتِ المَسكوتِ عنها عندنا، فليس عندنا ما يُصَدِّقها ولا ما يُكذِّبها، فيجوزُ روايتُها للاعتبارِ، وهذا هو الذي نستَعمِلُه في كِتابِنا هذا، فأمّا ما شَهِدَ له شَرعُنا بالصِّدقِ فلا حاجةَ بنا إليه؛ استغناءً بما عندنا، وما شَهِدَ له شرعُنا مِنها بالبُطلانِ فذاك مردودٌ لا يجوزُ حكايتُه إلّا على سبيلِ الإنكارِ والإبطالِ»

(3)

.

ثامناً: لا يُلتفَتُ إلى أسانيدِ الأخبارِ الإسرائيليَّةِ أو أحوالِ رُواتِها، وعلى هذا سارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، وقد بيَّنَ ابنُ تيميّةَ (ت: 728) عِلَّةَ ذلك فقالَ: «عُلماءُ الدِّينِ أكثرَ ما يُحرِّرون النَّقلَ فيما يُنقلُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه واجِبُ القَبولِ، أو فيما يُنقَلُ عن الصَّحابةِ، وأمّا ما يُنقَلُ مِنْ الإسرائيليّاتِ ونَحوِها فهم لا يَكتَرثون بضَبطِها، ولا بأحوالِ نَقْلِها؛ لأنَّ أصلَها غيرُ مَعلومٍ، وغايتَها أن تكونَ

(1)

سبقَ تخريجُه (ص: 447).

(2)

فتح الباري 6/ 575.

(3)

البداية والنهاية 1/ 29.

ص: 534

عن واحدٍ مِنْ عُلماءِ أهلِ الكتابِ، أو مَنْ أخذَه عن أهلِ الكتابِ؛ لِما ثَبَتَ في الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ:«إذا حدَّثَكم أهلُ الكتابِ فلا تُصدِّقوهم ولا تُكذِّبوهم؛ فإمّا أن يُحدِّثوكم بباطلٍ فتُصدِّقوهم، وإمّا أن يُحدِّثوكم بحَقٍّ فتُكذِّبوهم»

(1)

(2)

.

تاسعاً: يستدلُّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) بمُجمَلِ الخبرِ الإسرائيليّ على المعاني، وذلك في مواضِعَ كثيرةٍ، مِنها قولُه:«وقولُه {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88]: هذا دُعاءٌ مِنْ موسى، دعا اللهَ على فِرعونَ وملَئِه، أن يُغيِّرَ أموالَهم عن هَيئَتِها، ويَبَدِّلَها إلى غيرِ الحالِ التي هي بها، وذلك نحو قولِه {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47]، يعني به: مِنْ قبلِ أن نُغيِّرَها عن هَيئَتِها التي هي بها .. ، وقد اختلفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك في هذا الموضِعِ، فقالَ جماعةٌ مِنهم فيه مثلَ قولِنا»

(3)

، ثُمَّ أسندَ عن جماعةٍ كثيرةٍ مِنْ السَّلفِ: أنَّ الله تعالى صَيَّرَ أموالَهم بأنواعِها حجارةً، مع تفاوُتِ أقوالِهم في تَفصيلِ ذلك، فمُجملُ هذه الأخبارِ أفادَ تغيُّرَ أموالِهم عن هيئَتِها، وهو ما قصدَه ابنُ جريرٍ مِنْ الاستدلالِ بها للمعنى الذي اختارَه. ومِثلُ ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]، حيث فسَّرَ

(1)

الذي في الصَّحيحِ: «لا تُصَدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تُكَذِّبوهم» . وقد سبقَ تخريجُهما (ص: 447 - 448).

(2)

تلخيص كتاب الاستغاثة 1/ 80. وينظر: تفسير ابن كثير 11/ 302.

(3)

جامع البيان 12/ 263.

ص: 535

الآيةَ بحسبِ ظاهرِ لفظِها، ثُمَّ قالَ:«ذِكرُ مَنْ قالَ ذلك، وذِكرُ السَّببِ الذي مِنْ أَجلِه ذُكرَ أنَّهم بُعِثوا مِنْ رَقدَتِهم حين بُعِثوا مِنها»

(1)

، ثُمَّ أوردَ أخباراً طِوالاً في تفاصيلِ قِصَّتِهم؛ مُستدلّاً بها على مُجملِ المَعنى الذي ذكرَه. ومِثلُ ذلك قولُه:«اختلفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه {وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة: 243]، فقالَ بعضُهم: في العدَدِ، بمعنى جِماعِ (أَلفٍ)»

(2)

، ثُمَّ أوردَ تفاصيلَ أعدادِهم عن جماعةٍ مِنْ السَّلفِ؛ فذكروا: ثلاثةَ آلافٍ، وأربعةَ آلافٍ، وبضعةً وثلاثين ألفاً، ومِنهم مَنْ قالَ: هُمْ أُلوفٌ. وأجمَلَ. ثُمَّ قالَ بعد ذلك: «وأَولى القَولَيْن في تأويلِ قولِه {وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة: 243] بالصَّوابِ، قَولُ مَنْ قالَ: عنى بالأُلوفِ كثرةَ العدَدِ. دون قَولِ مَنْ قالَ: عنى به الائتِلافَ. بمعنى ائتِلافِ قلوبِهم، وأنَّهم خرجوا مِنْ ديارِهم مِنْ غيرِ افتراقٍ كانَ مِنهم ولا تباغُضٍ، ولكن فِراراً؛ إمّا مِنْ الجِهادِ، وإمّا مِنْ الطّاعونِ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ على أنَّ ذلك تأويلُ الآيةِ، ولا يُعارَضُ بالقَولِ الشّاذِّ ما استفاضَ به القَولُ مِنْ الصَّحابةِ والتّابعين»

(3)

، وظاهرٌ مِنْ منهجِه ذلك استدلالُه بمُطلَقِ أقوالِ السَّلفِ على ما يختارُه مِنْ المعاني.

عاشراً: الاستدلالُ ببَعضِ الخبرِ الإسرائيليّ لا يستلزِمُ صِحَّةَ باقيه، فابنُ جريرٍ (ت: 310) يَقصِدُ في بعضِ الأخبارِ إلى الاستشهادِ بجُزءٍ منها دونَ باقيها مِمّا قد يشتَملُ على نكارَةٍ في تفاصيلِها، ومِن شواهدِ ذلك قولُه في قولِه تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]: «العالَمون جَمعُ

(1)

جامع البيان 15/ 196.

(2)

جامع البيان 4/ 413.

(3)

جامع البيان 4/ 423. وينظر: 2/ 340، 10/ 356، 13/ 29.

ص: 536

عالَمٍ .. ، والعالَمُ اسمٌ لأصنافِ الأُمَمِ، وكلُّ صِنفٍ مِنها عالَمٌ، وأهلُ كلِّ قَرنٍ مِنْ كلِّ صِنفٍ مِنها عالَمُ ذلك القَرنِ وذلك الزَّمانِ، فالإنسُ عالمٌ، وكلُّ أهلِ زمانٍ مِنهم عالَمُ ذلك الزَّمانِ، والجِنُّ عالَمٌ، وكذلك سائرُ أجناسِ الخَلقِ .. ، وهذا القَولُ الذي قُلناه قَولُ ابنِ عباسٍ، وسعيدِ بن جُبَيرٍ، وهو معنى قولِ عامَّةِ المُفسِّرين»

(1)

، ثُمَّ ذكرَ أقوالَهم، ومِنها قَولُ أبي العاليةِ (ت: 93): «الإنسُ عالَمٌ، والجِنُّ عالَمٌ، وما سِوى ذلك ثمانيةَ عشَرَ ألفَ عالَمٍ، أو أربعةَ عشَرَ ألفَ عالَمٍ -هو يشُكُّ- مِنْ الملائكةِ على الأرضِ، وللأرضِ أربعُ زَوايا، في كلِّ زاويةٍ ثلاثةُ آلافِ عالَمٍ وخمسُمائةِ عالَمٍ، خلقَهم لعبادتِه»

(2)

، قالَ ابنُ كثيرٍ (ت: 774) بعد أن أوردَه: «وهذا كلامٌ غريبٌ، يحتاجُ مِثلُه إلى دليلٍ»

(3)

، فالشّاهدُ مِنْ قولِ أبي العاليةِ (ت: 93) قَولُه: «الإنسُ عالَمٌ، والجِنُّ عالَمٌ» ، وما بعد ذلك مِنْ تَفصيلٍ غريبٍ لا يؤَثِّرُ على الاستدلالِ به.

(4)

وقد أشارَ المُحقِّقُ محمودُ شاكر (ت: 1418) إلى ذلك المَنهجِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) فقالَ: «تبيَّنَ لي مِمّا راجَعتُه مِنْ كلامِ الطَّبريِّ، أنَّ استدلالَ الطَّبريِّ بهذه الآثارِ التي يَرويها بأسانيدِها، لا يُرادُ به إلّا تحقيقُ معنى لفظٍ، أو بيانُ سياقِ عبارةٍ .. ، وهذا مذهبٌ لا بأسَ به في الاستدلالِ، ومثلُه أيضاً ما يسوقُه مِنْ الأخبارِ والآثارِ التي لا يُشكُّ في ضَعفِها، أو في كَونِها مِنْ الإسرائيليّاتِ، فهو لم يسُقْها لتكونَ مُهيمِنةً

(1)

جامع البيان 1/ 144.

(2)

جامع البيان 1/ 146.

(3)

تفسير القرآن العظيم 1/ 208.

(4)

وينظر: جامع البيان 20/ 92 - 93، 94.

ص: 537

على تفسيرِ آيِ التَّنزيلِ الكريمِ، بل يسوقُ الطَّويلَ الطَّويلَ لبيانِ معنى لفظٍ، أو سياقِ حادثةٍ، وإن كانَ الأثرُ نفسُه مِمّا لا تقومُ به الحُجَّةُ في الدّينِ، ولا في التَّفسيرِ التّامِّ لآيِ كتابِ الله»

(1)

.

حاديَ عشر: يُبيّنُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) ما لا نفعَ فيه مِنْ تحقيقِ الاختلافِ والتَّرجيحِ بين الأخبارِ الإسرائيليّةِ، كما في قولِه:«والصَّوابُ مِنْ القَولِ في تأويلِ قولِه عندنا: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: 73] أن يُقالَ: أمرَهم الله جلَّ ثناؤُه أن يَضربوا القتيلَ ببعضِ البقرَةِ ليَحيا المَضروبُ. ولا دلالةَ في الآيةِ، ولا خبرَ تقومُ به حُجَّةٌ، عن أيِّ أبعاضِها التي أُمرَ القومُ أن يَضربوا القتيلَ به، وجائزٌ أن يكونَ الذي أُمروا أن يَضربوه به هو الفَخذَ، وجائزٌ أن يكونَ ذلك الذَّنبَ، وغُضروفَ الكَتفِ، وغيرَ ذلك مِنْ أبعاضِها. ولا يضُرُّ الجَهلُ بأيِّ ذلك ضَربوا القتيلَ، ولا يَنفعُ العِلمُ به، مع الإقرارِ بأنَّ القَومَ قد ضَربوا القتيلَ ببعضِ البقرةِ بعد ذَبحِها، فأحياه الله»

(2)

، وقولِه عند قولِه تعالى {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114]: «وأمّا الصَّوابُ مِنْ القَولِ فيما كانَ على المائدةِ فأن يُقالَ: كانَ عليها مأكولٌ. وجائزٌ أن يكونَ كانَ سمكاً وخُبزاً، وجائزٌ أن يكونَ كانَ ثَمَراً مِنْ ثمرِ الجَنَّةِ، وغيرُ نافعٍ العلمُ به، ولا ضارٌّ الجهلُ به، إذا أقرَّ تالي الآيةِ بظاهرِ ما احتملَه التَّنزيلُ»

(3)

، وقولِه عن مقدارِ الدَّراهمَ في قولِه تعالى

(1)

جامع البيان 1/ 453 ط/ شاكر.

(2)

جامع البيان 2/ 127.

(3)

جامع البيان 9/ 131.

ص: 538

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]: «وليس في العلمِ بمبلغِ وزنِ ذلك فائدةٌ تَقعُ في دينٍ، ولا في الجَهلِ به دُخولُ ضُرٍّ فيه، والإيمانُ بظاهرِ التَّنزيلِ فَرضٌ، وما عداه فمَوضوعٌ عنّا تكلُّفُ عِلمِه»

(1)

.

ويتبيَّنُ مِمّا سبقَ أنَّ ما لا يَنبغي الاشتغالُ به مِمّا تتخالَفُ فيه الأخبارُ الإسرائيليّةُ هو ما جمعَ الوَصفَيْن الآتيَيْن:

1 -

ما لا فائدةَ في العلمِ به، ومُرادُه الفائدةَ الدّينيَّةَ كما نصَّ عليها.

2 -

ما لا يضُرُّ الجَهلُ به، ومُرادُه الضَّررُ في الدِّينِ، ومِنه ما يلحَقُ ببيانِ المعنى.

ومِن ثَمَّ فكُلُّ معلومةٍ وقعَ فيها الاختلافُ في تلك الأخبارِ، ولا تُضيفُ معنىً مُفيداً لبيانِ الآيةِ، ولا يَؤَثِّرُ الجَهلُ بها على تمامِ بيانِ المَعنى = فلا حاجةَ إلى تَحقيقِها، أو الاشتغالِ بها.

وهذا التَّنبيهُ مِنْ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في ذيلِ بعضِ تلك الأخبارِ الإسرائيليّةِ المُتخالفةِ في بعضِ تفاصيلِها أفادَ أمرَيْن هامَّيْن:

أوَّلَهما: أنَّ ما يقصِدُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى ذِكرِه مِنْ تلك الأخبارِ هو مِمّا فيه فائدةٌ دينيَّةٌ في بيانِ المعاني، وهذا مفهومُ هذه العبارةِ الذي يُطابِقُ نصَّه في غيرِها، وهو الأصلُ الذي جرى عليه في تفسيرِه.

ثانيهما: التَّنبيهُ إلى عدمِ الاشتغالِ، أو الاسترسالِ فيما جاوزَ ما تقعُ به الحاجةُ مِنْ هذه الأخبارِ، وما لا فائِدةَ فيه مِنها وجوداً وعدماً؛ إذْ

(1)

جامع البيان 13/ 59. وينظر: 1/ 556، 698، 16/ 321، 21/ 153، 24/ 50.

ص: 539

النَّفسُ مَيّالةٌ إلى استقصاءِ ما طُويَ مِنْ تلك القَصَصِ والأخبارِ وتتبُّعِ دقائقِها، والمقامُ لا يقتضيه، ولا يُطلَبُ مِثلُ ذلك مِنْ كُتبِ التَّفسيرِ، قالَ ابنُ جُزَيّ (ت: 741): «وأما القَصَصُ فهي مِنْ جُملَةِ العلومِ التي تَضَمَّنَها القرآنُ، فلا بُدَّ مِنْ تفسيرِه، إلا أنَّ الضَّروريَّ مِنه ما يتوقَّفُ التَّفسيرُ عليه، وما سِوى ذلك زائِدٌ مُستَغنىً عنه»

(1)

.

(2)

ولذلك يُشيرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) إلى الغرضِ مِنْ ذكرِ القِصَّةِ، والمَقصدِ مِنها، أثناءَ تعرُّضِه إلى بعضِ ذلك الاختلافِ؛ ليُنبِّه إلى عدمِ الاشتغالِ بما لا أثرَ له في تحقيقِ ذلك المَقصدِ، ويستدلُّ على ذلك بأنَّ الله تعالى لم يَنصِب دلالةً على شَيءٍ مِمّا وقعَ فيه الاختلافُ؛ لو كانَ شيئاً مِنه مَقصوداً، ومِن ذلك قولُه في قولِه تعالى {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]: «ولا بيانَ عندنا مِنْ الوَجه الذي يَصِحُّ مِنْ قِبَلِه البيانُ عن اسمِ قائِلِ ذلك، وجائزٌ أن يكونَ عُزَيْراً، وجائزٌ أن يكونَ إرْمِيا، ولا حاجةَ بنا إلى معرِفةِ اسمِه؛ إذْ لم يكُن المُقصودُ بالآيةِ تعريفَ الخَلقِ اسمَ قائِلِ ذلك، وإنَّما المَقصودُ بها تعريفُ المُنكرين قُدرةَ الله على إحيائِه خلقَه بعد مماتِهم .. ، ولو كانَ المَقصودُ بذلك الخبرَ عن اسمِ قائِلِ ذلك لكانَت الدَّلالَةُ مَنصوبةً عليه نَصباً يَقطَعُ العُذرَ، ويُزيلُ الشَّكَّ، ولكنَّ القَصدَ كانَ إلى ذَمِّ

(1)

التّسهيل 1/ 17. وينظر: تفسير ابن كثير 9/ 411، 13/ 180.

(2)

وبالغَفلةِ عن هذَيْن الأمرَيْن ظَهرَ الخَلَلُ في بعضِ كُتُبِ التَّفسيرِ؛ فاجتهدَ بعضُهم في إخلاءِ تَفسيرِه مِنْ تلك الأخبارِ جُملةً؛ وشَحنَ بها آخرون تفاسيرَهم، ومقامُ العَدلِ والإنصافِ فيما بينهما؛ فلا تُؤخَذُ جُملةً، ولا تُرفَضُ جُملةً كذلك، بل يُؤخَذُ مِنها ويُترَكُ ما دعَت إليها الحاجةُ.

ص: 540

قِيلِه، فأبانَ ذلك جلَّ ثناؤُه لخَلقِه»

(1)

، ثُمَّ ذكرَ اختلافَهم في تعيينِ القريَةِ في نَفسِ الآيةِ، وقالَ:«والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك كالقَولِ في اسمِ القائِلِ: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]، سواءً لا يَختلِفان»

(2)

.

ثانيَ عشر: عند اختِلافِ الأخبارِ الإسرائيليّةِ فإنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) يقبلُ ما اتَّفقَت عليه، ثُمَّ يأخذُ بالظّاهرِ العامِ، مع تجويزِ ما جاءَت به؛ امتِثالاً لأمرِ الشَّرعِ، وعدمِ الدَّليلِ على بُطلانِها. ومِن شواهدِ ذلك قولُه في قولِه تعالى {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة: 30]: «وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أن يُقالَ: إنَّ الله عزَّ ذِكرُه قد أخبرَ عن القاتلِ أنَّه قتلَ أخاه، ولا خبرَ عندنا يَقطَعُ العُذرَ بِصِفةِ قَتلِه إيّاه، وجائزٌ أن يكونَ على نَحوِ ما قد ذكرَ السُّدّيُّ في خَبرِه، وجائزٌ أن يكونَ كانَ على ما ذكرَه مُجاهدٌ، والله أعلَمُ أيُّ ذلك كانَ، غيرَ أنَّ القتلَ قد كانَ، لا شَكَّ فيه»

(3)

، وقولُه في قولِه تعالى {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134]: «وأَولى القَولَيْن بالصَّوابِ في هذا المَوضِعِ أن يُقالَ: إنَّ الله تعالى ذِكرُه أخبرَ عن فِرعونَ وقومِه أنَّهم لمّا وقعَ عليهم الرِّجزُ -وهو: العذابُ والسَّخَطُ مِنْ الله عليهم- فزِعوا إلى موسى بمَسألَتِه ربَّه كَشْفَ ذلك عنهم، وجائزٌ أن يكونَ ذلك الرِّجزُ كانَ الطّوفانَ والجرادَ والقُمَّلَ والضَّفادعَ والدَّمَ؛ لأنَّ كلَّ ذلك كانَ عذاباً عليهم. وجائزٌ أن يكونَ ذلك الرِّجزُ كانَ طاعوناً، ولم يُخبِرنا الله أيَّ ذلك

(1)

جامع البيان 4/ 581.

(2)

جامع البيان 4/ 584.

(3)

جامع البيان 8/ 339.

ص: 541

كانَ، ولا صَحَّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأيِّ ذلك كانَ خبرٌ فنُسلِّمَ له. فالصَّوابُ أن نقولَ فيه كما قالَ الله جلَّ ثناؤُه {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134]. فلا نتعدّاه إلّا بالبَيانِ الذي لا تمانُعَ فيه بين أهلِ التأويلِ»

(1)

.

ومَنهجُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في هذا مِمّا نبَّهَ إليه القُرآنُ في مِثلِ ذلك

(2)

؛ ففي قولِه تعالى {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، إباحةٌ لحكايةِ خلافِهم فيما اختلَفوا فيه مِنْ ذلك. ثُمَّ في قولِه تعالى بعد ذلك {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف: 22]، رَدُّ العلمِ إلى عالِمِه سُبحانَه، وعدمُ الجَزمِ بما يترجَّحُ عندك مِنْ أخبارِهم، أو الجَزمُ ببُطلانِ غيرِ ما ترجِّحُه بلا بَيِّنةٍ. كما أفادَ قولُه تعالى لنَبيِّه صلى الله عليه وسلم عن عِدَّةِ أصحابِ الكَهفِ:{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22]، فلا يَصِحُّ المِراءُ فيما تخالَفَ مِنْ تلك الأخبارِ مِمّا لم يَأتِ به دليلُ النَّقلِ الثّابتِ، ولا يُقدَّمُ قولٌ مِنها أو يؤَخَّرُ آخرُ بغيرِ دليلٍ، وإلّا كانَ مِراءً مَذموماً.

وصنيعُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) هذا يُفيدُ أنَّ ما اجتمعَت عليه تلك الأخبارُ أقوى وأقربُ مِمَّا سواه، وذلك صَحيحٌ، وليست قوَّتُها مِنْ قبيلِ قوَّةِ المُرسلِ إذا تعدَّدت طُرُقُه مِنْ غيرِ مواطَأةٍ أو اتِّفاقٍ؛ لأنَّ مُنتهاها لا يُقطَعُ بصِحَّةِ خبرِه مهما تعدَّدَت الطُّرقُ إليه، ولكنَّ قوَّتَها في معنى قبولِ السَّلفِ لمعناها، حين تتوارَدُ بها أقوالُهم، وتُكرِّرُها رواياتُهم. وكذلك في صِحَّةِ نَقلِها عن السَّلفِ جُملةً، ولهذا ميزتُه التي ذكرناها سابقاً.

(1)

جامع البيان 10/ 401. وينظر: 1/ 697، 2/ 81، 4/ 472، 477، 10/ 135، 18/ 32.

(2)

ينظر: جامع البيان 15/ 218 - 222، ومجموع الفتاوى 13/ 367.

ص: 542

ثالثَ عشَرَ: لا تُردُّ الأخبارُ الإسرائيليّةُ إلا بالدَّليلِ المُعتبَرِ؛ لا بالتَّشَهّي، ولا بما يُظَنُّ دليلاً، وعلى هذا سارَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه، بل نَصَّ على معنى ذلك في قولِه عند قولِه تعالى {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]: «جائزٌ أن تكونَ تلك البَقيَّةُ العصا، وكِسَرَ الألواحِ، والتَّوراةَ، أو بعضَها والنَّعلَيْن، والثّيابَ، والجهادَ في سبيلِ الله. وجائزٌ أن يكونَ بعضَ ذلك، وذلك أمرٌ لا يُدرَكُ عِلمُه مِنْ جِهةِ الاستِخراجِ ولا اللُّغةِ، ولا يُدرَكُ عِلمُ ذلك إلا بخبَرٍ يُوجِبُ عنه العِلمَ، ولا خبرَ عند أهلِ الإسلامِ في ذلك للصِّفةِ التي وصَفْنا، وإذْ كانَ كذلك فغيرُ جائزٍ فيه تَصويبُ قَولٍ وتَضعيفُ آخرَ غيرِه، إذْ كانَ جائزاً فيه ما قُلنا مِنْ القَولِ»

(1)

.

وفي هذا السّياقِ يُبيِّنُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أنَّ ردَّ بعضِهم لبعضِ الأخبارِ الإسرائيليّةِ لا وجهَ له -وعلى الأخَصِّ إن شَهِدَ لها شاهِدٌ-، وإنَّما مَبعَثُه الرَّأيُ بلا حُجَّةٍ مُعتبَرَةٍ، والجَهلُ بقَدرِ أقوالِ السَّلفِ، ومِن ذلك قولُه عند قولِه تعالى {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]: «وأنكرَ قَومٌ مِنْ غيرِ أهلِ الرِّوايةِ هذا القَولَ الذي رُويَ عن ابنِ عباسٍ، وعمَّن رُويَ عنه؛ مِنْ أنَّ إبراهيمَ قالَ للكوكبِ أو القمرِ:{هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]

(2)

. وقالوا: غيرُ جائزٍ أن يكونَ لله نبيٌّ ابتَعثَه بالرِّسالةِ، أتى عليه وَقتٌ مِنْ الأوقاتِ وهو بالِغٌ إلّا وهو لله

(1)

جامع البيان 4/ 477.

(2)

أي على ظاهرِ اللَّفظِ، والذي أيَّدَه بتفاصيلِ الخبرِ الإسرائيليِّ، كما ذكرَه عنهم في 9/ 356.

ص: 543

موحِّدٌ، وبه عارفٌ، ومِن كلِّ ما يُعبَدُ مِنْ دونِه بريءٌ. قالوا: ولو جازَ أن يكونَ قد أتى عليه بعضُ الأوقاتِ وهو به كافرٌ، لم يَجُزْ أن يختصَّه بالرِّسالةِ .. ، وزَعموا أنَّ خبرَ الله عن قيلِ إبراهيمَ عند رؤيَتِه الكوكبَ، أو القمرَ، أو الشَّمسَ:{هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]. لم يَكُنْ لجَهلِه بأنَّ ذلك غيرُ جائزٍ أن يكونَ ربَّه، وإنَّما قالَ ذلك على وَجهِ الإنكارِ مِنه أن يكونَ ذلك ربَّه، وعلى العَيبِ لقومِه في عبادتِهم الأصنامَ .. ، وقالَ آخرون مِنهم: بل كانَ ذلك مِنه في حالِ طفولتِه، وقبلَ قيامِ الحُجَّةِ عليه .. ، وقالَ آخرون مِنهم: إنَّما معنى الكلامِ: أهذا رَبّي! على وَجهِ الإنكارِ والتَّوبيخِ؛ أي: ليس هذا رَبّي»

(1)

، ثُمَّ قالَ بعد ذلك:«وفي خبرِ الله تعالى عن قيلِ إبراهيمَ حين أفلَ القَمرُ: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77] الدَّليلُ على خطأِ هذه الأقوالِ التي قالَها هؤلاءِ القَومُ، وأنَّ الصَّوابَ مِنْ القَولِ في ذلك: الإقرارُ بخبرِ الله تعالى ذِكرُه، الذي أخبرَ به عنه، والإعراضُ عمّا عداه»

(2)

.

ومِثلُ ذلك قولُه في قولِه تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، حيث ذكرَ أقوالَ أهلِ التأويلِ في مبلَغِ هَمِّ يوسفَ عليه السلام؛ وأنَّه جلسَ مِنها مجلِسَ الرَّجلِ مِنْ زوجتِه

(3)

، ثُمَّ ذكرَ توجيهَ أهلِ العلمِ لذلك وقالَ: «فإن قالَ قائلٌ: وكيف يَجوزُ أن يوصَفَ يوسفُ بمثلِ هذا، وهو لله نبيٌّ؟! قيلَ: إنَّ أهلَ العلمِ اختلفوا في ذلك؛ فقال بعضُهم: كانَ مَنْ ابتُليَ مِنْ الأنبياءِ بخَطيئَةٍ، فإنَّما ابتلاه الله بها ليكونَ مِنْ الله عز وجل على

(1)

جامع البيان 9/ 359.

(2)

جامع البيان 9/ 361.

(3)

ذكروا ذلك بتفاصيلَ زائدةٍ عن ظاهرِ معنى اللَّفظِ، تُنظر في 13/ 82 - 85.

ص: 544

وَجلٍ إذا ذكرَها، فيَجِدَّ في طاعتِه إشفاقاً مِنها، ولا يتَّكلُ على سعةِ عفوِ الله ورحمتِه. وقالَ آخرون: بل ابتلاهم الله بذلك ليُعرِّفَهم موضِعَ نعمتِه عليهم؛ بصَفحِه عنهم، وتَركِه عقوبتَهم عليه في الآخرةِ. وقالَ آخرون: بل ابتلاهم بذلك ليَجعلَهم أئِمَّةً لأهلِ الذُّنوبِ في رجاءِ رحمةِ الله، وتَركِ الإياسِ مِنْ عَفوِه عنهم إذا تابوا.

وأمّا آخرون مِمَّنْ خالفَ أقوالَ السَّلفِ، وتأوَّلوا القرآنَ بآرائِهم، فإنَّهم قالوا في ذلك أقوالاً مُختلفةً؛ فقالَ بعضُهم: معناه: ولقد همَّت المرأةُ بيوسفَ، وهَمَّ بها يوسُفُ أن يَضرِبَها، أو ينالَها بمَكروهٍ؛ لهمِّها به مِمّا أرادَته مِنْ المَكروهِ، لولا أنَّ يوسُفَ رأى بُرهانَ رَبِّه، وكفَّه ذلك عمّا هَمَّ به مِنْ أذاها .. ، وقالَ آخرون مِنهم: معنى الكلامِ: ولقد همَّت به، فتناهى الخَبَرُ عنها، ثُمَّ ابتُدئَ الخبرُ عن يوسفَ، فقيلَ: وهمَّ بها يوسُفُ لولا أن رأى بُرهانَ رَبِّه. كأنَّهم وجَّهوا معنى الكلامِ إلى أنَّ يوسُفَ لم يَهُمَّ بها، وأنَّ الله إنَّما أخبرَ أنَّ يوسُفَ لولا رؤيَتُه بُرهانَ رَبِّه لهَمَّ بها، ولكنَّه رأى بُرهانَ رَبِّه فلم يَهُمَّ بها»

(1)

، ثُمَّ قالَ:«ويُفسِدُ هذين القَولَيْن أنَّ العربَ لا تُقَدِّمُ جوابَ (لولا) قبلَها، لا تَقولُ: لقد قُمتُ لولا زيدٌ. وهي تريدُ: لولا زيدٌ لقد قُمتُ. هذا مع خِلافِهما جميعَ أهلِ العلمِ بتأويلِ القرآنِ، الذين عنهم يُؤخذُ تأويلُه»

(2)

.

ويحسنُ التَّنبيهُ إلى أنَّ مِنْ أسبابِ الخطأِ في قبولِ الأخبارِ الإسرائيليّةِ ورَدِّها ما هو راجِعٌ إلى قُدرةِ المُفسِّرِ على تمييزِ ما يُقبلُ مِنها

(1)

جامع البيان 13/ 85.

(2)

جامع البيان 13/ 86. وينظر: 16/ 377.

ص: 545

وما يُردُّ، وفي قولِه تعالى {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22]، بعد ذِكرِ عِدَّةِ أصحابِ الكَهفِ، ما يُشيرُ إلى أنَّ مَنْ يُميِّزون صوابَ تلك الأخبارِ مِنْ خطئِها قليلٌ؛ لأنَّ قَدراً مِنْ تلك المَعرفةِ لا يتأتّى بسلامةِ النَّظَرِ، وسَعَةِ الاطِّلاعِ فحَسبُ؛ وإنَّما -مع ذلك- بقوَّةِ الفَهمِ، ودِقَّةِ الاستنباطِ، كالذي كانَ مِنْ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، حين قالَ في هذا المَوضِعِ:«أنا مِنْ القَليلِ»

(1)

.

رابعَ عشَرَ: يُصدِّرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) الأخبارَ الإسرائيليّةَ بصيغةِ المَبني لغيرِ المَعلومِ: (ذُكرَ، قِيلَ، رُويَ)؛ لتمييزِها عن غيرِها مِنْ الأخبارِ المأثورةِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو عن السَّلفِ مِمّا روَوه مِنْ غيرِ تلك الأخبارِ، ولم يَشُذَّ عن ذلك إلا النَّادرُ مِنْ المواضِعِ.

ومِن الأمثلةِ على طريقةِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) تلك قولُه في قولِه تعالى {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء: 58]: «وقولُه {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء: 58]. يقولُ: إلّا عظيماً للآلِهةِ. فإنَّ إبراهيمَ لم يَكسِره، ولكنَّه -فيما ذُكرَ- علَّقَ الفَأسَ في عُنُقِه»

(2)

، وقولُه:«القَولُ في تأويلِ قولِه تعالى {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]. وهذا مثلٌ ضرَبَه الخَصمُ المُتسَوِّرون على داودَ محرابَه له؛ وذلك أنَّ داودَ كانَت له -فيما قِيلَ- تِسعٌ وتِسعون امرأةً، وكانَت للرَّجُلِ الذي أغْزاه حتى قُتِلَ امرأةٌ واحِدَةٌ، فلمّا قُتلَ نكحَ -فيما ذُكرَ- داودُ امرأتَه، فقالَ له أحدُهما: إنَّ هذا أخي: على ديني»

(3)

،

(1)

جامع البيان 15/ 219.

(2)

جامع البيان 16/ 296.

(3)

جامع البيان 20/ 57.

ص: 546

‌البابُ الثّالثُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في ترتيبِ أدلَّةِ المعاني في تفسيرِه.

ويشتملُ على ثلاثةِ فصولٍ:

الفصلُ الأوَّلُ: تقسيمُ أدلَّةِ المعاني في التَّفسيرِ عند ابنِ جريرٍ.

الفصلُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في ترتيبِ أدلَّةِ المعاني في تفسيرِه مِنْ حيث النَّظرُ والاعتبارُ.

الفصلُ الثّالثُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الجمعِ والتَّرجيحِ بين الأدلَّةِ المُتعارضةِ للمعاني التَّفسيريَّةِ.

ص: 549

الفصلُ الأوّل: تقسيمُ أدلَّةِ المعاني في التَّفسيرِ عند ابنِ جريرٍ.

وفيه ثلاثةُ مباحثَ:

وفيه مبحثان:

المبحثُ الأوَّلُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الجمعِ بين أدلَّةِ المعاني المُتعارضةِ.

المبحثُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في التَّرجيحِ بين أدلَّةِ المعاني المُتعارضةِ.

وفيه ثلاثةُ مطالب:

المطلبُ الأوَّلُ: متى يُصارُ إلى التَّرجيحِ؟

المطلبُ الثّاني: أنواعُ المُرجِّحاتِ التي استعملَها ابنُ جريرٍ عند التَّعارضِ.

المطلبُ الثّالثُ: خصائصُ المُرجِّحاتِ في التَّفسيرِ.

ص: 551

‌المبحثُ الأوَّلُ: أقسامُ الأدلَّةِ باعتبارِ صِحَّةِ الاستدلالِ بها.

تنقسمُ الأدلَّةُ باعتبارِ صِحَّةِ الاستدلالِ بها إلى قسمَيْن:

الأوَّلُ: أدلَّةٌ مُعتبرَةٌ، يصِحُّ الاستدلالُ بها.

الثّاني: أدلَّةٌ غيرُ مُعتبرَةٍ، ولا يصِحُّ الاستدلالُ بها.

وقد اشتملَ البحثُ على حصرِ جميعِ الأدلَّةِ المُعتبرةِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) في استدلالِه على المعاني في تفسيرِه؛ وهي على الإجمالِ:

1 -

القرآنُ الكريمُ.

2 -

القراءاتُ.

3 -

السُّنَّةُ النبويَّةُ.

4 -

الإجماعُ.

5 -

أقوالُ السَّلفِ.

6 -

لُغةُ العربِ.

7 -

أحوالُ النُّزولِ.

ص: 553

8 -

الرِّواياتُ الإسرائيليّةُ.

9 -

السِّياقُ.

10 -

النَّظائرُ.

11 -

الدَّلالاتُ العقليَّةُ.

وقد اقتصَرْنا في هذا القِسمِ مِنْ الكتابِ على دراسةِ الأدلَّةِ الثَّمانيةِ الأولى (النَّقليَّةِ).

فهذه الأدلَّةُ هي ما يصِحُّ الاستدلالُ بها على المعاني في التَّفسيرِ، ولم يقَع في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) استدلالٌ بغيرِها؛ وذلك أنَّ كُلَّ دليلٍ غيرَها باطلٌ؛ كالأوهامِ والتَّخيُّلاتِ، والرُّؤى والمناماتِ، والجَهليّاتِ التي يُسمّيها أصحابُها عقليّاتٍ، ونَحوِ ذلك مِمّا يجمَعُه مُخالفةُ الشَّرعِ، ومُناقضَةُ العقلِ، مِمّا اشتهرَت به طوائِفُ المُبتدعةِ؛ كالمُعتزلةِ، والفلاسفةِ، والباطنيَّةِ، والصّوفيَّةِ، وأمثالِهم.

فهذا النَّوعُ لا يصِحُّ الاستدلالُ به مُطلقاً؛ لعدمِ الدَّليلِ على صِحَّةِ الاحتجاجِ به، ولقيامِ الدَّليلِ المُعتبرِ على بُطلانِ الاحتجاجِ به في شيءٍ مِنْ دينِ الله تعالى.

أمّا المعاني التي يقعُ الاستدلالُ لَها بهذا النَّوعِ مِنْ الأدلَّةِ الباطلةِ فلا يطَّرِدُ حُكمُها في الصِحَّةِ أو البُطلان؛ إذْ لا تلازُمَ بين بُطلانِ الدَّليلِ في نَفسِه وفسادِ المَدلولِ، وقد وضَّحَ ذلك ابنُ تيميّة (ت: 728) فقالَ عن الاختلافِ الذي يقعُ مِنْ جِهةِ الاستدلالِ في التَّفسيرِ: «فهذا أكثرُ ما فيه الخطأُ مِنْ جهتَيْن .. ، إحداهما: قَومٌ اعتقدوا معانيَ ثُمَّ أرادوا حملَ ألفاظِ القرآنِ عليها. والثّانيةُ: قَومٌ فسَّروا القرآنَ بمُجرَّدِ ما

ص: 554

يسوغُ أن يُريدَه بكلامِه مَنْ كانَ مِنْ النّاطقين بلُغةِ العربِ؛ مِنْ غيرِ نظرٍ إلى المُتكلِّمِ بالقرآنِ، والمُنزَلِ عليه، والمُخاطبِ به .. ، والأوَّلون صِنفان:

1 -

تارةً يَسْلبون لفظَ القرآنِ ما دلَّ عليه وأُريدَ به.

2 -

وتارةً يَحْملونَه على ما لم يدُلَّ عليه ولم يُرَدْ به.

وفي كلا الأمرَيْن قد يكونُ ما قصَدوا نفيَه أو إثباتَه مِنْ المَعنى باطِلاً؛ فيكون خطؤُهم في الدَّليلِ والمَدلولِ، وقد يكون حقّاً فيكونُ خطؤُهم في الدَّليلِ لا في المَدلولِ»

(1)

، ثُمَّ فصَّلَ ذلك فقالَ: «فالذين أخطئوا في الدَّليلِ والمَدلولِ -مثلُ طوائِفَ مِنْ أهلِ البِدعِ- اعتقدوا مَذهباً يُخالِفُ الحقَّ الذي عليه الأُمَّةُ الوَسَطُ الذين لا يجتمعون على ضَلالةٍ؛ كسلفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِها، وعَمدوا إلى القرآنِ فتأوَّلوه على آرائِهم؛ تارةً يستدلّون بآياتٍ على مذهبِهم ولا دلالَةَ فيها، وتارةً يتأوَّلون ما يُخالِفُ مذهبَهم بما يُحرِّفون به الكَلِمَ عن مواضِعِه، ومِن هؤلاءِ فِرَقُ الخوارجِ، والرَّوافضِ، والجَهميَّةِ، والمُعتزلةِ، والقدريَّةِ، والمُرجئةِ، وغيرِهم .. ، وأمّا الذين يُخطئون في الدَّليلِ لا في المَدلولِ فمثلُ كثيرٍ مِنْ الصّوفيَّةِ والوُعّاظِ والفُقهاءِ وغيرِهم؛ يُفسِّرون القرآنَ بمعانٍ صحيحةٍ لكنَّ القرآنَ لا يدُلُّ عليها؛ مثلُ كثيرٍ مِمّا ذكرَه أبو عبد الرَّحمن السُّلمي

(2)

في (حقائقِ التَّفسيرِ). وإن كانَ فيما ذكروه ما هو معانٍ باطلةٍ فإنَّ ذلك يدخلُ

(1)

مجموع الفتاوى 13/ 355.

(2)

محمد بن الحُسين بن محمد الأزديّ النَّيسابوريّ، أبو عبد الرَّحمن السُّلميّ الأُمّ، حافظٌ محدِّثٌ، كبيرُ الصّوفيَّة، صنَّف: حقائق التَّفسير، والتّاريخ، مات سنة (412). ينظر: السّير 17/ 247، وشذرات الذّهب 5/ 67.

ص: 555

في القِسمِ الأوَّلِ؛ وهو الخطأُ في الدَّليلِ والمَدلولِ جميعاً، حيث يكونُ المعنى الذي قصَدوه فاسِداً»

(1)

.

كما أشارَ ابنُ تيميّة (ت: 728) في أثناءِ ذلك إلى أصلٍ عظيمٍ يُعرفُ به الخطأُ في الدَّليلِ قَطعاً، فقالَ:«مَنْ عدلَ عن مذاهبِ الصَّحابةِ والتّابعين وتَفسيرِهم إلى ما يُخالِفُ ذلك كانَ مُخطِئاً في ذلك، بل مُبتَدِعاً، وإن كانَ مُجتهداً مَغفوراً له خطؤُه .. ، فمَن خالَفَ قولَهم، وفسَّرَ القرآنَ بخلافِ تفسيرِهم فقد أخطأَ في الدَّليلِ والمَدلولِ جميعاً»

(2)

.

ومِن ثَمَّ يتبيَّنُ أنَّ جميعَ أدلَّةِ المُبتدعةِ باطلةٌ؛ إمّا مِنْ جِهةِ أصلِ الدَّليلِ إذا خالفَ جنسَ أدلَّةِ السَّلفِ، وإمّا مِنْ جِهةِ منهجِ الاستدلالِ به، وأقوالُ السَّلفِ كما أنَّها حُجَّةٌ قاطِعةٌ في حَصرِ المعاني، فهي كذلك حُجَّةٌ قاطِعةٌ في حَصرِ الأدلَّةِ المُعتبرَةِ؛ فما استَعملَه السَّلفُ مِنْ الأدلَّةِ فصَوابٌ مُعتبَرٌ، وما لَم يستَعمِلوه فخطأٌ لا يُعتبَرُ.

وقد سبقَت الإشارةُ إلى بعضٍ مِنْ أدلَّةِ المُبتدعةِ، وشيءٍ مِنْ منهجِهم في الاستدلالِ؛ مِنْ كلامِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله

(3)

، ومِن قولِه في ذلك: «ولأهلِ هذه المَقالَةِ مسائِلُ فيها تلبيسٌ، كرِهنا ذِكرَها وإطالَةَ الكِتابِ بها وبالجوابِ عنها؛ إذْ لم يكُن قصدُنا في كتابِنا هذا قصدَ الكَشفِ عن تمويهاتِهم، بل قصدُنا فيه البيانُ عن تأويلِ آيِ الفُرقانِ، ولكنَّا ذَكَرنا القَدرَ الذي ذكرنا؛ ليَعلَمَ النَّاظِرُ في كتابِنا هذا أنَّهم لا

(1)

مجموع الفتاوى 13/ 356.

(2)

مجموع الفتاوى 13/ 362.

(3)

(ص: 137، 338).

ص: 556

يرجِعونَ من قَولِهم إلا إلى ما لَبَسَ عليهم الشيطانُ، مِمَّا يَسهُلُ على أهلِ الحَقِّ البيانُ عن فسادِه، وأنَّهم لا يَرجِعون في قَولِهم إلى آيَةٍ مُحكَمَةٍ، ولا روايَةٍ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صحيحَةٍ ولا سَقيمَةٍ، فهُم في الظُّلُماتِ يَخْبِطون، وفي العُمياءِ يترَدَّدون، نعوذُ باللهِ من الحَيْرَةِ والضَّلالَةِ»

(1)

.

(1)

جامع البيان 9/ 468.

ص: 557

‌المبحثُ الثّاني: أقسامُ الأدلَّةِ باعتبارِ أصلِها ومصدرِها.

تنقسمُ الأدلَّةُ باعتبارِ أصلِها ومَصدرِها إلى قسمَيْن:

الأوَّلُ: الأدلَّةُ النَّقليَّةُ.

الثّاني: الأدلَّةُ العَقليَّةُ.

أمّا الأدلَّةُ النَّقليَّةُ فهي التي مصدرُها النَّقلُ، وتشملُ ثمانيةَ أنواعٍ مِنْ الأدلَّةِ؛ وهي:

1 -

القرآنُ الكريمُ.

2 -

القراءاتُ.

3 -

السُّنَّةُ النبويَّةُ.

4 -

الإجماعُ.

5 -

أقوالُ السَّلفِ.

6 -

لُغةُ العربِ.

7 -

أحوالُ النُّزولِ.

8 -

الرِّواياتُ الإسرائيليّةُ.

ص: 558

وأمّا الأدلَّةُ العقليَّةُ فهي التي مَرَدُّها إلى النَّظرِ والاجتِهادِ، وتشملُ ثلاثةَ أنواعٍ مِنْ الأدلَّةِ؛ وهي:

1 -

السِّياقُ.

2 -

النَّظائرُ.

3 -

الدَّلالاتُ العقليَّةُ.

وقد نصَّ ابنُ جرير (ت: 310) على هذه القِسمةِ بقولِه: «كُلُّ معلومٍ للخلقِ من أمرِ الدِّينِ والدنيا لا يخرجُ من أحدِ معنيين: من أن يكون إمَّا معلوماً لهم بإدراكِ حواسِّهم إيَّاه، وإمَّا معلوماً لهم بالاستدلالِ عليه بما أدركته حواسُّهُم»

(1)

، وقد سبقَ تفصيلُ الكلامِ في هذا الوَجهِ مِنْ تَقسيم الأدلَّةِ، وبيانِ عباراتِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في البيانِ عنها، مع إيضاحِ القواعدِ العلميَّةِ المُتعلِّقةِ بهذَيْن الوَجهَيْن مِنْ الأدلَّةِ.

(2)

(1)

التبصير في معالم الدين (ص: 113).

(2)

وذلك في الفصلِ الثّاني مِنْ البابِ الأوَّل (ص: 80).

ص: 559

‌المبحثُ الثّالثُ: أقسامُ الأدلَّةِ باعتبارِ قوَّةِ دلالَتِها.

تنقسمُ الأدلَّةُ باعتبارِ قوَّةِ دلالَتِها إلى قسمَيْن:

الأوَّلُ: الأدلَّةُ القَطعيَّةُ.

الثّاني: الأدلَّةُ الظَّنّيةُ.

أمّا القَطعُ فهو: الحكمُ الجازمُ بالشَّيءِ واعتقادُ أنَّه لا يكونُ في الواقعِ إلا كذلك. والمُرادُ بالأدلَّةِ القَطعيَّةُ: ما حُكمَ جَزماً بثبوتِها ودلالَتِها، فلا يتطرَّقُ إليها احتمالٌ أو شَكٌّ.

(1)

وأمّا الظَّنُّ فهو: الحُكمُ غيرُ الجازمِ، أو: الاعتقادُ الرَّاجحُ، مع احتمالِ نقيضِه في الواقعِ. والمُرادُ بالأدلَّةِ الظَّنيَّةِ: ما كانَت في ثبوتِها أو دلالَتِها راجِحَةً ظاهرةً مِنْ غيرِ جَزمٍ.

(2)

(1)

ينظر: القطع والظنّ عند الأصوليين 1/ 42، والقطعيّةُ من الأدلة الأربعة (ص: 39، 43).

(2)

ينظر: التعريفات (ص: 147)، والقطع والظنّ عند الأصوليين 1/ 99.

ص: 560

ويتعلَّقُ بهذا التَّقسيمِ مسائلُ:

الأولى: أنَّ هذا التَّقسيمَ صحيحٌ موجودٌ، ومُعتبرٌ عند جماهيرِ العُلماءِ، وقد أشارَ إلى بعضِ معناه قولُه تعالى {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]، قالَ ابنُ جريرٍ (ت: 310): «ويعني بالبالِغةِ: أنَّها تبلغُ مُرادَه في ثُبوتِها على مَنْ احتجَّ بها عليه مِنْ خَلقِه، وقَطعِ عُذرِه إذا انتهَت إليه فيما جُعلَت حُجَّةً فيه»

(1)

، كما نصَّ عليه أهلُ العلمِ في كثيرٍ مِنْ كلامِهم، ومِنه قولُ الشّافعي (ت: 204): «العلمُ عِلمان: علمُ عامَّةٍ لا يسَعُ بالِغاً غيرَ مَغلوبٍ على عَقلِه جَهلُه .. ، مثلُ: الصَّلواتِ الخَمسِ، وأنَّ لله على النّاسِ صومَ شهرِ رمضان، وحجَّ البيتِ إذا استطاعوه .. ، وهذا الصِّنفُ كُلُّه مِنْ العلمِ موجودٌ نَصّاً في كتابِ الله، وموجوداً عامّاً عند أهلِ الإسلامِ، يَنقُلُه عوامُّهم عمَّن مضى مِنْ عوامِّهم، يَحكونَه عن رسولِ الله، ولا يتنازَعون في حِكايتِه ولا وجوبِه عليهم؛ وهذا العلمُ العامُّ الذي لا يُمكنُ فيه الغَلَطُ مِنْ الخبرِ، ولا التأويلُ، ولا يَجوزُ فيه التَّنازعُ»

(2)

، ثُمَّ قالَ عن الوَجهِ الثّاني:«ما ينوبُ العبادَ مِنْ فروعِ الفرائضِ، وما يُخَصُّ به مِنْ الأحكامِ وغيرِها، مِمّا ليس فيه نصُّ كتابٍ، ولا في أكثرِه نَصُّ سُنَّةٍ، وإن كانَت في شيءٍ مِنه سُنَّةٌ فإنَّما هي مِنْ أخبارِ الخاصَّةِ لا أخبارِ العامَّةِ، وما كانَ مِنه يحتملُ التأويلَ ويُستَدرَكُ قياساً»

(3)

، وقالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «الصَّحيحُ أنَّ المسائلَ تنقسِمُ إلى ما يُقطَعُ مِنه بالإصابةِ، وإلى ما لا ندري أصابَ الحَقَّ أم أخطأَ، بحسبِ

(1)

جامع البيان 9/ 653. وينظر: الجامع لأحكام القرآن 9/ 102، وتفسير ابن كثير 3/ 7.

(2)

الرِّسالة (ص: 357).

(3)

الرِّسالة (ص: 359). وينظر: التقريب والإرشاد 1/ 221.

ص: 561

الأدلَّةِ، وظُهورِ الحُكمِ للمُناظِرِ، ولا أظنُّ يُخالفُ في هذا مَنْ فَهِمَه»

(1)

، وقالَ ابنُ القيِّم (ت: 751): «إن ألفاظَ القرآنِ والسُّنَّةِ ثلاثةُ أقسامٍ: نُصوصً لا تحتملُ إلّا معنىً واحداً. وظواهِرُ تحتملُ غيرَ معناها احتمالاً بعيداً مَرجوحاً. وألفاظٌ تحتاجُ إلى بيانٍ، فهي بدون البيانِ عُرضةٌ للاحتمالِ»

(2)

، وقالَ الشّاطبي (ت: 790): «كلُّ دليلٍ شَرعيٍّ إمّا أن يكونَ قَطعيّاً أو ظَنيّاً»

(3)

.

وهذا المَذهبُ الحَقُّ وسطٌ بين مَنْ يَنفي الظَّنَّ في الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ، ويرى أنَّ جميعَها قطعيٌّ، وما لا يُفيدُ العلمَ القَطعيَّ فليس مِنها؛ كبعضِ المُعتزلةِ والإماميَّةِ والظّاهريَّةِ

(4)

، وبين مَنْ يَنفي القَطعَ عن الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ السَّمعيَّةِ، ويرى أنَّ جميعَها ظَنّيٌّ، وليس فيها ما يُفيدُ القطعَ مُطلقاً؛ وهو مَنسوبٌ لبعضِ المُتكلِّمين

(5)

. والصَّوابُ «أنَّ الأدلَّةَ السَّمعيَّةَ (النَّقليَّةَ اللفظيَّةَ) مِنها القَطعيُّ الذي يُفيدُ اليَقينَ ولا مجالَ فيه للاحتمالاتِ، بل يحتَفُّ به ما يَدفعُها، ويَسلمُ الدَّليلُ خالِصاً للقَطعيَّةِ، وأنَّ القَولَ بأنَّ الأدلَّةَ السَّمعيَّةَ كلَّها ظنّيَّةٌ، والقَولَ بأنَّها كلَّها قَطعيَّةٌ = قولان ضَعيفان»

(6)

.

وهذا التَّفاوتُ في دلالةِ الأدلَّةِ على المعاني في القوّةِ والوضوحِ موجودٌ وظاهرٌ عند ابنِ جرير (ت: 310) في تفسيرِه، فمن الأدلَّةِ ما يصِفُه

(1)

المسودة 2/ 907. وينظر: مجموع الفتاوى 11/ 335، 13/ 118.

(2)

الصواعق المرسلة 2/ 670.

(3)

الموافقات 3/ 184.

(4)

ينظر: الإحكام، لابن حزم 1/ 170، وشرح مختصر الروضة 3/ 603.

(5)

ينظر: الصواعق المرسلة 2/ 633، وشرح الكوكب المنير 1/ 292.

(6)

القطعيَّة من الأدلة الأربعة (ص: 81)، وينظر: القطع والظَّنُّ عند الأصوليين 1/ 158.

ص: 562

ب: (أبينِ الدَّلالةِ، وأوضحِ الدَّلالةِ، وأوضحِ الدَّليلِ، والدَّلالةِ الواضِحةِ)، ومنها دونَ ذلك

(1)

.

كما أنَّ هذا التَّقسيمَ مُعتبرٌ عند ابنِ جرير (ت: 310) في الأدلَّةِ على العمومِ، وفي كلِّ دليلٍ مِنها على الخصوصِ؛ فلا يتقدَّمُ دليلَ الإجماعِ عنده دليلٌ؛ لقطعيَّتِه في الثُّبوتِ والدَّلالةِ، ثُمَّ يليه دليلُ القرآنِ؛ لقطعيَّةِ ثبوتِه، ثُمَّ دليلُ السَّنَّةِ والقراءاتِ، ثُمَّ أقوالِ السَّلفِ مِنْ أهلِ التأويلِ، فدليلُ اللُّغةِ، فأحوالُ النُّزولِ، ثُمَّ باقي الأدلَّةِ.

وفي داخلِ كُلِّ دليلٍ يكونُ التَّفاوتُ كذلك مِنْ هذا البابِ؛ فالإجماعُ القَطعيُّ مُقدَّمٌ على الظَّنّيِّ، ونصُّ القرآنِ مقدَّمٌ على الظّاهرِ المُحتملِ، وكذا نصُّ السُّنَّةِ، والسُّنَّةُ المُتواترةُ أرجحُ مِنْ الآحادِ، والقراءاتُ المتواترةُ أرجحُ مِنْ الشّاذَّةِ، والمَشهورُ مِنْ أقوالِ السَّلفِ مُقدَّمٌ على غيرِه، وقولُ الواحدِ مِنهم مِنْ طُرُقٍ أرجحُ مِنْ طَريقٍ واحدٍ، والمَشهورُ والغالبُ مِنْ لُغةِ العربِ أرجحُ مِنْ غيرِه، وسببُ النُّزولِ الصَّريحُ أَولى مِنْ غيرِ الصَّريحِ، وما اشتهرَ مِنْ أخبارِ بني إسرائيلَ عن أهلِ التأويلِ مِنْ السَّلفِ أرجحُ مِنْ سواه، وما كثُرَت نظائِرُه، وظهرَ وَجهُ ارتباطِه يتقدَّمُ على ما قلَّ نظيرُه، أو خَفيَ معناه المُشتركُ، والسّياقُ الأقربُ أرجحُ دلالةً مِنْ الأبعدِ، ونحوِ ذلك مِمّا يقعُ التَّفاوتُ فيه مِنْ جهتَيْ الدَّلالةِ والثُّبوتِ.

الثّانيةُ: أنَّ هذا التَّقسيمَ يُفيدُ في تقديمِ الدَّليلِ في الاستدلالِ، وعند التَّعارضِ، والتَّرجيحِ، ونحوِ ذلك، ولا أثرَ له في وجوبِ العمل

(1)

ينظر: جامع البيان 4/ 118، 195، 396، 7/ 287، 8/ 20، 182، 200، 11/ 432، 21/ 237.

ص: 563

بالدَّليلِ، إذْ كلُّ ما ثبتَ دليلاً شرعيّاً وجبَ العملُ به قطعيّاً كانَ أو ظنيّاً ظاهراً راجِحاً. ومِن ثَمَّ قرَّرَ العلماءُ أنَّ الأدلَّةَ الشَّرعيَّةَ النَّقليَّةَ تُفيدُ العلمَ قطعيَّةً كانَت أو ظنيَّةً؛ أمّا القَطعيَّةُ فتُفيدُ العلمَ باطِّرادٍ، «وهذا مِمّا لا خلافَ فيه بين العلماءِ في الجُملةِ»

(1)

، ويجبُ اعتقادُ مدلولِها علماً وعملاً، ولا يسوغُ فيها الاختلافُ، قالَ الشّافعي (ت: 204): «أمّا ما كانَ نصَّ كتابٍ بيِّنٍ، أو سُنَّةٍ مُجتمَعٍ عليها، فالعُذرُ فيها مَقطوعٌ، ولا يسَعُ الشَّكُّ في واحدٍ مِنهما، ومَن امتنعَ مِنْ قبولِه استُتيبَ»

(2)

، وقالَ أيضاً:«كلُّ ما أقامَ الله به الحُجَّةَ في كتابِه، أو على لِسانِ نبيِّه مَنصوصاً بيِّناً = لم يَحلَّ الاختلافُ فيه لمَن علِمَه»

(3)

.

وأمّا الظَّنيَّةُ فتُفيدُ العلمَ بما ينضَمُّ إليها مِنْ القرائِنِ الحاليَّةِ؛ كالتَّواتُرِ، وتعدُّدِ الطُّرقِ، وغيرِها، «وهذا الصَّحيحُ الذي عليه أئِمَّةُ السَّلفِ وغيرُهم»

(4)

، قالَ الشّافعي (ت: 204): «فأمّا ما كانَ مِنْ سُنَّةٍ مِنْ خبرِ الخاصَّةِ الذي قد يختلفُ الخبرُ فيه؛ فيكونُ الخبرُ مُحتمِلاً للتأويلِ، وجاءَ الخبرُ فيه مِنْ طريقِ الانفرادِ = فالحُجَّةُ فيه عندي أن يلزمَ العالَمين، حتى لا يكونَ لهم رَدُّ ما كانَ مُنصوصاً مِنه، كما يَلزمُهم أن يقبَلوا شهادَةَ العُدولِ»

(5)

، وقالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «وأمّا القسمُ الثّاني وهو الظّاهرُ، فهذا يجبُ العملُ به في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ باتِّفاقِ

(1)

مجموع الفتاوى 20/ 257.

(2)

الرِّسالة (ص: 460).

(3)

الرِّسالة (ص: 560).

(4)

شرح الكوكب المنير 1/ 292.

(5)

الرِّسالة (ص: 461).

ص: 564

العلماءِ المُعتَبَرين»

(1)

، وقالَ الشّاطبي (ت: 790): «قامَ الدَّليلُ القَطعيُّ على أنَّ الدَّلائلَ الظَّنيَّةَ تجري في فروعِ الشَّريعةِ مَجرى الدَّلائلِ القَطعيَّةِ .. ، فالعملُ على مُقتضى الظَّنِّ صحيحٌ .. ، فإنَّ القَطعَ مع الظَّنِّ مُستويان في الحُكمِ»

(2)

.

الثّالثةُ: أنَّ الحُكمَ بقَطعيَّةِ دليلٍ أو ظَنيَّتِه نِسبيٌّ يتفاوتُ فيه العُلماءُ، قالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «القَطعُ والظَّنُّ يكونُ بحسبِ ما وصلَ إلى الإنسانِ مِنْ الأدلَّةِ، وبحسبِ قُدرتِه على الاستدلالِ، والنّاسُ يختلفون في هذا وهذا، فكونُ المسألةِ قطعيَّةً أو ظنيَّةً ليس هو صِفةً مُلازمةً للقولِ المُتنازَعِ فيه»

(3)

، وقالَ ابنُ القيّم (ت: 751): «كونُ الدَّليلِ مِنْ الأمورِ الظَّنيَّةِ أو القَطعيَّةِ أمرٌ نِسبيٌّ، يختلفُ باختلافِ المُدرِكِ المُستدِلِّ، ليس هو صِفةً للدَّليلِ نَفسِه، فهذا أمرٌ لا يُنازِعُ فيه عاقلٌ»

(4)

.

كما أنَّ درجةَ القطعِ والظَّنِّ في الدَّليلِ الواحدِ تتفاوَتُ في نَفسِ العالِمِ، فتتزايَدُ وتتناقصُ بحسَبِ ما يقومُ بنَفسِ العالِمِ مِنْ الشَّواهدِ والقرائنِ، قالَ أبو يعلى (ت: 458): «الظَّنُّ يتزايَدُ، ويكونُ بعضُ الظَّنِّ أقوى مِنْ بعضٍ»

(5)

، وقالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «العلمُ والتَّصديقُ

(1)

مجموع الفتاوى 20/ 259. ونقلَ الاتَّفاقَ أيضاً السَّرخَسي (ت: 483) في أصولِه 2/ 141.

(2)

الموافقات 1/ 519 - 521.

(3)

مجموع الفتاوى 19/ 211. وينظر: منهاج السنّةِ النّبويّة 5/ 91.

(4)

مختصر الصواعق المرسلة (ص: 576).

(5)

العُدَّة 1/ 83. وينظر: المستصفى 1/ 133.

ص: 565

يتفاضَلُ ويتفاوَتُ كما يتفاضَلُ سائرُ صِفاتِ الحَيِّ»

(1)

؛ ولذلك قد يعرِضُ لكلٍّ مِنهما ما يُصيِّرُه بمنزلةِ الآخرِ.

(2)

الرّابعَةُ: أنَّ مُجرَّدَ ورودِ الاحتمالِ بلا دليلٍ لا أثرَ له في الحُكمِ بقَطعيَّةِ الدَّليلِ أو ظَنيَّتِه، قالَ ابنُ قدامةَ (ت: 620): «لو فُتِحَ بابُ الاحتمالِ لبطلَت الحُجَجُ؛ إذْ ما مِنْ حُكمٍ إلّا يُتصوَّرُ تقديرُ نَسخِه ولم يُنقَلْ، وإجماعُ الصّحابةِ يُحتملُ أن يكونَ واحدٌ مِنهم أضمرَ المُخالفةَ وأظهرَ المُوافقةَ لسبَبٍ، أو رجعَ بعد أن وافقَ، والخبرُ يُحتملُ أن يكونَ كذِباً. فلا يُلتفَتُ إلى هذه الاحتمالاتِ»

(3)

، وقالَ ابنُ تيميّة (ت: 728): «ولا عبرَةَ بالاحتمالِ؛ فإنَّه إذا لم يَنشأ عن دليلٍ لم يُعتبَرْ، وإلا لم يوثَقْ بمَحسوسٍ»

(4)

.

الخامسةُ: أنَّ العلمَ بهذا التَّقسيمِ والإحاطةَ به له أكبرُ الأثرِ في دفعِ التَّعارضِ بين الأدلَّةِ، والتَّرجيحِ بينها، ومِن هذا البابِ ظهرَ أثرُ هذا التَّقسيمِ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله، حيث يعتبرُ قوَّةَ ثُبوتِ الدَّليلِ، وقوَّةَ دلالتِه على المعنى، في الاستدلالِ به على المعاني، ويظهرُ ذلك أكثرَ ما يكونُ في مواضِعِ تعارُضِ الأدلَّةِ، والتَّرجيحِ بينها، على ما سيأتي بيانُه بحولِ الله.

(1)

مجموع الفتاوى 7/ 564.

(2)

ينظر: البرهان 2/ 63، وبدائع الفوائد 3/ 1277، والقطع والظنُّ عند الأصوليين 1/ 137.

(3)

نزهة الخاطر العاطر 1/ 308.

(4)

شرح الكوكب المنير 1/ 292. وينظر: الصواعق المرسلة 2/ 633، والقطع والظنُّ عند الأصوليين 1/ 25.

ص: 566

‌الفصلُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في ترتيبِ أدلَّةِ المعاني في تفسيرِه مِنْ حيث النَّظر والاعتبار.

وفيه مبحثان:

المبحثُ الأوَّلُ: أهميَّةُ ترتيبِ أدلَّةِ المعاني مِنْ حيث النَّظر والاعتبار.

المبحثُ الثّاني: ترتيبُ أدلَّةِ المعاني مِنْ حيث النَّظر والاعتبار عند ابنِ جرير.

ص: 567

‌المبحثُ الأوَّلُ: أهميَّةُ ترتيبِ أدلَّةِ المعاني مِنْ حيث النَّظر والاعتبار.

المُرادُ بترتيبِ الأدلَّةِ: جَعلُ كلِّ دليلٍ في مرتبتِه التي يستحقُّها بوَجهٍ مِنْ الوجوهِ.

(1)

وأدلَّةُ المعاني هي الثَّمانيةُ النَّقليَّةُ: القرآنُ الكريمُ، والقراءاتُ، والسُّنَّةُ النبويَّةُ، والإجماعُ، وأقوالُ السَّلفِ، ولُغةُ العربِ، وأحوالُ النُّزولِ، والرِّواياتُ الإسرائيليّةُ.

والثَّلاثةُ العقليَّةُ: السِّياقُ، والنَّظائرُ، والدَّلالاتُ العقليَّةُ.

وهذه الأدلَّةُ في مرتبةٍ واحدةٍ مِنْ حيث صِحَّةِ الاحتجاجِ بها على المعاني؛ لقيامِ الدَّليلِ المُعتبرِ على حُجيَّتِها، كما أنَّ الأدلَّةَ الشَّرعيَّةَ مِنها مُقدَّمةٌ على غيرِها؛ لما لها مِنْ المَنزلةِ والمَكانةِ.

أمّا ترتيبُها مِنْ حيث النَّظرُ والاعتبارُ فالمقصودُ به: بيانُ ما يُقدَّمُ مِنها عند النَّظرِ للاستدلالِ على المعاني.

(1)

ينظر: شرح مختصر الروضة 3/ 673، وشرح الكوكب المنير 4/ 600.

ص: 569

ومعرفةُ مراتبِ الأدلَّةِ بهذا الاعتبارِ مِنْ الأهميَّةِ بمكانٍ؛ إذْ إنَّ ذلك مِنْ تمامِ عملِ المُجتهدِ النّاظرِ في المعاني، ولا يستقيمُ له استدلالُه إلا بمعرفةِ ما يُقدَّمُ مِنْ الأدلَّةِ وما يُؤخَّرُ، كما أنَّ الإلمامَ بهذه المراتبِ يوصِلُ إلى معرفةِ المعاني مِنْ أقصرِ طريقٍ، ويَسلمُ به المُفسِّرُ مِنْ كثيرٍ مِنْ الخطأِ في الاستدلالِ؛ كتقديمِ ما حقُّه التّأخيرُ مِنْ الأدلَّةِ، والأخذِ بالأضعفِ مع وجودِ الأقوى، «فهذا البابُ مِمّا يتوقَّفُ عليه الاجتهادُ توقُّفُ الشَّيءِ على جُزءِه وشَرطِه»

(1)

؛ ولذلك يُعقِبُ جمهورُ العلماءِ حديثَهم عن الاجتهادِ في كتبِ الأصولِ ببيانِ مراتبِ الأدلَّةِ، والتّعارُضِ، والتَّرجيحِ، في حين يذكرُها بعضُهم بعد مباحثِ الأدلَّةِ؛ لصِلَتِها الوثيقةِ بها.

(2)

(1)

شرح مختصر الروضة 3/ 673. وينظر: نزهة الخاطر العاطر 2/ 394.

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 9، وشرح الكوكب المنير 4/ 599، 600 حاشية رقم (1).

ص: 570

‌المبحثُ الثّاني: ترتيبُ أدلَّةِ المعاني مِنْ حيث النَّظر والاعتبار عند ابنِ جرير.

المنهجُ العامُّ لابنِ جريرٍ (ت: 310) في ترتيبِ الأدلَّةِ عند استِعمالِها في التَّفسيرِ:

يبدأُ بدليلِ اللُّغةِ، ثُمَّ دليلِ النَّقلِ، ثُمَّ دليلِ العقلِ.

وهذا الأكثرُ في إيرادِ أدلَّةِ المعاني عندَ اجتِماعِها، ولهذا الترتيبِ مناسَبَتُه في التَّفسير؛ فإنَّ القرآنَ أُنْزِلَ بلسانِ العربِ، فألفاظُه من ألفاظِها، ومعانِيه من معانِيها، ولا يخرُجُ عن ذلك بحالٍ، فالقَصدُ الأوَّلُ مِنْ تفسيرِ الآيةِ بيانُ معناها في كلامِ العربِ الذي نزَلَ به القرآن، وهذا المُستوى مِنْ البيانِ هو غايةُ ما يصِلُ إليه المُتكلِّمونَ في معاني القرآنِ مِنْ أهلِ اللغةِ، كما في قول ابنِ جريرٍ (ت: 310) في الوجهِ الثالثِ مِنْ وجوهِ تأويلِ القرآنِ: «ما كانَ عِلمُه عند أهلِ اللسانِ الذي نَزَلَ به القرآنُ؛ وذلك عِلمُ تأويلِ غريبِه، وإعرابِه. لا يوصَلُ إلى علمِ ذلك إلا مِنْ قِبَلِهِم»

(1)

.

(1)

جامع البيان 1/ 88.

ص: 571

ثُمَّ يُعقِبُ ابنُ جرير (ت: 310) ذلك بدليلِ الشَّرعِ؛ وما فيه مِنْ نقلٍ للمعنى اللغويِّ، أو تخصيصٍ، وهذا المُستوى مِنْ البيانِ هو خاصَّةُ أهلِ التأويلِ؛ ممَّن جمعوا العلمَ بكلامِ العربِ، ونصوصِ الشَّرعِ وأحكامِه. ومِنه قولُه في الوجهِ الثّاني مِنْ وجوهِ تأويلِ القرآنِ:«ما خَصَّ اللهُ بعِلمِ تأويلِه نبيَّه صلى الله عليه وسلم دونَ سائِرِ أُمَّتِه؛ وهو ما فيه ممَّا بعبادِه إلى عِلمِ تأويلِه الحاجَةُ. فلا سبيلَ لهم إلى عِلمِ ذلك إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لهُم تأويلَه»

(1)

.

ثُمَّ يُتبِعُ ذلك بأدلَّةِ العَقلِ والنَّظرِ، وما فيها مِنْ تأكيدٍ للمعنى الشَّرعيِّ، أو تبيِينٍ للمعنى اللغويِّ، أو تخصيصٍ، أو إبطالٍ لبعضِ المعاني.

كما أنَّ فائدةَ ذلك التَّرتيبِ تظهرُ في أنَّ المعنى إذا بطلَ بدليلِ اللُّغةِ فلا حاجةَ للبَحثِ عمّا يُصحِّحُه في أدلَّةِ النَّقلِ؛ إذْ لا يأتي النَّقلُ بتَصحيحِ معنىً لا تَعرفُه العربُ في كلامِها، وكذا إذا بطلَ المعنى بدليلِ النَّقلِ فلا حاجةَ للبَحثِ عن تَصحيحِه بأدلَّةِ العقلِ؛ إذْ لا يأتي العقلُ بما يُخالفُ الشَّرعَ أو ما اعتبرَه الشَّرعُ مِنْ الأدلَّةِ؛ إذا وقعَ الاستدلالُ بها على الوَجه المُعتبرِ.

ومِن أمثلةِ مَنهجِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في ترتيبِ الأدلَّةِ على ذلك النَّحوِ قولُه عند قولِه تعالى {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3]: «والبَخْعُ هو: القتلُ والإهلاكُ في كلامِ العرب، ومِنه قولُ ذي الرُّمَّةِ

(2)

:

ألا أيُّهذا الباخِعُ الوَجدُ نفسَه

لشيءٍ نَحَتْهُ عن يَديكَ المقادِرُ

(1)

جامع البيان 1/ 88.

(2)

سبقَ تخريجُ البَيْتِ (ص: 149).

ص: 572

وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قالَ أهلُ التأويلِ»

(1)

، وقولُه في قولِه تعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، فبعد أن ذكرَ القَولَيْن فيها: أنَّها بمعنى النَّفي: ما مِنْ مزيدٍ. أو بمعنى: الاستزادةِ. قالَ: «ففي قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تزالُ جهنَّمُ تقولُ: هل مِنْ مزيدٍ»

(2)

دليلٌ واضِحٌ على أنَّ ذلك بمعنى الاستزادةِ لا بمعنى النَّفيِّ؛ لأنَّ قولَه: «لا تزالُ» دليلٌ على اتِّصالِ قَولٍ بعد قَولٍ»

(3)

، فحدَّدَ دليلُ السُّنَّةِ ما هو مُحتمَلٌ لُغةً، ومثلُ ذلك قولُه في قولِه تعالى {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66]: «وأمّا الذي قالَ في تأويلِ ذلك {فَجَعَلْنَاهَا} [البقرة: 66]: يعني الحيتانَ؛ عقوبةً لما بين يدَيْ الحيتانِ مِنْ ذنوبِ القَوْمِ وما بعدها مِنْ ذُنوبِهم. فإنَّه أبعدَ في الانتزاعِ؛ وذلك أنَّ الحيتانَ لم يَجرِ لها ذِكرٌ فيُقالَ: {فَجَعَلْنَاهَا} [البقرة: 66]. فإن ظَنَّ ظانٌّ أنَّ ذلك جائزٌ وإن لم يكُنْ جرى للحيتانِ ذِكرٌ؛ لأنَّ العربَ قد تَكْني عن الاسمِ ولم يَجرِ له ذِكرٌ، فإنَّ ذلك وإن كانَ كذلك فغيرُ جائزٍ أن يُترَكَ المَفهومُ مِنْ ظاهرِ الكِتابِ -والمَعقولُ به ظاهرٌ في الخِطابِ والتَّنزيلِ- إلى باطِنٍ لا دلالةَ عليه مِنْ ظاهرِ التَّنزيلِ، ولا خبرٍ عن الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم مَنقولٍ، ولا فيه مِنْ الحُجَّةِ إجماعٌ مُستفيضٌ»

(4)

، فحكَّمَ المَعقولَ فيما هو مُحتمِلٌ لُغةً.

(1)

جامع البيان 17/ 543.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه 9/ 117 (7384)، ومسلم في صحيحه 6/ 311 (2848).

(3)

جامع البيان 21/ 449.

(4)

جامع البيان 2/ 72. وينظر: 1/ 225، 9/ 345، 12/ 121، 13/ 336، 438، 23/ 164، 24/ 489.

ص: 573

ويشهد لهذا التَّرتيبِ الذي سارَ عليه ابنُ جريرٍ (ت: 310)، الأثرُ المَشهورُ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه، في بيانِ أقسامِ التَّفسيرِ، حيث يقولُ:«التَّفسيرُ على أربعةِ أَوجُهٍ؛ وَجهٌ تَعرفُه العربُ مِنْ كلامِها، وتَفسيرٌ لا يُعذَرُ أحدٌ بجَهالتِه، وتَفسيرٌ يَعلمُه العلماءُ، وتَفسيرٌ لا يعلمُه إلا الله»

(1)

، وقد فسَّرَ ذلك ابنُ جريرٍ (ت: 310)، فبيَّنَ الوَجهَ الأوَّلَ بقولِه:«ما يَعلمُ تأويلَه كلُّ ذي علمٍ باللسانِ الذي نزلَ به القرآنُ؛ وذلك إقامةُ إعرابِه، ومعرفةُ المُسَمَّياتِ بأسمائِها اللازمةِ غيرِ المُشتركِ فيها، والموصوفاتِ بصفاتِها الخاصَّةِ دون ما سواها، فإنَّ ذلك لا يَجهلُه أحدٌ مِنهم»

(2)

، ثُمَّ بيَّنَ ذلك بقولِه:«والموصوفاتِ بصفاتِها الخاصَّةِ دون الواجبِ مِنْ أحكامِها وصِفاتِها وهَيْئاتِها التي خَصَّ الله بعلمِها نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يُدركُ علمُه إلا ببيانِه، دون ما استأثرَ الله بعِلمِه دون خَلقِه»

(3)

.

وبيَّنَ الوَجهَ الذي يَعلمُه العلماءُ، فقالَ:«ممَّا أنزلَ اللهُ من القرآنِ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما لا يوصَلُ إلى عِلمِ تأويلِه إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك تأويلُ جميعِ ما فيهِ من وجوهِ أمرِه؛ واجِبِه ونَدْبِه وإرشادِه، وصنوفِ نَهْيِه، ووظائِفِ حقوقِه، وحدودِه، ومبالِغِ فرائِضِه، ومقاديرِ اللازِمِ بعضَ خلقِه لبعضٍ، وما أشبَه ذلك مِنْ أحكامِ آيِه التي لم يُدرَك علمُها إلا ببيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأمَّتِه، وهذا وجهٌ لا يجوزُ لأحدٍ القولُ فيه إلا ببيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له تأويلَه»

(4)

.

(1)

جامع البيان 1/ 70.

(2)

جامع البيان 1/ 69.

(3)

جامع البيان 1/ 70.

(4)

جامع البيان 1/ 68.

ص: 574

وقالَ عمّا لا يعلَمُه إلا اللهُ مِنْ التَّفسيرِ: «وذلك ما فيه مِنْ الخبرِ عن آجالٍ حادثةٍ، وأوقاتٍ آتيةٍ؛ كوَقتِ قيامِ السّاعةِ، والنَّفخِ في الصّورِ، ونزولِ عيسى بن مريمَ، وما أشبهَ ذلك، فإنَّ تلك أوقاتٌ لا يعلمُ أحدٌ حدودَها، ولا يَعرفُ أحدٌ مِنْ تأويلِها إلا بالخبرِ عن أشراطِها؛ لاستئثارِ الله بعلمِ ذلك على خَلقِه»

(1)

.

ثُمَّ علَّقَ على القسمِ الباقي: (ما لا يُعذَرُ أحدٌ بجَهالتِه)، بقَولِه:«وهذا الوَجهُ الرّابعُ الذي ذكرَه ابنُ عباسٍ مِنْ أنَّ أحداً لا يُعذرُ بجهالَتِه، معنىً غيرُ الإبانةِ عن وجوهِ مطالبِ تأويلِه، وإنَّما هو خبرٌ عن أنَّ مِنْ تأويلِه ما لا يجوزُ لأحدٍ الجَهلُ به»

(2)

؛ لأنَّ هذا النَّوعَ مُنتشرٌ في باقي الأنواعِ وليس قسيماً لها.

وقد يُخالفُ ابنُ جرير (ت: 310) ذلك التَّرتيبَ لغَرَضٍ؛ ومثالُ ذلك تأخيرُه للمعنى اللغويِّ بعدَ ذكرِ أقوالِ السَّلفِ في الآيةِ؛ ليكون أصلاً لِرَدِّ ما خرَجَ عنه من الأقوالِ، وسبيلاً للتأليفِ والجمعِ بينها، لكنَّه يُتبِعُ ذلك بأدلَّةِ النَّقلِ والنَّظرِ؛ سواءً لإبطالِ بعضِ الأقوالِ، أو لتَرجيحِ المعنى المُختارِ، كما في تفسيرِ (الحَصيرِ) في قولِه تعالى {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]، حيثُ ذكر اختلافَ أهلِ التأويلِ، ثُمَّ وجَّهَ أقوالَهُم لغةً، ثُمَّ قالَ:«وأصلُ ذلك كُلِّه واحِدٌ وإنْ اختلفَتْ ألفاظُه»

(3)

، ثُمَّ اختارَ الأشهرَ منهما.

(4)

(1)

جامع البيان 1/ 68.

(2)

جامع البيان 1/ 70.

(3)

جامع البيان 14/ 509.

(4)

جامع البيان 14/ 507 - 510. وينظر: 6/ 699 - 709، 13/ 341، 14/ 295، 16/ 264، 17/ 619.

ص: 575

وإذا أعدنا ترتيبَ الأدلَّةِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) بحسبِ كثرةِ استعمالِها، فسنجِدُه في معنى ترتيبِها عندَه مِنْ حيث النَّظرُ والاعتبارُ، وفي الجدولِ الآتي بيانُ ذلك:

م

الدَّليلُ

مقدارُ الاستدلالِ به

نسبةُ استعمالِه بين الأدلَّةِ

1

أقوالُ السَّلف

5236

48. 1%

2

لغةُ العرب

2183

20. 1%

3

السُّنَّة

527

4. 8%

4

الإجماع

378

3. 5%

5

أحوالُ النزول

360

3. 3%

6

الإسرائيليّات

322

3%

7

القراءات

165

1. 5%

8

القرآن

124

1. 1%

9

الأدلَّةُ العقليَّة

1586

14. 6%

مجموعُ الأدلَّة:

10881

100%

وبالتَّأمُّلِ في هذا التَّرتيبِ تتبيَّنُ جُملَةٌ مِنْ القضايا:

أوَّلُها: أنَّ الأدلَّةَ النَّقليَّةَ (85. 4%) أكثرُ في الاستعمالِ مِنْ مُجملِ الأدلَّةِ العقليَّةِ (14. 6%).

ثانيها: أنَّ أقوالَ السَّلفِ أكثرُ ما وقعَ به الاستدلالُ مِنْ أدلَّةِ النَّقلِ، ويليه دليلُ اللُّغةِ، وليس ذلك بمُخالفٍ لترتيبِها عند النَّظرِ والاستدلالِ؛

ص: 576

لأنَّ أقوالَ السَّلفِ حاكمةٌ على المُرادِ مِنْ معاني اللُّغةِ؛ فيتكرَّرُ ذِكرُها بمقدارِ ذكرِ دليلِ اللُّغةِ، ثُمَّ تزيدُ وَجهاً آخرَ، وهو أنَّها مِنْ معنى دليلِ اللُّغةِ؛ وذلك أنَّ الذين يَنقلُ عنهم ابنُ جريرٍ (ت: 310) تأويلَ القرآنِ مِنْ السَّلفِ هُمْ مِنْ أهلِ اللُّغةِ احتجاجاً، أو مِنْ أهلِها عِلماً وإلماماً، فتقريرُ أقوالِهم في المعاني مُتضمِّنٌ تقريرَ عربيَّتِها، وما خرجَ عن ذلك مِمّا شَذَّ فيه أحدُهم عن مُقتضى اللُّغةِ بيَّنَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) بدليلِ اللُّغةِ الصَّريحِ.

ثالثُها: أنَّ الأدلَّةَ التي مردُّها إلى (التواريخِ والأخبارِ)؛ وهما دليلا: أحوالِ النُّزولِ، والإسرائيليّاتِ. ثالثُ أكثرِ الأدلَّةِ استعمالاً في التَّفسيرِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)؛ إذْ يبلغُ مقدارُ الاستدلالِ بهما معاً (682) مرَّةً، ومِن ثمَّ تكونُ نسبةُ الاستدلالِ بهما معاً (6. 3%)، وذلك يكشِفُ وجهاً مِنْ أهميَّةِ هذا النَّوعِ مِنْ الرِّواياتِ في التَّفسيرِ، وأنَّ في الإلمامِ بها ذخيرةً وافرةً للمُفسِّرِ، وبذلك الإلمامِ والاهتمامِ أضافَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) مادَّةً مؤثِّرةً في الاستدلالِ على المعاني في تفسيرِه.

رابعُها: يتقرَّرُ مِمّا سبقَ: أنَّ أهمَّ ثلاثةَ علومٍ -على التَّرتيبِ- يتحلّى بها المُفسِّرُ:

1 -

الإحاطةُ بأقوالِ السَّلفِ في التَّفسيرِ. (علمُ آثارِ السَّلفِ)

2 -

العلمُ بلُغةِ العربِ. (علمُ اللغةِ)

3 -

المعرفةُ بالسِّيَرِ وتواريخِ العربِ زمنَ التَّنزيلِ وأخبارِ الأُممِ السّابقةِ. (علمُ التاريخِ)

ص: 577

‌الفصلُ الثّالثُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الجمعِ والتَّرجيحِ بين الأدلَّةِ المُتعارضةِ للمعاني التَّفسيريَّةِ.

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: منهج ابن جرير في الجمع بين أدلة المعاني المتعارضة.

المبحثُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في التَّرجيحِ بين أدلَّةِ المعاني المُتعارضةِ.

ص: 579

‌المبحثُ الأوَّلُ: منهجُ ابنِ جريرٍ في الجمعِ بين أدلَّةِ المعاني المُتعارضةِ.

التَّعارضُ لُغةً: تفاعلٌ مِنْ (عَرَضَ)، وهو بناءٌ تكثرُ فروعُه، ومِن معانيه: العَرْضُ الذي هو ضِدُّ الطُّولِ. والمُقابلةُ بين شَيئَيْن، كما في مُعارضةِ الكتابِ بالكتابِ. وكذا الظُّهورُ؛ مِنْ قولِهم: عرضَ الشَّيءَ للبيعِ إذا أظهرَه. ومِنها أيضاً: المَنعُ، كما في قولِه تعالى {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهُ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224]، أي: مانعاً بالحلفِ به بينَكم وبين مرضاتِه

(1)

. قالَ ابنُ فارسٍ (ت: 395): «العينُ والرّاءُ والضّادُ بناءٌ تَكثُرُ فروعُه، وهي مع كَثرَتِها تَرجِعُ إلى أصلٍ واحدٍ، وهو: العَرْضُ الذي يُخالِفُ الطُّولَ، ومَن حقَّقَ النَّظرَ ودَقَّقَه عَلمَ صِحَّةَ ما قُلناه، وقد شَرَحنا ذلك شَرْحاً وافياً»

(2)

، وقالَ ابنُ العربيّ (ت: 543): «(عَرَضَ) في

(1)

ينظر: تهذيب اللغة 1/ 288، ولسان العرب 9/ 26، والقاموس المحيط (ص: 579).

(2)

مقاييسُ اللغة 2/ 240.

ص: 581

كلامِ العربِ يتصرَّفُ على معانٍ، مَرجِعُها إلى: المَنعِ؛ لأنَّ كُلَّ شيءٍ اعترضَ فقد مَنَعَ»

(1)

.

والتَّعارضُ اصطلاحاً: تقابلُ دَليلَيْن على سبيلِ المُمانعةِ

(2)

.

وهذا التَّعريفُ شاملٌ لما سبقَ مِنْ المعاني اللُّغويَّةِ؛ إذْ فيه دليلان ظاهران، مُتقابلان، يمنعُ أحدُهما الآخرُ في معناه؛ وهذا المَنعُ إن كانَ على سبيلِ التَّناقضِ فهو (التَّعارضُ الكُلّيُّ) الذي لا يُمكنُ الجَمعُ فيه بوَجهٍ مِنْ الوجوهِ، كالتَّعارضِ الحاصلِ في اختلافِ التَّضادِّ؛ حيثُ تتخالفُ مَعاني الأدلَّةِ مِنْ كُلِّ وَجهٍ، ويَلزمُ مِنْ القَولِ بأحدِها إبطالُ الآخرِ، كاختلافِهم في تعيين الذَّبيحِ بين إسحاقَ وإسماعيلَ ابْنَي إبراهيمَ عليهم السلام؛ وذلك في قولِه تعالى {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]، وكاختلافِهم في المُرادِ بالقُرْءِ في قولِه تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]؛ بين الطُّهرِ والحَيْضِ.

(3)

وإن كانَ التَّعارضُ تمانُعاً لا تناقُضَ فيه بين المَعنيَيْن، ويُمكنُ الجَمعُ بينهما بوَجهٍ مِنْ الوجوهِ، فهو (التَّعارضُ الجُزئيِّ)، كالنّاسخِ والمَنسوخِ

(4)

، والعامِّ والخاصِّ، ونحوها، كما في قولِه تعالى

(1)

أحكامُ القرآنِ 1/ 224.

(2)

ينظر: أصول السَّرخسي 2/ 12، والبحر المحيط في الأصول 4/ 407، وشرح الكوكب المنير 4/ 605.

(3)

ينظر: جامع البيان 4/ 87، 19/ 587، واقتضاء الصراط المستقيم 1/ 134، ومجموع الفتاوى 13/ 381.

(4)

إنَّما لم يكُن تعارضُ النّاسخِ والمَنسوخِ تناقُضاً؛ لاختلافِ زمانِهما، وصِدقِ كُلٍّ مِنهما في وَقتِه. وقد تقرَّرَ أنَّ مِنْ شرطِ التَّناقُضِ اتِّحادَ القضيَّتَيْن في الزَّمانِ وغيرِه. ينظر: معالم أصول الفقه عند أهلِ السُّنة (ص: 276).

ص: 582

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، مع قولِه {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فمتى أمكنَ حملُ أحدِهما على حالٍ دون حالٍ، أو زمنٍ دون زمنٍ فهو تعارضٌ جُزئيٌّ وليس تناقُضاً.

(1)

وقد أطبقَ العلماءُ على أنَّ الأدلَّةَ الشَّرعيَّةَ لا تتعارضُ على الحقيقةِ، وإنَّما يقعُ التَّعارضُ في نظرِ المُجتهدِ؛ بحسبِ مَبلَغِ عِلمِه، وقوَّةِ فَهمِه

(2)

، قالَ الشّافعي (ت: 204): «لم نجِدْ عنه صلى الله عليه وسلم حديثَيْن مُختلفَيْن إلا ولهما مَخرجٌ، أو على أحدِهما دلالَةٌ بأحدِ ما وصَفتُ؛ إمّا بموافقةِ كتابٍ، أو غيرِه مِنْ سُنَّتِه، أو بعضِ الدَّلايلِ»

(3)

، وقالَ ابنُ خُزيمةَ (ت: 311): «لا أعرفُ أنَّه رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حديثان بإسنادَيْن صَحيحَيْن مُتضادّان، فمَن كانَ عنده فليَأتِ به حتى أُؤَلِّفَ بينهما»

(4)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «لا يجوزُ أن يوجدَ في الشَّرعِ خبران مُتعارضان مِنْ جميعِ الوُجوهِ، وليس مع أحدِهما ترجيحٌ يُقَدَّمُ به»

(5)

، وقالَ الشّاطبي (ت: 790): «كلُّ مَنْ تحقَّقَ بأصولِ الشَّريعةِ فأدلَّتُها عنده لا تكادُ تتعارضُ، كما أنَّ كلَّ مَنْ حقَّقَ مناطَ المسائلِ فلا يكادُ يقِفُ في مُتشابِهٍ؛ لأنَّ الشَّريعةَ لا تعارضَ فيها ألبتَّةَ، فالمُتحقِّقُ بها مُتحقِّقٌ بما في نَفسِ الأمرِ، فيَلزمُ أن لا يكونَ عنده تعارضٌ، ولذلك لا

(1)

ينظر: جامع البيان 4/ 406، والتمهيد، لابن عبد البَرِّ 11/ 347.

(2)

ينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 535، وأصول السَّرخسي 2/ 12، وشرح مختصر الروضة 3/ 687.

(3)

الرسالة (ص: 216). وينظر: البحر المحيط في الأصول 4/ 411.

(4)

الكفاية في أصول الرواية (ص: 473).

(5)

المسودة 1/ 600.

ص: 583

تجدُ ألبتَّةَ دليلَيْن أجمعَ المسلمون على تعارضِهما بحيث وجبَ عليهم الوقوفُ، لكن لمّا كانَ أفرادُ المُجتهدين غيرَ معصومين مِنْ الخطَأِ أمكنَ التَّعارضُ بين الأدلَّةِ عندهم»

(1)

.

وبحسبِ ما سبقَ مِنْ تقسيمِ الأدلَّةِ إلى قطعيَّةٍ وظنّيَّةٍ، فإنَّ أنواعَ التَّعارضِ بهذا الاعتبارِ تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

الأوَّلُ: تعارضُ القَطعيِّ مع القَطعيِّ، وهذا مُمتنعٌ عند عامَّةِ العلماءِ، سواءٌ كانا نقليَّيْن أو عقليَّيْن، ونقلَ بعضُهم الاتِّفاقَ عليه؛ لأنَّه لا يُتصوَّرُ وجودُ مَدلولاتِهما عند التَّعارضِ، قالَ ابنُ قدامة (ت: 620): «لا يُتصوَّرُ التَّعارضُ في القواطعِ إلا أن يكونَ أحدُهما منسوخاً»

(2)

، وقالَ القَرافي (ت: 684): «يَمتنعُ التَّرجيحُ في العَقليّاتِ؛ لتعذُّرِ التَّفاوتِ بين القَطعيَّيْن»

(3)

، وقالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «اتَّفقوا على أنَّه لا يجوزُ تعادلُ الأدلَّةِ القَطعيَّةِ؛ لوجوبِ وجودِ مَدلولاتِها، وهو مُحالٌ»

(4)

، ومِن ثَمَّ «فلا مدخلَ للتَّرجيحِ في الأدلَّةِ القَطعيَّةِ؛ لأنَّ التَّرجيحَ فَرعُ التَّعارضِ، ولا تعارضَ فيها فلا ترجيحَ»

(5)

، فإذا ظهرَ للنّاظرِ تعارضُ دليلَيْن قَطعيَّيْن فالخطأُ مِنْ جِهتِه مِنْ أحدِ وَجهَيْن:

(1)

الموافقات 5/ 341. وقد فصَّلَ أدلَّةَ ذلك في 5/ 59.

(2)

نزهة الخاطر العاطر 2/ 394.

(3)

شرح تنقيح الفصول (ص: 420).

(4)

المسودة 2/ 825. وينظر: شرح الكوكب المنير 4/ 607، وإرشاد الفحول (ص: 457).

(5)

شرح الكوكب المنير 4/ 607. وينظر: شرح المنهاج 2/ 788. وحكى بعضُهم قولاً بإمكانِ تعارضِ القَطعيَّيْن في نَفسِ المُجتهدِ، وليس هذا بخارجٍ عن اتِّفاقِ العلماءِ على عدمِ تعارضِهما في نَفسِ الأمرِ، بل هو بابٌ آخرُ، ومِن ثَمَّ فلا خلافَ. ينظر: القَطعُ والظَّنُّ عند الأصوليِّين 2/ 643.

ص: 584

1 -

إمّا في حُكمِه بقَطعيَّةِ كلا الدَّليلَيْن.

2 -

أو في حُكمِه بوجودِ التَّعارضِ بينهما.

الثّاني: تعارضُ القَطعيِّ مع الظَّنّيِّ، ولا يُتصوَّرُ ذلك أيضاً عند عامَّةِ العلماءِ والعُقلاءِ؛ لأنَّ الظَّنَّ لا يبقى ظَنّاً إذا عارضَه القَطعيُّ، قالَ ابنُ قدامة (ت: 620): «ولا يُتصوَّرُ أن يتعارضَ علمٌ وظَنٌّ؛ لأنَّ ما عُلمَ كيفَ يُظَنُّ خِلافُه! وظَنُّ خِلافِه شَكٌّ، فكيف يشُكُّ فيما يعلمُ!»

(1)

، وقالَ أبو الثَّناءِ الأصفهاني (ت: 749): «ولا تعارضَ أيضاً بين قَطعيٍّ وظَنّيٍّ؛ لانتفاءِ الظَّنِّ بأحدِ الطَّرفَيْن عند القَطعِ بالطَّرفِ الآخرِ»

(2)

، وقالَ ابنُ النَّجّارِ

(3)

(ت: 972): «ومثلُ القَطعيَّيْن في عدمِ التَّعارضِ: قَطعيٌّ وظَنّيٌّ؛ لأنَّه لا تعادلَ بينهما ولا تعارضَ؛ لانتفاءِ الظَّنِّ، لأنَّه يستحيلُ وجودُ ظَنٍّ في مُقابلةِ يَقينٍ، فالقَطعيُّ هو المَعمولُ به، والظَّنُّ لَغوٌ، ولذلك لا يتعارضُ حُكمٌ مُجمعٌ عليه مع حُكمِ آخرَ ليس مُجمعاً عليه، ويُعملُ بالقَطعيِّ دون الظَّنّيِّ»

(4)

، وهذا هو حُكمُ هذا البابِ بلا خِلافٍ، قالَ الشّاطبيُّ (ت: 790): «مُخالفةُ الظَّنّيِّ لأصلٍ قَطعيٍّ يُسقِطُ اعتبارَ الظَّنّيِّ على الإطلاقِ، وهو مِمّا لا يُختلفُ فيه»

(5)

.

الثّالثُ: تعارضُ الظَّنّيِّ مع الظَّنّيِّ، وقد اتَّفقوا في هذا النَّوعِ على

(1)

نزهة الخاطر العاطر 2/ 394.

(2)

شرح المنهاج 2/ 789.

(3)

محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفُتّوحيّ، ابنُ النَّجّار الحنبليّ، قاضي القُضاةِ، فقيهٌ أصوليٌّ مُتقنٌ، صنَّف: منتهى الإرادات، وغيرَه، ومات سنة (972). ينظر: شذرات الذّهب 10/ 571، والسُّحب الوابلة 2/ 854.

(4)

شرح الكوكب المنير 4/ 608.

(5)

الموافقات 3/ 188. وينظر مِنه 3/ 186.

ص: 585

إمكانيَّةِ وقوعِه في نَفسِ المُجتهدِ، قالَ الرّازي (ت: 604): «لا نزاعَ في وقوعِ التَّعادلِ بحسبِ أذهانِنا»

(1)

. وفي وقوعِه في نَفسِ الأمرِ خِلافٌ

(2)

، وهو مُمتنعٌ عند مَنْ يرى أنَّ الحَقَّ واحدٌ لا يتعدَّدُ

(3)

، وهو الصَّحيحُ، قالَ الشّيرازي

(4)

(ت: 476): «لا يجوزُ أن يتكافأَ دليلان في الحادثةِ، بل لا بُدَّ أن يكونَ لأحدِهما مزيَّةٌ على الآخرِ وترجيحٌ»

(5)

، وقالَ ابنُ السُّبكي

(6)

(ت: 771): «يمتنعُ تعادلُ القاطعَيْن، وكذا الأمارتَيْن في نَفسِ الأمر على الصَّحيحِ»

(7)

، وعلَّلَ ذلك الشّاطبيُّ (ت: 790) بقولِه: «لا يتواردُ الدَّليلان على محلِّ التَّعارضِ مِنْ وَجهٍ واحدٍ؛ لأنَّه مُحالٌ مع فَرضِ إعمالِهما فيه، فإنَّما يتواردان مِنْ وَجهَيْن، وإذْ ذاك يرتفعُ التَّعارضُ ألبتَّةَ»

(8)

.

(1)

المحصول 2/ 436. وينظر: التَّمهيد، للإسنوي (ص: 505)، ونهاية السّول 4/ 433.

(2)

ينظر: التَّعارض والتَّرجيح بين الأدلةِ الشَّرعية 1/ 48، والتَّعارض والتَّرجيح عند الأصوليين (ص: 62).

(3)

وهو قولُ جماهيرِ العلماءِ، وهو الصَّوابُ، وينظر في تفصيلِ الأدلَّةِ وقائليها: القَطعُ والظَّنُّ عند الأصوليّين 2/ 522 - 558.

(4)

إبراهيم بن عليّ بن يوسف الفِيروزاباديّ، أبو إسحاقَ الشّيرازيّ، الإمامٌ المُجتهدٌ القُدوةٌ، صنَّف: المهذَّبَ، واللُّمع، وغيرها، مات سنة (476). ينظر: السّير 18/ 452، وطبقات الشّافعيّة الكبرى 4/ 357.

(5)

التبصرة (ص: 510). وينظر: شرح اللمع 2/ 1071.

(6)

عبد الوهاب بن عليّ بن عبد الكافي السُّبكيّ، تاجُ الدّين أبو نصرٍ الشّافعيّ، الفقيه الأصوليُّ الأديب، صنَّف: الأشباه والنَّظائر، وغيرَه، ومات سنة (771). ينظر: الدُّرر الكامنة 3/ 232، وشذرات الذّهب 8/ 378.

(7)

جمع الجوامع 2/ 400. وينظر: المسودة 2/ 825، والموافقات 5/ 342، 350.

(8)

الموافقات 3/ 188. وينظر مِنه 3/ 186.

ص: 586

وهذا النَّوعُ مِنْ التَّعارضِ هو ما يصحُّ فيه التَّرجيحُ، على ما سيأتي بيانُه بإذنِ الله.

أمّا منهجُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه في الجَمعِ بين أدلَّةِ المعاني المُتعارضةِ، فيقومُ على جُملةِ أصولٍ، يُمكنُ بيانُها فيما يأتي:

أوَّلاً: معنى تعارضِ الأدلَّةِ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) هو: امتناعُ اجتماعِ معانيها على الصِّحَّةِ مُطلقاً؛ سواءٌ كان ذلك التَّمانعُ كليّاً (تناقُضاً)، أو جُزئيّاً، وقد نصَّ على ذلك في قولِه:«وليست إحدى الآيتَيْن دافعاً حُكمُها حُكمَ الأُخرى، بل إحداهما مُبيِّنةٌ حُكمَ الأُخرى، وإنَّما تكونُ إحداهما دافعةً حُكمَ الأُخرى لو لم يكُنْ جائِزاً اجتماعُ حُكمُيْهما على صِحَّةٍ، فأمّا وهما جائِزٌ اجتماعُ حُكمَيْهما على الصِحَّةِ فغيرُ جائِزٍ أن يُحكمَ لإحداهما بأنَّها دافعةٌ حُكمَ الأُخرى إلا بحُجَّةٍ»

(1)

، وقد أشارَ إلى هذا المعنى الشّافعي (ت: 204) بقولِه: «ولا يُنسَبُ الحديثان إلى الاختلافِ ما كانَ لهما وَجهاً يُمضَيان معاً، إنَّما المُختلفُ ما لم يُمْضى

(2)

إلا بسقوطِ غيرِه، مثلُ أن يكونَ الحديثان في الشَّيءِ الواحدِ؛ هذا يُحِلُّه، وهذا يُحرِّمُه»

(3)

.

ثانياً: أنَّ التَّعارضَ عنده يُمكنُ أن يقعَ في جميعِ أنواعِ أدلَّةِ الشَّرعِ؛

(1)

جامع البيان 6/ 601.

(2)

أشارَ المُحقِّقُ إلى صِحَّةِ هذا الرَّسمِ، بإهمالِ عملِ (لَمْ) في المُضارعِ بعدها. الرِّسالة (ص: 275) حاشية (4)، وذلك لُغةُ بعضِ العربِ، أو ضرورةٌ. ينظر: مغني اللبيب 1/ 528، وخِزانة الأدب 9/ 3.

(3)

الرِّسالة (ص: 342).

ص: 587

النَّقليَّةِ مِنها والعقليَّةِ، كما هو ظاهرٌ مِنْ قولِه في النَّصِّ السّابقِ:«فأمّا وهما جائِزٌ اجتماعُ حُكمَيْهما على الصِحَّةِ فغيرُ جائِزٍ أن يُحكمَ لإحداهما بأنَّها دافعةٌ حُكمَ الأُخرى إلا بحُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها مِنْ خبرٍ أو قياسٍ، ولا خبرَ بذلك ولا قياسَ»

(1)

.

ثالثاً: أنَّ التَّعارضَ المُعتبرَ هو ما يكونُ بين الأدلَّةِ المُعتبرةِ، أمّا معارضةُ الأدلَّةِ المُعتبرةِ شرعاً بما ليس مُعتبراً مِنْ وجوهِ الأدلَّةِ فهو في حُكمِ المَعدومِ، ولا أثرَ له على قبولِ الدَّليلِ الشَّرعيِّ، وذلك ظاهرٌ مِنْ قولِه في النَّصِّ السّابقِ:«غيرُ جائِزٍ أن يُحكمَ لإحداهما بأنَّها دافعةٌ حُكمَ الأُخرى إلا بحُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها مِنْ خبرٍ أو قياسٍ»

(2)

، وإنَّما يجبُ التَّسليمُ لها لثبوتِ حُجِّيَّتِها شرعاً.

رابعاً: لا تعارُضَ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) بين أدلَّةِ المعاني -في نَفسِها أو فيما بينها- في واقعِ الأمرِ مُطلقاً، وإنَّما قد يقعُ التَّعارضُ في نظرِ المُجتهدِ. حيثُ بَيَّنَ «أنَّه غيرُ جائِزٍ أن يكون في أخبارِ اللهِ أو أخبارِ رسولِه صلى الله عليه وسلم شيءٌ يدفَعُ بعضُهُ بعضاً»

(3)

، وقالَ:«وخَبَرُ الله عز وجل أصدَقُ من أن يَقَعَ فيه تناقُضٌ»

(4)

، وقالَ:«غيرُ جائزٍ أن تكونَ فرائضُ الله، وسُننُ رسولِه صلى الله عليه وسلم مُتنافيةً مُتعارضةً»

(5)

، وفي قولِه تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] قرَّرَ سلامةَ كتابِ

(1)

جامع البيان 6/ 601.

(2)

جامع البيان 6/ 601.

(3)

جامع البيان 7/ 36.

(4)

جامع البيان 8/ 721.

(5)

جامع البيان 8/ 210.

ص: 588

الله تعالى، وسُنَّةَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، مِنْ الاختلافِ والاضطرابِ والتَّعارضِ، فقالَ:«وفي نَفيِ الله جلَّ ثناؤُه ذلك عن حُكمِ كتابِه أَوضحُ الدَّليلِ على أنَّه لم يُنزِّلْ كتابَه على لسانِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلا بحُكمٍ واحدٍ مُتَّفقٍ في جميعِ خلقِه، لا بأحكامٍ فيهم مُختلفةٍ .. ، مع أنَّ في قيامِ الحُجَّةِ بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَقضِ في شيءٍ واحدٍ في وَقتٍ واحدٍ بحُكمَيْن مُختلفَيْن ولا أَذِنَ بذلك لأمَّتِه = ما يُغني عن الإكثارِ في الدَّلالةِ على أنَّ ذلك مَنفيٌّ عن كتابِ الله»

(1)

.

كما أشارَ إلى أنَّ ظَنَّ التَّعارضِ بين الأدلَّةِ في واقعِ الأمرِ مِنْ شأنِ أهلِ الجَهلِ، فقالَ:«فقد تَبيَّن إذن بما قُلنا صِحَّةُ معنى الخبرَين .. ، وأنْ ليسَ أحدُهُما دافعاً صِحَّةَ معنى الآخرِ كما ظَنَّهُ بعضُ الجُهَّالِ. وغيرُ جائِزٍ في أخبارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضُها دافعاً بعضاً إذا ثَبَتَ صِحَّتُها»

(2)

.

خامساً: يُقرِّرُ ابنُ جريرٍ (ت: 310) -عند ظَنِّ التَّعارُضِ- لزومَ جَمعِ الدَّليلَين؛ بتوجيهِ كُلٍّ منهما إلى معنىً صحيحٍ لا يُعارضُ دليلاً، كما في قولِه:«فإذْ كان كِلا الخَبرَين صحيحاً مَخرَجُهُما، فواجِبٌ التَّصديقُ بهما، وتوجيهُ كُلِّ واحِدٍ منهُما إلى الصَّحيحِ مِنْ وَجهٍ»

(3)

، ومعنى وجوبِ التَّصديقِ بهما: إعمالُهما وعدمُ إهمالِهما، أو إهمالِ أحدِهما. وذلك بالجَمعِ بينهما على ذلك النَّهجِ. وأكَّدَ ذلك وفصَّلَه في قولِه: «فإذا

(1)

جامع البيان 1/ 44. وينظر: 9/ 466 - 468.

(2)

جامع البيان 2/ 543.

(3)

جامع البيان 8/ 748.

ص: 589

كان الخبران اللذان ذكرناهُما عنه صلى الله عليه وسلم صحيحَيْن، كان غيرَ جائزٍ إلا أن يكون أحدُهُما مُجمَلاً، والآخَرُ مُفسَّراً؛ إذ كانت أخبارُه صلى الله عليه وسلم يُصَدِّقُ بعضُها بعضاً»

(1)

، وهذا الإجمالُ والتَّفسيرُ يتبيَّنُ بحملِ تلك الأدلَّةِ على العمومِ والخصوصِ، أو الإطلاقِ والتَّقييدِ، ونحوِ ذلك.

فلا يَرُدُّ ابنُ جريرٍ (ت: 310) دليلاً يُمكنُ إعمالُه ولو بوَجهٍ، بل يقبلُ جميعَ الأدلَّةِ على وجهٍ تَجتمعُ به بلا تخالُفَ، وقد نصَّ على ذلك في قولِه:«وليست إحدى الآيتَيْن دافعاً حُكمُها حُكمَ الأُخرى، بل إحداهما مُبيِّنةٌ حُكمَ الأُخرى، وإنَّما تكونُ إحداهما دافعةً حُكمَ الأُخرى لو لم يكُنْ جائِزاً اجتماعُ حُكمُيْهما على صِحَّةٍ، فأمّا وهما جائِزٌ اجتماعُ حُكمَيْهما على الصِحَّةِ فغيرُ جائِزٍ أن يُحكمَ لإحداهما بأنَّها دافعةٌ حُكمَ الأُخرى إلا بحُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها مِنْ خبرٍ أو قياسٍ، ولا خبرَ بذلك ولا قياسَ، والآيةُ مُحتملةٌ ما قُلنا»

(2)

، وهذا كقولِ الشّافعي (ت: 204): «ولَزمَ أهلَ العلمِ أن يُمضوا الخَبرَيْن على وُجوهِهما ما وجدوا لإمضائِهما وَجهاً، ولا يعدّونَهما مُختلفَيْن وهما يَحتملان أن يُمضَيا، وذلك إذا أمكنَ فيهما أن يُمضيا معاً، أو وُجدَ السَّبيلُ إلى إمضائِهما، ولم يكُنْ مِنهما واحِدٌ بأَوجبَ مِنْ الآخرِ»

(3)

.

وذلك مُطابقٌ لما قرَّرَه العلماءُ مِنْ أنَّ: إعمالَ الدَّليلَيْن أَولى مِنْ إهمالِهما أو إهمالِ أحدِهما. «وبه قالَ الفُقهاءُ جميعاً»

(4)

، قالَ

(1)

جامع البيان 7/ 36.

(2)

جامع البيان 6/ 601.

(3)

الرِّسالة (ص: 341).

(4)

إرشاد الفحول (ص: 459)، وينظر: الإحكام، لابن حزم 1/ 161.

ص: 590

الشِّنقيطي (ت: 1393): «وإنَّما كانَ قَولُ العلماءِ كافَّةً: أنَّ الجمعَ إن أمكنَ وجبَ المَصيرُ إليه؛ لأنَّ إعمالَ الدَّليلَيْن أَولى مِنْ إلغاءِ أحدِهما، كما هو معروفٌ في الأصولِ»

(1)

.

سادساً: متى أمكنَ حملُ أحدِ الدَّليلَيْن على زمانٍ دون زمانٍ؛ وهو: النّاسخُ والمَنسوخُ، أو حالٍ دون حالٍ؛ وهو العامُّ والخاصُّ، والمُطلقُ والمُقيَّدُ = صارَ إليه، ولم يُرَجِّحْ، قالَ الشَّوكاني (ت: 1250): «مِنْ شروطِ التَّرجيحِ التي لا بُدَّ مِنْ اعتبارِها: أن لا يُمكنَ الجمعُ بين المُتعارضَيْن بوَجهٍ مَقبولٍ، فإن أمكنَ ذلك تعيَّنَ المَصيرُ إليه، ولم يَجُزْ المَصيرُ إلى التَّرجيحِ»

(2)

، ومِن ثَمَّ إذا تعارضَت الأدلَّةُ دلالةً وثُبوتاً ومحلّاً امتنعَ الجَمعُ، وصِيرَ إلى التَّرجيحِ.

ومِن أمثلةِ ذلك عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) حَملُه عمومَ قولِه تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، على خُصوصِ الخبرِ الواردِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتقديرِ حَدِّ ذلك، وبذا يزولُ التَّعارضُ، حيث قالَ:«والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا، قَولُ مَنْ قالَ: الآيةَ مَعنيٌّ بها خاصٌّ مِنْ السُّرّاقِ، وهم سُرّاقُ ربعِ دينارٍ فصاعداً أو قيمتِه؛ لصِحَّةِ الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: «القَطعُ في رُبعِ دينارٍ فصاعِداً»

(3)

(4)

، ومِثلُه تعارضُ ظاهرِ قولِه تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ

(1)

أضواء البيان 5/ 197. وينظر منه: 4/ 403، 5/ 161.

(2)

إرشاد الفحول (ص: 459).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 160 (6789)، ومسلم في صحيحه 4/ 331 (1684)، والنَّسائي في سُنَنِه 8/ 453 (4945) واللَّفظُ له.

(4)

جامع البيان 8/ 410.

ص: 591

الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، مع إباحةِ جمعِ المالِ مِنْ حِلِّه، وإيجابِ الزَّكاةِ فيه، ولا تجبُ الزَّكاةُ ولا تُخرَجُ إلا مِنْ مالٍ مَجموعٍ، حيث جمعَ بين ذلك بأنَّ عمومَ الآيةِ مخصوصٌ بما لم تُؤَدَّ زكاتُه، وساقَ الأدلَّةَ على ذلك، وقالَ: «وفيما بيَّنّا مِنْ ذلك البيانُ الواضحُ على أنَّ الآيةَ لخاصٍّ .. ؛ وإنَّما قُلنا ذلك على الخُصوصِ لأنَّ الكَنزَ في كلامِ العربِ كُلُّ شيءٍ مجموعٌ بعضُه على بعضٍ، في بطنِ الأرضِ كانَ أو على ظاهرِها، يدُلُّ على ذلك قولُ الشّاعرِ

(1)

:

لا دَرَّ دَرّيَ إن أطعَمتُ نازلَهم

قِرْفَ الحَتيِّ وعِندي البُرُّ مَكنوزُ

(2)

يعني بذلك: وعندي البُرُّ مجموعٌ بعضُه على بعضٍ. وكذلك تقولُ العربُ للبَدَنِ المُجتمعِ: مُكتَنِزٌ؛ لانضِمامِ بعضِه إلى بعضٍ. وإذا كانَ ذلك معنى الكَنزِ عندهم، وكانَ قولُه {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] معناه: والذين يَجمعون الذَّهبَ والفِضَّةَ بعضَها إلى بعضٍ ولا يُنفقونَها في سبيلِ الله. وهو عامٌّ في التَّلاوةِ، ولم يكُنْ في الآيةِ بيانُ كم ذلك القَدرُ مِنْ الذَّهبِ والفِضَّةِ الذي إذا جُمعَ بعضُه إلى بعضٍ استحقَّ الوَعيدَ = كانَ معلوماً أنَّ خُصوصَ ذلك إنَّما أُدرِكَ لوَقفِ الرَّسولِ عليه، وذلك كما بيَّنّا مِنْ أنَّه المالُ الذي لم يُؤَدَّ حَقُّ الله مِنه مِنْ الزَّكاةِ دون غَيرِه؛ لِما قد أَوضَحنا مِنْ الدَّلالةِ على صِحَّتِه»

(3)

.

(1)

هو المُنتخِلُ الهُذلي، كما في شرحِ ديوان الهُذليّين 3/ 1263.

(2)

يقولُ: لا رُزِقتُ الدُّرَّ -يقولُه لنَفسِه كالهازِئِ- إن مَنعتُ جَيِّدَ مالي عن ضَيْفي، وأطعَمتُهم رديئَه. وقِرفُ كلِّ شيءٍ قِشرُه. والحَتيِّ: رديءُ المُقلُ. ينظر: جمهرة اللغة 1/ 67، 388، والقاموس المحيط (ص: 1145).

(3)

جامع البيان 8/ 432.

ص: 592

ودفعَ التَّعارضَ بتقريرِ النَّسخِ بدليلِه عند قولِه تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، فقالَ: «والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك ما قالَه عطاءُ بن مَيْسرةَ

(1)

، مِنْ أنَّ النَّهيَ عن قتالِ المشركين في الأشهرِ الحُرُمِ مَنسوخٌ بقولِ الله جلَّ ثناؤُه {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]؛ وإنَّما قُلنا ذلك ناسِخٌ لقولِه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] لتظاهرِ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه غزا هوازنَ بحُنَيْنٍ، وثقيفاً بالطّائفِ، وأرسلَ أبا عامرٍ إلى أَوْطاسٍ لحَربِ مَنْ بها مِنْ المشركين في بعضِ الأشهرِ الحُرُمِ، وذلك في شوّالٍ وبعضِ ذي القَعدَةِ، وهما مِنْ الأشهرِ الحُرُمِ، فكانَ مَعلوماً بذلك أنَّه لو كانَ القتالُ فيهنَّ حراماً وفيه مَعصيةٌ، كانَ أبعدَ النّاسِ مِنْ فِعلِه صلى الله عليه وسلم. وأُخرى أنَّ جميعَ أهلِ العلمِ بسِيَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافعُ أنَّ بيعةَ الرِّضوان على قتالِ قريشٍ كانَت في ذي القَعدَةِ، وأنَّه صلى الله عليه وسلم إنَّما دعا أصحابَه إليها يومئِذٍ .. ، فإذْ كانَ ذلك كذلك فبَيِّنٌ صِحَّةَ ما قُلنا في قولِه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، وأنَّه مَنسوخٌ»

(2)

، كما جمعَ بطريقِ النَّسخِ بين دليلَيْ القرآنِ والإجماعِ في قولِه: «وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّةِ قَولُ مَنْ قالَ: نسخَ الله مِنْ هذه الآيةِ قَولَه {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ

(1)

هو عطاء بن أبي مُسلم الخراسانيّ، أبو أيّوب البَلخيّ، نزيلُ الشّام، المُحدِّثُ الواعظُ المُفسِّرُ، مات سنة (135). ينظر: السّير 6/ 140، وتهذيب التّهذيب 3/ 108.

(2)

جامع البيان 3/ 663.

ص: 593

الْحَرَامَ} [المائدة: 2]؛ لإجماعِ الجميعِ على أنَّ الله جلَّ ثناؤُه قد أحلَّ قتالَ أهلِ الشِّركِ في الأشهرِ الحُرُمِ وغيرِها مِنْ شهورِ السَّنةِ كلِّها، وكذلك أجمعوا على أنَّ المشركَ لو قلَّدَ عنُقَه أو ذِراعَيْه لِحاءَ جميعِ أشجارِ الحرَمِ، لم يكُنْ ذلك له أماناً مِنْ القَتلِ، إذا لم يكُنْ تقدَّمَ له عقدُ ذِمَّةٍ مِنْ المسلمين أو أمانٌ»

(1)

.

وبهذا يظهرُ أنَّ الأدلَّةَ حين تتعارضُ في دلالتِها، وتتساوى في درجةِ ثُبوتِها، فإنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) يؤَلِّفُ بينها بحملِ معانيها على بعضٍ بوجهٍ يُعمِلُ فيه الدَّليلَيْن بلا تعارُضٍ؛ وذلك بالقَولِ بالعمومِ والخصوصِ، أو الإطلاقِ والتَّقييدِ، ونحوِهما، فإن تعذَّرَ ذلك، وتقابلت الأدلَّةُ دلالةً وثبوتاً ومحلّاً، حملَ بعضَها على زمانٍ دون زمانٍ؛ وهو النَّسخُ، فإن تعذَّرَ ذلك صارَ إلى بابِ التَّرجيحِ، وهو موضوعُ المبحثِ التّالي.

(1)

جامع البيان 8/ 39. وينظر: 1/ 480، 7/ 36، 321، 8/ 645، 747، 21/ 474.

ص: 594

‌المبحثُ الثّاني: منهجُ ابنِ جريرٍ في التَّرجيحِ بين أدلَّةِ المعاني المُتعارضةِ.

وفيه ثلاثةُ مطالب:

‌المطلبُ الأوَّلُ: متى يُصارُ إلى التَّرجيحِ؟

التَّرجيحُ لغةً: مصدرٌ بابُه (رجَحَ)، «والرّاءُ والجيمُ والحاءُ أصلٌ واحدٌ يدلُّ على رزانةٍ وزيادةٍ، يُقالُ: رجحَ الشَّيءُ، وهو راجِحٌ. إذا رزَنَ»

(1)

.

والتَّرجيحُ اصطلاحاً: تقويةُ أحدِ الدَّليلَيْن المُتعارضَيْن في معنىً على الآخرِ.

(2)

(1)

مقاييس اللغة 1/ 512. وينظر: لسان العرب 3/ 270.

(2)

ينظر: شرح الكوكب المنير 4/ 616، ومذكرة أصول الفقه (ص: 493). ويُلاحظُ في التَّعريفِ أنَّ التَّرجيحَ مِنْ فعلِ المُجتهدِ، وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أنَّ التَّرجيحَ مِنْ صِفةِ الدَّليلِ نَفسِه؛ فقال: هو اقترانُ الأمارةِ بما تَقوى به على مُعارِضِها. وهذا تعريفٌ للرُّجحان وليس للتَّرجيحِ، والتَّعريفُ الأوَّلُ أرجحُ. ينظر: تيسير التحرير 3/ 153، والتعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية 1/ 78.

ص: 595

وإنَّما أخَّرَ العلماءُ بحثَ هذا البابِ في كتُبِهم ما أمكنَ؛ لأنَّه لا تعارُضَ في الحقيقةِ بين أدلَّةِ الشَّرعِ، كما سبقَ بيانُه.

(1)

أمّا مجالُ الأدلَّةِ التي يصحُّ فيها التَّرجيحُ؛ فإنَّ التَّرجيحَ فرعٌ عن التَّعارضِ، فحيثما وُجدَ التَّعارضُ صحَّ التَّرجيحُ بحسبِ مرتبتِه مِنْ مسالك الجَمعِ، وقد تقرَّرَ سابقاً أن لا تعارضَ بين قَطعيَّيْن، ولا بين قَطعيٍّ وظَنّيٍّ، فانحصرَ مجالُ التَّرجيحِ بين الظَّنّيِّ مِنْ الأدلَّةِ، لم يُخالفْ في ذلك أحدٌ مِنْ الأئِمَّةِ

(2)

، قالَ ابنُ تيمية (ت: 728): «إذا قيلَ: تعارضَ دليلان. سواءٌ كانا سمعيَّيْن أو عقليَّيْن، أو أحدُهما سمعيّاً والآخرُ عقليّاً، فالواجبُ أن يُقالَ: لا يخلو إمّا أن يكونا قطعيَّيْن، أو يكونا ظنّيَّيْن، وإمّا أن يكونَ أحدُهما قطعيّاً والآخرُ ظنيّاً. فأمّا القطعيان فلا يجوزُ تعارضهما؛ سواءٌ كانا عقليَّيْن أو سمعيَّيْن، أو أحدُهما عقليّاً والآخرُ سمعيّاً، وهذا متفق عليه بين العقلاء .. ، وإن كان أحدُ الدَّليلَيْن المتعارضَيْن قطعيّاً دون الآخرِ فإنَّه يجبُ تقديمُه باتِّفاقِ العقلاءِ، سواءٌ كانَ هو السَّمعيَّ أو العقليَّ .. ، وأمّا إن كانا جميعاً ظنّيَّيْن: فإنَّه يُصارُ إلي طلبِ ترجيحِ أحدِهما، فأيُّهما ترجَّحَ كانَ هو المقدَّمُ، سواءٌ كانَ سمعيّاً أو عقليّاً»

(3)

.

«ورُجحانُ الدَّليلِ عبارةٌ عن كَونِ الظَّنِّ المُستفادِ مِنه أقوى»

(4)

،

(1)

ينظر: شرح الكوكب المنير 4/ 617.

(2)

ينظر: القَطع والظَّنّ عند الأصوليّين 2/ 660.

(3)

درءُ تعارض العقل والنقل 1/ 78. وينظر: الفقيه والمتفقه 1/ 524، والصواعق المرسلة 3/ 797.

(4)

مختصر ابن اللَّحّام (ص: 168).

ص: 596

وليس ذلك مِنْ اتِّباعِ الظَّنِّ الذي ذَمَّ الله أهلَه بقولِه {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]؛ بل هو اتِّباعٌ للعلمِ الذي رجحَ به الظَّنُّ، وأخذٌ لمَظنونٍ ترجَّحَ بعلمٍ ودليلٍ، «وأمّا الظَّنُّ الذي لا يُعلمُ رُجحانُه فلا يجوزُ اتِّباعُه»

(1)

.

وقد نصَّ العلماءُ على أنَّ التَّرجيحَ إنَّما يُصارُ إليه بعد تعذُّرِ الجَمعِ، وذلك شِبهُ إجماعٍ مِنهم، قال الشَّاطبيُّ (ت: 790): «إذا تعارَضَتِ الأدلَّةُ، ولم يظهَرْ في بعضِها نسخٌ، فالواجِبُ التَّرجيحُ، وهو إجماعٌ من الأصوليِّينَ، أو كالإجماعِ»

(2)

، وقالَ أيضاً:«إنَّ الأصوليّين اتَّفقوا على إثباتِ التَّرجيحِ بين الأدلَّةِ المُتعارضةِ إذا لم يُمكن الجَمعُ، وأنَّه لا يصحُّ إعمالُ أحدِ دليلَيْن مُتعارضَيْن جِزافاً مِنْ غيرِ نظرٍ في ترجيحِه على الآخرِ»

(3)

، وقالَ الشَّوكاني (ت: 1250): «مِنْ شروطِ التَّرجيحِ التي لا بُدَّ مِنْ اعتبارِها: أن لا يُمكنَ الجمعُ بين المُتعارضَيْن بوَجهٍ مَقبولٍ، فإن أمكنَ ذلك تعيَّنَ المَصيرُ إليه، ولم يَجُزْ المَصيرُ إلى التَّرجيحِ»

(4)

، وقد سبقَ تعليلُ تأخيرِ التَّرجيحِ عن الجَمعِ والنَّسخِ؛ وهو ما فيه مِنْ إهمالِ أحدِ الدَّليلَيْن، إذْ الأصلُ عند كافَّةِ العلماءِ إعمالُ الدَّليلَيْن ما أمكنَ

وفي تقديمِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) للجَمعِ مُطلقاً عند التَّعارضِ ما يُوافقُ قولَ جمهورِ العلماءِ في ترتيبِ الواجبِ عند تَعارضِ الأدلَّةِ؛ بتقديمِ

(1)

مجموع الفتاوى 13/ 120.

(2)

الاعتصام (ص: 166).

(3)

الموافقات 5/ 63.

(4)

إرشاد الفحول (ص: 459).

ص: 597

الجَمعِ، ثُمَّ النَّسخِ، ثُمَّ التَّرجيحِ؛ وذلك لأنَّ في الجَمعِ إعمالُ الدَّليلَيْن مُطلقاً، وبعده النَّسخُ، وفيه إعمالُهما في وَقتٍ دون وَقتٍ؛ فالمَنسوخُ كانَ معمولاً به قبلَ زمنِ نَسخِه، والنّاسخُ بعد ذلك، وهذه مرتبتُه كذلك عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وبعدهما التَّرجيحُ؛ وفيه إعمالُ أحدِ الدَّليلَيْن وإهمالُ الآخرِ.

(1)

‌المطلبُ الثّاني: أنواعُ المُرجِّحاتِ التي استعملَها ابنُ جريرٍ عند التَّعارضِ.

المُرجِّحاتُ هي: الأماراتُ التي يتقوّى بها أحدُ الدَّليلَيْن على الآخرِ. وهي كثيرةٌ لا تنحصِرْ؛ لأنَّ ما يحصلُ به تغليبُ ظَنٍّ على ظَنٍّ كثيرٌ جدّاً، والضّابطُ فيها أنَّه:

«متى اقترنَ بأحدِ الطَّرفَيْن أمرٌ نَقليٌّ، أو اصطلاحيٌّ، عامٌّ، أو خاصٌّ، أو قرينةٌ عقليَّةٌ، أو لفظيَّةٌ، أو حاليَّةٌ، وأفادَ ذلك زيادةَ ظَنٍّ = رجحَ به»

(2)

، قالَ الشِّنقيطي (ت: 1393): «وضابطُ التَّرجيحِ هو: ما تحصلُ به غلبَةُ ظَنِّ رُجحان أحدِ الطَّرفَيْن»

(3)

.

والأماراتُ التي لجأَ إليها ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه لتقويةِ بعضِ الأدلَّةِ على بعضٍ عند تعارضِها كثيرةٌ ظاهرةٌ، ويُمكنُ تقسيمُ

(1)

وهو الرَّاجحُ في هذا البابِ، والقولُ الآخرُ للأحنافِ بتقديمِ النَّسخِ ثُمَّ التَّرجيحِ ثُمَّ الجَمعِ. ينظر: التعارض والترجيح عند الأصوليين (ص: 64 - 81).

(2)

مختصر ابن اللَّحّام (ص: 172). وينظر شرحُها في: شرح الكوكب المنير 4/ 751.

(3)

مذكرة أصول الفقه (ص: 530).

ص: 598

أنواعِها بحسبِ أصولِ أدلَّتِها: النَّقليَّةِ والعقليَّةِ. فيُقالُ: التَّرجيحُ إمّا أن يكونَ بين دليلَيْن نقليَّيْن، أو عقليَّيْن، أو نقليٍّ وعقليٍّ.

(1)

فإن كانَ التَّرجيحُ بين نقليَّيْن فيكونُ مِنْ ثلاثةِ أَوجهٍ:

1 -

التَّرجيحُ بأمرٍ يتعلَّقُ بالسَّندِ.

2 -

التَّرجيحُ بأمرٍ يتعلَّقُ بالمَتنِ.

3 -

التَّرجيحُ بأمرٍ خارجٍ عنهما.

أمّا التَّرجيحُ بما يتعلَّقُ بالإسنادِ فكالتَّرجيحِ بكثرةِ الرُّواةِ، وضَبطِ الرَّاوي وقلَّةِ غلطِه، وأن يكونَ صاحبَ القِصَّةِ، أو مباشراً لها، وبالسَّلامةِ مِنْ البدعةِ، واشتهارِه بالإمامةِ، ويترجَّحُ المتواترُ على الآحادِ، والمُتَّفقُ على رَفعِه أو وَصلِه على مُختلفٍ فيه، ونحوِ ذلك.

ومِن أمثلتِه عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) التَّرجيحُ بكثرةِ الرُّواةِ، كما في قولِه: «وإنَّما قُلنا ذلك أولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ؛ لتظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

، ثَمَّ أَوْرَدَ اعتراضَاً بأحدِ الأخبار، وقال: «هذا خبرٌ في إسنادِه نظرٌ .. ، والثِّقاتُ مِنْ أهلِ الآثارِ يَقِفونَ هذا الكلامَ على سلمانَ، ويَرْوونَه عنه مِنْ قيلِه غيرَ مرفوعٍ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، والحُفَّاظُ الثِّقاتُ إذا تتابَعوا على نقلِ شيءٍ بصِفَةٍ، فخالَفَهم واحِدٌ مُنفَرِدٌ، وليس

(1)

ينظر في التفصيلِ والتمثيلِ لهذه المرجِّحاتِ: الإحكام، للآمدي 2/ 295، ومختصر ابن اللَّحّام (ص: 169)، ومذكرة أصول الفقه (ص: 494)، ومنهج الإمام ابن جرير الطبري في الترجيح (ص: 163).

(2)

جامع البيان 8/ 121.

ص: 599

له حِفظُهُم = كانت الجَماعَةُ الأثباتُ أحَقَّ بصِحَّةِ ما نقلوا مِنْ الفَردِ الذي ليس له حِفظُهُم»

(1)

.

وكذا التَّرجيحُ بكثرةِ الطُّرقِ، وصِحَّةِ الخبرِ، كما في قَولِه عند قولِه تعالى {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]: «اختلفَ أهلُ العلمِ في وقتِ كَونِ الزَّلزلةِ التي وصَفها جلَّ ثناؤُه بالشِّدَّةِ؛ فقالَ بعضُهم: هي كائِنةٌ في الدُّنيا قبلَ القيامةِ»

(2)

، ثُمَّ أسندَ ذلك عن علقمةَ (ت: 62)، والشَّعبيِّ (ت: 103)، وابنِ جريجٍ (ت: 150)، ثُمَّ قالَ:«وقد رُويَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بنَحوِ ما قالَ هؤلاءِ خبرٌ في إسنادِه نَظرٌ»

(3)

، ثُمَّ أسندَه، وقالَ:«وهذا القَولُ الذي ذكرناه عن علقمةَ والشَّعبيِّ ومَن ذكَرنا ذلك عنه، قَولٌ، لولا مجيءُ الصِّحاحِ مِنْ الأخبارِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بخلافِه، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أعلمُ بمعاني وَحيِ الله وتَنزيلِه. والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك ما صَحَّ به الخَبرُ عنه»

(4)

، ثُمَّ ذكرَه مِنْ طُرُقٍ، وعضدَه بما في معناه مِنْ الأحاديثِ.

ومِن ذلك أيضاً التَّرجيحُ بصِحَّةِ الخبرِ، والإجماعِ على معناه، وذلك في قَولِه: «وأَولى الأقوالِ بالصِّحَّةِ في تأويلِ قولِه {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] قَولُ مَنْ قالَ: السَّبيلُ التي جعلَها الله جلَّ ثناؤُه للثَّيِّبَيْن المُحصَنَيْن الرَّجمُ بالحِجارةِ، وللبِكرَيْن جلدُ مائةٍ ونَفيُ سنةٍ؛ لصِحَّةِ الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه رجمَ ولم يَجلِدْ، وإجماعِ الحُجَّةِ التي

(1)

المرجعُ السابقُ. وينظر: 3/ 375، 6/ 498.

(2)

جامع البيان 16/ 446.

(3)

جامع البيان 16/ 447.

(4)

جامع البيان 16/ 449.

ص: 600

لا يجوزُ عليها فيما نقلَته مُجمعةً عليه = الخَطأُ والسَّهو والكذبُ، وصِحَّةُ الخبرِ عنه أنَّه قضى في البِكرَيْن بجَلدِ مائةٍ ونَفيِ سنةٍ، فكانَ في الذي صَحَّ عنه مِنْ تَركِه جلدَ مَنْ رُجِمَ مِنْ الزُّناةِ في عَصرِه دليلٌ واضِحً على وَهاءِ خبرِ الحَسنِ عن حِطّانَ

(1)

، عن عُبادةَ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ:«السَّبيلُ للثَّيِّبِ المُحصَنِ الجَلدُ والرَّجمُ»

(2)

(3)

.

وأمّا التَّرجيحُ بما يتعلَّقُ بالمَتنِ فكالتَّرجيحِ بكثرةِ الأدلَّةِ، واعتضادِ معنى أحدِ الدَّليلَيْن بالكتابِ أو السُّنَّةِ أو غيرِه مِنْ الأدلَّةِ، أو أن يكونَ أحدُ الدَّليلَيْن قولاً والآخرُ فعلاً، ويترجَّحُ النَّصُّ على الظّاهرِ، والحقيقةُ على المجازِ، والخاصُّ على العامِّ، ونحوِ ذلك.

ومِن أمثلةِ ذلك قَولُه مُقدِّماً الحقيقةَ على المجازِ: «واختلفَ أهلُ الجدلِ في تأويلِ قولِه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]؛ فقالَ بعضُهم: عُنيَ بذلك نِعمتاه .. ، وقالَ آخرون مِنهم: عُنيَ بذلك القوَّةُ .. ، وقالَ آخرون مِنهم: بل يَدُه مُلكُه»

(4)

، وذكرَ أدلَّتَهم على ذلك، وقالَ:«وقالَ آخرون مِنهم: بل يَدُ الله صِفةٌ مِنْ صِفاتِه، هي يَدٌ غيرَ أنَّها ليست بجارحةٍ كجوارِحِ بني آدمَ»

(5)

، ثُمَّ ذكرَ أدلَّةَ ذلك، وقالَ: «ففي قولِ الله تعالى ذِكرُه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، مع إعلامِه عبادَه أنَّ نِعمَه لا

(1)

هو حطّانُ بن عبد الله الرَّقاشيّ، مُقرئٌ محدِّثٌ ثقةٌ. ينظر: الكاشف 1/ 239، وتهذيب التّهذيب 1/ 448.

(2)

أخرجَه مسلم في صحيحِه 4/ 337 (1690). وتضعيفُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) له مِنْ جِهةِ معناه.

(3)

جامع البيان 6/ 498.

(4)

جامع البيان 8/ 555.

(5)

المرجع السابق.

ص: 601

تُحصى، ومع ما وصَفناه مِنْ أنَّه غيرُ معقولٍ في كلامِ العربِ أنَّ اثنَيْن يؤَدِّيان عن الجَميعِ = ما يُنبئُ عن خطأِ قَولِ مَنْ قالَ: معنى اليَدِ في هذا المَوضِعِ النِّعمةُ. وصِحَّةِ قَولِ مَنْ قالَ: إنَّ يَدَ الله هي له صِفةٌ. قالوا: وبذلك تظاهرَت الأخبارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقالَ به العلماءُ وأهلُ التّأويلِ»

(1)

، وفي ذلك أيضاً ترجيحٌ بكثرةِ الأخبارِ، وقَولِ العلماءِ وأهلِ التّأويلِ به. وكذا تَرجيحَه باعتضادِ الخبرِ بدليلِ القرآنِ، كما في قَولِه:«وقد رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بنحوِ الذي قُلنا مِنْ ذلك أخبارٌ، وإن كانَ في أسانيدِها نظرٌ، مع دليلِ الكتابِ على صِحَّتِه، على النَّحوِ الذي بيَّنتُ»

(2)

.

وأشارَ إلى التَّرجيحِ بكثرةِ الأدلَّةِ وإمامةِ القائلين في التَّفسيرِ واشتهارِهم بالتَّأويلِ في قولِه تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86]، حيث وازنَ بين القَولِ بنزولِها في أحدِ الأنصارِ وقد أسلمَ ثُمَّ ارتدَّ ثُمَّ أرادَ الإسلامَ. وبين قَولِ مَنْ قالَ: هي في أهلِ الكتابِ. وقالَ: «وأشبَه القَولَيْن بظاهرِ التَّنزيلِ ما قالَ الحسنُ، مِنْ أنَّ هذه الآيةَ مَعنيٌّ بها أهلَ الكتابِ، على ما قالَ، غيرَ أنَّ الأخبارَ بالقَولِ الآخرِ أكثرُ، والقائلين به أعلَمُ بتأويلِ القرآنِ»

(3)

، ومِثلَه قَولُه في قولِه تعالى {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]: «والصَّوابُ مِنْ القَولِ في ذلك عندنا أنَّ الذي قالَه مسروقُ في تأويلِ ذلك أشبَه بظاهرِ التَّنزيلِ، لأنَّ قولَه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] في سياقِ توبيخِ الله تعالى ذِكرُه مُشركِي

(1)

جامع البيان 8/ 557.

(2)

جامع البيان 19/ 375.

(3)

جامع البيان 5/ 561.

ص: 602

قريشٍ، واحتجاجاً عليهم لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وهذه الآيةُ نظيرةُ سائِرِ الآياتِ قبلَها، ولم يَجرِ لأهلِ الكتابِ ولا لليهودِ قبلَ ذلك ذِكرٌ فتوَجَّه هذه الآيةُ إلى أنَّها فيهم نزلَت، ولا دلَّ على انصرافِ الكلامِ عن قَصَصِ الذين تقدَّمَ الخبرُ عنهم معنىً، غيرَ أنَّ الأخبارَ قد وردَت عن جماعةٍ مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأنَّ ذلك عُنِيَ به عبدُ الله بنُ سَلامٍ، وعليه أكثرُ أهلِ التَّأويلِ، وهُم كانوا أعلمَ بمعاني القرآنِ، والسَّببِ الذي فيه نزلَ، وما أُريدَ به»

(1)

.

وأمّا التَّرجيحُ بأمرٍ خارجٍ عن السَّندِ والمَتنِ فكالتَّرجيحِ بكونِ أحدِ الخبرَيْن ناقلاً عن حكمِ الأصلِ، وتقديمِ الحظرِ على الإباحةِ، وتقديمِ التّأسيسِ على التّأكيدِ، ومَنعِ التَّكرارِ على القَولِ به، والتَّباينِ على التَّرادفِ، وتكثيرِ المعاني على تَقليلِها، ونحوِ ذلك.

ومِن أمثلةِ ذلك التَّرجيحُ بما يتَّسعُ به المعنى، كما في قَولِه عند قولِه تعالى {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]: «وأَولى القراءَتَيْن بالصَّوابِ عندي في (السَّبيلِ) الرَّفعُ؛ لأنَّ الله تعالى ذِكرُه فصَّلَ آياتِه في كتابِه وتَنزيلِه ليتبيَّنَ الحقَّ بها مِنْ الباطلِ جميعُ مَنْ خُوطِبَ بها، لا بعضٌ دون بعضٍ، ومَن قرأَ (السَّبيلَ) بالنَّصبِ، فإنَّما جعلَ تَبْيِينَ ذلك مَحصوراً على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

وكذا التَّرجيحُ بمنعِ الزِّيادةِ في القرآنِ، كما في قَولِه: «زعمَ بعضُ المَنسوبين إلى العلمِ بلُغاتِ العربِ مِنْ أهلِ البَصرةِ أنَّ تأويلَ قولِه

(1)

جامع البيان 21/ 131.

(2)

جامع البيان 9/ 277. وينظر: 1/ 151، 11/ 105.

ص: 603

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 30]: وقالَ ربُّك. وأنَّ (إذْ) مِنْ الحروفِ الزَّوائِدِ، وأنَّ معناها الحذفُ .. ، قالَ أبو جعفرُ: والأمرُ في ذلك بخلافِ ما قالَ؛ وذلك أنَّ (إذْ) حرفٌ يأتي بمعنى الجَزاءِ، ويدلُّ على مَجهولٍ مِنْ الوَقتِ، وغيرُ جائِزِ إبطالُ حرفٍ كانَ دليلاً على معنىً في الكلامِ»

(1)

.

وقَولِه مُرجِّحاً بعدمِ التَّكرارِ، مع الأخذِ بالسّياقِ الأقربِ، في قولِه تعالى {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} [النساء: 30]: «فإن قالَ قائلٌ: فما منعَك أن تجعلَ قَولَه {ذَلِكَ} مَعنيّاً به جميعَ ما أَوعدَ الله عليه العقوبةَ مِنْ أوَّلِ السّورةِ؟ قيلَ: منعَني ذلك أنَّ كلَّ فَصلٍ مِنْ ذلك قد قُرنَ بالوَعيدِ، إلى قَولِه {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]، ولا ذِكرَ للعقوبةِ مِنْ بعد ذلك على ما حرَّمَ الله في الآيِ التي بعده، إلى قَولِه {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30]. فكانَ قَولُه {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [النساء: 30] مَعنيّاً به ما قُلنا مِمّا لم يُقرَنْ به بالوَعيدِ، مع إجماعِ الجميعِ على أنَّ الله تعالى قد توعَّدَ على كُلِّ ذلك = أَولى مِنْ أن يكونَ مَعنيّاً به ما يتسلَّفُ فيه الوعيدُ بالنَّهيِ مَقروناً قبلَ ذلك»

(2)

.

وإن كانَ التَّرجيحُ بين عَقليَّيْن فيكونُ مِنْ جِهةِ الأصلِ، أو الفَرعِ، أو مِنْ خارجٍ عنهما، في بابِ القياسِ والنَّظائرِ، أو بالنَّظرِ إلى الظَّنِّ الأقوى بحسبِ اجتهادِ النَّاظرِ فيما عدا ذلك، وكذا الأمرُ في التَّرجيحِ بن نَقليٍّ وعَقليٍّ.

وذلك كترجيحِ النَّظيرِ المُجمعِ عليه، أو ما ثبتَ بالتّواترِ، أو اعتضدَ

(1)

جامع البيان 1/ 466. وينظر: 2/ 235، 10/ 85.

(2)

جامع البيان 6/ 639. وينظر: 1/ 151.

ص: 604

بأدلَّةٍ أُخرى، أو كثُرَت أدلَّتُه، أو كَثُرَت نظائِرُه = على غيرِه، وكذا يُقدَّمُ السِّياقُ الأقربُ على الأبعدِ، والمُتَّفقُ عليه على المُختلَفِ فيه، ومالا غرابةَ فيه على ما فيه غرابةٌ مِنْ أخبارِ الأُممِ السّابقةِ، وما قلَّت غرابتُه مِنها على ما كثُرَت، ونحوِ ذلك.

ومِن أمثلةِ ذلك التَّرجيحُ بالسّياقِ الأقربِ في قَولِه تعالى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الرعد: 11]، حيث قالَ:«وهذا القَولُ الذي قالَه ابنُ زيدٍ في تأويلِ هذه الآيةِ قَولٌ بعيدٌ مِنْ تأويلِ الآيةِ، مع خِلافِه أقوالَ مَنْ ذكَرنا قَولَه مِنْ أهلِ التّأويلِ؛ وذلك أنَّه جعلَ الهاءَ في قَولِه {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} [الرعد: 11] مِنْ ذِكرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَجرِ له في الآيةِ التي قبلَها ولا في التي قبلَ الأُخرى ذِكرٌ، إلا أن يكونَ أرادَ أن يرُدَّها على قَولِه {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} [الرعد: 11]. فإن كانَ أرادَ ذلك فذلك بعيدٌ لما بَيْنهما مِنْ الآياتِ بغيرِ ذِكرِ الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانَ كذلك، فكَوْنُها عائدةً على (مَنْ) التي في {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} [الرعد: 10] أقربُ؛ لأنَّه قبلَها، والخبرُ بعدها عَنه»

(1)

.

والتَّرجيحُ بدلالةِ ظاهرِ السّياقِ ومُقتضى العقلِ على اللغةِ؛ لاختصاصِ السّياقِ ببيانِ المُرادِ، وقُربِ معناه مِنْ المعقولِ، ومِن أمثلتِه قَولُه عند قولِه تعالى {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27]: «وكأنَّ معنيَّ صاحِبِ هذه المقالَةِ في قولِه هذا: ولو ترى إذ وُقِفوا على النَّارِ فقالوا: قد وُقِفْنا عليها مُكَذِّبين بآياتِ رَبِّنا كُفَّاراً، فيا ليتنا نُرَدُّ إليها فنُوقَفَ عليها غيرَ مُكَذِّبين بآياتِ رَبِّنا، ولا كُفَّاراً. وهذا تأويلٌ يدفعُه ظاهِرُ التَّنزيلِ؛ وذلك

(1)

جامع البيان 13/ 470. وينظر: 1/ 678، 7/ 541.

ص: 605

قولُه تعالى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، فأخبَرَ اللهُ تعالى ذِكرُه أنَّهم في قِيلِهم ذلك كَذَبَةٌ، والتَّكذيبُ لا يقعُ في التَّمَنِّي، ولكنَّ صاحِبَ هذه المَقالَةِ أظُنُّ به أنَّه لم يتدبَّرِ التأويلَ، ولَزِمَ سَنَنَ العربيَّةِ»

(1)

، ومثلُه قولُه عند قوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]: «فأمَّا قولُنا: إنَّه دلالَةٌ على الغايةِ التي يُنتَهى إليها في الرضاعِ عند اختلافِ الوالِدَين فيه؛ فلأنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه لمَّا حَدَّ في ذلك حدَّاً كانَ غيرَ جائِزٍ أن يكون ما وراءَ حَدِّه موافِقاً في الحُكمِ ما دونَه؛ لأنَّ ذلك لو كانَ كذلك لم يكُن للحَدِّ معنىً معقولٌ. وإذْ كان ذلك كذلك، فلاشَكَّ أنَّ الذي هو دونَ الحَوْلَين مِنْ الأجَلِ لَمَّا كان وقتَ رَضاعٍ كان ما وراءَه غيرَ وقتٍ له؛ وأنَّه وقتٌ لترك الرَّضاع، وأنَّ تمامَ الرَّضاعِ لَمَّا كانَ تمامَ الحَوْلَين؛ وكان التَّمامُ مِنْ الأشياءِ لا معنى للزيادَةِ فيه = كانَ لا معنى للزيادَةِ في الرضاعِ على الحَوْلَين»

(2)

.

ويُلاحظُ في تلك الأمثلةِ أنَّ ابنَ جريرٍ (ت: 310) يعتبرُ المُعارضَ الرّاجحَ مِنْ أيِّ قِسْمٍ كانَ من أُصولِ الأدِلَّةِ؛ نقليّاً كان أو عَقليّاً؛ إذْ كلاهما دليلٌ شرعيٌّ مُعتبرٌ.

كما يُلاحظُ أنَّ الأدلَّةَ النَّقليَّةَ مُقدَّمةٌ إجمالاً على الأدلَّةِ العقليَّةِ؛ لأنَّ فيها ما هو حاكمٌ على غيرِه مِنْ الأدلَّةِ، وإنَّما ثبتَت حُجِّيَّةُ الأدلَّةِ العقليَّةِ بها، قالَ الشّاطبي (ت: 790): «الأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ ضِربان: أحدهما: ما يرجِعُ إلى النَّقلِ المَحضِ. والثّاني: ما يرجِعُ إلى الرَّأيِ المَحضِ. وهذه

(1)

جامع البيان 9/ 210.

(2)

جامع البيان 4/ 207. وينظر: 1/ 534، 568، 9/ 341، 10/ 70، 15/ 51.

ص: 606

القِسمةُ هي بالنِّسبةِ إلى أصولِ الأدلَّةِ .. ، ثُمَّ نقولُ: إنَّ الأدلَّةَ الشَّرعيَّةَ في أصلِها محصورةٌ في الضِّربِ الأوَّلِ؛ لأنّا لم نُثبِت الضِّربَ الثّاني بالعقلِ، وإنَّما أثبَتناه بالأوَّلِ، إذْ مِنه قامَت أدلَّةُ صِحَّةِ الاعتمادِ عليه، وإذْ كانَ كذلك فالأوَّلُ هو العُمدةُ»

(1)

.

‌المطلبُ الثّالثُ: خصائصُ المُرجِّحاتِ في التَّفسيرِ.

تبيَّنَ مِمّا سبقَ أنَّ المُرجِّحاتِ أماراتٌ، ولا فرقَ في أصلِ اللُّغةِ بين الدَّليلِ والأمارةِ؛ إذْ كلاهما يُوصِلُ إلى المَطلوبِ

(2)

. أمّا في الاصطلاحِ فقد ذهبَ كثيرٌ مِنْ العلماءِ إلى أنَّ الدَّليلَ ما أفادَ القَطعَ، والأمارةَ ما أفادَ الظَّنَّ

(3)

. وخالَفَهم آخرون؛ وسَوَّوْا بين المعنيَيْن

(4)

، والمسألةُ اصطلاحيَّةٌ، والخلافُ فيها هيِّنٌ.

(5)

(1)

الموافقات 3/ 227.

(2)

يُنظر تعريفُ الدَّليلِ (ص: 20).

(3)

وهو قَولُ الجصّاصِ (ت: 370)، والباقلاني (ت: 403)، والجوَيْني (ت: 478). ونسبَه الباقلاني (ت: 403) إلى الفُقهاءِ والمُتكلِّمين، ونسبَه الآمديّ (ت: 631) للأُصوليّين. وذكرَه السَّمعاني (ت: 489) عن أكثرِ المُتكلِّمين لا جميعِهم. ينظر: الفقيه والمتفقه 2/ 45، والبحر المحيط 1/ 26، وشرح الكوكب المنير 1/ 53، والقطع والظَّن عند الأصوليّين 1/ 66.

(4)

وهو قُولُ أبي يعلى (ت: 458)، والخطيبِ البغدادي (ت: 462)، والباجي (ت: 474)، والشّيرازي (ت: 476)، والسَّمعاني (ت: 489)، وابنِ العربي (ت: 543)، وابنِ قدامة (ت: 620)، والآمدي (ت: 631)، وصفيّ الدّين الهندي (ت: 715)، والزَّركشي (ت: 794)، وابنِ النَّجّار (ت: 972)، ونسباه إلى أكثرِ الفقهاءِ والأصوليّين. يُنظر: الفقيه والمتفقه 2/ 45، والبحر المحيط 1/ 26، وشرح الكوكب المنير 1/ 53، والقطع والظَّن عند الأصوليّين 1/ 72.

(5)

قالَ الخطيبُ البغدادي (ت: 462): «وما غلطَ الفُقهاءُ ولا المُتكلِّمون» ، وقالَ الطّوفي (ت: 716): «والخلافُ اصطلاحيٌّ» . يُنظر: الفقيه والمتفقه 2/ 45، وشرح مُختصر الرَّوضة 2/ 674.

ص: 607

غيرَ أنَّ الأمرَ وإن كانَ كذلك؛ ومع القَولِ بأنَّ الأمارةَ يُمكنُ أن توصِلَ إلى القَطعِ، إلا أنَّ الغالبَ في الأماراتِ الظُّنونُ في واقعِ الحالِ؛ ومِن ثَمَّ جاءَت تابعةً للأدلَّةِ، وخادمةً لها عند التَّعارضِ.

ومع كثرةِ الأماراتِ وانتشارِها في أنواعِ الأدلَّةِ، إلا أنَّها محصورةٌ فيما وقعَ بينها الخلافُ مِنْ الأدلَّةِ؛ وفي نَوعٍ واحدٍ مِنْ الاختلافِ، وهو: ما تحقَّقَ فيه التَّعارضُ، وتعذَّرَ الجَمعُ. فمجالُ الأماراتِ مَحصورٌ في هذا البابِ، بخلافِ الاستدلالِ الذي يقعُ على الألفاظِ المُفردةِ، وذواتِ المعاني المُتعدِّدةِ، وذواتِ المعاني المُتعارضةِ، وليس للمُرجِّحاتِ إلا آخرَها؛ إذْ لا ترجيحَ في المَعنى الواحدِ، ولا في المعاني المُتوافقةِ.

كما اختصَّت أماراتُ التَّرجيحِ بأنَّ مِنها ما هو اصطلاحيٌّ يُتواضَعُ عليه، ويلتزِمُه بعضُهم، ولا يلزَمُ آخرين؛ كالتَّرجيحِ بتَضعيفِ الأقوالِ الأُخرى، وبذكرِ القَولِ الآخرِ بصيغةِ التَّمريضِ، وباقتصارِ العالمِ بأقوالِ المُفسِّرين على ذِكرِ قَولٍ واحدٍ مع وجودِ أقوالٍ أُخرى، ونحوِها مِنْ الوُجوهِ. وذلك بخلافِ الأدلَّةِ التي ثبتَ اعتبارُها بحُجَّةٍ مِنْ الشَّرعِ، وصارَ مِنْ أثرِ ذلك أن كثُرَ التَّنازعُ والاختلافُ في اعتبارِ كثيرٍ مِنْ أماراتِ التَّرجيحِ، وذلك لا مثيلَ له في بابِ الأدلَّةِ، وقد أشارَ ابنُ العربي (ت: 543) إلى أثرٍ مِنْ ذلك فقالَ: «والأماراتُ أعظمُ في

ص: 608

الإشكالِ؛ وما يُفيدُ الظَّنَّ أقربُ إلى الاختلافِ، وأَدعى إلى الاختلالِ»

(1)

.

* * *

(1)

قانون التّأويل (ص: 211).

ص: 609

‌الخاتِمةُ

الحمدُ لله على إفضالِه وإنعامِه، وأشكرُه في خِتامِ مباحث هذا الكتابِ على إتمامِه، وبعد:

فهذه خاتِمةُ هذا البحثِ، وفيها أهمُّ النتائجِ وأبرزُ التّوصياتِ، مُرتَّبةً على ما يأتي:

أوَّلاً: إنَّ مبحثَ أصولِ أدلَّةِ المعاني، ومناهجَ الاستدلالِ بها، مِنْ أجلِّ مباحثِ علمِ التَّفسيرِ، والعلمُ به، وتحريرُ مسائِلِه، مِنْ أَوْلى مُهمّاتِ المُفسِّرِ، وألزَمِ شروطِه؛ إذْ به تتحدَّدُ معالمُ هذا العلمِ، وتتبيَّنُ مَصادرُه، وهو للمعاني الميزانُ المُقسِطُ، والحكمُ العَدلُ.

ثانياً: إن إقامةَ الدَّليلِ على معاني القرآنِ الكريمِ ظهرَ مُصاحباً لبيانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له، وصحابتِه الكرامِ رضي الله عنهم، وصارَ هدياً عامّاً للسَّلفِ والأئِمَّةِ مِنْ بعدِهم، وبه تتفاضلُ التَّفاسيرُ، ويتمايزُ المُفسِّرون.

ثالثاً: تَميَّزَ تفسيرُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) بجُملَةٍ مِنْ المزايا، جعلتْ مِنه كتاباً مِنْ أجلِّ كتبِ التَّفسير وأوفاها؛ بشهادَةِ الأجِلَّةِ مِنْ العلماءِ، فقد كتبَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) تفسيرَه وهو مُفسِّرٌ، ولم يكتسِبْ هذا الاسمَ بعد تفسيرِه، وكانَ منهجُه النقديُّ في تفسيرِه أبرزَ ما تميَّزَ واشتهرَ به بين التَّفاسيرِ، مع إمامةِ مؤلِّفِه في عامَّةِ العلومِ الشَّرعيَّةِ والعربيَّةِ، ومِن ثَمَّ

ص: 611

فهو أّوْلى التَّفاسيرِ بالعنايةِ والدِّراسةِ والبحثِ، واستجلاءِ مَنهجِه في أبوابِ العلومِ والمعارفِ التَّفسيريَّةِ وغيرِها.

رابعاً: أرجعَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) أدلَّةَ المعاني إلى أصلَيْن كُلِّيَّيْن، نصَّ عليهما في مواضعَ كثيرةٍ مِنْ تفسيرِه، هما: الدَّليلُ النَّقليُّ، والدَّليلُ العقليُّ. وهما أصلُ معرفةِ الحقِّ مِنْ الباطلِ، والصَّوابِ مِنْ الخطأِ في كلِّ مَعلومٍ.

خامساً: بلغَت الأدلَّةُ التي اعتمدَها ابنُ جريرٍ (ت: 310) في إثباتِ المعاني أو نفيِها (11) دليلاً؛ وهي: (القرآنُ، والقراءاتُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، وأقوالُ السلفِ، ولغةُ العربِ، وأحوالُ النُّزولِ، والإسرائيليّاتُ)، وهي الأدلَّةُ النَّقليَّةُ.

و (النَّظائرُ، والسّياقُ، والدّلالاتُ العقليَّةُ)، وهي الأدلَّةُ العَقليَّةُ.

وبلغَت مواضِعُ الأدلّةِ التي استدلَّ فيها ابنُ جرير (ت: 310) على المعنى (10881) موضِعاً؛ (9295) موضِعاً مِنها دليلُها نقليٌّ، وذلك نِسبتُه (85. 4%)، والباقي (1586) موضِعاً دليلُها عقليٌّ، وذلك نِسبتُه (14. 6%).

سادساً: يقومُ منهجُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في الاستدلالِ على المعاني في التَّفسيرِ على قواعدَ عامَّةٍ مُطَّردةٍ في عمومِ الأدلَّةِ، وضوابطَ خاصَّةٍ بكلِّ دليلٍ على حِدةٍ.

سابعاً: أنَّ عربيَّةَ القرآنِ في ألفاظِه، وأساليبِه، ومعهودِ معانيه، أصلٌ عظيمٌ قرَّرَه ابنُ جريرٍ (ت: 310) أحسنَ تقريرٍ؛ لما يترتَّبُ عليه مِنْ أثرٍ في منهجِ الاستدلالِ بجميعِ الأدلَّةِ على المعاني.

ثامناً: أنَّ دليلَ أقوالِ السَّلفِ هو الإطارُ الحاوي لجميعِ الأدلَّةِ

ص: 612

سواه؛ ففيه التَّطبيقُ الأجلُّ والأكملُ لباقي الأدلَّةِ، وهو الجامعُ للأدلَّةِ المُعتبرةِ، والحافظُ لها فلا تخرجُ عنه، وهو المانعُ لغيرِها مِنْ الدُّخولِ إلى شيءٍ مِنْ بيانِ معاني القرآنِ الكريمِ. ومِن ثَمَّ استحقَّ هذا الدَّليلُ تلك العنايةَ الفائقةَ التي أَولاها إيّاه ابنُ جريرٍ (ت: 310) رحمه الله.

تاسعاً: أنَّ دليلَ الإجماعِ مِنْ أصرحِ الأدلَّةِ في إفادةِ المعاني والقَطعِ بها، وقد أخذَ حظَّه مِنْ عنايةِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) تنظيراً وتطبيقاً.

عاشراً: أنَّ في القراءاتِ القرآنيَّةِ -صحيحِها وشاذِّها- ذخيرةً وافرةً لبيانِ المعاني القرآنيَّةِ والاستدلالِ لها، والشَّاذُّ مِنْ القراءاتِ أوفرُ حظّاً وأكثرُ استعمالاً في بابِ الاستدلالِ، كما أفادَتْه نِسَبُ استعمالاتِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) لكليهِما.

إحدى عشرَ: أنَّ الحديثَ النَّبويَّ الصَّحيحَ الصَّريحَ مُقدَّمٌ في الاستدلالِ، والأخذُ به واجبٌ.

اثنى عشرَ: يصحُّ الاستدلالُ بالحديثِ الضَّعيفِ على المعاني ما لَمْ يكُنْ مُنكرَ المَتنِ، أو مُعارَضاً بأصحَّ مِنه، أو مَكذوباً، أو في تقريرِ شيءٍ مِنْ الأحكامِ.

ثالثَ عشرَ: مذهبُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في بابِ الإجماعِ أنَّه: لا يعتدُّ بخلافِ الواحدِ والاثنَيْن ونحوِهما مِنْ الأقلِّ، في مُقابلِ الجُمهورِ الأعظَمِ مِنْ المُجتهدين. وقد تبيَّنَ أنَّه مذهبٌ مَرجوحٌ، مَتروكٌ العملُ به. وقد وقعَ استدلالُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) على المعاني بتلك الصُّورةِ في (35) مَوضِعاً، ولا يُكادُ يُرى لذلك العددِ أثرٌ في مجموعِ استدلالاتِه

ص: 613

بالإجماعِ؛ والبالغةِ (378) موضِعاً، فضلاً عن مجموعِ استدلالاتِه

على المعاني في تفسيرِه؛ والبالغةِ (10881) موضِعاً.

رابعَ عشرَ: أنَّ كُلَّ مَنْ ذكرَ له ابنُ جريرٍ (ت: 310) قَولاً مِنْ السَّلفِ مُستدلّاً به على معنىً فهو مِنْ (أهلِ التَّأويلِ)، وله في تسميَتِهم بذلك غرضٌ دقيقٌ يكشِفُ عن أبرزِ ما تميَّزوا به عن غَيرِهم ممَّن يتكلَّمُ في معاني القرآنِ.

خامسَ عشرَ: أنَّ أقوالَ السَّلفِ حُجَّةٌ قاطِعةٌ في حصرِ المعاني؛ فلا يُخرَجْ عنها بما يُعارِضُها بحالٍ، كما أنَّها حُجَّةٌ قاطِعةٌ في حَصرِ الأدِلَّةِ المُعتبرَةِ في التَّفسيرِ.

سادسَ عشرَ: أثبتَتْ استدلالاتُ ابنِ جريرٍ (ت: 310) باللُّغةِ إمامَتَه في العلمِ بألفاظِ كلامِ العربِ، وأساليبِها، وقواعدِ كلامِها، كما وافَقَتْ أصولُه في بابِ الاستدلالِ باللُّغةِ أُصولَ أئِمَّةِ هذا العلمِ، ومَنهجَهم فيه.

سابعَ عشرَ: برعَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في الاستشهادِ بأشعارِ العربِ، ومَنثورِ كلامِها، بما لَمْ يُلحَقْ فيه؛ في دِقَّتِه، وحُسنِ اختيارِه للشَّواهدِ.

ثامنَ عشرَ: أنَّ علمَ ابنَ جريرٍ (ت: 310) بالقرآنِ وقراءاتِه والسُّنَّةِ وأقوالِ السَّلفِ وسَّعَ مداركَه في العلمِ بلُغةِ العربِ، ونوَّعَ شواهدَه، وقوَّى استشهاداتِه، وفي ذلك ما يُقدِّمُه في الاستدلالِ باللُّغةِ عن غيرِه مِنْ علماءِ اللُّغةِ ورُواتِها.

تاسعَ عشرَ: أنَّ إمامةَ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في علمِ التّاريخِ والسِّيَرِ وأخبارِ الأُممِ كانَ لها أكبرُ الأثرِ في حُسنِ الاستدلالِ بها على المعاني في تفسيرِه، ودِقَّةِ تمييزِ ما يصلُحُ مِنها للاستشهادِ، وتحديدِ موضعِ

ص: 614

الشّاهدِ مِنها، وإبرازِ ضوابطِ الاستدلالِ السَّليمِ بها، وتزييفِ ما خرجَ مِنها عن ذلك، والإعراضِ عمّا لا فائدةَ تحتَه مِنْ تفاصيلِها.

وقد استغرقَ هذا البابُ مِنْ الأدلَّةِ (أحوالُ النُّزولِ والإسرائيليّاتُ) مساحةً واسِعةً مِنْ استدلالاتِ ابنِ جريرٍ (ت: 310) في تفسيرِه؛ حيث بلغَت (682) موضِعاً.

عشرون: لم ينقُل ابنُ جريرٍ (ت: 310) الإسرائيليّاتِ في تفسيرِه عن غيرِ السَّلفِ، ولهذا ميزَتُه التي تبيَّنَت بجلاء ضمنَ مَنهجِه في ذلك.

إحدى وعشرون: أجادَ ابنُ جريرٍ (ت: 310) في تحديدِ الأغراضِ الثَّلاثةِ للاستدلالِ بالإسرائيليّاتِ في التَّفسيرِ، ولم يَخرُجْ بها عن ذلك.

اثنان وعشرون: المَنهجُ العامُّ في ترتيبِ الأدلَّةِ عند الشُّروعِ في التَّفسيرِ يبدأُ بدليلِ اللُّغةِ، ثُمَّ دليلِ النَّقلِ، ثُمَّ دليلِ العقلِ؛ وهذا المَنهجُ الأكثرُ عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وله مُناسبَتُه في علمِ التَّفسيرِ على ما أبانَه البَحثُ.

ثلاثةٌ وعشرون: إذا تعارضَت أدلَّةُ المعاني عند ابنِ جريرٍ (ت: 310) فإنَّه يسيرُ فيها على الجَمعِ أوَّلاً؛ أخذاً بقاعدةِ: إعمالِ الدَّليلَيْن أَوْلى مِنْ إهمالِهما أو إهمالِ أحدِهما. ويكونُ الجَمعُ بحَملِ أحدِ الدَّليلَيْن على زمانٍ دونَ زمانٍ، أو حالٍ دونَ حالٍ.

فإن لم يُمكنْ الجَمعُ صارَ إلى التَّرجيحِ بما يتقوّى به أحدُ الدَّليلَيْن على الآخرِ، وهي أنواعٌ كثيرةٌ، ينبغي العنايةُ بجَمعِها عند ابنِ جريرٍ (ت: 310)، وتصنيفِها بحسبِ مُتعلَّقاتِها مِنْ الأدلَّةِ.

أربعٌ وعشرون: أنَّ العلمَ بأصولِ الأدلَّةِ، ومنهجِ الاستدلالِ بها، هو

ص: 615

غايةُ ما يصلُ إليه مَنْ تخصَّصَ في أيِّ علمٍ، ومِن ثُمَّ فالعنايةُ بهذا الفرعِ مِنْ أصولِ التَّفسيرِ لازمةٌ لطلّابِ هذا العلمِ والمُتخصِّصينَ فيه، وأقسامُ القرآنِ والتَّفسيرِ وعلومِهما في جامِعاتِنا المُباركةِ أَوْلى مَنْ يتصدّى لهذه الفَضيلةِ؛ بتوجيه طُلّابِها للعنايةِ بهذا الفرعِ الأصيلِ مِنْ علمِ التَّفسيرِ، واعتمادِ ما يتمُّ به الإلمامُ بتلك الأصولِ ضمنَ مُقرَّراتِها.

والله تعالى أعلمُ وأحكَمُ، وصلى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصَحبِه وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدِّينِ، والحَمدُ لله رَبِّ العالَمين.

* * *

ص: 616

•‌

‌ فهرسُ المراجع.

1 -

الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، دار الأنصار، القاهرة، ط 1، 1397.

2 -

الإبانة عن معاني القراءاتِ، لمكي بن أبي طالب القيسي، ت: عبد الفتاح إسماعيل شلبي، مكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، ط 5، 1405.

3 -

الإتحاف بتمييز ما تبع فيه البيضاويُّ صاحبَ الكشَّاف، لمحمد بن يوسف الشامي، مخطوط في نسختين: الأولى في دار الكتب الظاهرية برقم 4488 فق، والثانية مصورة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم 4249.4 - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، للبوصيريُّ، ت: دار المشكاة للبحث العلمي، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1420.

5 -

إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، للبنّاء الدمياطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1422.

6 -

الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، ت: مركز الدراسات القرآنية، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية، 1426. وطبعة المكتبة العصرية، بيروت، 1424، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم.

7 -

اجتماعُ الجيوشِ الإسلامية، لابن القيّم، ت: عواد عبد الله المعتق، مكتبة الرشد، الرياض، ط 2، 1415.

ص: 641

8 -

الإجماعُ في الدَّراسات النَّحوية، لحسين رفعت حسين، عالم الكتب، القاهرة، ط 1، 1426.

9 -

الأحاديث المختارة، للضياء المقدسي، ت: عبد الملك بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط 1، 1410.

10 -

إجمالُ الإصابةِ في أقوالِ الصّحابةِ، للعلائي، ت: محمد سليمان الأشقر، منشورات مركز المخطوطات والتراث، الكويت، ط 1، 1407.

11 -

الاحتجاج بالشِّعر في اللغةِ، الواقع ودلالته، لمحمد حسن جبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986 م.

12 -

الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها، لحسن ضياء الدين عتر، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 1، 1409.

13 -

الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، تعليق: عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1424.

14 -

الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405.

15 -

أحكام القرآن، للجصاص، ت: عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415.

16 -

أحكام القرآن، للشافعي، جمعه البيهقي، ت: عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412.

17 -

أحكام القرآن، لابن العربي، ت: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1421.

18 -

أخبار الآحاد في الحديث النبوي، لعبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1416.

ص: 642

19 -

أخبار النحويين البصريين، للسيرافي، ت: محمد إبراهيم البنا، دار الاعتصام، القاهرة، ط 1، 1405.

20 -

الاختيارُ في القراءات منشؤه ومشروعيته، لعبد الفتاح إسماعيل شلبي، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1417.

21 -

جماعُ العلم، للشافعي، ت: أحمد محمد شاكر، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1986 م.

22 -

آداب البحث والمناظرة، لمحمد الأمين الشنقيطي، ت: سعود بن عبد العزيز العريفي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1426.

23 -

الآراء الشاذَّة في أصول الفقه، لعبد العزيز بن عبد الله النملة، دار التدمرية، ط 1، 1430.

24 -

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، ت: محمد سعيد البدري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 4، 1414.

25 -

أساس البلاغة، للزمخشري، ت: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419.

26 -

أسانيد نُسَخ التفسير والأسانيد المتكررة في التفسير، لعطية بن نوري الفقيه، دار كنوز إشبيليا، الرياض، ط 1، 1431.

27 -

أسباب نزول القرآن، للواحدي، ت: ماهر ياسين الفحل، دار الميمان، الرياض، ط 1، 1426.

28 -

استدراكات السَّلف في التفسير في القرون الثلاثة الأولى، لنايف بن سعيد الزهراني، دار ابن الجوزي، ط 1، 14230.

29 -

الاستدلال عند الأصوليين، لأسعد عبد الغني الكفراوي، دار السلام، القاهرة، ط 1، 1423.

ص: 643

30 -

الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمّنه الموطّأ من معاني الرّأي والآثار وشرح ذلك كلّه بالإيجاز والاختصار، لابن عبد البرّ، ت: سالم محمد عطا، ومحمد علي معوّض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1423.

31 -

الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، ت: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412.

32 -

الإسرائيليّات في التفسير والحديث، لمحمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 4، 1411.

33 -

أسرارُ العربية، لابن الأنباري، ت: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418.

34 -

الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية، للطوفي، ت: حسن بن عباس قطب، الفاروق الحديثة، القاهرة، ط 2، 1424.

35 -

الأشباه والنظائر في النحو، للسيوطي، ت: فايز ترحيني، دار الكتاب العربي، ط 1، 1404.

36 -

إصلاح المنطق، لابن السِّكِّيت، ت: أحمد شاكر، وعبد السلام هارون، دار المعارف، ط 4.

37 -

الأصمعيّات، للأصمعي، ت: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، دار المعارف، مصر، ط 7، 1993.

38 -

الأصول في النَّحو، لابن السرَّاج، ت: عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405.

39 -

أصول السَّرخسي، ت: أبي الوفا الأفغاني، دار المعرفة، بيروت.

40 -

أصولٌ في التفسير، لابن عثيمين، مكتبة السنة، القاهرة، ط 1، 1419.

ص: 644

41 -

الأضداد، لمحمد بن القاسم الأنباري، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا، 1407.

42 -

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين الشنقيطي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1426.

43 -

أطلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لسامي بن عبد الله المغلوث، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، 1426.

44 -

الاعتصام، للشاطبي، ت: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، ط 1، 1417.

45 -

الإعجاز البلاغي، لمحمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 2، 1418.

46 -

الإعراب في جدل الإعراب، لابن الأنباري، ت: سعيد الأفغاني، مطبعة الجامعة السورية، 1377.

47 -

الأعلام، للزِّرِكْلِي، دار العلم للملايين، بيروت، ط 6، 1984.

48 -

إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، ت: مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، ط 1، 1423.

49 -

الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، ت: إحسان عباس، وآخرون، دار صادر، بيروت، ط 1، 1423.

50 -

الأغفال وهو المسائل المُصلحَة من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجّاج، لأبي علي الفارسي، إصدارات المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2003 م.

51 -

الاقتراح في أصول النَّحو، للسيوطي، مطبوع مع شرحِه: فيض نشر الانشراح، لابن الطيّب الفاسي، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، ط 2، 1423.

52 -

اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، ت: ناصر بن عبد الكريم العقل، مكتبة الرشد، الرياض، ط 4، 1414.

ص: 645

53 -

الإقناع في مسائل الإجماع، لابن القطّان الفاسي، ت: حسن فوزي الصعيدي، الفاروق الحديثة، القاهرة، ط 1، 1424.

54 -

أقوال أبي عبيدة في تفسيرِ الطبري وموقفه منها، لبدر بن ناصر البدر، عمادة البحث العلمي، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط 1، 1428.

55 -

الأقوال القويمة في حكم النقل عن الكتب القديمة للبقاعي، ت: محمد مرسي الخولي، ضمن بحوث: مجلة معهد المخطوطات العربية، مجلد 26، الجزء 2، المحرم، سنة 1401.

56 -

الإكسير في علم التفسير، للطوفي، ت: عبد القادر حسين، مطبعة الآداب، مصر، 1977 م.

57 -

الإمام ابن جرير الطَّبريّ وتفسيرُه، من إصدارات مركز تفسير للدِّراسات القرآنية، الرياض، ط 1، 1433.

58 -

إمام المفسرين والمحدثين والمؤرخين أبو جعفر الطبري، لعلي بن عبد العزيز الشبل، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1417.

59 -

الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيّان التوحيدي، ت: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1424.

60 -

إنباه الرواة على أنباه النُّحاة، للقِفطي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، ط 1، 1424.

61 -

الانتصار للقرآن، للباقلاني، ت: عمر حسن القيّام، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1425.

62 -

الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم، للبطليوسي، ت: محمد رضوان الداية، دار الفكر، دمشق، ط 3، 1424.

63 -

الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، لابن الأنباري، ت: جودة مبروك محمد، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1.

ص: 646

64 -

إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، لابن الوزير اليماني، ت: أحمد مصطفى حسين، الدار اليمنية، 1405.

65 -

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه، مكي بن أبي طالب القيسي، ت: أحمد حسن فرحات، دار المنارة، جدة، ط 1، 1406.

66 -

إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل، لابن الأنباري، دار الحديث، القاهرة، 1428.

67 -

بحر العلوم، المَنسوبُ لأبي الليث السمرقندي، ت: علي معوض، وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1413.

68 -

البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ت: عادل عبد الموجود، وعلي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1422.

69 -

البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، ت: محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421.

70 -

بحوث ومقالات في اللغة، لرمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 3، 1415.

71 -

بدائِعُ الفوائد، لابن القيم، ت: علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1425.

72 -

البداية والنهاية، لابن كثير، ت: علي معوض، وعادل عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415.

73 -

البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريقَيْ الشاطبية والدُّرَّة، لعبد الفتاح قاضي، دار الكتاب العربي، بيروت.

74 -

البرهان في أصول الفقه، لأبي المعالي الجويني، تعليق: صلاح محمد عويضه، دار الكتب العلمية، يسروت، ط 1، 1418.

ص: 647

75 -

البرهان في علوم القرآن، للزركشي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار عالم الكتب، الرياض، 1424.

76 -

التفسير البسيط، للواحدي، مجموعة رسائل جامعية طبعتها عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1430.

77 -

البسيط في شرح جُملِ الزَّجَاجي، لابن أبي الربيع، ت: عياد بن عيد الثبيتي، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1407.

78 -

بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد، لابن تيمية، ت: موسى بن سليمان الدويش، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 3، 1422.

79 -

بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا.

80 -

بيان تلبيس الجهمية، لابن تيمية، مجموعة رسائل جامعية، طبعت بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، 1426.

81 -

بيان الوهم والإيهام، لابن القَطَّان، ت: الحسين آيت سعيد، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1418.

82 -

تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، ت: السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1427.

83 -

تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، ت: عبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكويت، 1385.

84 -

تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت.

85 -

تاريخ الأمم والملوك، لابن جرير الطبري، دار التراث، بيروت، ط 2،

ص: 648

1387، وطبعة: بيت الأفكار الدولية، ت: أبو صهيب الكرمي، وطبعة: دار الكتب العلمية، بيروت.

86 -

تاريخ دمشق، لابن عساكر، ت: عمر بن غرامة العمري، دار الفكر، بيروت، 1995 م.

87 -

تاريخ المدينة، لابن شَبّة، ت: فهيم محمد شلتوت، جدة، 1399.

88 -

التبصرة في أصول الفقه، للشيرازي، ت: محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، 1403.

89 -

التبصير في معالم الدين، لأبي جعفرالطبري، ت: علي بن عبد العزيز الشبل، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1425.

90 -

التبيان في آداب حَمَلة القرآن، للنووي، ت: بشير محمد عيون، مكتبة المؤيد، الطائف، ط 1، 1413.

91 -

التبيان في أيمان القرآن، لابن القيم، ت: عبد الله بن سالم البطاطي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1429.

92 -

تبيين كذب المُفتَري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، لابن عساكر، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1404.

93 -

التحبير في علم التفسير، للسيوطي، ت: فتحي عبد القادر فريد، دار المنار، القاهرة، 1406.

94 -

التحرير والتنوير، للطاهر ابن عاشور، نشر الدار التونسية.

95 -

تحرير علوم الحديث، لعبد الله بن يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط 1، 1424.

96 -

تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، للمزي، ت: عبد الصمد شرف الدين، المكتب الإسلامي، والدار القيّمة، ط 2، 1403.

ص: 649

97 -

تدريب الرّاوي في شرح تقريب النوواوي، للسيوطي، ت: طارق بن عوض الله بن محمد، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1424.

98 -

تذكرة الحفاظ، للقيسراني، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1415.

99 -

التسهيل لعلوم التنْزيل، لابن جزي الغرناطي، ت: رضا فرج الهمامي، المكتبة العصرية، صيدا، ط 1، 1423.

100 -

التَّعارض والتَّرجيح بين الأدلةِ الشَّرعية، عبد اللطيف عبد الله البرزنجي، دار الكتب العلمية، بيروت.

101 -

التَّعارض والتَّرجيح عند الأصوليين وأثرهما في الفقه الإسلامي، لمحمد إبراهيم الحفناوي، دار الوفاء، المنصورة، ط 2، 1408.

102 -

تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، لابن حجر، ت: إكرام الله إمداد الحق، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1.

103 -

التعريفات، للشريف الجرجاني، ت: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421.

104 -

تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء، لابن تيمية، ت: عبد العزيز بن محمد الخليفة، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1417.

105 -

تفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ت: محمود محمد عبده، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419.

106 -

تفسير غريب القرآن، لابن قتيبة، ت: إبراهيم محمد رمضان، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط 1، 1411.

107 -

تفسير القرآن بالقرآن تأصيل وتقويم، لمحسن بن حامد المطيري، دار التدمرية، ط 1، 1432.

ص: 650

108 -

تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، ت: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار الباز، بمكة المكرمة، ط 3، 1424.

109 -

تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ت: مصطفى السيّد، وآخرين، دار عالم الكتب، الرياض، ط 1، 1425.

110 -

التفسير الكبير، لفخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421.

111 -

التفسير اللغوي للقرآن الكريم، لمساعد بن سليمان الطيار، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1422.

112 -

التفسير والمفسرون، لمحمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 6، 1416.

113 -

التفسير النبوي مقدمة تأصيلية مع دراسة حديثية، لخالد بن عبد العزيز الباتلي، دار كنوز إشبيليا، الرياض، ط 1، 1432.

114 -

تفسير يحيى بن سلاَّم التيمي البصري، ت: هند شلبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2004 م.

115 -

تقريب التهذيب، لابن حجر، ت: أبي الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1416.

116 -

التقريب والإرشاد (الصغير)، للباقلاني، ت: عبد الحميد بن علي أبو زنيد، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1413.

117 -

التلخيص في أصول الفقه، لأبي المعالي الجويني، ت: عبد الله جولم النبالي، ووبشير أحمد العمري، دار البشائر الإسلامية، بيروت.

118 -

تلخيص كتاب الاستغاثة (الرد على البكري)، لابن تيمية، ت: محمد علي عجال، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، ط 1، 1417.

ص: 651

119 -

تلخيص المستدرك، للذهبي، مطبوع بذيل المستدرك على الصحيحين، للحاكم، ت: مصطفى عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1422.

120 -

التَّمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للإسنوي، ت: محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400.

121 -

التمهيد لِمَا في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر، ت: أسامة بن إبراهيم، الفاروق الحديثة، القاهرة، ط 3، 1424.

122 -

تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل، لابن تيمية، ت: علي محمد العمران، ومحمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1425.

123 -

التنْزيل وترتيبه، لابن حبيب النيسابوري، ت: نورة بنت عبد الله الورثان، 1422.

124 -

تهذيب الآثار، للطبري، ت: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ط 1.

125 -

تهذيب التهذيب، لابن حجر، ت: إبراهيم الزيبق، وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1416.

126 -

تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، عني بنشره وتصحيحه إدارة الطباعة المنيرية، دار الكتب العلمية، بيروت.

127 -

تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للمزي، ت: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400.

128 -

تهذيب اللغة، للأزهري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1421.

129 -

تيسيرُ أصولِ الفقه، لعبد الله بن يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط 2، 1421.

ص: 652

130 -

تيسير التحرير، لمحمد أمين بادشاه، دار الكتب العلمية، بيروت.

131 -

التيسير في القراءات السبع، لأبي عمرو الداني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1404.

132 -

التيسير في قواعد علم التفسير، للكافيجي، ت: ناصر بن محمد المطرودي، دار القلم، دمشق، ط 1، 1410.

133 -

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ت: محمد زهري النجار، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1415.

134 -

الثقات، لابن حبان، ت: السيد شرف الدين أحمد، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1395.

135 -

جامع البيان في تفسير القرآن، للإيجي، ت: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2004.

136 -

جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ت: أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 6، 1424.

137 -

جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، ت: مصطفى السقا، وآخرون، دار الفكر، بيروت، 1415، (مصورة عن طبعة مكتبة البابي الحلبي عام 1373).

138 -

وطبعة: مكتبة المعارف، القاهرة، ط 2، ت: محمود محمد شاكر، وراجعه وخرج أحاديثه: أحمد محمد شاكر.

139 -

وطبعة: دار هجر، القاهرة، ط 1، 1422، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي.

140 -

جامع الترمذي، ت: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي.

141 -

وطبعة: دار السلام، الرياض، ط 1، 1420.

ص: 653

142 -

الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1427.

143 -

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، ت: محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1416.

144 -

جامع المسائل، لابن تيمية، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1424.

145 -

الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1952 م.

146 -

جزءٌ فيه قراءات النبي صلى الله عليه وسلم، لأبي حفص الدوري، ت: حكمت بشير ياسين، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1408.

147 -

جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام، لابن القيم، ت: زائد بن أحمد النشيري، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1425.

148 -

جمع الجوامع، لابن السّبكي، مطبوع مع شرحه للمحليّ، دار الكتب العلمية، بيروت.

149 -

جمهرة اللغة، لابن دريد، ت: رمزي منير البعلبكي، دار العلم للملايين، ط 1، 1987 م.

150 -

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، ت: علي بن حسن الألمعي، وزميلاه، دار الفضيلة، ط 1، 1424.

151 -

حاشية الصبّان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417.

152 -

حُجَجُ القرآن، لأبي الفضائل أحمد بن المظفر الرازي، ت: أحمد عمر المحمصاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406.

ص: 654

153 -

الحجَّةُ للقراءِ السّبعةِ، لأبي علي الفارسي، ت: بدر الدين قهوجي، وبشير جويجابي، دار المأمون، دمشق/ بيروت، ط 2، 1413.

154 -

الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنّحويّة، لمحمد ضاري حمادي، مؤسسة المطبوعات العربية، بيروت، 1982 م.

155 -

حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 4، 1405.

156 -

خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، لعبد القادر البغدادي، ت: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 4، 1418.

157 -

الخصائص، لابن جنّي، ت: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421.

158 -

خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأوّل، لأبي شامة، ت: جمال عزُّون، أضواء السلف، ط 1، 1424.

159 -

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للمُحبّي الحموي، دار صادر، بيروت.

160 -

خلق أفعال العباد، للبخاري، ت: أسامة محمد الجمال، مكتبة أبو بكر الصديق، ط 1، 1423.

161 -

درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391.

162 -

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، ت: محمد عبد المعيد، مجلس دائرة المعارف، حيدر آباد، الهند، ط 2، 1392.

163 -

الدر المنثور، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، ت: نجدت نجيب، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1421.

ص: 655

164 -

دستور العلماء، لعبد النبي الأحمدنكري، تعريب: حسن هاني فحص، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421.

165 -

دقائق التفسير، دقائق التفسير، لابن تيمية، جمع: محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط 3، 1406.

166 -

دلائل الإعجاز، للجرجاني، ت: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ط 3، 1413.

167 -

دلائِل النِّظام، لعبد الحميد الفراهي، مطبوع ضمن رسائل الإمام الفراهي في علوم القرآن، الدائرة الحميدية، بمدرسة الإصلاح، أعظم كره، الهند، ط 2، 1411.

168 -

دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، للبيهقي، ت: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405.

169 -

دلالة السياق، لردة الله بن ردة الطلحي، معهد البحوث العلمية، جامعة أم القرى، ط 1، 1424.

170 -

دلالة السياق القرآني وأثرها في التفسير، لعبد الحكيم بن عبد الله القاسم، دار التدمرية، الرياض، ط 1، 1433.

171 -

ديوان الأعشى الكبير، ت: محمد أحمد القاسم، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1415.

172 -

ديوان جريرُ بشرح محمد بن حبيب، ت: نعمان محمد أمين طه، دار المعارف، مصر.

173 -

ديوان حسَّان بن ثابت رضي الله عنه، ت: وليد عرفات، دار صادر، بيروت، 2006 م.

174 -

ديوان أبي ذؤيب الهذلي، جمعه سوهام المصري، المكتب الإسلامي، ط 1، 1419.

ص: 656

175 -

ديوان ذي الرُّمَّةِ، بشرح أبي نصر الباهلي، ت: عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الإيمان، بيروت، ط 1، 1402.

176 -

ديوان العجاج، ت: سعدي ضناوي، دار صادر، بيروت، ط 1، 1997 م.

177 -

ديوان عديّ بن زيد العبادي، تحقيق وجمع: محمد جبار المعيبد، شركة دار الجمهورية، بغداد، 1385.

178 -

ديوان عمرو بن معدي كرب الزبيدي، جمع: مطاع الطرابيشي، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، ط 2، 1405.

179 -

ديوان الفرزدق، ت: علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت.

180 -

ديوان متمِّم بن نوَيْرة، ت: محمد حسن آل ياسين، بغداد، 1423.

181 -

ديوان المُثقِّب العبدي، ت: حسن كامل الصيرفي، معهد المخطوطات العربية، ط 1، 1391.

182 -

ديوان امرئ القيس، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط 5.

183 -

ديوان الهذليين، الدار القوميّة للطباعة والنشر، القاهرة، 1384.

184 -

ديوان طُفَيل الغَنَوي، بشرح الأصمعي، ت: حسان فلاح أوغلي، دار صادر، بيروت، ط 1، 1997 م.

185 -

ديوان رُؤبةُ بن العجّاجِ، ت: وليم بن الورد البروسي، دار ابن قتيبة، الكويت.

186 -

ديوان مسكينُ الدَّارميّ، ت: كارين صادر، دار صادر، بيروت، ط 1، 2000 م.

187 -

ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري، ت: أحمد سليم غانم، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1424.

188 -

الرَّدُّ على المنطقيين، لابن تيمية، دار المعرفة، بيروت.

ص: 657

189 -

رسائل ابن حزم، ت: إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1980 م- 1983 م.

190 -

الرسالة، للشافعي، ت: أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت.

191 -

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي، ت: محمد الأمد، وعمر عبد السلام، إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1420.

192 -

رؤية معاصرة في علم المناهج، لعلي عبد المعطي محمد، دار المعرفة الجامعية، مصر، 1984 م.

193 -

زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1423.

194 -

الزاهر في معاني كلمات الناس، لمحمد بن القاسم الأنباري، ت: حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1412.

195 -

الزّينة في الكلمات الإسلاميّة العربية، لأبي حاتم الرازي، ت: حسين بن فيض الله الهمداني، مركز الدراسات والبحوث اليمني، ط 1، 1415.

196 -

السبعة، لابن مجاهد، ت: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط 3.

197 -

سلك الدُّرر في أعيان القرن الثاني عشر، للحسيني، دار البشائر الإسلامية، ط 3، 1408.

198 -

سنن أبي داود، ت: محمد عوامة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ط 2، 1425.

199 -

سنن الدارقطني، ت: السيد عبد الله هاشم يماني، دار المعرفة، بيروت، 1386.

200 -

سنن الدارمي، ت: فؤاد أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1407.

201 -

السنن الكبرى، للبيهقي، ت: عبد السلام بن محمد علوش، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1425.

202 -

سنن ابن ماجة، ت: بشار عواد معروف، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1418.

203 -

سنن النسائي الصغرى (المجتبى)، للنسائي، ت: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط 2، 1406.

ص: 658

204 -

سنن النسائي الكبرى، للنسائي، ت: عبد الغفار البنداري، وسيد كسروي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411.

205 -

سنن سعيد بن منصور، ت: سعد بن عبد الله آل حُمَيِّد، دار الصميعي، الرياض، ط 2، 1420.

206 -

السُّنة، لابن أبي عاصم، ت: باسم بن فيصل الجوابرة، دار الصميعي، الرياض، ط 2، 1423.

207 -

السُّنة، لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، ت: محمد بن سعيد القجطاني، رمادي للنشر، الدمام، ط 3، 1416.

208 -

السُّنة، للمروزي، ت: سالم أحمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1408.

209 -

سيبويه والضرورة الشعرية، لإبراهيم حسن، مطبعة حسّان، القاهرة، ط 1، 1403.

210 -

سير أعلام النبلاء، للذهبي، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 11، 1417.

211 -

السِّيرة النبويَّة، لابن هشام، ت: مصطفى السقا، وآخرون، مؤسسة علوم القرآن.

ص: 659

212 -

الشّاهد الشّعري في تفسيرِ القرآن الكريم، لعبد الرحمن بن معاضة الشهري، دار المنهاج، الرياض، ط 1، 1431.

213 -

شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ت: عبد القادر الأرناؤوط، ومحمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، ط 1، 1406.

214 -

شرح أبيات مغني اللبيب، للبغدادي، ت: عبد العزيز رباح، وأحمد يوسف دقاق، دار الثقافة العربية، دمشق، ط 2، 1410.

215 -

شرح أبيات سيبويه، لابن السّيرافي، ت: محمد الرّيح هاشم، دار الجيل، بيروت، 1416.

216 -

شرح أشعار الهذليين، لأبي سعيد السكري، ت: عبد الستار أحمد فراج، راجعه: أحمد محمد شاكر، دار العروبة، القاهرة.

217 -

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للاَّلكائي، ت: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة، ط 3، 1415.

218 -

شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، للقرافي، دار الفكر، القاهرة، ط 1، 1393.

219 -

شرح جُمل الزَّجّاجي، لابن خرّوف الإسبيلي، لسلوى محمد عمر عرب، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1419.

220 -

شرح حدود ابن عرفة، للرّصّاع، المكتبة العلمية، ط 1، 1350.

221 -

شرح الدّرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع، لأبي عبد الله المنتوري، ت: الصّدّيقي سيدي فوزي، ط 1، 1421.

222 -

شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامريّ، للطوسي، ت: إحسان عباس، الكويت، 1962 م.

ص: 660

223 -

شرحِ ديوان الهُذليّين، للسُّكَّري، ت: عبد الستار أحمد فراج، مكتبة دار العروبة، القاهرة.

224 -

شرح السنة، للبغوي، ت: شعيب الأرناؤوط، ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403.

225 -

شرح صحيح مسلم، للنووي، دار الخير، بيروت، ط 3، 1416.

226 -

شرح القصائد السبع الطِّوال الجاهليّات، لابن الأنباري، ت: عبد السلام هارون، دار المعارف، مصر، ط 3.

227 -

شرح كفاية المتحفظ، لابن الطيّب الفاسي، ت: علي حسين البواب، دار العلوم، الرياض، ط 1، 1403.

228 -

شرح الكوكب المنير، لابن النجار الفتوحي، ت: محمد الزحيلي، ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، الرياض، 1418.

229 -

شرح اللمع، لأبي إسحاق الشيرازي، ت: عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1408.

230 -

شرح مختصر الروضة، للطوفي، ت: عبد الله عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1407.

231 -

شرح المُفصَّل، لابن يعيش، دار الطباعة المنيرية، مصر، 1928 م.

232 -

شرح المنهاج للبيضاوي في علم الأصول، لأبي الثناء الأصفهاني، ت: عبد الكريم بن علي النملة، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1420.

233 -

شرح مشكل الآثار، للطّحاوي، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1415.

234 -

شرح نقائض جرير والفرزدق، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، ت: محمد إبراهيم حور، ووليد محمود خالص، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، 1998 م.

ص: 661

235 -

شعب الإيمان، للبيهقي، ت: محمد السعيد بسيوني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410.

236 -

شعر الحارثِ بن خالدِ المخزومي، ت: يحيى الجبوري، بغداد، 1972 م.

237 -

الشِّعر والشُّعراء، لابن قتيبة، ت: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة.

238 -

الصّاحبي في فقه اللغة ومسائلها وسنن العرب في كلامها، لابن فارس، ت: أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418.

239 -

الصّاحبي، ت: السيّد أحمد صقر، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.

240 -

الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، ت: عقيل بن محمد المقطري، مؤسسة الريان، بيروت، ط 1، 1412.

241 -

الصَّحَاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، للجوهري، ت: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 3، 1404.

242 -

صحيح البخاري، ت: محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة، ط 1، 1422.

243 -

صحيح ابن حبان، لابن حبان البستي، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1414.

244 -

صحيح مسلم، لأبي الحجاج مسلم بن الحجاج، مطبوع مع شرحه للنووي دار الخير، بيروت، ط 3، 1416.

245 -

صريح السُّنَّة، لابن جرير الطبري، ت: بدر بن يوسف المعتوق، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، ط 2، 1426.

246 -

الصِّلةُ في تاريخِ أئمةِ الأندلس، لابن بشكوال، تصحيح: السيد عزّت العطّار، مكتبة الخانجي، ط 2، 1374.

ص: 662

247 -

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، ت: علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، ط 3، 1418.

248 -

ضرائر الشعر، لابن عصفور الإشبيلي، ت: السيد إبراهيم محمد، دار الأندلس، ط 1، 1980 م.

249 -

الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر، للآلوسي، شرح: محمد بهجت الأثري، المكتبة العربية، بغداد، والمطبعة السلفية، مصر، 1341.

250 -

الضعفاء، للعقيلي، ت: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1404.

251 -

ضوابط الفكر النَّحويّ، لمحمد عجاج الخطيب، دار البصائر، القاهرة.

252 -

الطَّبري والجهود النحوية في تفسيره، لأمان الدين محمد حتحات، دار الرفاعي، ط 1، 1430.

253 -

طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417.

254 -

طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، ت: محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، نشر هجر، مصر، ط 2، 1413.

255 -

طبقات الشّعراء، لابن المُعتزّ، ت: عبد الستار أحمد فراج، دار المعارف، مصر، ط 3.

256 -

طبقات فحول الشعراء، لابن سلام الجمحي، ت: محمود محمد شاكر، دار المدني، جدة.

257 -

طبقات القراء، للذهبي، ت: أحمد خان، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ط 1، 1418.

258 -

الطبقات الكبرى، لابن سعد الزهري، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

ص: 663

259 -

الطبقات الكبرى (الجزء المتمّم)، لابن سعد الزّهري، ت: محمد بن صامل السلمي، مكتبة الصديق، الطائف، ط 1، 1414.

260 -

طبقات المفسرين، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403.

261 -

طبقات النحويين واللغويين، لأبي بكر الزبيدي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر.

262 -

العجاب في بيان الأسباب، لابن حجر، ت: عبد الحكيم محمد الأنيس، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1418.

263 -

العدَّة في أصول الفقه، لأبي يعلى، ت: أحمد علي المباركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1410.

264 -

العقيدة النّظاميّة في الأركان الإسلامية، للجويني، ت: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية، القاهرة، 1412.

265 -

علل الحديث، لابن أبي حاتم، تحقيق فريق من الباحثين، بإشراف سعد الحميد، وخالد الجريسي، مطابع الحميضي، ط 1، 1427.

266 -

العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي، ت: إرشاد الحق الأثري، إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد، باكستان، ط 2، 1401.

267 -

علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاَّف، مكتبة الدعوة الإسلامية، شباب الأزهر، ط 8.

268 -

عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، لأحمد محمد شاكر، دار الوفاء، المنصورة، ط 2، 1426.

269 -

العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، لابن رشيق ت: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط 5، 1404.

270 -

غاية النهاية غي طبقات القراء، لابن الجزري، ت: برجستراسر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1427.

ص: 664

271 -

غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1424.

272 -

غنية الملتمس إيضاح الملتبس، للخطيب البغدادي، ت: يحيى بن عبد الله البكري الشهري، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1422.

273 -

الفاضل، للمُبرِّد، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط 3، 1421.

274 -

فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري، لابن حجر، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية، القاهرة، ط 3، 1407.

275 -

فتح القدير الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني، ت: عبد الرحمن عميرة، دار الوفاء، المنصورة، ط 2، 1418.

276 -

فتح المغيث بشرح ألفيّة الحديث، للسخاوي، ت: عبد الكريم الخضير، ومحمد آل فهيد، دار المنهاج، الرياض، ط 1، 1426.

277 -

فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل، ت: وصي الله عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1403.

278 -

فضائل القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام، ت: وهبي سليمان غاوجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411.

279 -

فضائل القرآن، للمستغفري، ت: أحمد فارس السلّوم، دار ابن حزم، ط 1، 1427.

280 -

فقه الإمام الطبري أصوله وخصائصه، لمحمد الدسوقي، حوليّة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة قطر، العدد 7، 1409.

281 -

الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، ت: عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 2، 1421.

282 -

في أصولِ النَّحو، لسعيد الأفغاني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1407.

ص: 665

283 -

فيض نشر الانشراح، لابن الطيّب الفاسي، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، ط 2، 1423.

284 -

الفهرست، لابن النّديم، ت: إبراهيم رمضان، دار المؤيد، الرياض، ط 2، 1417.

285 -

فهرس الفهارس، لعبد الحيّ الكتّاني، ت: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1982 م.

286 -

فهمُ السّلفِ الصّالح للنصوصِ الشّرعيّة؛ حقيقتُه وأهميّتُه وحُجّيتُه، لعبد الله بن عمر الدميجي، مركز البحوث والدراسات بمجلة البيان، ط 1، 1432.

287 -

قاموس الكتاب المقدس، لجورج بوست، المطبعة الأمريكانية، بيروت، 1894 م.

288 -

القاموس المحيط، للفيروزابادي، ت: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت، 1415.

289 -

قانون التأويل، لابن العربي، ت: محمد السليماني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1990 م.

290 -

القراءات الشاذة، لابن خالويه، ت: آرثر جفري، دار الكندي، اربد، 2002 م.

291 -

القراءات وأثرها في التَّفسير والأحكام، لمحمد بن عمر بازمول، دار الهجرة، ط 1، 1417.

292 -

القطع والظنّ عند الأصوليين، لسعد بن ناصر الشثري، دار الحبيب، الرياض، ط 1، 1418.

293 -

القطعيّةُ من الأدلة الأربعة، لمحمد دمبي دكوري، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط 1، 1420.

ص: 666

294 -

قطف الأزهار في كشف الأسرار، للسيوطي، ت: أحمد بن محمد الحمّادي، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط 1، 1414.

295 -

قوادح الاستدلال بالإجماع، لسعد بن ناصر الشثري، دار كنوز إشبيليا، الرياض.

296 -

قراءات القراء المعروفين، للأندرابي، ت: أحمد ناصيف الجنابي، مؤسسة الرسالة.

297 -

قواطِعُ الأدلَّة في الأصول، لابن السّمعاني، ت: عبد الله بن حافظ الحكمي، مكتبة التوبة، الرياض، ط 1، 1419.

298 -

قواعد الترجيح عند المفسرين، لحسين بن علي الحربي، دار القاسم، الرياض، ط 1، 1417.

299 -

القواعد الحسان لتفسير القرآن، لابن سعدي، دار ابن الجوزي، ط 1، 1413.

300 -

القياس في اللغة العربية، لمحمد الخضر حسين، المطبعة السلفية، القاهرة، 1353.

301 -

الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، للذهبي، ت: عزت علي عيد، وموسى محمد علي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط 1، 1392.

302 -

الكافي الشافِ في تخريج أحاديث الكشاف، لابن حجر، مطبوع بذيل الكشاف، للزمخشري.

303 -

الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، ت: يحيى مختار غزاوي، دار الفكر، بيروت، ط 3، 1409.

304 -

الكتاب، لسيبويه، ت: إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1420.

ص: 667

305 -

كتاب التوحيد، لابن خزيمة، ت: عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، دار الرشد، الرياض، ط 5، 1414.

306 -

الكشاف عن حقائق غوامض التنْزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري، ت: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، طط 1، 1415.

307 -

كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، للتهانوي، ت: علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، لبنان، ط 1، 1996 م.

308 -

كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمي، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1405.

309 -

كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعلاء الدين البخاري، دار الكتاب الإسلامي.

310 -

الكشف والبيان عن تفسير القرآن، للثعلبي، مخطوط، نسخة المكتبة المحمودية، بالمكتبة العامة بالمدينة المنورة، 98 تفسير.

311 -

الكشف والبيان، للثعلبي، ت: أبو محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1422.

312 -

الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي، ت: أحمد عمر هاشم، دار الكتاب العربي، ط 1، 1405.

313 -

الكليات، للكفوي، ت: عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1419.

314 -

لباب النُّقول في أسباب النزول، للسيوطي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1422.

315 -

لسان العرب، لابن منظور، دار عالم الكتب، الرياض، 1424، وهي مصورة عن الطبعة الميرية، بعناية أحمد فارس الشدياق، سنة 1300.

ص: 668

316 -

لسان الميزان، لابن حجر، ت: دائرة المعارف النظامية، الهند، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط 3، 1406.

317 -

لمع الأدلة في النحو، لابن الأنباري، ت: سعيد الأفغاني، مطبعة الجامعة السورية، 1377.

318 -

ما لَه حُكمُ الرَّفع من أقوالِ الصَّحابة وأفعالِهم، لمحمد بن مطر الزهراني، دار الخضيري، المدينة النبوية، 1418.

319 -

مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، ت: محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي، القاهرة.

320 -

مجالس في تفسير قوله تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، لابن ناصر الدين الدمشقي، ت: محمد عوامة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ط 1، 1421.

321 -

المجروحين، لابن حبّان، ت: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، حلب، ط 1، 1396.

322 -

مجلة الجامعة الإسلامية، نشر الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، عدد 112.

323 -

مجلة الحكمة، عدد 26، محرَّم 1424.

324 -

مجلة معهد المخطوطات العربية، مجلد 26، الجزء 2، المحرم، سنة 1401.

325 -

مجلة أبحاث اليرموك، جامعة اليرموك، الأردن، مجلد 21، عدد 4، 2005 م.

326 -

مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ت: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 1418.

ص: 669

327 -

المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، لابن جني، ت: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419.

328 -

المحرَّر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة، لخالد بن سليمان المزيني، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1427.

329 -

المحرَّر في علوم القرآن، لمساعد بن سليمان الطيار، مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي، جدة، ط 1، 1427.

330 -

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية، ت: عبد الله إبراهيم الأنصاري، والسيد عبد العال السيد إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 2.

331 -

المحصول، للرازي، ت: طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1418.

332 -

المُحمَّدون مِنْ الشُّعراءِ وأشعارُهم، للقفطي، ت: حسن معمري، جامعة باريس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1390.

333 -

مختصر الصواعق المرسلة، للموصلي، ت: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، 1414.

334 -

مختصر الفتاوى المصرية، للبعلي، ت: عبد المجيد سليم، محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت.

335 -

المختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لابن اللحام، ت: محمد مظهر بقا، مركز إحياء التراث الإسلامي، بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط 2، 1422.

336 -

مداخل إعجاز القرآن، لمحمود محمد شاكر، مطبعة المدني، مصر، ط 1، 1423.

337 -

مدخلٌ إلى كتابَيْ عبد القاهر الجُرجاني، لمحمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 1، 1418.

ص: 670

338 -

المدخل المُفصّل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب، لبكر بن عبد الله أبو زيد، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1417.

339 -

مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، للشِّنقيطي، إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد، ط 1، 1426.

340 -

مرآة الجِنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، لليافعي، ت: خليل منصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417.

341 -

مراتب الإجماع، لابن حزم، ويليه نقد مراتب الإجماع، لابن تيمية، ت: حسن أحمد إسبر، دار ابن حزم، ط 1، 1419.

342 -

المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، ت: طيار آلتي قولاج، دار صادر، بيروت، 1395.

343 -

المزهر في علوم اللغة وأنواعها، ت: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418.

344 -

مسائل الإمام أحمد، رواية ابنِه عبد الله، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1401.

345 -

مسائل الإمام الطستي عن أسئلة نافع بن الأزرق وأجوبة ابن عباس رضي الله عنه، ت: عبد الرحمن عميرة، دار الاعتصام، القاهرة.

346 -

المسائل الحلبيّات، لأبي علي الفارسي، ت: حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، ط 1، 1417.

347 -

مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن عباس، برواية: أبي بكر الخُتَّلي، وأبي طاهر العلاف، ت: محمد أحمد الدالي، طبع: الجفّان والجابي، ط 1، 1413.

ص: 671

348 -

المسالك في شرح موطّأِ مالك، لابن العربي، ت: محمد بن الحسين السليماني، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1428.

349 -

المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411.

350 -

المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية، لمحمد بن عبد الرحمن بن قاسم، ط 1، 1418.

351 -

المستصفى من علم الأصول، للغزالي، ت: نجوى ضو، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1.

352 -

مسند أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، القاهرة. وطبعة: دار المعارف، القاهرة، ط 1، ت: أحمد شاكر.

353 -

مسند أبي يعلى الموصلي، ت: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1، 1404.

354 -

المسوَّدَة في أصول الفقه، لآل تيمية، ت: أحمد بن إبراهيم الذروي، دار الفضيلة، الرياض، ط 1، 1422.

355 -

المصاحف، لابن أبي داود السجستاني، ت: محب الدين عبد السبحان واعظ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2، 1423.

356 -

مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، لناصر الدين الأسد، دار المعارف، مصر، ط 7، 1988 م.

357 -

المصنف، لابن أبي شيبة، ت: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1409.

358 -

المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403.

359 -

المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر، ت: سعد بن ناصر الشثري، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1419.

ص: 672

360 -

المطرب من أشعار أهل المغرب، لابن دحية الكلبي، ت: إبراهيم الأبياري وصاحبيه، دار العلم، بيروت، 1374.

361 -

معالم أصول الفقه عند أهلِ السُّنة والجماعة، لمحمد حسين الجيزاني، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1416.

362 -

معالم التنْزيل، لمحيي السنة البغوي، ت: محمد عبد الله النمر، وزميلاه، دار طيبة، الرياض، ط 4، 1417.

363 -

معاني القرآن، للفراء، ت: أحمد يوسف نجاتي، ومحمد علي النجار، دار السرور.

364 -

معاني القرآن، للنحاس، ت: محمد علي الصابوني، مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط 1، 1408.

365 -

معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)، لياقوت الحموي، ت: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1993 م.

366 -

معجم البلدان، للحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

367 -

معجم شيوخ الطَّبري، لأكرم محمد زيادة الفالوجي، الدار الأثرية، عمان، الأردن، ط 1، 1426.

368 -

معجم الطبراني الأوسط، ت: طارق عوض الله محمد، وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415.

369 -

معجم الطبراني الكبير، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 2، 1404.

370 -

معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، لعاتق بن غيث البلادي، دار مكة، ط 1، 1402.

371 -

معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم، للسيوطي، ت: محمد إبراهيم عبادة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط 1، 1424.

ص: 673

372 -

المعجم الوسيط، تأليف لجنة من العلماء بإشراف مجمع اللغة العربية بمصر، دار الدعوة، استانبول، 1410.

373 -

معرفة علوم الحديث وكميّة أجناسه، للحاكم النيسابوري، ت: أحمد فارس السلوم، دار ابن حزم، ط 1، 1424.

374 -

معرفة القرّاء الكبار على الطبقات والأعصار، للذهبي، ت: طيار آلتي قولاج، دار عالم الكتب، الرياض، 1424.

375 -

المعرفة والتاريخ، للفسوي، ت: أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1401.

376 -

معيار العلم، للغزالي، ت: سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، 1961 م.

377 -

مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام الأنصاري، ت: حسن حمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418.

378 -

مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ت: صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، ط 3، 1423.

379 -

المُفَسِّرُ شروطه وآدابه ومصادره، لأحمد قشيري سهيل، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1429.

380 -

مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، لمساعد بن سليمان الطيار، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1423.

381 -

مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير، لمساعد بن سليمان الطيار، دار المحدث، الرياض، ط 1، 1425.

382 -

مقاييس اللغة، لابن فارس، ت: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1420.

383 -

المقتضب، للمبرد، ت: محمد عبد الخالق عضيمه، عالم الكتب، بيروت.

ص: 674

384 -

مقدمات تفسير الأصفهاني، ت: إبراهيم بن سليمان الهويمل، بحث أكاديمي، نسخة المحقق، 1420.

385 -

مقدمتان في علوم القرآن، نشر وتصحيح: آرثر جفري، مكتبة الخانجي، مصر، ومكتبة المثنى، بغداد، 1954 م.

386 -

مقدمة جامع التفاسير مع تفسير الفاتحة ومطالع البقرة، للراغب الأصفهاني، ت: أحمد حسن فرحات، دار الدعوة، الكويت، ط 1، 1405.

387 -

مقدمة المفسرين، للبركوي، ت: عبد الرحمن بن صالح الدهش، من إصدارات مجلة الحكمة، ط 1، 1425.

388 -

المكي والمدني في القرآن الكريم، لعبد الرزاق حسين أحمد، دار ابن عفان، القاهرة، ط 1، 1420.

389 -

ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التَّنزيل، لابن الزبير الغرناطي، ت: سعيد الفلاح، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1403.

390 -

مناهج البحث العلمي، لعبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 3، 1977 م.

391 -

مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني، ت: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416.

392 -

منجد المقرئين ومرشد الطالبين، لابن الجزري، ت: علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1419.

393 -

المنخول من تعليقات الأصول، لأبي حامد الغزالي، ت: محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط 2، 1400.

394 -

منهاج البلغاء وسراج الأدباء، لحازم القرطاجنّي، ت: محمد الحبيب ابن خوجه، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1986 م.

ص: 675

395 -

منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط 1، 1406.

396 -

منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، لعثمان بن علي حسن، مكتبة الرشد، الرياض، ط 4، 1418.

397 -

منهج الإمام ابن جرير الطبري في الترجيح، لحسين علي الحربي، دار الجنادرية، الأردن، ط 1، 1429.

398 -

منهج الطبري في تهذيب الآثار ومذهبه في تصحيح الحديث، لعبد المجيد محمود عبد المجيد، مجلة أبحاث اليرموك، جامعة اليرموك، الأردن، مجلد 21، عدد 4، 2005 م.

399 -

الموافقات، للشاطبي، ت: مشهور حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الخبر، ط 1، 1417.

400 -

موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة، سليمان بن صالح الغصن، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1416.

401 -

موقفُ النُّحاةِ مِنْ الاحتجاجِ بالحديثِ النَّبويّ الشَّريف، لخديجة الحديثي، دار الرشيد، 1981.

402 -

ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، ت: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.

403 -

الناسخ والمنسوخ، للنحاس، ت: نجيب الماجدي، المكتبة العصرية، صيدا، ط 1، 1424. وطبعة: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1412، ت: إبراهيم اللاحم.

404 -

النبوات، لابن تيمية، ت: عبد العزيز بن صالح الطويّان، أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1420.

405 -

النُّحاة والحديث النبوي الشريف، لحسن موسى الشاعر، وزارة الثقافة والشباب، عمان، 1980 م.

ص: 676

406 -

النزعة النحوية الكوفية عند ابن جرير الطبري في تفسيره، بحث تكميلي لنيل درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، تخصص النحو والصرف، لجمال رمضان حيمد حديجان، بجامعة أم القرى، 1431.

407 -

نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لابن الأنباري، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، ط 1، 1424.

408 -

نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر، لابن بدران، دار ابن حزم، ط 2، 1415.

409 -

النَّشر في القراءات العشر، لابن الجزري، ت: علي محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت.

410 -

النظم الأَوْجَز فيما يُهمز وما لا يُهمز، لابن مالك، مطبوع مع شرحه، ت: علي حسين البواب، دار العلوم، ط 1، 1405.

411 -

نقد الصحابة والتابعين للتفسير، لعبد السلام بن صالح الجار الله، دار التدمرية، الرياض، ط 1، 1429.

412 -

نقض الدارمي على المريسي (نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد)، للدارمي، ت: رشيد بن حسن الألمعي، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1418.

413 -

النُّكت على كتاب ابن الصّلاح، لابن حجر، ت: ربيع بن هادي مدخلي، دار الراية، الرياض، ط 3، 1415.

414 -

النكت والعيون، لأبي الحسن الماوردي، ت: السيد بن عبد المقصود، دار الكتب العلمية، بيروت.

415 -

نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، ط 1، 1423.

416 -

نهاية السّول شرح منهاج الوصول، للإسنوي، عالم الكتب، بيروت.

ص: 677

417 -

النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين ابن الأثير، ت: صلاح عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418.

418 -

الوسيط في تفسير القرآن المجيد، للواحدي، ت: عادل عبد الموجود، وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415.

419 -

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلّكان، ت: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط 1، 1994 م.

* * *

ص: 678