الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب البيع
هُو مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ يَنْعَقِدُ بِإِيجَاب وَقَبُولٍ، بِلَفْظَي مَاضٍ وبتَعَاطٍ في النَّفِيسِ وَالخَسِيسِ، هو الصَّحِيحُ
كتاب البيع
(هُو مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ يَنْعَقِدُ بِإِيجَاب وَقَبُولٍ، بِلَفْظَي مَاضٍ وبتَعَاطٍ
(1)
في النَّفِيسِ وَالخَسِيسِ
(2)
)، فمُبادلةُ المالِ بالمالِ علَّةٌ صُوريَّةٍ لِلبَيْعِ، والإيجابُ والقَبُولُ والتَّعَاطِي عِلَّةٌ مادِيَّةٌ له
(3)
، والمُبَادلةُ تَكَونُ بين اِثْنَيْنِ فهما العِلَّةُ الفَاعِلِيَّةُ، ولم يَقُلْ على سبيلِ التَّراضي لِيَشْمَلَ ما لا يكونُ بالتَّراضي: كبيعِ المكره؛ فإنَّه بيعٌ منعقدٌ، (هو الصَّحِيحُ).
إِنَّمَا قال هذا لأَنَّ عند البعض
(4)
إنَّما يَنْعَقِدُ بالتَّعاطي في الخسيسِ لا في النَّفيس، والتَّعاطي عند البعضِ
(5)
الإعطاءُ من الجانبينِ، ويكفي عند البعضِ
(6)
من أحدِ الجانبين، كما إذا ساوَمَ وأخذَ المبيعَ ولم يكن معه وعاءٌ ليجعلَ المبيعَ فيه فكَالَهُ ففارَقَهُ، فَجَاءَ
(1)
التعاطي: وضع الثمن وأخذ المثمن عن تراض منهما من غير لفظة بعت واشتريت. ينظر: «أنفع الوسائل» (ص 233).
(2)
الخسيس: كحزمة بقلة وتفاحة ورمانة، والنفيس: كعقد جوهر، ومنهم من حد النفيس بنصاب السرقة فأكثر، والخسيس بما دونه. ينظر:«منح الغفار» (ق 2: 2/ب).
(3)
العلِّة ما يحتاجُ إليه الشَّيءُ في الوجود، وهي إما أن تكون جزء من المعلول أو خارجاً عنه، والأوَّل إمّا أن يحصلَ المعلولَ له بالقوّة وهي: العلّة الماديّة، أو بالفعل وهي: العلّة الصوريّة، وهاتان داخلتان في المعلول، والثاني: إمّا أن يصدرَ عنه المعلول: وهي العلّة الفاعليّة، أو لا يصدرُ عنه بل لأجله، وهي العلَّةُ الغائيّة، وهاتان خارجتان عن الماهية. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 7).
(4)
أي الكرخي فإنه قال ينعقد بالأشياء الخسيسة فقط. ينظر: «الفتح» (5: 459).
(5)
منهم: الحلواني والسغدي، وصاحب «البزازية» (1: 368)، والطرسوسي في «أنفع الوسائل» (ص 233)، وقال: عليه الأكثر.
(6)
منهم: أبو الفضل الكرماني، والسرخسي، وقاضي خان، وأبو اليسر، وصاحب «القنية» ، وابن الهمام في «الفتح» (5: 460)، والتمرتاشي في «التنوير» (ص 124)، و «المنح» (ق 2/ 2 ب)، وقال الكركي في «الفيض»: وبه يفتى، وأيده الحصكفي في «الدر المختار» (4: 11)، و ينظر:«شرح ابي المكارم» (ق 333)، و «مجمع الأنهر» (5: 2).
وإذا أَوجبَ واحدٌ قَبِلَ الآخَرُ في المجلسِ كلَّ المَبِيعِ بكلِّ الثَّمَنِ أو تَرَكَ، إلاَّ إذا بَيَّنَ ثمنَّ كلٍّ، وما لم يَقْبَلْ بطلَ الإيجابُ إن رَجَعَ الموجِبُ أو قامَ أيُّهما عن مجلسِهِ وإذا وُجِدَ أُلْزِمَ البيعَ، وَصَحَّ البيع في العِوضِ المُشَارِ إليه بلا عِلْمٍ بقَدْرِهِ ووَصْفِه، لا في غيرِ المشارِ إليه، وبثَمَنِ حالٍ، وإلى أجلٍ عُلِم، وبالثَّمَنِ المطلقِ، فإنِ استوتْ ماليَّةُ النُّقُود، فعلى ما قُدِّرَ به من أيِّ نوعٍ شاء، وإن اختلفت فعلى الأروج
بالوعاءِ وأعطَى الثَّمَنَ فهو جائزٌ. ولو قال: كيف تَبِيعُ الحنطة؟ فقال: قفيزاً
(1)
بدرهمٍ، فقال: كِلْ لي خمسةَ أَقْفِزَةٍ، فكَالَ، فذَهَبَ بها، فهذا بيعٌ، وعليه خمسةُ دراهمٍ.
(وإذا أَوجبَ واحدٌ قَبِلَ الآخَرُ في المجلسِ كلَّ المَبِيعِ بكلِّ الثَّمَنِ أو تَرَكَ، إلاَّ إذا بَيَّنَ ثمنَّ كلٍّ) أَي إذا قال: بعتُ هذا بدرهمٍ وذلك بدرهمٍ، فقَبِلَ أحدُهما بدرهمٍ يجوز.
(وما لم يَقْبَلْ بطلَ الإيجابُ إن رَجَعَ الموجِبُ أو قامَ أيُّهما عن مجلسِهِ وإذا وُجِدَ أُلْزِمَ البيعَ): أَي لا يَثْبُتُ خيارُ المجلسِ خلافاً للشَّافِعيِّ
(2)
رضي الله عنه، ولمَّا ذكرَ الإيجابَ والقَبُولَ أراد أَن يَذْكُرَ الثَّمَنَ والمَبِيعِ، وإنَّما قَدَّمَ ذِكْرَ الثَّمَن؛ لأَنَّهُ وسيلةٌ إلى حصولِ المَبِيع، وهو المَقْصُود، والوسائلُ مُتَقَدِّمَةً على المقاصد، فقال:
(وَصَحَّ البيع
(3)
في العِوضِ المُشَارِ إليه بلا عِلْمٍ بقَدْرِهِ ووَصْفِه، لا في غيرِ المشارِ إليه) فإنَّه حينئذٍ لا بُدَّ أَن يذكُرَ قدرَهُ ووَصفَه.
(وبثَمَنِ حالٍ، وإلى أجلٍ عُلِمَ.
وبالثَّمَنِ المطلقِ): أي إن لم يَذْكُرْ صِفَتَهُ بأَن قيل: بعتُ بعشرةِ دراهم، (فإنِ استوتْ ماليَّةُ النُّقُود، فعلى ما قُدِّرَ به من أيِّ نوعٍ شاء): أَي يَقَعُ البيع على عشرةِ دراهم من أيِّ نوعٍ كان: أَي يُعْطِي المُشْتَرِي أيِّ نوعٍ شاء، (وإن اختلفت فعلى الأروج
(1)
القفيزُ: وهو ثمانيةُ مكاكيل. ينظر: «المصباح المنير» (ص 511).
(2)
ينظر: «الأم» (3: 37)، و «نهاية المحتاج» (4: 4)، و «فتوحات الوهاب» (3: 104)، وغيرها.
(3)
زيادة من أ و ب و م.
وفسدَ إن استوى رواجُها إلاَّ إذا بَيَّنَ أَحَدَها، وفي الطَّعامِ والحُبوبِ كَيْلاً وجُزَافَاً إِنْ بِيعَ بِغَيْرِ جنسِه، وبإناءٍ وحَجَرٍ مُعينٍ لم يُدْرَ قدرُهُ، وفي صاعٍ في بيعِ صُبْرَةٍ كُلُّ صَاعٍ بِكَذَا، وفي كُلِّهَا إِنْ سَمَّى جُملةَ قُفْزانِها، وفسدَ في
وفسدَ إن استوى رواجُها): أَي في صورَةِ اختلافِ ماليَّةِ النُّقُود، (إلاَّ إذا بَيَّنَ أَحَدَها)
(1)
: أي أحدَ النُّقُودِ، وهذا استثناءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لأنَّ البحثَ في البيع بالثَّمَنِ المطلقِ، فلا يكونُ حال بيانِ أحدِ النُّقُودِ من جنسِ أحوالِ إطلاقِ الثَّمَنِ، ثم بعد ذكر الثمن شرعَ في ذكرِ المبيعِ، فقال:
(وفي الطَّعامِ
(2)
والحُبوبِ
(3)
كَيْلاً وجُزَافَاً
(4)
إِنْ بِيعَ بِغَيْرِ جنسِه، وبإناءٍ وحَجَرٍ مُعينٍ لم يُدْرَ قدرُهُ، وفي صاعٍ في بيعِ صُبْرَةٍ
(5)
كُلُّ صَاعٍ بِكَذَا): أَي إذا قال: بِعْتُ هذه الصُّبْرَة كُلُّ صَاعٍ بدرهمٍ صحَّ في صاعٍ واحد، (وفي كُلِّهَا إِنْ سَمَّى جُملةَ قُفْزانِها): أي إذا قال: بِعْتُ هذه الصُّبْرَة، وهي عشرةُ أَقْفِزَة، كُلُّ قَفِيزٍ بدرهمٍ صحَّ في الكلِّ، (وفسدَ في
(1)
إذن فالمسألة رباعيّة، فإنَّ النّقودَ:
إمّا أن تستويَ في الماليّة والرّواجِ معاً.
أو يختلفُ فيهما.
أو تستوي في الماليّة فقط.
أو الرَّواجِ فقط.
ففي الصُّورةِ الأولى: المشتري بالخيارِ في دفعِ أيُّهما شاء، فلو طلبَ البائعُ أحدَهما فللمشتري أن يدفعَ غيرَه؛ لأنَّ امتناعَ البائع عن قَبولِ ما دفعَه المشتري تعنّت؛ لأنَّ الاختلافَ في الاسم، ولا فضلَ لواحدٍ منهما على الآخر.
وفي الصّورةِ الثَّانية: يصرفُ إلى الأروجِ تحرِّياً للجواز.
وفي الصّورةِ الثالثة أيضاً: يصرفُ إلى الأروج.
وفي الصورةِ الرَّابعة: فسدَ البيعُ إلاَّ أن يبيّنَ أحدَهما؛ لأنّ الجهالةَ مفضيةٌ إلى المنازعة، إلاَّ أن ترفعَ الجهالة. ينظر:«البحر» (5: 204).
(2)
الطعام: وهو الحنطة ودقيقها؛ لأنه يقع عليهما عرفاً. ينظر: «الدرر» (2: 147).
(3)
الحبوب: وهي العدس والحمص ونحوهما. ينظر: «الدرر» (2: 147).
(4)
الجُزاف: بيع الشيء لا يعلم كيله ولا وزنه بالحدس. ينظر: «المصباح» (ص 99)، و «المغرب» (ص 83).
(5)
صُبرة: أي كوم طعام بلا كيل ولا وزن. ينظر: «فتح باب العناية» (2: 304).
الكلِّ في بيعِ ثَلَّةٍ أو ثَوْبٍ، كُلُّ شَاةٍ أو ذِرَاعٍ بكذا، وكذا كلُّ مَعْدُودٍ متفاوت. فإن باعَ صُبْرَةً على أنّها مائةُ صاعٍ بمئة، وهي أقلُّ أو أكثرُ أخذَ المُشْتَرِي الأقلَّ بحصَّتِهِ، أو فسخَ البيع، وما زادَ للبائع، وإن باعَ المَذْرُوعَ هكذا أَخَذَ الأَقَلَّ بكلِّ الثَّمَنِ أو تَرَك، والأَكثرُ له بلا خيارٍ للبائع
الكلِّ في بيعِ ثَلَّةٍ
(1)
أو ثَوْبٍ، كُلُّ شَاةٍ أو ذِرَاعٍ بكذا): لأنَّ البيعَ لا يجوزُ إلاَّ في واحدٍ، وذلك الواحدُ مُتَفَاوِت، (وكذا كلُّ مَعْدُودٍ متفاوت.
فإن باعَ صُبْرَةً على أنّها مائةُ صاعٍ بمئة، وهي أقلُّ أو أكثرُ أخذَ المُشْتَرِي الأقلَّ بحصَّتِهِ، أو فسخَ البيع، وما زادَ للبائع): لأنَّه لم يبعْ إلاَّ مائةَ صاعٍ، فالزَّائدُ له.
(وإن باعَ المَذْرُوعَ هكذا أَخَذَ الأَقَلَّ بكلِّ الثَّمَنِ أو تَرَك، والأَكثرُ له بلا خيارٍ للبائع): لأَنَّ الذِّراعَ وصفٌ فى الثَّوب
(2)
، والمرادُ بِالوَصْف: الأمرُ الذي إذا قامَ بالمحَلِّ يُوجِبُ في ذلك المحلِّ حسناً أو قبحاً، فالكميَّةُ المحضةُ لا تكونُ من الأوصاف، بل هي أصلٌ؛ لأنَّ الكميةَ عبارةٌ عن قلَّة الأجزاءِ أو كثرتِها، والشَّيءُ إنِّما يوجدُ بالأَجزاء، والوصفُ ما يَقَومُ بالشَّيءِ فلا بُدَّ أن يكونَ مؤخَّراً عن وجودِ ذلك الشَّيء، فالكميَّةُ التي يَختلفُ بها الكيفيَّةُ كالذَّرعِ في الثَّوْبِ أمرٌ يَختلفُ به حسنُ المزيدِ عليه.
فإنَّ الثَّوْبَ إذا كان عشرةَ أذرعٍ يساوي عشرةَ دنانير، وإن كان تسعةَ أذرعٍ لا يساوي تسعةَ دنانير؛ لأنَّها لا تكفي جُبَّةً
(3)
، والعشرةُ تكفي، فوجودُ الذِّراعِ الزائدِ على التِّسعةِ يزيدُ حسناً التِّسعةَ فيصيرُ كالأوصافِ الزَّائدة، فلا يقابلُها شيءٌ من الثَّمَن: أَي الثَّمَنُ لا يَنْقَسِمُ على الأَجزاءِ كما يَنْقَسِمُ في الحنطة، فإنَّهُ إذا كان عشرةَ أَقْفِزَةٍ بعشرةِ دراهمٍ، كان قُفِيزٌ واحدٌ بدرهمٍ، ولا كذلك في الثَّوْب، فإذا باعَ عشرةَ أذرعٍ بعشرةِ دراهم، فكان الثَّوْبُ تِسْعَةَ أذرعٍ كما في مسألتِنا لا يأخذه بتسعة، بل إن شاءَ أخذَ بعشرةٍ
(1)
الثَّلَة: جماعة الغنم، والكثير منها، أو من الضأن خاصة. ينظر:«القاموس» (3: 354).
(2)
حاصل الاستدلالِ أنَّ الذراعَ وصف، والثَّمنُ لا ينقسمُ على الأوصاف، فكان كلُّ الثَّمنِ مقابلاً لكلِّ المبيع، إلاَّ أنّه ثبتَ الخيارُ للمشتري؛ لأنّه فاته وصف مرغوب فيه وقعَ عليه العقد، وما زادَ فللمشتري، ولا خيارَ فيه للبائع؛ لأنَّ الزَّائد هاهنا وصف، فكان هذا بمنْزلة ما إذا باعَ بشرطِ أنّه معيب، فإذا هو سليم، وقد عرفتَ مدارَ الاستدلالِ كونَ الذِّراع وصفاً. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 9).
(3)
لجُبَّة: ضرب من مُقَطَّعات الثياب تُلْبَس، وجمعها: جُبب وجِباب. ينظر: «اللسان» (1: 532).
وإن قال: كلُّ ذراعٍ بدرهمٍ أَخَذَ الأَقَلَّ بحصَّتِهِ أو تَرَكَ، وأَخَذَ الأكثرَ كلُّ ذراعٍ بدرهمٍ أو فَسَخَ، وصحَّ بيعُ عشرةِ أسهُمٍ من مئةِ سَهْمٍ، لا بَيْعُ عشرةِ أذرعٍ من مئةِ ذراعٍ من دار، ولا بيعُ عِدْلٍ على أَنَّهُ عشرةُ أثواب، وهو أقلُّ أو أكثر، ولو بَيَّنَ لكلٍّ ثَمَنَاً صَحَّ في الأقلِّ بقدرِه، وخُيِّر، وفسدَ في الأكثر، وفي بيعِ ثوبٍ على أَنَّهُ عشرةُ أَذرعٍ، كلُّ ذراعٍ بدرهمٍ أَخَذَ بعشرةٍ في عشرةٍ ونصفٍ بلا خيارٍ، وبتسعةٍ في تسعةٍ ونصفٍ إن شاء، وقال أبو يوسفَ رضي الله عنه: إن شاء
وإنْ شاءَ تركَ، وإن كان زائداً كان للمشتري، فإنَّه باع هذا الثَّوبَ فوجدَ المُشْتَرِي فيه أمراً مرغوباً فكان للمشتري، كما إذا اشترى عبداً فوجدَه كاتِباً.
(وإن قال: كلُّ ذراعٍ بدرهمٍ أَخَذَ الأَقَلَّ بحصَّتِهِ أو تَرَكَ، وأَخَذَ الأكثرَ كلُّ ذراعٍ بدرهمٍ أو فَسَخَ): لأنَّه أفردَ كلَّ ذراعٍ بدرهمٍ، فلا بُدَّ من رعايةِ هذا المعنى.
واعلمْ أنَّ المسأَلةَ فيما إذا باعَ ثوباً على أَنَّهُ عشرةُ أذرعٍ بعشرةِ دراهمٍ، كلُّ ذراعٍ بدرهمٍ، فإذا هو تسعةُ أذرع، أو أحدَ عشرةَ ذراعاً، حتى لو كان تسعةً ونصفاً أو عشرةً ونصفاً فحكمُهُ ليس كذلك على ما سيأتي في هذه الصَّفحة.
(وصحَّ بيعُ عشرةِ أسهُمٍ من مئةِ سَهْمٍ، لا بَيْعُ عشرةِ أذرعٍ من مئةِ ذراعٍ من دارٍ): هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وقالا: صحَّ في الوجهين؛ لأنَّه باعَ عشراً مشاعاً من الدَّار
(1)
، وله: أنّ في الثَّاني المبيع مَحَلُّ الذِّراعِ، وهو مُعَيَّنٌ مجهولٌ لا مشاعٌ بخلاف السهم.
(ولا بيعُ عِدْلٍ
(2)
على أَنَّهُ عشرةُ أثواب، وهو أقلُّ أو أكثر): لأَنّهُ إذا كان أَقَلَّ لا يَدْرِي ثَمَنَ ما ليسَ بموجودٍ، فيكونُ حصَّةَ الموجودِ مجهولة، وإِنْ كان أكثرَ لا يكونُ المبيعُ معلوماً، (ولو بَيَّنَ لكلٍّ ثَمَنَاً صَحَّ في الأقلِّ بقدرِه، وخُيِّر، وفسدَ في الأكثر): لأَنَّ المبيعَ مجهول
(3)
.
(وفي بيعِ ثوبٍ على أَنَّهُ عشرةُ أَذرعٍ، كلُّ ذراعٍ بدرهمٍ أَخَذَ بعشرةٍ في عشرةٍ ونصفٍ بلا خيارٍ، وبتسعةٍ في تسعةٍ ونصفٍ إن شاء، وقال أبو يوسفَ رضي الله عنه: إن شاء
(1)
أي عشرة أذرع من مئة ذراع عشر الدار فأشبه عشرة أسهم. ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن الذراع اسم لما يذرع به واستعير لما يحله الذراع، وهو المعيَّن دون المشاع، وذلك غير معلوم بخلاف السهم. ينظر:«الهداية» (3: 24).
(2)
العِدل بالكسر: المثل. «مختار» (ص 417).
(3)
أي فيما إذا كان أحد عشر مثلاً؛ لأنّ العقدَ يتناولُ العشرة، فعلى المشتري ردّ الثَّوبِ الزائد، وهو مجهول؛ لاحتمالِ كونِهِ جيّداً أو رديئاً، فيصيرُ المبيعُ أيضاً مجهولاً. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 13).
أخذ بأَحَدَ عشرَ في الأَوَّلِ وبعشرةٍ في الثَّاني، وقال محمَّدٌ رضي الله عنه: إن شاءَ أَخَذَ بعشرةٍ ونصفٍ في الأوَّلِ وبتسعةٍ ونصفٍ في الثَّانِي، وصحَّ بيعُ البُرِّ في سُنْبُلِهِ والباقلاء والأرزِ والسِّمْسِمِ في قشرِها، والجَوْزُ واللَّوْزُ والفِسْتُقِ في قشرِها الأَوَّلِ، وبيعُ ثمرةٍ لم يبدُ صلاحُها أو قد بَدَا ويجبُ قطعُها، وشرطُ تركها على الشَّجَر
أخذ بأَحَدَ عشرَ في الأَوَّلِ وبعشرةٍ في الثَّاني، وقال محمَّدٌ رضي الله عنه: إن شاءَ أَخَذَ بعشرةٍ ونصفٍ في الأوَّلِ وبتسعةٍ ونصفٍ في الثَّانِي)
(1)
: لأَنَّ من ضرورةِ مقابلةِ الذِّراعِ بالدَّرهمِ مقابَلة نصفِهِ بنصفِه، ولأبي يوسفَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ كلَّ ذراعٍ ببدلٍ أُنْزِلَ كلّ ذراعٍ منْزلةَ ثوبٍ وقد انتقص، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أَنَّ الذِّراعَ وصف، وإنَّما أَخَذَ حُكْمَ المقدارِ بالشَّرط
(2)
، وهو مُقَيَّدٌ بالذِّرَاع، ففي الأقلِّ عاد الحُكْمُ إلى الأصل.
(وصحَّ بيعُ البُرِّ في سُنْبُلِهِ والباقلاء والأرزِ والسِّمْسِمِ في قشرِها): أي
(3)
بيعُ البُرِّ في سُنْبُلِهِ يجوزُ عندنا، وعن الشَّافِعِيِّ قولان
(4)
، وبيعُ الباقلاء الأخضرِ لا يجوزُ عنده
(5)
، (والجَوْزُ واللَّوْزُ والفِسْتُقِ في قشرِها الأَوَّلِ): إِنَّمَا قال في قِشْرَها الأَّوْلِ؛ لأَنَّ فيه خِلافَ الشَّافِعِيِّ
(6)
، أمّا في قشرِهَا الثَّانِي فيجوزُ اتفاقاً.
(وبيعُ ثمرةٍ لم يبدُ صلاحُها أو قد بَدَا ويجبُ قطعُها، وشرطُ تركها على الشَّجَرِ
(1)
في «البحر الرائق» (5: 316) نقلاً عن «الذخيرة» : قولُ أبي حنيفةَ أصحّ، ومن المشايخ من اختارَ قول محمّد وهو أعدل الأقوال كما لا يخفى. انتهى. وقال الحصكفي في «الدر المختار» (4: 33): صحح القهستاني وغيره قول الإمام، وعليه المتون، فعليه الفتوى. وأقرّه ابن عابدين في «حاشيته» (4: 33).
(2)
وهو قولُ البائع: كلُّ ذراعٍ بدرهم، والشرطُ مقيّد بالذِّراعِ لا غيره، وظاهرٌ أنَّ الكسرَ ليس بذراع، فلمّا فات الشّرط عادَ الحكمُ إلى الأصل، وهو الوصف، فصارت زيادةُ الكسرِ كزيادةِ الجودةِ مثلاً وإنّما كان الخيار للمشتري في صورةِ النقصانِ لفواتِ الوصفِ المرغوبِ فيه. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 11).
(3)
زيادة من ف.
(4)
وأصحهما لا يجوز كما قال الشيرازي في «التنبيه» (ص 96)، وينظر:«الأم» (3: 68)، و «أسنى المطالب» (2: 106)، وغيره.
(5)
ينظر: «الغرر البهية» (3: 37)، و «أسنى المطالب» (2: 106)، و «تحفة المحتاج» (4: 466)، وغيرها.
(6)
ينظر: «المحلي» (2: 291)، و «تحفة المنهاج» (2: 499)، و «نهاية المحتاج» (4: 150)، وغيرها.
يفسدُ البيعَ، كاستثناءِ قدرٍ معلومٍ منها، وأُجرةُ الكيلِ والوزنِ والذَّرعِ والعددِ على البائع، وأجرةُ وزنِ الثَّمَنِ ونقدُهُ على المشتري. وفي بيعِ سلعةٍ بثمنِ سَلَمٍ هو أوَّلاً، وفي غيرِهِ سلَماً معاً
يفسدُ البيعَ
(1)
، كاستثناءِ قدرٍ معلومٍ منها)
(2)
: أَي باعَ الثَّمَرَ على النَّخْلِ واستثنى قدراً معلوماً لا يجوزُ البيعُ؛ لأَنَّهُ ربما لا يبقى شيءٌ بعد المستثنى.
(وأُجرةُ الكيلِ
(3)
والوزنِ والذَّرعِ والعددِ على البائع، وأجرةُ وزنِ الثَّمَنِ ونقدُهُ على المشتري.
وفي بيعِ سلعةٍ بثمنِ سَلَمٍ هو أوَّلاً، وفي غيرِهِ سلَماً معاً): أي في بيعِ السِّلعةِ بالثَّمَنِ: أَي بالدِّراهمِ والدَّنانِيرِ سلَّمَ الثَّمَنَ أَوَّلاً؛ لأَنَّ السِّلْعَةَ تتعيَّنُ بالبيع، والدَّراهمِ والدَّنانيرِ لا تتعَيَّنُ إلاَّ بالتَّسليمِ فلا بُدَّ من تَعَيُّنِه
(4)
؛ لئلا يلزمَ الربا.
أو في غيرِه: أَي في بيعِ السِّلعةِ بالسِّلعةِ، وهو بيعُ المُقايَضة، وفي بيعِ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ: أَي الصَّرْفُ سُلِّمَا معاً لتساويهما في التَّعَيُّنِ وعدمِه.
(1)
أي ومن باع ثمرة بارزة ظهر صلاحها أو لا صحَّ، ولو برز بعضها دون بعض لا في ظاهر المذهب، ويقطعها المشتري في الحال فإن شرط تركها على الأشجار فسد، وقيل: لا إذا تناهت، وبه يفتى. ينظر:«التنوير» (ص 125). وقال صاحب «الفتح» (5: 488): لا خلافَ في عدمِ جوازِ بيعِ الثِّمارِ قبل أن تظهر، ولا في عدمِ جوازِهِ بعد الظّهورِ قبل بدو الصَّلاحِ بشرطِ التّرك، ولا في جوازِهِ قبل بدوّ الصّلاحِ بشرطِ القطعِ فيما ينتفعُ به، ولا في الجوازِ بعد بدوّ الصلاح، لكنّ بدوّ الصّلاح عندنا أن تؤمنَ العاهةُ والفساد.
(2)
ما ذكره المصنف رضي الله عنه وتبعه عليه الشارح رضي الله عنه تبعاً لقول صاحب «الهداية» (ص 113) في «البداية» وعليه كلام القدوري في «مختصره» (ص 34)، لكن صاحب «الهداية» (3: 26) قال: قالوا هذا روايةُ الحسن رضي الله عنه، وهو قول الطحاوي رضي الله عنه، وأمّا على ظاهر الرِّوايةِ ينبغي أن يجوز؛ لأنّ الأصلّ إنّما يجوزُ إيرادِ العقدِ عليه بانفراده، ويجوزُ استثناؤه من العقد، وبيع قفيز من صبرةٍ جائز، فكذا استثناؤه، وبخلاف استثنائه الحمل وأطرافَ الحيوان؛ لأنّه لا يجوزُ بيعه، فكذا استثناؤه. انتهى. واختار ظاهر الرواية صاحب «الكَنْز» (ص 97)، و «التنوير» (ص 126)، و «الملتقى» (ص 109).
(3)
فيما بيع مكايلة وكذا أجرة وزن المبيع وذرعه وعدّه على البائع؛ لأن هذه الأشياء من تمام التسليم، وهو على البائع، فكذا تمامه. ينظر:«رمز الحقائق» (2: 8).
(4)
يعني إذا وقعَ المنازعةُ بينهما في تسليمِ المبيع والثَّمنِ قيل للمشتري: ادفعْ الثَّمنَ أوّلاً؛ لأنَّ حقَّ المشتري تعيَّن في المبيع، فيقدَّمُ دفع الثَّمنِ ليتعيَّن في البائعِ في القبضِ لِمَا أنّه يتعيَّن بالتعيين تحقيقاً للمساواةِ في تعيين حقِّ كلِّ واحدٍ منهما. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 21).
باب الخيار
[فصل في خيار الشرط]
صحَّ خِيارُ الشَّرْطِ لكلٍّ من العاقدين، ولهما ثلاثةُ أيَّامٍ أو أقلَّ لا أكثرَ إلاَّ أنَّه يجوزُ إن أجاز في الثَّلاث، فإن اشترى على أنَّهُ إن لم يَنْقُدِ الثَّمَنَ إلى ثلاثة أيَّام فلا بيعَ صحَّ، وإلى أربعةٍ لا، فإنْ نَقَدَ في الثَّلاثِ جازَ، ولا يخرجُ مبيعٌ عن ملكِ بائعه مع خيارِه، فإن قبضَهُ المُشْتَري فهلَكَ يَجِبُ عليه بالقيمة
باب الخيار
[فصل في خيار الشرط]
(صحَّ خِيارُ الشَّرْطِ لكلٍّ من العاقدين، ولهما ثلاثةُ أيَّامٍ أو أقلَّ لا أكثرَ إلاَّ أنَّه يجوزُ إن أجاز في الثَّلاث): أَي إذا بيع وشُرِطَ الخِيارُ أكثرَ من ثلاثةِ أيّامٍ لا يجوزُ البيعُ خلافاً لهما، لكن إن أجيزَ في ثلاثةِ أيَّامٍ جازَ البيعُ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه خلافاً لزُفر رضي الله عنه.
(فإن اشترى على أنَّهُ إن لم يَنْقُدِ الثَّمَنَ إلى ثلاثة أيَّام فلا بيعَ صحَّ، وإلى أربعةٍ لا، فإنْ نَقَدَ في الثَّلاثِ جازَ): وإنِّما أدخلَ لفظةَ الفاءِ في قوله: فإن اشترى؛ لأنَّه فُرْعُ مسألةِ خِيارِ الشَّرط؛ لأَنَّ خِيارَ الشَّرْطِ إنِّما شُرِعَ ليدفعَ بالفَسْخِ الضَّررَ عن نفسِهِ سواءٌ كان الضَّرَرُ تأخير أداءِ الثَّمَن، أو غيره.
فإذا كان الخِيارُ لضررِ التَّأَخِيرِ من صُورِ خِيَارِ الشَّرْطِ فالتَّصريحُ به يكونُ من فُرُوعِ خِيارِ الشَّرْطِ، وهذا الذي ذُكِرَ قولُ أبي حنيفة رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه خلافاً لمحمَّدٍ رضي الله عنه، فإنَّهُ يُجَوِّزُهُ في الأكثر، فهو جَرَى على أصلِهِ في التَّجْويِزِ في الأكثر، وأبو حنيفةَ رضي الله عنه جَرَى على أصْلِهِ في عدمِ التَّجْويِزِ في الأكثر، أَمَّا أبو يوسفَ رضي الله عنه إنَّما لم يُجَوِّزْ هاهنا جَريَاً على القياس، وجَوَّزَهُ ثمَّة لأثرِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه فإنَّهُ جوَّزهُ إلى شهرين.
(ولا يخرجُ مبيعٌ عن ملكِ بائعه مع خيارِه، فإن قبضَهُ المُشْتَري فهلَكَ يَجِبُ عليه بالقيمة): أَيّ بيع بشرطِ الخِيارِ للبائعِ فقبضَهُ المُشْتَري فهلَكَ في يدِهِ يَجِبُ عليه
ويخرجُ عن ملكِ البائعِ مع خيارِ المشتري، فهُلْكُهُ في يدِهِ بالثَّمنِ كتَعْيُّبِه، ولا يملِكُهُ المُشْتَري، فشراءُ عرسِهِ بالخِيارِ لا يفسِدُ نكاحَهُ، وإن وَطِئَها رَدَّها؛ لأنَّهُ بالنِّكَاح إلاَّ في البِكْرِ
القيمةُ؛ لأنّه مقبوضٌ على سومِ الشِّراء، وهو مضمونٌ بالقيمة
(1)
.
(ويخرجُ عن ملكِ البائعِ مع خيارِ المشتري، فهُلْكُهُ في يدِهِ بالثَّمنِ كتَعْيُّبِه)
(2)
: أي إذا كان الخِيارُ للمُشْتَرِي وقبضَهُ المشتري فهَلَكَ أو تَعَيَّبَ في يدِهِ يَجِبُ الثَّمَنُ، (ولا يملِكُهُ المُشْتَري): أي إذا كان الخِيارُ للمُشْتَري لا يَمْلِكُهُ المُشْتَري عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه خلافاً لهما
(3)
، وثمرَةُ الخلافِ تظهرُ في هذه المسائل، وهي قولُه:
(فشراءُ عرسِهِ
(4)
بالخِيارِ لا يفسِدُ نكاحَهُ): عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه لعدمِ الملكِ وعندهما يُفْسِدُه، (وإن وَطِئَها رَدَّها؛ لأنَّهُ بالنِّكَاح إلاَّ في البِكْرِ): أَيْ إن وَطِئَها المُشْتَرِي في أَيَّام الخِيارِ يَمْلِكُ رَدَّها عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ الوَطْءَ بالنِّكاحِ فلا تكونُ إجازةً إلا أَن تكونَ بكراً؛ لأَنَّهُ نَقَصَها بالوطءِ فلا يَمْلِكُ الرَّدّ، وعندهما لا يملِكُ الرَّدُ وإن كانت ثيباً؛ لأنَّ المُشْتَرِي قد مَلَكَها ففسدَ النِّكاح، فالوَطءُ يكونُ بملكِ اليمينِ فيكونُ إجازةً متصلةً.
(1)
أي إذا لم يكن مثليّاً، فإن كان مثليّاً فعليه المثل، ثمّ إنّ المقبوضَ على سومِ الشِّراءِ إنّما يكون مضموناً إذا كان الثمنُ مسمّى حتى إذا قال: اذهبْ بهذا الثوب، رضيتُه اشتريتُه فذهبَ به فهلك، لا يضمن، ولو قال: إن رضيته اشتريته بعشرة، فذهبَ به فهلكَ ضمنَ قيمته، وعليه الفتوى. ينظر:«الكفاية» (5: 504).
(2)
أي كما إذا دخلَهُ عيبٌ لا يرتفعُ كقطعِ اليد، وإن كان يرتفعُ كالمرضِ فهو على خياره، فإن ارتفعَ في المدّة لا يلزم، وإلاَّ يلزم. ينظر:«رمز الحقائق» (2: 9).
(3)
لأنّه لو يملكهُ لكان خارجاً عن ملكِ البائعِ لا إلى مالك، ولم يُعْرَفْ هذا في الشّرع. ولأبي حنيفةَ رضي الله عنه: إنَّ الثمنَ لم يخرج عن ملكِ المشتري؛ لأنّ الخيارَ يعملُ في حقِّ مَن هو له، فلو دخل المبيع في ملكه دخل بلا عوض، واجتمعَ في ملكِهِ العوض ومعوّضه، ولم يُعْرَفْ هذا في الشرع، وقد عرفَ الخروجُ عن ملكِ شخص لا إلى مالك في مسائلَ:
منها: إذا اشترى متولّي أمرِ الكعبةِ عبداً لخدمتها؛ فإنّه يخرجُ عن ملكِ مالكه، ولا يدخلُ في ملك أحد. ومنها: مالُ التّركةِ إذا استغرقَه الدَّين، فإنّه يخرجُ عن ملك الميِّت، ولا يدخلُ في ملكِ الورثةِ ولا الغرماء.
ومنها: الوقف. ينظر: «كمال الدراية» (ق 372).
(4)
العِرْسُ: بالكسر: امرأة الرجل، والجمع أعراس. «مختار» (ص 423).
ولا يُعْتقُ قريبُهُ عليه في مدَّةِ خِيارِه، ولا مَن شراهُ قائلاً: إن ملكتُ عبداً فهو حرٌّ، ولا يعدُّ حيضُ المشريَّةِ في المدَّةِ من استبرائها، ولا استبراءَ على البائعِ إن رُدَّت عليه بالخيارِ، ومَن ولَدَتْ في المدَّةِ بالنِّكاحِ لا تصِيرُ أُمَّ ولدٍ له، وهُلْكُهُ في يدِ البائعِ عليه إن قبضَهُ المُشْتَرِي بإذنِهِ وأودعَهُ عنده؛ لارتفاعِ القبضِ
(ولا يُعْتقُ قريبُهُ
(1)
عليه في مدَّةِ خِيارِه): أَي إن اشترى قريبَه بالخِيارِ لا يُعْتَقُ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه في أَيَّامِ الخِيارِ خلافاً لهما.
(ولا مَن شراهُ قائلاً: إن ملكتُ عبداً فهو حرٌّ): أي إن قال: إن ملكتُ عبداً فهو حُرٌّ، فشراهُ بالخيارِ لا يعتقُ في أيَّام الخِيارِ عند أبي حنيفة رضي الله عنه لعدمِ الملك.
(ولا يعدُّ حيضُ المشريَّةِ في المدَّةِ من استبرائها)
(2)
: أي إن اشترى أمةً بالخِيارِ فحاضتْ في أيَّامِ الخِيار، فهذه الحيضةُ لا تُعَدُّ من الاستبراءِ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ الاستبراءَ إنَّما يَجِبُ بعد ثبوتِ الملك، (ولا استبراءَ على البائعِ إن رُدَّت عليه بالخيارِ): أي إن رُدَّتْ الأمةُ المشريَّةُ بالخِيارِ لا يجبُ الاستبراءُ على البائعِ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ الاستبراءَ إنِّما يجبُ بالانتقالِ من ملكٍ إلى ملكٍ، ولم يوجدْ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه حيث لا يملكُها المُشْتِرِي.
(ومَن ولَدَتْ في المدَّةِ بالنِّكاحِ لا تصِيرُ أُمَّ ولدٍ له): أي إن اشترى زوجتَه بالخِيار، فوَلَدَتْ في أيَّامِ الخِيارِ في يدِ البائعِ لا تصِيرُ أمَّ ولدٍ للمشتري، فيملِكُ الرَّدَّ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما تصيرُ أمَّ ولدٍ له؛ لأنَّها ولدت في ملكِ المُشْتَرِي، فلا يملِكُ الرَّدّ، وإنَّما قلنا: في يدِ البائعِ حتى لو قَبَضَ المُشْتَرِي ووَلَدَتْ في يدِهِ تصيرُ أمَّ وَلَدٍ له بالاتفاق؛ لأَنَّها تعَيَّبَتْ بالولادة، فلا يملكُ الرَّدَّ فصارتْ ملكاً للمُشْتَرِي، فالولادةُ وقعَتْ في ملكِ المُشْتَرِي لا في ملكِهِ، فتصيرُ أمَّ وَلَدٍ له.
(وهُلْكُهُ في يدِ البائعِ عليه إن قبضَهُ المُشْتَرِي بإذنِهِ وأودعَهُ عنده؛ لارتفاعِ القبضِ
(1)
أي ذا رحم محرم منه. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 27).
(2)
الاستبراءُ لغة: طلبُ البراءةِ مطلقاً، وفي اصطلاحِ الفقهاء: طلبُ براءةِ الرَّحم، فمَن ملكَ أمةً رقبةً ويداً سواءً كان الملكُ بالشَّراءِ أو بغيره، كهبة، أو إرث، أو غيرهما، فيحرم على المالكِ وطؤها ودواعيه حتى يستبرئ بحيضةٍ فيمَن يحيض، وبشهرٍ في الآيسة والمنقطعة عن الحيض، فإنَّ الشَّهرَ قائمٌ مقامَ الحيضِ في العدّة، فكذا في الاستبراء أيضاً، وفي ممتدّة الطّهر بثلاثةِ أشهرٍ عند الشيخين، وبأربعة أشهرٍ وعشر عند محمّد، وفي الحاملِ بوضعها. ينظر:«الزبدة» (3: 15).
بالرَّدِّ لعدمِ الملكِ، وبَقِيَ خِيارُ مأذُونٍ شَرَى شيئاً بالخِيارِ وأَبْرَأهُ بائعُهُ عن ثمنِهِ في المدَّة؛ لأَنَّ المأذُونَ يلي عدمَ التَّمَلُّكِ، وبطلَ شراءُ ذمْيٍّ من ذميٍّ خمراً بالخِيارِ إن أسلم؛ لئلا يتمَلَّكَها مسلماً بإسقاطِ خِيارِهِ
بالرَّدِّ لعدمِ الملكِ): أي المُشْتَرِي بالخِيارِ
(1)
إن قَبَضَ مُشَتَرَاهُ، ثمَّ أودعَهُ عند البائعِ، فهَلَكَ في يدِ البائِعِ، فهُلْكُهُ في يدِهِ يكونُ على البائع؛ لأَنَّ القَبْضَ قد ارتفعَ بالرَّدّ؛ لأَنَّ المُشْتَرِي لم يَمْلِكْهُ، فلم يصحَّ الايداع، بل رَدُّهُ إلى البائعِ يكونُ رفعاً للقَبْضِ، فَيَكُونُ الهلاكُ قبل القَبْض، فيكونُ على البائع، وعندهما لمَّا مَلَكَهُ المُشْتَرِي صَحَّ إيداعُهُ، فلا يَرْتَفِعُ القَبْضُ، فكأنَّه هَلَكَ في يدِ المُشْتَرِي، فيكونُ الهَلاكُ من ماله.
(وبَقِيَ خِيارُ مأذُونٍ شَرَى شيئاً بالخِيارِ وأَبْرَأهُ بائعُهُ عن ثمنِهِ في المدَّة؛ لأَنَّ المأذُونَ يلي عدمَ التَّمَلُّكِ): أي إن اشْتَرَى عبدٌ
(2)
مأذونٌ شيئاً بالخِيار، وأبرأهُ بائعُهُ عن ثمنِهِ في مُدَّةِ الخِيارِ، بَقِي خِيارُهُ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: لا يبقى له الخِيَار؛ لأَنَّهُ إن بقي كان له ولايةُ الرَّدِّ، فردُّهُ يكون تَمْلِيكَاً بغيرِ عِوَضٍ، والمأذونُ لا يملكُ ذلك، وعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه لَمَّا لم يَمْلِكْهُ كان رَدُّهُ امتناعاً عن التَّمَلُكِ، وللمأَذُونِ ولايةُ ذلك؛ فإنَّهُ إذا وُهِبَ له شيئاً فله ولايةُ أَنْ لا يَقْبَلَهُ.
(وبطلَ شراءُ ذمْيٍّ من ذميٍّ خمراً بالخِيارِ إن أسلم؛ لئلا يتمَلَّكَها مسلماً بإسقاطِ خِيارِهِ): أي إن اشترى ذِمْيٌّ بشرطِ خِيارِهِ من ذِمْيٍّ خمراً، ثُمَّ أسلمَ المُشْتَرِي
(3)
بطلَ شراؤُه؛ لأَنَّهُ إن بَقِيَ فعندَ إسقاطِ الخِيارِ يَتَمَلَّكُهُ المُشْتَري، فيلزَمُ تَمَلُّكَ المسلم الخمر، وعندهما ينفذُ الشِّراءُ وبطلَ الخِيار؛ لأَنَّهُ لو بَقِيَ يَمْلِكُ رَدَّهَا، والرَّدُّ يكونُ
(1)
قيّدَ به لأنّه لو كان الخيارُ للبائعِ فسلَّمَ المبيعَ إلى المشتري فأودعَه البائع، فهلكَ عنده بطلَ البيعُ عند الكلّ، ولو كان البيعُ باتّاً فقبضَ المشتري المبيعَ بإذنِ البائعِ أو بغيرِ إذنه ثمَّ أودعه البائع فهلك، كان على المشتري اتّفاقاً؛ لصحّة الإيداع. ينظر:«البحر» (6: 17).
(2)
قيد به؛ لأن الإذن نوعان:
أحدهما: إذن العبد، وهو فك الحجر بالرق الثابت شرعاً على العبد وإسقاط الحقّ فيتصرف العبد لنفسه لأهليته.
وثانيهما: إذن الصبي والمعتوه، وهو فك الحجر وإثبات الولاية لهما. ينظر:«درر الحكام» (2: 276).
(3)
أما لو أسلم البائع فلا يبطل بالإجماع وصار المشترى على حاله. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 28).
ومَن له الخِيارُ يُجِيزُ وإن جَهِلَ صاحبُه ولا يَنْفَسِخُ بلا علمِه، فإن فسخَ وعَلِمَهُ في المدَّة انفسخَ وإِلاَّ تَمَّ عَقْدُه
تمليكاً، والمسلم لا يملكُ تمليكَ الخمر، فهذه المسائلُ ثمراتُ الخلاف
(1)
(ومَن له الخِيارُ يُجِيزُ وإن جَهِلَ صاحبُه ولا يَنْفَسِخُ بلا علمِه): أَي إن فسخَ مَن له الخِيارُ لا يَنْفَسِخُ بلا عِلْمِ صاحبِهِ خلافاً لأبي يوسفَ رضي الله عنه والشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه، لَهُمَا: أنّه إن شرطَ عِلْمِ صاحبِهِ لم يبقَ فائدَة في شرطِ الخِيارِ؛ لأَنَّ صاحبَهُ إن اختفى في مُدَّةِ الخِيار، فلم يَصِلِ الخبرُ إليه، فيتمُّ العقدُ فيَتَضَرَّرُ مَن له الخِيار
(3)
، (فإن فسخَ وعَلِمَهُ في المدَّة انفسخَ وإِلاَّ تَمَّ عَقْدُه
(4)
.
(1)
وزادوا عليها مسائل أخر:
منها: ما إذا تخمّرَ العصيرُ في بيعِ مسلمين في مدّته فسدَ البيعُ عنده، ولعجزِهِ عن تملّكه عندهما يتمُّ لعجزِهِ عن ردّه.
ومنها: لو اشترى داراً على أنّه بالخيار وهو ساكنها بإجارةٍ أو إعارة فاستدامَ سكنها، قال السَّرَخْسِيُّ: لا يكونُ اختياراً، وهو كابتداءِ السّكنى، وقال خُوَاهَرْ زَادَه: استدامتُها اختيارٌ عندهما؛ لملك العين، وعنده: ليس باختيار.
ومنها: حلالٌ اشترى ظَبيّاً بالخيار فقبضه ثمّ أحرم، والظَّبْيُّ في يدِهِ ينتقضُ البيعُ عنده، ويردُّ إلى البائع، وعندهما: يلزمُ المشتري، ولو كان الخيارُ للبائعِ ينتقضُ بالإجماع، ولو كان للمشتري فأحرمَ البائع، للمشتري أن يردّه.
ومنها: إذا كان الخيارُ للمشتري، وفسخ العقد فالزوائدُ تردّ على البائعِ عنده؛ لأنّها لم تحدث على ملكِ المشتري، وعندهما: للمشتري؛ لأنّها حدثت على ملكِه. ينظر: «الفتح» (5: 509)، و «البحر» (6: 17 - 18)، و «مجمع الأنهر» (2: 28).
(2)
ينظر: «المنهاج» وشرحه «مغني المحتاج» (2: 49)، وغيرهما.
(3)
ولأبي حنيفة رضي الله عنه ومحمد رضي الله عنه أنه تصرُّف في حقّ الغير بالرفع ولا يعرى عن الضرر؛ لأن الخيار إن كان للبائع جاز أن يعتمد المشتري تمام العقد فيتصرَّف فيه، فيلزمه غرامة القيمة بهلاك المبيع، وإن كان للمشتري جاز أن لا يطلب البائع لسلعته مشترياً، وهذا نوع ضرر فيتوقَّفُ على علمِهِ كعزل الوكيل، بخلاف الإجازة إذ لا إلزام فيها مع أنه موافق له فيها، وعورض بأن ما ذكرتم من إلزام الضرر وإن دلّ على اشتراط العلم ولكن عندنا ما ينفيه وهو أنه إن لم ينفرد بالنقض لربما اختفى من ليس له الخيار إلى مضي المدّة فيلزمُ البيع، وأجيب بأنه ضررٌ مرضيٌّ به منه حيث ترك الاستيثاق بأخذ الكفيل مخافة الغيبة. ينظر:«الدرر» (2: 153).
(4)
محلُّ هذا الاختلاف في الفسخ بالقول، أما الفسخ بالفعل كالبيع والعتق وتوابعه والوطء وداوعيه بشهوة ضمني فلا خلاف في جوازه مع غيبة الآخر. ينظر:«الشرنبلالية» (2: 153).
ويورَثُ خِيارُ العيبِ والتَّعْيينِ لا الشَّرطِ والرُّؤيةِ، وإن اشترى وشرطَ الخِيارَ لغيرِه، فأيٌّ أجازَ أو نقضَ صحَّ ذلك، فإن أجازَ أحدُهُما وفسخَ الآخَر، فالأَوَّلُ أَوْلَى، وإن وُجِدَا معاً فالفسخُ أَوْلَى، وبيعُ عبدينِ بالخِيارِ في أحدِهِما صحَّ إن فَصَّلَ ثَمَنَ كُلٍّ، وعَيَّنَ مَحَلَّ الخِيار، وفسدَ في الأوجهِ الباقية
ويورَثُ خِيارُ العيبِ والتَّعْيينِ لا الشَّرطِ والرُّؤيةِ): خِيارُ التَّعيينِ: أن يشتري أحدَ الثَّوْبَيْنِ بعشرةٍ على أن يُعَيِّنَ أَيَّاً شاء، وخِيارُ الشَّرطِ يورثُ عند الشَّافِعِي
(1)
رضي الله عنه أَيْضَاً، وخِيارُ الرَّؤيةِ لا يَتَأَتَّى على مذهبِه
(2)
؛ لأنّ شراءَ ما لم يرَهُ لا يجوزُ عنده (في أظهر القولين)
(3)
.
(وإن اشترى وشرطَ الخِيارَ لغيرِه، فأيٌّ أجازَ أو نقضَ صحَّ ذلك، فإن أجازَ أحدُهُما وفسخَ الآخَر، فالأَوَّلُ أَوْلَى، وإن وُجِدَا معاً فالفسخُ أَوْلَى): قالوا ذلك؛ لأنَّ شرطَ الخِيارِ لغيرِ العاقدِ إنَّما يَثْبُتُ بطريقِ النِّيابةِ عن العاقد، فيثبُتُ له اقتضاءً.
أقول: إذا اشترى على أنّ الغيرَ بالخِيار، لا يَثْبُتُ الخِيارُ إلاَّ برضاءِ المتعاقدينِ، فيكون نائباً عن المتعاقدين، ثمَّ رضاء البائعِ بِخِيارِ الغيرِ لا يقتضي رضاه بِخِيارِ المُشْتَرِي.
(وبيعُ عبدينِ
(4)
بالخِيارِ في أحدِهِما صحَّ إن فَصَّلَ ثَمَنَ كُلٍّ، وعَيَّنَ مَحَلَّ الخِيار، وفسدَ في الأوجهِ الباقية): وهي:
ما إذا لم يُفصِّلِ الثَّمَنَ، ولم يُعَيِّنْ مَحَلَّ الخِيار.
أو فَصَّلَ ولم يُعَيِّنْ.
أو عَيَّنَ ولم يُفْصِّلْ؛ لجهالةِ الثَّمَنِ والمبيع، أو جهالةِ أحدِهِما.
بَقِيَ أَنَّ في صورةِ الجواز، وإن لم يوجدِ الجهالةُ لكنَّ قبول ما ليس بمبيعٍ جُعِلَ شرطاً لقبولِ ما هو مبيعٌ، فينبغي أَنْ يَفْسُدَ بالشَّرطِ الفاسدِ عنده.
والجوابُ: إنَّ المبيعَ بشرطِ الخِيارِ داخِلٌ في الإيجابِ لا في الحُكْم، فلا يَصْدُقُ عليه
(1)
ينظر: «تحفة المحتاج» (4: 340)، و «نهاية المحتاج» (4: 11)، وغيرهما.
(2)
ينظر: «الأم» (3: 3)، و «مختصر المزني» (8: 72)، و «فتوحات الوهاب» (3: 76)، وغيرهما.
(3)
زياد من أ و ب.
(4)
قيد بالعبدين؛ لأن شراء الكيلي والوزني أو العبد الواحد على أنه بالخيار في نصفه جائز، سواء فصل الثمن أو لم يفصل؛ لأن النصف من الشيء الواحد لا يتفاوت. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 314).
وشراءُ أحدِ الثَّوبين، أو أحدِ ثلاثةٍ على أن يُعَيِّنَ أيَّاً شاء في ثلاثةِ أيّامٍ صحَّ، لا إن لم يشترطْ تعيينُه، ولا في أحدٍ أربعة، وأخذُهُ بالشُّفعةِ داراً بيعت بجنب ما شُرِطَ فيه الخِيارُ رِضاً، وخيارُ شرطِ المُشْتَرِيَيْنِ يَسْقُطُ برضا أحدِهِما، وكذا خِيارُ العيبِ والرُّؤْيَةِ، وعبدٌ مشتَرَى بشرطِ خبزِهِ أو كَتْبِه، ووُجِدَ بخلافِه، أُخِذَ بثَمَنِهِ أو تَرَكَهُ
أنّه ما ليس بمبيعٍ من كلِّ وجهٍ بل هو مبيعٌ من وجهٍ، فاعتبرنا الوجهين، ففي صورةِ الجهالةِ اعتبرنا ما ليسَ بمبيعٍ حتى يَفْسُدَ العقد، وفي صورةِ أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما معلوماً اعتبرنا أَنَّهُ مبيعٌ حتى لا يفسدَ العقد.
(وشراءُ أحدِ الثَّوبين، أو أحدِ ثلاثةٍ على أن يُعَيِّنَ أيَّاً شاء في ثلاثةِ أيّامٍ صحَّ، لا إن لم يشترطْ تعيينُه، ولا في أحدٍ أربعة): لأنّ القياسَ عدم الجواز، لكن استحسنَّا في الثَّلاثةِ لمكانِ الحاجة؛ لأنّ الثَّلاثةَ مشتملةٌ على الجيدِ والرَّديء والمتوسط، وفي الزَّائد على الثَّلاثة أبقيناً الحكم على الأصل، وهو عدمُ الجواز.
(وأخذُهُ بالشُّفعةِ داراً بيعت بجنب ما شُرِطَ فيه الخِيارُ رِضاً): أي اشترى داراً على أنَّه بالخِيار، فبيعتْ دارٌ بجنبِ تلكَ الدَّار، فأخذها المشتري بالشُّفعة، فهذا الأخذُ دليلُ رضاهُ بشراءِ تلك الدَّار؛ لأنّ الأخذَ بالشُّفعةِ يقتضي إجازةً في شراءِ المشفوعِ به.
(وخيارُ شرطِ المُشْتَرِيَيْنِ يَسْقُطُ برضا أحدِهِما، وكذا خِيارُ العيبِ والرُّؤْيَةِ): لأَنَّه إِن ردَّه الآخرُ يكونُ معيباً بعيبِ الشَّركةِ
(1)
، وعندهُما للآخَرِ ولايةُ الرَّدّ؛ لأنَّ الخِيارَ ثابتٌ لكلِّ واحد.
(وعبدٌ مشتَرَى بشرطِ خبزِهِ أو كَتْبِه، ووُجِدَ بخلافِه، أُخِذَ بثَمَنِهِ أو تَرَكَهُ)
(2)
: لأنَّ الأوصافَ لا يقابلُها شيءٌ من الثَّمَن.
(1)
فإن البائع كان بحيث ينتفع به متى شاء وكيف شاء، فصار بحيث لا يقدر على ذلك إلا بطريق المهايأة، والخيار ما شرع لدفع الضرر عن أحدهما بإلحاق الضرر بالآخر. ينظر:«الفتح» (5: 527).
(2)
وذلك إذا أمكن؛ لأنه إن تعذر الردُّ بسبب من الأسباب رجع المشتري على البائع بالنقصان في ظاهر الرواية، وهو الأصح. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 34).
فصل في خيار الرؤية
صَحَّ شراءُ ما لم يرَهُ، ولِمْشَتَرِيِهِ الخِيارُ عندها إلى أن يُوجَدَ مُبْطِلُه وإن رَضِيَ قبلَها، لا لبائِعِه، ويُبْطِلُهُ، وخيارُ الشَّرطِ تَعْيُّبُهُ وتصرُّفٌ لا يُفْسَخُ كالإعتاقِ والتَّدْبير، أو يُوجِبُ حقَّاً لغيرِهِ كالبيعِ المطلقِ، والرَّهنُ والإجارةُ قبلَ الرُّؤيةِ أو بعدها، وما لا يُوجِبُ حقَّاً لغيرِهِ كالبيعِ بالخِيارِ، والمساومةِ، والهِبةِ بلا تسليمٍ يُبْطِلُ بعدَها لا قبلَها
فصل (في خيار الرؤية)
(1)
(صَحَّ شراءُ ما لم يرَهُ): خلافاً للشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه، (ولِمْشَتَرِيِهِ الخِيارُ عندها): أي عند الرُّؤية، (إلى أن يُوجَدَ مُبْطِلُه وإن رَضِيَ قبلَها): أي إن رَضِيَ قبلَ الرُّؤيةِ يكونُ له حقٌّ الفسخ
(3)
إذ رآه، لكن لو فسخَ قبلَ الرُّؤيةِ ينفذُ الفسخ؛ بحكمِ أنَّهُ عقدٌ غيرُ لازمٍ حتى لا يجوز إجازتُهُ عند الرُّؤية، (لا لبائِعِه): أي إذا باعَ شيئاً لم يَرَهُ لا يكونُ له الخِيارُ إذ رآه
(4)
.
(ويُبْطِلُهُ، وخيارُ الشَّرطِ تَعْيُّبُهُ
(5)
وتصرُّفٌ لا يُفْسَخُ كالإعتاقِ والتَّدْبير، أو يُوجِبُ حقَّاً لغيرِهِ كالبيعِ المطلقِ): أي بدونِ شرطِ الخِيارِ، (والرَّهنُ والإجارةُ قبلَ الرُّؤيةِ أو بعدها): أَي هذه التَّصرُّفاتُ تبطِلُ خِيارَ الرُّؤيةِ سواءٌ كانت قبلَ الرُّؤيةِ أو بعدها.
(وما لا يُوجِبُ حقَّاً لغيرِهِ كالبيعِ بالخِيارِ، والمساومةِ
(6)
، والهِبةِ بلا تسليمٍ يُبْطِلُ بعدَها لا قبلَها): لأنَّ هذه التَّصرُّفاتُ لا تدلُّ على صريحِ الرِّضاء، وهو إنَّما يُبْطِلُهُ بعد
(1)
زيادة من أ و ب و م.
(2)
ينظر: «أسنى المطالب» (2: 18)، و «الغرر البهية» (2: 411)، و «المحلي» (2: 205)، وغيره.
(3)
زيادة من ص و م.
(4)
والفرقُ أنَّ المشتري إنما يردُّ المبيعَ بحكمِ عدمِ الرؤية باعتبارِ فوات وصف مرغوبٍ فيه عنده، وهذا يوجبُ الخيار، والبائعُ إنّما يردّه باعتبارِ أنّ المبيعَ أزيدَ ممّا ظنّه، وهذا لا يوجب الخيار له، كما لو باعَ عبداً على أنّه معيب، فإذا هو سليم؛ فإنّه لا يثبتُ له الخيار بالإجماع. ينظر:«كمال الدراية» (ق 377).
(5)
أي ويبطل خيار الرؤية وخيار الشرط تعيب المبيع بتعد أو غيره عند المشتري دفعاً للضرر عن البائع؛ لأنه خرج عن ملكه سليماً فلا يعود إليه معيباً. ينظر: «فتح باب العناية» (2: 317).
(6)
المساومة: العرض على البيع. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 35).
والنَّظرُ إلى وجهِ الأمة، والصُّبرة، ووجهُ الدَّابَةِ وكَفَلِها، وظاهر ثوبٍ مطويٍ غير مُعَلَّمٍ، وإلى موضعٍ علمَهُ مُعَلَّمَاً، ونظرُ وَكِيلِهِ بالشَّراءِ أو بالقبضِ كافٍ لا نظرُ رسولُه
الرُّؤيةِ، أمَّا التَّصرُّفاتُ الأُوَلُ فهي أقوى؛ لأَنَّ بعضها لا يقبلُ الفسخ، وبعضُها أوجب حقَّ الغيرِ فلا يبطل.
(والنَّظرُ إلى وجهِ الأمة، والصُّبرة، ووجهُ الدَّابَةِ وكَفَلِها
(1)
، وظاهر ثوبٍ مطويٍ غير مُعَلَّمٍ
(2)
، وإلى موضعٍ علمَهُ
(3)
مُعَلَّمَاً
(4)
، ونظرُ وَكِيلِهِ بالشَّراءِ أو بالقبضِ كافٍ لا نظرُ رسولُه)
(5)
: الوكيلُ بالقَبْضِ: هو الذي مَلَّكَهُ بالقَبْضِ بخلافِ الرَّسول، فإنَّهُ الذي أمرَهُ بأداءِ الرِّسالةِ بالتَّسليم، فالبائعُ إذا لم يُسَلِّمْ إليه لا يملكُ الخصومةَ بخلافِ
(1)
الكَفَلُ: بالتحريك: العَجُزُ، وقيل: ردف العجز، وقيل: القطن يكون للإنسان والدابة، وإنها لعجزاء الكفل، والجمع أكفال، ولا يشتق منه فعل ولا صفة. «لسان» (5: 3905).
(2)
أي كافية؛ لأن برؤية ظاهره يعلم حال البقية إذ لا تتفاوت أطراف الثوب الواحد إلا يسيراً. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 36).
(3)
العَلَم: رسم في الثوب. ينظر: «المعجم الوسيط» (ص 624). وفي «المصباح» (ص 427): أَعْلَمْتُ الثَّوْبَ جَعَلْتُ له عَلَمًا من طِرازٍ وغيره.
(4)
لأن ماليته تتفاوت بحسبه. ينظر: «فتح باب العناية» (2: 318). والمختار هو نشره كلُّه كما في أكثر المعتبرات، وعليه الفتوى؛ لاختلاف الزمان إذ كان هذا بناءً على عادتهم في الكوفة أو بغداد. ينظر:«رد المحتار» (4: 67).
(5)
تفصيل المسألة أنه ينبغي يُعْلَمَ أنّ هاهنا وكيلاً بالشِّراء، ووكيلاً بالقبض، ورسولاً.
فصورةُ التَّوكيلِ بالشَّراءِ أن يقول الموكِّل: كن وكيلاً عني بشراءِ كذا.
وصورةُ التَّوكيلِ بالقبضِ أن يقول: كن وكيلاً عنِّي بقبضِ ما اشتريتُه وما رأيتُه.
وصورةُ الرِّسالةِ أن يقول: كن رسولاً عنِّي بقبضِه.
فرؤيةُ الوكيلِ بالشِّراءِ تُسْقِطُ الخيارَ بالإجماع؛ لأنَّ حقوقَ العقدِ ترجعُ إليه.
ورؤية الوكيلِ بالقبضِ تسقطُ الخيارَ عند الإمامِ إذا قبضَهُ بالنَّظرِ إليه، فحينئذٍ ليس له ولا للموكِّل أن يردَّه إلاَّ من عيب، وأمّا إذا قبضه مستوراً، ثمّ رآه فأسقط الخيار فإنّه لا يسقط؛ لأنّه إذا قبض مستوراً انتهى التوكيلُ بالقبض الناقصِ فلا يملكُ إسقاطه قصداً لصيرورته أجنبيّاً، بل للموكِّل الخيار.
وإن أرسلَ رسولاً لقبضهِ فقبضه ناظراً إليه، فللمشتري أن يردّه، وقالا: الوكيل بالقبض والرسول سواء في أن قبضهما بعد الرؤية لا يسقطُ خيار المشتري. ينظر: «الدرر» (2: 158)، و «الشرنبلالية» (2: 158).
وشُرِطَ رؤيةُ داخلِ الدَّارِ اليوم، وبيعُ الأعمى وشراؤُهُ صحَّ، وله الخيارُ مشترياً، ويسقطُ بجسِّهِ المبيع، وشمِّه، وذوقِه، وبوصفِ العقارِ، ومَن رأى أحدَ الثَّوبين ثمَّ شراهما، ثُمَّ رأى الآخرَ، فلهُ ردُّهُما لا رَدّ الآخرِ وحدَه، ومَن رأى شيئاً ثُمَّ شراهُ خُيِّرَ إن وجَدَهُ مُتَغَيِّراً وإلاَّ لا، والقولُ للبائعِ في عدمِ تَغَيُّرِهِ، وللمشتري في عدمِ رؤيتِه
الوَّكيلِ، وعندهما نظرُ الوكيلِ بالقَبْضِ غيرُ كافٍ؛ لأنَّهُ وَكَّلَهُ بالقَبْضِ لا بالنَّظر، ولأبي حنيفة- رضي الله عنه أَنَّ القَبْضَ الكاملَ بالنَّظَرِ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ هذا هو الذي أمرَ بقبضِه.
(وشُرِطَ رؤيةُ داخلِ الدَّارِ اليوم): إنّما قال اليوم؛ لأنَّ الرِّوايةَ أَنَّهُ إذا رَأَى حِيطانَ الدَّارِ أو أشجارَ البستانِ من خارجٍ كان كافياً؛ وذلك لأنَّ دورَهم وبساتينَهم لم تكنْ متفاوتةً، فرؤيةُ الخارجِ كانت مغنيةً عن رؤيةِ الدَّاخل، أمَّا الآن فالتَّفاوتُ فاحشٌ فلا بدَّ من رؤيةِ الدَّاخل.
(وبيعُ الأعمى وشراؤُهُ صحَّ، وله الخيارُ مشترياً، ويسقطُ بجسِّهِ المبيع
(1)
، وشمِّه، وذوقِه): أَيْ بجسِّهِ فيما يدرك بالجسِّ، وبشمِّهِ فيما يدركُ بالشَّمِّ، وبالذَّوقِ فيما يدركُ بالذَّوق، (وبوصفِ العقارِ): ولا اعتبارَ لوقوفِهِ في مكانٍ لو كان بصيراً لرآهُ، كما هو قولُ أبي يوسفَ رضي الله عنه.
(ومَن رأى أحدَ الثَّوبين ثمَّ شراهما، ثُمَّ رأى الآخرَ، فلهُ ردُّهُما لا رَدّ الآخرِ وحدَه): لئلا يلزم تفريقُ الصَّفقةِ قبلَ التَّمام.
(ومَن رأى شيئاً ثُمَّ شراهُ خُيِّرَ إن وجَدَهُ مُتَغَيِّراً وإلاَّ لا
(2)
، والقولُ للبائعِ في عدمِ تَغَيُّرِهِ، وللمشتري في عدمِ رؤيتِه): أي إذا اشترى شيئاً قد رآه
(3)
، فقال البائع: إنَّهُ لم يتغيَّرْ حتى لا يكونَ لك الخِيارُ، فالقولُ للبائعِ مع حلفِه، ولو قال المشتري لم
(1)
وهذا إذا كان قبل الشِّراء، وأمّا إذا كان بعده فإن خيارَهُ لا يسقطُ باتِّفاقِ الرِّواياتِ بل يمتدُّ إلى أن يوجدَ ما يدلُّ على الرِّضاءِ من قولٍ أو فعل على الصَّحيح. ينظر:«كمال الدراية» (ق 381)
(2)
أي لا يخير؛ لأن العلم بالمبيع قد حصل بالرؤية الأولى، وقد رضي به ما دام على تلك الصفة إلا إذا لم يعلم عند العقد أنه رآه من قبل فحينئذ يثبت له الخيار لعدم رضاه. ينظر:«رمز الحقائق» (2: 14).
(3)
قاصداً لشرائه؛ وإنّما قيّدنا قاصداً لشرائه عند رؤيتِهِ؛ لأنّه لو رآه لا لقصدِ الشراءِ ثمَّ اشتراهُ فله الخيار؛ لأنّه إذا رأى لا لقصد الشراءِ لا يتأمّل كلَّ التأمّل فلم يقع معرفته. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 39).
ومَن شرى عِدْلَ زُطِّيٍّ وقَبَضَهُ فباعَ منه ثوباً، أو وهبَ ثوبَاً وسَلَّمَ لم يَرُدَّهُ بخِيارِ رؤيةٍ أو شرطٍ، بل بِعَيْبٍ.
فصل في خيار العيب
ولمُشْتَرٍ وَجَدَ بمشريِّهِ عيباً نقصَ ثمنُهُ عند التُّجارِ رَدُّهُ أو أخذُهُ بكلِّ ثمنِه،
أره، وَلِي الخِيارُ، فالقولُ للمشتري مع الحلف.
(ومَن شرى عِدْلَ زُطِّيٍّ وقَبَضَهُ فباعَ منه ثوباً، أو وهبَ ثوبَاً وسَلَّمَ لم يَرُدَّهُ بخِيارِ رؤيةٍ أو شرطٍ، بل بِعَيْبٍ): الزُّطُّ
(1)
: جِيلٌ من النَّاسِ في سَوادِ العراق، والثَّوبُ الزُّطْيّ يُنسبُ إليهم، والأصلُ فيه أن رَدَّ البعضِ يُوجِبُ تفريقَ الصَّفقةِ، وهو قبلَ التَّمامِ لا يجوز، وبعد التَّمامِ يجوز.
ثمَّ خِيارُ الشَّرطِ والرُّؤيةِ يمنعان تمام الصَّفقة، وخِيارُ العيبِ يمنعُهُ قبلَ القبضِ لا بعدَهُ؛ وهذا لأنَّهُ إذا شُرِطَ الخِيارُ لأحدِهِما لم يَتَحَقَّق الرِّضاء الكاملُ، وكذا إذا لم يرَ المُشْتَرِي مُشْتَرَاهُ، أَمَّا إذا لم يشترط الخِيارَ، أو شَرَطَ فأجازَ مَن له الخِيارُ، أو المُشْتَرِي قد رأى المبيعَ فرَضِي به فبعدَ ذلك إن قبضَ فقد تَمَّ الصَّفقةُ بحصولِ الرِّضى الكامل.
لكنْ مع ذلك يمكنُ أن يكونَ المبيعُ معيباً، والمشتري لا يرضى به، فيُفْسَخُ العقدُ، فذلك أمرٌ مُتَوَهَّمٌ، فلا يمنعُ تمامَ الصَّفقة، وإن لم يقبضِ المبيعَ فالبيعُ في معرضِ الفسخ؛ بأن هلكَ في يد البائعِ فيرتفعُ العقد، فإذا اجتمعَ الأمرانِ أي عدمُ القبضِ ووجودُ العيبِ فيتقوَّى أحدُهُما بالآخر، فلا يَتِمُّ الصَّفقة، ويظهرُ هذا في المسألةِ التي تأتي، وهي قولُهُ: ولو اشترى عبدينِ صفقةً وقبضَ أحدَهما ووَجَدَ به أو بالآخر عيباً.
فصل في خِيار العيب
(ولمُشْتَرٍ وَجَدَ بمشريِّهِ عيباً
(2)
نقصَ ثمنُهُ عند التُّجارِ
(3)
رَدُّهُ أو أخذُهُ بكلِّ ثمنِه،
(1)
الزُّط: جيل من الهند معرَّب جَتَ بالفتح والقياس فتح معرّبه أيضاً، الواحد زُطّيّ. ينظر:«القاموس» (2: 375)، و «المغرب» (ص 208).
(2)
فإذا نظرَ المشتري إلى العيب ولم يعلم أنّه عيب، ثمّ علمه فله الردّ، وهو المنقولُ عن محمَّد بن سلمة رضي الله عنه، وعن صاحب «المحيط»: إنّه إن كان عيباً بيّناً لا يخفى على النّاس لا يكون له الردّ، وإلاَّ فله الردّ. ينظر:«القُنْيَة» (ق 162/أ).
(3)
لأن كل ما يوجب نقصان الثمن عند التجار عيب؛ لأن التضرر بنقصان المالية، وذلك بانتقاص القيمة، والمرجع في معرفته عرف أهله. ينظر:«التبيين» (4: 31).
لا إمساكُهُ وأخذَ نقصانِه، والإباقُ ولو إلى ما دونَ السَّفر، والبولُ في الفراش، وسرقةُ صغيرٍ يَعْقِلُ عيبٌ، وبالغٍ عيبٌ آخرُ، فلو سرقَ عندهما في صغرِهِ رَدَّهُ، وجنونُ الصَّغيرِ عيبٌ أبداً يُرَدُّ مَن جُنَّ في صغرِهِ عنده، ثمَّ عند مشتريَه فيه، أو في كِبَرِه. والبَخَرُ والدَّفَرُ والزِّنا والتَّوَلُّدُ منه عيبٌ فيها: أي في الأمةِ لا فيه
لا إمساكُهُ وأخذَ نقصانِه)
(1)
: رَدُّهُ مُبْتَدأٌ، وَلِمْشَتِرٍ
(2)
خَبَرِهِ، ونقصَ ثمنَه: صفةُ العيب.
(والإباقُ ولو إلى ما دونَ السَّفر، والبولُ في الفراش، وسرقةُ صغيرٍ يَعْقِلُ عيبٌ): إِنَّمَا قال: يَعْقِلُ؛ لأنَّ سرقةَ صغيرٍ لا يَعْقِلُ ليست بعيب، (وبالغٍ عيبٌ آخرُ)، عطفٌ على مَعْمُولَي عاملينِ مختلفين، والمجرورُ مقدَّمٌ، (فلو سرقَ عندهما): أي عند البائعِ والمشتري، (في صغرِهِ): أي في صغرِهِ مع العقل (رَدَّهُ) وإن حدثَ عنده في صغرِه، وعندَ مشتريهِ في كِبَرِهِ لا.
(وجنونُ
(3)
الصَّغيرِ عيبٌ أبداً يُرَدُّ مَن جُنَّ في صغرِهِ عنده، ثمَّ عند مشتريَه فيه، أو في كِبَرِه.
والبَخَرُ
(4)
والدَّفَرُ
(5)
والزِّنا والتَّوَلُّدُ منه عيبٌ فيها: أي في الأمةِ لا فيه
(6)
.
(1)
يشترط لرد المشري بالعيب شروطاً:
الأوّل: أن يكونَ العيبُ عند البائع، فإن حدث عند المشتري فلا يقدرُ على الردّ.
والثاني: أن لا يعلمَ به عند البيع.
والثالث: أن لا يعلم به عند القبض، فإنَّ العلمَ بالعيبِ عند البيعِ أو القبضِ رضاءٌ به.
والرَّابع: أن لا يتمكّن من إزالته بلا مشقَّة، فإن تمكّن فلا.
والخامس: ألا تشترطُ البراءةُ من هذا العيب خصوصاً أو من العيوبِ عموماً.
والسادس: أن لا يزولَ العيب قبلَ الفسخ. ينظر: «البحر» (6: 39).
(2)
في أ: «ولمشتري» .
(3)
الجنون: والجنونُ اختلالُ القوّة المميِّزةِ بين الأمورِ الحسنةِ والقبيحةِ المدركةِ للعواقب، بأن لا يظهر آثارُها، وبتعطُّلِ أفعالِها: إمّا لنُّقْصانٍ جُبِلَ عليه الدِّماغُ في أصلِ الخلقة، وأمّا لخروجِ مِزَاجِ الدِّماغِ عن الاعتدالِ بسببِ خلطٍ وآفة، وإمّا لاستيلاءِ الشيطانِ عليهِ وإلقاء الخيالاتِ الفاسدةِ إليه بحيث يفرح ويفزع من غير ما يصلحُ سبباً. ينظر:«التلويح» (2: 332)
(4)
البَخَرُ: بفتحتين: نَتْنُ الفَمِ، وبابه طرب، فهو أَبْخَرُ. ينظر:«مختار» (ص 42).
(5)
الدَّفَرُ: مصدر دَفَر إذا خبثت رائحته، وبالسكون النتن اسم منه،. ينظر:«المغرب» (ص 164).
(6)
لأنّ ذلك يخلُّ بالمقصود فيها، وهو الاستفراشُ وطلبُ الولد، والمقصود من الغلام الاستخدام، وهذه الأشياءُ لا تخلُّ به، إلاَّ أن يفحشَ الأولان: أي البَخَر والدَفَر فيه بحيث يمنعُ القربَ من المولى، والأصحّ أنّ الأمردَ وغيره سواء، أو يكون الزنا عادةٌ له: أي يتكرّر منه الزنا أكثر من مرّتين. ينظر: «المنح» (ق 2: 17/أ-ب)
والكفرُ عيبٌ فيهما، والاستحاضةُ، وارتفاعُ الحيضِ في بنتِ سبعَ عشرةَ سنةٍ لا أقلَّ عيبٌ. فإن ظهرَ عيبٌ قديمٌ بعدما حدثَ عنده عيب آخرُ، فلهُ نقصانُهُ لا رَدُّهُ إلاَّ برضا بائعِه، كثوبٍ شراهُ فقَطَعَهُ فظهرَ عيبٌ، ولبائعِهِ أخذُهُ كذلك فلا يرجعُ مشتريْهِ إن باعَه، فإن خاطَه، أو صبغَهُ أحمرَ، أو لَتَّ السَّويقَ بسمنٍ، ثمَّ ظهرَ عيبُهُ لا يأخذُهُ بائعُهُ ورجعَ بنقصانِهِ، كما لو باعَهُ بعد رؤيةِ عيبِهِ، أو اعتقَهُ قبلَها مجاناً، أو دبَّرَهُ، أو استولَدَها، أو ماتَ عنده قبلَها
والكفرُ عيبٌ فيهما، والاستحاضةُ، وارتفاعُ الحيضِ في بنتِ سبعَ عشرةَ سنةٍ لا أقلَّ عيبٌ
(1)
.
فإن ظهرَ عيبٌ قديمٌ بعدما حدثَ عنده عيب
(2)
آخرُ، فلهُ نقصانُهُ لا رَدُّهُ إلاَّ برضا بائعِه، كثوبٍ شراهُ فقَطَعَهُ فظهرَ عيبٌ، ولبائعِهِ أخذُهُ كذلك فلا يرجعُ مشتريْهِ إن باعَه): أي لا يرجعُ المشترِي بالنُّقصانِ إن باعَه؛ لأَنَّ البائعَ كان له أن يقولَ: أنا آخُذُهُ معِيباً، فالمشتري بالبيعِ يكونُ حابساً للمبيعِ فلا يرجعُ بالنُّقصان.
(فإن خاطَه، أو صبغَهُ أحمرَ
(3)
، أو لَتَّ السَّويقَ بسمنٍ، ثمَّ ظهرَ عيبُهُ لا يأخذُهُ بائعُهُ ورجعَ بنقصانِهِ): أي رَجَعَ المُشْتَري بنقصانِ العيبِ، ولا يكونُ للبائعِ أن يقول: أنا آخذُهُ معيباً؛ لاختلاطِ ملكِ المشتري بالمبيعِ، وهو الخيط، والصَّبغ، والسَّمن.
(كما لو باعَهُ بعد رؤيةِ عيبِهِ): أي كما يرجِعُ المشترِي بنقصانِ العيبِ إن باعَ الثَّوبَ المخيطَ أو المصبوغَ أو السَّويقَ المَلْتُوتَ بعد رؤيةِ عيبِهِ؛ لأنَّه بالبيعِ لم يصرْ حابساً للمبيع، إذ قبلَ البيعِ لم يكن للبائعِ أخذُهُ معيباً؛ لاختلاطِ ملكِ المشتري به، فلم يبطلْ حقُّ الرُّجوعِ إليه
(4)
بالنُّقصان، (أو اعتقَهُ قبلَها مجاناً، أو دبَّرَهُ، أو استولَدَها، أو ماتَ عنده قبلَها): أي قبلَ رؤيةِ العيب، صورةُ المسائل: أنّه عَتَقَ المشتري العبدَ مجاناً، أو دَبَّرَهُ،
(1)
لأنَّ استمرارَ الدم وارتفاعَهُ علامةُ الدَّاء، والمعتبر في الارتفاعِ أقصى غاية البلوغ، وهو عند الإمام سبعَ عشرةَ سنة، وعندهما: خمسَ عشرة سنة، وبقولهما يفتى. ينظر «حاشية الطَّحْطَاويّ» ، (3: 48)، و «رد المحتار» (4: 76).
(2)
زيادة من م.
(3)
قيَّد به لتكون الزيادة في المبيع ثابتة اتفاقاً؛ لأنه لو صبغه أسود يكون نقصاناً عنده كالقطع، وقالا: يكن زيادة. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 45).
(4)
زيادة من ف.
وإن أعتقَهُ على مالٍ، أو قتلَهُ، أو أكلَ الطَّعامَ كلَّهُ، أو بعضَهُ، أو لَبِسَ الثَّوبَ فتَخَرَّقَ لم يَرجع، وإن اشترى بيضاً، أو بِطْيخاً، أو قِثَّاءً، أو خِيَارَاً، أو جَوْزَاً، فَكَسَرَ، فَوَجَدَهُ فاسداً فله نقصانُهُ في المُنْتَفَعِ به، وكلُّ ثَمَنِهِ في غيرِه. ومَن باعَ مُشْتَرَيَهُ وَرُدَّ عليه بعيبٍ بقضاءٍ بإقرارٍ، أو ببيِّنة، أو بنكول، رَدَّ على بائعِه، وإن رُدَّ برِضَاهِ لا
أو استولَدَ المشتراة، أو ماتَ المشترَى في يدِ المشترِي، ثُمَّ اِطَّلَعَ على عيبٍ رَجَعَ بالنُّقْصان.
(وإن أعتقَهُ على مالٍ، أو قتلَهُ، أو أكلَ الطَّعامَ كلَّهُ، أو بعضَهُ، أو لَبِسَ الثَّوبَ فتَخَرَّقَ لم يَرجعْ): الحاصلُ أَنَّ الموتَ لا يُبْطِلُ الرُّجوعَ بنقصانِ العيب؛ لأَنَّهُ لا صنعَ للمشتري فيه، والإعتاقُ مجاناً لا يُبْطِلُهُ أيضاً استحساناً، والقياسُ أنَّهُ يُبْطِلُه؛ لأنَّ الإعتاقَ بصنعِهِ فصارَ كالقتلِ، وجه الاستحسانِ أن الإعتاقَ له شبهان:
شبهٌ بالقتلِ في أَنَّهُ بصنعِ المشتري.
وشبهٌ بالموتِ في أنَّ الأصلَ في الآدمي الحريَّة، فكانَ الملكُ مؤقَّتاً إلى زمانِ العتقِ، فهو عودٌ إلى الحالةِ الأصلية، فإن كان بعد رؤيةِ العيبِ اعتبرَ ذلك الشبهُ، فلا رجوعَ له بخلافِ الموتِ بعدَ رؤيةِ العيبِ، فإنَّ حقَّ الرُّجوعِ فيه ثابتٌ وإن كان قبلَ رؤيةِ العيبِ اعتبرَ هذا الشَّبه حتى يكونَ له فيه حقُّ الرُّجوع، وأمَّا المسائلُ الأُخرُ فلا رجوعَ بالنُّقصانِ فيها.
(وإن اشترى بيضاً، أو بِطْيخاً، أو قِثَّاءً، أو خِيَارَاً، أو جَوْزَاً، فَكَسَرَ، فَوَجَدَهُ فاسداً فله نقصانُهُ في المُنْتَفَعِ به
(1)
، وكلُّ ثَمَنِهِ في غيرِه.
ومَن باعَ مُشْتَرَيَهُ وَرُدَّ عليه بعيبٍ بقضاءٍ بإقرارٍ، أو ببيِّنة، أو بنكول، رَدَّ على بائعِه، وإن رُدَّ برِضَاهِ لا): أَي إن اشترى شيئاً، ثُمَّ باعَهُ، فادعى المشتري الثَّاني عيباً على المشتري الأَوَّل، وأثبتَ ذلك بالبَيِّنَة، أو بالنُّكُول، أو بالإقرار، فقضى القاضي فرُدَّ على بائعِهِ، كان له أنْ يُخاصمَ البائعَ الأَوَّلَ، قال في «الهداية»: معنى القضاءُ بالإقرار: أنَّهُ أنكرَ الإقرارَ فأُثْبِتَ بالبيِّنة
(2)
.
(1)
يعني لو ينتفع به مع فساده بأن يصلح للعلف أو لأكل بعض الفقراء لم يردّه؛ لتعذّره بالكسر؛ لأنه عيب حادث ولكن يرجع بنقصان العيب دفعاً للضرر بقدر الإمكان، وكل ثمنه في غير المنتفع به لبطلان البيع؛ لأن المبيع ليس بمال. ينظر:«شرح ابن ملك» (ق 166/أ).
(2)
انتهى من «الهداية» (2: 35).
...................................................................................................................
فإن قيلَ: المشتري الأَوَّلُ إذا أنكرَ إقرارَهُ بالعيب، فأثبتَ هذا بالبَيِّنةِ صارَ كأنَّه أقرَّ عند القاضي، فإنَّ الثابتَ بالبَيِّنةِ كالثَّابتِ عياناً، فينبغي أن لا يكونَ له ولايةُ الرَّدِّ على البائعِ الأَوَّلِ سواءٌ أقرَّ عند القاضي، أو أنكرَ إقرارَهُ، فيثبُتُ بالبَيِّنَة؛ لأَنَّ الإقرارَ حجَّةٌ قاصرةٌ، فَأَيُّ فائدةٍ في قوله: معنى القضاء بالإقرار أنَّه أنكرَ الإقرار؟
قلنا: نحنُ لم نَجْعَل الإقرارَ حجَّةً مُتَعَدِّيةً، ولم نَقُلْ: إنَّ الرَّدَّ على المشتري الأَوَّلِ رَدٌّ على بائعِهِ، بل له أن يُخاصمَ بائعَهُ، فإنّ المشتري الثَّاني إذا أَثْبَتَ أنَّ العيبَ كان في يدِ المشتري الأَوَّل، ورَدَّ عليه، فالمشتري الأَوَّلُ إن أثبتَ أنَّ العيبَ كان في يَدِ بائعِهِ رَدَّهُ عليه، وإلاَّ فلا.
والفرقُ بينَ إقرارِهِ عند القاضي وبينَ إثباتِ إقرارِهِ بالبَيِّنةِ أَنَّهُ إذا أقرَّ عند القاضي يكونُ طائعاً في أخذِ المبيع، فصارَ كما إذا اشترى من المشتري الثَّاني، فلا يكونُ له ولايةُ الرَّدِ على البائعِ الأَوَّل، أَمَّا إذا أنكرَ إقرارَهُ بالعيب، فثبَتَ بالبَيِّنة، لم يكن طائعاً في الأخذ، فيكون أخذُهُ بحُكْمِ الفسخِ كأنَّهُ لم يبعْ، فيكونُ له المخاصمةُ مع بائعِه.
وقد قيل: هذه المسألةُ فيما إذا ادّعى المشتري الثَّاني على المشتري الأوَّلِ أنَّ العيبَ كان في يَدِ البائعِ الأَوَّل، فحينئذٍ للمشتري الأَوَّل أَنْ يُخاصمَ على البائعِ الأَوَّلِ، أمَّا إذا ادّعى أنّ العيبَ في يدِ المشترِي الأوَّلِ فليسَ له أن يُخَاصِمَ بائعَه.
أَقُولُ: فيه نظرٌ؛ لأنَّه إذا ادّعى أنَّ العيبَ في يدِ البائعِ الأوَّل، وأقامَ عليه البيِّنةَ، وقضى على المشتري الأَوَّل، فهذا القضاءُ ليسَ قضاءً على البائعِ الأوّل، وهذه البيِّنةُ لم تقمْ على البائعِ الأوَّلِ ولا على نائبِه؛ لأنَّ ما يدَّعى على الغائبِ ليسَ سبباً لما يدَّعى على الحاضر
(1)
(1)
تعليلٌ لقولِه: ولا على نائبِه، يعني أنَّ القضاءَ على الغائبِ وإقامةُ البيّنة لا يصحّان إلاَّ بحضرة نائبه، وهو على ثلاثةِ أنواع:
حقيقي؛ وهو مَن يكون بأمرِهِ وإنابته، وهو الوكيل.
وشرعي: وهو الوصيّ الذي نَصَبَه القاضي.
وحكمي: وهو أن يكون بنيابةِ الحاضرِ عن الغائبِ حكماً؛ بأن يكونَ ما يدّعي على الغائب سبباً لما يدّعي على الحاضرِ على كلِّ حال، وهو بحيث لا ينفك. ففي هذه الحالة ينصّبُ الحاضرُ خصماً عن الغائب، ويقضى عليهما جميعاً، كما إذا ادّعى على رجلٍ أنّه كفيلٌ عن فلانٍ بما يجبُ له عليه وأقام المدّعي عليه بالكفالة، وأنكرَ الحقّ، فأقامَ المدّعي البيّنة عليه أنّه وجبَ له على فلانٍ ألف دراهم، فإنّه يقضي بها في حقِّ الكفيلِ الحاضر، وفي حقِّ الغائبِ جميعاً، حتى لو حضرَ الغائبُ وأنكرَ لا يلتفتُ إلى إنكاره، وكلٌّ من هذه الأنواعِ منتفٍ ها هنا.
أمَّا الأوَّل: فلعدمِ كونِ المشتري الأوّل وكيلاً من البائع، ولا وصيّاً من جانبِ القاضي.
وأمَّا الثالث، فلأنَّ العيبَ الذي ادّعى المشتري الثاني على البائعِ الأوَّلِ الغائبِ لا يكون سبباً لازماً لما ادّعاهُ على المشتري الأوَّل الحاضر؛ لأنَّ العيبَ المذكورَ قد يتحقّقُ عند البائعِ الأوّل ولا يتحقّق عند المشتري الأوّل كما في المعائب المتزائلة، وقد يكون متحقّقاً عندهما معاً بحيث يكون الأوّل سبباً للثّاني، كما في المستمرةِ مثلِ الأصبعِ الزائدة، ولزومِ السببيّة شرطٌ للنيّابة الحكميّة. ينظر:«ذخيرة العقبي» (ص 368)،
فإن قبضَ مُشْتَرَيه وادَّعَى عيباً، لم يُجْبَرْ على دفعِ ثمنِهِ حتى يَحْلِفَ بائعُه، أو يُقِيمْ بيِّنةً
(فإن قبضَ مُشْتَرَيه وادَّعَى عيباً، لم يُجْبَرْ على دفعِ ثمنِهِ حتى يَحْلِفَ بائعُه
(1)
، أو يُقِيمْ بيِّنةً)
(2)
، فقولُه: أو يُقِيم؛ عطفٌ على قولِه: لم يُجْبَرْ. وليس عطفاً على قولِه: يَحْلِفَ بائعُه؛ لأنَّه حينئذٍ يكونُ إقامةُ البيَّنةِ غايةٌ لعدمِ الجبر، فإن أقامَ البيِّنةَ ينتهي عدمُ الجبر، فيلزمُ الجبرُ على دفعِ الثَّمَنَ عند إقامةِ البَيِّنةِ على العيبِ، وهو غير صحيح.
فالحاصلُ أنَّ المُشْتَري إذا ادَّعى عيباً يقيمُ بيِّنةً على دعواه ويَرُدُّه، وإن لم يكن له بَيِّنَةٌ يَحَلِفُ بائعُهُ بأنَّه لا عيب، وحينئذٍ يُجْبَرُ على دفعِ الثَّمنِ لا قبلَ الحلف، فأحدُ الأمرينِ ثابتٌ:
إمَّا إقامةُ البَيِّنَةِ على وجوبِ العيبِ.
أو عدمِ الجبرِ على دفعِ الثَّمَنِ حتى يحلِفَ بائعُه.
وإن نصبَ قوله: أو يُقِيمَ، فله وجهٌ، وهو أن يكونَ المرادُ بعدمِ الجبرِ على دفعِ الثَّمَنِ عدمَ الجبرِ على دفعِهِ بشرطِ أن يكونَ واجباً بحكم البيع، وهو معنيٌّ بأحد الأمرين:
(1)
صورة التحليف: أن يحلفَ البائعُ أن هذا العيبَ لم يكن فيه عنده، وذلك بعد إقامة المشتري البيِّنة أنه وجد فيه عنده: أي المشتري وإذا لم يقم بينة على ثبوته عنده ليس له تحليف البائع في الأصح؛ لأن التحليف يترتَّب على دعوى صحيحة ولا تصحُّ إلاَّ من خصمٍ ولا يصير خصماً فيه إلاَّ بعد قيام العيب عنده. ينظر: «الشرنبلالية» (2: 164).
(2)
سيورد الشارح ما استشْكِل من هذه العبارة ويؤولها، وكذا فعل أصحاب شروح «الهداية» ، ومنهم البابرتي في «العناية» (6: 23) وبعد أن أورد التأويل الثاني الذي ذكره الشارح، قال: والحق أن الاستشكال إنما هو بالنظر إلى مفهوم الغاية، وهو ليس بلازم.
وعند غيبةِ شهودِهِ دفعَ الثَّمَنَ إن حَلَفَ بائعُه، ولزِمَهُ عيبُهُ إن نكلَ، فإن ادَّعى إباقَه أقامَ بَيِّنةً أَوَّلاً أنَّه أبِقَ عنده، ثُمَّ حَلَفَ بائعُهُ: بالله لقد باعَهُ وسَلَّمَهُ وما أَبِقَ قطٌّ، أو بالله ما له حقُّ الرَّدِّ عليك من دعواه هذه، أو بالله ما أَبِقَ عندك قطٌّ، لا بالله لقد باعَهُ وما به هذا العيب، ولا باللهِ لقد باعَهُ وسَلَّمَهُ وما به هذا العيب
إمَّا الحلفُ على أنَّهُ لا عيبَ فحينئذٍ يُجْبَرُ على دفعِ الثَّمَن.
أو إقامةُ البيِّنةِ على وجودِ العيب، فحينئذٍ يُفْسَخُ البيع، ولا يبقى الثَّمَنُ واجباً، فينتهي عدمُ الجبرِ بشرطِ كونِهِ واجباً.
(وعند غيبةِ شهودِهِ دفعَ الثَّمَنَ إن حَلَفَ بائعُه
(1)
، ولزِمَهُ عيبُهُ إن نكلَ): أيُّ إن قال المشتري: شهودي غُيَّبٌ. دفعَ الثّمَنَ إن حلفَ بائعُهُ أن لا عيب، وإن نكلَ البائعُ ثبتَ العيب.
(فإن ادَّعى إباقَه أقامَ بَيِّنةً أَوَّلاً أنَّه أبِقَ عنده، ثُمَّ حَلَفَ بائعُهُ
(2)
: بالله لقد باعَهُ وسَلَّمَهُ وما أَبِقَ قطٌّ، أو بالله ما له حقُّ الرَّدِّ عليك من دعواه هذه، أو بالله ما أَبِقَ عندك قطٌّ، لا بالله لقد باعَهُ وما به هذا العيب، ولا باللهِ لقد باعَهُ وسَلَّمَهُ وما به هذا العيب): وإِنَّما لا يَحْلِفُ بهذين الطَّريقينِ:
إذ في الأوَّل يُمكنُ أَن لا يكونَ العيبُ وقتَ البيع، فيحدث بعد البيعِ قبلَ التَّسليم، وعلى هذا التَّقديرِ للمشتري حقُّ الرَّدِّ أيضاً.
وأمَّا في الثَّاني؛ فلأنَّ البائعَ يُمكنُ أن يُؤَوّلَ كلامَه، بأن يكونَ المرادُ أنَّ العيبَ لم يكن موجوداً عند البيعِ والتَّسليم، بمعنى أنَّ وجودَ العيبِ عند كلِّ واحدٍ منهما مُنْتَفٍ، فيُمكنُ أنَّهُ كان موجوداً عند التَّسليمِ لا البيع.
فإن قلتَ: هذا الاحتمالُ ثابتٌ في قوله: لقد باعهُ وسَلَّمَهُ وما أبقَ قطٌّ: أَي وجدَ كلُّ واحدٍ منهما، وما أَبِقَ عند وجودِ كلِّ واحدٍ، فيُمكنُ أنَّهُ قد أَبِقَ عند وجودِ التَّسليمِ لا البيع.
(1)
لأن في الانتظار ضرراً على البائع وليس فيه كثير ضرر على المشتري؛ لأنه على حجّته متى أقامها رد عليه المبيع وأخذ منه الثمن، وإن نكل البائع لزم العيب؛ لأن النكول حجّة فيه. ينظر:«الرمز» (2: 20).
(2)
يعني إن اشترى عبداً فادّعى أنه أبق وأراد تحليف البائع، لم يحلف البائع حتى يثبت المدَّعي أنه آبق عند نفسه؛ لأن القول وإن كان قول البائع لكن إنكاره إنّما يعتبر بعد قيام العيب به في يد المشتري ومعرفته تكون بالبينة. ينظر:«الدرر» (2: 164).
وعند عدمِ بَيِّنَةِ المشتري على العيبِ عنده يَحْلِفُ البائعُ عندهما أَنَّهُ ما يعلمُ أنَّهُ أَبِقَ عنده، واختلفوا على قولِ أبي حنيفة رضي الله عنه، ولو قال البائعُ بعد التَّقابض: بعتُك هذا المعيبَ مع آخر، فقال المشتري: بل هذا وحده، فالقولُ له
قلت: كلمةُ قطٍّ تنافي هذا المعنى؛ لأنَّها موضوعةٌ لعمومِ السَّلبِ في الماضي، وذلك المعنى هو سلبُ العموم.
(وعند عدمِ بَيِّنَةِ المشتري على العيبِ عنده يَحْلِفُ البائعُ عندهما أَنَّهُ ما يعلمُ أنَّهُ أَبِقَ عنده، واختلفوا على قولِ أبي حنيفة رضي الله عنه)، قدْ ذكرَ أن المشتري أقامَ بَيِّنَةً أَوَّلاً أنَّهُ أَبِقَ عنده، فإن لم يكن له بيِّنةٌ يَحْلِفُ بائعُهُ عندهما بأنَّك ما تعلمُ أنَّه أَبِقَ عند المشتري؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم:«البَيِّنَةُ على المدَّعي، واليمينُ على مَن أنكرَ»
(1)
، فكلُّ شيءٍ يَثْبُتُ بالبَيِّنَةِ فعند العجزِ عنها يتوجَّهُ اليمينُ على المنكر.
واختلفَ المشايخ رضي الله عنهم على قولِ أبي حنيفةَ رضي الله عنه، ووجْهُ عدمِ الاستحلافِ أنَّ اليمينَ لا يتوَجَّهُ إلاَّ على الخصم، ولا يصير خصماً إلاَّ بعد قيامِ العيبِ عنده، فلا يُمكنُ إثباتُ هذا بالحلف؛ لأنَّه دورٌ
(2)
، أمَّا البيِّنةُ فقد تقامُ ليصيرَ خصماً، لكن لا يَحْلِفُ ليصيرَ خصماً.
والفرقُ أن وجوبَ الحلفِ ضَرَرٌ، فإذا لم يكن خصماً فلا وجهَ لإلزامِ الضَّرَرِ عليه بخلاف إقامةِ البَيِّنَةِ إذ المدَّعي مختارٌ في إقامةِ البيِّنة، فهي أهونُ من إلزامَ الضَرَرِ عليه، فجعلَ إقامةَ البيِّنةِ طريقاً لإثباتِ كونِهِ خصماً لا التَّحليف.
(ولو قال البائعُ بعد التَّقابض: بعتُك هذا المعيبَ مع آخر، فقال المشتري: بل هذا وحده، فالقولُ له)
(3)
: أي إذا ظهرَ في المبيعِ بعد التَّقابضِ عيبٌ فيردُّهُ المشتري ويطلبُ الثَّمن، فيقولُ البائعُ: هذا الثَّمنُ مقابلٌ بهذا الشَّيءِ مع شيءٍ آخر، ويقولُ المشتري: بل هو مقابلٌ بهذا الشَّيءِ وحدَه، فالقولُ له مع اليمين؛ لأنَّ الاختلافَ وقعَ
(1)
سبق تخريجه (2: 40).
(2)
لأنَّ تحقّقَ اليمينِ في هذه الصورةِ موقوفٌ على كونِهِ خصماً، وكونه خصماً موقوفٌ على تحقُّقِ العيبِ عنده، وتحقُّقِ العيب عنده موقوفٌ على اليمينِ بشرطِ النُّكولِ فيكونُ دوراً، فإنَّ الدَّورَ هو توقّف الشيء على ما يتوقّف على ذلك الشيء. ينظر:«الزبدة» (3: 333).
(3)
صورتها: أن من اشترى جارية وقبض فوجدَ بها عيباً فقال البائع: بعتك هذه وأخرى معها، وقال المشتري بعتنيها وحدها، فالقول قول المشتري؛ لأن الاختلاف في مقدار المقبوض فيكون القول للقابض. ينظر:«الهداية» (3: 39 - 40).
وكذا إذا اتفقا في قدرِ المبيع، واختلفا في المقبوض، ولو اشترى عبدين صفقةً، وقبضَ أحدَهُما ووجدَ به أو بالآخرِ عيباً أخذهُما أو ردَّهُما، ولو قبضَهُمَا رَدَّ المعيبَ خاصَّةً، وكيليٌّ أو وزنيٌّ قُبِضَ إن وجدَ ببعضِهِ عيباً رُدَّ كلَّه أو أَخَذَه، ولو استحَقَّ بعضَه لم يَرُدَّ باقيه بخلافِ الثَّوب
في مقدارِ المقبوض، فالقولُ للقابض، كما في الغصب
(1)
.
(وكذا إذا اتفقا في قدرِ المبيع، واختلفا في المقبوض): أي اتفقا في أنَّ المبيعَ شيئان، واختلفا في المقبوض، فقال المشتري: قبضتُ أحدَهُما فقط، وقال البائعُ: بل قبضتهما فالقول للمشتري على ما مرَّ.
(ولو اشترى عبدين صفقةً، وقبضَ أحدَهُما ووجدَ به أو بالآخرِ عيباً أخذهُما أو ردَّهُما، ولو قبضَهُمَا رَدَّ المعيبَ خاصَّةً): لأنَّ الصَّفقةَ إنِّما تتمُّ بالقبض، فقبلَ القبضِ لا يجوزُ تفريقُ الصَّفقة، وبعدَ القبضِ يجوز.
(وكيليٌّ أو وزنيٌّ قُبِضَ
(2)
إن وجدَ ببعضِهِ عيباً رُدَّ كلَّه أو أَخَذَه): لأنَّه إذا كان من جنسٍ واحد، فهو كشيءٍ واحدٍ، وقيل: هذا إذا كان في وعاءٍ واحدٍ حتى لو كان في وعاءين، فهو بمَنْزلةِ عبدين، فيَرُدُّ الوعاءَ الذي فيه المعيب
(3)
.
(ولو استحَقَّ بعضَه لم يَرُدَّ باقيه بخلافِ الثَّوب): لأنَّهُ لا يضرُّهُ التبعيض، والاستحقاقُ لا يمنعُ تمامَ الصَّفقة؛ لأنَّ تمامَها برضا العاقدين، وهذا بعد القبض، أمَّا لو
(1)
أي إذا اختلفَ الغاصبُ والمغصوبُ منه، فقال المغصوب منه: غصبت منِّي غلامَين، وقال الغاصب: غصبتُ غلاماً واحداً، فالقولُ قولُ الغاصب؛ لأنّه القابض. ينظر:«البناية» (6: 357 - 358).
(2)
ذكر المصنِّف رضي الله عنه هذا القيدَ كما ذكره صاحبُ «الهداية» (3: 41)، وقد صرَّحَ في «الكافي» بأنّه سواءً كان قبلِ القبضِ أو بعده، وبالنَّظرِ إلى هذا التَّصريحِ لم يذكرْ هذا القيدَ في «المختصر» و «الكَنْز» (ص 100)، وقال في «مجمع الأنهر» (2: 50): لو تركَه لكانَ أولى. اهـ، لكن قال العلاَّمةُ العَيْنِيّ في «البناية» (6: 360) في فائدة هذا القيد: إنّه إذا كان قبل القبض لا يتفاوتُ الحكم عندنا بين المكيلِ والموزونِ وغيرهما في أنّه لا يجوزُ تفريقُ الصفقةِ بردِّ المعيبِ خاصَّة، وأمّا إذا كان بعد القبضِ فيجوزُ تفريقُ الصَّفقةِ فيما عدا المكيلِ والموزون، وأمّا فيهما فلا يجوز إذا كان في وعاء واحد على ما هو اعتبار المشايخ رضي الله عنهم. ينظر:«رد المحتار» (4: 93).
(3)
قال العلامة قاسم: إن هذا القول أرفق وأقيس. ولذا مشى عليه في «شرح الطحاوي» . وأقرَّه ابن عابدين في «حاشيته» (4: 93).
ومُداواةُ المعيبِ وركوبُهُ في حاجتِهِ رضاً، ولو ركبَهُ لردِّه أو لسَقْيِهِ أو لشراءِ عَلَفِه ولا بُدَّ له منه فلا. ولو قُطِعَ يدُهُ بعد قبضِه، أو قُتِلَ بسببٍ كان عند بائعِهِ ردَّه، وأَخَذَ ثَمَنَه، ولو باعَ وبَرِئ من كلِّ عيبٍ صحَّ وإن لم يعدَّها
استحقَّ البعضُ قبل القبض، فللمشتري حقُّ الفسخِ في الباقي؛ لتفرُّقِ الصَّفقةِ قبلَ التَّمام، أمّا في الثَّوب فالتَّبعيضِ يِضرُّهُ، فله الخيارُ في الباقي.
(ومُداواةُ المعيبِ وركوبُهُ في حاجتِهِ رضاً، ولو ركبَهُ لردِّه أو لسَقْيِهِ أو لشراءِ عَلَفِه ولا بُدَّ له منه فلا.
ولو قُطِعَ يدُهُ بعد قبضِه، أو قُتِلَ بسببٍ كان عند بائعِهِ ردَّه، وأَخَذَ ثَمَنَه)
(1)
، الرَّدُّ في صورةِ القطع، أمَّا في القتلِ فلا رَدّ، بل أخذَ الثَّمَنَ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ هذا بمنْزلةِ الاستحقاق عنده، فأمَّا عندَهُما فيرجعُ بالنُّقصان؛ لأنَّ هذا بمَنْزلة العيب، فيقوَّمُ بدونِ هذا العيب، ثمَّ بهذا العيبُ، فيضمنُ البائعُ تفاوتَ ما بينَهما كما إذا اشترى جاريةً حاملاً، فماتَتْ في يده بالولادة، فإنَّه يرجع بفضل ما بين قيمتِها حاملاً، وغيرَ حاملٍ، ولأبي حنيفةَ رضي الله عنه إن سببَ الهلاكِ كان في يدِ البائع، فإذا هلكَ في يدِ المشتري يكونُ مضافاً إلى ذلك السَّبب بخلافِ الحملِ، فإنَّهُ ليس سبباً للهلاك.
(ولو باعَ وبَرِئ من كلِّ عيبٍ صحَّ وإن لم يعدَّها): وعند الشَّافِعِيّ
(2)
رضي الله عنه لا يصحُّ بناءً على أصلِهِ أن البراءةَ عن الحقوقِ المجهولةِ لا تصحُّ عنده، وعندنا يَصِحُّ إذ اسقاطُ المجهولِ لا يَضُرُّه؛ لأنَّهُ لا يفضي إلى المنازعة، ثُمَّ هذه البراءةُِ تشملُ العيبَ الموجود، وأيضاً العيبَ الحادثَ قبلَ القبضِ عند أبي يوسف
(3)
رضي الله عنه، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه لا تَشْمَلُ العيبَ الحادث.
(1)
قال في «مجمع الأنهر» (2: 51): ظاهرُ كلامِ المصنّف رضي الله عنه أنّه ليس بمخيَّرٍ بين إمساكِهِ والرُّجوعِ بنصفِ الثَّمن، وليس كذلك، بل مخيَّر، فله إمساكُهُ وأخذُ نصفِ الثّمن؛ لأنّه بمنْزلةِ الاستحقاقِ لا العيب، حتّى لو ماتَ بعد القطعِ حتفَ أنفِهِ رجعَ بنصفِ الثّمن كالاستحقاق. وينظر:«الرمز» (2: 21)، و «البحر» (6: 71)، و «رد المحتار» (4: 95).
(2)
في «المنهاج» (2: 53): ولو باع بشرط براءته من العيوب، فالأظهر أنه يبرأ عن عيب باطن بالحيوان لم يعلمه دون غيره. وينظر:«الأم» (7: 105)، و «مغني المحتاج» (2: 53)، وغيرها.
(3)
ذكره مع الإمامِ في «المبسوط» (13: 93)، وفي «الخانيّة» (2: 216): إنّه ظاهر مذهبهما؛ لأنَّ المرادَ لزومُ العقدِ بإسقاطٍ عن صفةِ السّلامة، وذلك بالبراءةِ عن الموجود والحادث.
باب البيع الفاسد
بطلَ بيعُ ما ليس بمال: كالدَّمِ والميتةِ والحرِّ، والبيعُ به، وكذا بيعُ أمِّ الولدِ والمدبَّرِ والمكاتَب، وبيعُ مالٍ غيرِ متقوَّمٍ: كالخمرِ والخنْزيرِ بالثَّمَن
باب البيع الفاسد
(بطلَ بيعُ ما ليس بمال: كالدَّمِ والميتةِ والحرِّ، والبيعُ به، وكذا بيعُ أمِّ الولدِ والمدبَّرِ والمكاتَب، وبيعُ مالٍ غيرِ متقوَّمٍ
(1)
: كالخمرِ والخنْزيرِ بالثَّمَن).
اعلم أنَّ المالَ عينٌ يجري فيه التَّنافس والابتذال، فيخرجُ منه التُّرابُ
(2)
ونحوه، والدَّمُ والميتةُ التي ماتت حتفَ أَنْفِه.
أمَّا الميتةُ التي خُنِقَتْ، أو جُرِحَتْ في غيرِ موضِعِ الذَّبح كما هو عادةُ بعضِ الكفار وذبائحِ المجوس فمالٌ، إلاَّ أنَّها غيرَ متقوَّمةٍ، كالخمر والخنْزير.
ويخرجُ منه الحُرُّ؛ لأَنَّهُ لا يجري فيه الابتذال، بل هو مبتذلٌ.
والمالُ الغيرُ المتقوَّمُ مالٌ أُمِرْنَا بإهانتِه، لكنَّهُ في غيرِ ديننا مالٌ متقوَّمٌ.
فكلٌّ ما ليس بمالٍ فالبيعُ فيه باطلٌ سواءٌ جُعِلَ مبيعاً أو ثمناً.
وكلُّ ما هو مالٌ غيرُ متقوَّم، فإن بيعَ بالثَّمن ـ أي بالدَّراهم أو الدَّنانير ـ فالبيعُ باطلٌ، وإن بيع بالعَرَض أو بيع العَرَضُ به فالبيعُ في العَرَضِ فاسدٌ
(3)
.
فالباطلُ هو الذي لا يكونُ صحيحاً بأصلِهِ ووصفِه.
والفاسدُ هو الصَّحيحُ بأصلِهِ لا بوصفِه.
(1)
أي غيرُ مباحٍ الانتفاعُ به، والتقوّم ضربان: عرفي؛ وهو بالإحراز، فغيرُ المحرزِ كالصيدِ والحشيش ليس بمتقوّم. وشرعيّ: وهو بإباحةِ الانتفاع. كذا في «التلويح» (1: 327)، والثاني هو المرادُ هاهنا منفياً. ينظر:«الزبدة» (3: 36).
(2)
أي القليل ما دام في محلِّه، وإلاَّ فقد يعرض له بالنقل ما يصير به مالاً معتبراً ومثله المال، وأيضا نحو حبة من حنطة والعذرة الخالصة، بخلاف المخلوطة بتراب، ولذا جاز بيعها كسرقين. ينظر:«رد المحتار» (5: 51).
(3)
أي أن بيع الخمر باطل مطلقاً وإنما الكلام فيما قابله فإن ديناً كان باطلاً أيضاً وإن عرضاً كان فاسداً فيملكه بالقبض بقيمته. ينظر: «الدر المختار» (4: 104).
وبيعُ قنٍّ ضمَّ إلى حُرٍّ، وذكيَّةٍ ضُمّتْ إلى ميتةٍ، وإن سَمَّى ثمنَ كلَّ واحد. وصحَّ في قِنٍّ ضُمَّ إلى مُدَبَّرٍ، أو قِنِّ غيرِهِ بحصَّتِه: كملكِ ضُمَّ إلى وقفٍ في الصَّحِيح. وفسدَ بيعُ العَرَضِ بالخمر، وعكسه، ولم يجزْ بيعُ سمكٍ لم يُصَد، أو صيدَ وأُلْقِيَ في حَظِيرَةٍ لا يُؤْخَذُ منها بلا حِيلَةٍ، وصحَّ إن أُخِذَ منها بلا حِيلَةٍ إلاَّ إذا دخلَ بنفسِه ولم يُسَدَّ مدخلُهُ
وعند الشَّافِعِيّ رضي الله عنه لا فرقَ بينَ الباطلِ والفاسد، وتحقيقُ هذا في أصول الفقه
(1)
.
(وبيعُ قنٍّ ضمَّ إلى حُرٍّ، وذكيَّةٍ ضُمّتْ إلى ميتةٍ، وإن سَمَّى ثمنَ كلَّ واحد
(2)
.
وصحَّ في قِنٍّ ضُمَّ إلى مُدَبَّرٍ، أو قِنِّ غيرِهِ بحصَّتِه): لأَنَّ المُدَبَّرَ مَحَلٌّ للبيعِ عند البعض
(3)
، فبطلانُهُ لا يسري إلى غيره، (كملكِ ضُمَّ إلى وقفٍ في الصَّحِيح
(4)
.
وفسدَ بيعُ العَرَضِ بالخمر، وعكسه): أي البيعُ فاسدٌ في العَرَضِ حتى يَجِبَ قيمَتُهُ عند القبض، ويُمْلَكُ هو بالقبض، لكنَّ البيعَ في الخمرِ باطلٌ حتى لا يُمْلَكَ عينُ الخمر.
(ولم يجزْ بيعُ سمكٍ لم يُصَد، أو صيدَ وأُلْقِيَ في حَظِيرَةٍ لا يُؤْخَذُ منها بلا حِيلَةٍ، وصحَّ إن أُخِذَ منها بلا حِيلَةٍ إلاَّ إذا دخلَ بنفسِه ولم يُسَدَّ مدخلُهُ): حتى ولو دخلَ بنفسِهِ وسُدَّ مدخلُهُ يجوزُ بيعُه؛ لأَنَّ سَدَّ المدخلِ فعلٌ اختياريّ يُوجِبُ الملكَ فيصيرُ مُحْرَزَاً.
واعلم أَنَّهُ نَظَمَ كثيراً من المسائلِ في سلكٍ واحد، وقال: لم يجزْ، لكن لم يُبَيِّنْ أنَّ البيعَ باطلٌ أو فاسدٌ، وأنا أُبَيِّنُ ذلك إن شاء الله تعالى:
ففي السَّمكِ الذي لم يُصَدْ ينبغي أن يكونَ البيعُ فيه باطلاً إذا كان بالدَّراهمِ والدَّنانيرِ، ويكونُ فاسداً إذا كان بالعَرَض؛ لأَنَّه مالٌ غيرَ متقوَّمٍ؛ لأَنَّ التَّقَوُّمَ بالإحراز،
(1)
ينظر: «التوضيح» (1: 421)، و «البحر المحيط» (2: 25)، و «الكوكب المنير» (ص 148)، وغيرها.
(2)
زيادة من ب.
(3)
مثل الشافعي رضي الله عنه كما في «الأم» (7: 257).
(4)
لأن الملك والوقف، روايتان: ففي رواية: تفسدُ في الملك؛ لأنَّ البيعَ لا ينعقد على الوقف، فصار كما لو جمعَ بين عبدٍ وحرّ، ذكره الفقيهُ أبو اللَّيثِ في «نوازله» ، والأصحُّ أنّه يجوزُ في الملك؛ لأنَّ الوقفَ مال؛ ولهذا ينتفعُ به انتفاع الأموال، غير أنّه لا يباعُ لأجلِ حقٍّ تعلَّق؛ وذلك لا يُوجِبُ فسادَ العقدِ فيما ضمَّ إليه كالمدبَّر ونحوه بخلاف المسجد، حيث يبطلُ العقدُ فيما يضمُّ إليه؛ لأنّه ليس بمال، فصار كالحرّ، ولو باعَ قريةً ولم يستثنِ المساجد والمقابر لم يصحّ لما ذكرنا. انتهى. ينظر:«الرمز» (2: 30).
ولا بيعُ طيرٍ في الهواءِ، وبيعُ الحمل والنِّتَاجِ، واللَّبَنُ في الضَّرعِ، والصُّوفُ على ظهرِ الغنم، وجذعٌ في سَقْفٍ، وذراعٌ من ثوبٍ ذَكَرَ قَطْعَهُ أو لا
ولا إحرازَ فيه
(1)
.
وأمَّا السَّمكُ الذي صيد وأُلْقِيَ في حَظِيرَةٍ، لا يُؤْخَذُ منها بلا حِيلَةٍ ينبغي أن يكون البيعُ فيه فاسداً؛ لأَنَّهُ مالٌ مملوكٌ، لكنَّ في تسليمِهِ عسرٌ.
(ولا بيعُ طيرٍ في الهواءِ): فينبغي أن يكونَ باطلاً كبيعِ الصَّيدِ قبلَ أن يصطاد.
(وبيعُ الحمل والنِّتَاجِ)
(2)
: ينبغي أن يكونَ باطلاً؛ لأنَّ النِّتاجَ معدومٌ، فلا يكون مالاً، والحملُ مشكوكُ الوجود، فلا يكون مالاً.
(واللَّبَنُ في الضَّرعِ): ذَكَروا فيه علّتينِ:
أحدهما: إنَّه لا يُعْلَمُ أنَّه لَبَنٌ، أو دَمٌ، أو ريحٌ، فعلى هذا يبطلُ البيعُ؛ لأنَّه مشكوكُ الوجود، فلا يكونَ مالاً.
والثَّانيةُ: إنَّ اللَّبَنَ يُوجَدُ شيئاً فشيئاً، فَمُلْكُ البائعِ يختلطُ بملكِ المشتري.
(والصُّوفُ على ظهرِ الغنم): لأنَّهُ يقعُ التَّنازعُ في موضعِ القطع، وكلُّ بيعٍ يُفْضِي إلى المنازعةِ فاسدٌ.
(وجذعٌ في سَقْفٍ، وذراعٌ من ثوبٍ ذَكَرَ قَطْعَهُ أو لا)
(3)
: فإنَّ البيعَ فيهما فاسدٌ،
(1)
وقع الاختلاف في بطلان أو فساد بيع السمك الذي لم يسد بالعرض، فوافق صدر الشريعة صاحب «الدرر» (2: 170)، و «الدر المختار» (4: 106)، و «الشرنبلالية» (2: 170)، وغيرهم، قال بالبطلان صاحب «مجمع الأنهر» (2: 54)، وابن عابدين إذ قال في تحرير هذه المسألة في «رد المحتار» (4: 106): الحاصل أنه لو باع سمكة مطلقةً بعرض ينبغي أن يكون البيع باطلاً من الجانبين كبيع ميتة بعرض أو عكسه، ولو كانت السمكة معيّنة بطل فيها؛ لأنّها غير مملوكة وفسد في العرض؛ لأن السمكة مال في الجملة، ومثلُها ما لو كان البيع على لحم سمك؛ لأنه مثليٌّ، ولو باعَها بدراهم بَطَلَ البيعُ لتعيُّن كونها مبيعة، وهي غير مملوكة، هذا ما ظهر لي في تقرير هذا المحل، ولم أر من تعرض لشيء منه.
(2)
الحملُ: ما في البطن، والنتاجُ ما يحملُ هذا الحمل، وهو المرادُ من حبلِ الحبل في الحديث كما في البخاري (2: 753)، ومسلم (3: 1153)، وغيرهما، وقد كانوا يعتادونَ ذلك في الجاهليةِ فأبطلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك بالنّهي. ينظر:«الكفاية» (6: 50).
(3)
أي ذكر موضع القطع من الثوب أو لم يذكر.
ويعودُ صحيحاً إن قُلِعَ، أو قطعَ الذِّراعِ قبلَ فسخِ المشتري، وضربةُ القانص، والمُزَابنةُ: وهي بيعُ الثَّمرِ على النَّخيلِ بثمرٍ مَجْذُوذٍ مثلَ كيلِهِ خَرْصَاً، والمُلامَسةُ، وإِلقاءُ الحَجَر، والمُنابَذةُ: وهي أن يتساوَما سلعةً لَزِمَ البيعُ إن لمسَها المشترِي، أو وضعَ عليها حصاةً، أو نبذَها البائعُ إليهِ، ولا بيعُ ثَوْبٍ مِن ثوبينِ إلاَّ بشرطِ أن يأخذَ أيُّهما شاء، ولا المراعي، ولا
والمرادُ ثوبٌ يضرُّهُ القطعُ، (ويعودُ صحيحاً إن قُلِعَ، أو قطعَ الذِّراعِ قبلَ فسخِ المشتري)
(1)
: لأنَّ المفسدَ قد زال.
(وضربةُ القانص)
(2)
: وهي ما يَحْصُلُ من الصَّيدِ بضربِ الشَّبكةِ مرَّةً، وهذا البيعُ ينبغي أن يكونَ باطلاً كما ذكرنا في الطيرِ في الهواء.
(والمُزَابنةُ: وهي بيعُ الثَّمرِ على النَّخيلِ بثمرٍ مَجْذُوذٍ مثلَ كيلِهِ خَرْصَاً)، مثلَ كيله: حالٌ من الثَّمرِ على النَّخيلِ، وخرصاً: تميزٌ عن المثلِ: أي يكون الثَّمرُ على النَّخيلِ مثلاً بطريقِ الخَرْصِ لكيلِ الثَّمَرِ المَجْذُوذِ، فهذا البيعُ من البيوعِ الفاسدةِ بشبهةِ الرِّبا.
(والمُلامَسةُ، وإِلقاءُ الحَجَر، والمُنابَذةُ: وهي أن يتساوَما سلعةً لَزِمَ البيعُ إن لمسَها المشترِي، أو وضعَ عليها حصاةً، أو نبذَها البائعُ إليهِ): فهذه البيوعُ فاسدةٌ؛ لأنَّ انعقادَ البيعِ متعلِّقٌ بأحدِ هذه الأفعالِ، فيكونُ كالقمار
(3)
.
(ولا بيعُ ثَوْبٍ مِن ثوبينِ إلاَّ بشرطِ أن يأخذَ أيُّهما شاء، ولا المراعي، ولا
(1)
حاصل المسألة: إذا باع جذعاً في سقف أو ذراعاً من ثوب: يعني ثوباً يضرُّه التبعيض كالقميص لا الكِرباس، فالبيع لا يجوز ذكر القطع أو لا، إذ لا يمكنه التسليم إلاَّ بضرر لم يوجبه العقد، ومثله لا يكون لازماً فيتمكن من الرجوع وتتحقق المنازعة، وبهذا التقرير يندفع ما يقال إن هذا الضرر مرضي به، فينبغي أن لا يكون مفسداً ولو لم يكن الجذعُ معيَّناً لا يجوزُ للزوم الضرر وللجهالة أيضا، ولو قطع البائع الذراع أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري عاد البيع صحيحاً لزوال المفسد قبل التقرر. ينظر:«الدرر» (2: 170).
(2)
القانص أو الغائص: وهو الصائد، بأن يقول: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة بكذا. وهو بيع باطل؛ لعدم ملك البائع المبيع قبل العقد فكان غرراً ولجهالة ما يخرج. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 56).
(3)
وهو في عرف زماننا كلُّ لعبٍ يشترطُ فيه غالباً أن يأخذَ الغالبُ من المتلاعبين شيئاً. ينظر: «الزبدة» (3: 39).
إجارتُها، ولا النَّحلُ إلاَّ مع الكُوّارة، ودودُ القَزِّ وبيضُه، والآبقُ إلاَّ ممَّن زعمَ أنَّه عندَه، ولَبَنُ امراةٍ في قَدَحٍ
إجارتُها): بيعُ المراعي: أي الكلأُ باطلٌ؛ لأنَّه غيرُ محرزٍ، وأمَّا إجارتُها؛ فلأنَّها إجارةٌ على استهلاكِ عينٍ
(1)
.
(ولا النَّحلُ إلاَّ مع الكُوّارة)، الكُّوارة: بالضَّمِ والتَّشْدِيدِ: مَعْسَلُ النَّحلِ إذا سُوِّي من طينٍ، وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه، فينبغي أن يكونَ البيعُ باطلاً عندهما؛ لعدمِ المالِ المُتَقَوَّمِ، وعندَ مُحَمَّدٍ
(2)
رضي الله عنه والشَّافِعِيِّ
(3)
رضي الله عنه يجوزُ إذا كان محرزاً.
(ودودُ القَزِّ وبيضُه)، فعند أبي حنيفة رضي الله عنه بيعهما باطلٌ، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يجوزُ إن ظَهَرَ القَزُّ تِبْعَاً، وإلا لا، وعند محمدٍ
(4)
رضي الله عنه يجوزُ مطلقاً.
(والآبقُ إلاَّ ممَّن زعمَ أنَّه عندَه)، زَعَمَ: أي قال، فهذا بيعُ فاسدٌ؛ لوجودِ المالِ المُتَقوَّمِ إلاَّ أنَّهُ لا قُدرةَ على تسليمِهِ، فإذا قال المشتري: إنَّه عندي فحينئذٍ يجوزُ.
(ولَبَنُ امراةٍ في قَدَحٍ)، إنَّما قال في قَدَحٍ؛ لأنَّ بيعَ اللَّبنِ في الضِّرعِ قد ذُكِر
(5)
، فلبنُ المرأةِ إنَّما يبطلُ بيعُهُ؛ لأنَّه من أجزاءِ الآدمي، فلا يكونُ مالاً، وفيه خلافُ الشَّافِعِيِّ
(6)
رضي الله عنه. وعند أبي يوسفَ
(7)
رضي الله عنه يجوزُ بيعُ لَبَنِ الأمةِ اعتباراً للجزءِ بالكلِّ. ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنَّ الرِّقَ غيرُ نازلٍ في اللَّبَنِ، فهي فيه على أصلِ الآدمية.
(1)
أي لأنّ الإجارةَ عقدت على استهلاكِ عينٍ غيرِ مملوك، ولو عقدتْ على استهلاكِ عينِ مملوكٍ؛ بأن استأجرَ بقرةً ليشربَ لبنَها لا يجوز، فهذا أَوْلَى. ينظر:«الهداية» (3: 44).
(2)
والفتوى على قول محمد رضي الله عنه كما في «الدر المختار» (4: 111)، و «رمز الحقائق» (2: 25)، و «مجمع الأنهر» (2: 58)، و «الدر المنتقى» (2: 58)، وغيرها.
(3)
ينظر: «الغرر البهية» (2: 403)، و «حاشية ابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج» (4: 242)، و «حاشيتا قليوبي وعميرة» (2: 199)، وغيرها.
(4)
والفتوى على قول محمد رضي الله عنه كما في «الرمز» (2: 26)، و «مجمع الأنهر» (2: 58)، و «الدر المنتقى» (2: 58)، و «الملتقى» (ص 144)، وغيرها.
(5)
3: 32).
(6)
ينظر: «الأشباه والنظائر» (ص 246)، وغيره.
(7)
وهو المختار للفتوى كما في «مختار الفتاوى» ، ينظر:«الفتاوى الهندية» (3: 166)، قلت: لكنه ظاهر المتون وعليه الشروح أنها على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، والله أعلم.
وشعرُ الخِنْزيرِ، وإن حَلَّ الانتفاعُ به للخرزِ ضرورةً. ولا شعرُ الآدمي، ولا الانتفاعُ به. ولا جلدُ الميتةِ قبلَ دبغِه، وإن صَحَّ بيعُهُ والانتفاعُ به بعده كعظمِها، وعصبِها، وصوفِها، وشعرِها، وقَرْنِها، ووَبَرِها، والفيلُ كالسَّبُعِ يباع عظمه خلافاً لمحمد رضي الله عنه، ولا بيعُ علوٍ بعد سقوطِهِ، وبيعُ شخصٍ على أنَّه أمةٌ وهو عبدٌ
(وشعرُ الخِنْزيرِ)، فإنَّ البيعَ فيه باطلٌ، (وإن حَلَّ الانتفاعُ به للخرزِ ضرورةً
(1)
.
ولا شعرُ الآدمي)، فإنَّ بيعَهُ باطلٌ، (ولا الانتفاعُ به.
ولا جلدُ الميتةِ قبلَ دبغِه)، فإنَّ بيعَهُ باطل، (وإن صَحَّ بيعُهُ والانتفاعُ به بعده كعظمِها، وعصبِها، وصوفِها، وشعرِها، وقَرْنِها، ووَبَرِها): فإنَّ بيعَ هذه الأشياءَ صحيحٌ، وكذا الانتفاعُ بها؛ لأنَّ الموتَ غيرُ حالٍ في هذه الأشياءِ.
(والفيلُ كالسَّبُعِ (يباع عظمه)
(2)
خلافاً لمحمد رضي الله عنه)، حتى يجوزَ بيعُ عظمِهِ والانتفاعُ بعظمِهِ خلافاً لمحمدٍ رضي الله عنه، فإنَّه كالخِنْزيرِ عنده.
(ولا بيعُ علوٍ بعد سقوطِهِ): حتَّى إذا كان العلو لرجلٍ، والسُّفلُ لرجلٍ فسقطا، أو سقطَ العلو وحدَهُ، فباعَ صاحبُ العلوِّ علوَّهُ وحده بطلَ بيعُه؛ إذ بعد السُّقوطِ لم يبقَ إلاَّ حقُّ التَّعَلِّي، وهو ليسَ بمالٍ
(3)
.
(وبيعُ شخصٍ على أنَّه أمةٌ وهو عبدٌ): فإنَّ البيعَ باطلٌ بخلافِ ما إذا اشترى كَبْشاً فإذا هو نَعْجةٌ، فإنَّ البيعَ يَنْعَقِدُ، وللمشتري الخيارُ، والأصلُ في ذلك أن الإشارةَ والتَّسميةَ إذا اجتمعتا، ففي مختلفي الجنسِ يتعلَّقُ العقدُ بالمُسَمَّى، ويبطلُ لانعدامِ المُسَمَّى، وفي متّحدي الجنسِ يتعلَّق بالمشارِ إليه، ويَنْعَقِدُ لوجودِ المشارِ إليه، لكن المشتري بالخَيار؛ لفواتِ الوصفِ، فالذَّكَرُ والأُنْثَى في بني آدم جنسانِ؛ لفحشِ التَّفاوتِ، والاختلافِ في الأغراض، وفي غيرِ بني آدم جنسٌ واحد.
(1)
قال صاحب «الدر المنتقى» (2: 59): ولعلّ هذا في زمانهم، وأما في زماننا فلا ضرورة بل لا حاجة إليه كما لا يخفى. وقال الطحطاوي في «حاشيته» (3: 72): للاستغناءِ عنه بالمخارزِ والإبر.
(2)
زيادة من ص و ق و م.
(3)
لأنّ حقَّ التّعلّي يتعلَّقُ بالهواء، والهواءُ ليس بمال؛ لأنَّ المالَ ما يمكنُ قبضُهُ وإحرازه، وإنّما يجوزُ البيعُ قبل الانهدام، باعتبارِ البناءِ القائم، ولم يبقَ. ينظر:«البناية» (6: 410).
وشراءُ ما باعَ بأقلَّ ممَّا باعَ قبلَ نقدِ ثمنِهِ الأَوَّل، وشراءُ ما باع مع شيءٍ آخرَ لم يبعْهُ بثمنِهِ الأَوَّلِ فيما باعَ، وإن صحَّ فيما لم يَبِعْ، وزيتٌ على أن يُوزَنَ بظرفِهِ، ويُطْرَحَ عنه بكلِّ ظرفٍ كذا رطلاً بخلافِ الشَّرطِ طرح وزنِ الظَّرْفِ عنه، وإن اختلفا في نفسِ الظَّرفِ وقدْرِه، فالقولُ للمشتري
(وشراءُ ما باعَ بأقلَّ ممَّا باعَ قبلَ نقدِ ثمنِهِ الأَوَّل)
(1)
: أي باعَ شيئاً بخمسةَ عشرَ ولم يأخذِ الثَّمَن، ثم اشتراهُ بعشرةٍ، فيقاصُّ العشرة بعشرةٍ من خمسةَ عشرَ، فبقي للبائعِ على المشتري خمسة، فهي ربحُ ما لم يضمنْ: أي الثَّمن، وهو خمسةَ عشرَ؛ لأنَّه لَمَّا لم يقبضْهُ البائع لم يدخلْ في ضمانِه، وإنَّما الغُنْمُ بإزاءِ الغُرْم، فيكونُ الرِّبْحُ حراماً، فيكونُ هذا البيعُ فاسداً خلافاً للشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه.
(وشراءُ ما باع مع شيءٍ آخرَ لم يبعْهُ بثمنِهِ الأَوَّلِ فيما باعَ، وإن صحَّ فيما لم يَبِعْ): (أي مَن)
(3)
باعَ شيئاً بخمسةَ عشرَ ولم يأخذِ الثَّمن، ثُمَّ اشتراهُ مع شيءٍ آخرَ بخمسةَ عشر، فالبيعُ فاسدٌ في المبيعِ الأوَّل، وجائزٌ في الشَّيءِ الآخر، فيُقَسَمُ الثَّمنُ على قيمتِها، فيجوزُ في الشَّيءِ الآخرِ بحصَّتِه من الثَّمن، وهو خمسةَ عشر.
(وزيتٌ على أن يُوزَنَ بظرفِهِ، ويُطْرَحَ عنه بكلِّ ظرفٍ كذا رطلاً): إنَّما يَفْسُدُ؛ لأنَّه شرطٌ لا يقتضيه العقدُ، بل مقتضى العقد أن يُطْرَحَ بازاءِ الظَّرْفِ مقدارُ وزنِه، كما في المسألةِ الثَّانية، وهي ما قال:(بخلافِ الشَّرطِ طرح وزنِ الظَّرْفِ عنه، وإن اختلفا في نفسِ الظَّرفِ وقدْرِه، فالقولُ للمشتري): أي اشترى سَمْناً في زِقٍّ
(4)
ورَدَّ الظَّرفَ، وهو عشرةُ أرطالٍ، فقال البائعُ: الزِّقُّ غيرُ هذا، وهو خمسةُ أرطالٍ، فالقولُ للمشتري
(5)
.
(1)
أي لا يجوز شراء البائع لنفسه أو لغيره من المشتري أو من وكيله أو من وارثه ما باع بثمن حال أو مؤجّل بنفسه أو بوكيله إن كان المبيع لم ينقص ذاته واتحدّ الثمنان جنساً، وقيَّد الشراء بكونه بأقلّ مما باع؛ لأنه لو كان بمثله أو أكثر منه جاز؛ لأن الفضل في الأكثر يحصل للمشتري والمبيع داخل في ضمانه. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 339).
(2)
في أسنى المطالب» (2: 84): البيع من البائع قبل القبض لا يصح إلا أن كان الاعتياض عنه بعين المبيع أو بمثله إن تلف أو كان في الذمة. وينظر: «حاشيتا قليوبي وعميرة» (2: 264)، وغيرهما.
(3)
غير موجودة في أ.
(4)
الزِّقُّ: بالكسر الظَّرف. ينظر: «المصباح المنير» (ص 254).
(5)
لأنّه ينكرُ الزِّيادة، والقولُ للمنكرِ مع يمينِه، ولا يتحالفان، وإن اختلفا في الثَّمن؛ لأنَّ اختلافهما في الثمنِ ثبتَ تبعاً لاختلافِهما في الزِّقّ، والاختلافُ في الزِّقِّ لا يوجبُ التحالف؛ لأنّه ليس بمعقودٍ به، ولا معقودٍ عليه، وكذا الاختلافُ فيما ثبتَ تبعاً؛ لأنَّ حكمَ التبعِ يخالفُ حكمَ الأصل. ينظر:«الكفاية» (6: 74 - 75).
وبطلَ بيعُ المسيلِ وهبتُه، وصحَّا في الطريقِ، (وأمْرُ المسلمِ بيعَ خمرٍ، أو خِنْزيرٍ، أو شرائِهما ذميَّاً، وأَمْرُ المُحْرِمِ غيرَهُ ببيع صيدِهِ، وصحَّ البيعُ بشرطٍ يقتضيه العقدُ: كشرطِ الملكِ للمشتري، أو لا يقتضيه ولا نفع فيه لأحدٍ: كشرطِ أن لا يبيعَ الدَّابّةَ المبيعة، بخلاف شرطٍ لا يقتضيه العقد، وفيه نفعٌ لأحدِ العاقدينِ، أو لمبيع يستحقُّه
(وبطلَ بيعُ المسيلِ وهبتُه، وصحَّا في الطريقِ): أي صحَّ البيعُ والهبةُ في الطَّريقِ، قيل: إن أُرِيدَ رقبةُ المسيلِ والطَّريقِ فمقدارُ ما يسيِّلُهُ الماءُ مجهولٌ، فلا يجوزُ فيه البيعُ والهبة، وأمَّا الطَّريقُ فمعلومٌ، وإن لم يُبَيِّنْ، فهو مُقَدَّرٌ بعرضِ باب الدَّارِ كذا في «باب القسمة» ، فيجوزُ فيه البيعُ والهبة، وإن أُريدَ حقُّ المسيلِ، فإن كان على الأرضِ فمجهولٌ لِمَا مرَّ، وإن كان على السَّطحِ، فهو حقٌّ التَّعلِّي، فهو حقٌّ متعلِّقٌ بعينٍ لا يَبْقَى، وحَقُّ المرورِ فيه روايتانِ:
وجه البطلانِ غيرُ مال
(1)
.
ووجه الصِّحةِ الاحتياج به، وهو حقٌّ معلومٌ متعلِّقٌ بعينٍ باق
(2)
.
(وأمْرُ المسلمِ بيعَ خمرٍ، أو خِنْزيرٍ، أو شرائِهما ذميَّاً، وأَمْرُ المُحْرِمِ غيرَهُ ببيع صيدِهِ): فقولُهُ: وأَمْرُ؛ عطفٌ على الضَّميرِ المرفوعِ المتصلِ في قوله: وصحَّا، فهذا العطف جائزٌ؛ لوجود الفصل، وهو قوله: في الطريقِ؛ وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما: لا يجوزُ؛ لأنّ الموكِّلَ لا يليه بنفسه، فلا يُولِّي غيرَه. وله: إن العاقدَ، وهو الوكيلُ يتصرُّفُ بأهليتِه
(3)
.
(وصحَّ البيعُ بشرطٍ يقتضيه العقدُ: كشرطِ الملكِ للمشتري، أو لا يقتضيه ولا نفع فيه لأحدٍ: كشرطِ أن لا يبيعَ الدَّابّةَ المبيعة، بخلاف شرطٍ لا يقتضيه العقد، وفيه
(1)
فأشبهَ المنافع، وبيعُ المنافعِ لا يجوز، فكذا هذا، وهذه روايةِ «الزِّيادات» وصحَّحها الفقيهُ أبو اللَّيثِ رضي الله عنه بأنَّه حقُّ من الحقوق، وبيعُ الحقوقِ بالإنفرادِ لا يجوز. ينظر:«الدرر» (2: 173).
(2)
وهي رواية ابن سماعة رضي الله عنه، وفيها يجوز: ووجهُ الصحَّةِ الاحتياجُ به، وهو حقٌّ معلومٌ يتعلَّقُ بعينٍ تبقى، وهو الأرض، فأشبه الأعيان، وفيه نظر؛ لأنَّ السُّكنى من الدارِ مثلاً حقُّ يتعلِّقُ بعينٍ تبقى وهو بمال، ولا يجوز بيعه. ينظر:«العناية» (6: 66).
(3)
أي إنّ الوكيلَ إنّما يملكُ التصرُّفَ لكونِهِ حُرّاً عاقلاً بالغاً؛ ولهذا يستغني عن الإضافةِ إلى الموكِّل، وترجعُ الحقوقُ إليه، والحاجةُ إلى الموكِّل؛ لانتقالِ حكمِ التصرُّف إليه، والموكِّلُ أهلٌ لانتقالِ ملكِ الخمرِ إليه إرثاً، وصورةُ الإرث بأن أسلمَ النصرانيّ وله خنازيرُ وخمور، وماتَ قبل تسييبِ الخنازيرِ وتخليل الخمر، وله وارثٌ مسلم يملكُها. كذا في «الكفاية» (6: 75).
نفعٌ لأحدِ العاقدينِ، أو لمبيع يستحقُّه كشرطِ أن يقطعَهُ البائعُ ويخيطَهُ قباءً، أو يَحْذُوَه نَعْلاً، أو يُشْرِكَهُ، وصحَّ في النَّعلِ استحساناً، أو يستخدمَهُ شهراً، أو يعتقَهُ، أو يُدَبِّرَهُ، أو يُكاتِبَهُ، وبيعُ أمة إلا حملَها، وإلى النَّيروز، والمَهْرَجَانِ، وصومِ النَّصارى وفطرِ اليهودِ إن لم يعرفا
نفعٌ لأحدِ العاقدينِ، أو لمبيع يستحقُّه): أي يكون المبيعُ أهلاً لاستحقاقِ النَّفعِ بأن يكونَ آدمياً، فظهرَ أن قولَه: ولا نفعَ فيه لأحدٍ أرادَ به لأحدِ من العاقدين، والمبيعُ المستحقُّ للنَّفعِ حتى لو كان النَّفعُ للمبيعِ الذي لا يستحقُّ النَّفع: كشرطِ أن لا يبيعَ الدَّابَّةَ المبيعةَ لا يكونَ هذا الشَّرطُ مفسداً.
(كشرطِ أن يقطعَهُ البائعُ ويخيطَهُ قباءً
(1)
، أو يَحْذُوَه
(2)
نَعْلاً، أو يُشْرِكَهُ): أي يجعلَ للنَّعلِ شِراكاً، هذا نظيرُ شرطٍ لا يقتضيه العقدُ وفيه نفعُ المشتري، (وصحَّ في النَّعلِ استحساناً): إنِّما يجوزُ في النَّعل للتَّعامل والقياسِ أنه لا يجوز
(3)
.
(أو يستخدمَهُ شهراً): أي يستخدمَه البائعُ شهراً، وهذا نظيرُ شرطٍ لا يقتضيه العقدُ وفيه نفعُ البائع.
(أو يعتقَهُ، أو يُدَبِّرَهُ، أو يُكاتِبَهُ): هذا نظيرُ شرطٍ لا يقضيه العقدُ وفيه نفعٌ للمبيع، وهو أهلٌ لاستحقاقِ النَّفعِ.
(وبيعُ أمة إلا حملَها): عطف على شرطٍ لا يقتضيه العقد، والأصلُ في ذلك أن كلَّ ما لا يصحُّ إفرادُهُ بالعقدِ لا يصحُّ استثناؤه من العقد، فإنَّ كلَّ ما لا يصحُّ إفراده بالعقد فإنّه من توابعِ الشَّيء، فيكون داخلاً في المبيع تَبَعاً له، فاستثناؤه من العقدِ شرطٌ لا يقتضيه العقدُ فيكونُ مفسداً.
(وإلى النَّيروز
(4)
، والمَهْرَجَانِ
(5)
، وصومِ النَّصارى وفطرِ اليهودِ إن لم يعرفا
(1)
القَبَاء: ثوب يلبس فوق الثياب أو القميص. ينظر: «المعجم الوسيط» (ص 163).
(2)
وحذا النَّعل: قدرها وقطعها على مثال. ينظر: «المعجم الوسيط» (ص 163).
(3)
أي فإن البيع لا يفسد استحساناً للتعامل ولتعارف الناس على شراء النعل على أن يحذوه أو يشرِّكه البائع، وهو حجة يترك بها القياس. ينظر:«فتح باب العناية» (ص 2: 342).
(4)
النَّيْرُوز: وهو معرب، وهو أَوَّل السنة، لكنّه عند الفرس عند نزول الشمس أوّل الحمل، وعند القبط أوّل تُوت. ينظر:«المصباح» (ص 599).
(5)
المَهْرَجَان: عيدٌ للفرس، وهي كلمتان مَهْرَ وِزَان حِمْلٍ وَجَانُ لكن تركَّبت الكلمتان حتى صارتا كالكلمة الواحدة ومعناها: محبة الروح، وفي بعض التواريخ: كان المهرجان يوافق أول الشتاء ثم تقدَّم عند إهمال الكَبْس حتى بقي في الخريف، وهو اليوم السادس عشر من مَهْرَمَاه وذلك عند نزول الشمس أول الميزان. ينظر:«المصباح» (ص 583).
ذلك، وقدوم الحاج، والحصادِ، والدِّياس، والقِطَاف، والجِزَاز، والتكفُّل إليها جاز، وصحَّ إن أسقط الأجلَ قبلَ حلولِهِ.
[فصل في أحكامه]
ذلك
(1)
، وقدوم الحاج، والحصادِ، والدِّياس
(2)
، والقِطَاف، والجِزَاز): القِطافِ: جَنْيُ الثَّمرِ عن الأشجار، والجِزازُ: قطعُ الصُّوفِ عن ظهرِ الغَنَمِ.
(والتكفُّل إليها جاز): أي يجوزُ الكفالةُ إلى هذه الأوقات؛ لأنَّ الجهالةَ اليسيرةَ متحملةٌ في الكفالةِ دون البيع.
(وصحَّ إن أسقط الأجلَ قبلَ حلولِهِ): أي إن أسقطَ هذه الآجالَ المجهولةَ قبل حلولِها ينقلبُ البيعُ صحيحاً
(3)
.
[فصل في أحكامه]
ثمَّ اعلمْ أنّ الحكمَ في البيعِ الباطلِ أنّ المبيعَ إن هلكَ في يدِ المشتري، فعند البعض
(4)
:
(1)
أي المتعاقدان ذلك المذكورُ من النَّيروزِ والمَهْرَجَان وصومِ النَّصارى وفطرِ اليهود؛ لأنَّ النَّيروزَ والمَهْرَجانِ لا يتعيّنان إلاَّ بظنٍّ وممارسةٍ بعلمِ النجوم، فربّما يقعُ الخطأ فيكونُ مجهولاً، فيؤدّي إلى النّزاع، وكذا صومُ النّصارى وفطرُ اليهود؛ فإنَّ النّصارى يبتدؤن من نَيروز، ويصومون خمسينَ يوماً، فيومُ صومِهم مجهول، وأمّا يومُ فطرهم بعدما شرعوا في صومهم فمعلوم، فلا جهالةَ فيه ولا فساد، واليهودُ يصومون من أوَّل شهرٍ إلى تمامِ عشرينَ من شهرٍ آخر، ثمَّ يفطرون، فيومُ صومِهم وفطرِهم مجهولان؛ لاختلافهما باختلافِ عدّة الشهر، هذا إذا لم يعرفا هذه الآجال، وكذا إذا لم يعرفْ أحدُهما، أمّا إذا كان ذلك معلوماً عندهما، فيجوزُ البيعُ لعدمِ النِّزاع. ينظر:«الزبدة» (3: 45).
(2)
في أ: «الدباس» .
(3)
أي لو باع شيئاً بتأجيل الثمن إلى هذه الأوقات المذكورة ثم أسقط مَن له الأجل وهو المشتري هذا الأجل المفسد للبيع قبل حلوله: أي قبل الحصاد والدِّياس مثلاً صحَّ البيع؛ لأن الفسادَ كان للمنازعة، وقد ارتفع قبل تقرّره، وهذه الجهالة هي شرطٌ زائدٌ لا في صلب العقد بخلاف بيع الدرهم بالدرهمين لا ينقلب صحيحاً بإسقاطِ الدرهم الزائد؛ لأن الفسادَ في صلب العقد، وبخلاف إسقاط الأجل في النكاح المؤقَّت؛ لكونه متعةً، وهو غيرُ عقد النكاح. ينظر:«المنح» (ق 2: 31/ب).
(4)
وهو أبو نصر ابن أحمد الطواويسي رضي الله عنه، وهو رواية الحسن رضي الله عنه عن أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن العقد غير معتبر فبقي مجرّد القبض بإذن المالك وذلك لا يوجب الضمان. ينظر:«الفتح» (6: 44).
فإن قبضَ المشتري المبيعَ بَيْعاً فاسداً برضى بائعِهِ صريحاً، أو دلالةً كقبضِهِ في مجلسِ عقدِه، وكلٌّ من عوضيهِ مالٌ يَمْلِكُهُ، وَلَزِمَهُ مثله حقيقةً أو معنىً، ولكلٍّ منهما فسخَهُ قبلَ القبضِ، وكذا بعدَهُ ما دامَ في مِلْكِ المشتري إن كان الفسادُ في صُلْبِ العقدِ كبيعِ درهمٍ بدرهمينِ
أمانةٌ، وعند البعض
(1)
: مضمونٌ بالقيمةِ كالمقبوضِ على سومِ الشراء.
وأمَّا حكمُ البيعِ الفاسدِ ففي المتنِ شرعَ في أحكامِه، فقال:
(فإن قبضَ المشتري المبيعَ بَيْعاً فاسداً برضى بائعِهِ صريحاً، أو دلالةً كقبضِهِ في مجلسِ عقدِه، وكلٌّ من عوضيهِ مالٌ يَمْلِكُهُ) فإن قيل: كلامُنا في البيع الفاسد، فيكون كلٌّ من العوضينِ مالاً البتة، إذ لو لم يكن البيع مالاً لكان البيع باطلاً.
قلنا: قد يُذْكَرُ الفاسدُ، ويرادُ به الباطلُ، كما أن في أوّل «كتاب القُدُورِيِّ»
(2)
جَعَلَ البيعَ بالميتةِ فاسداً، وهو باطلٌ؛ فلهذا قال: وكلُّ من عوضيه مالٌ؛ احتياطاً حتى لو اشتمل الفاسدُ الباطلَ يكون هذا القيدُ مُخْرِجاً له عن هذا الحكم، وهو أن يصيرَ المبيعُ مُلكاً على أنَّه قد يكون البيع فاسداً، مع أنَّه لا يكون كلٌّ من عوضيه مالاً، كما إذا باع وسَكَتَ عن الثَّمنِ، فالبيعُ فاسدٌ عندهما حتى يَمْلِكَ بالقبضِ ويَجِبَ الثَّمنُ، وهو القيمة.
(وَلَزِمَهُ مثله حقيقةً أو معنىً): أي إن هَلَكَ في يدِ المشتري وَجَبَ عليه المثلُ حقيقةً في ذواتِ الأمثالِ، والمثلُ معنىً: وهو القيمةُ وقت القبضِ في ذواتِ القيم.
(ولكلٍّ منهما فسخَهُ قبلَ القبضِ، وكذا بعدَهُ ما دامَ في مِلْكِ المشتري إن كان الفسادُ في صُلْبِ العقدِ كبيعِ درهمٍ بدرهمينِ)
(3)
، أرادَ بالفسادِ في صُلْبِ العقدِ،
(1)
وهو شمسُ الأئمَّةِ السَّرَخْسيّ رضي الله عنه، وهذا روايةُ ابن سماعةٍ رضي الله عنه عن محمّد رضي الله عنه، وقيل: هذا قولهما مضمونٌ بالقيمة؛ لأنّه يصيرُ كالمقبوضِ على سوم الشراء، وهو أن يسمّي الثمنَ فيقول: اذهب بهذا، فإنّي رضيت، أمّا إذا لم يسمّه فذهبَ به فهلكَ عنده لا يضمن، نصَّ عليه الفقيهُ أبو اللّيث، وقيل: وعليه الفتوى، كما في «العناية» (6: 44).
(2)
أي «مختصر القدوري» (ص 36).
(3)
يعني على كل واحد منهما فسخه؛ لأن رفع الفساد واجب عليهما واللام تكون بمعنى على، ويتمكن كل واحد منهما من الفسخ قبل القبض بعلم صاحبه؛ لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض فكان بمنْزلة البيع الذي فيه الخيار، فكان كل واحد منهما بسبيل من فسخه من غير رضا الآخر لكنه يتوقَّفُ على علمه؛ لأن فيه إلزام الفسخ له فلا يلزمه بدون علمه، وأما بعد القبض فإن كان الفساد في صلب العقد بأن كان راجعاً إلى أحد البدلين كالبيع بالخمر أو الخنْزير فكذلك ينفرد أحدهما بالفسخ لقوة الفساد، وإن كان الفساد لشرط زائد بأن باع إلى أجل مجهول أو غيره مما فيه منفعة لأحد المتعاقدين يكون لمن له منفعة الشرط الفسخ دون الآخر عند محمد؛ لأن منفعة الشرط إذا كانت عائدة إليه كان قادراً على تصحيحه بحذف الشرط، فكان في حقّه بمنْزلة الصحيح لقدرته عليه فلو فسخ الآخر لأبطل حقّه عليه
…
ينظر: «التبيين» (4: 64). «المحيط» (ص 272).
ولِمَن له الشَّرطُ إن كان بشرطٍ زائدٍ، كشرطِ أن يُهْدِى له هديةً، فإن باعَهُ المشتري، أو وهَبَهُ وسَلَّمَهُ، أو أعتقَهُ صحَّ، وعليه قيمتُهُ، وسقطَ حقُّ الفسخ، ولا يأخذُهُ البائعُ حتى يَرُدَّ ثَمَنَهُ، فإن مات هو فالمشتري أحقُّ به حتى يأخذَ ثَمَنَه، وطابَ للبائعِ ربح ثَمَنِهِ بعد التَّقابضِ لا للمشتري ربح مبيعِهِ فيتصدَّقُ به
الفسادُ الذي يكونُ في أحدِ العوضينِ، (ولِمَن له الشَّرطُ إن كان بشرطٍ زائدٍ، كشرطِ أن يُهْدِى له هديةً): ذَكَرَ في «الذَّخيرة» : إنّ هذا قولُ محمدٍ رضي الله عنه، وأمَّا عندهما فلكلِّ واحدٍ منهما حقُّ الفسخ؛ لأنَّ الفسخَ لحقِّ الشَّرعِ لا لحقِّ أحد المتبايعين، فإنَّهما راضيانِ بالعقدِ.
(فإن باعَهُ المشتري، أو وهَبَهُ وسَلَّمَهُ، أو أعتقَهُ صحَّ، وعليه قيمتُهُ، وسقطَ حقُّ الفسخ)؛ لأنَّهُ تعلَّقَ به حقُّ العبد، وإنَّما يفسخُ حقَّاً لله تعالى، وإذ اجتمعَ حقُّ الله تعالى، وحقُّ العبدِ يُرجَّحُ حقُّ العبدِ لحاجتِه.
(ولا يأخذُهُ البائعُ حتى يَرُدَّ ثَمَنَهُ): أي البائعُ إذا فسخَ البيعَ الفاسد لا يأخذُ المبيعَ حتى يَرُدَّ الثَّمَن؛ لأنَّ المبيعَ محبوسٌ بالثَّمَنِ بعدَ الفسخ.
(فإن مات هو فالمشتري أحقُّ به حتى يأخذَ ثَمَنَه): أي باعَ شيئاً بيعاً فاسداً ووقعَ التَّقابض، ثم فَسَخَ البيع، ثم ماتَ البائعُ، فللمشتري حقُّ حبسِ المبيعِ حتى يأخذَ الثَّمنَ ولا يكونُ أسوةً لغرماءِ البائعِ.
(وطابَ للبائعِ ربح ثَمَنِهِ بعد التَّقابضِ لا للمشتري ربح مبيعِهِ فيتصدَّقُ به)، صورة المسألة: باعَ جاريةً بيعاً فاسداً بالدَّراهمِ أو بالدَّنانيرِ وتقابضا، فباعَ المشتري الجارية وربحَ، لا يطيبُ له الرِّبح، وإن رَبِحَ البائعُ في الثَّمنِ يطيب له الرِّبح.
والفرقُ أن المبيعَ متعيِّنٌ في العقدِ فيكون فيه خبثٌ؛ بسببِ فسادِ الملك، وفي فسادِ الملكِ شبهةُ عدمِ الملك، فالشبهةُ ملحقةٌ بالحقيقةِ في الحرمة؛ فإن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: «نَهَى عن الرِّبا
....................................................................................................................
وَالرَّيْبَةِ»
(1)
. وأمّا الدَّرَاهمُ والدَّنانيرُ فغيرُ متعيِّنةٍ في العقدِ، ولو كانت فيه متعيِّنةً كانت فيها شُبْهةُ الخبثِ بسببِ الفساد، فعند عدم التَّعيينِ يكونُ في تعلُّقِ العقدِ بها شبهة، فيكون فيها شبهةُ الشُّبْهةِ، ولا اعتبارَ لها، هذا في الخبثِ بسببِ فسادِ الملك.
أمَّا الخبثُ بسببِ عدم الملكِ فيشملُ النَّوعينِ هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، يعني: إن رَبِحَ في المغصوبِ لا يَطِيبُ سواءٌ كان المغصوبُ ممَّا يتعيَّنُ كالجاريةِ مثلاً، أو ممَّا لا يتعيَّنُ كالدَّراهمِ والدَّنانيرِ، حتى إن باعَ الدَّراهمَ أو الدَّنانير المغصوبةَ، وحصلَ فيها ربحٌ لا يكون طيباً؛ لأنَّ في الأوَّلِ حقيقةَ الخبث، وفي الثَّاني شبهةَ، والشُّبهةُ ملحقةٌ بالحقيقة.
(كما طابَ ربحُ ما ادَّعاهُ فقضي بالمالِ، ثم ظهرَ عدمُهُ بالتَّصادق): أي ادَّعَى على رجلٍ مالاً فقضاهُ، فرَبِحَ فيه المُدَّعي، ثمَّ تصادقا على أن هذا المالَ لم يكن على المُدَّعَى عليه، فالرِّبحُ طيّبٌ؛ لأنَّ المالَ المقضي به بَدَلُ الدَّينِ الذي هو حقُّ المُدَّعي، والمُدَّعي باعَ دينَه بما أخذ، فإذا تصادقا على عدمِ الدَّينِ صارَ كأنَّه استحقَّ مِلْكَ البائعِ، وبَدَلُ المستحقِّ مملوكٌ ملكاً فاسداً، فيكونُ البيعُ في حقِّ البدلِ بيعاً فاسداً، فلا يؤثِّرُ الخبثُ فيما لا يتعيَّنُ بالتَّعيين.
فإن قيل: ذكرَ في «الهداية» في المسألةِ السَّابقة: ثُمَّ إذا كانت دراهمُ الثَّمنِ قائمةً يأخذُها بعينها؛ لأنَّها تتعيَّنُ بالتَّعيين في البيع الفاسد، وهو الأصحُّ؛ لأنَّه بمَنْزلةِ الغصب
(2)
. فهذا يُناقضُ ما قُلْتُم من عدمِ تعيين الدَّراهم والدَّنانير.
قلنا: يمكنُ التَّوفيقُ بينهما بأنّ لهذا العقدِ شبهتين:
شبهةُ الغصب.
وشبهة البيع.
فإذا كانت قائمةً اعتبرَ شبهةُ الغصبِ سعياً في رفعِ العقدِ الفاسد، وإذا لم تكنْ قائمةً فاشترى بها شيئاً، يعتبرُ شبهةُ البيع، حتى لا يسري الفسادُ إلى بدلِهِ كما ذكرنا من
(1)
هو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال: «إن آخرَ ما نَزل من القرآن آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسِّرها فدعوا الربا والريبة» في «مسند أحمد» (1: 36،49)، و «سنن ابن ماجه» (2: 764)، قال الكناني في «مصباح الزجاجة» (3: 35): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(2)
انتهى من «الهداية» (3: 52).
ولو بَنَى في دارٍ شراها شراءً فاسداً لَزِمَهُ قيمتُها، وشَكَّ أبو يوسف رضي الله عنه فيها
شبهةِ الشُّبْهة. وأيضاً لتداولِ الأيدي تأثيرٌ في رفعِ الحرمةِ على ما عُرِف
(1)
.
(ولو بَنَى في دارٍ شراها شراءً فاسداً لَزِمَهُ قيمتُها، وشَكَّ أبو يوسف رضي الله عنه فيها): هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما يُنْقَضُ البناء.
وهذه المسألةُ من المسائلِ
(2)
التي أَنْكَرَ أبو يوسفَ رضي الله عنه روايتَها عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه،
(1)
قال في «الدرر» (2: 175): إنّ ما ذكرَهُ صدرُ الشريعةِ لا يفيدُ التَّوفيقَ بين كلامَي «الهداية» (3: 52)، وإنّما يفيدُ دليلاً للمسألة لا يردُ عليه ما يردُ على «الهداية» ، فالوجهُ ما قال في «العناية» (6: 104): إنّما يستقيمُ على الرِّوايةِ الصَّحيحة لأبي حفص رضي الله عنه، وهي أنّها لا تتعيّن لا على الأصح كما في رواية أبي سليمان رضي الله عنه، وهو أنّها تتعيّن في البيعِ الفاسد. انتهى. قال صاحب «مجمع الأنهر» (2: 67 - 68): ويمكنُ الدُّفعِ بوجهٍ آخرٍ وهو أنَّ المرادَ بالعقودِ العقودُ الصحيحة؛ لأنَّ المطلقَ ينصرفُ إلى الكامل، فحينئذٍ عدمُ التعيينِ سواءً كان في المغصوبِ أو ثمنِ المبيعِ بالبيعِ الفاسدِ إنّما هو في العقدِ الثاني، فلا يضرُّ تعيّنه في الأوّل، فعلى هذا ينبغي أن يكون جوابُ صاحبِ «العناية» (6: 104) بلا حصر. تدبّر.
(2)
نصُّوا على أنها ستّ مسائل، وذكرها ابن نجيم نقلاً عن السراج الهندي لكن لم يذكر فيها هذه المسألة، وهذه المسائل هي:
الأولى: رجل صلى التطوع أربعاً وقرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين لا غير، روى محمد أنه يقضي أربعاً، وقال أبو يوسف: إنما رويت له ركعتين، واعتمد مشايخنا رواية محمد.
والثانية: مستحاضة توضأت بعد طلوع الشمس تصلي حتى يخرج وقت الظهر، قال أبو يوسف: إنما رويت لك حتى يدخل وقت الظهر.
والثالثة: المشتري من الغاصب إذا أعتق ثم أجاز المالك البيع نفد العتق، قال: إنما رويت لك أنه لا ينفد.
والرابعة: المهاجرة لا عدة عليها ويجوز نكاحها إلا أن تكون حبلى فحينئذ لا يجوز نكاحها، قال: إنما رويت لك أنه يجوز نكاحها ولكن لا يقربها زوجها حتى تضع الحمل.
والخامسة: عبد بين اثنين قتل مولى لهما فعفا أحدهما بطل الدم كلّه عند أبي حنيفة، وقالا: يدفع ربعه إلى شريكه أو يفديه بربع الدية، وقال أبو يوسف: إنما حكيت لك عن أبي حنيفة كقولنا وإنما الاختلاف الذي رويته في عبد قتل مولاه عمداً وله ابنان فعفا أحدهما إلا أن محمداً ذكر الاختلاف فيهما، وذكر قول نفسه مع أبي يوسف في الأولى.
السادسة: رجل مات وترك ابناً له وعبداً لا غير فادّعى العبد أن الميِّت كان أعتقه في صحّته، وادّعى رجل على الميت ألف دينار وقيمة العبد ألف، فقال الابن: صدقتما. يسعى العبد في قيمته وهو حر، ويأخذها الغريم بدينه، وقال أبو يوسف: إنما رويت لك ما دام يسعى في قيمته أنه عبد. ينظر: «البحر الرائق» (2: 65)، و «العناية» (6: 103)، و «النافع الكبير» (ص 33).
[فصل فيما يكره]
وكُرِهَ النَّجَشُ، والسَّوْمُ على سَوْمِ غيرِهِ إذا رضيا بثمن، وتلقِّي الجلب المضرّ بأهلِ البلد
فإنّ أبا يوسفَ رضي الله عنه قال لمحمدٍ رضي الله عنه: ما رويتُ لك عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنَّه يأخذُها بقيمتِها، بل رويتُ أنَّهُ ينقضُ البناء، وقال محمّدٌ رضي الله عنه: بل رويتَ الأخذَ بالقيمةِ لكن نسيت. فشكَّ أبو يوسف رضي الله عنه في روايتِهِ عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه، ومحمدٌ رضي الله عنه لم يرجعْ عن ذلك، وحملَهُ على نسيانِ أبي يوسف رضي الله عنه، فإنَّهُ ذَكَرَ في (كتابِ الشفعة): إن المشتري إن اشترى شراءً فاسداً إذا بَنَى فيها فللشفيعِ الشُّفعةِ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما لا شفعةَ له، وهذا يدلُّ على انقطاعِ حقِّ البائع
(1)
ببناءِ المشتري عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه خلافاً لهما.
[فصل فيما يكره]
(وكُرِهَ النَّجَشُ)، نَجْشُ الصَّيدِ: بسكونِ الجيمِ: إثارتُه، والنَّجشُ جاء بفتح الجيم وسكونِه: وهو أن يساوم سلعةً لا يريدُ شراءها بأكثرَ من قيمتِها ليرى الآخرُ فيقعَ فيه.
(والسَّوْمُ على سَوْمِ غيرِهِ إذا رضيا بثمن
(2)
، وتلقِّي الجلب المضرّ بأهلِ البلد)، الجَلَبُ المجلوبُ، فإنَّ المجلوبَ إذا قَرُبَ من البلدِ تعلَّق به حقُّ العامةِ، فيكرَهُ أن يستقبلَ البعضُ ويشتريه، ويمنعُ العامةَ عن شرائه، وهذا إنِّما يُكْرَهُ إذا كان مضرَّاً بأهلِ البلدِ، وقد سمعتُ أبياتاً لطيفةً لمولانا برهانِ الإسلام رضي الله عنه فكتبتها أحماضاً
(3)
، وهي:
أبو بكرٍ الولد المنتخب
…
أرادَ الخروجَ لأمرٍ عَجَب
فقال إنِّي عزمت الخروج
…
لكفتارة هي لي أُمُّ أب
فقلت: أم تسمعن يا بنى
…
بنهي أَتَي عن تلقِّي الجلب
(1)
إذ ثبوتُ حقُّ الشفعةِ مبنيٌّ على انقطاعِ حقِّ البائعِ في الاسترداد، فيكونُ نصَّاً على الاختلافِ في انقطاعِ حقِّ البائعِ بالبناء؛ لأنَّ التنصيصَ على الاختلافِ في الفرعِ يكون تنصيصاً على الاختلافِ في أصلِ ذلك الفرع. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 50).
(2)
قيَّد به؛ لأنهما لو لم يرضيا بثمن فلا بأس به؛ لأنه بيع مَن يزيد. ينظر: «فتح باب العناية» (2: 347).
(3)
أي إظهاراً للملاحة والاستطراف. ينظر: «الزبدة» (3: 51).
وبيعُ الحاضرِ للبادي طمعاً في الثَّمنِ الغالي زمانَ القحط، والبيعُ عند أذانِ الجُمُعةِ، وتفريقُ صغيرٍ عن ذي رحمٍ محرمٍ منه بلا حقِّ مستحقٍّ، لا بيعُ مَن يَزِيدُ الثَّمن. والله أعلم.
(وبيعُ الحاضرِ للبادي طمعاً في الثَّمنِ الغالي زمانَ القحط)، صورتُهُ: أن البادي يَجْلِبُ الطَّعامَ إلى البلدِ فيطرحُهُ على رجلٍ يسكنُ البلدَ ليبيعَ من أهلِ البلدِ بثمنٍ غال، فهذا يُكْرَهُ في أيَّامِ العسرة
(1)
.
(والبيعُ عند أذانِ الجُمُعةِ، وتفريقُ صغيرٍ عن ذي رحمٍ محرمٍ منه بلا حقِّ مستحقٍّ): هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمّدٍ رضي الله عنه، وأمَّا عند أبي يوسف رضي الله عنه إذا كان القرابةُ قرابة
(2)
ولادةً لا يجوزُ بيعُ أحدهما بدون الآخرِ، فإنَّهُ صلى الله عليه وسلم قال لَعَلِيّ رضي الله عنه:«أدرك أدرك»
(3)
. ولو كان البيعُ نافذاً لا يمكنُهُ الاستدراك، ولو كان بحقِّ مستحقٍّ كدفع أحدهما عن الآخر بالجنايةِ، والرَّدِّ بالعيبِ لا يُكْرَه
(4)
.
(لا بيعُ مَن يَزِيدُ الثَّمن
(5)
. (والله أعلم)
(6)
).
(1)
وقال بعضُهم: صورتُهُ أنَّ الرَّجلَ إذا كان له طعامٌ وأهلُ المصرِ في قحطٍ وهو لا يبيعُهُ من أهلِ المصرِ حتى يتوسّعوا، ولكن يبيعُهُ من أهلِ الباديةِ بثمنٍ غالٍ، وأهلُ المصرِ يتضرَّرون فلا يجوز، وإذا كانوا لا يتضرَّرون بذلك فلا بأسَ ببيعه منهم، وإلى هذه الصُّورةِ ذهبَ صاحبُ «الهداية» (3: 53).
(2)
زيادة من ص و م.
(3)
عن عليّ رضي الله عنهم قال: «وهبَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلَ غلامك، فأخبرته، فقال «رده رده» ، واللفظ للترمذي (3: 580)، وقال حسن غريب، وفي «سنن سعيد بن منصور» (2: 289) بلفظ: «أدرك أدرك» ، وفي «سنن ابنُ ماجه» (2: 755) بلفظ: «رده» ، وفي الباب حديث أخر تؤيِّده.
(4)
لأنَّ التفريقَ إنّما نهى عنه لدفعِ الضَّررِ عن الصغير، وليس من شرطِ دفعِ الضَّررِ عن شخصٍ إلحاقُ الضَّررِ بغيره، فإذا تعلَّقَ بأحدهما حقٌّ فالمنعُ من إيفاءِ الحقِّ إضرارٌ بصاحبِ الحق، وإنّما حصلَ الإضرارُ بالصَّغيرِ ضمناً لحقٍّ مستحقٍّ فلا يلتفت إليه؛ لأنّه كم من شيءٍ يثبتُ ضمناً ولا يثبتُ قصداً. ينظر:«البناية» (6: 474).
(5)
ويسمى بيع الدلالة. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 70).
(6)
ساقطة من أ و ق و ص.
باب الإقالة
هي فسخٌ في حقِّ المتعاقدين بيعٌ في حقِّ الثالث، فبطلتْ بعد ولادةِ المبيعة
باب الإقالة
(هي فسخٌ في حقِّ المتعاقدين بيعٌ في حقِّ الثالث)، الإقالةُ فسخٌ في حقِّ المتعاقديْن، بيعٌ جديدٌ في حقِّ غيرِهما عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه فإن لم يمكن جعلُها فسخاً في حقِّهما تبطلُ، وفائدةُ أنَّه بيعٌ في حقِّ الثالث: أنَّه يَجِبُ الشفعة بالإقالة، فإنَّ الشفيعَ ثالثُهما، ويَجِبُ الاستبراء؛ لأنَّه حقُّ اللهِ تعالى، فاللهُ ثالثُهما، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه هي بيعٌ، فإن لم يمكنْ جعلُها بيعاً تُجْعَلُ فسخاً فإن لم يمكنْ تبطلُ
(1)
، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه عكسُ هذا
(2)
(فبطلتْ بعد ولادةِ المبيعة)، هذا تفريعُ كونِها فسخاً إذ بعد الولادةِ لا يمكنُ الفسخُ فتبطلُ عند أبي حنيفةَ
(3)
رضي الله عنه، وعندهما لا تبطل؛ لأنَّها تكونُ بيعاً.
(1)
أي إن كانت قبلَ القبضِ في المنقول، أو كانت بعد هلاكِ أحد المعوضين في المقايضة، تجعلُ فسخاً؛ لأنّها موضوعةٌ له أو يحتمله، فإن لم يمكنْ جعلُها فسخاً وبيعاً بأن كانت قبل القبضِ في المنقولِ بأكثرَ من الثمنِ الأوّلِ أو بأقلّ منه، أو بجنسٍ آخر، أو بعدَ هلاكِ السِّلعة في غيرِ المقايضةِ تبطلُ الإقالةُ عنده، ويبقى البيعُ الأوّلُ على حالِه؛ لأنَّ البيعَ المنقولَ قبل القبضِ لا يجوز، والفسخُ يكون بالثمن الأوّل. ينظر:«الزبدة» (3: 52).
(2)
أي فسخٌ إن كانت بالثَّمنِ الأوّل؛ لأنَّ الإقالةَ موضوعٌ للفسخِ والرفع، يقال في الدِّعاء: اللهمَّ أقلني عثرتي، فيعملُ بمقتضاه، فإن لم يمكنْ جعلُها فسخاً بأن كانت بعد القبضِ بالثَّمنِ الأوَّلِ بعد الزيادةِ المنفصلة، أو بعد القبضِ بخلافِ جنسِ الثمن الأوَّل، أو بعد القبضِ بأكثرَ من الثمنِ الأوّلِ فتجعلُ بيعاً حملاً على محتمله؛ صيانة لكلامِ العاقلِ عن الإلغاء، ولهذا صار بيعاً في حقِّ غيرهما لعدمِ ولايتهما عليه، فإن لم يمكن جعلُها بيعاً وفسخاً بأن كانت قبل القبضِ خلافَ جنسِ الثَّمنِ الأوَّلِ تبطلُ الإقالة، ويبقى البيعُ الأوَّلُ على حالِه؛ لأنَّ الفسخَ لا يكونُ على خلافِ الثَّمنِ الأوّل، والبيعُ لا يجوزُ قبل القبض، وبالأقلِّ من الثمن يكون فسخاً عنده بالثّمن الأوّل؛ لأنّه سكوتٌ عن بعضِ الثَّمن، ولو سكتَ عن الكلِّ كان فسخاً فكذا إذا سكتَ عن البعض. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 73).
(3)
هذا إذا ولدت بعد القبض أما إذا ولدت قبله فالإقالة صحيحة؛ إذ يتعذَّر معها الفسخ حقّاً للشرع بخلاف ما قبل القبض فلا تمنع، وكذا الزيادة المنفصلة، وأما الزيادة المتصلة كالثمن لا تمنع سواء كانت قبل القبض أو بعده. ينظر:«الشرنبلالية» (2: 179).
وصحَّتْ بمثلِ الثَّمنِ الأوَّلِ، وإن شَرَطَ غيرَ جنسِه أو أكثرَ منه، وكذا في الأَقلِّ منه إلاَّ إذا تَعيَّبَ فيجبُ ذلك، ولم يمنَعْها هلاكُ الثَّمنِ بل المبيع، وهلاكُ بعضِهِ يَمْنَعُ بقدرِه.
باب المرابحة والتولية
المرابحةُ: بيع المشترَى بثمنِهِ وفضلٍ، والتَّوليةُ: بيعهُ به بلا فضلٍ، وشرطُهُما شراؤه بمثلى
(وصحَّتْ بمثلِ الثَّمنِ الأوَّلِ، وإن شَرَطَ غيرَ جنسِه أو أكثرَ منه)، إذا تقايلا على غيرِ جنسِ الثَّمنِ الأَوَّل، أو على أكثرَ منه، فعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه يَجِبُ الثَّمَنُ الأَوَّلُ؛ لأنَّ الإقالةَ فسخٌ عنده، والفسخُ لا يكونُ إلاَّ على الثَّمنِ الأَوَّلِ، فذلك الشَّرطُ شرطٌ فاسدٌ، والإقالةُ لا تَفْسُدُ بالشَّرطِ الفاسدِ، فصحَّت الإقالُة وبَطَلَ الشَّرطُ، وعندهما تكونُ بَيْعاً بذلك المُسْمَّى.
(وكذا في الأَقلِّ منه إلاَّ إذا تَعيَّبَ فيجبُ ذلك)
(1)
: أي يَجِبُ الثَّمنُ الأَوَّل إذا تقايلا على أقلَّ منه، إلاَّ إذا تعيَّب فحينئذٍ يَجِبُ الأقلُّ وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يكونُ بَيْعاً بالأقلّ، فإنَّ الأصلَ عنده أنَّه بَيْعٌ، وعند محمّدٍ رضي الله عنه تكون فسخاً بالثَّمن الأوَّل؛ لأنَّه سكوتٌ عن بعضِ الثَّمنِ الأوَّل، ولو سكتَ عن الكلِّ وأقالَ كان فسخاً، فهذا أولى إلاَّ إذا دَخَلَ عَيْبٌ، فإنَّه فسخٌ بالأقلّ.
(ولم يمنَعْها هلاكُ الثَّمنِ بل المبيع، وهلاكُ بعضِهِ يَمْنَعُ بقدرِه)
(2)
.
باب المرابحة والتولية
(المرابحةُ: بيع المشترَى بثمنِهِ وفضلٍ، والتَّوليةُ: بيعهُ به بلا فضلٍ).
المرابحةُ هي أن يشترطَ أن المبيعَ بالثَّمنِ الأوّل الذي اشترى به مع فضلٍ معلومٍ.
والتَّوليةُ: أن يشترطَ أنَّه بذلك الثَّمنِ بلا فضلٍ.
(وشرطُهُما شراؤهُ بمثلى)
(3)
؛ لأَنَّ فائدةَ هذين البيعينِ أن الغبِيّ يعتمدُ على فعل
(1)
نقلَ عن تاج الشَّريعةِ هذا إذا كانت حصَّةُ العيبِ مقدارَ المحطوطِ أو زائداً أو ناقصاً بقدرِ ما يتغابنُ الناس فيه. ينظر: «البناية» (6: 483).
(2)
لقيام المبيع فيه وإن تقايضا تجوز الإقالة بعد هلاك أحدهما ولا تبطل بهلاك أحدهما؛ لأن كل واحد منهما مبيع فكان المبيع باقياً. ينظر: «الهداية» (3: 56).
(3)
أي كالدراهم والدنانير، والكيليُّ والوزنيُّ والعددّي المتقارب؛ لأنّه لو لم يكن مثليّاً كالأشياءِ المتفاوتةِ كالحيواناتِ والجواهر، يكون مرابحةً بالقيمة، وهي مجهولة؛ لأنَّ معرفتَها لا يمكنُ حقيقة، فلا يجوزُ بيعُهُ مرابحةً إلا إذا كان المشتري مرابحةً ممَّن يملكُ ذلك البدلَ من البائعِ بسببٍ من الأسباب. كذا في «مجمع الأنهر» (2: 74 - 75).
وله ضمُّ أَجْر القصَّارِ، والصَّباغ، والطَّرَّاز، والفتل، والحمل إلى ثمنِه، لكن يقولُ قامَ علي بكذا لا اشتريتُهُ بكذا، فإن ظَهَرَ للمشتري خيانتُهُ في المرابحة أخذَهُ بثمنِه أو ردَّه، وفي التَّوليةِ حطّهُ من ثمنِه، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يحطُّ فيهما، وعند محمدٍ رضي الله عنه خُيِّرَ فيهما. فإن اشترى ثانياً بعد بيع بربحٍ، فان رابح طُرِحَ عنه ما ربح، وإن استغرقَ الرِّبْحُ الثَّمَنَ لم يرابح
الذَّكيّ، فيلطبْ نفسَهُ بمثلِ ما اشترى به هو، أو بمثلِهِ مع فضلٍ، وهذا المعنى إنَّما يظهرُ في ذواتِ الأمثالِ دون ذوات القيمِ؛ لأنَّ ذواتِ القيمِ قد تُطْلَبُ بصورتِها من غيرِ اعتبارِ ماليَّتِها، وأيضاً القيمةُ مجهولةٌ، ومبنى البيعينِ على الأمانة
(1)
.
(وله ضمُّ أَجْر
(2)
القصَّارِ، والصَّباغ، والطَّرَّاز، والفتل، والحمل إلى ثمنِه، لكن يقولُ قامَ علي بكذا لا اشتريتُهُ بكذا، فإن ظَهَرَ للمشتري خيانتُهُ في المرابحة أخذَهُ بثمنِه أو ردَّه، وفي التَّوليةِ حطّهُ من ثمنِه، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يحطُّ فيهما، وعند محمدٍ رضي الله عنه خُيِّرَ فيهما
(3)
.
فإن اشترى ثانياً بعد بيع بربحٍ، فان رابح طُرِحَ عنه ما ربح، وإن استغرقَ الرِّبْحُ الثَّمَنَ لم يرابح): أي إذا اشترى ثوباً بعشرة وباعه بخمسةَ عشر، ثُمَّ اشتراه بعشرةٍ، فإنَّه إن باعَهُ مرابحةً طرحَ عنه ما رَبِح، ويقول: قامَ عليَّ بخمسةٍ. وإن اشترى بعشرةٍ وباعَهُ بعشرين، ثم اشتراه بعشرةٍ لا يبيعُهُ مرابحةً أصلاً، وعندهما يقول: قامَ عليَّ بعشرةٍ في الفصلين؛ لأنَّ البيعَ الثاني بيع متجدِّدٌ، ومنقطعُ الأحكامِ عن الأَوَّلِ، ولأبي حنيفةَ- رضي الله عنه أن قبلَ الشَّراءَ الثَّاني يُحْتَمَلُ أن يَطَّلِعَ على عيبٍ فَيَرُدَّهُ عليه، فيسقطُ الرِّبْحُ الذي رَبِحَه، فإذا اشتراهُ ثانياً تأكَّد ذلك الرِّبْح، فصارَ للمشتري الثَّاني شبهةٌ أن
(1)
المعتبرُ في المرابحةِ ما وقعَ العقدُ الأوَّل عليهِ دون ما دُفِعَ عوضاً عنه، حتى لو كان بعشرة دراهم، فدفعَ عنها ديناراً أو ثوباً قيمتُه عشرة أو أقلّ أو أكثر كان رأسُ المالِ هو العشرة دون ما دفع. ينظر:«الفتح» (6: 125).
(2)
قيَّدَ بالأجر؛ لأنّه لو فعلَ شيئاً من ذلك بيدِه أو بإعارةٍ لا يجوزُ أن يضمَّه إلى رأسِ المال، وكذا إذا تطَّوعَ متطوعٌ بهذه الأشياءِ المذكورة. ينظر:«الزبدة» (3: 54).
(3)
أي يخيّر فيهما جميعاً إن شاء أخذ بجميع الثمن وإن شاء ترك لأنهما تراضيا فلا معنى للحطّ، إلا أن المشتري صار مغروراً فيتخير. ينظر:«الرمز» (2: 37).
ورابحَ سيدٌ شرى من مأذونِهِ المحيط دينه برقبتِهِ على ما شَرَى بائِعُه، كمأذونٍ شرى من سيدِه، وربُّ المالِ على ما شراهُ ضاربَهُ بالنِّصفِ أوَّلاً، ونصفِ ما رَبِحَ بشرائِهِ ثانياً منه، فإن اعورَّتْ المبيعة، أو وُطِئَتْ ثَيْباً رابحَ بلا بيان
الرِّبحَ قد حصلَ به، فلا يكونُ منقطعَ الأحكامِ عن الأوَّل
(1)
.
(ورابحَ سيدٌ شرى من مأذونِهِ المحيط دينه برقبتِهِ على ما شَرَى بائِعُه): أي اشترى العبدُ المأذونُ المحيطُ دينُه برقبتِهِ ثوباً بعشرةٍ، فباعَهُ من مولاه بخمسةَ عشر، فالمولى إن باعَهُ مرابحةً، يقول: قام عليّ بعشرة.
(كمأذونٍ شرى من سيدِه): أي إذا اشترى المولى بعشرةٍ، ثم باعَهُ من مأذونِهِ المحيط دينه برقبتِهِ بخمسةَ عشرَ، فالمأذونُ إن باعَهُ مرابحةً يقولُ قامَ عليَّ بعشرة؛ لأن بَيْعَ المولى من عبدِه المأذونِ وشراءَه منه اعتبرَ عدماً في حقِّ المرابحةِ لثبوتِهِ مع المنافي.
وإنِّما قال: المحيطُ دينُهُ برقبتِهِ؛ لأنَّه حينئذٍ يكونُ للعبدِ المأذون ملكٌ، أمَّا المأذونُ الذي لا دينَ عليه، فلا ملكَ له، فلا شبهةَ في أن البيعَ الثَّاني لا اعتبارَ له، أمَّا إذا كان عليه دينٌ محيطٌ فحينئذٍ يكونُ البيعُ الثَّاني بيعاً، ومع ذلك لا اعتبارَ له في حقِّ المرابحةِ فيثبتُ الحكمُ بالطِّريقِ الأُولَى فيما لا دينَ عليّ.
(وربُّ المالِ على ما شراهُ ضاربَهُ بالنِّصفِ أوَّلاً، ونصفِ ما رَبِحَ بشرائِهِ ثانياً منه): أي اشترى المضاربُ بالنِّصفِ ثوباً بعشرةٍ وباعَهُ من ربِّ المالِ بخمسةَ عشرَ، فالثُّوبُ قامَ على ربِّ المالِ باثني عشر ونصف
(2)
.
(فإن اعورَّتْ المبيعة، أو وُطِئَتْ ثَيْباً رابحَ بلا بيان): أي لا يَجِبُ عليه أن يقولَ إنِّي اشتريتُها سليمةً فاعورَّتْ في يدي، وعند أبي يوسف رضي الله عنه والشَّافِعِيُّ
(3)
رضي الله عنه لزمَهُ بيانُ هذا؛ لأنَّهُ لا شكَّ أنَّهُ ينقصُ الثَّمنُ بالإعوِرارِ، وما قيل: إنّ الأوصافِ لا يُقابُلها شيءٌ من الثَّمنِ، فمعناهُ أنَّ الأوصافَ لا يكونُ لها حصةٌ معلومةٌ من الثَّمنِ لا أنَّ الثَّمَنَ لا يزيدُ
(1)
أي أن شبهة حصول الربح الأول بالعقد الثاني ثابتة؛ لأنه يتأكد به بعدما كان على شرف الزوال بالظهور على عيب، والشبهة كالحقيقة في بيع المرابحة احتياطاً. ينظر:«التبيين» (4: 76).
(2)
لأن الربح إنما يحصل إذا بيع من الأجنبي ففيه شبهة العدم؛ لأن المضارب وكيل عن رب المال في البيع الأول من وجه فاعتبر البيع الثاني عدماً في حقّ نصب الربح. ينظر: «الدرر» (2: 182).
(3)
ينظر: «التنبيه» (ص 67)، و «المنهاج» (2: 79)، و «المحلي» (2: 276)، وغيرها.
وإن فقأت، أو وُطِئَتْ بكراً لزمَهُ بيانُه، وقَرضُ فأرٍ، وحرقُ نارٍ للثَّوبِ المشترى كالأُولَى، وتكسره بنشرِهِ وطيِّه كالثَّانيةِ. ومن شرى بِنَسَأٍ ورابحَ بلا بيانٍ خُيِّرَ مشتَريَه، فإن أتلفَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ كلُّ ثَمَنِه، وكذا التَّوليةُ. فإن وَلَّى بما قامَ عليه، ولم يعلم مشتَريَه قدرَه فسدَ البيع، فإن عَلِمَ في المجلسِ خُيِّر.
[فصل في بيان التصرف في المبيع والثمن قبل قبضه]
ولم يجز بيعُ مشترى قبل قبضِهِ إلاَّ في العقارِ
بسببِ الوصفِ ولا ينقُصُ بفواتِهِ
(1)
، على أن هذا البيعَ مبنيٌّ على الأمانةِ، فالاحتياطاتُ السَّابقةُ لا تُناسبُ هذا.
لكنَّا نُجِيبُ بأنَّه لم يأتِ من البائعِ غرور، فإنَّه صادقٌ في قوله: قامتْ عليَّ بكذا، لكن المشتري اغترّ فيه بحماقتِهِ فعليه أن يسألَهُ أنَّكَ اشتريتَ بكذا سليمةً أو معورَّةً؛ ليَتَبَيَّنَ له الحال، فإذا قصَّرَ في ذلك لا يَجِبُ على البائعِ كشفُ حالٍ لم يسأل عنها.
(وإن فقأت، أو وُطِئَتْ بكراً لزمَهُ بيانُه، وقَرضُ فأرٍ، وحرقُ نارٍ للثَّوبِ المشترى كالأُولَى
(2)
، وتكسره بنشرِهِ وطيِّه كالثَّانيةِ
(3)
.
ومن شرى بِنَسَأٍ ورابحَ بلا بيانٍ خُيِّرَ مشتَريَه، فإن أتلفَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ كلُّ ثَمَنِه، وكذا التَّولية
(4)
.
فإن وَلَّى بما قامَ عليه، ولم يعلم مشتَريَه قدرَه فسدَ البيع
(5)
، فإن عَلِمَ في المجلسِ خُيِّر
(6)
.
[فصل في بيان التصرف في المبيع والثمن قبل قبضه]
ولم يجز بيعُ مشترى قبل قبضِهِ إلاَّ في العقارِ): والفرقُ بينهما «أن نَهْي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
في ب: لفواته.
(2)
أي كالمسألة الأولى في عدم لزوم البيان
…
(3)
أي كالمسألة الثانية في لزوم البيان؛ لأن الأوصاف صارت مقصودة بالاتلاف.
(4)
أي التولية مثل المرابحة فيما ذكرنا من الخيار ما دام المبيع قائماً وبعد الهلاك أو الاستهلاك لا خيار له، بل يلزمه جميع الثمن. ينظر:«البحر» (6: 79).
(5)
لجهالة الثمن جهالة تفضي إلى المنازعة.
(6)
لأن جهالة الثمن فساد في صلب العقد إلا أنه في مجلس العقد غير متقرر؛ لأن ساعات المجلس كساعة واحدة دفعاً للعسر فصار التأخير إلى المجلس عفواً
…
وتمامه في «البحر» (6: 79).
ومَن شَرَى كيليا كيلاً لم يبعْهُ ولم يأكلْهُ حتى يكيلَه، وشُرِطَ كيلُ البائعِ بعد بيعِهِ بحضرةِ المشتري، كفى به في الصَّحيح
عن بيعِ ما لم يُقْبَضُ»
(1)
مُعلَّلٌ بأنَّ فيه غَرَرَ انفساخِ العقد على تقديرِ الهلاكِ، والهلاكُ في العقارِ نادرٌ، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه لا يجوزُ في العقارِ أيضاً عملاً بإطلاقِ النَّهْي.
(ومَن شَرَى كيليا كيلاً): أي بشرطِ الكيلِ، (لم يبعْهُ ولم يأكلْهُ حتى يكيلَهُ)
(2)
، فإنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عن بيعِ الطّعامِ حتى يجري فيه صاعانِ صاعُ البائعِ
(3)
، وصاع المشتري»
(4)
.
(وشُرِطَ كيلُ البائعِ بعد بيعِهِ بحضرةِ المشتري) حتى إن كالَهُ البائعُ قبل البيعِ فلا اعتبارَ له وإن كالَ البائعُ بحضرةِ المشتري، وكذا إن كالَهُ بعد البيعِ بغيبةِ المشتري، (كفى به في الصَّحيح)
(5)
: أي إن كالَ البائعُ بعد البيعِ بحضرةِ المشتري فهذا كاف، ولا يشترطُ أن يكيلَ المشتري بعد ذلك، ومحملُ الحديثِ المذكورِ ما إذا اجتمعَ الصَّفقتان بشرطِ الكيلِ على ما سيأتي في «باب السلم» ، وهو ما إذا أسلمَ في كرٍّ بُرٍّ فلمَّا حلَّ الأجلُ اشترى المُسَلَّمُ إليه من رجلٍ كُرَّاً، أو أَمَرَ ربَّ السَّلمِ أن يقبضَهُ له، ثم يقبضُهُ لنفسِهِ، فاكتالَهُ له، ثُمَّ اكتالَهُ لنفسِهِ جاز.
(1)
من حديث حزام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله إني رجل أشتري المتاع فما الذي يحل لي منها وما يحرم عليّ؟ فقال: يا ابن أخي إذا ابتعت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه» في «صحيح ابن حبان» (11: 358،361) واللفظ له، و «سنن النسائي» (4: 37)، و «المجتبى» (7: 286)، و «المنتقى» (1: 154)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (4: 387)، و «مصنف عبد الرزاق» (8: 43)، وغيرها.
(2)
ومثله الموزون بشرط الوزن والعد؛ لاحتمال الزيادة وهي للبائع بخلاف المجازفة غير الدراهم والدنانير لجواز التصرف فيهما بعد القبض قبل الوزن. ينظر: «الدر المختار» (4: 164).
(3)
أرادَ بصاعِ البائعِ صاعه لنفسه حين يشتريه، وبصاعِ المشتري صاعَه لنفسِهِ حين يبيعَه؛ لإجماعهم على أنَّ البيعَ الواحدِ لا يحتاجُ إلى الكيلِ مرَّتين. كذا في «البناية» (6: 511).
(4)
من حديث جابر وأبي هريرة وأنس وابن عباس رضي الله عنهم في «سنن ابن ماجه» (2: 750)، و «سنن البيهقي الكبير» (5: 315)، قال البيهقي: روي موصولاً من أوجه إذا ضمَّ بعضُها إلى بعضٍ قوي مع ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنه، وينظر:«المصباح» (3: 24)، و «التلخيص» (3: 27)، و «نصب الراية» (4: 34)، وغيرها.
(5)
ردٌّ لما قيل: شرطَ كيلان، كيلُ البائعِ بعد العقدِ بحضرة المشتري، وكيلُ المشتري قبلَ التصرُّفِ فيه، ولا يكتفى بكيلِ البائعِ فقط؛ لظاهرِ الحديث، فإنّه اعتبرَ صاعين. ينظر:«الزبدة» (3: 57).
وكذا ما يُوزَنُ أو يعدُّ، لا ما يذرعُ، وصحَّ التَّصرُّفُ في الثَّمنِ قبل قبضِه، والحطُّ عنه والمزيدُ فيه حالَ قيامِ المبيعِ لا بعدَ هلاكِهِ، وفي المبيعِ، ويتعلَّقُ استحقاقُهُ بالجميعِ، فيرابحُ ويولي على الكلِّ
(وكذا ما يُوزَنُ أو يعدُّ): أي لا يبيعُهُ ولا يأكلُهُ حتى يزنَهُ أو يعدَّهُ ثانياً، ويكفي وزنُهُ إن وزنَهُ، أو عدَّهُ بعد البيعِ بحضرةِ المشتري.
(لا ما يذرعُ): أي لا يشترطُ ما ذُكِرَ في المذروعاتِ ثانياً
(1)
.
(وصحَّ التَّصرُّفُ في الثَّمنِ
(2)
قبل قبضِه)، مثل أن يأخذَ البائعُ من المشتري عوضَ الثَّمنِ ثوباً، (والحطُّ عنه والمزيدُ فيه حالَ قيامِ المبيعِ لا بعدَ هلاكِهِ): قولُهُ: حالَ قيامَ المبيع؛ متعلِّق بالمزيدِ فيه، فإنَّ الزِّيادةَ على الثَّمنِ لا تصحُّ بعد هلاكِ المبيعِ لكنَّ الحطَّ عنه يصحُّ.
(وفي المبيعِ): أي صحَّ الزِّيادةُ في المبيعِ، (ويتعلَّقُ استحقاقُهُ بالجميعِ)
(3)
: يمكنُ أن يرادَ به أن البائعَ يكونُ مُسْتَحِقَّاً بجميعِ الثَّمنِ من الزائدِ والمزيدِ عليه، والمشتري يستحقُّ جميعَ المبيعِ من الزَّائدِ والمزيدِ عليه، ويمكنُ
(4)
أن يُرادَ أنَّهُ إذا استحقَّ مستحقٌّ المبيعَ أو الثَّمنَ، فالاستحقاقُ يتعلَّقُ بجميعِ ما يقابلُهُ من الزَّائد والمزيدِ عليه، فلا يكونُ الزَّائدُ صلةً مبتدأةً كما هو مذهبُ زُفرَ رضي الله عنه والشَّافِعِيِّ- رضي الله عنه، (فيرابحُ ويولي على الكلِّ
(1)
لأن الذرع وصف له وليس بقدر فيكون كله للمشتري بلا زيادة ثمن ولا نقصان إن وجده زائداً أو ناقصاً، هذا إذا لم يسم لكل ذراع ثمناً، وإن سمَّى فلا يحل له التصرُّف فيه حتى يذرع. ينظر:«التبيين» (4: 82).
(2)
الثمنُ ما يثبت في الذمِّةِ ديناً عند المقابلة، وهو النقدان والمثليات إذا كانت معينةً وقوبلت بالأعيان، أو غير معيَّنةٍ وصحبها حرفُ الباء، وأمَّا المبيعُ فهو القيمياتُ والمثليّاتُ إذا قوبلت بنقدٍ أو بعين، وهي غير معيَّنة مثل: اشتريتُ كرَّ برٍّ بهذا العبد. ينظر: «رد المحتار» (4: 165).
(3)
أي بكل ما وقع عليه في العقد من الثمن والزيادة عليه حتى لا يكون للمشتري أن يطالبَ بالمبيع حتى يدفع الزيادة، وللبائع أن يحبسه حتى يستوفي الزيادة، ويملك المشتري المطالبة بتسليم المبيع كله بتسليم ما بقي من الحطّ وإذا ظهر للمبيع مستحق يرجع المشتري على البائع بالزيادة. ينظر:«الرمز» (2: 40).
(4)
اعترضَ عليه صاحبُ «الدرر» (2: 184) بأنّه لا يمكنُ ذلك؛ لأنَّ مدارَ هذا الاستحقاقِ على الدَّعوى والبينة، فإن ادَّعى المستحقُّ مجرَّد المزيدِ عليه وأثبتَه أخذه، وإن ادَّعاه مع الزيادةِ وأثبته أخذه، وكذا إن ادَّعى الزيادة فقط.
إن زيدَ، وعلى ما بقى إن حطَّ، والشَّفيعُ يأخذُ بالأقلِّ في الفصلينِ، فلو قال بِعْ عبدكَ من زيدٍ بألفٍ على أنّي ضامنٌ كذا من الثَّمنِ سوى الألف، أخذَ الألفَ من زيدٍ والزِّيادةُ منه، ولو لم يقلْ من الثَّمنِ، فالألفُ على زيدٍ ولا شيءَ عليه. وكلُّ دينٍ أُجِّلٍ إلى أجلٍ معلومٍ صحَّ إلا القرضَ.
باب الربا
هو فضلٌ خالٍ عن عوضٍ شُرِطَ لأحدِ العاقدينِ في المعاوضة
إن زيدَ، وعلى ما بقى إن حطَّ): فإنَّ الزِّيادةَ والحطَّ التحقا بأصلِ العقدِ.
(والشَّفيعُ يأخذُ بالأقلِّ في الفصلينِ): أي في الزِّيادةِ على الثَّمنِ والحطِّ عنه.
أمَّا في الحطّ؛ فلأنَّه التحقَ بأصلِ العقدِ.
وأمَّا في الزِّيادة؛ فلأنَّ حقَّهُ تعلَّق بالثَّمنِ الأوَّلِ، فلا يملكُ الغيرُ إبطالَ حقّه الثابت.
(فلو قال بِعْ عبدكَ من زيدٍ بألفٍ على أنّي ضامنٌ كذا من الثَّمنِ سوى الألف، أخذَ الألفَ من زيدٍ والزِّيادةُ منه، ولو لم يقلْ من الثَّمنِ، فالألفُ على زيدٍ ولا شيءَ عليه
(1)
.
وكلُّ دينٍ
(2)
أُجِّلٍ إلى أجلٍ معلومٍ
(3)
صحَّ إلا القرضَ): فإنَّه يصيرُ بالأجل بيعُ الدَّراهمِ بالدَّراهمِ نسيئةً، فلا يجوزُ؛ لأنَّه يصيرُ رباً؛ لأنَّ النقدَ خيرٌ من النَّسيئة.
باب الربا
(هو فضلٌ خالٍ عن عوضٍ شُرِطَ لأحدِ العاقدينِ في المعاوضة): أي فضلُ أحدُ المتجانسينِ على الآخرِ بالمعيارِ الشَّرعي: أي الكيلُ، أو الوزنُ، ففضلُ قفيزي الشَّعير على قفيز بُرٍّ لا يكونُ من بابِ الرِّبا، وكذا فضلُ عشرةِ أذرعٍ من الثَّوبِ الهروي
(1)
فإن قيل: فكيف لا شيءَ عليه، وعبارتُهُ صريحةٌ في الضمان، قلنا: مبنى الكلام على أنّه قال: بعْ عبدكَ من زيدٍ على أنّي ضامن سوى الألف، فالضَّمانُ إذن غيرُ متعلِّقٌ بالثمن، فلا شيءَ عليه من الثمن. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 82).
(2)
أي كل دين حال. ينظر: «الهداية» (3: 60).
(3)
أو مجهول جهالة يسيرة كالتأجيل إلى الحصاد، بخلاف ما إذا كانت فاحشة كهبوب الريح. ينظر:«الدرر» (2: 185).
وعلَّتُهُ القدرُ مع الجنسِ، فحرمُ بيعُ الكيلي والوزني بجنسِهِ متفاضلاً ولو غيرَ مطعومٍ: كالجصّ، والحديد، وحلَّ مُتماثلاً، وبلا معيارٍ كحفنةٍ بحفنتينِ،
على خمسةِ أذرعٍ منه لا يكونُ من هذا البابِ.
وإنِّما قال: خالٍ عن العوض؛ احترازاً عن بيعِ كُرِّ بُرٍّ وكُرِّ شعيرٍ بكري بُرٍّ وكري شعيرٍ، فإنَّ للثَّاني فضلاً على الأَوَّلِ، لكن غيرُ خالٍ عن العوضِ لصرفِ الجنسِ إلى خلافِ الجنسِ.
وقال: شرطُ لأحدِ العاقدين؛ حتى لو شُرِطَ لغيرهما لا يكونُ من بابِ الرِّبا، وقال في المعاوضة: حتى لم يكن الفضلُ الخالي عن العوضِ الذي هو في الهبةِ رباً
(1)
.
(وعلَّتُهُ القدرُ مع الجنسِ): المرادُ بالقدرِ الكيلُ في المكيلاتِ، والوزنُ في الموزوناتِ.
وعند الشافعيّ
(2)
رضي الله عنه: الطَّعمُ في المطعوماتِ، والثَّمنيةُ في الأثمانِ، والجنسيّةُ شرطٌ، والمساواتُ مخلصٌ، والأصلُ الحرمة.
وعند مالكٍ
(3)
رضي الله عنه: علتُهُ الطَّعْمُ والإدِّخار.
(فحرمُ بيعُ الكيلي والوزني بجنسِهِ متفاضلاً ولو غيرَ مطعومٍ: كالجصّ، والحديد)، الجصُّ من المكيلات، والحديدُ من الموزونات، وفيهما خلافُ الشَّافِعِيِّ
(4)
رضي الله عنه ومالكٍ
(5)
رضي الله عنه بناءً على ما ذَكَرْنا من العلَّةِ.
(وحلَّ مُتماثلاً): أي البيعُ في الأشياءِ المذكورةِ.
(وبلا معيارٍ): أي حلَّ البيعُ مُتفاضلاً فيما لا يدخلُ في المعيار
(6)
، (كحفنةٍ بحفنتينِ،
(1)
كما لو قال: وهبتك كذا بشرطِ أن تخدمني شهراً، فإنَّ هذا شرطٌ فاسدٌ لا تبطلُ الهبةُ به، كما تقرَّر في موضعه، وإن اشترى عشرةَ دراهمَ فضّة بعشرة دراهم، وزادَه دانقاً إن وهبه منه انعدمَ الربا، ولم يفسدْ الشراء، وهذا إن ضرَّها الكسر؛ لأنّها هبةٌ مشاعٍ لا يقسّم. ينظر:«المنح» (ق 2: 51/أ)
(2)
ينظر: «المنهاج» وشرحه «المغني» (2: 22)، و «التنبيه» (ص 64)، وغيرها.
(3)
ينظر: «مختصر خليل» (ص 159)، و «التاج والإكليل» (6: 197)، و «شرح الخرشي» (5: 57)، وغيرها.
(4)
في ب: «للشافعي» . ينظر: «الأم» (3: 15)، و «المحلي» (2: 209 - 210)، وغيرهما
(5)
ينظر: «المدونة» 0 (3: 160)، وغيرها.
(6)
أي في المعيار الشرعي، فمثلاً لا يبلغا حد نصف الصاع جاز البيع؛ لأنه لا تقدير في الشرع بما دونه، وأمّا إذا كان أحد البدلين بلغ حد نصف الساع والآخر لم يبلغه فلا يجوز. ينظر:«العناية» (6: 152).
وبيضةٍ ببيضتينِ، وتمرةٍ بتمرتين، فإن وُجِدَ الوصفانِ حَرُمَ الفضلُ والنَّساء، وإن عُدِما حلاَّ، وإن وُجِدَ أحدُهما لا الآخر حلَّ التفاضلُ لا النَّسأُ كسلمٍ هرويٍّ في هرويٍّ وبُرٍّ في شعيرٍ
وبيضةٍ ببيضتينِ، وتمرةٍ بتمرتين): وعند الشَّافِعِيِّ
(1)
رضي الله عنه لا يحلُّ بيعُ المطعوماتِ حفنة بحفنتين بناءً على ما ذَكَرْنا من العلَّة، وبناءً على أن الأصلَ عندنا الحلُّ، وعنده الحرمةُ، فعندنا ما يدخلُ في الكيلِ يَثْبُتُ فيه الحرمة، وما لا يدخلُ فيه يَبْقَى على أصلِه، وهو الحلُّ، وعند الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه الأصلُ هو الحرمة، والمساواةُ مخلصٌ فيما لا يَدْخُلُ في المسوى الشَّرعي، وهو الكيلُ يبقى على الأصلِ، وهو الحرمةُ، وإنِّما جعلَ الحرمةَ أصلاً؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم:«لا تبيعوا الطَّعامَ بالطَّعامِ إلاَّ سواءً بسواءٍ»
(2)
فما لا يكونُ مساوياً كان حراماً.
قلنا: المعنى لا تبيعوا الطَّعامَ الذي يدخلُ في المسوى الشَّرعي إلا سواءً بسواءٍ، كما إذا قيل: لا تقتلوا الحيوانَ إلا بالسَّكينِ يكونُ المرادُ الحيوانُ الذي يُمْكِنُ قتلُهُ بالسَّكينِ لا القملُ والبرغوث.
(فإن وُجِدَ الوصفانِ حَرُمَ الفضلُ والنَّساء، وإن عُدِما حلاَّ، وإن وُجِدَ أحدُهما لا الآخر حلَّ التفاضلُ لا النَّسأُ
…
(3)
كسلمٍ هرويٍّ في هرويٍّ وبُرٍّ في شعيرٍ): أي إن وُجِدَ القدرُ والجنسُ حَرُمَ الفضلُ كقفيزِ بُرٍّ بقفيزينِ منه، والنَّساءُ وإن كان مع التَّساوي كقفيزِ بُرٍّ بقفيزِ بُرٍّ أحدُهما أو كلاهما نسيئة.
وإن عُدِمَ كُلٌّ منهما حلَّ كلُّ واحدٍ من الفضلِ والنَّساء.
وإن وُجِدَ أحدُهما لا الآخرُ حلَّ الفضلُ لا النَّساء، كما إذا باعَ قفيزَ حنطةٍ بقَفِيزَي شعيرٍ يداً بيدٍ حلّ، فإن أحدَ جُزْأي العلَّةَ وهو الكيلُ موجودٌ هاهنا لا الجزءُ الآخرُ، وهو الجنسيَّةُ، وإن بيعَ خمسةُ أذرعٍ من الثَّوبِ الهَرَويّ بستّةِ أذرعٍ منه يداً بيدٍ حلَّ أيضاً؛ لأنَّ الجنسيةَ موجودةٌ دون القدرِ ولا يجوزُ النَّسيئةُ في الصُّورتيْنِ مع التَّساوي أوَّلا معه؛ وذلك لأن جُزْءَ العلَّةِ وإن كان لا يُوجِبُ الحكمَ لكنَّهُ يورثُ الشُّبهة، والشُّبهةُ في بابِ الرِّبا مُلْحَقةٌ بالحقيقة، لكنَّها أدون من الحقيقةِ فلا بُدَّ من اعتبارِ الطَّرفين.
(1)
ينظر: «المنهاج» وشرحه «مغني المحتاج» (2: 22).
(2)
في «صحيح البخاري» (2: 761)، و «صحيح مسلم» (3: 1214)، ولفظة:«الطعام بالطعام» مذكورة عند مسلم.
(3)
في ب زيادة: صح.
والشَّعيرُ، والبُرُّ، والتَّمرُ، والملحُ كيليٌّ، والذَّهبُ، والفضةُ وزنيٌّ أبداً، وإن تُرِكا فيها ويحمل في غيرِها على العُرْف، فلم يَجُزْ بيعُ البُرِّ بالبُرِّ متساوياً وزناً، والذَّهبُ بجنسِهِ متساوياً كيلاً كما لم يجزْ مجازفةً. واعتبرَ تعيينُ الرِّبا في غيرِ صرفٍ بلا شرطِ التقابضِ
ففي النَّسيئةِ أحدُ البدلينِ معدوم، وبيعُ المعدومِ غيرُ جائزٍ، فصارَ هذا المعنى مُرجِّحاً لتلك الشُّبهة فلا يحلّ، وفي غير النَّسيئةِ لم يعتبرْ الشُّبهةُ لما قلنا أن الشُّبهةَ أدونُ من الحقيقة، على أن الخبرَ المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا اختلفَ النَّوعانِ فبيعوا كيف شئتُم بعد أن يكونَ يداً بيدٍ»
(1)
يُؤيِّدُ ما قلنا.
وعند الشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه الجنسُ بانفرادِهِ لا يُحَرِّمُ النَّسأ.
(والشَّعيرُ، والبُرُّ، والتَّمرُ، والملحُ كيليٌّ، والذَّهبُ، والفضةُ وزنيٌّ أبداً، وإن تُرِكا فيها)
(3)
: أي وإن تُرِكَ الكيلُ في الأربعةِ المتقدِّمةِ، والوزنُ في الآخرين؛ لقولِهِ- صلى الله عليه وسلم:«الحنطةُ بالحنطةِ»
(4)
الحديث، (ويُحْمَلُ في غيرِها على العُرْف، فلم يَجُزْ بيعُ البُرِّ بالبُرِّ متساوياً وزناً، والذَّهبُ بجنسِهِ متساوياً كيلاً كما لم يجزْ مجازفةً.
واعتبرَ تعيينُ الرِّبا في غيرِ صرفٍ بلا شرطِ التقابضِ)، المعتبرُ في بيعِ الأموالِ الرَّبويَّةِ أن يكونَ المبيعُ معيَّناً، حتى لو لم يكن معيَّناً كان سَلَمَاً، فلا بُدَّ فيه من
(1)
ورد بلفظ قريب منه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» في «صحيح مسلم» (3: 1211)، و «سنن أبي داود» (3: 248)، وغيرهما، ووردت لفظة:«اختلف النوعان» في «المعجم الكبير» (1: 319)، و «الآثار» (1: 187). وينظر: «نصب الراية» (4: 4)، و «الدراية» (2: 147)، وغيرهما.
(2)
ينظر: «تحفة المحتاج» (4: 273)، و «نهاية المحتاج» (3: 424)، و «فتوحات الوهاب» (3: 45)، وغيرها.
(3)
لأن النص قاطع وأقوى من العرف، والأقوى لا يترك بالأدنى. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 86).
(4)
من حديث عبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وبلال رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» في «صحيح البخاري» (2: 750)، و «صحيح مسلم» (1211)، واللفظ له، وغيرهما، ولفظ:«الحنطة بالحنطة» في «مسند أحمد» (2: 232)، و «مسند أبي يعلى» (11: 31)، و «شرح معاني الآثار» (4: 4)، وينظر:«نصب الراية» (4: 35)، و «الدراية» (2: 156)، وغيرهما.
وجازَ بيعُ الفلسِ بالفلسينِ بأعيانِهما، واللَّحمُ بالحيوانِ، والدَّقيقُ بجنسِهِ كيلاً، والرُّطبُ بالرُّطبِ وبالتَّمر
شرائطه، وإذا لم يُوجَدْ شرائطُ السَّلَمِ كان العقدُ بيعاً غيرَ سَلَم، فلا بُدَّ من التَّعيين، فلا يُشْتَرطُ التَّقابضُ في المجلسِ إن لم يكن صرفاً، حتى لو كان صرفاً يشترطُ.
وعند الشَّافِعِيِّ
(1)
رضي الله عنه يشترطُ التَّقابضُ في المجلسِ في بيع الطَّعامِ سواء بيعَ بجنسِهِ أو خلافِ جنسِه، هذا في الأموال الرَّبويَّة.
أمَّا في غيرِها إن لم يكن معيَّناً، فإن كان ممَّا يجري فيه السَّلَمُ، فإن وُجِدَ فيه شرائطُ السَّلَمِ يصحُّ بشرائطِهِ بطريقِ السَّلَمِ، فان لم تُوجَدْ يَفْسُدُ البيعُ، وإن لم يَجْرِ فيه السَّلَمُ يفسُدُ البيعُ لعدمِ التَّعيين.
(وجازَ بيعُ الفلسِ بالفلسينِ بأعيانِهما): خلافاً لمحمدٍ رضي الله عنه، له أنَّ الفلوسَ أثمانٌ فلا تتعيَّنُ بالتَّعيينِ فصارَ كما إذا كان بغيرِ أعيانِهما، وكبيعِ الدِّرهمِ بالدِّرهمينِ.
ولهما: أن ثمنيتَها بالاصطلاح، واصطلاحُ الغيرِ لا يكونُ حجَّةً على المتعاقدينِ، وهما أبطلا ثَمنيَّتَها؛ لأنَّهما قصدا تصحيحَ العقد، ولا وجه له إلا بتعيِّنها وخروجِها عن الثَّمنية، لأنَّها إذا خرجتْ من الثَّمنيةِ تكونُ أعيانُها مطلوبةً لا ماليّتَها، فيمكنُ أن يُعْطي فلسينِ ويأخذَ فِلْسَاً طلباً لصورتِه.
(واللَّحمُ بالحيوانِ): خلافاً لمحمدٍ رضي الله عنه فإنَّ عنده إذا بيعَ الحيوانُ بلحمِ حيوانٍ من جنسِهِ لا يجوزُ (البيع إلا إذا كان اللحم)
(2)
أكثرَ من لحمِ ذلك الحيوان؛ ليكونَ الزَّائد في مقابلةِ السَّقْطِ، وعندهما يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّه بيعُ الموزونِ بما ليس بموزون
(3)
.
(والدَّقيقُ بجنسِهِ كيلاً، والرُّطبُ بالرُّطبِ وبالتَّمر): هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وأمَّا عندهما وعند الشَّافِعِيِّ
(4)
رضي الله عنه لا يجوزُ إن نَقَصَ الرُّطَبُ بالجفاف.
(1)
ينظر: «المنهاج» وشرحه «مغني المحتاج» (2: 22)، و «التنبيه» (ص 64)، وغيرهما.
(2)
ساقطة من ب.
(3)
أما لو كانت الشَّاةُ مذبوحةً غيرَ مسلوخةٍ فاشتراها بلحمِ الشَّاةِ فالجواب في قولهم جميعاً كما قال محمَّد رضي الله عنه، وأرادَ بغير المسلوخةِ غير المفصولةِ عن السقط، ولو اشترى شاةً حيَّةً بشاةٍ مذبوحةٍ يجوزُ في قولِهم جميعاً. ينظر:«الرمز» (2: 43).
(4)
ينظر: «المنهاج» وشرحه «المغني» (2: 25)، وغيرهما.
والعنبُ بالزَّبيبِ، والبُرُّ رطباً أو مبلولاً بمثلِه أو باليابسِ، والتَّمرُ، والزَّبيبُ والمُنْقَعُ بالمُنْقَعِ منهما متساوياً، ولحمُ حيوانٍ بلحمِ حيوانٍ آخرَ متفاضلاً، وكذا اللَّبَنُ، وكذا خلُّ الدَّقْل بخلِّ العنبِ، وشحمُ البطنِ بالإليةِ أو باللَّحْمِ، والخبزُ بالبُرِّ أو الدَّقيقِ، أو بالسَّويق وإن كان أحدُهما نسيئةً، وبه يُفْتَى
(والعنبُ بالزَّبيبِ، والبُرُّ رطباً أو مبلولاً بمثلِه أو باليابسِ، والتَّمرُ
…
(1)
، والزَّبيبُ والمُنْقَعُ
(2)
بالمُنْقَعِ منهما متساوياً): والدَّليلُ في جميعِ ذلك أنَّه كان بيعُ الجنسِ بالجنسِ بلا اختلافِ الصفةِ يجوزُ متساوياً، وكذا مع اختلافِ الصَّفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«جيدها ورديئها سواءٌ»
(3)
، وإن لم يكن بيعُ الجنسِ بالجنسِ يجوزُ كيفما كان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا اختلف النوعانِ فبيعوا كيفما شئتم»
(4)
.
(ولحمُ حيوانٍ بلحمِ حيوانٍ آخرَ متفاضلاً، وكذا اللَّبَنُ، وكذا خلُّ الدَّقْل
(5)
بخلِّ العنبِ، وشحمُ البطنِ بالإليةِ أو باللَّحْمِ، والخبزُ بالبُرِّ أو الدَّقيقِ، (أو بالسَّويق)
(6)
(7)
، وإن كان أحدُهما نسيئةً، وبه يُفْتَى)، وإنَّما يجوزُ الخبزُ بالبُرِّ؛ لأنِّ الخبزَ صارَ عددياً
(8)
، هذا إذا كانا نقدين، وإن كان الخبزُ نسيئةً، والبُرُّ أو الدَّقيقُ نقداً يجوزُ
(1)
في ب زيادة: بالتمر.
(2)
المُنْقَعُ: من أنقع الزبيب في الجابية إذ ألقاه فيها ليبتل وتخرج منه الحلاوة. ينظر: «كمال الدراية» (ق 411)، و «الفتح» (7: 30)، غيره.
(3)
قال الزَّيْلعي في «نصب الراية» (4: 37)، وابن حجر في «الدراية» (2: 156): لم نقف عليه بهذا اللفظ، ويؤخذ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب والفضة بالفضة والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» في «مسلم» (3: 1211)، وغيره.
(4)
سبق تخريجه (3: 56).
(5)
الدَّقْل: نوع من أردَأ التمر. ينظر: «الطلبة» (ص 109).
(6)
السَّويق: ما يعمل من الحنطة والشعير. ينظر: «المصباح» (296)، و «تاج العروس» (25: 480)، وغيرهما.
(7)
ساقطة من ب.
(8)
لأنَّ الخبزَ صارَ عددياً؛ كما عند محمَّد رضي الله عنه، أو موزوناً كما عند أبي يوسفَ رضي الله عنه، فخرجَ من أن يكون مكيلاً من كلِّ وجه، والبُرّ كيليّ بالنصّ، وكذا الدقيقُ ولم يجمعها القدرُ من كلِّ وجه، فلم توجدُ علَّة الربا. وعن أبي حنيفةَ رضي الله عنه أنّه لا يجوز، وذلك يورثُ شبهةَ المجانسة، والفتوى على الجواز، وهذا إذا كانا نقدين: أي حكمُ الجوازِ إذا لم يكن أحدُ البدلين الذين هما الخبزُ والبرّ، أو الخبزُ والدَّقيقُ نسيئة، وإن كان الخبزُ نسيئةً والبرُّ والدقيقُ نقداً، أو كان البرُّ أو الدقيق نسيئةً والخبزُ نقداً، فعلى الثاني جازَ أيضاً؛ لأنه أسلمَ موزوناً في مكيل، يمكنُ ضبطُ صفتِهِ ومعرفةُ مقدارِه، وعلى الأوَّلِ يجوزُ عند أبي يوسفَ رضي الله عنه إذا ذكر وزناً معلوماً ونوعاً معلوماً، وبه يفتى؛ لحاجةِ النَّاسِ إليه، لكن ينبغي أن يحتاطَ وقت القبض، حتى يقبضَ من الجنسِ الذي سمّى؛ لئلا يصير مستبدلاً بالمُسَلَّم فيه قبل القبض، وذكر ابن رستمٍ رضي الله عنه في «نوادره»: أنَّ على قول أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمّد رضي الله عنه لا يصحُّ السلمُ في الخبزِ لا وزناً ولا عدداً؛ لأنّه يتفاوتُ بالعجن، والنضج، ويكون منه الثقيلُ والخفيف؛ ولهذه العلِّةِ أفسد أبو حنيفةَ استقراضه؛ لأنَّ السلمَ أوسعُ باباً من القرض، حتى جازَ السلمُ في الثياب، ولم يجزِ القرضُ فيها. كذا في «كمال الدراية» (ق 412 - 413)
لا بيعُ الجيدِ بالرديء من الرِّبوي، والبُسرِ بالتَّمرِ إلا متساوياً، والبُرِّ بالدَّقيق أو بالسَّويقِ، أو الدَّقيقِ بالسَّويق متفاضلاً أو مُتساوياً، والزَّيتونِ بالزَّيت، والسِّمْسِمِ بالخلِّ حتى يكونَ الزَّيتُ والخلُّ أكثرَ ممَّا في الزيتونِ والسِّمْسِمِ، ويستقرضُ الخبزَ وزناً لا عدداً عند أبي يوسف رضي الله عنه، وبه يُفْتَى
عند أبي يوسف رضي الله عنه، وبه يُفْتَى.
(لا بيعُ الجيدِ بالرديء من الرِّبوي، والبُسرِ
(1)
بالتَّمرِ إلا متساوياً، والبُرِّ بالدَّقيق أو بالسَّويقِ، أو الدَّقيقِ بالسَّويق متفاضلاً أو مُتساوياً، والزَّيتونِ بالزَّيت، والسِّمْسِمِ بالخلِّ حتى يكونَ الزَّيتُ والخلُّ أكثرَ ممَّا في الزيتونِ والسِّمْسِمِ)
(2)
؛ ليكون بعضُ الزَّيتِ بالزيتِ الذي في الزَّيتون، والباقي بالثَّجير
(3)
.
(ويستقرضُ الخبزَ وزناً لا عدداً عند أبي يوسف رضي الله عنه، وبه يُفْتَى)
(4)
، أمَّا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه لا يجوزُ لا وزناً ولا عدداً؛ للتَّفاوت الفاحشِ، وعند محمدٍ رضي الله عنه يجوزُ بهما
(1)
البُسر: التمر قبل أن إرطابه لخضاضته، وذلك إذا لون ولم ينضج، وإذا نضج فقد أرطب. ينظر:«تاج العروس» (10: 174)، وغيره.
(2)
هذه صورة الجواز، وفي ثلاث صور لا يجوز، وهي:
الأولى: أن يعلم أن الزيت الذي في الزيتون أكثر لتحقق الفضل من الدهن والثفل.
والثانية أن يعلم التساوي لخلو الثفل عن العوض.
الثالثة أن لا يعلم أنه مثله أو أكثر أو أقلّ. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 89).
(3)
الثَّجير: ثُفْلُ كلِّ شيءٍ يُعْصَر. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 89).
(4)
واختار صاحب «التنوير» (ص 136) رأي محمد وهو أنه يجوز وزناً وعدداً، واستحسنه ابن الهمام في «فتح القدير» (6: 176)، وأقرّه صاحب «الشرنبلالية» (2: 189)، وقال صاحب «الدر المختار» (4: 187): وعليه الفتوى، وابن عابدين في «رد المحتار» (4: 187).
ولا رباً بين سَّيدٍ وعبدِهِ، ومسلمٍ وحربيٍّ في دارِه.
باب الحقوق والاستحقاق
[فصل في الحقوق]
يَدْخُلُ البناءُ، والمفتاحُ، والعلوُّ، والكنيفُ في بيعِ الدَّارِ، لا الظُّلةِ إلا بذكرِ كلِّ حقٍّ هو لها، أو بمرافقِها، أو بكلِّ قليلٍ وكثيرٍ هو فيها أو منها.
للتعامل، وعند أبي يوسف رضي الله عنه يجوزُ وزناً للتَّعامل والحاجة، لا عدداً للتَّفاوتِ في آحاده.
(ولا رباً بين سَّيدٍ وعبدِهِ): لأنَّ العبدَ وما معه لمولاه، (ومسلمٍ وحربيٍّ في دارِه): أي في دارِ الحرب
(1)
؛ لأنَّ مالَهُ مباحٌ فيجوزُ أخذُهُ بأيِّ طريقٍ كان خلافاً لأبي يوسفَ رضي الله عنه والشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه اعتباراً بالمستأمنِ في دارنا. (والله أعلم)
(3)
.
باب الحقوق والاستحقاق
[فصل في الحقوق]
(يَدْخُلُ البناءُ، والمفتاحُ، والعلوُّ، والكنيفُ في بيعِ الدَّارِ) الكنيفُ: المستراحُ
(4)
، (لا الظُّلةِ): في «المغرب» : ظلَّةُ الدَّارِ: السُّدّةُ التي فوقَ البابِ
(5)
، وعن صاحب «الحصر»: هي التي أحدُ طرفي جذوعِها على هذه الدَّار، وطرفُها الآخرُ على حائطِ الجارِ المقابلِ، (إلا بذكرِ كلِّ حقٍّ هو لها، أو بمرافقِها، أو بكلِّ قليلٍ وكثيرٍ هو فيها أو منها.
(1)
لا فرقَ بين أن يأخذَ المسلمُ الدِّرهمين بالدرهم، أو الدرهم بالدرهمين في دارِ الحرب؛ لأنّه طيَّبَ نفسَ الكافرِ بما أعطاه، وأخذَ مالَه بطريقِ الإباحة. ينظر:«المبسوط» (14: 59).
(2)
ينظر: «الأم» (7: 379)، وغيره.
(3)
ساقطة من أ.
(4)
وهو المرحاض. ينظر: «المغرب» (ص 417)، و «المصباح» (ص 542).
(5)
انتهى من «المغرب» (ص 299). وادَّعى صاحب «إيضاحِ الإصلاح» (ق 99/ب) أنَّ هذا وهم، وقال: بل هي الساباط الذي أحدُ طرفيه على الدار، والآخرُ على دارِ أخرى، أو على الإسطواناتِ التي في السِّكة، وعليه جرى في «فتح القدير» (6: 180) وغيره. والساباط: وفي «المصباح» (ص 264): الساباط: سقيفةٌ تحتها ممرٌّ نافذ، والجمع: سوابيط. اهـ. وفي «القاموس» (4: 10): والظلَّةُ أيضاً: شيءٌّ كالصُفّة يُستترُ به من الحرِّ والبرد.
والشَّجرُ لا الزَّرعُ في بيعِ الأرض، ولا الثَّمرُ في بيعِ شجرِ فيه ثمرٌ إلا بشرطه وإن ذَكَرَ الحقوقَ والمرافق. ولا العلوِّ في شراءِ بيتٍ بكلِّ حقٍّ، ولا في شراءِ مَنْزلٍ إلا بذكرِ ما ذُكِرَ، ولا الطَّريقُ، والشُّربُ، والمسيل في البيعِ إلا بذكرِ ما ذُكِرَ أيضاً بخلافِ الإجارة.
[فصل في الاستحقاق]
ويؤخذُ الولد إن استحقَّتْ أُمّه ببيِّنةٍ، وإن أقرَّ بها لا
والشَّجرُ لا الزَّرعُ في بيعِ الأرض، ولا الثَّمرُ في بيعِ شجرِ فيه ثمرٌ إلا بشرطه وإن ذَكَرَ الحقوقَ والمرافق
(1)
.
ولا العلوِّ
(2)
في شراءِ بيتٍ بكلِّ حقٍّ، ولا في شراءِ مَنْزلٍ إلا بذكرِ ما ذُكِرَ): أي الحقوقُ والمرافقُ إلى آخرها.
فالحاصلُ أن العلوَّ يدخل في بيعِ الدَّارِ وإن لم يذكر الحقوقَ والمرافق، ويدخلُ في بيعِ المَنْزلِ إن ذكرَ الحقوقَ والمرافقَ، ولا يدخلُ في بيعِ البيتِ وإن ذَكَرَ الحقوقَ والمرافق.
فالمَنْزلُ فيما بين البيتِ والدَّارِ لا يكونُ فيه مربطُ الدَّواب، بل يكونُ فيه بيتانِ أو ثلاثةٌ أو نحو ذلك، يتعيشُ فيه الرَّجلُ المتأهّل، فالعلو يكون من توابعِهِ لا من توابعِ البيت؛ لأنَّ الشيءَ لا يستتبعُ مثلَهُ، بل دونَه.
(ولا الطَّريقُ، والشُّربُ، والمسيل في البيعِ إلا بذكرِ ما ذُكِرَ أيضاً بخلافِ الإجارة)، فإن الشُّربَ والطَّريقَ والمسيلَ يدخلُ في الإجارةِ بلا ذِكْرِ الحقوقِ والمرافق، فإن الإجارةَ تقعُ على المنفعةِ، ولا تقع المنفعةُ بدونِ هذه الأشياءِ، وأمَّا البيعُ فيردُ على الرَّقبةِ، وأيضاً يُمْكِنُ أن ينتفعَ المشتري بالتِّجارةِ، ولا كذلك في الإجارةِ.
[فصل في الاستحقاق]
(ويؤخذُ الولد إن استحقَّتْ أُمّه ببيِّنةٍ، وإن أقرَّ بها لا)، صورتُها: اشترى رجلٌ
(1)
أي لو ذكرَ في بيعِ الأرض أو بيع الشجرِ الحقوقَ أو المرافق لا يدخلُ الزرعُ ولا الثمرُ حينئذٍ؛ لأنّهما ليسا من الحقوقِ والمرافق، وكذا إن قال: بكلِّ قليلٍ وكثيرٍ هو فيها، أو منها، وقال: أثرُ ذلك من حقوقها، أو قال: أثرُ ذلك من مرافقها، وإن لم يقل: أثر ذلك دخلا في البيع؛ لأنّهما من القليلِ والكثيرِ الذي هو فيها أو منها للاتّصال في الحال. ينظر: «كمال الدراية» (ق 417 - 418)
(2)
حاصل ما هنا أن الأسماء ثلاثة: البيت والمنْزل والدار، فالبيت أصغرها وهو اسمٌ لمسقَّفٍ واحد جُعِلَ ليبات فيه، ومنهم مَن يزيدُ له دهليزاً فإذا باعَ البيتَ لا يدخلُ العلوُّ ما لم يذكرْ اسمَ العلوِّ صريحاً؛ لأنَّ العلوَ مثله في أنّه مسقفٌ يباتُ فيه، والشيء لا يستتبعُ مثله، بل هو أدنى منه. ينظر:«الفتح» (6: 178)
شخصٌ قال لآخر: اشترني فإنِّي عبدٌ فاشترى، فبان حُرّاً، ضَمِنَ إن لم يدرِ مكانَ بائعِهِ، ورجعَ عليه، وإن علمَ لا. ولا ضمانَ في الرَّهنِ أصلاً، ولا رجوعَ في دعوى حقٍّ مجهولٍ في دارٍ صُولِحَ على شيءٍ واستحقَّ بعضها، ولو استحقَّ كلَّها ردَّ كلَّ العوض؛ لأنَّ المدَّعي به داخلٌ في المستحقِّ
جاريةً، فولدتْ عنده فاستحقَّها رجلٌ ببيِّنةٍ، فإنَّه يأخذُها وولدَها، وإن أقرَّ بها لا؛ لأنَّ البيَّنةَ حجَّةٌ مطلقةٌ فيظهرُ ملكُهُ من الأصل، والإقرارُ حجَّةٌ قاصرة، فيثبتُ الملكُ به ضرورةَ صحَّةِ الإخبار، فيندفع الضَّرورةَ بثبوتِ الملكِ بعد انفصالِ الولد.
(شخصٌ قال لآخر: اشترني فإنِّي عبدٌ فاشترى، فبان حُرّاً، ضَمِنَ إن لم يدرِ مكانَ بائعِهِ)؛ لأنَّه بالأمرِ بالشَّراءِ يصيرُ ضامناً للثَّمنِ عند تعذُّرِ الرجوعِ على البائعِ دفعاً للضَّرر، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه لا ضمانَ عليه وإن علم لا، (ورجعَ عليه): أي رَجَعَ هذا الشَّخصُ بما ضَمِنَ على البائعِ، (وإن علمَ لا.
ولا ضمانَ في الرَّهنِ أصلاً): أي إن قال: ارْتَهِنْي فإنّي عبدٌ، فارتهنَهُ، فبانَ حُرّاً، فلا ضمانَ عليه سواءٌ عَلِمَ مكانَ الرَّاهنِ، أو لا؛ لأنَّ الرَّهنَ ليس عقدَ معاوضةٍ، فلا يكونُ الأمر به بضامنٍ للسلامة، وقال في «الهداية» في صورة المسألة: ضرب أشكالٍ: وهو أن الدَّعوى شرطٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه لحريةِ العبدِ، والتَّناقضُ يَمْنَعُ صحَّةَ الدَّعوى
(1)
. فكيف يَظْهَرُ أنَّهُ حُرٌّ
(2)
؟
(ولا رجوعَ في دعوى حقٍّ مجهولٍ في دارٍ صُولِحَ على شيءٍ واستحقَّ بعضها): أي إذا ادَّعى حقَّاً مجهولاً في دارٍ فَصُولِحَ على شيءٍ، ثم استحقَّ بعضَ الدَّارِ، فالمدَّعى عليه لا يرجعُ على المُدَّعِي بشيءٍ؛ لأنَ للمدَّعي أن يقولَ: دعواي
(3)
في غيرِ ما استحقَّ، (ولو استحقَّ كلَّها ردَّ كلَّ العوض؛ لأنَّ المدَّعي به داخلٌ في المستحقِّ).
(1)
انتهى من «الهداية» (3: 68) بتصرف يسير.
(2)
أجاب صاحب «الهداية» (3: 68) عن هذا الإشكال فقال: قيل: إذا كان الوضع في حرية الأصل فالدعوى فيها ليس بشرط عنده لتضمنه تحريم فرج الأم. وقيل هو شرط، لكن التناقض غير مانع لخفاء العلوق وإن كان الوضع في الإعتاق، فالتناقض لا يمنع لاستبداد المولى به فصار كالمختلعة تقيم البينة على الطلقات الثلاث قبل الخلع والمكاتب يقيمها على الإعتاق قبل الكتابة. والتفصيل في شروح «الهداية» (6: 185 - 186).
(3)
العبارة في أ: لأن المدعي يقول دعوى.
وفهمُ صحَّةِ الصُّلحِ عن المجهولِ، ورجعَ بحصّتهٍ في دعوى كلِّها إن استحقَّ شيءٌ منها.
فصل في بيع الفضول
ولمالكٍ باعَ غيرُهُ ملكَهُ فسخُه، وله إجازتُهُ إن بَقِيَ العاقدانِ والمبيع، وكذا الثَّمن إن كان عرضاً، وهو ملكٌ للمجيزِ، وأمانةٌ عند بائعُه، وله فسخُهُ قبل الإجازةِ، وجازَ إعتاقُ المشتري من الغاضبِ لا بيعُهُ إن أجيزَ بيعُ الغاصبِ
(وفهمُ صحَّةِ الصُّلحِ عن المجهولِ): أي دلَّت هذه المسألةَ على أن الصلحَ عن المجهولِ على مالٍ معلومٍ صحيح، وإنَّما يصحُّ؛ لأنَّ الجهالةَ فيما يسقطُ لا تفضي إلى المنازعة، وقد يُنْقَلُ عن بعضِ الفتاوى أن الصلحَ لا يصلح إلا أن يكونَ الدَّعوى صحيحة، فهذه المسألة تدلُّ على أن هذه الرِّوايةَ غيرُ صحيحة؛ لأنَّ دعوى الحقِّ المجهولِ دعوى غير صحيحةٍ، وكثيرٌ من مسائلِ «الذخيرة» تدلُّ على عدمِ صحَّةِ تلك الرِّواية.
(ورجعَ بحصّتهٍ في دعوى كلِّها إن استحقَّ شيءٌ منها): أي إن ادَّعى كلَّ الدَّار فَصُولِحَ على شيءٍ، ثُمَّ استحقَّ نصفَها يرجعُ بنصفِ البدلِ.
[فصل في بيع الفضول]
(1)
(ولمالكٍ باعَ غيرُهُ ملكَهُ فسخُه
(2)
، وله إجازتُهُ إن بَقِيَ العاقدانِ والمبيع، وكذا الثَّمن إن كان عرضاً): فسخُه مبتدأٌ، ولمالكٍ خبرُهُ مقدَّماً، وهذا بيعُ الفُضُولي، وهو منعقدٌ عندنا خلافاً للشَّافِعِيِّ
(3)
رضي الله عنه.
(وهو ملكٌ للمجيزِ، وأمانةٌ عند بائعُه): أي إن أجازَ المالكُ فالثَّمنُ ملكٌ له، ويكونُ أمانةً في يدِ البائع، (وله فسخُهُ قبل الإجازةِ): أي للبائعِ حقُّ الفَسْخِ قبل إجازةِ المالكِ دفعاً للضَّررِ عن نفسِهِ، فإنَّ حقوقَ العقدِ راجعةٌ إليه.
(وجازَ إعتاقُ المشتري من الغاضبِ لا بيعُهُ إن أجيزَ بيعُ الغاصبِ): أي إذا باعَ الغاصبُ العبدَ المغصوبَ فأعتقَهُ المشتري، فأجازَ المالكُ البيعَ ينفذُ الإعتاق، وعند محمَّدٍ
(1)
ساقطة من أ.
(2)
أي إذا باع شخصٌ ملك غيره انعقد بيعه، ويسمَّى بيع الفضولي، ولكن لمالكه فسخ البيع. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 374).
(3)
ينظر: «أسنى المطالب» (2: 10)، و «الغرر البهية» (2: 405)، و «فتوحات الوهاب» (3: 32) وغيرها.
ولو قُطِعَ يدُهُ، ثُمَّ أُجيزَ فارشُهُ للمشتري، وتصدّقَ بما زادَ على نصفِ ثمنِه، ومَن اشترى عبداً من غيرِ سيّدِه فأقامَ بيِّنةً على إقرارِ بائعِهِ أو سيّدِه بعدمِ أمرِهِ مُريداً ردَّهُ لا تقبل. ولو أقرَّ بائعُهُ به: أي بعدم أمر المالك بالبيع عند قاضٍ به وطلبَ مشتريَه ردَّهُ ردُّ بيعه
لا ينفذُ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «لا عتقَ فيما لا يَمْلِكُهُ ابن آدم»
(1)
، ولو ثَبَتَ في الآخرة يثبتُ مستنداً، وهو ثابتٌ من وجهٍ دون وجه
(2)
.
ولهما: إنَّ الملكَ يَثْبُتُ موقوفاً بتصرُّفٍ مطلقٍ موضوعٍ لإفادةِ الملكِ فيتوقَّفُ الاعتاقُ مرتَّباً عليه كإعتاق المشتري من الرَّاهن، ولو باع المشتري من الغاصبِ، ثمّ أجيزَ البيعُ الأَوَّلُ لا ينفذُ الثَّاني؛ لأن بالإجازةِ ثَبَتَ ملكُ باتَ للمشتري الأوَّل، فإذا طرأ على الملكِ الموقوفِ للمشتري الثَّاني أبطلَهُ
(3)
.
(ولو قُطِعَ يدُهُ، ثُمَّ أُجيزَ فارشُهُ للمشتري): أي قُطِعَتْ يدُ العبدِ فأخذَ إِرْشَها، ثُمَّ أجازَ المالكُ البيعَ، فإرشُهُ للمشتري؛ لأنَّ الملكَ تَمَّ له من وقتِ الشراء، فتبيَّنَ أنَّ القطعَ وَقَعَ على ملكِ المشتري، فالإرشُ له، (وتصدّقَ بما زادَ على نصفِ ثمنِه): أي إن كان الإرشُ زائداً على نصفِ الثَّمن، فالزِّيادةُ لا تطيبُ له، فوجبَ تصدقُه؛ إذ في الزِّيادة شبهةُ عدمِ الملك
(4)
.
(ومَن اشترى عبداً من غيرِ سيّدِه فأقامَ بيِّنةً على إقرارِ بائعِهِ أو سيّدِه بعدمِ أمرِهِ مُريداً ردَّهُ لا تقبل.
ولو أقرَّ بائعُهُ به: أي بعدم أمر المالك بالبيع عند قاضٍ به وطلبَ مشتريَه ردَّهُ ردُّ بيعه)، الفرقُ بين الصُّورتينِ: أنَّ البيِّنةَ لا تقبلُ إلاَّ عند صحَّةِ الدَّعوى، وفي المسألةِ
(1)
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» في «جامع الترمذي» (3: 486)، واللفظ له، وقال الترمذي: حسن صحيح. و «مسند أحمد» (2: 190)، و «سنن سعيد بن منصور» (1: 286)، وغيرها، وينظر:«نصب الراية» (4: 44).
(2)
والاعتاق عنده لا يصح إلا في الملك الكامل.
(3)
أي أبطلَ الملكُ الباتُّ الملكَ الموقوف؛ لأنّه لا يتصوَّرُ اجتماعُ الباتِّ مع الموقوفِ في محلٍّ واحد، والبيعُ بعدما بطلَ لا يلحقُهُ الإجارة. ينظر:«الزبدة» (3: 70).
(4)
لأنَّ الملكَ غيرُ موجودٍ حقيقةً وقتَ القطع، وأرشِ اليدِ الواحدةِ نصفُ الدية، وفي العبدِ نصفُ القيمة، والذي دخلَ في ضمانِهِ هو ما كان بمقابلةِ الثمنِ فيما زادَ على نصفِ الثمنِ شبهةُ عدمِ الملك، فيتصدَّق به وجوباً. ينظر:«البحر» (6: 166).
باب السلم
صحَّ فيما يُعْلَمُ قدرُهُ وصفتُهُ: كالمكيلِ، والموزونِ مُثمَّناً، والمذروع كالثَّوبِ مُبيَّناً طولُهُ وعرضُهُ ورقعتُهُ، والمعدودُ مُتقارباً: كالجوزِ، والبيضِ، والفلسِ، واللَّبَنِ، والآجرِ بملبن معيّنٍ. فصحَّ في السَّمكِ المليحِ، والطري في حينه فقط
الأولى لا تصحُّ الدَّعوى للتناقضِ، وفي الصُّورةِ الثَّانيةِ: التَّناقضُ لا يمنعُ صحَّةَ الإقرار فللمشتري أن يساعدَ البائعَ في ذلك، فيتحقَّقُ الاتفاقُ بينهما.
باب السلم
السَّلَمُ: بيعٌ الشيء على أن يكون ديناً على البائعِ بالشَّرائطِ المعتبرةِ شرعاً، فالمبيعُ يسمَّى مُسَلَّماً فيه، والثَّمَنُ رأسُ المالِ، والبائعُ مُسَلَّمَاً إليه، والمشتري ربُّ السَّلَم.
(صحَّ فيما يُعْلَمُ قدرُهُ وصفتُهُ: كالمكيلِ، والموزونِ مُثمَّناً): إنَّما قال: مثمَّناً احترازاً عن الموزون الذي يكونُ ثمناً: كالدَّراهمِ والدَّنانيرِ فإنَّهما أثمان فلا يجوز فيهما السَلَّم
(1)
، (والمذروع كالثَّوبِ مُبيَّناً طولُهُ وعرضُهُ ورقعتُهُ): أي غلظتُه وسخافتُه. (والمعدودُ مُتقارباً: كالجوزِ، والبيضِ، والفلسِ، واللَّبَنِ، والآجرِ بملبن معيّنٍ.
فصحَّ في السَّمكِ المليحِ): أي القديدُ
(2)
بالملحِ، يقال: سمكٌ مَليحٌ ومَمْلُوحٌ، ولا يقال: مالحٌ إلاَّ في لغةٍ رديئةٍ
(3)
، (والطري في حينه فقط)
(4)
: أي السَّلَمُ في السَّمكِ
(1)
لأنَّ المُسَلَّم فيه لا بدَّ له أن يكون مبيعاً متعيِّناً بالتعيُّن، والدراهمُ والدنانيرُ ليست كذلك، ولو أسلمَ في الثمنِ يكون السلمُ باطلاً عند عيسى بن أبان رضي الله عنه، وبيعاً صحيحاً بثمنٍ مؤجَّلٍ عند أبي بكرٍ الأعمش رضي الله عنه حملاً لكلامِهما على الصحَّةِ بقدرِ الإمكان، وقول ابن أبانَ رضي الله عنه أصحّ؛ لأنَّ المعقودَ عليه هو المُسَلَّم فيه، وإنّما يصحَّحُ العقدُ في محلٍّ أوجب فيه، وصحَّحهُ في «الهداية» (3: 71) و «كمال الدراية» (ق 420)، وغيرها، ورجَّحَ في «الفتحِ» (6: 206) قولَ أبي بكرٍ الأعمش رضي الله عنه، وهذا الخلافُ فيما إذا أسلمَ غيرَ شيءٍ من النقدين في أحدهما، وأمَّا إذا أسلمَ أحدهما في الآخر، فإنّه لا يجوزُ بالإجماع؛ لأنَّ النقدَ بانفرادِهِ يحرّمُ النَّسأ. ينظر:«البحر» (6: 169)،
(2)
قدَّد اللحم: قطعه طولاً وملَّحه وجفَّفه في الهواء والشمس. ينظر: «المعجم الوسيط» (ص 718).
(3)
لكنّه لغة لا تنكر وإن كان قليلة: أي لم يجئ على فِعْلِه، وهو لغة أهل الحجاز. ينظر:«المصباح» (578).
(4)
يعني أن يكونَ السَلَمُ مع شروطِهِ في حينه كيلا ينقطعَ بعد العقدِ والحلول، وإن كان في بلدٍ لا ينقطعُ جازً مطلقاً. فأمَّا المليح فإنّه يدَّخرُ ويباعُ في الأسواقِ فلا ينقطعُ حتى لو كان ينطقعُ في بعضِ الأحيانِ لا يجوز. ينظر:«رد المحتار» (4: 204)
وزناً وضرباً معلومينِ، والطَّسْتُ، والقُمْقُمةُ، والخُفَّينِ إلاَّ إذا لم يعرفْ به، لا فيما لا يُعْلَمُ قَدْرُهُ وصفتُهُ كالحيوان، وأطرافِهِ، وجلودِهِ عدداً، والحطبِ حُزَمَاً، والرَّطْبَةِ جُرَزاً، والجواهرِ، والخَرَزِ، وبصاعٍ وذراعٍ معيَّنٍ لم يدرِ قدرَه، وبُرِّ قريةٍ وثمرِ نخلةٍ معيَّنتينِ، وفيما لم يوجدْ من حين العقدِ إلى حينِ المحلِّ
الطَّري لا يجوزُ إلا في حينٍ يوجدُ السَّمَكُ في الماءِ، (وزناً وضرباً معلومينِ): أي لا بُدَّ أن يُذْكَر وزنٌ معلومٌ، ونوعٌ معلومٌ، (والطَّسْتُ
(1)
، والقُمْقُمةُ
(2)
، والخُفَّينِ إلاَّ إذا لم يعرفْ به): أي بالصِّفة.
(لا فيما لا يُعْلَمُ قَدْرُهُ وصفتُهُ كالحيوان)، وعند الشَّافِعِيِّ
(3)
رضي الله عنه يجوزُ في الحيوانِ؛ لأنَّه يتعيَّن بذكرِ الجنسِ والنوعِ والصِّفةِ. قلنا: في ذلك فحشُ التَّفاوتِ، (وأطرافِهِ): كالرُّؤسِ والأكارعِ، (وجلودِهِ عدداً، والحطبِ حُزَمَاً، والرَّطْبَةِ
(4)
جُرَزاً).
الحزم: جمعُ الحزمةِ، وهي بالفارسيةِ «بندهيزم» .
والجرزُ: جمعُ الجرزةُ، وهي بالفارسيةِ «دسته تره» .
وإنِّما لا يجوزُ في الحطبِ للتَّفاوت حتى إن بَيَّنَ طولَ ما يُشَدُّ به الحزمة يجوز.
(والجواهرِ، والخَرَزِ، وبصاعٍ وذراعٍ معيَّنٍ لم يدرِ قدرَه، وبُرِّ قريةٍ وثمرِ نخلةٍ معيَّنتينِ
(5)
، وفيما لم يوجدْ من حين العقدِ إلى حينِ المحلِّ): وعند الشَّافِعِيِّ
(6)
رضي الله عنه يجوزُ إذا كان موجوداً وقتَ المحلِّ للقدرةِ على التَّسْليمِ حالَ وجودِه.
(1)
الطَّسْتُ: من آنية الصُّفر، أنثى وقد تذكر، قال الجوهري: الطَّسْتُ: الطَّسُّ: بلغة طيء أبدل من إحدى السينين تاء للاستثقال، فإذا جمعت أو صغرت رددت السين؛ لأنك فصلت بينهما بألف أو ياء، فقلت: طساس، وطسيس. ينظر:«اللسان» (4: 2670).
(2)
القُمْقُم: آنية العطار، والقمقم أيضاً: آنية من نحاس يسخن فيه الماء ويسمى المحم، وأهل الشأم يقولون غلاية، والقمقم رومي معرَّب وقد يؤنث بالهاء فيقال قمقمة، والقمقمة: بالهاء وعاء من صفر له عروتان يستصحبه المسافر والجمع القماقم. ينظر: «المصباح» (ص 517).
(3)
ينظر: «الأم» (8: 189)، و «حاشيتا قليوبي وعميرة» (2: 313)، و «تحفة المحتاج» (5: 22)، وغيرها.
(4)
الرَّطْبة: القَضْبة خاصّة ما دام رطباً، والجمع رطاب. ينظر:«مختار» (ص 246).
(5)
أي لا يجوزُ السَّلَمُ فيهما؛ لاحتمالِ أن يعتبرَ بهما آفة فينقطعا عن أيدي الناس، فلا يقدر على تسليمهما، ولو أسلمَ في بُرِّ ولايةٍ يجوز؛ لأنَّ وصولَ الآفةِ لبرِّ كلِّ الولايةِ نادر. ينظر:«الفتح» (6: 220).
(6)
ينظر: «المنهاج» (2: 106)، و «أسنى المطالب» (2: 126)، و «نهاية المحتاج» (4: 192)، وغيرها.
ولا في اللَّحْمِ، وشروطُهُ: بيانُ جنسِهِ كبُرٍّ أو شعير. ونوعِهِ: كسقيَّة أو بَخْسية
ولنا: قوله- صلى الله عليه وسلم: «لا تسلموا
(1)
في الثِّمارِ حتى يبدو صلاحُها»
(2)
، ولأنَّه عقدُ المفاليس فلا بُدَّ من استمرارِ الوجودِ في مدَّةِ الأجل ليتمكّنَ من التَّحصيل
(3)
.
(ولا في اللَّحْمِ)، (هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وقالا)
(4)
: يصحُّ إن بيَّنَ جنسَهُ ونوعَهُ وصفتَهُ وموضعَهُ وقدرَهُ كشاةٍ خصيَّةٍ وثنيٍّ سمينٍ من الجنبِ مئة مَنّ
(5)
(6)
.
(وشروطُهُ:
بيانُ جنسِهِ كبُرٍّ أو شعير.
ونوعِهِ: كسقيَّة أو بَخْسية): أي حنطةٌ سقيةٌ: أي التي تُسْقَى منسوبةً إلى السَّقي، والبخسيةُ: أي التي لا تُسْقَى منسوبةً إلى البَخْس، وهو الأرضُ التي تُسْقَى بماءِ السَّماءِ، سمِّيت بذلك لأنَّها مبخوسةُ الحظِّ من الماء.
(1)
في أ: تسلفوا.
(2)
من حديث النجراني، قال قلت لعبد الله بن عمر: أُسْلِمُ في نخل قبل أن يطلع، قال: لا. قلت: لِمَ قال: «إن رجلا أسلم في حديقة نخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلع النخل فلم يطلع النخل شيئاً ذلك العام، فقال المشتري: هو لي حتى يطلع، وقال البائع: إنما بعتك النخل هذه السنة فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للبائع: أخذ من نخلك شيئاً قال: لا. قال: فبم تستحل ماله، اردد عليه ما أخذت منه، ولا تسلموا في نخل حتى يبدو صلاحه» في «سنن أبي داود» (3: 276)، و «سنن ابن ماجه» (2: 767)، واللفظه له، و «المعجم الأوسط» (5: 56)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (6: 14)، وفي «صحيح البخاري» (2: 783): عن أبي البختري قال سألت ابن عمر رضي الله عنه عن السَّلَم في النخل، فقال:«نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يصلح، وعن بيع الورق نساءً بناجز» . وسألت ابن عباس عن السَّلَم في النخل، فقال:«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل منه أو يأكل منه وحتى يوزن» . وينظر: «نصب الراية» (4: 49).
(3)
يعني أنَّ المسلَّمَ فيه وإن وجدَ عند المحلّ لكن من الجائزِ أن لا يقدرَ المسلَّمُ إليه على اكتسابِهِ حينئذٍ، فيشترطُ الوجودُ في جملةِ المدَّة، حتى لو لم يقدرْ بعضَ الزمانِ يقدرٍ في البعضِ الآخر. ينظر:«الزبدة» (3: 74).
(4)
والفتوى على قولهما. كما في «البحر» (6: 172)، و «الفتح» (6: 216)، و «الدر المختار» (4: 205)، وغيرها.
(5)
مَنّ: 1058.4 غرام. ينظر: «المقادير الشرعية» (ص 78)، و «الفقه الإسلامي وأدلته» (1: 144)، و «معجم الفقهاء» (ص 404).
(6)
ساقطة من ب.
وصفتِهِ: كجيدٍ أو رديءٍ. وقدرِهِ معلوماً نحو كذا كيلاً لا ينقبضُ ولا ينبسطُ، أو وزناً. وأجلِهِ معلوماً، وأقلُّهُ شهرٌ في الأصحِّ، وقَدْرِ رأسِ المالِ في الكيليِّ، والوزنيِّ، والعدديِّ، فلم يَجُزِ السَّلَمُ في جنسينِ بلا بيانِ رأسِ مالِ كلِّ واحدٍ منهما
(وصفتِهِ: كجيدٍ أو رديءٍ.
وقدرِهِ معلوماً نحو كذا كيلاً لا ينقبضُ ولا ينبسطُ)، فلا يجعلُ الزِّنْبِيلُ
(1)
كيلاً، (أو وزناً.
وأجلِهِ معلوماً)، هذا عندنا، وأمَّا عند الشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه يُجوزُ السَّلَمُ في الحالِ، (وأقلُّهُ شهرٌ في الأصحِّ
(3)
)، وإنِّما قال في الأصحِّ: لأنَّهُ قد قيلَ
(4)
: أقلُّهُ ثلاثةُ أيَّامٍ، وقيل
(5)
: أكثرُ من نصفِ يومٍ.
(وقَدْرِ رأسِ المالِ في الكيليِّ، والوزنيِّ، والعدديِّ): فإنَّ العقدَ فيها يتعلَّقُ بالمقدارِ، فلا بُدَّ من بيانِ مقدارِه، وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما إذا كان رأسُ المالِ مُعيَّناً فلا يُحتاجُ إلى بيانِ مقدارِه؛ لأنَّ المقصودَ يحصلُ بالإشارةِ كما في الثَّمنِ والأجرة.
ولأبي حنيفةَ رضي الله عنه أنَّه ربَّما يكونُ بعضُ رأسِ المالِ زُيُوفاً، ولا يُسْتَبْدَلُ في المجلس، فلو لم يعلمْ قَدْرُهُ لا يَدْرِي كم بَقِيَ، وربُّما لا يَقْدِرُ على تحصيلِ المُسَلَّمِ فيه، فيحتاجُ إلى ردِّ رأسِ المالِ، فيجبُ أن يكونَ معلوماً بخلافِ ما إذا كان رأس المالِ ثوباً معيَّناً فإن العقدَ لا يتعلَّقُ بمقداره، فلا يَجِبُ بيانُ قَدْرِ رأس المال، ثمّ فَرَّعَ على هذه المسألةِ مسألتينِ، فقال: (فلم يَجُزِ السَّلَمُ في جنسينِ بلا بيانِ رأسِ مالِ كلِّ واحدٍ منهما
(6)
،
(1)
الزِّنْبيل: الجراب. وقيل: الوعاء يحمل فيه. والقُفَّة، والجمع زنابيل،. ينظر:«اللسان» (3: 1808).
(2)
ينظر: «حاشية تحفة المحتاج» (5: 10)، و «الإقناع» (ص 3: 53)، و «المنهاج» (2: 105)، وغيره.
(3)
وعليه الفتوى. كما في «فتح القدير» (6: 219)، و «رد المحتار» (5: 215).
(4)
وهو ما ذكرَهُ أحمد بن أبي عمرانَ البغداديِّ رضي الله عنه أستاذُ الطحاويِّ رضي الله عنه عن أصحابنا: اعتباراً بخيارِ الشرط، وليس بصحيح، فأمّا أدناه فغيرُ مقدَّر. ينظر:«العناية» (6: 218).
(5)
قائله أبو بكر الرزاي رضي الله عنه. ينظر: «المبسوط» (12: 127).
(6)
صورته: أنّه أسلمَ مئةَ درهمٍ في كُرِّ بُرٍّ وكُرِّ شعير، ولم يبيِّن رأسَ مالِ كلِّ واحدٍ منها، فلا يجوزُ عند الإمام؛ لأنَّ إعلامَ قدرِ رأسِ المالِ شرط، فينقسمُ المئةُ على البُرِّ والشعير باعتبارِ القيمة، وهي تعرفُ بالظنّ، فلا يكونُ مقدارُ رأسِ مالِ كلِّ واحدٍ منهما، حتى لو كان من جنسٍ واحد يصحّ؛ لأنَّ رأسَ المالِ منقسمٌ عليهما على السواء، وعندهما: يجوز؛ لأنَّ الإشارةَ إلى العينِ تكفي لجوازِ العقد، وقد وجدت. ينظر:«الزبدة» (3: 75).
ولا بنقدينِ بلا بيانِ حصَّةِ كلٍّ منهما من المُسَلَّم فيه. ومكانِ إيفاء مسلَّمٍ فيه إن كان لحملِهِ مؤنةً، ومثلُهُ الثَّمن، والأجرةُ، والقسمة، وما لا حِمْلَ له يوفِّيهِ حيث شاءَ، هو الأصحُّ، وقبضُ رأسِ المال قبلَ الافتراقِ شرطُ بقائه: فلو أَسْلَمَ مئهً نقداً، ومئةً ديناً على المسلَّمِ إليه في كُرِّ بُرٍّ بطل في حصّةِ الدَّينِ فقط
ولا بنقدينِ بلا بيانِ حصَّةِ كلٍّ منهما من المُسَلَّم فيه
(1)
.
ومكانِ إيفاء مسلَّمٍ فيه إن كان لحملِهِ مؤنةً، ومثلُهُ الثَّمن، والأجرةُ، والقسمة): أي إذا كان المُسَلَّمُ فيه شيئاً لحِمْلِهِ مؤنةٌ يجب بيانُ مكانِ إيفائِه عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما يوفِّيهِ في مكانِ العقدِ، وعلى هذا الخلافُ: الثَّمنُ والأجرةُ إذا كان لحِمْلِها مؤنةٌ، والقسمةُ: أي إذا اقتسما الدارَ، وجعلا مع نصيبِ أحدهما شيئاً لحملِهِ مؤنة
(2)
.
(وما لا حِمْلَ له يوفِّيهِ حيث شاءَ، هو الأصحُّ)، وفي روايةِ «الجامع الصغير»
(3)
يوفِّيهِ في مكانِ العقد
(4)
.
ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ من بيانِ شروطِهِ صحَّةِ السَّلَمِ ذَكَرَ شَرْطَ بقائه، فقال:
(وقبضُ رأسِ المال قبلَ الافتراقِ شرطُ بقائه: فلو أَسْلَمَ مئهً نقداً، ومئةً ديناً على المسلَّمِ إليه في كُرِّبُرٍّ بطل
(5)
في حصّةِ الدَّينِ فقط): أي لا يَشيعُ الفساد؛ لأن
(1)
صورتُهُ: أنّه أسلمَ عشرةَ دراهمَ وعشرةَ دنانيرٍ في عشرة قفيز بُرّ، لم يجزْ عند الإمام؛ لأنَّ الدراهمَ والدنانيرَ المذكورةَ إذا لم تعلمْ وزناً يلزمُ عدمُ بيانِ حصَّةِ كلِّ واحدٍ منهما، من المسلَّم فيه، وعندهما: يجوز؛ لأنَّ الإشارةَ وجدت، وهي كافيةٌ لجوازِ العقد. ينظر:«الزبدة» (3: 75)، و «فتح باب العناية» (2: 380).
(2)
صورتها: في الثمن إذا باع ثوباً بمد حنطة مؤجّلة فإنه يشترطُ بيان مكان إيفاء الحنطة عنده في الصحيح، وعندهما يتعين للإيفاء مكان العقد في الثمن. وفي الأجرة: كما لو استأجر داراً أو دابةً بمكيل أو موزون موصوف بالذمة فإنه يشترط بيان مكان الإيفاء عنده خلافا لهما، ويتعين في إجارة الدار موضع الدار للإيفاء وموضع تسليم الدابة في إجارة الدابة. وفي القسمة: بأن اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئاً له حمل ومؤنة، فعنده يشترط بيان مكان الإيفاء وعندهما يتعيَّنُ مكان العقد. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 102).
(3)
الجامع الصغير» (ص 323).
(4)
صحح السَّرخَسيُّ في «محيطه» إيفاءه في مكان العقد، وأيَّدَه ابن كمال باشا في «الايضاح» (ق 101/أ)، وجزم به صاحب «الفتح» (6: 226)، لكن أصحاب المتون على الأول، وصححه صاحب «الهداية» (3: 74) و «الملتقى» (ص 120).
(5)
مفاده أن البطلان هنا بمعنى الفساد فتنبه ولو أحدهما دنانير أو على غير عاقد فسد في الكل. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 103).
ولم يَجُزِ التَّصَرُّفُ في رأسِ المالِ والمسلَّم فيه كالشَّركةِ والتَّوليةِ قبل قبضه، ولا يجوز شراءُ شيءٍ من المسلَّمِ إليه برأسِ المالِ بعد الإقالةِ حتى يقبضَه
العقدَ صحيحٌ وهذا الشَّرطُ شرطُ البقاءِ فيكونُ ضعيفاً.
ثُمَّ من تفاريعِ قبضِ رأسِ المالِ أن السَّلَمِ لا يجوزُ مع خيارِ الشَّرط وخيارِ الرُّؤية؛ لأنَّهما يَمْنَعانِ تمامَ التَّسليمِ بخلافِ خيارِ العيب، فانَّه لا يَمْنَعُ تمامَهُ، فلو أُسْقِطَ خيارُ الشَّرطِ قبل الافتراقِ صحَّ خلافاً لزُفَرَ رضي الله عنه.
(ولم يَجُزِ التَّصَرُّفُ في رأسِ المالِ والمسلَّم فيه كالشَّركةِ والتَّوليةِ قبل قبضه)
(1)
، صورةُ الشَّركةِ: أن يقولَ ربُّ السَّلَمِ لآخرَ: أعطني نصفَ رأسِ المالِ؛ ليكون نصفُ المُسَلَّمُ فيه لك.
وصورةُ التَّولية أن يقولَ: أعطني مثل ما أعطيت للمُسَلَّم إليه حتى يكونَ المُسَلَّم فيه لك.
ومن صورةِ التَّصرّفِ في رأسِ المال: أن يُعطي بدلَ رأسِ المالِ شيئاً آخر.
ومن صورةِ التَّصرفِ في المسلَّم فيه: أن يعطي بدلَهُ شيئاً آخر.
(ولا يجوز شراءُ شيءٍ من المسلَّمِ إليه برأسِ المالِ بعد الإقالةِ حتى يقبضَه)، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا تأخذْ إلا سلمك أو رأسَ مالك»
(2)
: أي لا تأخذ المسلَّمَ فيه على تقديرِ المضي على العقد، أو رأسَ مالكِ على تقديرِ إقالةِ العقد.
(1)
لأن المسلم فيه مبيع والتصرف فيه قبل القبض لا يجوز، ولرأس المال شبه بالمبيع فلا يجوز التصرّف قبل القبض، ففي التولية تمليكه بعوض، وفي الشركة تمليك بعضه بعوض فلا يجوز. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 103).
(2)
من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» في «سنن أبي داود» (3: 276)، و «سنن ابن ماجه» (2: 766)، وفي «الدارقطني» (3: 75) اللفظ السابق، ولفظ:«فلا يأخذ إلا ما أسلم فيه أو رأس ماله» ، قال الترمذي: لا أعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه وهو حديث حسن، قال ابن حجر في «التلخيص» (3: 25): فيه عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف وأعلَّه أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب. وفي «مصنف ابن أبي شيبة» (4: 270): عن عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه كان يسلف له في الطعام، فقال للذي كان يسلف له: لا تأخذ بعض مالنا وبعض طعامنا ولكن خذ رأس مالنا كله أو الطعام وافياً، وفي «مصنف عبد الرزاق» (8: 14): عن ابن عمر رضي الله عنه قال: إذا أسلفت في شيء فلا تأخذ إلا رأس مالك أو الذي أسلفت فيه. والآثار في ذلك كثيرة. وينظر: «نصب الراية» (4: 51).
ولو شَرَى كُرَّاً، وأمرَ ربّ السَّلمِ بقبضِهِ قضاءً لم يَصحَّ، ولو أمرَ مقرضَهُ به صحَّ، وكذا لو أمرَ ربُّ السَّلَمِ بقبضِهِ له، ثمّ لنفسِهِ، فاكتاله له ثُم لنفسِهِ، ولو كان المُسَلَّمُ إليه في ظرفِ ربِّ السَّلمِ بأمرِهِ بغيبتِهِ أو كال البائعُ في ظرفِهِ أو ظرفِ بَيْتِهِ بأمرِ المشتري لم يكن قبضاً
(ولو شَرَى كُرَّاً، وأمرَ ربّ السَّلمِ بقبضِهِ قضاءً لم يَصحَّ)؛ لأنَّه اجتمعَ صفقتان: السَّلمِ وهذا الشراِ، فلا بُدَّ من أن يَجْرِي فيه الكيلانِ.
(ولو أمرَ مقرضَهُ به صحَّ): أي لو استقرضَ بُرَّاً فاشترى من آخر بُرَّاً، فأمرَ المقرضَ بقبضِ بُرِّهِ منه قضاءً لقرضِهِ صحَّ؛ لأنَّ القرضَ عاريةٌ فكأنَّهُ يَقْبِضُ عَيْنَ حقِّه.
ويَرِدُ عليه أن ما يقبضُهُ في السَّلَمِ أيضاً عينُ حقِّه؛ لئلا يلزمَ الاستبدال.
فأجاب في «الهداية»
(1)
: بأن ما يقبضُهُ في السَّلَمِ غيرُ حقِّهِ؛ لأنَّ الدَّينَ غيرُ العين، فالشرعُ وإن جعلَهُ عينَهُ ضرورةً؛ لئلا يكونَ استبدالاً، فلا يكونُ عينُهُ في جميعِ الأحكامِ، ففي وجوبِ الكيل لا يكونُ عينُه، فيكونُ قابضاً هذا العين عوضاً عن الدَّينِ الذي له على المُسَلَّم إليه.
(وكذا لو أمرَ ربُّ السَّلَمِ بقبضِهِ له، ثمّ لنفسِهِ، فاكتاله له ثُم لنفسِهِ): قوله: وكذا أي يصحُّ في هذه الصورة كما يصحُّ في الصَّورة الأولى، وهي ما إذا اشترى المُسَلَّمُ إليه كُرَّاً أمر ربُّ السَّلمِ بأن يقبضَهُ لأجلِ المُسَلَّم إليه، ثم لنفسِه، فاكتالَهُ للمسلَّم إليه، ثم اكتاله لأجلِ نفسِهِ يصحُّ، وإنِّما يصحُّ؛ لأنَّه قد جرى فيه الكيلان.
(ولو كان المُسَلَّمُ إليه في ظرفِ ربِّ السَّلمِ بأمرِهِ بغيبتِهِ أو كال البائعُ في ظرفِهِ أو ظرفِ بَيْتِهِ بأمرِ المشتري لم يكن قبضاً)؛ لأنَّ في السَّلَم لم يصحَّ أمرُ ربِّ السِّلم بالكيلِ؛ لأنَّ حقَّهُ في الدَّين لا في العين، فأمرُهُ لم يصادِفْ ملكَه، فالمُسَلَّمُ إليه جعلَ ملكَهُ في ظرفٍ استعارَهُ من ربِّ السَّلَمِ، وفي البيعِ لم يصحَّ أمرُ المشتري؛ لأنَّهُ استعارَ الظَّرفَ من البائعِ، ولم يقضْهُ، فيكونُ في يدِ البائع، فكذا الحنطةُ التي فيه، وإنِّما قال: بغيبتِهِ حتى لو كان حاضراً يكونُ قبضاً؛ لأنَّ فعلَهُ ينتقلُ إليه.
(1)
وعبارة «الهداية» (3: 75) هي: والسلم وإن كان سابقاً لكن قبض المسلم فيه لاحق وأنه بمنْزلة ابتداء البيع؛ لأن العين غير الدين حقيقة، وإن جعل عينه في حقّ حكم خاصّ وهو حرمة الاستبدال فيتحقق البيع بعد الشراء.
بخلافِ كيلِهِ في ظرفِ المشتري بأمرِه، ولو كالَ الدَّينَ والعينَ في ظرفِ المشتري: إن بدأ بالعينِ كان قابضاً، وإن بدأ بالدَّين لا عند أبي حنيفة رضي الله عنه، ولو أسلمَ أمةً في كُرٍّ وقُبِضَتْ فتقايلا، فماتت في يده وبقي، يجبُ قيمتُها يومَ قبضِها، ولو ماتت، ثُمَّ تقايلا صحَّ، وكذا المقايضةُ في وجهيه
(بخلافِ كيلِهِ في ظرفِ المشتري بأمرِه): أي إذا اشترى حنطةً معيَّنةً، فأمر المشتري البائعَ أن يكيلَهُ في ظرفِ المشتري بغيبتِه، ففعلَ يصيرُ قابضاً؛ لأنَّه مَلَكَ العينَ بالشِّراءِ، فأمرُهُ صادفَ مُلْكَه.
(ولو كالَ الدَّينَ والعينَ في ظرفِ المشتري: إن بدأ بالعينِ كان قابضاً، وإن بدأ بالدَّين لا عند أبي حنيفة رضي الله عنه): أي إذا اشترى الرَّجلُ من آخر كُرَّاً بعقدِ السَّلَم، وكُرَّاً معيَّناً بالبيعِ، فأمرَ المشتري البائعَ أن يَجْعَلَ الكُرَّينِ في ظرفِ المشتري، إن بدأ بالعينِ كان قابضاً، أمَّا في العينِ فلصحَّة الأمرِ، وأمَّا في الدَّينِ فلاتصالِهِ بملكِ المشتري.
وإن بدأ بالدَّينِ لا يصيرُ قابضاً؛ لأنَّ الأمرَ لم يصحّ في الدَّين، فلم يصرْ قابضاً له، فبقي في يدِ البائع فخلطَ مِلْكَ المشتري بمِلْكِه، فصارَ مستهلكاً عند أبي حنيفة رضي الله عنه، فَيَنْتَقِضُ القبضُ والبيع، وعندهما المشتري بالخَيَار، إن شاءَ نقضَ البيعَ، وإن شاءَ شاركَهُ في المخلوط؛ لأنَّ الخلطَ ليس باستهلاكِ عندهما.
(ولو أسلمَ أمةً في كُرٍّ وقُبِضَتْ فتقايلا، فماتت (في يده و)
(1)
بقي، يجبُ قيمتُها يومَ قبضِها): أي اشترى كُرَّاً بعقدِ السَّلَمِ، وجعلَ الأمةَ رأسَ المال، وسلَّم الأمةَ إلى المُسَلَّمِ إليه، ثُمَّ تقايلا عقد السَّلم، ثُمَّ ماتت الأمةُ في يدِ المسلَّمِ إليه، بقي التَّقايل، فيجبُ قيمةُ الأمةِ على المُسَلَّمِ إليه بردِّها إلى ربِّ السَّلَم.
(ولو ماتت، ثُمَّ تقايلا صحَّ): أي في الصّورةِ المذكورةِ إن كان الموتُ قبل التَّقايلِ صحَّ التَّقايل؛ وذلك لأنَّ صحَّةَ الإقالةِ تعتمدُ بقاءَ المعقودِ عليه، وهو المُسَلَّمُ فيه.
(وكذا المقايضةُ في وجهيه)
(2)
: أي إذا باعَ أمةً بعرضٍ فهلكَ أحدُهما دون الآخر فتقايلا صحَّ التَّقايلُ، ولو تقايلا ثُمَّ هلكَ أحدُهما بقي التَّقايل، فقولُهُ: وكذا
…
إلى آخرِهِ،
(1)
ساقطة من ب.
(2)
المقايضة: هي بيع العين بالعين، والمراد هاهنا أنه تبقى الإقالة وتصح بعد هلاك أحد العوضين؛ لأن كلّ واحد منهما مبيع من وجه وثمن من وجه، ففي الباقي يعتبر المبيعة، وفي الهالك الثمنية. ينظر:«الدرر» (2: 197).
بخلافِ الشراءِ بالثَّمنِ فيهما، ولو اختلفَ عاقدا السَّلمِ في شرطِ الرداءةِ والأجل، فالقولُ لمدَّعيهما.
[فصل في الاستصناع]
والاستصناعُ بأجلٍ سَلَمٌ تعاملوا فيه أو لا، وبلا أجلٍ فيما يتعاملُ كخفٍّ، وقمقمةٍ، وطستٍ صحَّ بيعاً لا عدَة
تقديرُهُ بقي تقايلُ المقايضة، وصحَّ تقايلها في كلا الوجهين، أمَّا البقاء ففي صورةِ تقدُّمِ التَّقايل على الهلاك. وأمَّا الصَّحَّةُ ففي صورةٍ تأخُّرِهِ عنه.
(بخلافِ الشراءِ بالثَّمنِ فيهما): أي إن اشترى بالدَّراهمِ أو الدَّنانير أمةً، ثُمَّ تقايلا، ثمّ ماتت الأمةُ في يدِ المشتري لم يبقَ التَّقايل، ولو ماتت ثم تقايلا لا يصحّ التقايل.
(ولو اختلفَ عاقدا السَّلمِ في شرطِ الرداءةِ والأجل، فالقولُ لمدَّعيهما): أي قال المُسلَّمُ إليه: شرطُنا الرَّديء، وقال ربُّ السّلم: لم نشترطْ شيئاً حتى يكونُ العقدُ فاسداً، فالقولُ قولُ المسلَّم إليه؛ لأنَّ ربَّ السَّلَمِ متعنِّتٌ
(1)
في إنكارِهِ الصِّحَّة؛ لأنَّ المُسْلَّم فيه زائدٌ على رأسِ المالِ عادةً، فإنكارُهُ الصِّحَّةَ دعوى أمر يكونُ ضرّراً في حقِّه، فكان متعنِّتاً.
ولو ادَّعى ربُّ السَّلم شرطَ الرداءة، وقال المسلَّم إليه لم نشترطْ شيئاً، فالواجبُ أن يكونَ القولُ لربِّ السَّلم عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّه يدَّعي الصِّحّة، فالحاصلُ أن في الصُّورتينِ القولَ لمدَّعي الصِّحَّة عنده، وعندهما القولُ للمنكر.
ولو اختلفا في الأجلِ، فقال أحدُهما: شرطنا الأجل، وقال الآخرُ: لم نشترطْ، فأيُّهما ادَّعى الأجل، فالقولُ قوله عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّهُ يدَّعي الصِّحَّة، وعندهما القولُ للمنكر.
[فصل في الاستصناع]
(والاستصناعُ بأجلٍ سَلَمٌ تعاملوا فيه أو لا، وبلا أجلٍ فيما يتعاملُ كخفٍّ، وقمقمةٍ، وطستٍ صحَّ بيعاً لا عدَة)، الاستصناعُ: أن يقولَ للصَّانِعِ كالخفَّافِ مثلاً:
(1)
المتعنِّتُ لغة: من يطلبُ العنت، وهو وقوعُ الإنسانِ فيما لا يستطيعُ الخروجُ عنه، والمراد بالمتعنِّتِ شرعاً: مَن ينكرُ ما ينفعه، والمخاصمُ مَن ينكرُ ما يضرُّهُ ذكره العلامةُ السِّغْنَاقيُّ. ينظر:«الزبدة» (3: 80).
فَيُجْبَرُ الصَّانِعُ على عملِه، ولا يَرْجِعُ الآمرُ عنه، والمبيعُ هو العينُ لا عَمَلُه، فإن جاء بما صنعَهُ غيرَه، أو صنعَهُ هو قبل العقد، فأخذَهُ صحَّ، ولا يتعيَّنُ له بلا اختيارِه، فصحَّ بيعُ الصَّانعِ قبل رؤيةِ الآمر، وله أخذُهُ وتركُه، ولم يصحَّ فيما لا يُتَعامَلُ كالثَّوب.
مسائل شتّى
صَحَّ بيعُ الكلبِ والفهدِ والسِّباعِ عُلِّمَتْ أو لا
اصنعْ لي من مالكَ خُفَّاً من هذا الجنسِ بهذه الصِّفةِ بكذا، فإن أجَّلَ أجلاً معلوماً كان سَلَماً سواء جَرَى فيه التَّعاملُ أو لا، فيعتبرُ فيه شرائطُ السَّلَمُ وإن لم يؤجِّلْ، فإنْ كان ممَّا يجرى فيه التَّعاملُ صحَّ بطريقِ البيعِ لا بطريقِ العِدَة
(1)
، فإن لم يَجْرِ فيه التَّعاملُ لا يجوز.
ثمّ ذكرَ فروعَ أنَّه بيعٌ لا عِدَةٌ فقال: (فَيُجْبَرُ الصَّانِعُ على عملِه، ولا يَرْجِعُ الآمرُ عنه، والمبيعُ هو العينُ لا عَمَلُه، فإن جاء بما صنعَهُ غيرَه، أو صنعَهُ هو قبل العقد، فأخذَهُ صحَّ، ولا يتعيَّنُ له بلا اختيارِه، فصحَّ بيعُ الصَّانعِ قبل رؤيةِ الآمر
(2)
، وله أخذُهُ وتركُه، ولم يصحَّ فيما لا يُتَعامَلُ كالثَّوب): أي إذا لم يؤجِّلْ كما شرحناه.
مسائل شتّى
(صَحَّ بيعُ الكلبِ والفهدِ والسِّباعِ عُلِّمَتْ أو لا)، هذا عندنا، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه لا يجوزُ بيعُ الكلبِ العقورِ، وعند الشَّافِعِيِّ
(3)
رضي الله عنه لا يجوزُ بيعُ الكلبِ أصلاً بناءً على أنَّه نَجِسُ العينِ عنده، وعندنا إنَّما يجوزُ بناءً على الانتفاعِ به وبجلدِه
(4)
.
(1)
كما ذهب إليه الحاكم الشهيد رضي الله عنه قائلاً إذا جاء مفروغاً عنه ينعقد بالتعاطي؛ ولذا يثبت الخيار لكلِّ واحد منهما، لكن الصحيح من المذهب جوازه بيعاً؛ لأن محمداً رضي الله عنه ذكر فيه القياس والاستحسان وهما لا يجريان في المواعدة. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 106).
(2)
أي المستصنع لعدم تعيّنه حينئذ؛ لأن تعيّنَه باختيار الآمر، واختيار الآمر بعد رؤيته، ولا يثبت للمستصنع خيار الرؤية إذا جاء به الصانع على الصفة المشروطة عند أبي حنيفة رضي الله عنه خلافاً لهما. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 384).
(3)
ينظر: «الأم» (2: 52)، و «روض الطالب» (2: 30)، و «الغرر البهية» (2: 402)، وغيرها.
(4)
أما اقتناءُ الكلبِ للصَّيدِ أو لحفظِ الزرع، أو المواشي، أو البيوتِ فجائزٌ بالإجماع. ينظر:«كمال الدراية» (ق 426).
والذِّميُّ في البيعِ كالمسلمِ إلا في الخمرِ والخِنْزيرِ، وهما في عقد الذِّمي كالخلِّ والشَّاة في عقد المسلمِ، ومَن زوَّجَ مشريتَهُ قبل قبضِها صحَّ، فإن وُطئتْ فقد قُبِضَتْ، وإلا فلا، ومَن اشترى شيئاً، وغاب غيبةً معروفةً، فأقامَ بائعُهُ بيِّنةً على أنَّه باعَهُ منه لم يَبِعْ في دَيْنِه، وإن جَهِلَ مكانَهُ بِيعَ، وإن اشترى اثنانِ وغابَ واحدٌ، فللحاضرِ دفعُ ثمنِه، وقبضُهُ وحبسُهُ إن حَضَرَ الغائبُ إلى أن يأخذَ حصَّتَهُ
(والذِّميُّ في البيعِ كالمسلمِ
(1)
إلا في الخمرِ والخِنْزيرِ، وهما في عقد الذِّمي كالخلِّ والشَّاة في عقد المسلمِ)، حتى يكون الخمرُ من ذواتِ الأمثال، والخِنْزيرُ من ذواتِ القيم.
(ومَن زوَّجَ مشريتَهُ قبل قبضِها صحَّ، فإن وُطئتْ فقد قُبِضَتْ، وإلا فلا): أي بمجرّدِ التَّزويجِ لا يكونُ قابضاً استحساناً، والقياسُ أن يصيرَ قابضاً؛ لأنَّها تعيَّبتْ بالتَّزويج، وجهُ الاستحسانِ أن التَّعيُّبَ الحقيقي استيلاءٌ على المحلِّ، فيكونُ قَبْضاً بخلافِ التَّعيُّبِ الحكميّ.
(ومَن اشترى شيئاً، وغاب غيبةً معروفةً، فأقامَ بائعُهُ بيِّنةً على أنَّه باعَهُ منه لم يَبِعْ في دَيْنِه): أي في ثَمَنِ المبيع، بل يطلبُ الثَّمنَ من المشتري، فإنَّ مكانَهُ معلومٌ، (وإن جَهِلَ مكانَهُ بِيعَ)
(2)
: أي بِيعَ وأَوْفَى الثَّمَن.
(وإن اشترى اثنانِ وغابَ واحدٌ، فللحاضرِ دفعُ ثمنِه، وقبضُهُ وحبسُهُ إن حَضَرَ الغائبُ إلى أن يأخذَ حصَّتَهُ): هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمّد رضي الله عنه؛
(3)
وذلك لأنَّه
(1)
لأنه مكلّف بموجب المعاملات، فما جاز للمسلم من البياعات جاز له، وما لا فلا. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 385).
(2)
صورة المسألة: إن من اشترى شيئاً منقولاً غاب المشتري قبل القبض ونقد الثمن غيبة معروفة، فأقام البائع البيّنة أنه باعه منه، فإنّ القاضي لم يبع في دين البائع؛ لانه يتوصل إلى حقّه بالذهاب إليه، فلا حاجة إلى بيعه؛ لأن فيه إبطال حقّ المشتري في العين، فإن جهل مكان المشتري بان لم يدرِ أين هو، باع القاضي المبيع لدين البائع. ينظر:«منح الغفار» (ق 2: 68/ب).
(3)
الخلافُ هاهنا في مواضع:
أحدُها: في قبضِ جميعِ المبيعِ على تقديرِ إيفاءِ الثمنِ كلّه.
والثاني: في حبس نصيبِ الغائب عنه إذا حضر.
والثالث: من الرجوعِ عليه بما أدَّى.
والرابع: في إجبارِ البائعِ على قبولِ ما أدَّاه الحاضرُ من نصيبِ الغائب، عندهما: يجبر، وعنده: لا.
والخامس: في إجبارِ البائعِ على تسليمِ نصيبِ الغائبِ من المبيعِ إلى الحاضرِ عند إيفاءِ الثمنِ كلّه، فعندهما: يجبر، وعنده: لا. ينظر: «الرمز» (2: 59).
وإن اشترى أَمةً بألفِ مثقالٍ من ذَهَبٍ وفضةٍ يَجِبُ من كلٍّ نصفه، وفي بألفٍ من الذَّهبِ والفضةِ يجبُ من الذهبِ مثقايلُ، ومن الفضةِ دراهمُ وزنُ سبعةٍ، ولو قبضَ زيفاً بدلَ جيدٍ جاهلاً به وأنفق أو نفقَ، فهو قضاءٌ، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يَرُدُّ مثل زيفِه، ويرجعُ بجيدِه
مضطرٌ لا يُمْكِنُهُ الانتفاعُ بنصيبِهِ إلاَّ بأداءِ جميعِ الثَّمن، فإذا أدَّاهُ لم يكن مُتَبَرِّعاً، فإن حَضَرَ الغائبُ لا يأخذُ حصَّتَهُ إلاَّ إن سَلِّم ثَمَنَ حصَّتِهِ إلى شريكِه، وعند أبي يوسف رضي الله عنه هو متبرِّعٌ في أداءِ حصّةِ شريكِه؛ لأنَّه دَفَعَ دينَ غيرِهِ بغيرِ أمره.
(وإن اشترى أَمةً بألفِ مثقالٍ من ذَهَبٍ وفضةٍ يَجِبُ من كلٍّ نصفه، وفي بألفٍ من الذَّهبِ والفضةِ يجبُ من الذهبِ مثقايلُ، ومن الفضةِ دراهمُ وزنُ سبعةٍ) وزنُ السَّبْعَةِ قد سبقَ في «كتاب الزكاة»
(1)
.
(ولو قبضَ زيفاً بدلَ جيدٍ جاهلاً به وأنفق أو نفقَ): أي هَلَكَ، (فهو قضاءٌ
(2)
، وعند أبي يوسفَ
(3)
رضي الله عنه يَرُدُّ مثل زيفِه، ويرجعُ بجيدِه)
(4)
: لأنَّحقَّهُ في الوصفِ مراعاً ولا قيمةَ له، فوجَبَ المصيرَ إلى ما ذكرنا، قلنا: الزَّيف من جنسِ حقِّه، ووجوب الزَّيفِ عليه؛ ليأخذَ الجيدَ إيجابٌ له عليه، ولم يُعْهَدْ في الشَّرْعِ مثلُه.
ويردُ عليه: أن مثل هذا في الشَّرع كثيرٌ، فإن جميعَ تكاليف الشَّرْعِ من هذا
(1)
1: 214).
(2)
أي فهو قضاءٌ لحقّه؛ فيكون مؤدّياً عليه من تلك الدراهم، ولا رجوعَ عليه بشيء عند الطرفين. ينظر:«الزبدة» (3: 83).
(3)
والفتوى على قوله كما في «العيون» ، وأقرَّه صاحب «الايضاح» (ق 102/ب)، و «الشرنبلالية» (2: 199)، وقال صاحب «الدر المنتقى» (2: 110): وبه يفتى.
(4)
حاصل المسألة: إذا كان له على آخر عشرة دراهم جياد فقضاه زيوفاً وهو لا يعلم فأنفقها أو هلكت فهو قضاء عند أبي حنيفة رضي الله عنه ومحمد رضي الله عنه، وقال أبو يوسف رضي الله عنه يرد مثل زيوفه ويرجع بجياده؛ لأن حقّه في الوصف مرعي كحقِّه في الأصل ولا يمكن رعايته بإيجاب ضمان الوصف، إذ لا قيمة له عند المقابلة بجنسه فوجب الرجوع إلى ما قلنا. ولهما: أنه من جنس حقه حتى لو تجوز به فيما لا يجوز الاستبدال جاز فيقع به الاستيفاء ولا يبقى حقّه إلا في الجودة ولا يمكن تداركها بإيجاب ضمانها لما مر، ولا بإيجاب ضمان الأصل؛ لأنه إيجاب له عليه ولا نظير له. كذا في الكتب المشهورة. ينظر:«الدرر» (2: 199).
ولو فَرَّخَ أو باضَ طيرٌ في أرضٍ، أو تكسَّرَ ظَبْيٌ فيها، فهو للآخذ كصيدٍ تعلَّقَ بشبكةٍ نصبتْ للجفاف، أو دراهمَ أو دنانير أو سكرٍ نُثِرَ فوقَعَ على ثوبٍ لم يعدَّ له، ولم يكفَّ.
القبيل؛ لأنَّها إيجابُ ضررٍ قليلٍ؛ لأجلِ نفعٍ كثير
(1)
.
(ولو فَرَّخَ أو باضَ طيرٌ في أرضٍ، أو تكسَّرَ ظَبْيٌ
(2)
فيها، فهو للآخذ): أي لا يكونُ لصاحب الأرض؛ لأن الصيدَ لمن أخذه، والمرادُ بتكسُّرِ الظَّبي إنكسارُ رِجْلِه، وإنَّما قال: تَكَسَّر؛ لأنَّه لو كَسَرَها أحدٌ يكون له لا للآخذ، وفي بعضِ الرِّواياتِ تَكَنَّسَ
(3)
: أي دَخَلَ في الكِناس
(4)
: وهو مأواه، بخلافِ ما إذا أَعدَّ صاحبُ الأرضِ أرضَهُ لذلك، وبخلافِ ما إذا عَسَلَ النَّحل في أرضِه.
(كصيدٍ تعلَّقَ بشبكةٍ نصبتْ للجفاف، أو دراهمَ أو دنانير أو سكرٍ نُثِرَ فوقَعَ على ثوبٍ لم يعدَّ له، ولم يكفَّ) حتى إن أُعِدَّ الثَّوب لذلك، فهو لصاحبِ الثَّوْب، وكذا إن لم يُعَدَّ له، لكن لمَّا وَقَعَ كفّهُ صارَ بهذا الفعلِ له.
* * *
(1)
وأجاب ملا خسرو في «درر الحكام» (2: 199) عنه فقال: ليس شيء من تكاليف الشرع من هذا القبيل، فإنّ الضرر فيها دنيويّ والنفع أخرويّ، ولا يجوز للعبد ترك النفع الأخرويّ؛ لأنه حقّ الله تعالى بخلاف ما نحن فيه، فإن الضرر والنفع فيه دنيويّان، ويجوز للعبد ترك النفع الدنيوي؛ لأنه حقّه؛ ولهذا جاز التجوَّز به.
(2)
الظَّبي: الغزال. ينظر: «حياة الحيوان» (2: 102).
(3)
تَكَنَّس: أي استتر. ينظر: «كشف الحقائق» (2: 43).
(4)
كِناس الظَّبي: بيتُه. ينظر: «المصباح» (ص 542).
كتاب الصرف
هو بيعُ الثَّمَنِ بالثَّمنِ جنساً بجنسٍ أو بغيرِ جنسٍ، وشُرِطُ فيه التَّقابضُ قبل الافتراقِ. وصحَّ بيعُ الذَّهبِ بالفضةِ بفضلٍ وجزافٍ. لا بيعُ الجنسِ بالجنسِ إلاَّ مساوياً، وإن اختلفا جودةً وصياغة، ولا يصحُّ التَّصرُّفُ في ثَمنِ الصَّرفِ قبل قبضِه، فلو شَرَى به ثوباً، فسدَ شراءُ الثَّوب، ومَن باعَ أمةً تَعْدِلُ ألفَ درهمٍ مع طوقِ ألف بألفين، ونَقَدَ من الثَّمنِ ألفاً، أو باعَها بألفينِ ألفاً نسيئةً وألفاً نقداً، أو باعَ سيفاً حليتُهُ خمسون، وتخلصُ بلا ضررٍ بمئةٍ
كتاب الصرف
(هو بيعُ الثَّمَنِ بالثَّمنِ جنساً بجنسٍ أو بغيرِ جنسٍ): كبيعِ الذَّهبِ بالذَّهب، وبيعُ الفضةِ بالفضة، وبيعُ الذَّهبِ بالفضة.
(وشُرِطُ
(1)
فيه التَّقابضُ قبل الافتراقِ
(2)
. وصحَّ بيعُ الذَّهبِ بالفضةِ بفضلٍ وجزافٍ. لا بيعُ الجنسِ بالجنسِ إلاَّ مساوياً، وإن اختلفا جودةً وصياغة)، وإنِّما ذَكَرَ الفضلَ والجزافَ ولم يَذْكُرْ التَّساوي؛ لأنَّه لا شُبْهةُ في جوازِ التَّساوي، بل الشُّبهة في الفضلِ والجزافِ فذكرهما.
(ولا يصحُّ التَّصرُّفُ في ثَمنِ الصَّرفِ قبل قبضِه، فلو
…
(3)
(شَرَى به ثوباً)
(4)
، فسدَ شراءُ الثَّوب): أي لو اشترى بثمنِ الصَّرفِ قبل قبضِهِ ثوباً فسدَ شراءُ الثَّوب.
(ومَن باعَ أمةً تَعْدِلُ ألفَ درهمٍ مع طوقِ ألف
(5)
بألفين، ونَقَدَ من الثَّمنِ ألفاً، أو باعَها بألفينِ ألفاً نسيئةً وألفاً نقداً، أو باعَ سيفاً حليتُهُ خمسون، وتخلصُ بلا ضررٍ بمئةٍ،
(1)
فيه ثلاثة شروط:
أن لا يفترقا إلا عن تقابض.
أن لا يكون في هذا العقد خيار الشرط لأحدهما.
أن لا يكون في هذا العقد أجل. ينظر: «المحيط» (ص 66 - 70).
(2)
أي بالأبدان بإجماع العلماء. ينظر: «فتح باب العناية» (3: 386).
(3)
في ف زيادة: باع ذهباً بفضة.
(4)
العبارة في ف: وشرى بها قبل قبضها.
(5)
أي مع طوق قيمته تعدل ألف درهم.
ونقدَ خمسينَ فما نقدَ ثَمَنُ الفضةِ، سكتَ، أو قال: خذ هذا من ثمنِها، فإن افترقا بلا قبضٍ بطلَ في الحليةِ فقط، وإن لم يتخلَّصْ بلا ضررٍ بطلَ أصلاً، ومَن باعَ إناءَ فضَّةٍ وقبضَ بعضَ ثمنِه، ثمّ افترقا صحَّ فيما قَبَضَ فقط، واشتركا في الإناءِ
ونقدَ خمسينَ فما نقدَ ثَمَنُ الفضةِ)، وهو ألف في بيعِ الأمةِ، والخمسونَ في بيعِ السَّيف، (سكتَ، أو قال: خذ هذا من ثمنِها)، أمَّا إذا سكتَ فظاهرٌ؛ لأنَّه لَمَّا باعَ فقد قَصَدَ الصِّحَّة، ولا صِحَّةَ إلا بأن يجعلَ المقبوضَ في مقابلةِ الفضة.
وأمَّا إذا قال: خُذْ هذا ثمنها، فإنَّه ليس معناه خذ هذا على أنَّه ثَمَنُ مجموعِهما؛ لأنَّ ثَمَنَ المجموعِ ألفانِ في الجارية، والمئةُ في السَّيْف، فمعناهُ خذا هذا على أنَّهُ بعضِ ثَمَنِ مجموعِهما، وثَمَنُ الفضةِ بعضُ ثَمَنِ المجموعِ، فيحملُ عليه تحرِّياً للجواز.
(فإن افترقا بلا قبضٍ بطلَ في الحليةِ فقط، وإن لم يتخلَّصْ بلا ضررٍ بطلَ أصلاً): أي إن لم يتخلَّصْ الحلية من السَّيفِ بلا ضررٍ، وافترقا بلا قبضٍ بطلَ في كليهما، ووجدتُ في «حاشية نسخةِ المصنِّف» رضي الله عنه مع علامةِ صحَّ، لكن لا بخطِّ المصنِّفِ رضي الله عنه هذا الإلحاق، وهو هذا التَّفصيل: إذا كان الثَّمنُ أكثرَ من الحلية، وإن لم يكن لا يصحُّ.
فقولُهُ: وإن لم يكن؛ يشتملْ ما إذا كان الثَّمنُ مساوياً للحلية، أو أقلَّ منها، أو لا يَدْرِي، فإنَّه لا يجوزُ البيع، إمِّا لتحقُّقِ الرِّبا أو لشبهته
(1)
(ومَن باعَ إناءَ فضَّةٍ وقبضَ بعضَ ثمنِه، ثمّ افترقا صحَّ فيما قَبَضَ فقط، واشتركا في الإناءِ): أي صحَّ البيعُ فيما قبضَ ثمنُه، وفسدَ فيما لم يقبضْ، ولا يشيعُ الفسادُ كما ذكرنا في «باب السلم»
(2)
؛ لأنَّ الفسادَ طارئٌ.
(1)
المسألةَ على أربعةِ أوجه:
فإنَّ الثمنَ إمَّا أن يكون أكثرَ من الحلية، أو مساوياً، أو أقلَّ، أو لا يدري.
ففي الصُّورةِ الأولى جازَ العقدَ على أن يجعلَ المثلَ بالمثلِ والباقي بالجفن والحمائل.
وفي الصورِ الباقية: لا يجوز.
أمَّا في صورةِ المساواة؛ فلأنَّ الجفنَ والحمائلَ فضلٌ خالٍ عن العوض، فإنَّ مقابلةَ الفضَّةِ بالفضَّةِ في البيعِ يكونُ بالأجزاء.
وأمَّا في صورةِ كونِ الثَّمنِ أقلّ فلظهورِ الفضلِ الخالي عن العوض.
وأمَّا في صورةِ أنّه لا يدري فلعدمِ علمِ المساواةِ عند العقد، وتوهُّم الفضل. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 86).
(2)
3: 69).
وإن استحقَّ بعضَهُ أخذَ المشتري باقيه بحصّتِه أو ردَّهُ، ولو استحقَّ بعضُ قطعةِ نُقْرة بيعتْ أخذَ ما بقي بحصّتِهِ بلا خيارٍ، وصحَّ بيعُ درهمينِ ودينارٍ بدرهمٍ ودينارين، وبيعُ كُرِّ بُرٍّ وكُرِّ شعيرٍ بكُرَّي بُرٍّ وكُرَّي شعيرٍ، وبيعُ أحدَ عشرَ درهماً بعشرةِ دراهمٍ ودينارٍ، وبيعُ درهمٍ صحيحٍ ودرهمينِ غلَّتين بدرهمينِ صحيحينِ ودرهم غلَّة
(وإن استحقَّ بعضَهُ أخذَ المشتري باقيه بحصّتِه أو ردَّهُ): أي إن استحقَّ بعض الإناء، فالمشتري بالخيار؛ لأنَّ الشَّركةَ عيبٌ في الإناء، وفي صورةٍ قَبْضِ بعضِ الثَّمنِ قد ثَبَتَ الشركةُ لكن لا يكونُ للمشتري الرَّدُّ بهذا العيب؛ لأنَّهُ يَثْبُتُ برضا المشتري؛ لأن الشَّركةَ إنِّما تثبت من جهتِه؛ لأنه نَقَدَ بعضَ الثَّمنِ دون البعضِ فتراضيا بهذا العيبِ بخلاف الاستحقاقِ إذ المشتري لم يرضَ به، فله ولايةُ الرَّدّ.
(ولو استحقَّ بعضُ قطعةِ نُقْرة
(1)
بيعتْ أخذَ ما بقي بحصّتِهِ بلا خيارٍ)؛ لأن الشَّركةَ ليستْ بعيبٍ في قطعةِ النُّقْرة؛ لأنَّ التَّبعيضَ لا يضرُّه.
(وصحَّ بيعُ درهمينِ ودينارٍ بدرهمٍ ودينارين، وبيعُ كُرِّ بُرٍّ وكُرِّ شعيرٍ بكُرَّي بُرٍّ وكُرَّي شعيرٍ): هذا عندنا، وأما عند زفر رضي الله عنه والشَّافِعِيّ
(2)
رضي الله عنه فلا يجوزُ؛ لأنَّهُ قابلَ الجملةَ بالجملة، ومن ضرورتِهِ الانقسامَ على الشيوعِ، وفي صرفِ الجنسِ إلى خلافِ الجنسِ تغييرُ تصرّفِه.
قلنا: المقابلةُ المطلقةُ يحتملُ الصَّرفَ المذكور، وليس فيه تغييرُ صرفِه
(3)
؛ لأنَّ موجبَهُ ثبوتُ الملكِ في الكلِّ بمقابلةِ الكلّ، فيكونُ الدِّرهمان في مقابلةِ الدِّينارين، والدِّينارُ في مقابلةِ الدِّرهم، ويكون كُرُّ البُرِّ في مقابلةِ كُرَّي الشَّعير، وكُرِّ الشَّعير في مقابلة كُرَّي البُرّ.
(وبيعُ أحدَ عشرَ درهماً بعشرةِ دراهمٍ ودينارٍ) بأن يكونَ عشرةَ دراهمٍ بعشرةِ دراهمٍ بقي درهمٌ بمقابلةِ دينار.
(وبيعُ درهمٍ صحيحٍ ودرهمينِ غلَّتين بدرهمينِ صحيحينِ ودرهم غلَّة)،
(1)
النُّقْرة: القطعةُ المُذابة من الفضة، وقبل الذوب هي تِبْر. ينظر:«المصباح» (ص 621).
(2)
ينظر: «الغرر البهية» (2: 416)، و «أسنى المطالب» (2: 24)، وغيرهما.
(3)
يعني ليس فيه تغييرُ كلامِه، بل هو تعيينُ أحد المحتملين، ولئن كان فيه تغييرٌ، ففيه تغييرُ وصفه. ينظر:«الزبدة» (3: 87)، و «الشرنبلالية» (2: 204).
وبيعُ مَن عليه عشرةُ دراهمٍ ممَّن هي له ديناراً بها مطلقة إن دفعَ الدِّينارَ وتقاصّا العشرةَ بالعشرة، فإن غَلَبَ على الدَّراهمِ الفضّةُ وعلى الدِّينارِ الذَّهب، فهما فضّةٌ وذهبٌ حكماً، فلم يجزْ بيعُ الخالصين به، ولا بيعُ بعضِهِ ببعضٍ إلا متساوياً وزناً، وإن غَلَبَ عليهما الغشِّ فهما في حكمِ العرضينِ، فبيعُهُ بالفضّةِ الخالصةِ على وجوهٍ: حليةُ السَّيفِ، وبجنسِهِ متفاضلاً صحَّ بشرطِ القبضِ في المجالس
الغلَّة: ما يردُّهُ بيتُ المال
(1)
، ويأخذُهُ التُّجار، وإنِّما يجوزُ هذا لتحقُّقِ التَّساوي في الوزنِ، وسقوطِ اعتبارِ الجودة.
(وبيعُ مَن عليه عشرةُ دراهمٍ ممَّن هي له ديناراً بها مطلقة إن دفعَ الدِّينارَ وتقاصّا العشرةَ بالعشرة): أي لزيدٍ على عمروٍ عشرةُ دراهمٍ، فباعَ عمروٌ ديناراً من زيدٍ بعشرةٍ مطلقة: أي لم يضفِ العقدَ بالعشرةِ التي على عمرو، صحَّ البيعُ إن دَفَعَ عمروٌ الدِّينارَ، فصارَ بكلِّ واحدٍ منهما على الآخرِ عشرةُ دراهمٍ فتقاصَّا العشرةَ بالعشرةِ، فيكونُ هذا التَّقاصُّ فسخاً للبيعِ الأوَّل، وهو بيعُ الدينارِ بالعشرةِ المطلقة، وبيعاً للدِّينار بالعشرةِ التي على عمروٍ إذ لو لم يحملْ على هذا لكان استبدالاً بدلَ الصَّرفِ، وهذا إذا باعَ الدِّينارَ بالعشرةِ المطلقةِ، وأمَّا إذا باعَهُ بالعشرةِ التي له على عمروٍ صحَّ، ويقعُ المقاصّةُ بنفسِ العقد.
(فإن غَلَبَ على الدَّراهمِ الفضّةُ وعلى الدِّينارِ الذَّهب، فهما فضّةٌ وذهبٌ حكماً، فلم يجزْ بيعُ الخالصين به، ولا بيعُ بعضِهِ ببعضٍ إلا متساوياً وزناً، وإن غَلَبَ عليهما الغشِّ فهما في حكمِ العرضينِ، فبيعُهُ بالفضّةِ الخالصةِ على وجوهٍ: حليةُ السَّيفِ): أي إن كانت الفضّةُ الخالصةُ مثل الفضّة التي في الدَّراهمِ، أو أقلَّ أو لا يدري لا يصحَّ، وإن كانت أكثرَ يصحُّ إن لم يفترقا بلا قبضٍ.
(وبجنسِهِ متفاضلاً صحَّ بشرطِ القبضِ في المجالس)، وإنِّما يصحُّ صرفاً للجنسِ إلى خلافِ الجنس؛ لأنَّه في حكمِ شيئينِ فضّةٌ وصُفر
(2)
، فإذا شُرطَ القبضُ في الفضّةِ شُرطَ في الصُّفرِ؛ لعدم التَّمييز.
(1)
أي لا للزيافة، بل لأنّها درهمٌ مقطَّعةٌ مكسّرة، تكون القطعةُ منها ربعاً وثمناً وأقل، وبيتُ المالِ لا يأخذُ إلا العالي. ينظر:«حاشية الدرِّ المختار» (3: 140).
(2)
الصُّفْر: النحاس. ينظر: «المصباح المنير» (ص 342).
وإن شرى سلعةً بالدَّراهم المغشوشة أو بالفلوسِ النَّافقةِ صحَّ، فإن كَسَدَتْ بطلَ، ولو استقرضَ فلوساً فكسدتْ يَجِبُ مثلُها، ومَن شرى شيئاً بنصفِ درهمٍ فلوسٍ، أو دانق فلوسٍ، أو قيراطٍ فلوس صحَّ وعليه ما يُباعُ بنصف درهمٍ، أو دانق، أو قيراطٍ منها
(وإن شرى سلعةً بالدَّراهم المغشوشة أو بالفلوسِ النَّافقةِ صحَّ، فإن كَسَدَتْ
(1)
بطلَ): أي كسدتِ الفلوس قبل تسلُّمِها بطلَ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: لا يبطلُ، فعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يَجِبُ قيمتُها يومَ البيع، وعند محمدٍ رضي الله عنه آخرُ ما يتعاملُ به الناس.
(ولو استقرضَ فلوساً فكسدتْ يَجِبُ مثلُها)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يَجِبُ قيمتُها يومَ القبضِ، وعند محمّدٍ رضي الله عنه يوم الكساد
(2)
كما مرَّ.
(ومَن شرى شيئاً بنصفِ درهمٍ فلوسٍ، أو دانق
(3)
فلوسٍ، أو قيراطٍ
(4)
فلوس صحَّ وعليه ما يُباعُ بنصف درهمٍ، أو دانق، أو قيراطٍ منها): أي اشترى
…
(5)
بنصفِ درهمٍ أو دانقٍ أو قيراطٍ على أن يُعطى عوض ذلك الثَّمن فلوساً صحَّ، وعلى المشتري من الفلوسِ ما يُعطى في مقابلةِ ذلك الثَّمن، والقيراطُ عند الحسَّابِ نصف عشرِ المثقال
(6)
، وعند زفرٍ رضي الله عنه لا يجوزُ هذا البيع؛ لأنَّ الفلوسَ عدديَّةٌ، وتقديرُها بالدَّانقِ ونحوه ينبئُ عن الوزنِ، ولنا: أن الثَّمنَ هو الفلوس، وهي معلومة
(7)
.
(1)
حدُّ الكسادِ أن تتركَ المعاملةُ بها في جميع البلاد، وإن كان يروج في بعض البلاد، لا يبطلُ البيع، لكنّه يتعيَّبُ إذا لم تروج في بلدهم، فيتخيَّرُ البائعُ إن شاءَ أخذَه وإن شاءَ أخذَ قيمتَه، وحدُّ الانقطاعِ أن لا يوجدَ في السُّوق، وإن كان يوجدُ في يدِ الصيارفةِ وفي البيوت. ينظر:«الرمز» (2: 66).
(2)
قولُ أبي يوسفَ رضي الله عنه أيسر للفتوى بأنَّ يومَ القبضِ يعلمُ بلا كلفة، وقولُ محمّد رضي الله عنه أنْظَر في حقِّ المستقرض؛ لأنَّ قيمتَها يومَ الانقطاعِ أقلّ، وكذا في حقِّ المقرض بالنظرِ إلى قولِ الإمامِ لا إلى المفتي؛ لأنَّ يومَ الكسادِ لا يعرفُ إلا بحرج. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 122)، و «رد المحتار» (4: 243).
(3)
الدَّانقُ: قيراطان أو سدس الدرهم، والجمعُ دوانق ودوانيق. ينظر:«المغرب» (ص 169)، و «الصحاح» (1: 418)، و «الفتح» (6: 280).
(4)
القيراط: 0.294 غم، إذن فالدانق: 0.294 غم ×2=0.588 غم. ينظر: «المقادير الشرعية» (ص 78)، و «الفقه الإسلامي وأدلته» (1: 144)، و «معجم الفقهاء» (ص 404).
(5)
في م زيادة: شيئاً.
(6)
المثقال: 5.88 غم، إذن فالقيراط: 5.88 غم÷20=0.294 غم. ينظر: «المقادير الشرعية» (ص 78).
(7)
حاصلُ الجوابِ أنّه لمَّا ذكرَ الدرهمَ ثمَّ وصفَهُ بأنَّه فلوسٌ وهو لا يمكن، عُرِفَ أنَّ المرادَ ما يُباعُ به من الفلوس، وهو معلوم عند الناس، فأغنى عن ذكرِ العدد، فلا تلزمُ جهالةُ الثمن. ينظر:«الفتح» (6: 280)
ولو قال لمن أعطاه درهما: أعطني بنصفِهِ فلوساً وبنصفِهِ نصفاً إلاَّ حبَّةً فَسَدَ البيعُ أصلاً، بخلاف: أعطني نصفَ درهمٍ فلوساً ونصفاً إلا حبَّةً، فالنِّصفُ إلا حبَّةً بمثلِهِ، وما بقي بالفلوس. ولو كرَّر: أعطني أعطني صحَّ في الفلوسِ فقطْ
(ولو قال لمن أعطاه درهما: أعطني بنصفِهِ فلوساً وبنصفِهِ نصفاً إلاَّ حبَّةً فَسَدَ البيعُ أصلاً): أي قال: أعطني بنصفِهِ فلوساً وبنصفِهِ ما ضُرِبَ من الفضّةِ على وزنِ نصفِ درهمٍ إلا حبَّةً فيلزمُ الرِّبا.
(بخلاف: أعطني نصفَ درهمٍ فلوساً ونصفاً إلا حبَّةً): أي إن أعطاهُ الدِّرهم، وذكرَ الثَّمنَ ولم يقسمْهُ على أجزاءِ الدَّرهمِ، (فالنِّصفُ إلا حبَّةً بمثلِهِ، وما بقي بالفلوس.
ولو كرَّر: أعطني أعطني صحَّ في الفلوسِ فقطْ): أي كرَّر لفظ أعطني في الصُّورةِ الأولى، وهي تقسيمُ الدِّرهم، صحَّ في الفلوسِ، ولم يَصِحَّ في نصفِ الدِّرهمِ إلا حبَّةً؛ لأنَّه لَمَّا كرَّر أعطني صارَ بيعين
(1)
.
* * *
(1)
في أ: بيقين.
كتاب الكفالة
ضَمُّ ذمَّةٍ إلى ذمَّةٍ في المطالبةِ لا في الدَّين، هو الأصحُّ، وهي ضربان: بالنَّفسِ. والمالِ. فالأَوَّلُ ينعقدُ: بكفلت بنفسِه، ونحوها ممَّا يُعبَّرُ به عن بدنِه، وبنصفِه، وبثلثِه، وبضمنته، أو عليَّ، أو إليَّ، أو أنّا به زعيم، أو قبيل. ويلزمُهُ إحضارُ المكفولِ به إن طلبَ المكفولُ له، فإن لم يحضرْهُ يحبسُه الحاكم. وإن عيَّنَ وقتَ التَّسليم لزمَهُ ذلك. ويبرأُ: بموتِ مَن كفلَ به ولو أنَّه عبدٌ
كتاب الكفالة
(
…
(1)
ضَمُّ ذمَّةٍ إلى ذمَّةٍ في المطالبةِ لا في الدَّين، هو الأصحُّ)، وعند البعضِ ضَمُّ الذمّةِ إلى الذِّمَّةِ في الدَّين؛ لأنَّه لو لم يثبتِ الدَّينُ لم يثبتِ المطالبة، والأصحُّ هو الأوَّلُ؛ لأنَّ الدَّينَ لا يتكررُ، فإنَّه لو أوفاه أحدُهما لا يبقى على الآخرِ شيءٌ.
(وهي ضربان:
بالنَّفسِ.
والمالِ.
فالأَوَّلُ ينعقدُ: بكفلت بنفسِه، ونحوها ممَّا يُعبَّرُ به عن بدنِه، وبنصفِه، وبثلثِه، وبضمنته
(2)
، أو عليَّ، أو إليَّ، أو أنّا به زعيم، أو قبيل.
ويلزمُهُ إحضارُ المكفولِ به إن طلبَ المكفولُ له، فإن لم يحضرْهُ يحبسُه الحاكم. وإن عيَّنَ وقتَ التَّسليم لزمَهُ ذلك.
ويبرأُ:
بموتِ مَن كفلَ به ولو أنَّه عبدٌ)؛ وإنِّما قال هذا دفعاً لتوهُّمِ أنَّ العبدَ مال، فإذا تعذَّرَ تسليمُهُ لزمَهُ قيمتُه.
(1)
في ج وم وص و م زيادة: هي.
(2)
أي بقوله: ضمنتُ لك فلاناً؛ لأنّه تصريحٌ بمقتضى عقدِ الكفالة، فإنّه يصيرُ به ضامناً للتَّسليم، والعقدُ ينعقدُ بالتصريحِ بمقتضاه، كما أنَّ البيعَ ينعقدُ بلفظِ التمليك، وأمَّا عليَّ فلان: كلمةُ: عليَّ للالتزام، فكأنّه قال: أنا الملتزمُ تسليمُه، وأمّا إليَّ فلان: كلمةُ إليَّ بمعنى: عليَّ، وأما أنا به زعيم؛ لأنَّ الكفيلَ يسمّى زعيماً، وكذا القبيل، ولهذا سمِّيَ الصكُّ: قباله؛ لأنّه يحفظُ الحقَّ كالكفيل. ينظر: «ردّ المحتار» (4: 253)،
وبدفعِهِ إلى مَن كفلَ له حيث يُمْكِنُهُ مخاصمتُه، وإن لم يقلْ إذا دفعتُ إليك فأنا بريءٌ، فإن شَرْطَ تسليمَهُ في مجلسِ القاضي، وسَلَّمَهُ في السُّوقِ، أو في مصرٍ آخر برئ، وإن سَلَّم في بريةٍ، أو في السَّواد، أو في السِّجنِ، وقد حبسَهُ غيره لا، وبتسليمِ مَن كفل به نفسَهُ من كفالته
(وبدفعِهِ إلى مَن كفلَ له حيث يُمْكِنُهُ مخاصمتُه، وإن لم يقلْ إذا دفعتُ إليك فأنا بريءٌ، فإن شَرْطَ تسليمَهُ في مجلسِ القاضي، وسَلَّمَهُ في السُّوقِ، أو في مصرٍ آخر برئ
(1)
، وإن سَلَّم في بريةٍ، أو في السَّواد، أو في السِّجنِ، وقد حبسَهُ غيره لا): قيل: في زماننا لا يبرأُ بتسليمِهِ في السوق؛ لأنَّه لا يعاونه أحدٌ على إحضارِهِ في مجلس القضاء، فعلى هذا إن سلَّمَهُ في مصرٍ آخر إنِّما يَبْرَأُ إذا سلَّمَهُ في موضعٍ يقدِرُ على إحضارِهِ في مجلسِ القاضي، حتَّى لو سلَّمَهُ في سوقِ مصرٍ آخرَ لا يَبْرَأ في زمانِنا؛ لعدمِ حصولِ المقصود.
وقولُهُ: وقد حبسَهُ غيرُهُ؛ أي غيرُ هذا الطالب، قيل: إنِّما لا يَبْرأُ هاهنا إذا كان السِّجنُ سجنَ قاضٍ آخرَ، أمَّا لو كان السجنُ سجنَ هذا القاضي يَبْرأُ، وإن كان حبسَهُ غيرُ هذا الطَّالب؛ لأنَّ القاضي قادرٌ على إحضاره من سجنِه.
(وبتسليمِ مَن كفل به نفسَهُ من كفالته
(2)
): أي بتسليمِ المكفولِ به نفسه من كفالةِ الكفيل.
(1)
لحصولِ المقصود، فإنَّ المقصودَ من التسليمِ في مجلسِ القاضي إمكانُ الخصومةِ واستخراجُ الحقِّ بإثباتِ حقِّهِ عليه، وهذا الإمكانُ حاصلٌ من تسلُّمهُ في مكانٍ آخر، وقال السَّرَخْسيّ: في زماننا لا يبرأُ إذا شرطَ التسليمَ في مجلسِ القضاءِ بالتسليمِ في مكانٍ آخر؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنّه لا يعاونُهُ أحد من أهلِ الطريقِ والسوقِ على إحضارِ المكفولِ به في مجلسِ القاضي، بل يعاونونه على الامتناع؛ لغلبةِ الفسَّاقِ والمفسدين، وقيل: يجبُ أن يفتى بذلك. وفي «الملتقى» (ص 124): والمختارُ في زماننا أنّه لا يبرأ. انتهى. أى سواءٌ كان التسليمُ في سوقِ ذلك المصرِ أو في سوقِ مصرٍ آخر. وفي «المنح» (ق 2: 79/أ-ب): وهو قولُ زفر رضي الله عنه، وبه يفتى في زماننا؛ لتهاونِ النَّاسِ في إقامةِ الحقّ، ومحلُّ الاختلافِ في بلدٍ لم يعتادوا نزعَ الغريمِ من يد الخصم. ينظر:«الفتح» (6: 289)، و «البحر» (6: 229).
(2)
هذا قيدٌ في الجميع، يعني لا يبرأ الكفيلُ حتى يقول المكفول: سلمتُ نفسي إليكَ من الكفالة، والوكيلُ والرسولُ كالمكفول لا بُدّ من التسليم عنها، وإلاَّ لا يبرأ. ينظر:«منح الغفار» (ق 2: 79/ب).
وبتسليم وكيلِ الكفيلِ ورسولِهِ إليه، ولو ماتَ المكفولُ له فللوصيِّ والوارثِ مطالبتُهُ به، فإن كفلَ بنفسِهِ على أنَّه إن لم يواف به غداً، فهو ضامنٌ لِما عليه، ولم يسلمْهُ غداً لزمَهُ ما عليه، ولم يبرأْ من كفالتِهِ بالنَّفسِ، وإن ماتَ المكفولُ عنه ضَمِنَ المال،
(وبتسليم وكيلِ الكفيلِ ورسولِهِ إليه)، إليه: مُتعلِّق بالتَّسليم، والضَّميرُ يرجعُ إلى المكفولِ له.
(ولو ماتَ المكفولُ له فللوصيِّ والوارثِ مطالبتُهُ به): أي مطالبةُ الكفيلِ بالمكفولِ به.
(فإن كفلَ بنفسِهِ على أنَّه إن لم يواف به غداً): أي أن يأتِي به غداً، (فهو ضامنٌ لِما عليه، ولم يسلمْهُ غداً لزمَهُ ما عليه): خلافاً للشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، له أنَّه إيجابُ المالِ بالشَّرط، فلا يجوزُ كالبيعِ. قلنا: إنَّه يشبه البيعَ ويشبه النَّذرَ، فإن علَّقَ بشرطٍ غيرَ ملائمٍ لا يصحُّ، وبملائمٍ يصحُّ عملاً بالشَّبَهين
(1)
، (ولم يبرأْ من كفالتِهِ بالنَّفسِ) لعدمِ سببِ البراءة، بل إنِّما يبرأُ إذا أدَّى المالَ؛ لأنَّه لم يبقَ للطالبِ على المكفولِ عنه شيءٌ، فلا فائدةَ في الكفالةِ بالنَّفس. (وإن ماتَ المكفولُ
(2)
عنه ضَمِنَ المال): لوجودِ الشَّرط، وهو عدم الموافاة
(3)
.
(1)
حاصله: حاصلُهُ أنَّ الكفالةَ بالمالِ يشبهُ البيعَ انتهاءً، باعتبارِ رجوعِ الكفيلِ على الأصيلِ بما أدّى عنه إذا كان بأمرِه، فصارَ مبادلةُ المالِ بالمال، ويشبهُ النَّذرَ ابتداءً باعتبارِ الالتزام، إذ لا يقابلُهُ شيء، فقلنا: إن كان تعليقُ الكفالةِ بشرطٍ غير ملائم؛ كهبوبِ الريحِ ونزولِ المطرِ ونحوها، لا تصحُّ كالبيع، وإن كان بشرطٍ ملائمٍ متعارف؛ مثل: عدم الموافاةِ في وقتِ كذا، تصحُّ كالنذر، والتعليقُ بعدمِ الموافاةِ متعارف، فإنَّ النّاس تعارفوا تعليقَ الكفالةِ بالمال؛ لعدمِ الموافاةِ بالنفس، ورغبتهم في ذلك أكثرُ من رغبتِهم في مجرَّدِ الكفالةِ بالنفس، ولا نسلِّم أنَّ هذا تعليقُ سببِ وجوبِ المالِ بأمرٍ متردد، وقد يكونُ وقد لا يكون، حتى لا يجوزَ كالبيع، بل إنّما هو تعليقُ وجوبِ المطالبة. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 93).
(2)
اللام للعهد، والمعهودُ هو المكفولُ بنفسِه الذي شرطَ كفيلُهُ أنّه إن لم يوافِ به غداً فعليه ما عليه من المال. ينظر:«كمال الدراية» (ق 498).
(3)
وإن أبطلَ الكفالة، فإنّما هو في حقِّ تسليمِهِ إلى الطالب، لا في حقِّ المال. ينظر:«حاشية الطحطاوي» (3: 149).
ومَن ادَّعى على رجل مالاً بيَّنَه أو لا، فكفلَ بنفسِهِ آخرُ على أنَّه إن لم يوافِ به غداً، فعليه المالُ صحَّت، ويجبُ عند الشرطِ، ولا جبرَ على إعطاء الكفيلِ في حدٍّ وقصاصٍ
(ومَن ادَّعى على رجل مالاً بيَّنَه أو لا، فكفلَ بنفسِهِ آخرُ على أنَّه إن لم يوافِ به غداً، فعليه المالُ صحَّت، ويجبُ عند الشرطِ): صورةُ المسألةِ ادَّعى رجلٌ على آخر مئة دينارٍ، فكفلَ بنفسِهِ رجلٌ على أنَّه إن لم يوافِ به غداً، فعليه المئة.
فقولُهُ: مالاً: أي مالاً مقدَّراً.
وقولُهُ: بيَّنَهُ أوَّلاً: أي بيَّنَ صفتَهُ على وجهٍ تصحُّ الدَّعوى، أو لم يُبَيِّنُ.
وفي المسألةِ خلافُ محمّدٍ رضي الله عنه، فقيل: عدمُ الجوازِ عنده مبنيٌّ على أنَّه قال: فعليه المئة، ولم يقلْ المئة التي على المدَّعى عليه، فعلى هذا إن بيَّنَ المدِّعي المئة لا يكونُ كفالة عنده صحيحاً أيضاً، كما إذا لم يُبيِّنْ إلاَّ أن يقول: فعليه المئة التي يدَّعيها.
وقيل: إنَّه مبنيُّ على أنَّه لمَّا لم يُبيِّن لم يصحَّ الدَّعوى، فلم يستوجبْ إحضارَه إلى مجلسِ القاضي، فلم يصحَّ الكفالةُ بالنفسِ، ولا يجوز الكفالةُ بالمال، فعلى هذا إن بيَّن يكون الكفالةُ صحيحةً
(1)
ولهما: أنَّه قال: فعليه المئة، أو عليه المال، فيرادُ به المعهودَ، فإن بيَّنَ المدَّعي فظاهرٌ، وإن لم يبيِّن فبعد ذلك، إذا بيَّنَ التحقَ البيانُ بأصلِ الدَّعوى، فتبيَّنَ صحَّةَ الكفالةِ بالنَّفسِ، فيترتبُ عليها الكفالةُ بالمال.
(ولا جبرَ على إعطاء الكفيلِ في حدٍّ وقصاصٍ)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه،
(1)
تقريرُهُ أنَّ لمحمَّدٍ رضي الله عنه في هذه المسألة وجهين:
أحدهما: ما قاله العلامةُ أبو منصورٍ الماتريديّ رضي الله عنه وهو أنَّ الكفيلَ علَّقَ مالاً مطلقاً بأمرٍ متردّدٍ قد يكون وقد لا يكون، حيث لم يقل: عليَّ المئةُ التي على المدَّعى عليه، ولم ينسبْهُ إلى ما على المكفولِ عنه، فكانت هذه رشوة التزمَها الكفيل له عند عدمِ الموافاةِ به، فهذا يوجبُ أن لا يصحّ، وإن بيَّنها المدَّعي؛ لأنَّ عدمَ النسبةِ إليه هو الذي أوجب البطلان.
والثاني: ما قالَه الشيخ أبو الحسنِ الكَرْخيُّ رضي الله عنه: وهو أنَّ المدَّعي لمَّا لم يبيِّن مالاً مقدَّراً لم يستوجبْ إحضارُهُ إلى مجلسِ القاضي؛ لفسادِ الدعوى، فلا تصحُّ الكفالةُ بالنفس؛ لعدمِ صحَّةِ الدعوى، ولا تصحُّ الكفالةُ بالمالِ أيضاً؛ لأنّها مبنيّة على الكفالةِ بالنفس، فإذا بطلَ الأصلُ بطلَ الفرع، وهذا الوجهُ يوجبُ أن تصحَّ الكفالةُ إذا بيَّنَ المالَ عند الدّعوى. ينظر:«منح الغفار» (ق 2: 80/أ).
ولو سمحَتْ نفسُهُ صحَّ، ولا حبسَ فيهما حتَّى يشهدَ مستوران أو عدلٍ، وصحَّ الرَّهنُ والكفالة بالخراجِ، وأُخِذَ الكفيلُ بالنَّفسِ، ثُمَّ آخر وهما كفيلانِ، وإن جُهِلَ المكفولُ به إذا صحَّ دينُهُ
وعندهما يُجْبَرُ
(1)
في حدِّ القذفِ؛ لأنَّ فيه حقُّ العبدِ، وفي القصاصِ؛ لأنَّه خالصُ حقِّ العبدِ، ولأبي حنيفةَ رضي الله عنه أن مبناهما على الدرء، فلا يجبُ فيهما الاستيثاق، (ولو سمحَتْ نفسُهُ صحَّ): أي لو سمحَتْ نفسُ مَن عليه الحدُّ، أو القصاصُ فأعطى كفيلاً بالنَّفسِ صحّ.
(ولا حبسَ فيهما حتَّى يشهدَ مستوران أو عدلٍ): لما ذُكِرَ أنَّه لا جبرَ على الكفالةِ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه. ذَكَرَ ماذا يصنعُ صاحبُ الحقّ، فعنده يلازمُهُ إلى وقتِ قيامِ القاضي عن المجلس، فإن أحضرَ البيَّنةَ فيها، وإن أقامَ مستورينِ أو شاهداً عدلاً لا يكفلُ عند أبي حنيفة رضي الله عنه، بل يحبسُهُ للتُّهمةِ حتَّى يتبيَّنَ الحقُّ، وإن لم يحضرْ شيئاً خلَّى سبيلَه.
(وصحَّ الرَّهنُ والكفالة بالخراجِ)
(2)
؛ لأنَّه دينٌ مطالبٌ بخلافِ الزّكاةِ؛ لأنَّها مجرَّدُ فعلٍ، وإنِّما أوردَ هذه المسألةَ هاهنا، وإن كان الحقُّ أن تُذْكَرَ في الكفالةِ بالمال؛ لأنَّه في ذِكْرِ الكفالةِ بالنَّفسِ في الحدودِ والقصاصِ، وللخراجِ مناسبةٌ بالحدودِ لِمَا عُرِفَ في أصولِ الفقه: أن فيه معنى العقوبة
(3)
؛ فلهذه المناسبةِ أوردَها هاهنا لِيُعْلَمُ أن حكمَهُ حُكْمُ الأموالِ حتَّى يُجْبَرَ فيه على الكفالةِ بالنَّفسِ بناء على صحَّةِ الكفالةِ فيه.
(وأُخِذَ الكفيلُ بالنَّفسِ، ثُمَّ آخر وهما كفيلانِ): أي ليس أَخْذُ الكفيلِ الثَّاني تركاً للأَوَّلِ.
(والكفالةُ بالمالِ تصحُّ:
وإن جُهِلَ المكفولُ به إذا صحَّ دينُهُ): الدَّينُ الصحيحُ دينٌ لا يسقطُ إلا
(1)
أي يجبر المدَّعى عليه على إعطاءِ الكفيل، وليس تفسيرُ الجبرِ هاهنا الحبس، لكن يأمرُهُ بالملازمة، وليس تفسيرُ الملازمةِ المنعُ من الذَّهاب؛ لأنّه حبس، لكن يذهبُ الطالبُ مع المطلوب، فيدورُ معه أينما دار، كيلا يتغيّب، وإذا انتهى إلى بابِ دارِهِ وأرادَ الدخولَ يستأذنُهُ الطالبُ في الدخول، فإن أذنَ له يدخلُ معه، ويسكنُ حيث سكن، وإن لم يأذن له يحبسُهُ في بابِ داره ويمنعُهُ من الدخول. ينظر:«الكفاية» (6: 295).
(2)
أي الموظف؛ لأنه دين صحيح ممكن الاستفياء. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 130).
(3)
لأن سببه الاشتغال بالزراعة، وهي الذُّلّ في الشريعة، وكل واحد منهما شُرِعَ مؤنةً لحفظِ الأرضِ وإنزالِها؛ ولذلك لا يبتدأُ على المسلم وجازَ البقاءُ عليه؛ لأنَّها لما تردَّد لا يجب بالشَّك ولم يبطل به. ينظر:«أصول البزدوي» (4: 139)، «التوضيح» (2: 304)، وغيرهما.
نحو: كفلتُ بما لَكَ عليه، أو بما يدركك في هذا البيعِ، أو علَّقَ الكفالةَ بشرطٍ ملائمٍ، نحو: ما بايعت فلاناً، أو ما ذاب لك عليه، أو ما غصبَك فعلي، وإن علَّقت بمجرَّدِ الشَّرطِ فلا: كإن هَبَّتِ الرِّيحُ، أو جاءَ المطر. فإن كفلَ بما لك عليه ضَمِنَ قَدْرَ ما قامتْ به بيِّنةٌ، وبلا بيّنةٍ صُدِّقَ الكفيلُ
بالأداء أو الإبراءِ، وهو احترازٌ عن بدلِ الكتابةِ، فإنَّه دينٌ غيرُ صحيحٍ، إذ المولى لا يستوجبُ على عبدِهِ ديناً، وهو يسقطُ بالعجز، (نحو: كفلتُ بما لَكَ عليه)، تصحُّ هذه الكفالةُ وإن كان المالُ المكفولُ به مجهولاً.
(أو بما يدركك في هذا البيعِ)، هذا الضمانُ يسمَّى ضمانَ الدَّرَكِ، وهو ضمانُ الاستحقاقِ، أي يضمنُ للمشتري برد الثَّمنِ إذا استحقَّ المبيعُ مستحقٌّ.
(أو علَّقَ الكفالةَ بشرطٍ ملائمٍ، نحو: ما بايعت فلاناً
(1)
، أو ما ذاب لك عليه، أو ما غصبَك فعلي): ما ذابَ: أي ما وَجَبَ، ففي هذه الصُّورة: ما؛ شرطيّةٌ معناهُ إن بايعتَ فلاناً، فيكون في معنى التَّعليق، وعنى بالملائمِ
(2)
: المناسبِ، فإنَّ هذه الأشياءَ أسبابٌ لوجوبِ المال، فيناسبُ ضمَّ الذَّمةِ إلى الذَّمة.
فقولُهُ: ما بايعت فلاناً: أي ما بايعتُ منه، فإنِّي ضامنٌ بثمنِهِ لا ما اشتريتُ منه، فإنِّي ضامنٌ للمبيع، فإن الكفالةَ بالمبيعِ لا يجوزُ على ما يأتي
(3)
.
(وإن علَّقت بمجرَّدِ الشَّرطِ فلا
(4)
: كإن هَبَّتِ الرِّيحُ، أو جاءَ المطر.
فإن كفلَ بما لك عليه ضَمِنَ قَدْرَ ما قامتْ به بيِّنةٌ
(5)
، وبلا بيّنةٍ صُدِّقَ الكفيلُ
(1)
قيَّد: بفلان؛ إشارة إلى أن المكفول عنه يجب أن يكون معلوماً؛ لأن جهالته تمنع صحة الكفالة. ينظر: «فتح باب العناية» (2: 499).
(2)
فسَّروا الملائم: بما يكون شرطاً لوجوب الحق: كإن استحق المبيع، أو شرطاً لامكان الاستيفاء: كإن قدم زيد، وهو المكفول عنه، أو شرطاً لتعذر الاستيفاء: كإن غاب زيد عن البلد، وهو المكفول عنه. ينظر:«الملتقى» (ص 124).
(3)
3: 93).
(4)
أي فلا تصح الكفالة ولا يجب المال، أما لو جعل الأجل في الكفالة إلى هبوب الريح ونحوه فلا يصح التأجيل وتصح الكفالة ويجب المال حالاً. ينظر:«المبسوط» (19: 74)، و «فتاوى قاضي خان» (3: 52 - 53)، و «الفتح» (6: 302)، و «التبيين» (4: 154)، و «الرمز» (2: 72)، و «المنح» (ق 2: 81/ب).
(5)
فإن الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان. ينظر: «درر الحكام» (2: 302).
فيما يُقِرُّ به مع حَلْفِهِ، والأصيلُ فيما يُقِرُّ بأكثر منه على نفسِهِ فقط، وللطالبِ مطالبةُ مَن شاءَ من أصيلِهِ وكفيلِهِ، ومطالبتُهما، فإن طالبَ أحدَهما، فله مطالبةُ الآخرِ، وتصحُّ بأمرِ الأصيلِ وبلا أمرِه، ثمَّ إن أمرَه رجعَ عليه بعد أدائِهِ إلى طالبِه، ولا يطالبُهُ قبلَه
فيما يُقِرُّ به مع حَلْفِهِ، والأصيلُ فيما يُقِرُّ بأكثر منه على نفسِهِ فقط): أي إن لم يقم البيِّنةَ صُدِّقَ الكفيلُ في مقدارِ ما يُقِرُّ به مع أنه يحلفُ على نفي الزِّيادةِ، وينبغي أن يحلفَ على العلمِ بأنَّكَ لا تعلمُ أنَّ أكثرَ من هذا واجبٌ على الأصيلِ، فإن كَفِلَ أو أقرَّ بالزَّائدِ لَزِمَ عليه، وإنِّما يحلفُ على العلم؛ لأنَّ الحلفَ فيما يَجِبُ على الغيرِ ليس إلاَّ على العلم.
وإن أقرَّ الأصيلُ بأكثرَ ممِّا أقرَّ به الكفيلُ يكونُ ذلك مقتصراً عليه؛ لأنَّ الإقرارَ حجَّةٌ قاصرةٌ.
وكلمةُ: ما؛ في قولِهِ: فيما يُقِرُّ به؛ موصولةً، والضَّميرُ في به راجعٌ إلى: ما.
وفى قوله: فيما يُقِرُّ بأكثرَ منه مصدريةً: أي صُدِّقَ الأصيلُ في إقرارِهِ بأكثر منه: أي ممِّا يقرُّ به الكفيلُ، ولو جعلتْ موصولةً يفسدُ المعنى؛ لأنَّه حينئذٍ يصيرُ تقديرُ الكلامِ صُدِّقَ الأصيلُ في الشَّيءِ الذي يُقِرُّ بأكثرَ منه: أي من ذلك الشِّيءِ، فالشيءُ الذي يُقِرُّ الأصيلُ بأكثرَ منه، هو ما أقرَّ به الكفيلُ، والغرضُ أن الأصيلَ يُصَدَّقُ في الأكثرِ لا أنَّه يُصَدَّقُ فيما أقرَّ به الكفيلُ.
(وللطالبِ مطالبةُ مَن شاءَ من أصيلِهِ وكفيلِهِ، ومطالبتُهما، فإن طالبَ أحدَهما، فله مطالبةُ الآخرِ)، هذا بخلافِ المالكِ إذا اختارَ أحدَ الغاصبين؛ لأنَّ اختيارَهُ أحدَهما يتضمَّنُ تمليكَهُ: يعني إذا قضى القاضي بذلك. كذا في «مبسوطِ شيخ الإسلام»
(1)
، فإذا مَلَّكَ أحدَهما لا يُمْكِنَهُ أن يُمَلِّكَ الآخرَ.
(وتصحُّ
…
(2)
بأمرِ الأصيلِ وبلا أمرِه، ثمَّ إن أمرَه رجعَ عليه بعد أدائِهِ إلى طالبِه، ولا يطالبُهُ قبلَه)، بخلافِ الوكيلِ في الشَّراءِ؛ فإنَّه إذا اشترى كان له مطالبةُ الثَّمنِ
(1)
وهو عليُّ بن محمد بن إسماعيل الإسْبِيجَابِيّ السَّمَرْقَنْدِيّ، أبو الحسن، المعروف بشيخ الإسلام، نسبةً إلى إسبيجاب: بلدةٌ من ثغور الترك، قال الكفوي: لم يكن أحد يحفظ مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ويعرف مثله في عصره، عمَّر العمر الطويل في نشر العلم. من مؤلفاته:«شرح مختصر الكرخي» ، و «المبسوط» ، (454 - 535 هـ). ينظر:«الجواهر» (2: 591). «هدية العارفين» (1: 697). «الفوائد» (ص 209).
(2)
في ب زيادة: أي الكفالة.
وإن لم يأمرْهُ لم يرجعْ. فإن لوزمَ الكفيلُ بالمالِ فله ملازمةُ أصيلِه، وإن حُبِسَ فله حبسُهُ، وإن أُبْرئ الأصيلُ أو أوفى المالَ بَرِئ الكفيلُ، وإن أُبرئ هو لا يَبْرَأُ الأصيلُ، وإن أخَّرَ عن الأصيلِ تأخَّرَ عنه بخلافِ عكسِه، فإن صالحَ الكفيلُ الطالبَ عن ألفٍ على مئةٍ بَرِئَ الكفيلُ والأصيل، ورَجَعَ على الأصيلِ بها إن كَفِلَ بأمرِه، وإن صالحَ على جنسٍ آخرَ رَجَعَ بالألفِ
من موكِّلِهِ قبلَ أدائِهِ إلى البائِعِ؛ لأنَّهُ انعقدَ بين الوكيلِ والموكِّلِ مبادلةٌ حكمية، (وإن لم يأمرْهُ لم يرجعْ.
فإن لوزمَ الكفيلُ بالمالِ فله ملازمةُ أصيلِه، وإن حُبِسَ فله حبسُهُ)
(1)
: لأنَّهُ لحقَهُ هذا الضَّررُ بأمرِهِ فيعاملُهُ بمثلِه.
(وإن أُبْرئ الأصيلُ أو أوفى المالَ بَرِئ الكفيلُ، وإن أُبرئ هو لا يَبْرَأُ الأصيلُ)؛ لأنَّ الدَّينَ على الأصيلِ، فالبراءةُ عنه تُوجِبُ البراءةَ عن المطالبةِ بخلافِ العكس، (وإن أخَّرَ عن الأصيلِ تأخَّرَ عنه بخلافِ عكسِه)، اعتباراً للإبراءِ المؤقَّتِ بالمؤبَّدِ.
(فإن صالحَ الكفيلُ الطالبَ عن ألفٍ على مئةٍ بَرِئَ الكفيلُ والأصيل، ورَجَعَ على الأصيلِ بها إن كَفِلَ بأمرِه)؛ لأنَّهُ أضافَ الصُّلْحَ إلى الألفِ الذي هو الدَّين، وهو على الأصيل، فيبرأُ عن تسعِمئةٍ، وبراءتُهُ توجِبُ براءةَ الكفيل، فإن كانت الكفالةُ بأمرِه، رجعَ الكفيلُ بما أدَّى، وهو المئة.
(وإن صالحَ على جنسٍ آخرَ رَجَعَ بالألفِ)
(2)
؛ لأنَّهُ مبادلةٌ
(3)
فيملِكُهُ الكفيلُ، فيرجعُ بجميعِ الألف.
فإنّ قلتَ: إن الدَّينَ على الأصيلِ، فكيف يملِّكُهُ الكفيل؛ لأنَّ تمليكَ الدَّينِ من غيرِ مَن عليه الدَّينُ لا يصحُّ.
(1)
قيَّده في «الشُّرُنْبُلاليّة» (2: 303) بما إذا لم يكن المكفولُ عنه من أصولِ الدَّائن، فإذا كان المدينُ أصلاً لا يحبسُ كفيلُهُ ولا يلازم، لما يلزمُ من فعلِ ذلك بالأصيل، وهو ممتنع. ينظر:«حاشية الطحطاوي» (3: 155).
(2)
أي لأن هذا الصلح يكون مبادلة فيصير الألف بمقابلة الثوب فيملك ما في ذمة الأصيل فيرجع بكله عليه. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 134).
(3)
ولهذا لو صالحَ ربُّ المالِ الأصيلَ على غير جنسِ الدَّينِ خرجَ الكفيلُ من كفالتِه، ولو صالحَه على جنسِ الدَّينِ لا يخرج. ينظر:«القنية» (ق 240/ب).
وإن صالحَ عن مُوجَبِ الكفالةِ لم يَبْرأْ الأصيل، وإن قالَ الطالبُ للكفيلِ: بَرِئتَ إليَّ من المالِ، رجعَ إلى أصيله، وكذا في بَرِئْتَ عند أبي يوسفَ رضي الله عنه خلافاً لمحمدٍ رضي الله عنه، وفي أبرأتُكَ لا يرجعُ، ولا يصحُّ تعليقُ البراءةِ عن الكفالةِ بشرطِ كسائرِ البراءات، كما إذا قال: إن قدمَ فلانٌ من السفرِ أبرأتك من الدَّينِ لا يصحُّ البراءةُ منه.
قلت: أمَّا عند مَن جَعَلَ الكفالةَ ضمُّ الذمّةِ إلى الذمّةِ في الدَّينِ فظاهرٌ، وأمَّا عند الآخرينَ، فإنَّ المكفولَ له إذا مَلَكَ الدَّين من الكفيلِ إما بالهبةِ، أو بالمعاوضةِ، فالدَّينُ يُجْعَلُ ثابتاً في ذمَّةِ الكفيلِ ضرورةَ صحَّةَ التَّمليك. كذا قالوا.
(وإن صالحَ عن مُوجَبِ الكفالةِ لم يَبْرأْ الأصيل)؛ لأن هذا الصَّلحَ إبراءُ الكفيلِ عن المطالبة، فلا
(1)
يوجبُ براءةَ الأصيل.
(وإن قالَ الطالبُ للكفيلِ: بَرِئتَ إليَّ من المالِ، رجعَ إلى أصيله): لأنَّ البراءةَ التي ابتداؤها من الكفيلِ وانتهاؤها إلى الطَّالبِ لا تكونُ إلا بالإيفاءِ كأنَّه قال: بَرِئتَ بالأداءِ إليَّ، فيرجعُ بالمالِ على الأصيلِ إن كانت الكفالةُ بأمرِه.
(وكذا في بَرِئْتَ عند أبي يوسفَ رضي الله عنه خلافاً لمحمدٍ رضي الله عنه)، له: إن البراءةَ تكون بالأداءِ، أو الإبراء، فيثبتُ بالأدنى. ولأبي يوسف رضي الله عنه: إنَّه إن أقرَّ بالبراءةِ التي ابتداؤها من المطلوبِ، وهي بالأداءِ فيرجع.
(وفي أبرأتُكَ لا يرجعُ)، قيل في جميعِ ذلك إن كان الطالبُ حاضراً يرجعُ إليه في البيان.
(ولا يصحُّ
(2)
تعليقُ البراءةِ عن الكفالةِ بشرطِ
(3)
كسائرِ البراءات، كما إذا قال: إن قدمَ فلانٌ من السفرِ أبرأتك من الدَّينِ لا يصحُّ البراءةُ منه.
(1)
في أ: ولا.
(2)
لأنَّ في الإبراءِ معنى التَّمليك، والتمليكُ لا يقبلُ التَّعليقَ بالشَّرط؛ لكونِهِ قماراً، وهذا على القولِ بثبوتِ الدَّينِ على الكفيلِ ظاهر، وكذا على القولِ الآخر؛ لأنَّ الكفالةَ عليه تمليكُ المطالبة، والمطالبةُ كالدَّين؛ لأنّها وسيلةٌ إليه، وقيل: يصحُّ؛ لأنَّ الصحيحَ أنَّ الثَّابتَ في الكفالةِ على الكفيلِ المطالبةُ دون الدين، فكانت إسقاطاً محضاً كالطَّلاقِ والعتاق؛ ولهذا لا يرتدُّ إبراءُ الكفيلِ بالردّ؛ لأنَّ الإسقاطَ يتمُّ بالمسقط. وقال صاحبُ «الفتح» (6: 311) عن القول الثاني: وهو أوجه، وقال صاحب «الملتقى» (ص 125): والمختارُ الصحّة.
(3)
في ب: بالشرط.
ولا الكفالةُ بما تعذَّرَ استيفاؤهُ من الكفيلِ، كالحدودِ والقصاصِ، وبالمبيع بخلافِ الثَّمنِ، وبالمرهونِ، وبالأمانةِ: كالوديعةِ، والمستعارِ، والمستأجَرِ، ومالِ المضاربةِ، والشَّركةِ، وبالحملِ على دابّةٍ مستأجَرةٍ معيَّنةٍ بخلافِ غير المعيَّنةِ
ولا الكفالةُ بما تعذَّرَ استيفاؤهُ من الكفيلِ، كالحدودِ والقصاصِ، وبالمبيع بخلافِ الثَّمنِ). اعلم أن الكفالةَ بتسليمِ المبيعِ تصحُّ، لكن لو هلكَ لا يَجِبُ على الكفيلِ شيءٌ، فمرادُ «المتن» الكفالةُ بماليّةِ المبيعِ؛ وذلك لأنَّ ماليّتَهُ
(1)
غيرُ مضمونةٍ على الأصيلِ، فإنَّه لو هَلَكَ ينفسخُ البيعُ، ويَجِبُ ردُّ الثَّمَنِ بخلاف الثمن.
(وبالمرهونِ): أي بماليتِهِ لكن يصحُّ بتسليمِ المرهونِ، فلو هلكَ لا يَجِبُ عليه شيءٌ، فالحاصلُ أن الكفالةَ بماليَّةِ الأعيانِ المضمونةِ بالغيرِ لا تصحُّ، فأمَّا بالأعيان المضمونةِ بنفسِها تصحُّ عندنا خلافاً للشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه، وذلك مثل: المبيع بيعاً فاسداً، والمغصوب، والمقبوض على سومِ الشَّراءِ، فإنَّه مضمونٌ بالقيمةِ.
(وبالأمانةِ: كالوديعةِ، والمستعارِ، والمستأجَرِ، ومالِ المضاربةِ، والشَّركةِ)،
…
قالوا الكفالةُ بماليَّةِ الوديعةِ والعاريةِ لا تصحُّ، أمَّا بتمكينِ المالك من أخذِ الوديعةِ يصحُّ، وكذا بتسليمِ العاريةِ.
(وبالحملِ على دابّةٍ مستأجَرةٍ معيَّنةٍ)
(3)
، إذ لا قُدْرَةَ له على تسليمِ دابّةِ المكفولِ عنه، (بخلافِ غير المعيَّنةِ): فإن المستحقَّ هاهنا الحملُ على أي دابّةٍ كانت، فالقدرةُ ثابتةٌ هاهنا.
(1)
أي إنَّ ماليَّتَهُ غيرُ مضمونةٍ على الأصيل، فإنّه لو هلكَ المبيعُ قبل القبضِ في يدِ البائعِ لا يجبُ على البائعِ شيء، وإنّما يسقطُ حقُّهُ في الثمن، وإذا كان المبيعُ مضموناً على البائعِ بسقوطِ حقِّهِ في الثَّمنِ لا بنفسِه لا يمكنُ تحقُّقُ معنى الكفالة، إذ هي ضمُّ الذمَّةِ إلى الذمَّةِ في المطالبة، ولا يتحقَّقُ الضمُّ بين المختلفين، فإنّما ثبتَ على الأصيلِ وهو سقوطُ حقِّهِ في الثمنِ لا يمكنُ إثباتُهُ في حقِّ الكفيل، وما أمكنَ إثباتُهُ على الكفيلِ من كونِهِ مضموناً عليه بالقيمةِ لا يمكنُ إثباتُهُ على الأصيل، بخلافِ الكفالةِ بتسليمِ المبيع، حيث يصحُّ لتحقُّقِ معنى الضمِّ فيها، ونظيرُ الكفالةِ بالمبيعِ الكفالةُ ببدلِ الكتابة، حيث لا يمكنُ الإيجابُ على الكفيلِ بمثلِ ما وجبَ على الأصيل. ينظر:«البحر» (6: 250)، و «الكفاية» (6: 313 - 314).
(2)
ينظر: «أسنى المطالب» (2: 150 - 151)، «حاشيتا قليوبي وعميرة» (2: 222)، و «تحفة المحتاج» (5: 252)، وغيرها.
(3)
لعجز الكفيل؛ لأنها ملك الغير، ولو حمل على دابة أخرى لا يستحق الأجر، فيثبت العجز في هذه الصورة بالضرورة. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 136).
وبخدمةِ عبدٍ مستأجرٍ لها معينٌ، وعن ميْتٍ مُفلِس، وبلا قَبولِ الطَّالبِ في المجلس، إلاَّ إذا كَفِلَ عن مورِّثِهِ في مرضِهِ مع غيبةِ غرمائِه، وبمالِ الكتابةِ حرُّ تكفَّلَ به أو عبدٌ
(وبخدمةِ عبدٍ مستأجرٍ لها معينٌ): لما ذَكَرَ في الدَّابة.
(وعن ميْتٍ مُفلِس
(1)
)
(2)
، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه بناءً على أن ذمَّةَ الميْتِ قد ضَعُفَتْ، فلا يجبُ عليها إلاَّ بأن يَتَقَوَّى بأحدِ الأمرينِ:
إمَّا بأن يبقى منه مالٌ.
أو يبقى كفيلٌ كَفِلَ عنه في أيَّام حياتِه، فيكون الدين حينئذٍ ديناً صحيحاً، فيصحُّ الكفالة.
وعندهما: إذا ثَبَتَ الدَّينُ ولم يوجدْ مسقطٌ يكونُ ديناً صحيحاً فيصحُّ الكفالةَ.
(وبلا قَبولِ الطَّالبِ في المجلس)، وعند أبي يوسفَ
(3)
رضي الله عنه إذا بلغَهُ الخبر، وأجازَ جاز، وهذا الخلافُ في الكفالةِ بالنَّفسِ والمالِ معاً، (إلاَّ إذا كَفِلَ عن مورِّثِهِ في مرضِهِ مع غيبةِ غرمائِه)، صورتُهُ: أن يقولَ المريضُ لوارثِهِ في غيبةِ الغرماء: تكفَّلُ عنِّي بما عليَّ من الدينِ، فكَفِلَ جازَتْ، وإنِّما يصحُّ
(4)
؛ لأن ذلك في الحقيقةِ وصيّةٌ؛ ولهذا لا يشترطُ تسميةُ المكفولِ له.
(وبمالِ الكتابةِ حرُّ تكفَّلَ به أو عبدٌ)؛ لأنَّه دينٌ يَثْبُتُ مع المنافي، وإنِّما قال: حُرُّ
(1)
أي لم يترك مالاً ولا كفيلاً عنه وعليه دين، سواء كان الكفيل أجنبياً أو وارثاً. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 502).
(2)
قيِّدت المسألةُ بالكفالةِ بعد موتِه؛ لأنّه لو كَفِلَ في حياتِهِ ثمَّ ماتَ مُفلِساً لم تبطلِ الكفالة، وكذا لو كان به رهنٌ ثمَّ ماتَ مفلساً لا يبطلُ الرَّهن؛ لأنَّ سقوطَ الدَّينِ عنه في أحكام الدُّنيا ضرورةً، فيتقدَّرُ بقدرها، فأبقيناهُ في حقِّ الكفيلِ والرهن؛ لعدمِ الضَّرورة. ينظر:«البحر» (6: 253)
(3)
في «الدرر» (2: 301): إنَّ الفتوى على قولِ الثاني، وقال الطَّرسُوسيُّ في «أنفع الوسائل» (ص 276) بعد أن ذكرَ الخلافَ بين أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمّد رضي الله عنه، وبين أبي يوسفَ رضي الله عنه كما ذكرناه، والفتوى على قولهما، وفي «صحيح الشيخ قاسم» ، والمختارُ قولُهما عند المَحْبُوبيِّ والنَّسَفيّ وغيرهما. ينظر:«منح الغفار» (ق 2: 83/أ).
(4)
لأن المريضَ في هذا الخطاب لورثتِه قامَ مقامَ الطالب لحاجته إلى تفريغِ ذمّته بقضاءِ الدين من تركتِه، وفيه نفعٌ للطالبِ، فصارَ كما لو حضرَ الطالبُ بنفسِهِ وقَبِلَ كفالةَ الوارثِ عن مورِّثه، وإنما لم يحتج الى تجديد القبول؛ لأن قولَ المريضِ لوارثِه في هذه الحالة: تكفَّل عنِّي؛ لا يرادُ به المساومة، بل تحقيقُ الكفالة، ويجعل الأمر منها تحقيقاً لا مشورةً. ينظر:«كمال الدراية» (ق 502).
ولا يرجعُ أصيلٌ بألفٍ أدَّى إلى كفيلِه، وإن لم يعطِها طالبَه، وما رَبِحَ فيها الكفيلُ، فهو له، ولا يتصدَّقُ به، وربحُ كُرٍّ كفلَ به وقبضَهُ له، ورَدَّهُ إلى قاضيه أحبُّ
تكفَّلَ به أو عبدٌ؛ لرفعِ توهُّمِ أن كفالةَ العبدِ به ينبغي أن تصحَّ؛ لأنَّه لا يجوزُ ثبوتُ مثل هذا الدَّينَ عليه؛ لأنَّ العبدَ محلُّ الكتابةِ فخصَّهُ دفعاً لهذا الوهم.
(ولا يرجعُ أصيلٌ بألفٍ أدَّى إلى كفيلِه، وإن لم يعطِها طالبَه): أي إذا عجَّلَ الأصيلُ، فأدَّى المالَ
(1)
إلى الكفيلِ الذي كَفِلَ بأمرِهِ ليس له أن يستردَّها مع أن الكفيلَ لم يعطِها للطَّالبِ، كما إذا عجَّلَ أداء الزَّكاةِ للسَّاعي؛ لأنَّ الكفالةَ بأمرِ المكفولِ عنه انعقدت سبباً للدَّينينِ: دينِ الطَّالبِ على الكفيلِ، ودينِ الكفيلِ على المكفولِ عنه مؤجَّلاً إلى وقتِ أدائِه، فإذا وُجِدَ السَّببُ وعجَّلَ صحَّ الأداءُ، وملكَهُ الكفيلُ، فلا يستردُّهُ المكفولُ عنه، وهذا بخلافِ ما إذا أدَّاه على وجه الرِّسالة؛ لأنّه حينئذٍ تمحّضَ أمانةً في يدِه.
(وما رَبِحَ فيها الكفيلُ، فهو له، ولا يتصدَّقُ به): أي إذا عامل الكفيلُ في الألفِ التي أدَّى الأصيلُ إليه ورَبِحَ فيها، فالرِّبْحُ له حلالاً طيباً، لا يَجِبُ تَصَدُّقُه لِمَّا أنَّه ملكَهُ.
(وربحُ كُرٍّ كفلَ به وقبضَهُ له، ورَدَّهُ إلى قاضيه أحبُّ).
قولُهُ: وربحُ كُرٍّ مبتدأٌ.
وله: خبرُهُ.
أي إن كانت الكفالةُ له بكُرِّ حنطةٍ، فأدَّاهُ الأصيلُ إلى الكفيلِ، فباعَهُ الكفيل، ورَبِحَ فيه، فالرِّبحُ له، لكن ردّه إلى قاضيه، وهو الأصيلُ أحبُّ، لكنَّه تمكن فيه خبثٌ بسبِب أن للأصيلِ حقُّ استردادِه، على تقدير أن يقضي الأصيلُ الدَّينَ بنفسِه، فيكون حقُّ الأصيلِ متعلِّقاً به، فهذا الخبثُ يعملُ فيما يتعيَّن بالتَّعيينِ: كالكُرِّ بخلاف ما لا يتعيَّنُ بالتَّعيينِ:
(1)
أي على وجه القضاء بأن قال له: إنِّي لا آمن أن يأخذ منك الطالب حقَّه فأنا أقضيك المال قبل أن تؤدِّيه، بخلاف ما إذا دفعَ المال على وجه الرسالة، فقال الأصيلُ للكفيل: خذْ هذا المال وادفعْه إلى الطالب. حيث لا يصير المؤدِّى ملكاً للكفيل بل هو أمانة في يده، ولكن لا يكون للأصيل أن يستردَّه من يد الكفيل؛ لأنه تعلَّقَ بالمؤدَّى حقُّ الطالب، وهو بالاسترداد يريدُ إبطاله فلا يُمَكَّنُ منه ما لم يقبض دينَه كالمسألة الأولى، هذا إذا كان دفعه إلى الكفيل على وجهِ القضاء، أما إذا دفعَه على وجه الرسالة فله الاسترداد؛ لأنه حينئذٍ تمحض أمانةً في يده. ينظر:«المنح» (ق 2: 86/أ-ب)، و «الرمز» (2: 75 - 76)، و «التبيين» (4: 161 - 162)، و «الهداية» (3: 93)، و «الكفاية» (6: 320 - 321)، «حاشية يعقوب باشا» (ق 115/أ).
كفيلٌ أمرَهُ أصيلُهُ بأن يتعيَّنَ عليه ثوباً ففعلَ، فهو له، وما ربح بائعُهُ فعليه، ولو كَفِلَ بما ذابَ له، أو بما قَضَى له عليه، وغابَ أصيلُهُ، فأقام مُدَّعيه بيِّنةً على كفيلِهِ أن له على أصيلِهِ كذا ردَّتْ
كالدَّراهمِ والدَّنانير، كما في المسألةِ السَّابقة، وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وأمَّا عندهما: لا يكون الرَّدُّ إلى قاضيه أحبُّ إذ لا خبثَ فيه أصلاً.
(كفيلٌ أمرَهُ أصيلُهُ بأن يتعيَّنَ عليه ثوباً ففعلَ، فهو له): أي أمر الأصيلُ الكفيلَ بأن يشتري ثوباً بطريقِ العِينةِ، وبيعُ العِينةِ: أن يستقرضَ رجلٌ من تاجرٍ شيئاً، ولا يقرضُهُ قرضاً حسناً، بل يعطيه عيناً، ويبعها من المستقرضِ بأكثر من القيمة
(1)
، فالعينةُ مشتقةٌ من العينِ سمِّي بها؛ لأَنَّه إعراضٌ عن الدَّينِ إلى العينِ، فالأصيلُ أمر كفيلَهُ بأن يشتري ثوباً بأكثرَ من القيمةِ ليقضي به دينَهُ ففعل، فالثَّوبُ للكفيلِ؛ لأن هذه وكالةً فاسدةً
(2)
لعدمِ تعيُّن الثُّوبِ والثَّمن.
(وما ربح بائعُهُ فعليه): أي إذا اشترى الثَّوبَ بخمسةَ عشر، وهو يساوي عشرةَ، فباعَهُ بالعشرةِ، فالرِّبْحُ الذي حصلَ للبائعِ، وهو الخمسةُ التي صارتْ خسراناً على الكفيلِ، فعلى الكفيل؛ لأنَّ الوكالةَ لمَّا لم تصحَّ صارَ كأنَّه قال له: إن اشتريتَ ثوباً بشيءٍ، ثُمَّ بعتَهُ بأقلَّ من ذلك فأنا ضامنٌ لذلك الخسرانِ، فهذا الضَّمانُ ليس بشيءٍ.
(ولو كَفِلَ بما ذابَ له، أو بما قَضَى له عليه، وغابَ أصيلُهُ، فأقام مُدَّعيه بيِّنةً على كفيلِهِ أن له على أصيلِهِ كذا ردَّتْ)؛ لأنَّهُ إذا أقامَ البيِّنةَ أن له على أصيلِه، ولم
(1)
قال ابن الهمام في «فتح القدير» (6: 324) بعد أن ذكر عدّة صور يكون فيها بيع العينة: إن الذي يقع في قلبي أنه إن فعلت صورة يعودُ فيها إلى البائع جميع ما أخرجَه أو بعضَه كعود الثوبِ إليه قي الصورةِ المارّة، وكعود الخمسةِ في صورةِ إقراض الخمسةَ عشرَ، فيكره يعني تحريماً، فإن لم يعد كما إذا باعه المديون في السوق فلا كراهيّة فيه، بل خلاف الأولى، فإن الأجل قابلَه قسط من الثمن، والقرض غير واجب عليه دائماً، بل هو مندوب وما لم يرجع إليه العين التي خرجت منه لا يسمَّى بيع العِينة؛ لأنه من العين المسترجعة لا العين مطلقاً، وإلا فكلّ بيعٍ بيعُ العِينة. اهـ.
(2)
أمّا كونه وكالة؛ فلأنه أمرَه بالشراءِ على وجهٍ مخصوص، وأمّا فسادها؛ فلجهالة الثوب، فإن الثوب أجناسٌ مختلفةٌ ولم يعيِّن نوعاً منه؛ ولجهالةِ الثمن فإن بيعَ العِينه لا يتحقَّق إلاَّ بازدياد الثمن من قيمةِ السلعة، وتلك الزيادة مجهولة، فإن كان الدين معلوماً وقدر الدين مع تلك الزيادة ثمن السلعة فيكون الثمنُ مجهولاً. ينظر:«الزبدة» (3: 104).
وإن أقامَ بيَّنةً على أن له على زيدٍ كذا، وهذا كفيلُهُ بأمرِهِ قضى به عليهما، وفي الكفالةِ بلا أمرِهِ قضى على الكفيلِ فقط، ولو ضَمِنَ الدَّرَك بطلَ دعواهُ بعدَهُ
يتعرَّضْ لقضاءِ القاضي به لا يجبُ على الكفيل؛ لأنَّه كَفِلَ بما قضى القاضي به، ولم يوجدْ هذا في الكفالةِ بما قضى له عليه ظاهر، وكذا بما ذابَ له عليه؛ لأن معناه تقرَّرَ، وهو بالقضاء.
(وإن أقامَ بيَّنةً على أن له على زيدٍ كذا، وهذا كفيلُهُ بأمرِهِ قضى به عليهما)، هذا ابتداءُ مسألةٍ لا تعلُّقَ له بما سَبَقَ، وهو الكفالةُ بما ذابَ له، أو بما قضى له عليه، صورةُ المسألةِ أقامَ رجلٌ بيَّنةً أن له على زيدٍ ألفاً، وهذا كفيلُهُ بهذا المالِ بأمرِهِ قضى عليهما، ففي هذه الصورةِ
(1)
قد كَفِلَ بهذا المالِ من غيرِ التَّعرُّضِ لقضاءِ القاضي بخلافِ المسألةِ المتقدِّمةِ، فإذا قضى عليهما يكونُ للكفيلِ حقُّ الرُّجوعِ على الأصيلِ، وهذا عندنا، وعند زُفَرَ رضي الله عنه لا يَرْجِعُ عليه؛ لأنَّه لمَّا أنكرَ كان زعمُهُ أن هذا الحقَّ غيرُ ثابتٍ بل المدَّعي ظلمَهُ، فلا يكونَ له أن يظلمَ غيرَهُ. قلنا: الشَّرعُ كذَّبَهُ
(2)
فارتفعَ إنكارِهِ.
(وفي الكفالةِ بلا أمرِهِ قضى على الكفيلِ فقط): أي أقامَ البيِّنةَ على أنَّه كفيلُهُ بلا أمرِهِ يقضي القاضي بالمالِ على الكفيلِ فقط.
(ولو ضَمِنَ الدَّرَك بطلَ دعواهُ بعدَهُ)
(3)
: لأنَّه ترغيبٌ للمشتري في الشَّراءِ، فيكونُ بمَنْزلةِ الإقرارِ بملكِ البائع، فلا يصحُّ دعوى ملكيَّته.
(1)
في هذه المسألة قيودٌ معتبرةٌ:
الأوّل: أن الكفالة مقيّدةً بهذا المال.
والثاني: أن هذا المالَ المكفول به غيرُ مقيّدٍ بأنه قضى به على المكفول عنه بعد الكفالة، بل هو مال مطلق، وبهذا القدر تمتازُ هذه المسألةُ عن المسألةِ السابقة إذ المكفول بهذا مقيّدٌ بقضاءِ القاضي.
والثالث: أن هذه الكفالةَ مقيّدةٌ بأنّها بأمر الأصيل إذ الأمر يتضَّمن الإقرارَ بالمال فيصيرُ مقضياً عليه، وأمّا إذا لم يكن بأمره، فهي لا تتضمن الإقرار، فالقضاءُ على الكفيل لا يتضَمَّن القضاء على الأصيل. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 140).
(2)
وهذا كمَن اشترى شيئاً وأقرَّ أن البائعَ باعَ ملكَ نفسه، ثمّ جاء إنسانٌ واستحقَّه بالبيِّنه لا يبطلُ حقُّه في الرجوع على البائعِ بالثمن؛ لأنه صارَ مكذَّباً شرعاً. ينظر:«الكفاية» (6: 327 - 328).
(3)
صورته: أنه باع داراً فكفلَ رجلٌ للمشتري عن البائع بالدرك ـ وهو ضمان الثمن عند استحقاق المبيع ـ فكفالتُه تسليمٌ للمبيع، وإقرارٌ منه أنه لا حقّ له فيها حتى لو ادَّعى بعد ذلك أن الدار ملكَه، أو ادّعى فيها الشفعةَ، أو الإجارةَ لا تسمعْ دعواه؛ لأن الكفالةَ لو كانت مشروطةً فتمامه بقبوله، وهو شرط ملائم للعقد إذ الدرك يثبت بلا شرطِ الكفالة، فالشرطُ يزيده. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 105).
ولو شَهِدَ وخَتَمَ لا، قالوا: إن كُتِبَ في الصَّكِ باعَ مِلكَهُ أو بيعاً باتاً نافذاً، وهو كتبَ شَهِدَ بذلك بطلَتْ، ولو كتبَ شهادتَهُ على إقرارِ العاقدينِ لا.
[فصل في الضمان]
ولو ضَمِنَ العُهدةَ، أو الخلاصُ
(ولو شَهِدَ وخَتَمَ لا): وإنِّما قال: وختم لأنَّ المعهودَ في الزَّمانِ السَّابقِ كان الختمُ في الشَّهاداتِ صيانةً عن التَّغييرِ والتَّبديل.
(قالوا: إن كُتِبَ في الصَّكِ باعَ مِلكَهُ أو بيعاً باتاً نافذاً، وهو كتبَ شَهِدَ بذلك بطلَتْ): أي بطلَتْ دعواهُ بعد هذه الشَّهادةِ؛ لأنَّ شهادتَهُ يكونُ إقراراً بأنَّ البائعَ قد باعَ مِلكَهُ، أو باعَ بيعاً باتّاً نافذاً، فإذا ادَّعى الملكُ لنفسِهِ يكونُ مناقضاً
(1)
(ولو كتبَ شهادتَهُ على إقرارِ العاقدينِ لا)
(2)
: أي لا يبطلُ دعواهُ بعد هذه الكتابةِ؛ لعدمِ التَّناقضِ.
[فصل في الضمان]
(ولو ضَمِنَ العُهدةَ): أي اشترى رجلٌ ثوباً، فَضَمِنَ آخرُ بالعُهدة، فالضَّمانُ باطلٌ؛ لأنَّ العهدةَ قد جاءتْ لمعانٍ:
للصَّكِ القديمِ.
وللعقدِ وحقوقِه.
وللدَّرك.
فلا يثبتُ أحدُ المعاني بالشَّكِ.
(أو الخلاصُ): أي إذا ضَمِنَ الخلاصَ فلا يصحُّ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وهو أن يشترطَ أن المبيعَ إن استحقَّ يخلِّصَهُ ويسلِّم عينَهُ إليه بأيِّ طريقٍ كان، وهذا باطلٌ إذا لا قدرةَ له على هذا
(3)
.
(1)
بخلاف مجرَّدِ الكتابةِ في الصكّ؛ لأنه لا يتعلَّق به حكم وإنّما هو مجرَّدُ إخبار، ولو أخبرَ بأن فلاناً باعَ له شيئاً كان له أن يدَّعيه. ينظر:«التبيين» (4: 164).
(2)
لأنه مجرد إخبار فلا تناقض. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 141).
(3)
لأنه إن ظهر مستحقّاً فربّما لا يساعده المستحقُّ، أو حُرَّاً فلا يقدرُ مطلقاً، والتزام ما لا يقدر على الوفاءِ به باطل. ينظر:«الزبدة» (3: 106).
أو المضاربُ الثَّمنَ لربِّ المالِ، أو الوكيلُ بالبيعِ لموكِّلِه، أو أحدُ البائعينِ حصّةَ صاحبِهِ من ثَمنِ عبدٍ باعاهُ بصفقةٍ بطل، وبصفقتينِ صحَّ، كضمانِ الخراج والنَّوائبِ والقسمةِ
وعندهما يصحُّ، وهو محمولٌ على ضمانِ الدَّرَك
(1)
.
(أو المضاربُ الثَّمنَ لربِّ المالِ): أي باعَ المضاربُ، وضَمِنَ الثَّمنَ لربِّ المال. (أو الوكيلُ بالبيعِ لموكِّلِه): أي باعَ الوكيلُ وضَمِنَ للموكِّلِ الثَّمنَ، وإنِّما لا يجوزُ:
لأنَّ الثَّمنَ أمانةٌ عند المضاربِ والوكيل، فالضَّمانُ تغييرُ حكمِ الشَّرعِ.
ولأنَّ حقَّ المطالبةِ للمضارب والوكيل، فيصيرانِ ضامنينِ لنفسهما
(2)
.
(أو أحدُ البائعينِ حصّةَ صاحبِهِ من ثَمنِ عبدٍ باعاهُ بصفقةٍ بطل، وبصفقتينِ صحَّ): أي باعا عبداً صفقةً واحدةً، وضَمِنَ أحدُهما لصاحبِهِ حصّتَه من الثَّمنِ لا يصحَّ؛ لأنَّهُ لو صحَّ الضَّمانُ مع الشّركةِ يصيرُ ضامناً لنفسِه، ولو صحَّ في نصيبِ صاحبِهِ يؤدِّي إلى قسمةِ الدَّين قبل قبضِه، وذا لايجوزُ
(3)
بخلافِ ما لو باعاهُ بصفقتينِ، فإنَّه يصحُّ الضَّمانُ؛ لأنَّه لا شركة.
(كضمانِ الخراج
(4)
والنَّوائبِ
(5)
والقسمةِ): أي صحَّ ضمانُ هذه الأشياءُ.
أمَّا الخراجُ فقد مرَّ
(6)
.
(1)
وهو ضمان الثمن عند استحقاق المبيع، فجوازه عندهما محمول عليه؛ لأنهما فسرا الخلاص: أنه لو استحق المبيع فعليه شرؤه وتلسيمه إلى المشتري أو تخليصه إن قدر عليه ورد الثمن إن لم يقدر وهو ضمان الدرك في المعنى، أما لو ضمن تخليصَ المبيع أو ردَّ الثمن جاز عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنه ضمن ما يملكُ الوفاءُ به، وهو تسليمُ المبيع إن أجاز المستحقُّ المبيعَ وردَّ الثمن إن لم يجز. كذا في «رمز الحقائق» (2: 75).
(2)
أي لأن الكفالة التزام المطالبة، وهي إليهما فيصير كل واحد منهما ضامناً لنفسه إذا حقوق العقد ترجع إليهما فلا يفيد ضمانهما. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 140).
(3)
لأن القسمةَ عبارةٌ عن الإفرازِ والحيازة، وهو أن يصيرَ حقُّ كلّ واحدٍ منهما مفرزاً في حيزٍ على حدة، فهو لا يتصوَّر قي غير العين؛ لأن الفعل الحسيّ يستدعي محلاً حسيّاً، والدين حكمي، فلا يرد عليه الفصل الحسيّ، فإن لم تصحّ قسمتُه يكون كلُّ شيءٍ يودِّيه إلى شريكِهِ مشتركاً بينهما، فيرجعُ المؤدِّي بنصفِ ما أدَّى لكونه مشتركاً بينهما، ثم يرجع أيضاً بنصف الباقي إلى أن لا يبقى في يدِه شيء، فيؤدِّي تجويزَه ابتداءً إبطالَه انتهاءً. ينظر:«التبيين» (4: 160).
(4)
أي الخراج الموظّف. ينظر: «الرمز» (2: 77)، و «الفتح» (6: 332)، و «الكفاية» (6: 332).
(5)
النوائب: جمع نائبة، وهي النازلة. ينظر:«المصباح» (ص 629)
(6)
3: 88).
وإن قال: ضمنتُهُ إلى شهرٍ صُدَّقَ هو، وإن ادَّعى الطَّالبُ أنَّه حالٌّ
وأمَّا النَّوائبُ: فهي إمَّا بحقٍّ ككري النَّهْرِ، وأجرِ الحارس، وما يُوظَّفُ لتجهيزِ الجيشِ، وغيرُ ذلك، وأما بغير حقٍّ: كالجباياتِ في زماننا، والكفالةُ بالأولى صحيحةٌ اتِّفاقاً، وفي الثَّانيةِ خلافٌ
(1)
، والفتوى على الصِّحَّةِ
(2)
، فإنَّها صارتْ كالدِّيونِ الصَّحيحةِ حتَّى لو أخذتْ من الأكَّارِ
(3)
فله الرُّجوعُ على مالكِ الأرض.
وأمَّا القسمةُ فقد قيلَ: هي النَّوائبُ بعينها، أو الحصّةُ منها، وقيل: هي النائبةُ الموظَّفةُ الرَّاتبةُ، والنَّوائبُ هي غيرُ الموظَّفةِ، وأيَّا ما كان، فالكفالةُ بها صحيحة.
(وإن قال: ضمنتُهُ إلى شهرٍ صُدَّقَ هو، وإن ادَّعى الطَّالبُ أنَّه حالٌّ): أي قال الكفيلُ: كفلتُ بهذا المالِ لكن المطالبةَ بعد شهرٍ، وقال الطَّالب: لا بل على صفةِ الحلولِ، فالقولُ قولُ الكفيلِ مع الحلفِ، وهذا بخلافِ ما إذا أقرَّ بدينٍ مؤجَّلٍ، وقال
(1)
أي فيها اختلاف المشايخ:
فقال بعضُهم: لا تجوز الكفالة، ومنهم صدر الإسلام البَزْدَوِيّ رضي الله عنه؛ لأنها ضمُّ ذمّة إلى ذمّة في المطالبة أو الدين، وهاهنا لا مطالبة ولا دين شرعيان على الأصيل فلم يتحقَّق معناها.
وقال بعضُهم: تجوز؛ منهم فخرُ الإسلام البَزْدَوِى رضي الله عنه أخو صدر الإسلام رضي الله عنه المتقدِّم؛ لأنها في المطالبة مثل سائر الديون، بل فوقَها، والعبرةُ للمطالبة؛ لأنها شُرِعَت لالتزامهما، والمطالبة الحسيّة كالمطالبةِ الشرعيّة؛ ولذا قلنا مَن قام بتوزيع هذه النوائب على المسلمين بالقسط: أى العدل يؤجَّرُ وإن كان الآخذُ بالأخذِ ظالم. وقلنا: مَن قضى نائبةَ غيرِه بأمرِه رجعَ عليه، وإن لم يشترط الرجوع وهو الصحيح. كما في «الخانية» (3: 62) كمَن قضى دين غيره بأمره، وفي «العناية» (6: 332): قال شمسُ الأئمة رضي الله عنه: هذا إذا أمره به لا عن إكراه أما إذا كان مكرهاً في الأمر فلا يعتبرُ أمرُهُ بالرجوع.
(2)
قال في «البحر» (6: 260 - 261): ظاهر كلامهم ترجيحُ الصحّة في كفالةِ النوائب بغيرِ حقٍّ؛ ولذا قال في «ايضاح الإصلاح» (ق 106/أ): والفتوى على الصحّة، وفي «الخانية» (3: 62): الصحيح الصحة ويرجع على المكفول عنه إن كان بأمره. انتهى. وعليه مشى في «الاختيار» (2: 443)، و «المختار» (2: 443) و «الملتقى» (ص 126)، نعم صحَّح صاحبُ «الخانية» في شرحه على «الجامع الصغير» عدم الصحّة، وكذلك أفتى في «الخيرية» بعدم الصحّة مستنداً لما في «البزازية» (6: 14)، و «الخلاصة» من أنه قول عامة المشايخ، ولِمَا في «العمادية» من أن الأسير لو قال لغيره خلِّصني فدفع المأمور مالاً وخلَّصَه قال السَّرَخْسِيُّ يرجعُ، وقال صاحب «المحيط»: لا؛ وهو الأصح وعليه الفتوى. اهـ. وقال ابن عابدين في «رد المحتار» (5: 331): غاية الأمر أنهما قولان مصححان ومشى على الصحة بعضُ المتون وهو ظاهر إطلاق «الكَنْز» (ص 112) وغيره لفظ النوائب فكان أرجح.
(3)
الأكَّار: الفلاَّح. وأَكَرْت الأرضَ: حرثتها. ينظر: «المصباح» (ص 481).
ولا يؤخذُ ضامنُ الدَّرَكِ إن استحقَّ المبيعَ ما لم يقضِ بثمنِهِ على بائعِهِ.
[فصل في كفالة الرجلين]
دينٌ على اثنينِ كَفِلَ كلٌّ عن الآخرِ، لم يرجعْ على شريكِهِ إلاَّ بما أدَّى زائداً على النَّصف
المقرُّ له: لا بل هو حالٌ، فالقولُ للمقرِّ له.
والفرقُ: أنَّه إذا أقرَّ بالدَّينِ، ثم ادَّعى حقَّاً له، وهو تأخيرُ المطالبة، والمقرُّ له منكرٌ، فالقولُ قولُه بخلافِ الكفالة، فإنَّه لا دينَ فيها، فالطَّالبُ يدَّعي أنَّه مطالبٌ في الحال، والكفيلُ يُنْكِرُه
(1)
.
(ولا يؤخذُ ضامنُ الدَّرَكِ إن استحقَّ المبيعَ ما لم يقضِ بثمنِهِ على بائعِهِ)، إذ بمجرَّدِ الاستحقاقِ لا ينتقضُ البيعُ في ظاهرِ الروايةِ ما لم يقضِ بالثَّمنِ على البائع، فلم يجبْ على الأصيلِ ردُّ الثَّمن فلا يجبُ على الكفيل.
[فصل في كفالة الرجلين]
(دينٌ على اثنينِ
(2)
كَفِلَ كلٌّ عن الآخرِ، لم يرجعْ على شريكِهِ إلاَّ بما أدَّى زائداً على النَّصف)، اشتريا عبداً بألفٍ وكفلَ كلٌّ منهما عن صاحبِهِ بأمرِهِ للبائع، فكلُّ ما أدَّاه أحدُهما لا يرجعُ به على صاحبِهِ إلاَّ أن يكونَ زائداً على النِّصف؛ لأن
(1)
توضيحُه: أن المقرَّ بالدين أقرَّ بما هو سببُ المطالبة في الحال، إذ الظاهر أن الدينَ كذلك؛ لأنه إنّما يثبتُ بدلاً عن قرضٍ أو إتلافٍ أو بيعٍ ونحوه، والظاهرُ أن العاقلَ لا يرضى بخروجِ مستحقِّه في الحال إلا ببدل في الحال، فكان الحلولُ الأصلَ، والأجلُ عارضٌ، فكان الدينُ المؤجَّلُ معروضاً بعارض لا نوعاً، ثم ادَّعى لنفسه حقّاً، وهو تأخير المطالبة والآخر ينكره. وفي الكفالة ما أقرّ بالدين على ما هو الأصحّ، بل بحقِّ المطالبةِ بعد شهر، والمكفولُ له يدَّعيها في الحال، والكفيلُ ينكرُ ذلك، فالقولُ له؛ وهذا لأنّ التزامَ المطالبةِ يتنوعُ إلى التزامِها في الحال، أو في المستقبل كالكفالة بما ذاب أو بالدَّرَك، فإنّما أقرَّ بنوع منها، فلا يلزم بالنوع الآخر. ينظر:«الفتح» (6: 334 - 335).
(2)
إشارةٌ إلى استواءِ الدينين صفةً وسبباً، فلو اختلفا صفةً كان ما على أحدِهما مؤجّلاً وما على صاحبِه حالاً، فإن أدّى صحَّ تعيُّنه على شريكه، ورجعَ به عليه، وعلى عكسه لا يرجع؛ لأن الكفيلَ إذا عجَّلَ ديناً مؤجّلاً ليس له الرجوع على الأصيل قبل الحلول، ولو اختلفا سبباً كإن كان على أحدِهما فرضاً وما على الآخر ثمن مبيع، فإنّه يصحُّ تعيين المؤدَّى؛ لأن النية في الجنسين المختلفين معتبرةٌ، وفي الجنس الواحد لغوٌ. ينظر:«الفتح» (6: 237 - 238)، و «البحر» (6: 262).
ولو كفلا بشيءٍ عن رجلٍ، وكفلَ كلٌّ به عن صاحبِهِ رَجَعَ عليه بنصف ما أدَّى وإن قلَّ، وإن أبرأَ الطَّالبُ أحدَهما أخذَ الآخرَ بكلِّه
وقوعَ المؤدَّى عمَّا عليه أصالةً أولى من وقوعِهِ عمَّا عليه كفالة.
(ولو كفلا بشيءٍ عن رجلٍ، وكفلَ كلٌّ به عن صاحبِهِ رَجَعَ عليه بنصف ما أدَّى وإن قلَّ)، على رجلٍ ألفٌ فكَفِلَ كلُّ واحدٍ من شخصينِ آخرين عن الأصيلِ بهذا الألف، ثم كَفِلَ كلُّ واحدٍ من الكفيلينِ عن صاحبِهِ بأمره بهذا الألف، فكلُّ ما أدَّاه أحدُهما وإن قلَّ رجعَ على الآخرِ بنصفِهِ بخلافِ الصَّورةِ الأُولَى، فإن الأصالةَ تُرَجَّح على الكفالة، أمَّا هاهنا فالكلُّ كفالةٌ فلا رُجْحانِ.
وقال في «الهداية»
(1)
: الصَّحيحُ أنَّ صورةَ المسألةِ على هذا الوجه احترازٌ عمَّا إذا كفلا بألفٍ حتَّى كان الألفُ منقسماً عليهما نصفينِ، ثُمَّ كَفِلَ كُلُّ واحدٍ منهما عن صاحبِهِ بأمرِهِ، ففي هذه الصورةِ لا يرجعُ على شريكِهِ إلا بما زادَ على النَّصف.
أقولُ: في هذه الصَّورةِ كلُّ ما أدَّاه ينبغي أن يرجعَ بنصفِهِ على شريكِهِ؛ لأنَّهُ لمَّا لم يكنْ لإحدى الكفالتينِ رُجْحانٌ على الأخرى، فكلُّ ما أدَّاه يكونُ منهما، فيجبُ أن يرجعَ بنصفِ ما أدَّى، فلا فرقَ بينَ هذه الصُّورةِ والصُّورةِ التي خصَّها بالصِّحَّة
(2)
.
(وإن أبرأَ الطَّالبُ أحدَهما أخذَ الآخرَ بكلِّه)؛ لأنَّ وضعَ المسألةِ فيما إذا كَفِلَ كلٌّ منهما بالألفِ عن الأصيلِ، ثم كَفِلَ كُلٌّ منهما بالألفِ عن صاحبه، فإذا أبرأَ أحدَهما بقي كفالةُ الآخرِ بكلِّ الألفِ، وفي الصُّورةِ التي احترزَ بالصِّحَّةِ عنها إذا أبرأَ أحدَهما يبقى الكفالةُ للآخر بخمسمئةٍ.
(1)
سيذكر الشارح رضي الله عنه ما فهمه من عبارة «الهداية» (3: 97) والتي نصُّها: ومعنى المسألة في الصحيح أن يكون الكفالةُ بالكلِّ عن الأصيل، وبالكلِّ عن الشريك، والمطالبةُ متعدِّدة، فيجتمعُ الكفالتان على ما مرَّ، وموجبها التزام المطالبة، فتصحُّ الكفالة عن الكفيل كما تصحُّ الكفالة عن الأصيل، وكما تصحُّ الحوالةُ عن المحتال عليه، وإذا عرف هذا فما أدَّاه أحدُهما وقع شائعاً عنهما إذ الكلُّ كفالةٌ فلا ترجيحَ للبعض على البعض بخلاف ما تقدَّم، فيرجعُ على شريكِه بنصفِه، وإلاَّ يؤدِّي إلى الدور؛ لأن قضيته الاستواء، وقد حصلَ برجوعِ أحدِهما بنصف ما أدَّى فلا ينقضُ برجوعِ الآخر عليه بخلاف ما تقدم. اهـ.
(2)
ما توصَّل إليه الشارح رضي الله عنه خلاف ما نصَّ عليه صاحب «الدرر» (2: 306)، و «الكفاية» (6: 338 - 339)، و «التبيين» (4: 168)، و «الايضاح» (ق 106/أ)، و «الرمز» (2: 78)، و «العناية» (6: 338)، إذ قالوا: أنها تكون كالمسألة الأولى، فلا يرجع على شريكه بما أدى ما لم يزد على النصف.
ولو فسختِ المفاوضةُ أخذَ ربُّ الدَّينِ أيّاً شاءَ من شريكيها بكلِّ دينِهِ، ولم يرجعْ أحدُهما على صاحبِهِ إلاَّ بما أدَّى زائداً على النِّصفِ
(ولو فسختِ المفاوضةُ أخذَ ربُّ الدَّينِ أيّاً شاءَ من شريكيها بكلِّ دينِهِ)؛ لما عُرِفَ أن شركةَ المفاوضةِ يتضمّنُ الكفالةَ، (ولم يرجعْ أحدُهما على صاحبِهِ إلاَّ بما أدَّى زائداً على النِّصفِ)؛ لِمَا عرفتَ أن جهةَ الأصالةِ راجحةٌ على جهةِ الكفالة.
أقولُ
(1)
: في هذه المسألةِ إشكالٌ وهو أن أحدَ المفاوضينَ إذ اشترى شيئاً، ثمَّ فسخا المفاوضةَ، فالبائعُ إن طَلَبَ الثَّمنَ من مشتريِه، فلا تعلُّقَ لهذه المسألةِ بمسألةِ الكفالة، بل المشتري في النِّصفِ أصيلٌ، وفي النِّصف
…
(2)
وكيل، فكلُّ ما أدَّى ينبغي أن يرجعَ بنصفِهِ على الشَّريكِ؛ لأنَّه اشترى العبدَ صفقةً واحدةً، فصارَ الثَّمنُ ديناً عليه، ولا يُمْكِنُ قسمتُهُ، فكلُّ ما يؤدِّيه الأصيلُ، يؤدِّيه منه ومن شريكِه، فيرجعُ عليه بالنِّصف.
وإن طَلَبَ البائعُ الثَّمنَ من شريكِهِ يكونُ ذلك بسببِ أن المفاوضةَ تضمَّنَتِ الكفالة، فيكون كفيلاً في الكلِّ إلا أن كفالتَهُ في النِّصفِ الذي هو ملكُ العاقدِ تمحَّضَتْ كفالةً، وفي النصفِ الذي هو ملكُهُ أصيلٌ من وجهٍ وكفيلٌ من وجهٍ، فبالنَّظرِ إلى أن حقوقَ العقدِ راجعةٌ إلى الوكيل، يكونُ الشَّريكُ كفيلاً للثَّمن، فمطالبةُ الثَّمنِ يَتَوجَّه إليه بحكمِ الكفالة، وبالنَّظرِ إلى أن المِلكَ في هذا النَّصفِ وَقَعَ له، فيكونُ في أداءِ نصفِ الثَّمنِ
(1)
هنا كلام من وجوه:
الأول: أنه يجوزُ أن يشتريا معاً صفقةً واحدةً وحينئذٍ لا إشكال كما لا يخفي على المتدبِّر، فليحمل مسألة المتن على هذه الصورة.
الثاني: أنه يلزمُ قسمة الدين قبل القبض في الصورة الثانية؛ لأن غيرَ العاقد كَفِلَ جميعَ الدين الذي على العاقد، فعندما أدَّى يكون المؤدَّى على العاقد، وهو مشتركٌ بين الشريكين على مقتضى تقديره، كما لا يخفي.
الثالث: إن الدين الذي على العاقدِ إمّا أن يكون مشتركاً أو خاصّة له، فعلى الثاني لا يصحّ قوله: فكلُّ ما يؤدِّى يؤدِّيه منه ومن شريكه، وعلى الأَوَّل: لا يصحُّ اعتبار الكفالة؛ لأنها إمّا أن يصحّ مع الشركة، فليزم أن يكون كفيلاً عن نفسه، وإمّا مع القسمة فيلزم قسمة الدين قبل القبض. فليتأمل. ينظر:«حاشية يعقوب باشا» (ق 116/أ).
(2)
في م زيادة: الآخر.
عبدانِ كوتبا بعقدٍ واحدٍ، وكَفِلَ كلٌّ عن صاحبِهِ، رجعَ كلٌّ على الآخرِ بنصفِ ما أدَّاهُ.
[فصل في كفالة العبد وعنه]
فإن أَعتقَ السَّيدُ أحدَهما قبل الأداءِ صحَّ، وله أن يأخذَ حصَّةَ مَن لم يعتقْهُ منه أصالةً ومن الآخرِ ضماناً، ورجعَ المعتَقُ على صاحبِهِ بما أَدَّى عنه لا صاحبَهُ عليه بما أدَّى عن نفسِهِ، ومالٌ لا يَجِبُ على عبدٍ حتَّى يُعْتِقَ حالٌّ على مَن كَفِلَ به مطلقةً
أصيلاً، فما أدَّاه يكونُ راجعاً إلى هذا النِّصفِ فلا يرجعُ إلى العاقد، وفيما زادَ على النِّصفِ يرجع.
(عبدانِ كوتبا بعقدٍ واحدٍ، وكَفِلَ كلٌّ عن صاحبِهِ
…
(1)
، رجعَ كلٌّ على الآخرِ بنصفِ ما أدَّاهُ): أي عبدانِ قال لهما المولى: كاتبتُكما بالألفِ إلى سنةٍ، وقبلا، وكَفِلَ كُلٌّ عن صاحبِهِ، فكلُّ ما أدَّاهُ أحدُهما رجعَ على الآخرِ بنصفِ ما أدَّى.
وإنِّما قيَّدَ بعقدٍ واحدٍ؛ حتَّى لو كاتبَهما بعقدينِ فالكفالة لا تصحُّ أصلاً، أمَّا إذا كانت بعقدٍ واحدٍ لا تصحُّ قياساً؛ لأنَّه كفالةٌ ببدلِ الكتابة، وتصحُّ استحساناً بأن يُجْعَلَ كلٌّ منهما أصيلاً في حقِّ وجوبِ الألفِ عليه، ويكونُ عتقهما معلَّقاً بأدائِه، ويُجْعَلُ كفيلاً بالألفِ في حقِّ صاحبِه، فما أدَّاهُ أحدُهما يَرْجِعُ بنصفِهِ على الآخرِ لاستوائِهما.
[فصل في كفالة العبد وعنه]
(فإن أَعتقَ السَّيدُ أحدَهما قبل الأداءِ صحَّ، وله أن يأخذَ حصَّةَ مَن لم يعتقْهُ منه أصالةً ومن الآخرِ ضماناً
(2)
، ورجعَ المعتَقُ على صاحبِهِ بما أَدَّى عنه لا صاحبَهُ عليه بما أدَّى عن نفسِهِ)
(3)
؛ لأنَّ المالَ في الحقيقةِ مقابلٌ برقبتهما، وإنِّما جُعِلَ على كلٍّ منهما تصحيحاً للكفالة.
(ومالٌ لا يَجِبُ على عبدٍ حتَّى يُعْتِقَ
(4)
حالٌّ على مَن كَفِلَ به مطلقةً)، أقرَّ عبدٌ
(1)
في ص زيادة: فكل ما أدى أحدهما
(2)
أي للمولى أن يأخذ حصّة مَن لم يعتق منه بطريق الأصالة منه، أو من المعتق بطريق الكفالة؛ لأنه كفيل عن صاحبه. ينظر:«شرح ابن ملك» (ق 189/أ)
(3)
أي إن أخذ المولى حصة الآخر من المعتق رجع المعتق بما يؤدي على الآخر؛ لأنه مؤدى عنه بأمره فإن أخذ الآخر لم يرجع على المعتق بشيء؛ لأنه أدَّى عن نفسِهِ. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 145).
(4)
وهو دين لم يظهر في حقِّ المولى كما إذا لزمه بإقراره أو استقراضه أو وطئه بشبهة أو استهلاكه وديعة، فإنها لا تظهر في حقِّ المولى، بل يؤخذ بها العبد بعد عتقه. ينظر:«درر الحكام» (2: 307).
ولو أدَّى رجعَ عليه بعد عتقِه، ولو ماتَ عبدٌ مكفولٌ برقبتِه، وأقيمَ بيِّنةٌ أنَّه لمدَّعيهِ ضَمِنَ كفيلُهُ قيمتَه، فإن كَفِلَ سيِّدٌ عن عبدِه، أو هو غيرُ مديونٍ عن سيِّدِه، فعتُقَ فما أدَّى كلٌّ لا يرجعُ على صاحبِه
محجورٌ بمال، فالمالُ لا يَجِبُ عليه إلاَّ بعد العتقِ، وإن كَفِلَ به حُرٌّ كفالةً مطلقةً: أي لم يتعرَّضْ للحلولِ والتَّأجيلِ يَجِبُ عليه حالاً؛ لأنَّ المانعَ من الحلولِ في ذمّةِ العبد أنَّه معسرٌ؛ لأنَّ جميعَ ما في يدِهِ لمولاه، ولا مانعَ في الكفيل، (ولو أدَّى رجعَ عليه بعد عتقِه): أي إن أدَّى الكفيلُ، وكانت الكفالةُ بأمرِ العبدِ رجعَ عليه بعد عتقِهِ.
(ولو ماتَ عبدٌ مكفولٌ برقبتِه، وأقيمَ بيِّنةٌ أنَّه لمدَّعيهِ ضَمِنَ كفيلُهُ قيمتَه)، رجلٌ ادَّعى رقبةَ عبدٍ، فكَفِلَ آخرُ برقبتِه، فماتَ العبدُ، فأقام المدَّعي بيِّنةً أنَّه له ضَمِنَ الكفيلُ قيمتَهُ؛ لأنَّ الواجبَ على ذي اليد ردُّهُ على وجهٍ تخلفه قيمتُه، فالكفيلُ إذا كَفِلَ فالواجبُ عليه ذلك بخلافِ ما إذا ادَّعى مالاً على العبدِ فكفلَ آخرٌ برقبةِ العبدِ فماتَ العبدُ فلا شيءَ على الكفيل
(1)
.
(فإن كَفِلَ سيِّدٌ عن عبدِه، أو هو غيرُ مديونٍ عن سيِّدِه، فعتُقَ فما أدَّى كلٌّ لا يرجعُ على صاحبِه)؛ لأنَّ الكفالةَ وقعتْ غيرُ موجبةٍ للرجوعِ
(2)
؛ لأنَّ أحدَهما لا يستوجبُ ديناً على الآخر، وعند زفرٍ رضي الله عنه إن كانتْ الكفالةُ بالأمرِ يثبتُ الرُّجوعُ؛ لأن المانعَ قد زالَ، وهو الرِّقُّ، وإنِّما قال غيرُ مديونٍ: ليصحَّ كفالتُه، فإنَّ المولى إن أمرَ العبدَ المديونِ بالكفالةِ عنه لا يصحُّ الكفالة.
(1)
بيانه: إن الكفيلَ قد كَفِلَ عن ذي اليد بتسليم رقبة العبد؛ لأن المدَّعي يدَّعي غصب العبد على ذي اليد، والكفالة بالأعيان المضمونةِ بنفسها جائزةٌ على ما سبق تحقيقه، فيجب على الكفيل ردُّ العين، فإن هلكت يجبُ عليه قيمتُها، فكذا على الكفيل إذا أثبت المدَّعي بالبيِّنة أن العبدَ ملكَه لكون الكفيل قائماً مقام الأصيل، بخلاف ما إذا ادَّعى أحدٌ على العبدِ مالاً، فكَفِلَ رجلٌ آخر برقبة العبد، فمات العبد قبل التسليم إلى المدَّعي، فلا يلزم شيء على الكفيل؛ لأن الكفيلَ تكَفَّل عن العبد بتسليم نفسه، فإذا ماتَ العبد وهو المكفول به برئ هو، وبراءتُه توجبُ براءةَ الكفيل، كما إذا المكفول بنفسه حُرَّاً حيث يبرأُ الكفيل ببراءة الأصيل، فكذا هاهنا أيضاً. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 145)، و «درر الحكام» (2: 307).
(2)
أي كما لو كفل رجل عن رجل بغير أمره فأجاز الكفالة لم تكن كفالته موجبة للرجوع. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 145).
كتاب الحوالة
هي تصحُّ بالدَّينِ برضاءِ المحيل، والمحتال، والمحتالِ عليه، وإذا تَمَّتْ برئَ المحيلُ من الدَّينِ بالقبول، ولم يَرْجِعْ عليه المحتالُ، إلاَّ إذا تَوَى حقُّهُ بموتِ المحتالِ عليه مُفْلِساً، أو
كتاب الحوالة
(هي تصحُّ بالدَّينِ برضاءِ المحيل، والمحتال، والمحتالِ عليه)، الحوالةُ: نقلُ الدَّينِ من ذمَّةٍ إلى ذمَّة.
قولُهُ بالدين: أي دينُ المحتالِ على المحيل.
هذا الذي ذَكَرَهُ روايةُ «القُدُورِيّ»
(1)
، وفي روايةِ «الزِّياداتِ»: تصحُّ بلا رضى المحيل
(2)
.
وصورتُهُ: أن يقولَ رجلٌ للطالبِ إن لكَ على فلانٍ كذا، فاحتَلْهُ عليَّ، فرضيَ بذلك الطَّالبُ، صحَّتِ الحوالةُ، وبرئَ الأصيل.
وصورةٌ أُخْرَى: كَفِلَ رجلٌ عن آخر بغيرِ أمرِهِ بشرطِ براءةِ الأصيلِ، أو قَبِلَ المكفولُ ذلك صحَّتِ الكفالةُ، ويكون هذه الكفالةُ حوالةً، كما أن الحوالةَ بشرطِ أن لا يَبْرَأ الأصيلُ كفالةً.
(وإذا تَمَّتْ برئَ المحيلُ من الدَّينِ بالقبول، ولم يَرْجِعْ عليه المحتالُ): أي لم يَرْجِعْ المحتالُ بدينِهِ على المحيلِ، (إلاَّ إذا تَوَى
(3)
حقُّهُ بموتِ المحتالِ عليه مُفْلِساً، أو
(1)
مختصر القدوري» (ص 57).
(2)
وإنما يشترط للرجوع عليه، أو لسقوط دينه على المحتال عليه؛ لأن الحوالة فيها نفعه، وهو سقوط ما عليه من الدين فصار كالمكفول عنه، حيث تصح الكفالة بلا رضاه. ينظر:«فتح باب العناية» (3: 509).
(3)
تَوَى: هَلَك. ينظر: «المصباح» (ص 79)
حَلْفُهُ مُنْكِراً حوالةً لا بيِّنة عليها، وقالا: أو بانَ فَلَسَهُ القاضي، وتصحُّ: بدراهمِ الوديعةِ، ويبرأُ بهلاكِها
حَلْفُهُ مُنْكِراً حوالةً لا بيِّنة عليها، وقالا: أو بانَ فَلَسَهُ القاضي)
(1)
، فإنَّ تفليسَ القاضي معتبرٌ عندهما وعند الشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه، وعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه لا، إذ لا وقوفَ لأحدٍ على ذلك إلا بالشهادة، فالشَّهادةُ على أن لا مال له شهادةٌ على النَّفي
(3)
.
(وتصحُّ:
بدراهمِ الوديعةِ
(4)
، ويبرأُ بهلاكِها): أي يَبْرأُ المؤدِّي، وهو المحتالُ عليه من الحوالةِ بهلاكِ الوديعةِ في يدِه.
(1)
أي يرجع المحتال على المحيل في حالتين عند الإمام وثلاث حالات عند الصاحبين والشافعي، والحالتان هما:
أحد الأمرين عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وأحد الأمورِ الثلاثةِ عند صاحبيه، أمّا الأمران:
أحدهما: موتُ المحتالِ عليه مفلساً بأن لم يتركْ مالاً عيناً ولا ديناً ولا كفيلاً، والمرادُ بالعين: ما يفي بالمحال به، وكذا يقال في الدَّين، ولا بدَّ في الكفيل أن يكون كفيلاً بجميعه، فلو كفل البعض فقد توى الباقي، كما صرَّحوا به، والمرادُ بالدَّين ما يمكن أن يثبتُ في الذمَّة، فيشمل: النقود، والمكيلات، والموزونات.
والثاني: أن يجحدَ المحالُ عليه الحوالة، ويحلفُ ولا بيَّنةَ للمحيلِ ولا المحتالِ على المحتال عليه، فإنَّ هلاكَ دينِ المحتالِ يتحقَّقُ بكلِّ واحدٍ من الموتِ والحلف المذكورين، ولو اختلفا، فقال المحتال: مات مفلساً، وقال المحيل بخلافِه، فالقول للمحتال مع اليمينِ على العلم؛ لأنّه متمسِّكٌ بالأصلِ وهو العسرة، كما لو كان حيّاً وأنكر اليسر.
وأمّا الأمورُ الثلاثةِ التي يثبتُ التَّوَى بأحدِها عند صاحبيه، فالإثنان منها ما مرّ، وأمّا الثالث: فهو أن يفلسَه القاضي: أي يحكم بإفلاسه في حياته. ينظر: «كمال الدراية» (ق 505). «المبسوط» (20: 49). «الفتاوى العالمكيريّة» (3: 297). «المنح» (ق 2: 91/ب). «الفتح» (6: 351).
(2)
ينظر: «المنهاج» وشرحه «مغني المحتاج» (2: 195).
(3)
أي لأنّه عجزَ عن ذلك عجزاً يتوهَّمُ ارتفاعَهُ بحدوثِ مالٍ له، فلا يعودُ بتفليسِ القاضي على المحيل؛ ولأنَّ المال غادٍ ورائح، فقد يصبح الرَّجل غنيّاً ويمسي فقيراً وبالعكس. ينظر:«الزبدة» (3: 115).
(4)
يعني إذا أودعَ رجلٌ رجلاً ألفَ درهمٍ مثلاً، وأحالَ فيها عليه آخر صحَّتِ الحوالة؛ لأنّه أقدرُ على التسليم، وكانت أولى بالجواز. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 148).
وبالمغصوبةِ ولم يبرأْ بهلاكِها، وبالدَّين، فلا يطالبُ المحيلُ المحتالَ عليه مع أنَّ المحتالَ أسوةٌ لغرماءِ المحيلِ بعد موتِهِ، وفي المطلقةِ له الطَّلبُ من المحتالِ عليه، ولم تبطلْ بأخذِ ما عليه أو عنده
(وبالمغصوبةِ ولم يبرأْ بهلاكِها)
(1)
: أي لم يبرأْ الغاصبُ بهلاكِ الدَّراهمِ المغصوبة؛ لأنَّ القيمةَ تخلِفُها.
(وبالدَّين): أي بدينِ المحيلِ على المحتالِ عليه.
(فلا يطالبُ المحيلُ المحتالَ عليه)
(2)
؛ لأنَّه تعلَّق به حقُّ المحتال، (مع أنَّ المحتالَ أسوةٌ لغرماءِ المحيلِ بعد موتِهِ)، إنِّما قال هذا؛ لدفعِ تَوَهُّمِ أن المحتالَ لَمَّا كان أسوةً لغرماءِ المحيلِ بعد موتِهِ يكونُ حقُّ المحيلِ متعلِّقاً بذلك الدَّين، فينبغي أن يكونَ للمحيلِ حقُّ الطَّلبِ من المحتالِ عليه.
فالحاصلُ أنَّ الحوالةَ بالدَّينِ وإن كانت موجبةً لتعلُّقِ حقِّ المحتالِ بذلك الدَّين، لكنَّها أدنى مرتبةً من الرَّهنِ، حتَّى لا يكونَ المحتالُ أحقَّ به بعد موتِ المحيل.
(وفي المطلقةِ
(3)
له الطَّلبُ من المحتالِ عليه): أي إذا كانت الحوالةُ مطلقةً غيرَ مقيَّدةً بالوديعةِ، أو المغصوبِ، أو الدَّين، فللمحيلِ طلبُ الوديعةِ، والمغصوبِ، والدَّينِ من المحتالِ عليه.
(ولم تبطلْ بأخذِ ما عليه أو عنده): أي لم تبطل الحوالةُ بأخذِ المحيلِ ما على
(1)
أي وتصحّ الحوالةُ بالدراهم المغصوبة، فإذا هلكت لا تبطلُ الحوالة، ولا يبرأُ المحال عليه؛ لأنَّ الواجبَ على الغاصب ردُّ العين، فإن عجزَ عن ردِّ العينِ ردَّ المثلَ أو القيمة، فإذا هلكَ في يدِ الغاصب لا يبرأُ به؛ لأنَّ المغصوبَ يخلفُه القيمةُ، والفوات إلى خلف كعدمِ الفوات، فبقيت متعلِّقة بخلف فيرد خلفه على المحتالِ عليه. ينظر:«كمال الدراية» (ق 506).
(2)
في ب زيادة: لا. أي إذا قيدت الحوالة بالدين الخاص أو العين مثل الوديعة أو الغصب صحت وحكمها أن لا يطالب المحيل المحتال، وليس للمحتال عليه دفعها للمحيل، فلو دفع إليه ضمن. ينظر:«الدر المنتقى» (2: 149).
(3)
المطلقةُ: هي أن يقول المحيلُ للمطالب: أحلتُك بالألفِ التي لك على هذا الرجل، [و] لم يَقُلْ ليؤدِّيَها من المالِ الذي لي عليه، فلو لم يكن عنده وديعةٌ أو مغصوبةٌ أو دينٌ كان له أن يطالبَه به؛ لأنّه لا تعلّق للمحتال بذلك الدَّين أو العين؛ لوقوعِها مطلقةً عنه، بل بذمّةِ المحتالِ عليه، وفي الذمّة سعة، فيأخذُ دينَه أو عينَه من المحتالِ عليه لا تبطلُ الحوالة. ومن المطلقة: أن يحيلَ على رجلٍ ليس له عنده ولا عليه شيء. ينظر: «الفتح» (6: 355).
ولا يقبلُ قولُ المحيلِ للمحتالِ عليه عند طلبِهِ مثل ما أحال: أحلت بدينٍ كان لي عليكَ ولا قولَ المحتالَ للمحيلِ عند طلبِهِ ذلك أحلتني بدينٍ لي عليكَ، ويكرَهُ السُّفتَجة: وهي إقراضٌ لسقوطِ خطرِ الطَّريق
المحتالِ عليه، أو عندَهُ، وهو الدَّينُ، والمغصوبُ والوديعةُ سواءٌ كانتْ الحوالةُ مطلقةً أو مقيَّدةً، ففي المطلقةِ ظاهر، وأمَّا في المقيَّدة؛ فلأنَّ المحيلَ ليس له حقُّ الأخذِ من المحتالِ عليه، فإن دفعَ إليه المحتالُ عليه، فقد وقع ما تعلَّق به حقُّ المحتال، فيضمنُ المحتال عليه.
(ولا يقبلُ قولُ المحيلِ للمحتالِ عليه عند طلبِهِ مثل ما أحال: أحلت بدينٍ كان لي عليكَ): أي أحالَ رجلٌ رجلاً على آخرِ بمئة، فدفعَ المحتالُ عليه إلى المحتالِ، ثُمَّ طلبَ المحتالُ عليه تلك المئةِ من المحيلِ، فقال المحيلُ: إنِّما أحلتُ بمئة لي عليك، والمحتالُ عليه يُنْكِرُ أن عليه شيئاً يكونُ القولُ قوله لا للمحيل، ولا يكونُ قبولُ الحوالةِ إقراراً من المحتالِ عليه بمئةٍ؛ لأنَّ الحوالةَ تصحُّ من غيرِ أن يكونَ للمحيلِ على المحتالِ عليه شيءٌ.
(ولا قولَ المحتالَ للمحيلِ عند طلبِهِ ذلك أحلتني بدينٍ لي عليكَ): أي أحالَ فأخذَ المحتالُ المالَ من المحتالِ عليه، فطلبَ المحيلُ ذلك المالَ من المحتال، فقال المحتالُ للمحيل: قد أحلتَنِي بالدَّينِ الذي لي عليك، والمحيلُ يُنْكِرُ أن له عليه شيئاً، فالقولُ له لا للمحتال، ولا يكونُ الحوالةُ إقراراً من المحيلِ بالدَّينِ للمحتالِ على المحيلِ، فإنَّ الحوالةَ مستعملةٌ في الوكالةِ.
(ويكرَهُ السُّفتَجة: وهي إقراضٌ لسقوطِ خطرِ الطَّريق)
(1)
: في «المغربِ»
(2)
: السُّفتَجةُ: بضمِّ السَّينِ، وفتح التَّاءِ: أن يدفعَ إلى تاجرٍ مالاً بطريقِ الإقراضِ ليدفعَهُ إلى صديقِهِ في بلدٍ آخرَ، وإنِّما يقرضُهُ لسقوطِ خَطَرِ الطَّريقِ، وهي تعريبُ سفتة.
وإنِّما سمِّي الإقراضُ المذكورُ بهذا الاسم تشبيهاً بموضعِ الدَّراهمِ والدَّنانيرِ في السَّفاتج: أي في الأشياءِ المجوفةِ، كما يجعلُ العصا مجوفاً ويخبأُ فيه المالَ وإنِّما شُبِّه به؛ لأَنَّ كلاً منهما احتيالٌ لسقوطِ خطرٍ الطَّريقِ، أو لأنَّ أصلَها أن الإنسانَ إذا أرادَ السَّفرَ وله نقدٌ، أو أرادَ إرسالَهُ إلى صديقِهِ، فوضعَهُ في سفتجةٍ ثمَّ مع ذلك خافَ الطَّريقَ فأقرضَ ما في السُّفتَجةِ إنساناً آخرَ، فأطلقَ السُّفتَجة على إقراضِ ما في السُّفتَجة، ثُمَّ شاعَ في الإقراضِ لسقوطِ خطرِ الطَّريقِ.
(1)
ظاهرُ كلامِ «الكَنْز» (ص 114)، و «الملتقى» (ص 127)، و «التنوير» (ص 145) أنها مكروهاً مطلقاً، ولكن صاحب «التبيين» (4: 175)، و «الفتح» (6: 356)، و «الرمز» (2: 82)، و «حاشية رد المحتار» (3: 171) أنه إذا لم تكن المنفعةُ مشروطةً فلا بأس به.
(2)
المغرب» (ص 226)، وينظر:«المصباح» (ص 278).
كتاب القضاء
الأهلُ للشَّهادةِ أهلٌ للقضاءِ، وشرطُ أهليَّتِها شرط أهليَّته، والفاسقُ أهلٌ له، يصحُّ تقليدُهُ، ولا يقلَّد، كما صحَّ قبولُ شهادتِهِ، ولا تُقْبَلُ، ولو فَسَقَ العدلُ استحقَّ العزلَ في ظاهرِ المذهبِ، وعليه مشايخنا رضي الله عنهم، والاجتهادُ شرطٌ للأولوية، فلو قُلِّدَ جاهلٌ صحَّ، ويُختارُ الأقدرَ
كتاب القضاء
(الأهلُ للشَّهادةِ أهلٌ للقضاءِ، وشرطُ أهليَّتِها شرط أهليَّته، والفاسقُ أهلٌ له، يصحُّ تقليدُهُ، ولا يقلَّد)
(1)
: أي يَجِبُ أن لا يقلَّد حتَّى لو قُلِّد يأثمُ، (كما صحَّ قبولُ شهادتِهِ، ولا تُقْبَلُ)، بالمعنى المذكورِ.
(ولو فَسَقَ العدلُ استحقَّ العزلَ في ظاهرِ المذهبِ، وعليه مشايخنا رضي الله عنهم)
(2)
، وعند بعضِ المشايخ رضي الله عنهم يَنْعَزِل
(3)
.
(والاجتهادُ
(4)
شرطٌ للأولوية، فلو قُلِّدَ جاهلٌ
(5)
صحَّ، ويُختارُ الأقدرَ
(1)
أي يجب أن لا يقلَّد إذ لا يؤمنُ عليه؛ لقلِّة المبالاةِ بواسطة فسقه، حتى لو قلّد يأثم كما يصحّ قبولُ شهادتِه؛ لوجودِ أصل الأهليّة للشهادة، ولا تقبل لما ذكر، حتى لو قبلَ القاضي وحكمَ بها كان آثما، لكنّه ينفذ، كذا في «المنح» (ق 2: 94/أ)، وقال في «الدرر» (2: 404): هذا إذا غلب على ظنّه صدقه، وهو ممّا يحفظ.
(2)
أي صار فاسقاً بأخذِ الرشوةِ أو الزنا أو شرب الخمرِ أو غير ذلك بعد كونه عدلاً استحقَّ القاضي للعزل وجوباً: أي يجبُ على السلطان عزله. واستحقاق العزل ثابتٌ في ظاهر المذهب، وعليه مشايخنا البُحاريون والسَّمرقنديون. ينظر:«العناية» (6: 358)، و «الفتح» (6: 358).
(3)
أي بمجرد الفسق، واختاره الكرخي والطحاوي وعلي الرازي صاحب أبي يوسف رضي الله عنهم، وهو اختيار حسن لعدم ائتمان الناس على حقوق الناس. ينظر:«الشرنبلالية» (2: 404).
(4)
وأصح ما قيل في حدّ المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معانيه، وعلم السنة بطرقها ومتونها ووجوه معانيها، وكذا علم الآثار المنقولة عن الصحابة، وما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، وان يكون عالماً بالقياس وعرف الناس. ينظر:«فتح باب العناية» (3: 107 - 108).
(5)
لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحقّ إلى مستحقه. ينظر:«الهداية» (3: 101).
والأَوْلَى ولا يطلبُ القضاء، وصحُّ الدخولُ فيه لمن يَثِقُ عدلَهُ، وكُرِهَ لمن خافَ عجزه وحيفه. ومن قُلِّدَ سألَ ديوانَ قاضٍ قَبْلَهُ، وألزمَ محبوساً أقرَّ بحقٍّ لا مَن أنكرَ إلا ببيِّنةٍ وإن أخبرَ به المعزولُ، وإلا ينادي عليه، ثُمَّ يخلِّيه
والأَوْلَى) وعند الشَّافِعِيِّ
(1)
رضي الله عنه لا يصحُّ تقليدُ الفاسقِ والجاهل. واعلم أنَّه قد كان الاحتياطُ فيما قال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه لكن بحسب الزَّمانِ، لو شُرِطَ العلمُ والعدالةُ لارتفعَ أمرُ القضاءِ بالكليَّةِ، ووقعُ الشَّرِّ والفسادِ أعظمُ ممَّا احترزَ عنه.
(ولا يطلبُ القضاء
(2)
، وصحُّ الدخولُ فيه لمن يَثِقُ عدلَهُ، وكُرِهَ لمن خافَ عجزه وحيفه.
ومن قُلِّدَ سألَ ديوانَ قاضٍ قَبْلَهُ): وهي الخرائطُ التي فيها الصُّكوكُ، والسِّجلاتُ
(3)
، (وألزمَ محبوساً أقرَّ بحقٍّ لا مَن أنكرَ إلا ببيِّنةٍ وإن أخبرَ به المعزولُ)
(4)
؛ لأنَّه بالعزلِ التحقَ بواحدٍ من الرَّعايا، وشهادةُ الواحدِ لا تقبل، (وإلا ينادي عليه، ثُمَّ يخلِّيه): أي إن لم يقمْ البيِّنةَ على المحبوسِ المنكرِ يُنادى: إن كلَّ مَن له حقٌّ على فلانٍ ابن فلانٍ المحبوسِ فليحضرْ مجلسَ القاضي، فإن لم يحضرْ أحدٌ يخلِّيه، (وأخذ منه كفيلاً بنفسه فلعلَّه محبوسٌ بحقِّ غائبٍ)
(5)
.
(1)
ينظر: «التنبيه» (ص 152)، و «المنهاج» (4: 375)، و «فتوحات الوهاب» (5: 337)، و «التجريد لنفع العبيد» (4: 345)، وغيرها.
(2)
أي مَن صلح للقضاء ينبغي أن لا يطلب بقلبه ولا يسأله بلسانه، وأمّا إذا تعيَّن بأن لم يكنْ أحدٌ غيرُهُ يصلحُ للقضاء وجبَ عليه الطلبُ صيانةً لحقوق المسلمين ودفعاً لظلمِ الظالمين. ينظر:«البحر» (6: 297)، و «مجمع النهر» (2: 155).
(3)
المحضرَ والسجل: ما كُتِبَ فيه ما جرى بين الخصمين من إقرار أو إنكار، والحكم ببيّنةٍ أو نكولٍ على وجهٍ يرفع الاشتباه. والصكُّ: ما كُتِبَ فيه البيع والرهن، والإقرار وغيرها، والحجّة والوثيقة يتناولان الثلاثة. ينظر:«الدرر» (2: 415).
(4)
يعني نظر القاضي الجديد في حال المحبوسين الذين هم في سجنه؛ فيبعثُ ثقةً يحصيهم في السجن، ويكتب أسماءهم وأخبارَهم وسبب حبسهم، ومَن حبسهم، فمَن أقرَّ بحقٍّ أو قامت عليه بالحقِّ بيِّنة ألزمَه القاضي، ومَن أنكر ذلك الحقَّ الذي حبس به، وإن أخبر به القاضي المعزول، وقال: حبستُه بحقٍّ عليه، أو قال: كنت حكمتُ عليه لفلان بكذا إلاَّ إذا قامت البيِّنة على ذلك الحقّ. ينظر: «الزبدة» (3: 120).
(5)
زيادة من م.
وعملَ في الودائعِ وغلَّةِ الوقوفِ بالبيِّنةِ، أو بإقرارِ ذي اليدِ لا بقولِ المعزول إلاَّ إذا أقرَّ ذو اليدِ بالتسليم منه، ويجلسُ للحكمِ ظاهراً في المسجدِ والجامعُ أولى، ولو جلسَ في دارِهِ وأَذِنَ بالدُّخولِ جاز. ولا يقبلُ هديةً إلاَّ من ذي رحمٍ مُحَرَّمٍ منه، أو ممَّن اعتادَ مهاداتَهُ قَدْرَاً عُهِدَ إذا لم يكنْ لهما خصومة، ولا يَحْضُرُ دعوةً إلاَّ عامّةً
(وعملَ في الودائعِ وغلَّةِ الوقوفِ بالبيِّنةِ، أو بإقرارِ ذي اليدِ لا بقولِ المعزول): أي لا يقبلُ قولُ المعزولِ إن قالَ: هذا وديعةُ فلانٍ دفعتُها إلى هذا الرَّجلِ، وهو منكرٌ، (إلاَّ إذا أقرَّ ذو اليدِ بالتسليم منه)
(1)
: أي من القاضي المعزول.
(ويجلسُ للحكمِ ظاهراً في المسجدِ والجامعُ أولى): أي جلوساً ظاهراً، وهو الجلوسُ المشهورُ الذي يأتي النَّاسُ لقطعِ الخصوماتِ من غيرِ اختصاصِ بعضِ النَّاسِ بذلك المجلس، وعند الشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه يُكْرَهُ الجلوسُ به
(3)
في المسجد؛ لأنَّهُ قد يَحْضُرُ المشركُ والحائض، ولنا: جلوسُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (في المسجد)
(4)
، وأيضاً القضاءُ عبادةٌ ونجاسةُ المشركِ من حيث الاعتقاد، والحائضُ لا تدخلُ بل يفضَّلُ خصومتُها على بابِ المسجد
(5)
، (ولو جلسَ في دارِهِ وأَذِنَ بالدُّخولِ جاز.
ولا يقبلُ هديةً
(6)
إلاَّ من ذي رحمٍ مُحَرَّمٍ منه، أو ممَّن اعتادَ مهاداتَهُ قَدْرَاً عُهِدَ
(7)
إذا لم يكنْ لهما خصومة، ولا يَحْضُرُ دعوةً إلاَّ عامّةً): العامّةُ: هي
(1)
أي إلا أن يعترف الذي في يده أن القاضي سلَّمها إليه، فيقبل قول المعزول في الودائع وغلات الوقف؛ لأنه يثبت بإقراره أنه مودع القاضي ويد المودع كيده فصار كأنه في يده، فيقبل إقرار به، وتمامه في «الرمز» (2: 85).
(2)
ينظر: «المحلي» (4: 303)، و «نهاية المحتاج» (8: 254)، و «مغني المحتاج» (4: 390)، وغيره.
(3)
زيادة من أ.
(4)
زيادة من م.
(5)
فلا يمنعُ المشرك من دخولِهِ للقضاء؛ لأنَّ نجاسته نجاسة اعتقادٍ على معنى التشبيه، وأمّا الحائض فتخيَّر بحالها؛ ليخرجَ إليها القاضي، أو يرسلَ نائبه، كما لو كانت الدعوى في دابّة. ينظر:«حاشية الطَّحْطَاويُّ» (3: 183).
(6)
وذكر الهدية ليس احترازيّاً إذ يحرمُ عليه الاستقراضُ والاستعارةُ ممَّن يحرمُ عليه قَبول هدية. ينظر: «الخانية» (2: 363)، و «البحر» (6: 304 - 305).
(7)
فلو زادَ لا يقبلُ الزيادة، وذكرَ فخرُ الإسلام رضي الله عنه: إلاَّ أن يكون مالُ المهدي قد زاد، فبقدرِ ما زادَ ماله، إذا زادَ في الهديةِ لا بأس بقبولها. ينظر:«الفتح» (6: 372).
ويشهدُ الجنازة، ويعودُ المريض، ويسوِّي بين الخصمين جلوساً وإقبالاً، ولا يسارّ أحدهما، ولا يضيِّفُهُ، ولا يضحكُ، ولا يمزحُ معه، ولا يشيرُ إليه، ولا يُلَقِّنُهُ حجَّةً، وكُرِهَ تلقينُ الشَّاهدِ بقولِهِ أتشهد بكذا وكذا، واستحسنَهُ أبو يوسفَ رضي الله عنه فيما لا تهمةَ فيه.
[فصل في الحبس]
ويُحْبَسُ الخصمُ مدَّةً رآها مصلحةً في الصَّحيح
التي يتَّخذها النَّاس
(1)
وان لم يحضرْ القاضي، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه الخاصةُ إن كانت من قريبِهِ يجيبُهُ كالهدية.
(ويشهدُ الجنازة، ويعودُ المريض، ويسوِّي بين الخصمين جلوساً وإقبالاً، ولا يسارّ أحدهما، ولا يضيِّفُهُ، ولا يضحكُ، ولا يمزحُ معه، ولا يشيرُ إليه، ولا يُلَقِّنُهُ حجَّةً، وكُرِهَ تلقينُ الشَّاهدِ بقولِهِ أتشهد بكذا وكذا، واستحسنَهُ أبو يوسفَ رضي الله عنه فيما لا تهمةَ فيه
(2)
(3)
)
(4)
؛ وذلك فيما لا يستفيدُ بتلقينِهِ زيادة علم.
[فصل في الحبس]
(ويُحْبَسُ الخصمُ
(5)
مدَّةً رآها مصلحةً في الصَّحيح): إنِّما قالَ هذا لاختلافِ
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
زيادة من م و ب.
(3)
لأن الشاهد قد يحصر لمهابة المجلس فكان تلقينه إحياء للحق بمنْزلة احضار الخصم والتكفيل. وأمّا في موضعِ التهمةَ بأن ادَّعى المدَّعي ألفاً وخمسمئة، والمدَّعى عليه ينكرُ الخمسمئة، وشهدَ الشاهدُ بألف، فيقول القاضي: يحتملُ أنّه إبراء من الخمسمئة، واستفادَ الشاهدُ بذلك علماً فوفَّق به في شهادتِه كما وفَّقَ القاضي، فهذا لا يجوزُ بالاِّتفاق، كما في تلقين أحد الخصمين. ينظر:«درر الحكام» (2: 407)، و «الشرنبلالية» (2: 407).
(4)
الفتوى على قولِ أبي يوسفَ رضي الله عنه فيما يتعلَّق بالقضاء؛ لزيادةِ تجربته. ينظر: «القُنية» (ق 204/أ).
(5)
فيشملَ الحرَّ المديون، والعبدَ المأذون، والصبيَّ المحجور، فإنّهم يحبسون، ولكنَّ الصبيَّ لا يحبسُ بدين الاستهلاك، بل يحبسُ والدُه أو وصيُّه، فإن لم يكونا أمرَ القاضي ببيعِ ماله في دينِه. ينظر:«البَزَّازيّة» (5: 190).
بطلبِ وليِّ الحقِّ ذلك إن أمرَ القاضي المقرَّ بالايفاء فامتنعَ أو ثَبَتَ الحقُّ ببيِّنةٍ، فيما لزمَهُ بعقدٍ كمهرٍ، وكفالةٍ وبدلاً عن مالٍ حصلَ له كثمَن مبيع، وفي نفقةِ عرسِهِ وولدِه لا في دينِهِ
الرِّواياتِ
(1)
في تعيينِ مدَّةِ الحبس، والأصحُّ أن التقديرَ مفوَّضٌ إلى رأي القاضي؛ لتفاوتِ أحوالِ الأشخاصِ في ذلك، (بطلبِ وليِّ الحقِّ ذلك
(2)
إن أمرَ القاضي المقرَّ بالايفاء فامتنعَ أو ثَبَتَ الحقُّ ببيِّنةٍ): أي إن ثَبَتَ الحقُّ ببيِّنةٍ، وطلب وليِّ الحقِّ الحبسَ، يحبسُهُ القاضي من غيرِ احتياجٍ إلى أن يأمرَ القاضي بإيفاء الحقِّ فيمتنعُ، وإن ثَبَتَ بالإقرارِ لا بُدَّ أن يأمرَهُ فيمتنع، إذ في صورةِ البيِّنةِ ظَهَرَ مُطْلُهُ بإنكارِهِ، وفي الإقرارِ إنِّما يَظْهَرُ المطلُ بأن يمتنعَ من الإيفاءِ بعد الأمر، فإنّ الحبسَ جزاءُ المماطلة.
(فيما لزمَهُ بعقدٍ كمهرٍ، وكفالةٍ): المراد المهر المعجَّل، (وبدلاً عن مالٍ حصلَ له كثمَن مبيع، وفي نفقةِ عرسِهِ وولدِه لا في دينِهِ): أي لا يحبس في دينِ الولد
(3)
،
(1)
اختلف الرِّواياتِ في تقدير تلك المدّة:
فعن محمَّد رضي الله عنه أنّه قدّرها بشهرين إلى ثلاثة.
وعنه أيضاً: أنّه قدَّرها بأربعةِ أشهر.
وعن أبي حنيفةَ رضي الله عنه بروايةِ الحسنِ رضي الله عنه: أنه قدّرها بستّة أشهر.
وعنه برواية الطحاويّ رضي الله عنه: أنّه قدّرها بشهر، وكثيرٌ من مشايخنا أخذوا برواية الطَّحاوي.
وبعضُ مشايخنا قالوا: القاضي ينظرُ إلى المحبوس إن رأى عليه زي الفقراء، وهو صاحبُ عيال يشكو عياله إلى القاضي البؤسَ وضيقَ النفقة، وكان لَيِّناً عند جوابِ خصمِه حبسَه شهراً، ثم يسأل، وإن كان وقحاً عند جوابِ خصمه، وعرفَ تمرّده، ورأى عليه إمارة اليسار حبسَه أربعةَ أشهرٍ إلى ستّة أشهر، ثمَّ يسأل، وإن كان فيما بين ذلك حبسه شهرين إلى ثلاثة أشهر، ثم يسأل، وبه كان يفتي الإمامُ ظهيرُ الدين المِرْغِينانيّ، وهو يحكي عن عمِّه شمسِ الأئمّة الأُوْزجَنْديّ، وكثيرٌ من المشايخ قالوا: ليس في هذا تقدير لازم. ينظر: «الفتاوى الهندية» (3: 415). «الخانية» (2: 373).
(2)
أي يحبسَ القاضي الخصمَ إذا طلب صاحبُ الحقِّ حبسَه؛ لأنّه يحبسُ لأجلِ حقِّه، فلا بدَّ من طلبه، سواء كان ذلك الحقُّ قليلاً أو كثيراً. ينظر:«الفتاوى الهندية» (3: 416).
(3)
أي لا يحبس في دين عليه لولده؛ لأن الحبس عقوبة فلا يقع من الولد على والده إكراماً له، وكذا الوالدة والجد والجدة. ينظر:«فتح باب العناية» (3: 116).
وفي غيرِها لا إن ادَّعى فَقْرَهُ إلاَّ إذا قامتْ بيِّنةٌ بضدِّه.
[فصل في كتاب القاضي إلى القاضي]
فإن شَهدوا على خصمٍ حاضرٍ حكمَ بها، وكتبَ به، وهو السجل، وإن شهدوا على غائبٍ لم يحكمْ، وكتبَ بالشَّهادةِ ليحكُمَ المكتوبُ إليه بها، وهو الكتابُ الحُكْمِيّ، وكتابُ القاضي إلى القاضي، وهو نقلُ الشَّهادةِ
(وفي غيرِها لا)
(1)
، نحو: الدِّياتِ وأرشِ الجنايات، (إن ادَّعى فَقْرَهُ إلاَّ إذا قامتْ بيِّنةٌ بضدِّه)
(2)
.
[فصل في كتاب القاضي إلى القاضي]
ثُمَّ شَرَعَ بعد ذلك فيما يفعلُهُ القاضي إذا كان الخصمُ حاضراً، أو لم يكنْ، فقال:(فإن شَهدوا على خصمٍ حاضرٍ حكمَ بها، وكتبَ به، وهو السجل): أي حكمَ بالشَّهادة، وكتبَ بالحكم، وهذا المكتوبُ هو السِّجِل، فيكتبُ حكمتُ بذلك، أو ثَبَتَ عندي، فإن هذا حكمٌ.
(وإن شهدوا على غائبٍ لم يحكمْ
(3)
، وكتبَ بالشَّهادةِ ليحكُمَ المكتوبُ إليه بها
(4)
، وهو الكتابُ الحُكْمِيّ، وكتابُ القاضي إلى القاضي، وهو نقلُ الشَّهادةِ
(1)
أي في غير هذه الأشياءِ المذكورةِ لا يحبس؛ لأنَّ الآدميَّ يولدُ فقيراً لا مال له، والمدَّعي يدَّعي أمراً عارضاً فكان القولُ لصاحبِهِ مع يمينه، ما لم يكذّبه الظاهر، إلاَّ أن يثبتَ المدَّعي بالبيِّنة أنّ له مالاً بخلاف ما تقدّم؛ لأنَّ الظاهر يكذّبه كما لا يخفى. ينظر:«الزبدة» (3: 124).
(2)
وإنّما قال بضدّه ولم يقل بغنائه؛ لأنّ المتبادرَ من الغناءِ هو ملك النصاب، ويحبس في ما دونه. ينظر:«الفتح» (6: 376).
(3)
ولو حكمَ به حاكم يرى ذلك، ثمَّ نقل إليه نفَّذَه بخلاف الكتاب الحكميّ حيث لا ينفذُ خلاف مذهبه؛ لأنَّ الأوّل محكومٌ به فلزمَه، والثاني ابتداءُ حكم، فلا يجوز له، وهذا يدلُّ على أنَّ الحاكمَ على الغائبِ إذا كان حنفيّاً، فإنّ حكمَه لا ينفذُ لقوله: يرى ذلك، وهو مقيَّد؛ لأنَّ معنى قولهم: إنّ القضاءَ على الغائبِ ينفذُ في أظهرِ الروايتين؛ إذا كان القاضي شافعيّاً. ينظر: «التبيين» (4: 184). «البحر» (7: 3).
(4)
زيادة من أ و ب، و م.
حقيقةً، ويقبلُ فيما لا يسقطُ بشبهة إذا شُهِدَ به عنده كالدَّين، والعقار، والنِّكاح، والنَّسب، والمغصوب، والأمانة والمضاربةِ المجحودتين
حقيقةً
(1)
، ويقبلُ فيما لا يسقطُ بشبهة): أي فيما سوى الحدودِ والقصاص، (إذا شُهِدَ به عنده كالدَّين، والعقار، والنِّكاح، والنَّسب، والمغصوب، والأمانة والمضاربةِ المجحودتين)، فإنَّ الأمانةَ، ومالَ المضاربةِ إذا لم يُجحدا لا يُحتاجُ إلى كتابِ القاضي، وإذا جُحِدا صارا مغصوبين، وفي المغصوبِ تجب القيمةُ، وهي دينٌ، فيجري فيه الكتابُ الحكمي، إذ لا احتياجَ إلى الإشارةِ، بل يعرفُ بالصّفةِ بخلافِ العينِ المنقولة، فإنَّهُ يَحْتاجُ فيها إلى الإشارة، وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وكذا عند أبي يوسفَ رضي الله عنه إلاَّ في العبدِ الآبقِ فيقبلُ فيه.
وقد ذَكَرَ في كيفيّتِهِ هكذا: يكتبُ قاضي بُخارَا إلى قاضي سَمَرْقَنْدَ: إنّ فلاناً وفلاناً شهدا عندي أن عبدَ فلانٍ المسمَّى بالمباركِ الذي حليتُهُ كذا وكذا، أَبِقَ من مالكِهِ ووقعَ بسَمَرْقَنْدَ في يدِ فلانٍ إلى آخرِ الكتاب، ويختمُه، فإذا وصلَ إلى قاضي سَمَرْقَنْدَ يُحْضِرُ الخصمَ مع العبد، ويفتَحُهُ بشرائطِه، فإن لم يكنْ حليتُهُ كما كَتَبَ يَتْرُكُهُ، وإن كانَ فالخصمُ إن ذَهَبَ (مع العبدِ)
(2)
إلى بُخارا فبها، وإلا فيُسَلِّمُ العبدَ إلى المدَّعي لا على وجهِ القضاء، ويأخذُ منه كفيلاً بنفسِ العبد، ويَجْعَلُ في عنقِهِ شيئاً، ويختِمُهُ صيانةً عن التَّبديلِ عند شهادةِ الشُّهود، ويكتبُ إلى قاضي بُخارا جوابَ كتابِهِ، وأنَّه أرسلَ إليه العبد.
فإذا وصلَ إليه الكتابُ يُحْضِرُ الشُّهودَ الذين شهدوا في غيبةِ العبد؛ ليشهدوا في حضورِه، ويشيروا إليه أنَّهُ ملكُ المدَّعي، لكن لا يحكم؛ لأنَّ الخصمَ غائب، ثُمَّ يَكْتُبُ إلى قاضي سَمَرْقَنْدَ أن الشُّهُودَ شهدوا بحضورِه؛ ليحكمَ قاضي سَمَرْقَنْدَ على الخصم، ويبرأُ الكفيلُ عن كفالتِه.
(1)
العلومُ الخمسةُ شرطُ جواز كتاب القاضي إلى القاضي، وهو أن يكون الكتاب:
من معلوم: وهو القاضي الكاتب.
إلى معلوم: وهو القاضي المكتوب إليه.
في معلوم: وهو المدَّعى به.
لمعلوم: وهو المدّعي.
على معلوم: وهو المدّعي عليه. ينظر: «الفتاوى العالمكيرية» (3: 386).
(2)
زيادة من ب و م.
وعن محمدٍ رضي الله عنه قبولُهُ فيما يُنْقَلُ وعليه المتأخِّرونَ لا في حدٍّ وقَوَدٍ. ويَجِبُ أن يقرأَ على مَن يُشْهِدُهم، ويختمُ عندهم، ويُسَلِّمَ إليهم، وأبو يوسف رضي الله عنه لم يشترطْ شيئاً من ذلك، واختارَ الإمامُ السَّرَخْسِيُّ رضي الله عنه قولَهُ، وإذا سَلَّمَ إلى المكتوبِ إليه لم يقبلْهُ إلاَّ بحضرةِ خصمِهِ وبشهادةِ الرَّجلين، أو رجلٍ وامرأتين، فإذا شهدوا أنَّه كتابُ قاضي فلانٍ، قرأَهُ علينا في محكمتِهِ وختمَهُ وسلمَّهُ إلينا، فتح القاضي وقرأَ على الخصمِ وألزمَهُ ما فيه إن بقي كاتبُهُ قاضياً، فيبطلُ بموتِهِ وعزلِهِ قبل وصولِهِ، وكذا بموتِ المكتوبِ إليه إلاَّ إذا كتبَ بعد اسمِهِ: وإلى كلِّ مَن يصلُّ إليه من قضاةِ المسلمين
(وعن محمدٍ رضي الله عنه قبولُهُ فيما يُنْقَلُ وعليه المتأخِّرونَ لا في حدٍّ وقَوَدٍ
(1)
.
ويَجِبُ أن يقرأَ على مَن يُشْهِدُهم، ويختمُ عندهم، ويُسَلِّمَ إليهم، وأبو يوسف رضي الله عنه لم يشترطْ شيئاً من ذلك، واختارَ الإمامُ السَّرَخْسِيُّ
(2)
رضي الله عنه قولَهُ)
(3)
، فعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يُشْهِدُهم أن هذا كتابُهُ وختمُهُ
…
، وعن أبي يوسفَ رضي الله عنه الختمُ ليس بشرطٍ.
أقولُ: إذا كان الكتابُ في يدِ المدَّعي يُفْتَى بأنَّ الختمَ شرطٌ، وإن كانَ في يدِ الشُّهودِ يُفْتَى بأنَّه ليس بشرطٍ.
(وإذا سَلَّمَ إلى المكتوبِ إليه لم يقبلْهُ إلاَّ بحضرةِ خصمِهِ وبشهادةِ الرَّجلين، أو رجلٍ وامرأتين، فإذا شهدوا أنَّه كتابُ قاضي فلانٍ، قرأَهُ علينا في محكمتِهِ وختمَهُ وسلمَّهُ إلينا، فتح القاضي وقرأَ على الخصمِ وألزمَهُ ما فيه إن بقي كاتبُهُ قاضياً، فيبطلُ بموتِهِ وعزلِهِ قبل وصولِهِ، وكذا بموتِ المكتوبِ إليه إلاَّ إذا كتبَ بعد اسمِهِ: وإلى كلِّ مَن يصلُّ إليه من قضاةِ المسلمينَ)، وعند أبي يوسف رضي الله عنه: لا يُشْتَرطُ أن
(1)
أي جوَّزه محمد رضي الله عنه في كل من نكاح وطلاق وقتل موجبه مال وأعيان ولو منقولة، وعليه المتأخرون، وبه يفتى للضرورة، وفي ظاهر الرواية لا يجوز في المنقول للحاجة إلى الإشارة إليه عند الدعوى والشهادة، وعن الثاني تجويزه في العبد لغلبة الإباق فيه لا في الأمة، وعنه تجويزه في الكل، قال الاسبيجابي: وعليه الفتوى. وبه يفتى في «المنح» (ق 106/ب)، و «الدر المختار» (4: 351)، و «رد المحتار» (4: 351)، وغيرها.
(2)
في «المبسوط» (19: 27).
(3)
أي قول أبي يوسف من عدم اشتراط شيء سوى إشهادهم أنه كتابه لمَّا ابتلي بالقضاء، وعليه الفتوى. ينظر:«الدر المنتقى» (2: 166).
وان ماتَ الخصمُ ينفذُ على وارثِه.
[فصل]
وصحَّ قضاءُ المرأةِ إلاَّ في حدٍّ وقَوَدٍ، ولا يستخلفُ قاضٍ، ولا يوكِّلُ وكيلٌ إلاَّ مَن فُوِّضَ إليه ذلك، ففي المفوَّضِ نائبُهُ لا ينعزلُ بعزلِهِ وبموتِهِ موكَّلاً، بل هو نائبُ الأصيل، وفي غيرِهِ إن فعلَ نائبُهُ عنده أو أجاز هو، أو كان قَدَّرَ الثَّمَنَ في الوكالةِ صحَّ
يكتبَ (بعد اسمه)
(1)
إلى قاض معين، بل يكفي أن يكتبَ ابتداءً: إلى كلِّ مَن يصلُّ إليه من قضاةِ المسلمين؛ لأنَّ تعيينَ المكتوبِ إليه تضييقٌ لا فائدةَ فيه
(2)
، (وان ماتَ الخصمُ ينفذُ على وارثِه.
[فصل]
(وصحَّ قضاءُ المرأةِ إلاَّ في حدٍّ وقَوَدٍ)؛ لأنَّ شهادتَها لا تُقْبَلُ فيهما، (ولا يستخلفُ قاضٍ، ولا يوكِّلُ وكيلٌ إلاَّ مَن فُوِّضَ إليه ذلك
(3)
، ففي المفوَّضِ
(4)
نائبُهُ لا ينعزلُ بعزلِهِ وبموتِهِ موكَّلاً، بل هو نائبُ الأصيل)، إنِّما قالَ موكَّلاً؛ لأنَّ في الوكالةِ يَنْعزِلُ الوكيلُ بموتِ موكِّلِه، فأرادَ أن يُصَرِّحَ أن الوكيلَ هاهنا لا ينعزلُ بموتِ موكِّلِهِ؛ لأنَّهُ في الحقيقةِ ليس نائبُه، بل هو نائبُ الأصيل، وأمَّا في القضاءِ فإنَّ النَّائبَ لا يَنْعزِلُ بموتِ المنوبِ عنه، فخصَّ الموكِّلَ بالذِّكرِ؛ لأن الاشتباه فيه ولا شُبْهةَ في باب القضاء، فلم يذكر، ثم قال: بل هو نائبُ الأصيل؛ ففي التَّوكيل ينعزلُ بموتِ الأصيل، وفي القضاءِ لا يَنْعزِل.
(وفي غيرِهِ إن فعلَ نائبُهُ عنده أو أجاز هو، أو كان قَدَّرَ الثَّمَنَ في الوكالةِ صحَّ): أي في غيرِ المفوَّض، يعني إذا لم يفوِّضْ إلى القاضي والوكيلِ أن يستخلف الغير فاستخلفا، ففعلَ النَّائبُ بحضورِ المنوبِ عنه صحَّ؛ لأنَّهُ إذا فعلَ بحضورِه، ففعلُهُ ينتقلُ إليه، وكذا إن فعلَ بغيبتِهِ فوصلَ الخبرُ إلى المنوبِ عنه فأجاز؛ لأنَّهُ إذا انضمَّ رأيُهُ إلى ذلك الفعلِ صارَ كأنَّه فَعَلَ، وكذا إن قَدَّرَ الوكيلُ الأَوَّلُ الثَّمنَ فباشرَ وكيلُه؛ إذ بتقديرِ الثَّمنِ حصلَ رأيُه.
(1)
زيادة ص.
(2)
في «الخلاصة» : وعليه عمل الناس. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 167).
(3)
أي ولا يوكِّلُ وكيلٌ وكيلاً؛ لأنَّ الموكِّلَ إنّما رضيَ بتصرُّفِهِ دون غيره، إلاَّ مَن فوَّضَ الإمامُ الموكَّلُ إليه ذلك الاستخلاف، بأن قال: ولِّ أو وكِّل مَن شئت، فإنّه يجوز حينئذٍ أن يستخلفَ القاضي قاضياً آخر، والموكِّلُ وكيلاً آخر. ينظر:«جامع الرموز» (2: 227).
(4)
أي إليه الاستخلاف والتوكيل.
وبِاِعْمَلْ برأيكَ يُوكِّل غيرَهُ، ويُمْضِي حُكْمَ قاضٍ آخرَ في مختلفٍ فيه في الصَّدرِ الأَوَّلِ إلاَّ ما خالفَ الكتابَ، أو السُنّةَ المشهورة، أو الإجماعِ
(وبِاِعْمَلْ برأيكَ يُوكِّل غيرَهُ
(1)
): أي إذا قال الموكِّلُ للوكيل: اعملْ برأيكَ كان للوكيلِ أن يوكِّلَ غيرَهُ.
(ويُمْضِي حُكْمَ قاضٍ آخرَ في مختلفٍ فيه في الصَّدرِ الأَوَّلِ
(2)
إلاَّ ما خالفَ الكتابَ
(3)
، أو السُنّةَ المشهورة، أو الإجماعِ)
(4)
: أي إذا قضى القاضي ورَفَعَ حُكْمَهُ إلى
(1)
زيادة من ج.
(2)
قيل: هو زمانُ الصحابةِ والتابعين، وقيل: المرادُ ما يعمُّ من الصحابةِ والفقهاءِ المجتهدين رضي الله عنهم. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 169).
(3)
المرادُ من مخالفةِ الكتابِ مخالفةُ نصّ الكتابِ الذي لم يختلف السلفُ في تأويله، كقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاء} [النساء: 22]، فإنَّ السلفَ اتَّفقوا على عدم جوازِ تزويج امرأة الأبِ وجاريتِه ووطئِها إن وطأها الأب، فلو حكمَ حاكمٌ بجواز ذلك نقضَه مَن رفع إليه. ينظر:«العناية» (6: 397).
(4)
تفصيل الكلام في هذه المسألة أنَّ قضاءَ القاضي الأوَّل لا يخلو:
إمّا أن يقعَ في فصلٍ فيه نصٌّ مفسَّرٌ من الكتاب، والسنةِ المتواترة، أو إجماع.
وإمّا أن يقعَ في فصل مجتهد فيه من ظواهرِ النصوصِ والقياس.
فإن وقع في فصلٍ فيه مفسَّرٌ من الكتاب، والخبرِ المتواترِ، أو إجماع، فإن وافقَ قضاؤه ذلك نَفَّذَه الثاني، ولا يحلُّ له النقض، وإن خالف شيئاً من ذلك ردَّه.
وإن وقعَ في فصلٍ مجتهدٍ فيه فلا يخلو:
إمّا إن كان مجمعاً على كونِهِ مجتهداً فيه.
وإما إن كان مختلفاً في كونِهِ مجتهداً فيه.
فإن كان مجمعاً على كونِهِ محلّ الاجتهاد:
فإمَّا إن كان المجتهدُ هو المقضي به.
وإمّا إن كان نفس القضاء.
فإن كان المجتهد فيه هو المقضى به، فرفعَ قضاءه إلى قاضٍ آخر، لم يردَّه الثاني بل ينفذُه، فإن ردَّه القاضي الثاني فرجعَ إلى قاضٍ ثالثٍ نفذَ قضاء القاضي الأوّل، وأبطلَ قضاء الثاني.
وإن كان نفسُ القضاء مجتهداً فيه أنّه يجوز أم لا، كما لو قضى بالحجْر على الحرّ، أو قضى على الغائب، يجوزُ للقاضي الثاني أن ينقضَ الأوّل إذا مال اجتهادُهُ إلى خلافِ اجتهادِ الأوّل، هذا إذا كان القضاء في محلٍّ أجمعوا على كونِهِ محلّ الاجتهاد.
فأمّا إذا كان في محلٍّ اختلفوا أنّه محلّ الاجتهاد أم لا: كبيعِ أمِّ الولد أنّه هل ينفذُ فيه قضاءُ القاضي عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه: ينفذ؛ لأنّه محلُّ الاجتهادِ عندهما؛ لاختلافِ الصحابةِ رضي الله عنهم في جوازِ بيعها، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه: لا ينفذ لوقوعِ الاتّفاقِ بعد ذلك من الصحابةِ وغيرهم، على أنّه لا يجوزُ بيعُها، فخرجَ محلُّ الاجتهاد، فينظر إن كان من رأي القاضي الثاني أنّه مجتهدٌ فيه ينفذُ قضاؤه ولا يردُّه، وإن كان في رأيه أنّه خرجَ من حدِّ الاجتهادِ وصار متّفقاً عليه لا ينفذ، بل يردّه.
وإذا كان نفسُ القضاءِ مختلفاً فيه بأن قضى القاضي بحقٍّ على الغائبِ أو للغائب، هل ينفذ؟ فيه روايتان عن أصحابنا: في رواية: لا ينفذ، هكذا ذكرَ الخصَّاف، وهو الصحيح. ينظر:«البدائع) (7: 14 - 15). «الفتاوى العالمكيرية» (3: 356).
...................................................................................................................
قاضٍ آخرَ يَجِبُ عليه إمضاءهُ إلاَّ أن يكونَ:
مخالفاً للكتابِ كمتروكِ التسميةِ عامداً، فإنَّهُ مخالفٌ لقولِهِ تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمِّا لَمْ يُذْكَرْ اِسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}
(1)
.
أو السُّنَّةِ المشهورةِ: كالقضاءِ بحِلِّ المطلقةِ ثلاثاً بنكاحِ الزَّوجِ الثَّاني بلا وطءٍ على مذهبِ سعيد بن المسيب
(2)
رضي الله عنه، فإنَّه مخالفٌ للسُّنَّةِ المشهورةِ، وهي قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «لا حتَّى تذوقي من عسليتِهِ (ويذوقَ من عسيلتكِ)
(3)
»
(4)
الحديث.
أو للإجماعِ كالقضاءِ بحلِّ متعةِ النِّساء؛ لأنَّ الصحابةَ أجمعوا على فسادِه.
فحاصلُ هذا أنَّ القاضي إذا قَضَى في مُجْتَهَدٍ فيه يصيرُ مُجْمَعَاً عليه، فيَجِبُ على قاضٍ آخرَ تنفيذُه، وهذا حُكْمٌ في وفقِ مذهبِه، أمَّا إذا حَكَمَ على خلافِ مذهبِهِ فسيأتي.
(1)
من سورة الأنعام، الآية (121).
(2)
شكك الحافظ ابن كثير في صحة نسبة هذا القول إليه، ومال الدكتور هاشم جميل إلى رأيه بتأويل ما صح من قول ابن المسيب: أما الناس فيقول: حتى يجامعها، وأما أنا فإني أقول: إذا تزوجها بتزوج صحيح، لا يريد بذلك احلالاً، فلا بأس أن يتزوجها الأول. لأنه راوي لحديث العسيلة، فيكون قوله هذا قبل وصول الحديث له. والظاهر أن هذا لا يقوم حجّة على عدم نسبة القول إليه. والتفصيل في «فقه سعيد بن المسيب» (3: 351 - 360).
(3)
زيادة من أ.
(4)
وهو من حديث عائشة رضي الله عنه، قال:(جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني فأبت طلاقي، فتزوَّجتُ عبد الرحمن بن الزبير إنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) في «صحيح البخاري» 2: 933)، واللفظ له، و «صحيح مسلم» (2: 1056)، وغيرهما.
وفيما اجتمعَ عليه الجمهورُ لا يعتبرُ خلافُ البعضِ
ويَجِبُ أن يعلمَ القاضي أن المسألةَ مختلفٌ فيها، وأيضاً هذا إذا كان محلُّ القضاءِ مختلفاً فيه، أمَّا إذا كان نفسُ القضاءِ مختلفاً فيه: كالقضاءِ على الغائبِ، فحينئذٍ يصيرُ مُجْمَعاً عليه، فبعد الإمضاءِ إن رَفَعَ إلى قاضٍ آخرَ يَجِبُ عليه تَنْفِيذُه.
(وفيما اجتمعَ عليه الجمهورُ لا يعتبرُ خلافُ البعضِ): ذُكِرَ في أصولِ الفقه: إنّ العلماءَ اختلفوا في أنّ الاجماعَ هل ينعقدُ باّتفاقِ أكثرِ المجتهدينَ أو لا بُدَّ من اتّفاقِ الكلّ، ففي «الهداية»
(1)
: اختارَ أن اتّفاقَ الأكثر كافٍ، ففي مقابلةِ اتفاقِ الأكثرِ لا يعتبرُ خلافُ الأقلِّ.
وفي كتبِ أصولِ الفقه
(2)
: رجَّحوا ذلك المذهبِ، وهو أن خلاف الأقلِّ في مقابلةِ الأكثرِ معتبرٌ، فإنَّ واحداً من الصَّحابةِ رضي الله عنهم ربُّما خالفَ الجمعَ الكثير، ولم يقولوا نحنُ أكثرَ منكَ، بل اعتبروا مخالفتَهُ
(3)
.
وأيضاً قال في «الهداية» : إنّ المعتبرَ الاختلافُ في الصَّدرِ الأَوَّل
(4)
: أي الصَّحابةِ رضي الله عنهم لكن الأصحَّ أنَّه لا يشترطُ ذلك حتَّى يكونَ اختلافُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه معتبراً.
(1)
ذكر الشارح رضي الله عنه معنى عبارة «الهداية» (3: 107)، وهي: وفيما اجتمع عليه الجمهور لا يعتبر مخالفة البعض، وذلك خلاف وليس باختلاف، والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول.
(2)
ينظر: «المنار» (ص 21)، و «شرح ابن ملك عل المنار» (ص 257)، و «كشف أصول البَزْدَوِيّ» (3: 275)، وغيرهم.
(3)
ويمكن التوفيق بين ما رجحوا في كتب أصول الفقه وبين كلام صاحب «الهداية» : إنَّ الواحدَ إذا خالف الجماعة، فإن سوَّغوا له ذلك الاجتهاد لا يثبتُ حكمُ الإجماعِ بدون قوله، بمنْزلةِ خلافِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه الصحابةَ في زوجٍ وأبوين وامرأة، بأنَّ للأمِّ ثلثَ جميع المال، وإن لم يُسَوِّغوا له الاجتهاد، وأنكروا عليه قوله، فإنَّه يثبتُ حكمُ الإجماعِ بدون قوله بمنْزلةِ قول ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه في حلِّ التفاضلِ في أموالِ الربا، فإنّ الصحابة لم يسوِّغوا له هذا الاجتهاد، حتى رُوِيَ أنّه رجعَ إلى قولهم، وكان الإجماعُ ثابتاً بدون قوله. ينظر:«العناية» (6: 397)، و «الكفاية» (6: 397 - 398).
(4)
انتهى من «الهداية» (3: 107). ومعناه أن الاختلافُ الذي يجعلُ المحلُّ مجتهداً فيه هو الاختلافُ الذي كان بين الصحابةِ والتابعين، لا الذي يقع بعدهم، وعلى هذا إذا حكم الشافعيُّ أو المالكيُّ برأيه بما يخالفُ رأيَ مَن تقدَّم عليه من الصدرِ الأوّل، ورفع ذلك إلى حاكم لم يرَ ذلك كان له أن ينقضَه. ينظر:«العناية» (6: 397).
والقضاءُ بحرمةٍ أو حلٍّ يَنْفُذُ ظاهراً أو باطناً، ولو بشهادةِ زورٍ إذا ادَّعاه بسببٍ معيّنٍ، فلو أقامَ بيِّنةَ زورٍ أنَّه تزوَّجها وحكمَ به حلَّ لها تمكينُهُ، والقضاءُ في مُجْتَهَدٍ فيه بخلافِ رأيه ناسياً مذهبَهُ أو عامداً لا يَنْفُذُ عندهما، وبه يُفْتَى
(والقضاءُ بحرمةٍ أو حلٍّ يَنْفُذُ ظاهراً أو باطناً، ولو بشهادةِ زورٍ إذا ادَّعاه بسببٍ معيّنٍ)
(1)
، حتَّى لو ادَّعى جاريةً ملكاً مطلقاً، وأقامَ على ذلك بيِّنةَ زورٍ وقَضَى القاضي به لا يحلُّ له وطؤها بالإجماع؛ لأنَّ الملكَ لا بُدَّ لهس من سبب، وليس البعضُ أَوْلَى من البعض، فلا يمكنُ إثباتُ سببٍ معيَّنٍ يَثْبُتُ به الحلّ.
(فلو أقامَ بيِّنةَ زورٍ أنَّه تزوَّجها وحكمَ به حلَّ لها تمكينُهُ)
(2)
، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما يَنْفُذُ ظاهراً: أي يُسَلِّمُ القاضي الزَّوجةَ إلى الزَّوجِ، ويأمرها بالتَّمكينِ لا باطناً: أي لا يَثْبُتُ فيما بينَهُ وبينَ اللهِ تعالى، ومذهبهما ظاهر، وأمَّا مذهبُ أبي حنيفةَ رضي الله عنه فمشكلٌ جداً، فإنَّ الحرامَ المحضَ كيف يكون سبباً للحلِّ فيما بينَهُ وبينَ اللهِ تعالى.
وجوابُهُ: إنَّا لم نجعلِ الحرامَ المحضَ: وهو الشَّهادةُ الكاذبةُ من حيث أنُّه إخبارٌ كاذبٌ سبباً للحلّ، بل حُكْمُ القاضي صارَ كإنشاءِ عقدٍ جديد، وهو ليس حراماً، بل هو واجب؛ لأنَّ القاضي غير عالمٍ بكذبِ الشُّهُود.
(والقضاءُ في مُجْتَهَدٍ فيه بخلافِ رأيه
(3)
ناسياً مذهبَهُ أو عامداً لا يَنْفُذُ عندهما، وبه يُفْتَى)
(4)
، وأمَّا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه إن كان ناسياً مذهبَهُ ينْفُذُ، وإن كان
(1)
أي من العقود والفسوخ: كالنكاح والطلاق والبيع والشراء والإقالة والرد بالعيب، وفي الهبة والصدقة روايتان. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 170).
(2)
أي لو ادّعت على زوجِها أنّه طلَّقَها ثلاثاً، وأقامت عليه شهودَ زور، وقضى القاضي بالفرقةِ بينهما، حَرُمَ على زوجِها أن يطأها ظاهراً وباطناً عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، ولو تزوَّجت بزوجٍ آخر حلَّ وطؤها كذلك عنده. وقال محمّد رضي الله عنه: يحلُّ للزوجِ الأوّل وطؤها ما لم يدخلْ بها زوجٌ آخر، وإذا دخلَ بها فالآن حرمَ وطؤها على الأوّل، ولا يحلُّ للزوجِ الثاني وطؤها إذا كان عالماً بحقيقة الحال، ويحلُّ إن لم يعلمْ بها. وعلى قول أبي يوسف رضي الله عنه آخراً: يحلُّ للزوجِ الأوّل وطؤها سرَّاً، كذا ذكره شيخُ الإسلام رضي الله عنه،. ينظر:«شرح أبي المكارم للنقاية» (ق 565).
(3)
أي أصلُ مذهبِهِ كالحنفيِّ إذا حكمَ على مذهب الشافعيّ رضي الله عنه أو نحوه، أو بالعكس، أمّا إذا حكمَ الحنفيُّ بمذهبِ أبي يوسفَ رضي الله عنه أو محمّد رضي الله عنه أو نحوهما من أصحابِ الإمامِ فليس حكماً بخلافِ رأيه. ينظر:«الدرر» (2: 409 - 410).
(4)
قال في «الفتح» (6: 397): والوجه في هذا الزمان أن يفتى بقولهما؛ لأن التارك لمذهبه عمداً لا يفعله إلا لهوى باطل لا لقصد جميل، وأما الناسي؛ لأن المقلّد إنما ولاه ليحكم بمذهب الإمام فلا يملك المخالفة فيكون معزولاً بالنسبة إلى ذلك الحكم.
ولا يُقْضَى على غائبٍ إلاَّ بحضرةِ نائبِهِ حقيقةً: كالوكيل، أو شرعاً كوصيِّ القاضي، أو حُكْماً بأن كان ما يُدُّعى على الغائبِ سبباً لِمَا يَدَّعى على الحاضر، فإن كان شرطاً لا يصحُّ، ويقرضُ مالَ اليتيم، ويكتبُ ذِكْرَ الحقّ
عامداً ففيه روايتان، وعندهما لا يَنْفُذُ في الوجهينِ؛ لأنَّه قضى بما هو خطأٌ عنده، والفتوى على قولِهما.
(ولا يُقْضَى على غائبٍ إلاَّ بحضرةِ نائبِهِ حقيقةً: كالوكيل، أو شرعاً كوصيِّ القاضي، أو حُكْماً بأن كان ما يُدُّعى على الغائبِ سبباً لِمَا يَدَّعى على الحاضر)، كما إذا ادَّعى داراً على رجلٍ أنَّه اشتراها من فلانٍ الغائبِ، فأقامَ البيِّنةَ على ذي اليد، فإنَّ القاضي يقضي بهذه البيِّنةِ على الحاضرِ والغائبِ جميعاً حتَّى لو حضرَ الغائبُ وأنكرَ لا يلتفتُ إلى إنكارِه.
(فإن كان شرطاً لا يصحُّ): أي إن كان ما يدَّعي على الغائبِ شرطاً لِمَا يَدَّعي على الحاضرِ، كما إذا ادَّعى عبدٌ على مولاهُ أنَّه علَّقَ عتقَهُ بتطليقِ زيدٍ زوجتَه، وأقامَ بيِّنةً على التَّطليقِ بغيبةِ زيدٍ، اختلفَ فيه المشايخُ
(1)
رضي الله عنه والصَّحيحُ أنَّه لا يُقْبَلُ، وإنِّما يقبلُ في السَّببِ دونَ الشَّرطِ؛ لأنَّ السَّببَ أصلٌ بالنسبةِ إلى المسببِ فيكون الحاضرُ نائباً عن صاحبِ السَّبب، وهو الغائبُ كالوكيل، ولا كذلك إذا كان شرطاً، وإنِّما لا يقضي عن الغائبِ في صورةِ الشَّرطِ إذا كان فيه إبطالُ حقِّ الغائبِ، أمَّا إذا لم يكنْ كما إذا علَّق طلاقَ امرأتِهِ بدخولِ زيدٍ في الدَّارِ تُقْبَل.
(ويقرضُ مالَ اليتيم، ويكتبُ ذِكْرَ الحقّ)، يجوزُ للقاضي إقراضَ مالِ اليتيم
(2)
؛ لأنَّه محافظةٌ، والقاضي قادرٌ على أخذِهِ متى شاء، ولا يجوزُ للوصيّ؛ لعدم قدرتِهِ على الأخذِ، وكذا الأبُ في الأصحّ
(3)
، فلو فعل يَضْمَن، وإذا أقرضَ القاضي كتبَ في ذلك وثيقةً.
(1)
مثل: بعض المتأخّرين كفخرِ الإسلام رضي الله عنه والأُوزْجَنْدِيّ رضي الله عنه أنّهم أفتوا فيه بانتصابِ الحاضرِ خصماً، فالشرطُ عندهم كالسَّبب؛ لأنَّ دعوى المدّعي كما يتوقَّفُ على السبب كذلك يتوقَّفُ على الشرط. ينظر:«الفتح» (6: 403).
(2)
وينبغي أن يشترطَ لجوازِ إقراض القاضي عدمُ وصيٍّ اليتيم، فإن كان له وصيٌّ، ولو منصوبَ القاضي لم يجزْ؛ لأنّه من التصرُّفِ في ماله، وهو ممنوعٌ عنه مع وجودِ وصيّة. ينظر:«القُنْية» (196/ب). «جامع الفصولين» (2: 18). «البحر» (7: 23).
(3)
لعجزِهِ عن الاستخراج، وفي رواية: إنّه كالقاضي؛ لأنَّ ولايةَ الأبِ تعمُّ النفسَ والمال، كولايةِ القاضي، وشفقتُهُ تمنعُهُ من تركِ النظر له، والظاهرُ أنّه يقرضُهُ ممّن يأمن جهوده. ينظر:«المنح» (ق 2: 107/ب). «الرمز» (2: 92).
باب التحكيم
وصحَّ تحكيمُ الخصمينِ مَن صلحَ قاضياً ولزمَهما حكمُهُ بالبيِّنة، والنُّكولِ، والإقرارِ، وإخبارُهُ بإقرارِ أحدِ الخصمينِ وبعدالةِ شاهدين حال ولايتِهِ، ولكلٍّ منها أن يرجعَ قبلَ حكمِه، ولا يصحُّ حُكْمُ المُحَكِّمِ والمولَى لأبويه وولدِهِ وعرسِهِ، ولا التَّحكيمُ في حدٍّ وَقَوَدٍ
[باب التحكيم]
(1)
(وصحَّ تحكيمُ الخصمينِ مَن صلحَ قاضياً ولزمَهما حكمُهُ بالبيِّنة، والنُّكولِ، والإقرارِ، وإخبارُهُ
(2)
بإقرارِ أحدِ الخصمينِ وبعدالةِ شاهدين حال ولايتِهِ): أي صحَّ إخبارُهُ بإقرار أحدِ الخصمينِ وبعدالةِ الشاهدينِ في زمانِ ولايتِه؛ لأنَّ إخبارَهُ بإقرار
(3)
حال ولايتِهِ قائمٌ مقامَ شهادةِ رجلينِ بخلافِ ما إذا أُخْبِرَ بعدَ الولاية؛ لأنَّه التحقَ بواحدٍ من الرَّعايا فلا بُدَّ من الشَّاهدِ الآخر، وبخلاف ما إذا أُخبر بأنَّه قد حَكَمَ؛ لأنَّه إذا حَكَمَ انعزل، فلا يُقْبَلُ إخبارُه.
(ولكلٍّ منها أن يرجعَ قبلَ حكمِه، ولا يصحُّ حُكْمُ المُحَكِّمِ والمولَى لأبويه وولدِهِ وعرسِهِ)، كما لا يصحُّ الشَّهادةُ لهؤلاء، (ولا التَّحكيمُ في حدٍّ وَقَوَدٍ)؛ لأنَّهما لا يَمْلِكانِ دَمَهُما؛ ولهذا لا يملكانِ إباحتَه
(4)
.
(1)
زيادة أ و ب و م.
(2)
أي وصحَّ إخبارُ الحكمِ بإقرارِ أحد الخصمين مثلاً إذا قال لأحد الخصمين: قد أقررتَ عندي لهذا بكذا وكذا، أو قال: قامت عندي عليك بيّنة بهذا بكذا وكذا، فعدلوا عندي، وقد ألزمتك ذلك، وحكمتُ به لهذا عليك، وأنكر المقضيّ عليه ذلك، يقبلُ قول الحكم، ولا يلتفتُ إلى إنكار المنكِر، وينفذُ القضاء عليه؛ لأنَّ الحَكم يملك إنشاء الحُكم عليه بذلك، فيملكُ الإقرارَ كالقاضي، وقد سبق ذكره بخلافِ ما إذا أخبرَ بالحُكم، وقال: كنتُ حكمتُ عليك لهذا بكذا لا يصدّق ولا يقبل. ينظر: «الزبدة» (3: 35).
(3)
زيادة من ص.
(4)
بيانه: إنَّ تحكيمهما بمنْزلة الصلح، بدلالة أنّهما توافقا على الرِّضاء بما يحكمُ به عليهما، وليس لهما ولايةٌ على دمهما؛ ولهذا لا يملكان إباحته، وكذا لا يصحُّ التحكيمُ في دِيَةٍ على العاقلة؛ لأنّهما ليس ولايةٌ لهما على العاقلة، فلا ينفذُ حكم مَن حكَّماه على عاقلته، ولا على القاتل؛ لعدمِ التزامِ العاقلة حكمه. ينظر:«التبيين» (4: 194).
قالوا: وصحَّ في سائرِ المجتهداتِ ولا يُفْتَى به دفعاً لتجاسرِ العوامّ، وحُكْمُ المُحَكَّمِ في دمٍ خطأ بالدِّيَةِ على العاقلةِ لا يَنْفُذُ، وكذا إن حَكَمَ بالدِّيَةِ على القاتلِ لا يَنْفُذُ أيضاً، فينقضُهُ القاضي، ويقضي على العاقلةِ
(قالوا: وصحَّ في سائرِ المجتهداتِ ولا يُفْتَى به دفعاً لتجاسرِ العوامّ)، قال مشايخنا رضي الله عنه: إن تخصيصَ هذه الرِّوايةِ، وهي قولُهُ: ولا يجوزُ التَّحكيمِ في الحدودِ والقصاصِ يدلُّ على جوازِ التَّحكيمِ في جميعِ المجتهداتِ كالكناياتِ، وفَسْخِ اليمينِ، ونحوِهما، وتخصيصُ المجتهداتِ بالذِكْرِ ليس لنفي الحكمِ عمَّا عداه، فإن ما ليس للاجتهادِ فيه مساغٌ: كالثَّابتِ بالكتابِ، أو السنَّةِ المشهورةِ، أو الإجماع لا شكَّ في صحَّةِ التَّحكيمِ في ذلك، وفائدتُهُ إلزامُ الخصمِ، فإنَّ المتبايعينَ إن حَكَّما حَكَماً، فالمُحَكَّمُ يُجْبِرُ المشتري على تسليمِ الثَّمنِ، والبائعَ على تسليمِ المبيعِ، ومَن امتنعَ يحبسُه، فذَكَرَ المجتهداتِ ليدلَّ على غيرِها بالطَّريق الأُولَى.
وإذا صحَّ التَّحكيمُ في جميعِ القضايا
(1)
لا يُفْتَى بذلك؛ لأن العوامَّ يتجاسرونَ على ذلك، فيَقِلُّ الاحتياجُ إلى القاضي، فلا يَبْقَى لحكَّامِ الشَّرع رَوْنَق، ولا للمحكمةِ جمالٌ وزينة.
(وحُكْمُ المُحَكَّمِ في دمٍ خطأ بالدِّيَةِ على العاقلةِ لا يَنْفُذُ)؛ لأنَّ العاقلةَ لم يُحَكِّموه، «وكذا إن حَكَمَ بالدِّيَةِ على القاتلِ لا يَنْفُذُ أيضاً، فينقضُهُ القاضي، ويقضي على العاقلةِ)
(2)
)؛ لأنَّ حُكْمَ المُحَكِّمِ مخالفٌ لمذهبِ القاضي، ومخالفٌ للنَّصّ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «قوموا فَدُوه
(3)
»
(4)
، ومعنى عدمُ نفاذِهِ على العاقلةِ أن للمُحَكِّمَ لا يكونُ ولايةُ طلبِ الدِّيةِ
(1)
هو الظاهرُ عند أصحابنا، وهو الصحيح، لكنَّ مشايخنا امتنعوا عن هذه الفتوى، وقالوا: يحتاجُ إلى حكم الحاكم، كما في الحدود والقصاص، كيلا يتجاسرَ العوامُّ فيه. ينظر:«شرح أدب القاضي» (4: 63 - 64).
(2)
سقطت من ج و ق.
(3)
أي أدّوا ديته. ينظر: «البناية» (10: 373).
(4)
وهو حديث حمل بن مالك رضي الله عنه، ولفظه: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهى حبلى فقتلتها، قال: وإحداهما لحيانية، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دِيَة المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دِيَة من لا أكل ولا شرب ولا استهلَّ فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الأعراب، قال: وجعل عليهم الدية» في مسلم (3: 1310)، واللفظ له، وفي روايات أخرى صرح باسم حمل بن مالك رضي الله عنه، وذكرت القصة بطولها، وفي «مسند أحمد» (1: 364)، و «سنن ابن ماجه» (2: 882)، وغيرها.
فإن رُفِعَ إلى قاضٍ آخرَ إن وافقَ مذهبَهُ أمضاهُ، وإلاَّ أبطلَهُ.
مسائل شتى
وليس لصاحبِ سُفْلٍ عليه علوٌ لآخرَ أن يَتِدَ فى سفلِه، أو ينقب فيه كُوةً بلا رضا الآخرِ. ولا لأهلِ زائغةٍ مستطيلةٍ تنشعبُ منها مستطيلةٌ غيرُ نافذةٍ فتحُ بابٍ في القصوى، وفي مستديرةٍ لَزِقَ طرفاها بالمستطيلة لهم ذلك في القصوى
من العاقلةِ، وحبسُهم إن امتنعوا، (فإن رُفِعَ إلى قاضٍ آخرَ إن وافقَ مذهبَهُ أمضاهُ، وإلاَّ أبطلَهُ): أي ليس حُكْمُ المُحَكَّمِ مثلَ حُكْمِ المولى في أن المختلفَ فيه يصيرُ مجمعاً عليه.
مسائل شتى
(وليس لصاحبِ سُفْلٍ عليه علوٌ لآخرَ أن يَتِدَ
(1)
فى سفلِه، أو ينقب فيه
(2)
كُوةً
(3)
بلا رضا الآخرِ.
ولا لأهلِ زائغةٍ مستطيلةٍ
(4)
تنشعبُ منها مستطيلةٌ غيرُ نافذةٍ فتحُ بابٍ في القصوى، وفي مستديرةٍ لَزِقَ طرفاها بالمستطيلة
(5)
لهم ذلك في القصوى)
(6)
: أي في المنشعبةِ من الأولى.
(1)
يَتِد: أي يضرب ويثبت وتداً. ينظر: «المصباح» (ص 647)، و «طلبة الطلبة» (ص 135).
(2)
زيادة من أ.
(3)
كُوة: ثقب البيت. ينظر: «المغرب» (ص 418).
(4)
زائغة مستطيلة؛ الزائغةُ: الطريق الذي حادَ عن الطريق الأعظم، من زاغت الشمسُ إذا مالت، والمستطيلة: بمعنى الطويلة، من استطالَ بمعنى طال. ينظر:«البحر» (7: 31)
(5)
زيادة من م.
(6)
تفصيل الكلام في المسألة مع رسم توضيحي لها:
الدَّارُ الثالثةُ التي في ركنِ المنشعبة غير النافذة:
لو كان بابُها في الطويلةِ يُمْنَعُ صاحبُها من فتحِ الباب في المنشعبةِ الغير النافذة؛ لأنّه ليس له حقُّ المرور فيها.
ولو كان
…
بابُها في المنشعبة لا يمنعُ من فتح باب في الأولى الطويلة.
وأمّا الدار الرابعة التي في ركن الثاني:
لو كان بابُها في الطويلةِ يمنعُ من فتحه في المنشعبةِ المذكورة.
وكذا لو كان في المنشعبةِ يمنع من فتحه في الطويلة؛ لأنّه ليس له حقُّ المرور في ذلك الجانب، لكن هذا إذا كانت الطويلةُ غير نافذة، بخلاف النافذة؛ لأنَّ له حقُّ المرور حينئذٍ من الجانبين. =
ومَن ادَّعى هبةً في وقتٍ فسُئِلَ بيِّنةً، فقال: قد جَحَدَنِيها فاشتريتُها منه، أو لم يقلْ ذلك، فأقامَ بيِّنةً على الشِّراءِ بعد وقتِ الهبةِ تُقْبَل، وقَبْلَهُ لا
وقولُهُ: لَزِقَ طرفاها: أي اتّصلَ طرفاها بالمستطيلةِ، والمرادُ بطرفيها نهايةُ سعتِها، وهذا إذا كانت مثل نصفِ دائرةٍ أو أقلّ، حتَّى لو كانت أكثرَ من ذلك لا يَفْتَح فيها الباب، فلنصوِّرْ صورتين: في الأُوْلَى يكون له فتح البابِ دون الثَّانيةِ، والفرقُ أنَّ الأُولَى تصيرُ ساحةً مشتركةً بخلافِ الثَّانيةِ، فإنَّهُ إذا كان داخلُها أوسعَ من مدخلِها يصيرُ موضعاً آخرَ غيرَ تابعٍ للأُولَى.
(ومَن ادَّعى هبةً في وقتٍ فسُئِلَ بيِّنةً، فقال: قد جَحَدَنِيها فاشتريتُها منه، أو لم يقلْ ذلك، فأقامَ بيِّنةً على الشِّراءِ بعد وقتِ الهبةِ تُقْبَل، وقَبْلَهُ لا).
= وأمّا الدارُ الخامسة في الركن الأوَّل من المنشعبة الثانية النافذة، فلصاحبها فتحُ الباب فيها، وفي الطويلةِ بخلاف الدار السادسةِ التي في الركن الثاني من المنشعبة المذكورة، فإنّه لو كان بابُه فيها يمنعُ من الفتح في الطويلةِ لو كانت غير نافذة، ولا يمنع لو كانت نافذة.
وأمّا الدور التي في الزائغةِ المستديرة فيجوزُ فتحُ بابها في تلك السِّكَّة، في أيِّ موضعٍ شاء صاحب الدار؛ لأنّها سِكَّةٌ واحدة، وهي بينهم بالشركة، ألا ترى أنّ لهم وجوبُ الشفعة لهم جميعاً، بخلافِ الدورِ التي في الزائغةِ المربّعة؛ فإنَّ الزائغةَ المربَّعة كسِكَّة في سِكّة، فليس لأهلِ الأولى الفتحُ في المربّعة، فاحفظ.
|
ومَن ادِّعى أن زيداً اشترى جاريتَه، فأنكرَ، وتركَ المدَّعي خصومتَهُ حلَّ له وطؤها، وصُدِّقَ المقرُّ بقبضِ عشرةٍ، إن ادَّعى أنَّها زيوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ، لا مَن ادِّعى أنها سَتُّوقةٌ، ولا مَن أقرَّ بقبضِ الجيادِ، أو حقِّه، أو الثَّمنِ أو الاستيفاءِ، الزَّيفُ ردٌّ لبيتِ المالِ كالنَّبَهْرَجَةِ للتُّجار، والسَتُّوقةُ ما غَلَبَ عليه غشُّهُ
قولُهُ: فأقام بيِّنةً على الشَّراءِ بعدَ وقتِ الهبةِ تقبل، وقبلَهُ لا؛ يرجعُ إلى الصورتين: أي ما إذا قال: قد جحدنيها، وما إذا لم يقلْ ذلك، فإنّ دعوى الهبةِ إقرارٌ بأن الموهوبَ ملكُ الواهبِ قبل الهبة، فلا تقبلُ دعوى الشِّراءِ قبل وقتِ الهبة. وأمَّا دعوى الشِّراء بعد وقتِ الهبةِ فلا تناقضَ فيها؛ لأَنَّها تقرِّر ملكَهُ بعد الهبة.
(ومَن ادِّعى أن زيداً اشترى جاريتَه، فأنكرَ، وتركَ المدَّعي خصومتَهُ حلَّ له وطؤها)؛ لأنَّه إذا تعذَّرَ للبائعِ حصولُ الثَّمنِ من المشتري فات رضاء البائع، فيستبدّ بفسخِه لا سيما إذا جَحَدَ المشتري، فإنَّ جحودَهُ فسخٌ من جهتِه.
(وصُدِّقَ المقرُّ بقبضِ عشرةٍ): أي إذا قال: قبضتُ من فلانٍ عشرةَ دراهمٍ، (إن ادَّعى أنَّها زيوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ، لا مَن ادِّعى أنها سَتُّوقةٌ، ولا مَن أقرَّ بقبضِ الجيادِ، أو حقِّه، أو الثَّمنِ أو الاستيفاءِ)
(1)
: أي إذا قال استوفيتُ منه عشرةَ دراهمٍ؛ لأنَّ الاستيفاءَ يدلُّ على الكمال.
(الزَّيفُ ردٌّ لبيتِ المالِ كالنَّبَهْرَجَةِ للتُّجار، والسَتُّوقةُ ما غَلَبَ عليه
(2)
غشُّهُ): الزَّيفُ والنَّبَهْرَجَةُ من جنسِ الدَّراهمِ التي الفضةُ غالبةٌ على الغشِّ إلاَّ أنَّها بالنسبةِ إلى الجيدِ يكونُ فضّتُهما أقلّ، إلاَّ أنَّ رداءةَ الزَّيفِ دونَ رداءةِ النَّبَهْرَجَة، فالزيفُ لا يَرُدُّهُ التُجّار، ويجري فيه المعاملةُ إلاَّ أن بيتَ المالِ لا يقبلُه، فإنَّ بيتَ المالِ لا يقبلُ إلاَّ ما هو جيدٌ غايةَ الجودة.
والنَّبَهْرَجةُ يردُّهُ التُجّارُ، والنَّبَهْرَجُ الباطلُ والرَّدِئ من الشَّيء، والدّرهم النَّبَهْرَجُ: قيل: ما بطل سِكَّته، وقيل: الذي فضتُهُ رديئةٌ، وقيل: الغالبُ الفضّةُ، وهو مُعَرَّبٌ نبهره.
(1)
محل عدم قبول دعواه الزيافة في هذه الثلاثة ما إذا فصل، وأما إذا وصل ذلك فإنه يصدق. ينظر:«الشرنبلالية» (2: 417).
(2)
زيادة من أ.
وقولُهُ: ليس لي عليك شيءٌ للمقرِّ بألفٍ يُبْطِلُ إقرارَهُ، وبل لي عليك ألفٌ بعدَهُ بلا حجَّةٍ لغو. فإن قالَ المدَّعى عليه عقيبَ دعوى مالٍ: ما كان لك عليّ شيءٍ قطّ، فأقامَ المدَّعي بيِّنةً على ألف، وهو على القضاء، أو الإبراء، قُبِلَتْ هذه، وإن زاد على إنكارِه، ولا أعرفُك، رُدَّت
وفي «المغرب» : لم أجدْهُ بالنُّون
(1)
.
والسَتُّوقة: تعريب ستوية: أي داخله نحاس مطليّ بالفضّةِ.
…
(2)
(وقولُهُ: ليس لي عليك شيءٌ للمقرِّ بألفٍ يُبْطِلُ إقرارَهُ
(3)
، وبل لي عليك ألفٌ بعدَهُ بلا حجَّةٍ لغو.
فإن
(4)
قالَ المدَّعى عليه عقيبَ دعوى مالٍ: ما كان لك عليّ شيءٍ قطّ، فأقامَ المدَّعي بيِّنةً على ألف، وهو
(5)
على القضاء، أو الإبراء، قُبِلَتْ هذه)، خلافاً لزُفَر رضي الله عنه؛ لأنَّ القضاءَ يقتضي سبقَ حقٍّ، وكذا الإبراءُ، وقد قال: ما كان لك عليّ شيءٌ فلا يُصَدَّقُ في دعوى القضاء والإبراء.
قلنا: القضاءُ قد يكونُ بلا حقّ، وكذا الإبراء، فإنّ المدَّعي قد يَبْرأُ عن حقٍّ ثابتٍ في زعمِه، وإن لم يكنْ ثابتاً في الحقيقة.
(وإن زاد على إنكارِه، ولا أعرفُك، رُدَّت): أي قالَ: ما كان لك عليَّ شيءٌ قطّ،
(1)
انتهى من «المغرب» (ص 53 - 54)، وعبارته: البهرج: الدرهم الذي فضته رديئة، وقيل: الذي الغلبة فيه للفضة إعراب نبهره، عن الأزهري وعن ابن الأعرابي: المبطل السكة، وقد استعير لكل رديء باطل، ومنه: بهرج دمه: إذا أهدر وأبطل، وعن اللحياني: درهم مبهرج: أي بنهرج. ولم أجده بالنون إلا له.
(2)
في أ زيادة: ومَن قالَ لآخر لك علي ألفُ درهمٍ، فقال: ليس لي عليك شيءٌ، ثُمَّ قال في مكانه: بل لي عليك ألفُ درهمٍ فليس على المقرِّ شيءٌ.
(3)
لأنَّ الإقرارَ بالدَّين يرتدُّ بردّ المُقَرِّ له، وكذا الإقرارُ بالعين، ولو صُدَّق ثمَّ رُدَّ لا يرتدّ. ينظر:«الكفاية» (6: 412).
(4)
أي ومن ادعى على آخر مالاً فقالك: ما لك .... ينظر: «الهداية» (3: 111).
(5)
أي والحال أنّ المدَّعى عليه برهنَ على أنّه قضاه أو أبرأه، وقيّد بدعوى الإيفاء بعد الإنكار، إذ لو ادَّعاه بعد الإقرارِ بالدَّين، فإن كان كلا القولين في مجلسٍ وإن لم يقبلْ للتناقض، وإن تفرَّقا عن المجلسِ ثمَّ ادّعاه وأقامَ البيَّنةَ على الإيفاءِ بعد الإقرارِ يقبلُ لعدمِ التناقض، وإن ادّعى الإيفاء قبل الإقرارِ لا يقبل. ينظر:«البحر» (7: 41)
...................................................................................................................
ولا أعرفكَ، ثُمَّ أقامَ بيِّنةً على القضاء أو الإبراء، لا تقبلُ لتعذُّرِ التَّوفيق؛ لأنَّهُ لا يكونُ بين اثنينِ أخذٌ وإعطاء، ومعاملةٌ وإبراءٌ بدون المعرفة، وذَكَرَ القُدُورِيُّ رضي الله عنه: أنَّه تُقْبَلُ أيضاً؛ لأنَّ المحتجبَ، أو المخدرةَ قد يأمرُ بعضَ وكلائِه، بإرضائِهِ، ولا يَعْرِفُه، ثُمَّ يَعْرِفُهُ بعد ذلك، فأمكنَ التَّوفيق.
واعلم أن إمكانَ التَّوفيقِ هل يكفي في دَفْعِ التَّناقُض، أو لا بُدَّ من أن يُصَرِّحَ بالتَّوفيق، اختلفَ فيه المشايخُ رضي الله عنه:
وَجْهُ الأَوَّل: أنَّ مع إمكانِ التَّوفيقِ لا يتحقَّقُ التَّناقضُ، فيحملُ عليه صيانةً لدعواهُ عن البطلان.
وَجْهُ الثَّانِي: أنَّه لا بُدَّ للدَّعوى من الصِّحَّةِ يقيناً، فإمكانُ الصِّحَّةِ لا يُبْطِلُ حقَّ المدَّعى عليه.
إذا عَرَفْتَ هذا، فأقول: في كلِّ صورةٍ يَقَعُ الشَّكُّ في صحَّةِ الدَّعوى: لا نقولُ إنّ إمكانَ الصِّحَّةِ كافٍ، كما إذا ادَّعى الهبةَ فَسُئِلَ بينةً، فلم يقدرْ، فادَّعى الشِّراء، فأقامَ بيِّنةً على الشِّراءِ من غيرِ أن يُبَيِّنَ أن الشِّراءَ قبل وقتِ الهبة، أو بعده لا تقبل؛ لأنَّه يُحْتَملُ أن يكونَ الشِّراءُ قبل وقتِ الهبة، وعلى هذا التَّقديرِ لا يَصِحُّ دعوى الشِّراء على ما مرّ، ويُحْتَمَلُ أن يكونَ الشِّراءُ بعد وقتِ الهبة، وعلى هذا التقدير يصحُّ دعوى الشِّراء كما مرّ.
فإذا وَقَعَ الشَّكُّ في صحَّةِ الدَّعوى لا نصحِّحُهُ بالشَّكّ؛ لأنَّ غايةَ ما في البابِ أن شراءهُ إن
(1)
كان متحقِّقاً قبلَ وقتِ الهبة، فيكونُ معنى دعوى الهبة: إنِّي كنتُ اشتريتُها منه، لكن ارتفعَ ذلك العقد، ثُمَّ صارَ ملكاً له، ثُمَّ وَهَبَ منِّي فلا بُدَّ من إقامةِ البيِّنةِ على الهبة، فإذا لم يكن له بيِّنةٌ على الهبة، لا يصحُّ دعواهُ، ولا يَبْطُلُ حقُّ المدَّعى عليه بالشَّكّ.
وفي كلِّ صورةٍ لا يكونُ الشَّكُّ في صحَّةِ دعواه، حتَّى يلزمَ إبطالُ حقِّ المُدَّعي عليه بالشَّكّ. فنقول: إمكانُ التَّوفيقُ كافٍ كما إذا أقامَ البيِّنةَ على القضاءِ أو الإبراءِ بعد إنكارِهِ المدَّعى به، وإقامة المدَّعي البيِّنةَ عليه، أو أقامَ المدَّعي البيِّنةَ على الشِّراءِ بعد وقتِ الهبةِ تقبل، فاحفظ هذا الضابط، فإنَّه كثيرُ النفعِ.
(1)
زيادة من أ.
ومَن أقام بيِّنةَ على شراءٍ، وأرادَ الرَّدَّ بعيبٍ رُدَّتْ بيِّنةُ بائعِهِ على براءتِهِ من كلِّ عيبٍ بعد إنكارِ بيعه، وذكرُ إن شاء الله تعالى في آخر صكٍّ يبطل كلَّهُ، وعندهما آخرَهُ وهو استحسانٌ
ثم اعلم أنّ هذا
(1)
التَّناقضَ إنِّما يمنعُ صحَّةَ الدَّعوى إذا كان الكلامُ الأَوَّلُ قد أُثْبِتَ لشخصٍ معيَّنٍ حقَّاً حتَّى إذا لم يكنْ كذلك لا يَمْنَعُ صحَّةَ الدَّعوى كما إذا قال لا حقَّ لي على أحدٍ من أهلِ سَمَرْقَنْدِ، ثم ادَّعى شيئاً على واحدٍ من أهلِ سَمَرْقَنْدَ يصحُّ دعواهُ.
(ومَن أقام بيِّنةَ على شراءٍ، وأرادَ الرَّدَّ بعيبٍ رُدَّتْ بيِّنةُ بائعِهِ على براءتِهِ من كلِّ عيبٍ بعد إنكارِ بيعه)، ادَّعى رجلٌ على آخرَ: أنِّي اشتريتُ منك هذا العبدَ بألف، وسلمتُ إليك الألف، فَظَهَرَ فيه عيبٌ فأردُّه بالعيب، فعليك أن تَرُدَّ الثَّمنَ إليَّ، فأنكرَ الخصمُ البيعَ فأقامَ المدَّعي بيِّنةً على البيعِ، فادَّعى الخصمُ براءةَ المدَّعَي من كلِّ عيب، وأقامَ بيِّنةً على ذلك، لا تُسْمَعُ لتناقض، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه: تُسْمَعُ قياساً على المسألةِ المذكورةِ: وهي ما كان لك عليّ شيءٌ قطّ، والفرقُ لأبي حنيفةَ رضي الله عنه، ومحمَّدٍ رضي الله عنه: أن في مسألةِ الدَّينِ: إن الدَّينَ قد يُقْضَى وإن كان باطلاً وهاهنا دعوى البراءة من العيبِ تستدعي قيامَ البيع، وقد أنكرَه.
(وذكرُ إن شاء الله تعالى في آخر صكٍّ يبطل كلَّهُ، وعندهما آخرَهُ وهو استحسانٌ)
(2)
: أي إذا كتبَ صكَّ إقرار، ثمَّ كتبَ في آخره كلُّ مَن أخرجَ هذا الصَّكَّ، وطلبَ (ما فيه)
(3)
من الحقِّ، ادفعْ إليه إن شاءَ الله تعالى.
فقولُهُ: إن شاء الله تعالى يَنْصَرِفُ إلى الكلِّ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه حتَّى يَبْطُلَ جميعُ الصَّكّ، وهو القياس، كما في قوله: عبدُهُ حُرٌّ وامرأتُهُ طالقٌ إن شاء الله تعالى، وعندهما
(1)
زيادة من م.
(2)
حاصله: أطلق المسألة فشملَت ما إذا اشتمل على شيءٍ واحدٍ أو أشياء، وفي الثاني: الاختلاف، قال الإمام: إذا كُتِبَ بيعٌ وإقرارٌ وإجارةٌ أو غير ذلك، ثم كتبَ في آخره إن شاءَ الله تعالى بطلَ الكلُّ قياساً؛ لأنَّ الكلَّ كشيءٍ واحدٍ بحكم العطف، ويبطلُ الآخر عندهما فقط استحساناً؛ لانصرافِ الاستثناء إلى ما يليه؛ لأنَّ الصكَّ للاستيثاق، وكذا الأصلُ في الكلامِ الاستيثاق، وأشارَ إلى أنَّ الكتابة كالنطقِ فلا بُدَّ فيهما من اتِّصال المشيئةِ فلو ترك فُرْجةً، فالاستثناء ينصرفُ إلى ما يليه اتِّفاقاً، كالسكوت. ينظر:«البحر» (7: 43):
(3)
زيادة من أ و م.
[فصل في القضاء بالمواريث]
نصرانيٌّ مات، فقالت عرسُه: أسلمتُ بعد موتِه، وقال ورثتُه: لا بل قبلَه، صُدِّقوا، كما في مسلم ماتَ، فقالت عرسُه: أسلمتُ قبلَ موتِه، وقالوا: بل بعد موته، ومَن قال: هذا ابنُ مودعي الميِّتِ لا وارثَ له غيرُهُ دَفَعَها إليه، ولو أقرَّ بابنٍ آخر لمودعِه، وجحدَ الأوَّلَ، فهي له، ولا يُكْفَلُ غريمٌ أو وارثٌ في تركةٍ قُسِّمَتْ بين الغرماء أو الورثةِ بشهودٍ لم يقولوا: لا نعلمُ له غريماً آخر، أو لا وارثاً آخر، وهو احتياطُ ظلمٍ
يَنْصَرِفُ إلى الآخرِ، وهو الاستحسان؛ لأنَّ الصَّكَّ للاستيثاقِ، فالاستثناءُ يَنْصَرِفُ إلى ما يليه.
[فصل في القضاء بالمواريث]
(نصرانيٌّ مات، فقالت عرسُه: أسلمتُ بعد موتِه، وقال ورثتُه: لا بل قبلَه، صُدِّقوا، كما في مسلم ماتَ، فقالت عرسُه: أسلمتُ قبلَ موتِه، وقالوا: بل بعد موته
(1)
)، هذا عندنا، وعند زفرَ رضي الله عنه في المسألةِ الأَولى القولُ قولها؛ لأنَّ الإسلامَ حادثٌ فيضافُ إلى أقربِ الأوقات، ولنا: أن سببَ الحرمانِ ثابتٌ في الحال، فيثبتُ فيما مضى تحكيماً للحالِ، وهي تَصْلُحُ حجَّةً للدفع
(2)
.
(ومَن قال: هذا ابنُ مودعي الميِّتِ لا وارثَ له غيرُهُ دَفَعَها إليه): أي دفعَ الوديعةَ إليه، (ولو أقرَّ بابنٍ آخر لمودعِه، وجحدَ الأوَّلَ، فهي له): أي للمُقَرِّ له الأَوَّل؛ لأنَّ الأقرارَ الأوَّلَ لم يكنْ له مكذِّبٌ فصحَّ، فلا يصحُّ الثَّاني؛ لأنَّ الأوَّلَ مكذِّبٌ له.
(ولا يُكْفَلُ غريمٌ أو وارثٌ في تركةٍ قُسِّمَتْ بين الغرماء أو الورثةِ بشهودٍ لم يقولوا: لا نعلمُ له غريماً آخر
(3)
، أو لا وارثاً آخر، وهو احتياطُ ظلمٍ)
(4)
: أي إذا شَهِدَ
(1)
زيادة من ق.
(2)
فلا يقال: إنّها مسلمةٌ في الحال، فتكون مسلمةً قبل موته؛ لأنَّ الظاهرَ لا يصلحُ حجَّةً للاستحقاق، والمرأةُ محتاجةٌ إلى الاستحقاق، ويشهدُ لهم ظاهرُ الحدوث أيضاً. ينظر:«العناية» (4: 425).
(3)
زيادة من أ و ب و ق.
(4)
قال أبو حنيفة رضي الله عنه: هذا شيءٌ احتاطَ به بعض القضاة، وهو ظلم، وعنى به ابن أبي ليلى رضي الله عنه، فإنّه كان يفعلُهُ بالكوفة، والمرادُ بالظلمِ الميلُ عن سواءِ السبيل. ينظر:«الفتح» (6: 432).
وعقارٌ أقامَ زيدٌ حجَّةً أنَّه له ولأخيهِ إرثاً من أبيهما قَضَى له بنصفِه، وتركَ باقيه مع ذي اليدِ بلا تكفيلِه جَحَدَ دعواهُ أو لا، والمنقولُ مثلُهُ، وقيل: يؤخذُ هو منه بالاتفاق، ووصّيتُهُ بثُلُثِ مالِهِ على كلِّ شيءٍ، ومالي أو ما أملك صدقةٌ على مالِ الزَّكاةِ
الشُّهودُ للغرماءِ أو الورثة، ولم يقولوا: لا نعلمُ للميِّتِ غريماً أو وارثاً آخر، قُسِّمَتْ التَّركةُ بينهم، ولا يؤخذُ منهم كفيلٌ، وقد احتاطَ بعضُ القضاة، فأخذوا منهم كفيلاً، وهذا الاحتياطُ ظلم؛ لأنَّه ثبتَ حقُّهم، ولم يُعْلَمْ حقٌّ لغيرِهم؛ ولأنَّه لم يوجدْ المكفولُ له، وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: يأخذُ القاضي كفيلاً منهم.
(وعقارٌ أقامَ زيدٌ حجَّةً
(1)
أنَّه له ولأخيهِ إرثاً من أبيهما قَضَى له بنصفِه، وتركَ باقيه مع ذي اليدِ بلا تكفيلِه جَحَدَ دعواهُ أو لا)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ ذا اليدِ قد اختارَهُ الميْتُ، فلا يقصرُ يدَهُ عمَّا ليس مدَّعيه حاضراً، وعندهما إن جحدَ ذو اليدِ لا يتركُ الباقي في يدِه؛ لأنَّ الجاحدَ خائنٌ فيؤخذُ منه، ويُجْعَلُ في يدِ أمين، وإن لم يَجْحَدْ تركَ القاضي
(2)
في يدِهِ للابن الغائب، وإذا تُرِكَ في يدِهِ لا يؤخذُ منه كفيل.
(والمنقولُ مثلُهُ، وقيل: يؤخذُ هو منه بالاتفاق): أي إذا كانت المسألةُ في المنقول:
قيل: هو على هذا الخلافِ، فإنَّهُ إذا تَرَكَ الباقي في يدِه إذا لم يَجْحَدْ، ففي صورةِ الجحودِ أَوْلَى؛ لأنَّهُ مضمونٌ في يدِه، ولو وُضِعَ في يدِ آخرَ كان أمانةً، فالأَوَّلُ أَوْلَى.
وقيل: يؤخذُ منه عند الجحودِ اتِّفاقاً.
(ووصّيتُهُ بثُلُثِ مالِهِ على كلِّ شيءٍ، ومالي أو ما أملك صدقةٌ على مالِ الزَّكاةِ)، هذا عندنا، وعند زفرَ رضي الله عنه يَقَعُ على كلِّ شيءٍ (كما في الوصية)
(3)
قضية لإطلاقِ اللفظ، ونحن اعتبرنا إيجابَ العبدِ بإيجابِ الله تعالى.
(1)
هذا التعميم غيرُ صحيح بعد قوله: أقامَ زيدٌ حجَّةً أنّه له ولأخيه؛ لأنَّ إقامةَ الحجَّةِ يستلزمُ سبقَ الجحود، وأيضاً أجمعوا على أنّه لا يؤخذُ كفيلٌ في صورةِ الإقرارِ أيضاً، فالصوابُ أن يبدل قوله: أقامَ زيدٌ حجَّةً أنّه له ولأخيه بقوله: يثبت أنّه له ولأخيه، فيشمل الثبوتَ بالإقرار، ولا كفيل فيه اتّفاقاً، وبالبيِّنة، وفيه الخلاف، ويسقطُ قولَه: جحد دعواه أو لا؛ ينظر: «الزبدة» (3: 143)؛ ولذلك لم يستعلمه صاحب «الدرر» (2: 418)، و «الملتقى» (ص 132)، وغيرها.
(2)
زيادة من أ.
(3)
زيادة من ب و م.
فإن لم يجدْ إلاَّ ذلك أمسكَ منه قوتَه، فإذا ملكَ تصدَّقَ بما أخذَ، ولم يقدر بشيءٍ لاختلاف أحوال الناس، وصحَّ الإيصاءُ بلا علم الوصيِّ به لا التَّوكيل، وشُرِطَ خَبَرُ عدلٍ، أو مستورينِ؛ لعزلِ الوكيلِ، ولعلمِ السَّيدِ بجناية عبده، وللشفيع بالبيعِ، والبكرِ بالنِّكاحِ، ومسلمٍ لم يهاجرْ بالشَّرائعِ لا لصحةِ التَّوكيلِ
(فإن لم يجدْ إلاَّ ذلك أمسكَ منه قوتَه، فإذا ملكَ تصدَّقَ بما أخذَ، (ولم يقدر بشيءٍ لاختلاف أحوال الناس)
(1)
)، قيل: المحترفُ يمسكُ لنفسِهِ وعيالِهِ قوتَ يوم، وصاحبُ المستغل
(2)
ما يُحتاجُ إليه إلى وصول غلَّته، وأكثرُ ذلك شهر، وصاحبُ الضياعِ إلى وصولِ ارتفاعِه، وأكثرُ ذلك سنة، وصاحبُ التِّجارةِ إلى وصولِ مالِ تجارتِه.
(وصحَّ الإيصاءُ بلا علم الوصيِّ به لا التَّوكيل): أي إن جَعَلَ شخصاً وصيَّاً بعد موتِه، ولم يعلمِ الوصيُّ بذلك، فباعَ شيئاً من تركتِه يجوزُ بيعُه، بخلافِ ما إذا وَكَّلَ رَجلاً بالبيعِ، ولم يعلَمِ الوكيلُ بذلك فباعَ شيئاً (من التَّركةِ)
(3)
لا يجوزُ بيعُه
(4)
، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه لا يجوزُ بيعُ الوصيِّ أيضاً.
(وشُرِطَ خَبَرُ عدلٍ، أو مستورينِ
(5)
؛ لعزلِ الوكيلِ، ولعلمِ السَّيدِ بجناية عبده، وللشفيع
(6)
بالبيعِ، والبكرِ بالنِّكاحِ، ومسلمٍ لم يهاجرْ
(7)
بالشَّرائعِ لا لصحةِ التَّوكيلِ):
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
صاحبُ المستغلّ: صاحبُ الغلَّةِ الذي يملكُ الدورَ والحوانيتَ والبيوتَ التي يؤجِّرها بشهر؛ لأنَّ يدَه تصلُ إلى ما ينفقُ شهراً فشهراً. ينظر: «ذخيرة العقبى» (ص 433).
(3)
زيادة من ص.
(4)
والفرق أن الوصية استخلاف بعد انقطاع ولاية الموصي، فلا يتوقَّف على العلم كتصرف الوارث، والتوكيل إثبات ولاية التصرف في ماله لا استخلاف بعده لبقاء ولاية المنوب عنه، فلا يصحُّ بلا علم مَن يثبت له الولاية. ينظر:«الدرر» (2: 419).
(5)
ظاهرُ قوله، أنّه لا يقبلُ خبر الفاسقين، وهو ضعيف، والتصحيحُ قبوله وثبوتُ هذه الأحكام؛ لأنَّ تأثيرَ خبرِ الفاسقين أقوى من تأثير خبرِ العدلِ بدليل أنّه لو قضى بشهادةٍ واحدٍ عدلٍ لم ينفذْ وبشهادةِ فاسقين ينفذ. كما في «البحر» (7: 50) نقلاً عن «الفتح» (6: 439)، ولذا قال في «الدر المختار» (4: 367): أو فاسقين في الأصح.
(6)
في أ و ج وص و ق: الشفيع.
(7)
وكذا الإخبارُ بعيبٍ لمريدِ لشراء، أو حجرِ مأذون، وفسخ شركة، وعزلُ قاضٍ، ومتولِّي وقف، فهي عشرةٌ يشترطُ فيها أحد شطري الشهادة لا لفظها. ينظر:«الدر المختار» (4: 367).
ولا يضمنُ قاضٍ أو أمينُهُ إن باعَ عبداً للغرماء، وأخذَ ثمنَهُ فضاعَ واستحقَّ العبدُ أو ماتَ قبل القبضِ، فيرجع المشتري على الغرماءِ، وإن باعَ الوصيُّ لهم بأمرِ قاضٍ، فاستحقَّ العبدُ أو ماتَ قبلَ قبضِه فضاعَ ثمنُهُ رَجَعُ المشتري على الوصيِّ، وهو عليهم
أي إذا عزلَ الموكِّلُ الوكيل، فأخبرَهُ بذلك عدلٌ أو مستورانِ لا يصحُّ تصرفُهُ بعد ذلك، ولو أخبرُهُ فاسقٌ أو مستورُ الحالِ لا اعتبارَ لإخبارِهِ حتَّى يجوزَ تصرُّفُه، وكذا إذا جَنَى عبدٌ خطأً فَعَلِمَ السَّيِّدُ بجنايتِهِ بإخبارِ عدلٍ أو مستورينِ، فباعَ السَيِّدُ عبدَهُ يكونُ مختاراً للفداء، وكذا إذا عَلِمَ الشَّفيعُ بيعَ الدَّارَ فسكتَ إن أخبرَهُ عدلٌ أو مستوران، يكونُ سكوتُهُ تسليماً، وكذا في علم البكرِ بإنكاحِها إذا سكتتْ، والمسلمُ الذي لم يهاجرْ إذا أخبرَهُ عدلٌ أو مستورانِ يَجِبُ عليه الشَّرائع.
أمَّا صحَّةُ التَّوكيلِ فلا يشترطُ لها ذلك حتَّى إذا أخبرَه فاسقٌ بأن فلاناً وكَّلَهُ بالبيع، فباعَ، يجوزُ بيعُهُ؛ وذلك لأنَّه إنِّما يشترطُ العددُ والعدالةُ في الشَّهادة؛ لأنَّها إلزامٌ محضٌ فلا بُدَّ من التأكيد، أمَّا التَّوكيلُ فليس فيه معنى الإلزام أصلاً، فلا يشترطُ فيه شيءٌ من وصفي الشَّهادةِ: أي العددُ والعدالة.
وأمَّا عزلُ الوكيلِ ونحوِه فإلزامٌ من وجهٍ دونَ وجه، فمن حيث إنَّه لا يَبْقَى له ولايةُ التَّصرفِ يكونُ إلزامَ ضرر، ومن حيث أنَّ الموكِّلَ يتصرَّفُ في حقِّ نفسِهِ بالعزلِ ليس بإلزامٍ، فيشترطَ له أحدُ وصفي الشَّهادة.
(ولا يضمنُ قاضٍ أو أمينُهُ إن باعَ عبداً للغرماء): أي باعَ عبداً للمديونِ لأجلِ الدَّائنين، (وأخذَ ثمنَهُ فضاعَ واستحقَّ العبدُ (أو ماتَ قبل القبضِ)
(1)
، فيرجع المشتري على الغرماءِ)؛ لأنَّهُ تعذَّرَ الرُّجوعُ على القاضي فيضمنُ الغرماء؛ لأنَّ القاضي قد عَمِلَ لهم، وأمينُ القاضي كالقاضي.
(وإن باعَ الوصيُّ لهم بأمرِ قاضٍ
(2)
، فاستحقَّ العبدُ أو ماتَ قبلَ قبضِه فضاعَ ثمنُهُ رَجَعُ المشتري على الوصيِّ، وهو عليهم)؛ لأنَّ العاقدَ هو الوصيُّ فعليه الرُّجوع، والوصيُّ يَرْجِعُ عليهم؛ لأنَّه عَمِلَ لأجلهم.
(1)
زيادة من أ.
(2)
والتقييدُ بأمرِ القاضي اتِّفاقي، ولهذا قال الحصيريّ: أمرُ القاضي وعدمُه سواء. ينظر: «المنح» (ق 2: 116/ب)، و «الدر المختار» (4: 368).
ولو أمركَ قاضٍ عالمٌ عدلٌ بفعلٍ قَضَى به على هذا من رجم، أو قطع، أو ضربٍ وَسِعَكَ فعلُه، وصُدِّقَ عدلٌ جاهلٌ سُئِلَ فأحسنَ تفسيرَهُ، ولم يُقْبَلْ قول غيرهما، وصُدِّقَ قاضٍ عُزِلَ، وقالَ لزيدٍ: أخذتُ منكَ ألفاً قضيتُ به لعمرو، ودفعتُهُ إليه، أو قال له: قضيتُ بقطعِ يدكَ في حقٍّ، وادَّعى زيدٌ أخذَهُ وقطعَهُ ظلماً، وأقرَّ بكونِهما في قضائِهِ
(ولو أمركَ قاضٍ عالمٌ عدلٌ بفعلٍ قَضَى به على هذا من رجم، أو قطع، أو ضربٍ وَسِعَكَ فعلُه، وصُدِّقَ عدلٌ جاهلٌ سُئِلَ فأحسنَ تفسيرَهُ، ولم يُقْبَلْ قول غيرهما): القاضي:
إمَّا عالمٌ عادل.
أو جاهلٌ عادل.
أو عالم غير عادل.
أو جاهل غير عادل.
فالأَوَّلُ إن قال لك: قضيتُ لك بقطعِ يدِ زيدٍ فاقطعْ يدَهُ جاز لك قطعُ يدِه.
والقاضي الثَّاني: إن قالَ هذا فلا بُدَّ من أن تسألَهُ عن سببِه، فإن أحسنَ تفسيرَهُ وجبَ تصديقُه، فيجوزُ لك قطعُ يدِه.
وأمَّا الأخيران فلا يُقْبَلُ قولُهما.
(وصُدِّقَ قاضٍ عُزِلَ، وقالَ لزيدٍ: أخذتُ منكَ ألفاً قضيتُ به لعمرو، ودفعتُهُ إليه، أو قال له: قضيتُ بقطعِ يدكَ ف ي حقٍّ، وادَّعى زيدٌ أخذَهُ وقطعَهُ ظلماً، وأقرَّ بكونِهما في قضائِهِ): لأنَّ زيداً لمَّا أقرَّ يكونُ الأخذُ والقضاءُ بقطعِ اليدِ في زمانِ قضائِه، فالظَّاهرُ أنَّ القاضي لا يظلمُ، فالقولُ للقاضي، أمَّا إذا لم يُقِرَّ بكونِهما في زمانِ قضائِه، بل قال: إنِّما فعلتُ هذا قبل التَّقليد، أو بعدَ العزل، فإن أقامَ بيِّنةً على هذا فالقاضي يكونُ مبطلاً في هذا الفعل، وإن لم يكنْ له بيِّنةٌ، فالقولُ للقاضي، (والله أعلم)
(1)
.
* * *
(1)
زيادة من ب و م.
كتاب الشهادة والرجوع عنها
هي إخبارٌ بحقِّ للغيرِ على آخرَ، وتَجِبُ بطلبِ المدَّعي، وسَتْرُها في الحدودِ أحبُّ، ويقولُ في السِّرقة: أخذَ، لا سَرَق. ونصابُها: للزِّنا: أربعةُ رجال. وللقَوَدِ وباقي الحدودِ: رجلان.
كتاب الشهادة والرجوع عنها
(هي إخبارٌ بحقِّ للغيرِ على آخرَ)، الإخباراتُ ثلاثةٌ:
إمِّا بحقٍّ للغيرِ على آخر، وهو الشَّهادة.
أو بحقٍّ للمخبرِ على آخر، وهو الدَّعوى.
أو بالعكس، وهو الإقرار.
(وتَجِبُ
(1)
بطلبِ المدَّعي
(2)
، وسَتْرُها في الحدودِ أحبُّ): أي أفضلُ، (ويقولُ في السِّرقة: أخذَ، لا سَرَق): إنِّما يقول: أخذَ؛ لئلا يضيعَ حقُّ المالك
(3)
، ولا يقولُ: سَرَق؛ لئلا يَجِبُ الحَدّ.
(ونصابُها:
للزِّنا: أربعةُ رجال.
وللقَوَدِ وباقي الحدودِ: رجلان.
(1)
إنّما يأثم إذا علم أنَّ القاضي يقبلُ شهادتَه وتعيَّن عليه الأداء، وإن عَلِمَ أن القاضي لا يقبلُ شهادتَه، أو كانوا جماعةً فأدَّى غيرُه ممَّن تقبلُ شهادتُه فقبلت، قالوا: لا يأثم، وإن ادَّعى غيرُه، ولم تقبلْ شهادتُه يأثم مَن لم يؤدّ إذا كان ممَّن تقبلُ شهادته؛ لأنَّ امتناعه يؤدِّي إلى تضييع الحقوق، هذا إذا كان موضعُ الشاهدِ قريباً من موضعِ القاضي، وإن كان بعيداً بحيث لا يمكنُهُ أن يَغْدُو إلى القاضي لأداء الشهادةِ ويرجعُ إلى أهله في يومه ذلك، قالوا: لا يأثم؛ لأنّه يلحقُهُ الضرر بذلك. ينظر: «التبيين» (4: 207).
(2)
ويجب الأداءُ بلا طلبٍ لو كانت الشهادةُ في حقوق الله تعالى؛ كعتق أمَة وطلاقِ امرأةٍ حرَّة كانت أو أمة. ينظر: «المنح» (ق 2: 118/أ).
(3)
أي إحياء لحق المسروق منه لا سرق محافظةً على الستر؛ لأن الشهادة بالمال واجبة إن طلب المدعي، والستر في الحدود أفضل، وفي قوله: أخذ مراعاة الأمرين. ينظر: «فتح باب العناية» (3: 129).
وللبكارةِ، والولادةِ، وعيوبِ النِّساءِ فيما لا يطَّلِعُ عليه الرِّجالُ: امرأة، (ولغيرها: مالاً أو غير مال: كنكاحٍ، ورضاع، وطلاق، ووكالة، ووصية، رجلان أو رجلٌ وامرأتان، (وشُرِطَ للكلِّ العدالةُ، ولفظُ الشَّهادة، فلم يُقْبَلْ إن قال: أعلم، أو أتيقنّ، ولا يسألُ قاضٍ عن شاهدٍ بلا طعنِ الخصمِ إلاَّ في حدٍّ وقَوَد، وقالا: يسألُ في الكلِّ سِرّاً وعلانيةً، وبه يُفْتَى في زماننا، ويكفي سِراً
وللبكارةِ، والولادةِ، وعيوبِ النِّساءِ فيما لا يطَّلِعُ عليه الرِّجالُ: امرأة)، إنِّما قالَ هذا؛ لأنَّ عيوبَ النِّساءِ إذا كانت ممَّا يطَّلعُ عليه الرِّجالِ: كالإصبعِ الزَّائدةِ مثلاً لا يكفي شهادةُ امرأة.
(ولغيرها: مالاً أو غير مال: كنكاحٍ، ورضاع، وطلاق، ووكالة، ووصية، رجلان أو رجلٌ وامرأتان): إنِّما قال: مالاً أو غيرَ مال؛ لأنَّ فيه خلافَ الشَّافِعِيِّ
(1)
رضي الله عنه، فإنَّ غيرَ المالِ لا يُقْبَلُ فيه شهادةُ رجلٌ وامرأتينِ عنده، بل هذا مخصوصٌ بالمال.
(وشُرِطَ للكلِّ العدالةُ
(2)
، ولفظُ الشَّهادة)، اعلم
(3)
أنَّ العدالةَ شَرْطٌ عندنا لوجوبِ القَبُولِ لا لصحَّةِ القَبُول، فغيرُ العدلِ لا يَجِبُ على القاضي أن يقبلَ شهادتَهُ، أمَّا إن قَبِلَ، وحكمَ به صحَّ حُكْمُه.
(فلم يُقْبَلْ إن قال: أعلم، أو أتيقنّ، ولا يسألُ قاضٍ عن شاهدٍ بلا طعنِ الخصمِ): أي لا يسألُ القاضي ولا يتفحَّصُ أنَّ الشَّاهدَ عدلٌ أو غيرُ عدلٍ إذا لم يطعنِ الخصمُ فيه (إلاَّ في حدٍّ وقَوَد، وقالا: يسألُ في الكلِّ سِرّاً وعلانيةً، وبه يُفْتَى في زماننا، ويكفي سِراً)، فإنَّهُ قد قيل: تزكيةُ العلانيةِ بلاءٌ وفتنةٌ، فإنّ المزكِّيَ إن أعلنَ بمساوئِ الشَّاهدِ يُهَيِّجُ بينهما عداوةً وبغضاءً، وربُّما يمنعُهُ الخوفُ أو الحياء أو غيرهما عن أن يقولَ في الشَّاهدِ ما هو حقّ.
(1)
ينظر: «الأم» (7: 51)، و «المنهاج» (4: 442)، و «المحلي» (4: 326)، وغيره.
(2)
العدالة: هي الانزجارُ من المحظورات الدينيّة. ينظر: «التوضيح» (2: 12)
(3)
سيوضح الشارح رضي الله عنه ما في عبارة المصنف رضي الله عنه من الإجمال في التسوية بين العدالةِ ولفظِ الشهادةِ في الاشتراط تبعاً لصاحب «الهداية» (3: 118)، وليس كذلك؛ لأنَّ لفظَ الشهادة ركنٌ كصحَّة الأداء، والعدالةُ ليست شرطاً لصحَّة الأداء، بل ظهورها شرطٌ لوجوبِ القضاءِ على القاضي، ولذا قال في «التنوير» (ص 151): والعدالةُ لوجوبهِ لا لصحّته، فلو قضى بشهادة فاسقٍ نفذ. انتهى. وقال في «الهداية» (3: 118): لو قضى بشهادةِ الفاسقِ يصحُّ عندنا. انتهى. وزادَ في «الفتح» (6: 456): وكانَ القاضي عاصياً. انتهى.
وكفى للتَّزكية: هو عدلٌ في الأصحّ، ولا يصحُّ تعديلُ الخصمِ؛ بقوله: هو عدلٌ أخطأَ أو نسيَ، فإن قال: عَدْلٌ صَدَق، ويَثْبُتُ الحقّ. وكَفَى واحدٌ للتَّزكية وترجمةِ الشَّاهدِ والرِّسالةِ إلى المُزَكِّي، والاثنان أحوط.
[فصل في بيان أنواع ما يتحمله الشاهد]
ولِمَن سمعَ بيعاً، أو إقراراً، أو حكم قاض، أو رأى غصباً، أو قتلاً أن يشهدَ به
(وكفى للتَّزكية: هو عدلٌ في الأصحّ)، فإنَّهُ قد قيل: لا بُدَّ أن يقولَ: هو عدلٌ جائزُ الشَّهادة، لكنَّ الأصحَّ هو الأَوَّل؛ لأنَّ الحريّةَ تَثْبُتُ بدارِ الإسلام، فإذا قال: هو عدل، يكونُ جائزُ الشَّهادة، (ولا يصحُّ
(1)
تعديلُ الخصمِ
(2)
؛ بقوله: هو عدلٌ أخطأَ أو نسيَ
(3)
، فإن قال: عَدْلٌ صَدَق، ويَثْبُتُ الحقّ
(4)
.
وكَفَى واحدٌ للتَّزكية وترجمةِ الشَّاهدِ والرِّسالةِ إلى المُزَكِّي، والاثنان أحوط)
(5)
، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه، وأمَّا عند محمَّدٍ رضي الله عنه يَجِبُ الاثنان، وهذا في تزكيةِ السِّرّ، أمَّا في تزكيةِ العلانية، فقد قال الخَصَّافُ رضي الله عنه: يَجِبُ الاثنانِ إجماعاً؛ لأنَّها في معنى الشَّهادة، حتَّى لا يصحَّ تزكيةُ العلانيةِ من العبد، ولا بُدَّ أن يكونَ المزكِّي عدلاً، فلا تُقْبَلُ تزكيةُ الفاسقِ ومستورِ الحال.
[فصل في بيان أنواع ما يتحمله الشاهد]
(ولِمَن سمعَ بيعاً، أو إقراراً، أو حكم قاض، أو رأى غصباً، أو قتلاً أن يشهدَ به،
(1)
هكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه ومراده على قول من يرى السؤال عن الشهود، وأما على قوله فلا يتأتى ذلك؛ لأنه لا يرى السؤال عنهم. ينظر:«الرمز» (2: 101).
(2)
يشملُ المدَّعي والمدَّعى عليه، وإن كان المراد في كلامهم المدَّعى عليه، وهو الظاهرُ فعدمُ صحَّته من المدَّعي بالأولى. ينظر:«المنح» (ق 2: 121/ب).
(3)
وكذا لو قال: هم عدول ولم يزد عليه حيث لا يلزمه شيء؛ لأنهم مع كونهم عدولاً يجوز منهم النسيان والخطأ، فلا يلزم من كونه عدلاً أن يكون كلامه صواباً. ينظر:«الدرر» (2: 373).
(4)
أي باعترافه فيقضى بإقراره لا بالبينة عند الجحود. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 190).
(5)
يعني يصلحُ الواحدُ أن يكون مزكّياً للشاهدِ ومترجماً عن الشاهد، ورسولاً من القاضي إلى المزكِّي عند الشيخين؛ لأنَّ التزكيةَ من أمور الدين فلا يشترط فيها إلاَّ العدالة، حتى تجوز تزيكةُ العبدِ والمرأة والأعمى والمحدود في قذفٍ إذا تاب؛ لأنّ خبرَهم مقبولٌ في الأمور الدينيّة، والإثنان أحوط؛ لاَّن في زيادة طمأنينته. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 190).
وإن لم يُشَهَّدْ عليه، ويقولُ: أشهدُ لا أشهدني، ولا يَشْهَدُ على الشَّهادةِ ما لم يُشَهِّدْ عليها، فلا يَشْهَدُ عليها مَن سَمِعَ شهادةَ شاهدٍ، أو الإشهادَ على الشَّهادة، ولا يَشْهَدُ مَن رأى خَطَّه، ولم يَذْكُرْ شهادتَه، ولا بالتَّسامعِ بلا عيانٍ إلاَّ في النَّسب، والموت، والنِّكاح، والدُّخول، وولاية القضاء القاضي، وأصلِ الوقفِ إذا أخبرَه به عدلان أو رجلٌ وامرأتان
وإن لم يُشَهَّدْ عليه): فقولُهُ: أن يشهدَ به مبتدأٌ، ولِمَن سمعَ خَبَرُهُ مقدَّماً عليه، وسماعُ البيعِ أنَّهُ قد سَمِعَ قولَ البائعُ: بعت، وقول المشتري: اشتريت، (ويقولُ: أشهدُ لا أشهدني): أي في صورة: لم يشهد المشهودُ عليه.
(ولا يَشْهَدُ على الشَّهادةِ ما لم يُشَهِّدْ عليها، فلا يَشْهَدُ عليها مَن سَمِعَ شهادةَ شاهدٍ، أو الإشهادَ على الشَّهادة): أي سَمِعَ رجلٌ أداءَ الشَّهادةِ عند القاضي لا يَسَعُ له أن يَشهدَ على شهادتِه، وكذا إن سَمِعَ إشهاد الشَّاهدِ رجلاً آخرَ على شهادتِهِ لا يَسَعُ له أن يَشهدَ على شهادتِه؛ لأنَّه ما حمَّلَهُ، وإنِّما حمَّل غيرَه.
(ولا يَشْهَدُ مَن رأى خَطَّه، ولم يَذْكُرْ شهادتَه)
(1)
، هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنَّ الخطَّ يُشْبِهُ الخطَّ، وعندهما: يحلّ إذا عَلِمَ أن هذا خطُّه؛ لأنَّ التَّغييرَ فيه نادرٌ.
وقيل: ما ذُكِرَ أنَّه لا يَشْهَدُ لا خلافَ فيه، وإنِّما الخلافُ فيما إذا وَجَدَ القاضي شهادتَهُ في ديوانِه؛ لأنَّ ما يكونُ تحت ختمِهِ يؤمنُ عليه التَّغييرُ بخلافِ الصَّكِّ فإنَّه في يدِ الخصم.
(ولا بالتَّسامعِ بلا عيانٍ إلاَّ في النَّسب، والموت، والنِّكاح، والدُّخول، وولاية القضاء
(2)
القاضي، وأصلِ الوقفِ إذا أخبرَه به عدلان أو رجلٌ وامرأتان): أي إذا كانوا عدولاً، والمرادُ بأصلِ الوقفِ أن هذه الضيعةَ وَقْفٌ على كذا، فبيانُ المصرفِ داخلٌ في أصلِ الوقف، وأمَّا الشُّروطُ فلا يحلُّ فيها الشَّهادة بالتَّسامع.
(1)
أي لا يحل للشاهد إذا رأى خطّه أن يشهد إلا أن يتذكر ولا للقاضي إذا وجد ديوانه مكتوباً بشهادة شهود ولا يحفظ أنهم شهدوا بذلك أو قضية قضاها أن يحكم بتلك الشهادة ولا أن يمضي تلك القضية حتى يتذكر الشهادة أو القضية، وفي المسألة تفصيل واختلاف في الفتوى. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 192).
(2)
زيادة من ق.
ويشهد رأى جالسٌ مجلسَ القضاء يَدْخُلُ عليه الخصومُ أنه قاض، ورجل وامرأة يسكنان بيتاً، وبينهما انبساطُ الأزواج أنَّها عرسُهُ، وشيءٌ سوى الرَّقيقِ في يدِ متصرِّفٍ كالملاكِ أنَّه له، فإن فسَّرَ للقاضي شهادتَهُ بالتَّسامع، أو بحكمِ اليدِ بطلت ومَن شَهِدَ أنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ زيد، أو صلَّى عليه، قُبِلَتْ، وإن فسَّرَ وهو عيان
(ويشهد رأى جالسٌ مجلسَ القضاء يَدْخُلُ عليه الخصومُ أنه قاض، ورجل وامرأة يسكنان بيتاً، وبينهما انبساطُ الأزواج أنَّها عرسُهُ، وشيءٌ سوى الرَّقيقِ في يدِ متصرِّفٍ كالملاكِ أنَّه له)
(1)
.
فقوله: ورجلٌ وامرأةٌ عطفٌ على قولِهِ جالس.
وقوله: أنَّها عرسُهُ عطفٌ على قولِهِ أنَّه قاض، فهذا من بابِ العطفِ على معمولي عاملين مختلفين، والمجرورُ مقدَّم، فإنَّ جالسَ معمولُ رأى، وإنَّه قاضٍ معمولُ يَشْهَد.
وإنِّما قال سوى الرَّقيق؛ لأنَّ الآدمي له يدٌ على نفسِهِ فيدفعُ يدَ الغيرِ عن نفسِه، والمرادُ إنسانٌ يُعَبِّرُ عن نفسِهِ حتَّى لو لم يُعَبِّرْ عن نفسِهِ كالصَّغير والصَّغيرة، فإنَّهما لا يدَ لهما فيعتبرُ يدُ الغير.
(فإن فسَّرَ للقاضي شهادتَهُ بالتَّسامع، أو بحكمِ اليدِ بطلت)
(2)
، أقول: هذا يؤكِّدُ قولَ أبي يوسفَ رضي الله عنه: أن بمجرَّدِ اليدِ لا تَحِلُّ الشَّهادة، بل يُشْتَرَطُ أن يقع في قلبِهِ أنَّه ملكُه، فإنَّه قد قيل: إنَّ قولَ أبي يوسفَ رضي الله عنه تفسيرُ لإطلاقِ قول محمد رضي الله عنه في روايةٍ؛ وذلك لأنَّ مجرَّدَ اليدِ لو كان سبباً لَمَا أبطلَ إظهارَ السبب الشَّهادة، فإذا بيَّن أنَّه يشهدُ بمجردِّ اليدِ بطلتْ شهادتُه.
(ومَن شَهِدَ أنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ زيد، أو صلَّى عليه، قُبِلَتْ، (وإن فسَّرَ)
(3)
وهو عيان)؛ لأنّ معاينةَ الموتِ لا يكونُ إلاَّ من واحد، أو اثنين، فحضورُ الدَّفن، أو الصَّلاةِ بمَنْزلةِ المعاينة، ولا يجري في مثل ذلك التَّلبيس عادة. (والله أعلم)
(4)
.
(1)
صورته: رجل رأى عيناً في يد إنسان ثم رأى ذلك العين في يد آخر، والأوّلُ يدَّعي الملك، وسعه أن يشهدَ بأنه للمدّعي؛ لأن الملك في الأشياء لا يعرف يقيناً بل ظاهراً، فاليد بلا منازعة دليل الملك ظاهراً. ينظر:«الدرر» (2: 375).
(2)
أي ينبغي للشاهد أن يطلق في أداء الشهادة، لا يقول: إنها بالتسامع أو بحكم اليد؛ لأنه يكون قد أقر بأنه شهد بغير علم؛ ولأن القاضي إنما يلزم بالشهادة إذا كانت عن عيان أو عن إطلاق لاحتمالها المشاهدة فيحمل عليها. ينظر: «فتح باب العناية» (3: 135).
(3)
زيادة من ف و ق.
(4)
زيادة ب و ج و م.
باب القبول وعدمه
وتقبلُ الشهادةُ من أهل الأهواءِ إلا الخطابيّة
باب القبول وعدمه
(وتقبلُ الشهادةُ من أهل الأهواءِ إلا الخطابيّة
(1)
)، أهل الأهواء: أهلُ القبلةِ
(2)
الذين لا يكونُ معتقدُهم معتقدُ أهل السُنَّةِ، وهم الجبرية
(3)
، والقدرية
(4)
، والرَّوافض
(5)
،
(1)
الخطابية: نسبة إلى أبي الخطَّاب محمّد بن وهب الأجدع، وهو رجلٌ كان بالكوفة، وحارب عيسى بن موسى بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وأظهرَ الدّعوى إلى جعفر فتبرأ منه جعفر ودعا عليه، فقتل هو وأصحابه، قتله وصلبه عيسى بالكِناسة، وهي محلَّةٌ بالكوفة؛ لأنّه ادّعى أنّ عليّاً الإله الأكبر، وجعفر الصادق الإله الأصغر، ويعتقدون أنّ مَن ادّعى منهم شيئاً على غيره يجب أن يشهدَ له تقيّة، وقيل: يعتقدونَ الشهادة لمَن حلفَ عندهم أنّه محق، ويقولون: المسلمُ لا يحلفُ كاذباً، فيتمكّن شبهةُ الكذب في شهادتهم، وقيل: يرون الشهادة لشيعتهم واجبة، فتكمن التهمة في شهادتهم فلا تقبل. ينظر:«الفتح» (7: 416)، و «الزبدة» (3: 155).
(2)
المرادُ بأهلِ القبلةِ الذي اتّفقوا على ما هو من ضروراتِ الدين، كحدوثِ العالم، وحشرِ الأجساد، وعلم الله تعالى بالكليّات والجزئيات، وما أشبه ذلك من المسائلِ المهمّات، فمَن واظبَ طول عمره على الطاعات والعبادات مع اعتقادِ قدمِ العالمِ أو نفي الحشرِ أو نفي علمه سبحانه بالجزئيّات لا يكون من أهلِ القبلة. ينظر:«شرح الفقه الأكبر» للقاري (ص 154 - 155).
(3)
الجبرية: وهم الذين يزعمون أن العبد ليس قادراً على فعله، وهم أصناف: فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل، والمتوسطة هي التي لا تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلاً. ينظر:«اعتقادات» (ص 68). «الملل» (ص 1: 85).
(4)
القدرية: أوصل الملطي فرقهم إلى سبعة، فصنف منهم يزعمون أن الحسنات والخير من الله، والشر والسيئات من أنفسهم، لكن لا ينسبون إلى الله شيئاً من السيئات والمعاصي. ينظر:«التنبيه» (ص 165 - 166).
(5)
الروافض: سموا بذلك؛ لأن زيد بن علي خرج على هشام بن عبد الملك فطعن عسكره في أبي بكر فمنعهم من ذلك فرفضوه ولم يبق معه إلا مئتا فارس، فقال لهم: رفضتموني. قالوا: نعم، فبقي عليهم هذا الاسم. وقد أوصلهم الملطي إلى ثمانية عشر فرقة، وقال: كلهم كفار خرجوا من التوحيد. ينظر: «التنبيه» (ص 18 - 34). «اعتقادات» (ص 52).
والذِّميُّ على مثلِه وإن خالفا ملَّة، وعلى المستأمن، والمستأمنُ على مثلِه إن كانا من دارٍ واحدة، وعدوٍ بسببِ الدَّين، ومَن اجتنبَ الكبائر، ولم يُصِرَّ على الصَّغائر، وغَلَبَ صوابُه
والخوارج، والمعطِّلة
(1)
، والمُشَبِّهة، وكلٌّ منهم اثنا عشرَ فرقة، فصاروا اثنين وسبعين
(2)
.
والبعضُ فرَّقوا بين الهوى الذي هو كُفْرٌ كالقولِ: بأنَّه تعالى جسم، والهوى الذي ليس بكفر، وعند الشَّافِعِيِّ
(3)
رضي الله عنه لا تقبل شهادتُهم لفسقِهم. قلنا: لا يقع في الاعتقاد الباطلِ إلا ديانة، والكذبُ عند الجميعِ حرام. وأمَّا الخطابيّة: فهم من غلاةِ الرَّوافضِ يعتقدونَ الشَّهادةَ لكلِّ مَن حلف عندهم. وقيل: يرونَ الشَّهادة لشيعتِهم واجبة.
(والذِّميُّ على مثلِه وإن خالفا ملَّة، وعلى المستأمن، والمستأمنُ على مثلِه إن كانا من دارٍ واحدة)، شهادةُ الذِّمي تقبلُ عندنا، وعند مالك
(4)
رضي الله عنه والشافعي
(5)
رضي الله عنه لا تقبلُ، ثُمَّ عندنا إنِّما تُقبل على الذِّميّ والمستأمن، وإن خالفا ملَّةً كالنَّصارى والمجوس، فإن الكفرَ كلُّه ملَّةٌ واحدةً، ولا تقبلُ على المسلم، وشهادةُ المستأمنِ تقبلُ على المستأمنِ إن كانا من دارٍ واحدة، وإن كانا من دارينِ كالتُّركِ والرُّوم، فلا تقبل، ولا تقبلُ أيضاً على المسلمِ، ولا أيضاً على الذَّميّ.
(وعدوٍ
(6)
بسببِ الدَّين، ومَن اجتنبَ الكبائر، ولم يُصِرَّ على الصَّغائر، وغَلَبَ صوابُه)، اختلفوا في تفسيرِ الكبائر: قيل: هي سبع:
(1)
المعطلة: عدّهم الملطي من فرق الزنادقة، وقال: هم الذين يزعمون أن الأشياء كائنة من غير تكوين، وأنه ليس لهامكون ولا مدبّر، وأن هذا الخلق بمنْزلة النبات في الفيافي والقفاري يموت سنة شيء، ويحيى سنة شيء، وينبت شيء. ينظر:«التنبيه» (ص 91 - 92).
(2)
لحديث: «ستفترقُ أمَّتي على ثلاثةٍ وسبعينَ فرقة، كلُّها في النار، إلاَّ ما كان على ما أنا عليه وأصحابي» «سنن الترمذي» (5: 26)، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، و «مستدرك الحاكم» (1: 218)، و «المعجم الكبير» (17: 13).
(3)
في كتب الشافعية: تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية. ينظر: «أسنى المطالب» (3: 353)، و «نهاية المحتاج» (8: 305)، و «تحفة الحبيب» (4: 431)، وغيره.
(4)
ينظر: «المنتقى» (5: 192).
(5)
ينظر: «الأم» (7: 134).
(6)
العدوّ: مَن يفرح لحزنك ويحزن لفرحك، فإن العداوة الدينية تدل على قوة دينه وعدالته بخلاف العداوة الدنيوية فإنها حرام، فمن ارتكبها لا يؤمن من التقوّل عليه. ينظر:«درر الحكام» (2: 376).
....................................................................................................................
الأشراكُ باللهِ تعالى.
والفرارُ من الزَّحْف.
وعقوقُ الوالدين.
وقتلُ النَّفس بغير حق.
وبُهْتُ المؤمن.
والزِّنا.
وشُرْبَ الخمر.
وزادَ البعضُ: أكلُ مالِ اليتيمِ بغيرِ حقّ، وأكلُ الرِّبا، وقد وردَّ في الحديث:«اجتنبوا السبعَ الموبقات: الشِّركُ بالله، والسِّحر، وقتلُ النَّفْس التي حرَّم اللهُ إلاَّ بالحقّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالَ اليتيم، والتَّولي يومَ الزَّحف، وقذفُ المحصَناتِ المؤمناتِ الغافلات»
(1)
، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«الكبائرُ: الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدين، وقتلُ النَّفس، واليمينُ الغموس»
(2)
، فالصَّحيحُ أن هذه الأحاديثَ ليست لبيانِ الحصر، فالكبيرةُ كلُّ ما سُمِّي فاحشةً كاللُّواطة، ونكاحِ منكوحةِ الأب، أو ثَبَتَ لها بِنَصٍّ قاطعٍ عقوبةٌ في الدُّنيا أو في الآخرة، وقال الإمامُ الحَلْوَانيُّ رضي الله عنه: ما كان شنيعاً بين المسلمين، وفيه هَتْكُ حرمةِ الله تعالى والدَّين، فهي كبيرة.
ثُمَّ بعد الاجتنابِ عن الكبائرِ كلِّها لا بُدَّ من عدمِ الإصرارِ على الصَّغيرةِ، فإن الإصرارِ على الصَّغيرةِ كبيرة.
وقوله: وغَلَبَ صوابُهُ: أي حسناتُهُ أغلبُ من سيئاتِه، فإن الإلمامَ بالصَّغيرة لا يُسْقِطُ العدالة.
فقوله: ومَن اجتنبَ الكبائرَ إلى قولِهِ: وغَلَبَ صوابُهُ تفسيرُ العدلِ.
أقولُ: ولا بُدَّ فيه
(3)
من قيدٍ آخر، وهو أن يجتنبَ الأفعالَ الخسيسةَ الدَّالةِ على الدَّناءة: أي عدم المروءة: كالأكلِ في الطَّريق، والبولِ على الطَّريق.
(1)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في «صحيح البخاري» (3: 1017)، و «صحيح مسلم» (1: 92)، وغيرها.
(2)
من حديث ابن عمر وأنس رضي الله عنهم في «صحيح البخاري» (6: 2519،2: 939)، و «صحيح مسلم» (1: 92)، وغيرها.
(3)
زيادة من ب و م.
والأقلفِ، والخَصيِّ، وولدِ الزِّنا، والعُمَّال، ولأخيهِ وعمِّهِ، ومَن حُرِّمَ رضاعاً أو مصاهرةً. لا من أعمى، ومملوك، ومحدودٍ في قذف وإن تاب، إلا مَن حُدَّ في كفرِهِ فأسلم.
(والأقلفِ)
(1)
إلاَّ إذا تركَ الاختنان استخفافاً بالدَّين، (والخَصيِّ
(2)
، وولدِ الزِّنا، والعُمَّال)
…
(3)
، وعند مالك
(4)
رضي الله عنه لا تقبل شهادة ولدِ الزِّنا على الزِّنا؛ لأنَّهُ يُحِبُّ أن يكونَ غيرُهُ كنفسِه.
وأمَّا العمُّالُ: فإن نفسَ العملِ ليس بفسقٍ إلاَّ إذا كانوا أعواناً على الظُّلم، وقيل: العاملُ إذا كان وجيهاً ذا مروءة لا يجازفُ في كلامِه تُقْبَلُ شهادتُه، وإن كانَ فاسقاً، فقد رُوِي عن أبي يوسفَ رضي الله عنه: إن الفاسقَ إذا كان وَجيهاً لوجاهتِهِ لا يَقدمُ على الكذبِ تقبلُ شهادتِه.
(ولأخيهِ وعمِّهِ، ومَن حُرِّمَ رضاعاً أو مصاهرةً
(5)
.
لا من أعمى)، وفي روايةٍ عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه تقبلُ فيما يجرى فيه التَّسامعُ، وهو قولُ زُفَرَ رضي الله عنه، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه والشَّافِعِيِّ
(6)
رضي الله عنه تقبلُ إذا كان بصيراً عند التَّحمُّل، وإن عمي بعد الأداءِ قبلَ القضاءِ فلا يقضي القاضي عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّدٍ رضي الله عنه خلافاً لأبي يوسفَ رضي الله عنه، وقولُهُ أظهر
(7)
.
(ومملوك، ومحدودٍ في قذف وإن تاب)، إنِّما قال هذا؛ لأنَّه تقبل عند الشَّافِعِي رضي الله عنه
(8)
إذا تابَ، (إلا مَن حُدَّ في كفرِهِ فأسلم.
(1)
الأقلف: الرجل الذي لم يختتن، والقلفة الجلدة التي تقطع في الختان. ينظر:«المصباح» (ص 514).
(2)
الخصيّ: المنْزوع خصيتيه. ينظر: «المغرب» (ص 147).
(3)
في ص زيادة: المراد منهم عمل السلطان، يأخذون الحقوقَ الواجبةَ كالخراجِ، ونحوِه، وقيل: هم الأمراء، وقيل: الذين يعملون بأبدانهم، ويؤجَّرون بأنفسهم.
(4)
ينظر: «التاج والإكليل» (8: 179)، و «مواهب الجليل» (6: 161)، و «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4: 173)، وغيرها.
(5)
لأن الملاك والمنافع متمايزة بينهم ولا سطوة لبعضهم في مال البعض فلا يتحقق التهمة. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 200).
(6)
ينظر: «الأم» (7: 48)، و «تحفة الحبيب» (4: 445)، وغيرهما.
(7)
ردَّه يعقوب باشا في «حاشيته» (127/أ): بأنَّ المفهومَ من سائرِ الكتبِ عدم أظهريّته.
(8)
ينظر: «الأم» (6: 226)، و «مغني المحتاج» (4: 438)، وغيرها.
وعدوٍ بسببِ الدُّنيا، ولا لأصلِه، وفرعِه، وزوجِه، وعرسِه، وسيِّدٍ لعبدِه، ومكاتَبِه، وشريكِه فيما يشتركانِه، ومخنَّثٍ يفعلُ الرّديء، ونائحة، ومغنيّة. ومدمنِ الشُّرب على اللهو
وعدوٍ بسببِ الدُّنيا، ولا لأصلِه، وفرعِه، وزوجِه، وعرسِه): في العدو لا تقبلُ شهادتُه على مَن يعاديه، وتقبلُ له، وفي الأصلِ إلى آخرِهِ على العكس، وفي الزَّوجِ والعرسِ خلافُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه
(1)
. (وسيِّدٍ لعبدِه، ومكاتَبِه، وشريكِه فيما يشتركانِه)، إنِّما قال هذا؛ لأنَّه تقبلُ للشَّريكِ في غيرِ مالِ الشِّرْكة، وكذا لا تقبلُ شهادةُ الأجيرِ، وقيل: يرادُ به التِّلميذُ الخاصُّ الذي يَعُدُّ ضررَ أستاذِهِ ضررَ نفسِه، ونفعَهُ نفَعَ نفسِه. وقيل: يرادُ به الأجيرُ مسانهة
(2)
، أو مشاهرة.
(ومخنَّثٍ
(3)
يفعلُ الرّديء): فإنَّه إذا لم يفعلْ الرَّديء تقبلُ شهادتُه، فإن عدمَ القدرةِ على الجماع، أو لينِ الكلام، وتكسُّرِ الأعضاءِ غيرِ مانعٍ للقَبول، (ونائحة
(4)
، ومغنيّة.
ومدمنِ الشُّرب على اللهو)
(5)
: أي شُرْبُ الأشربةِ المحرمة، فإنَّ الأشربةَ التي لا تحرم إدمانُها لا يسقطُ الشَّهادة ما لم تسكر، بل إدمانُ السُّكرِ يسقطُ الشَّهادة، وقد ذكرَ أنَّ المرادَ (من الإدمان)
(6)
الإدمانُ في النِيَّةِ
(7)
: وهو أن يَشْرَبَ، ويكونُ في عزمِه أن يشربَ كلمَّا وَجَدَ، قال الإمامُ السَّرَخْسِيُّ رضي الله عنه: شُرِطَ مع ذلك أن يُظْهِرَ ذلك للنَّاس، أو يخرجَ سكرانُ فيسخرُ منه الصِّبيان
(8)
، حتَّى إن شربَ الخمرَ في السِّرِّ لا يُسْقِطُ عدالتَه، وقد ذكرَ
(1)
ينظر: «نهاية المحتاج» (8: 304)، و «المحلي» (4: 323)، و «تحفة الحبيب» (4: 400)، وغيرها.
(2)
مسانهة: من سَنْهة: وهي السَنة. ينظر: «مختار» (ص 317).
(3)
المخنَّثُ: بكسر النون وفتحها: فإن كان الأول، فهو بمعنى: المتكسِّر في أعضائه، المُتليِّن في كلامه، تشبّهاً بالنساء، وإن كان الثاني فهو الذي يعملُ به اللّواطة. ينظر:«فتح الباري» (2: 190).
(4)
ناحت المرأةُ على الميِّت: إذا ندبته، وذلك أن تبكيَ عليه وتعدِّدَ محاسنه. ينظر:«المغرب» (ص 473)، «القاموس» (1: 262).
(5)
وكذا لا تقبلُ شهادةُ مدمنِ الخمرِ. ينظر: «فتاوى قاضي خان» (2: 460).
(6)
زيادة من ب و م.
(7)
ينظر: «تبيين الحقائق» (4: 221)، و «الشرنبلالية» (2: 380)، و «البحر الرائق» (7: 87)، و «مجمع الأنهر» (2: 198)، وغيره.
(8)
انتهى كلام الإمام السرخسي من «المبسوط» (16: 131).
ومَن يَلْعَبُ بالطُّيور، أو الطَّنبور، أو يُغَني للنَّاس، أو يَرْتَكِبُ ما يُحَدُّ به، أو يدخلُ الحمامَ بلا إزارٍ، أو يأكلَ الرِّبا، أو يُقامِرَ بالنَّرْد، أو الشَّطَرَنج، أو تفوتَهُ الصَّلاةُ بهما، أو يبولُ على الطَّريق، أو يأكلَ فيه، أو يظهرَ سبَّ السَّلف
في «الحواشي»
(1)
: إنَّ هذا في غيرِ الخمرِ، أمَّا في الخمرِ فلا يحتاجُ إلى قيدِ اللَّهْو.
أقولُ: لا بُدَّ في الخمرِ من قيدِ
(2)
الشُّرْبِ بطريق اللَّهُو أيضاً، فإن شربَها للتَّداوي بأن قال له الأطباء: لا علاجَ لمرضِك إلا الخمر، فحرمتُها مختلفٌ فيها، فلا تسقطُ الشَّهادةُ.
(ومَن يَلْعَبُ بالطُّيور، أو الطَّنبور
(3)
، أو يُغَني للنَّاس): إنِّما قال للنَّاس: لأنَّ مَن يُغَنِي لدفعِ الوحشةِ عن نفسِهِ لا يُسقطُ العدالة، (أو يَرْتَكِبُ ما يُحَدُّ به، أو يدخلُ الحمامَ بلا إزارٍ، أو يأكلَ الرِّبا): شرطَ في «المبسوطِ» أن يكونَ مشهوراً بأكلِ الرِّبا؛ لأنَّ الإنسانَ قَلَّما يَنْجو عن البيوعِ الفاسدة، وكلُّ ذلك ربا.
(أو يُقامِرَ بالنَّرْد
(4)
، أو الشَّطَرَنج، أو تفوتَهُ الصَّلاةُ بهما)، قال في «الهداية»: أو يقامرَ بالنَّرد، أو الشَّطرنج. ثم قال: أمَّا مجرَّدُ اللَّعبِ بالشَّطرنج فليس بفسق (مانع من قبولِ الشَّهادة)
(5)
؛ لأنَّ للاجتهادِ فيه مساغاً
(6)
.
فُهِمَ من هذا أن في النَّردِ لا يشترطُ المقامرة، أو فوتَ الصلاةِ، فقيدُ المقامرةِ (وفوت الصَّلاة)
(7)
في النَّرد وَقَعَ اتفاقاً، وفي «الذَّخيرة»: مَن يلعب بالنَّرد، فهو مردودُ الشَّهادةِ على كلِّ حال.
(أو يبولُ على الطَّريق، أو يأكلَ فيه، أو يظهرَ سبَّ السَّلف)
(8)
: أي الصَّحابة،
(1)
ينظر: «الدر المختار» (4: 382).
(2)
زيادة من م.
(3)
الطنبور: من آلات الملاهي، وقصد كلُّ لهو يكون شنيعاً بين الناس؛ احترازاً عمَّا لم يكن شنيعاً كضرب القصب، فإنه لا يمنعَ قبولها إلا أن يتفاحش؛ بأن يرقصونَ به، فيدخل في حدِّ الكبائر. ينظر:«المنح» (ق 2: 130/أ)، «البحر» (7: 88)، «المصباح» 0 (ص 368)
(4)
النرد: لعبة معروفةٌ، وضعها أَرْدَ شيرُ بن بابَك؛ ولهذا يقال: النرد شير. ينظر: «المصباح» (ص 599)، «القاموس» (1: 353).
(5)
زيادة من أ و م.
(6)
انتهى من «الهداية» (3: 123).
(7)
زيادة من ب و م.
(8)
السبُّ: هو التكلّم في عِرضِ الإنسان بما يعيبه. والسلف: جمع سالف، وهو الماضي، وفي الشرع: اسمٌ لكلِّ مَن يقلَّدُ مذهبُه ويقتفَى أثرُه كأبي حنيفةَ رضي الله عنه وأصحابه، فإنّهم سلفنا، والصحابةُ والتابعونَ سلفٌ لأبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه. ينظر:«جامع الرموز» (2: 243)، «الكفاية» (6: 486)، «البحر» (7: 92).
ولو شَهِدَ ابنانِ أن الأبَ أوصى إلى زيد، وهو يدعيه صحَّت، وإن أنكرَ لا كشهادةِ دائني الميِّت، ومديونيه، والموصى لهما، ووصيُّه على الإيصاء، وإن شهدا أنّ أباهما الغائبَ وَكَّلَهُ بقبضِ دينِه، وادَّعى الوكيل، أو جَحَدَ ردَّت، كالشَّهادةِ على جرحٍ مجرَّد، وهو ما يُفسَّقُ الشاهدَ ولم يوجب حقَّاً للشَّرع أو العبد، مثل: هو فاسق، أو آكلُ الرِّبا، أو أنّه استأجرَهم
والعلماءِ المجتهدين الماضين رضوان الله عليهم أجمعين.
(ولو شَهِدَ ابنانِ أن الأبَ أوصى إلى زيد، وهو يدعيه صحَّت، وإن أنكرَ لا): أي شهدا أن الأبَ جعلَ زيداً وصيَّاً في التَّركة، وهو يدعي أنَّه وَصَيٌّ صحَّتْ شهادتُهما، وإنِّما قال: وهو يدَّعيه؛ لأنَّه لو أنكرَ لا تقبلُ الشهادة، (كشهادةِ دائني الميِّت، ومديونيه، والموصى لهما، ووصيُّه على الإيصاء)
(1)
: أي صحَّ شهادةُ هؤلاء إذا ادَّعى زيدٌ أنَّه وصيّ.
(وإن شهدا أنّ أباهما الغائبَ وَكَّلَهُ بقبضِ دينِه، وادَّعى الوكيل، أو جَحَدَ ردَّت)؛ لأنَّ القاضي لا يَمْلِكُ نصبَ الوكيلِ عن الغائب، فلو ثَبَتَ الوكالة
(2)
، يَثَبَتَ بشهادتِهما، فلا يمكن ثبوتُها بها لمكان التُّهمةِ بخلافِ الإيصاء؛ لأنَّ الوصيَّ إذا ادَّعى يكونُ قبولُ الشهادةِ كتعيينِ الوصيِّ، والقاضي يَمْلكُ ذلك.
(كالشَّهادةِ على جرحٍ مجرَّد، وهو ما يُفسَّقُ الشاهدَ ولم يوجب حقَّاً للشَّرع أو العبد، مثل: هو فاسق، أو آكلُ الرِّبا، أو أنّه استأجرَهم): صورةُ المسألة: (ن المدَّعي)
(3)
إذا أقام البيِّنةَ على العدالة، فأقامَ الخصمُ البيِّنةَ على الجرحِ إن كان الجرحُ جرحاً مجرَّداً لا يعتبرُ بيِّنةُ الجرح، وإنِّما قلتُ: إن صورةَ المسألةِ هذه؛ لأنَّه لو لم يقمْ البيِّنةَ على العدالة، فأخبرَ مخبران أن الشُّهودَ فسَّاق، أو آكلوا الرِّبا، فإن الحكمَ لا يجوزُ قبل ثبوتِ العدالةِ لا سيما إذا أخبرَ مخبران أن الشَّهودَ فسَّاق.
(1)
هاهنا خمس مسائل: الغريمان لهما على الميِّت دين، والغريمان عليهما للميِّت دين، والموصي لهما، والموصى إليهما، والوارثان، وشهدَ كلُّ فريقٍ أنَّ الميِّت أوصى إلى هذا، وهو يطلب ذلك جازت الشهادة استحساناً، وفي القياس: لا يجوز، وإن أنكرَ الوصيُّ ذلك لم تجزْ قياساً واستحساناً. ينظر:«الزبدة» (3: 162).
(2)
زيادة من م.
(3)
زيادة من أ.
وتقبل على إقرارِ المدَّعي بفسقِهم أو على أنَّهم عبيد، أو محدودونَ في قذف، أو شاربو خمر، أو قَذَفَة، أو شركاء المدَّعي، أو أنَّه أستأجرهم بكذا لها، وأعطاهم ذلك ممَّا كان لي عنده، أو إنِّي صالحتُهم على كذا، ودفعتُهُ إليهم على أن لا يشهدوا عليَّ وشهدوا، ولو شَهِدَ عدلٌ ولم يبرحْ مكانه حتَّى قال: أوهمت بعضَ شهادتي قُبِل
(وتقبل على إقرارِ المدَّعي بفسقِهم)؛ لأنَّ الإقرارَ ممَّا يدخلُ تحت الحكم، (أو على أنَّهم عبيد، أو محدودونَ في قذف، أو شاربو خمر، أو قَذَفَة، أو شركاء المدَّعي، أو أنَّه أستأجرهم بكذا لها، وأعطاهم ذلك ممَّا كان لي عنده، أو إنِّي صالحتُهم على كذا، ودفعتُهُ إليهم على أن لا يشهدوا عليَّ وشهدوا): أي على أن لا يشهدوا عليَّ شهادةَ الزُّور، ومع ذلك شهدوا شهادةَ الزُّور، فيجبُ عليهم أداء ما أعطيتُهم، فإنّ في هذه الصُّورِ يوجبُ الجرحُ حقَّاً للشَّرعِ أو العبدِ على الشَّهود، فيدخلُ تحت حكمِ القاضي فيقبل.
(ولو شَهِدَ عدلٌ ولم يبرحْ مكانه
(1)
حتَّى قال: أوهمت بعضَ شهادتي قُبِل): أي أخطأتُ بنسيانِ ما يَجِبُ ذِكْرُهُ كما إذا ادَّعى المدَّعي عشرةَ دراهم، فشهدَ على الخمسة، ثُمَّ قال: نسيتُ البعضَ، بل الواجبُ عشرةَ، أو قال: أخطأتُ بزيادةٍ باطلة، كما إذا ادَّعى المدَّعي خمسةَ دراهم، فشهدَ على عشرة ثُمَّ قال: أخطأت، وقلتُ: العشرةُ مقامَ الخمسة، فإن كان في المجلسِ قبلتْ الشهادةُ.
قوله: أخطأت؛ في المجلسِ يقبلُ من العدل، وإن كان الموضعُ موضعَ شبهة، لأنَّ المدَّعي إذا ادَّعى الخمسةَ لا تقبلُ الشَّهادةُ على العشرة، لأنَّ المدَّعي يصيرُ مكذِّباً للشَّاهد، وفي غيرِ هذا المجلسِ إن كان الموضعُ
(2)
موضعَ شبهةٍ لا يُقْبَلْ؛ لأنَّه يوهمُ التَّلبيسَ من المدَّعي، وإن لم يكنْ الموضعُ موضعَ شُبْهة كما إذا لم يَذْكُرْ لفظةَ الشَّهادة، ثُمَّ يزيدُ في مجلسٍ آخرَ لفظَة الشَّهادة، تقبلُ من العدلِ مع أن المجلسَ مختلف.
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
زيادة من ب و ف و م.
[باب الاختلاف في الشهادة]
وشرطُ موافقة الشَّهادة للدعوى كاتّفاق الشاهدينِ لفظاً ومعنىً عند أبي حنيفة رضي الله عنه، فتردُّ إن شَهِدَ أحدُهما بألفٍ، والآخرُ بألفين، أو بمئة ومئتين، أو طلقةً وطلقتين أو ثلاث
[باب الاختلاف في الشهادة]
(وشرطُ موافقة الشَّهادة للدعوى
(1)
كاتّفاق الشاهدينِ لفظاً
(2)
ومعنىً عند أبي حنيفة رضي الله عنه)، فإنّ عندهما لا يشترط اتفاقهما لفظاً ومعنىً، بل يكفي اتفاقهما معنىً، (فتردُّ إن شَهِدَ أحدُهما بألفٍ، والآخرُ بألفين، أو بمئة ومئتين، أو طلقةً وطلقتين أو ثلاث): أي شَهِدَ أحدُهما بمئةٍ والآخرُ بمئتين، أو شَهِدَ أحدُهما بطلقةٍ
(1)
هذا الباب مبنيٌّ على أصول مقرَّرة:
منها: أن الشهادة على حقوق العباد لا تقبل بلا دعوى، بخلاف حقوقه تعالى.
ومنها: أن الشهادة بأكثر من المدعى باطلة، بخلاف الأقل للاتفاق فيه.
ومنها: أن الملك المطلق أزيد من المقيد لثبوته من الأصل والملك بالسبب مقتصر على وقت السبب.
ومنها موافقة الشهادتين لفظا ومعنى، وموافقة الشهادة الدعوى معنى فقط، لذا قال يعقوب باشا في «حاشيته» (ق 128/ب): إن المعتبرَ في الاتِّفاقِ بين الدَّعوى والشهادةِ هو الاتِّفاقُ في المعنى، والموافقةُ بين لفظيهما، فليست بشرطٍ بالاتّفاق، ألا ترى أنَّ المدَّعي يقول: ادَّعى عليَّ غريمي هذا، والشاهد يقول: أشهدُ بذلك، ففي عبارة المتنِ نوعٌ قصورٍ لا يخفى. وينظر:«الدرر» (2: 284)، و «مجمع الأنهر» (2: 205).
وأجاب صاحب «الزبدة» 3: 164) بقوله: ليس المرادُ تشبيهُ موافقةِ الشهادةِ للدعوى باتِّفاق الشاهدين، في الاتّفاق لفظاً ومعنىً معاً، بل في مطلق الاتّفاق، فلا يظهر قصورُ العبارة ومخالفةُ أكثرِ الكتب، والتفصيل أنَّ الاختلاف بين الشاهدين ليس كالاختلافِ بين الدَّعوى والشهادة؛ لأنَّ شهادةَ أحدِ الشاهدين ينبغي أن يكون مطابقةً لشهادةِ الآخر في المعنى، وفي لفظ: لاُ يوجبَ اختلاف المعنى، وأمَّا المطابقة بين الدَّعوى والشهادةِ فينبغي أن تكونَ في المعنى فقط، ولا عبرةَ باللفظ. ويوافقه أن كثيراً من أصحاب الكتب لم يعترضوا على عبارتها.
(2)
المرادُ بالاتِّفاق في اللفظ: تطابقُ اللفظين على إفادةِ المعنى بطريق الوضع لا بطريق التضمّن، حتى لو ادّعى رجل بمئةِ درهم، فشهدَ شاهد بدرهم، وآخر بدرهمين، وآخر بثلاثة، وآخر بأربعة، وآخر بخمسة لم تقبل عنده؛ لعدم الموافقةِ لفظاً، وعندهما: يقضي بأربعة؛ لاتّفاق الشاهدين الآخرين فيها معنى. ينظر: «المنح» (ق 2: 134/أ).
وقبلتْ على ألفٍ في بألف وألفٍ ومئة إن ادَّعى المدَّعي الأكثر، كطلقةٍ وطلقةٍ ونصف، ومئةٍ ومئةٍ وعشرة، ولو شَهِدا بألف، أو بقرضِ ألف وزادَ أحدُهما قَضَى كذا، قُبِلَتْ بألف، وبقرضِ ألف، ورُدَّ قولُهُ قضى كذا إلاَّ إذا شَهِدَ معه آخر، ولا يَشْهَدُ مَن علمَهُ حتَّى يُقِرَّ المدَّعي عند النَّاس بما قَبَض
والآخرُ بطلقتينِ أو ثلاث، فإنَّها تُرَدُّ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما تُقْبَلُ على الأقلِّ إذا ادَّعى المدَّعي الأكثر، حتَّى إذا ادَّعى الأقلَّ يكونُ المدَّعي مكذِّباً لشَّاهدِ الأكثر، فلا تقبل.
(وقبلتْ على ألفٍ في بألف وألفٍ ومئة): أي في شهادةِ أحدهما بألفٍ والآخرُ بألف ومئة، (إن ادَّعى المدَّعي الأكثر)، حتى إذا ادّعى الأقلَّ بأن قالَ لم يكنْ إلا الألف، أو سكتَ عن دعوى المئة الزَّائدةِ لم تقبلْ شهادةُ مثبتِ الزِّيادة، وأمَّا إن قال: كان أصلُ حقي ألفاً ومئة، لكني استوفيتُ المئة أو أبرأتُهُ عنها قُبِلَتْ شهادتُهُ للتَّوفيق.
(كطلقةٍ وطلقةٍ ونصف، ومئةٍ ومئةٍ وعشرة): أي كشهادة أحدهما بطلقةٍ والآخرِ بطلقةٍ ونصف، وشهادةِ أحدِهما بمئةٍ والآخرِ بمئة وعشرة، فإنّ الشَّهادةَ مقبولةٌ اتّفاقاً للاتّفاقِ على الألفِ، وعلى الطلقه وعلى المئة، ولا شكَّ أنّ قولَهما أظهر
(1)
، وفرقُ أبي حنيفةَ رضي الله عنه ضعيف، وهو أنَّهما متَّفقانِ على الألفِ في شهادةِ أحدِهما بألف والآخرُ بألفٍ ومئة، غيرُ متَّفقينِ
(2)
في شهادةِ أحدهما بألفٍ والآخر بألفين.
(ولو شَهِدا بألف، أو بقرضِ ألف وزادَ أحدُهما قَضَى كذا، قُبِلَتْ بألف، وبقرضِ ألف، ورُدَّ قولُهُ قضى كذا)؛ لأنَّ شهادةَ الفردِ غيرُ مقبولة، (إلاَّ إذا شَهِدَ معه آخر، ولا يَشْهَدُ مَن علمَهُ حتَّى يُقِرَّ المدَّعي (عند النَّاس)
(3)
بما قَبَض): أي يَجِبُ
(1)
قال صاحب «الزبدة» (3: 165): لا شكَّ أن قولَهما أسهل وأظهر في بادي النظر، وبه قالت الثلاثة، وفرقُ أبي حنيفةَ رضي الله عنه أدقُّ وأقوى دراية، كما لا يخفى على مَن نظره دقيق. وقال القُهُسْتَانِيُّ رضي الله عنه في «جامع الرموز» (2: 245): والصحيح قوله كما في «المضمرات» ، والمصنِّف رضي الله عنه ضعّفَ قوله، وذا منه نهاية سوء الأدب كما لا يخفى. وينظر:«الدر المنتقى» (2: 206).
(2)
لأنَّ الألفَ مفرد، والألفين تثنية، واختلافُ الألفاظِ تثنيةً وإفراداً يدلُّ على اختلافِ المعاني بالضرورة، فإنَّ الألفَ لا يعبَّرُ به عن الألفين، لا حقيقةً ولا مجازاً وبالعكس، وكان كلامُ كلِّ واحدٍ من الشاهدين مبائناً لكلام الآخر. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 165).
(3)
زيادة من ب و م.
ولو شهدا بقتل زيدٍ يوم كذا بمكّة، وآخران بقتلِهِ فيه بكوفةَ ردَّتا، فإن قَضَى بأحدِهما، ثُمَّ قامت الأُخرى ردُّتْ هي، ولو شَهِدَا بسرقةِ بَقَرة، واختلفا في لونِها قُطِع، ولو اختلفا في الذُّكورة لا
على الذي يعلمُ قضاءَ البعضِ أن لا يشهدَ حتَّى يُقِرَّ المدَّعي عند النَّاس بما قبضَ؛ لئلا يتضرَّرَ المدَّعي عليه. وذَكَرَ الطَّحَاوِيّ
(1)
عن أصحابِنا رضي الله عنه: أن شهادتَهُ لا تُقْبَل، وهو قولُ زُفَرَ رضي الله عنه؛ لأنَّ المدَّعي يكذِّبُ شاهدَ قضاءِ البعض. قلنا: الإكذاب في غيرِ المشهودِ به لا يمنعُ القبول
(2)
.
(ولو شهدا بقتل زيدٍ يوم كذا بمكّة، وآخران بقتلِهِ فيه بكوفةَ ردَّتا): أي شَهِدَ
(3)
بقتلِ زيدٍ في ذلك اليومِ بكوفةَ ردِّتْ البيِّنات؛ لأنَّ أحدَهما كاذبةٌ بيقين، وليست إحداهما أولى من الأخرى، (فإن قَضَى بأحدِهما، ثُمَّ قامت الأُخرى ردُّتْ هي)؛ لأنَّ الأُولَى ترجَّحت باتصالِ القضاءِ بها، فلا ينتقضُ بالثَّانية.
(ولو شَهِدَا بسرقةِ بَقَرة، واختلفا في لونِها قُطِع، ولو اختلفا في الذُّكورة لا)، وعندهما: لا يقطعُ في الوجهينِ، وقيل: الاختلافُ في لونينِ متشابهين كالسَّوادِ، والحمرةِ لا في السَّوادِ والبياضِ. وقيل: في جميعِ الألوان
(4)
، له: أن السَّرقةَ قد
(5)
يقع في اللَّيالي، والرَّائي يراهُ من بعيد، فاللونان يتشابهان، والأظهرُ قولُهما
(6)
.
(1)
قال الطحاوي في «مختصره» (ص 343): روي عن أبي يوسف رضي الله عنه أنه قال: لا تقبل شهادة الشاهد الذي شهد على القضاء؛ لأنه شهد على أن لا شيء للمدّعي على المدّعى عليه مما يطالبه به، وبه نأخذ.
(2)
بيانه: إنَّ الشاهدين إذا شهدا لإنسانٍ بمال، ثم شهدا عليه بمالٍ لإنسانٍ آخر، فكذَّبهما المشهود عليه الذي هو مشهودٌ له، يقضى بما شهدا له، وإن كان يفسِّقهما فيما شهدا عليه؛ لأنَّ هذا تفسيقٌ عن اضطرار، والموجبُ للردِّ هو التفسيقُ عن اختيار، وكذلك لو شهدَ الشاهدان لرجلٍ على رجلٍ بألفِ درهمٍ ومئة دينار، فكذَّبهما المشهودُ له في المئة دنيار، تقبلُ شهادتهما، ثمَّ هاهنا كذَّبه فيما شهدا عليه وهو القضاء، فلا يقدح في شهادتِه له. ينظر:«الكفاية» (6: 506).
(3)
زيادة من أ.
(4)
الأصح أن الكل على الخلاف. ينظر: «التبيين» (4: 234)، و «الشرنبلالية» (2: 387).
(5)
زيادة من ب و ف و م.
(6)
نقل الحصكفي في «الدر المنتقى» (2: 208) و «الدر المختار» (4: 392) ترجيح الشارح رضي الله عنه، فقال: قال صدر الشريعة: والأظهر قولهما.
ولو شَهِدَ بشراءِ عبد، أو كتابتِهِ بألف، والآخرُ بألف ومئة ردُّتْ شهادتُهما، وكذا عتقٌ بمال، وصلحٌ عن قَوَد، ورهن، وخلعٌ، إن ادَّعى العبد، والقاتل، والرَّاهن، والعرس، وإن ادَّعى الآخر، فهو كدعوى الدَّين في وجوهها
(ولو شَهِدَ بشراءِ عبد، أو كتابتِهِ بألف، والآخرُ بألف ومئة ردُّتْ شهادتُهما)
(1)
، سواءٌ ادَّعى البائعُ أو المشتري؛ لأنَّ العقدَ يختلفُ باختلافِ الثَّمن، فيكونُ على كلِّ واحدٍ شهادةُ فردٍ فلا تُقْبَل، (وكذا عتقٌ بمال، وصلحٌ عن قَوَد، ورهن، وخلعٌ، إن ادَّعى العبد، والقاتل، والرَّاهن، والعرس)، فيه لفٌ ونشرٌ، فدعوى العبد يرجعُ إلى العتقِ بمالٍ، وهكذا على التَّرتيب، لأنَّ المقصودَ هنا هذا العقدُ وهو مختلفٌ.
(وإن ادَّعى الآخر): أي المولى في العتقِ على المال، وولي المقتولِ في الصَّلح عن القَوَد، والمُرْتَهِنُ في الرَّهْن، والزَّوج في الخلع، (فهو كدعوى الدَّين في وجوهها): أي إن كان الشَّاهدان مختلفينِ لفظاً لا تقبل عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وإن كانا متفقينِ معنىً، فإن ادَّعى المدَّعي الأقلَّ لا تُقْبَلُ شهادةُ الشَّاهدِ بالأكثر، وإن ادَّعى الأكثرَ تقبلُ على الأقلِّ.
ولقائل أن يقول: ليس هذا كدعوى الدَّين؛ لأنَّ الدَّينَ يثبت بإقرارِ المديون، فيمكن أن يُقِرَّ عند أحدِ الشَّاهدين بألف، وعند الآخرِ بأكثر، ويمكنُ أيضاً أن يكونَ أصلُ الحقِّ هو الأكثرَ لكنَّه قَضَى الزَّائدَ على الألف، أو أبرأ عنه عند أحد الشاهدينِ دون الآخرِ، فالتَّوفيقُ بينهما ممكنٌ، أمَّا هاهنا فالمالُ يثبتُ بتبعيّةِ العقدِ، والعقدُ بالألفِ غيرُ العقدِ بالأكثر، فبقي على كلِّ واحدٍ شهادةُ فرد، فلا تقبل كما في الطَّرفِ الآخر
(2)
.
(1)
أي إذا زيد اشترى عبداً من عمرو بألف وخمسمئة دراهم، وأنكرَ أحدُهما، فشهدَ أحدُ الشاهدين أنَّ زيداً اشترى ذلك العبدَ من عمرو بألف، وشهدَ الآخر أنه اشترى بألفٍ وخمسمئة، فلا تقبلُ شهادتُهما؛ لأنَّ المقصودَ من دعوى البيع قبل التسليم هو إثباتُ السبب، وهو العقد، والظاهرُ أنَّ البيعَ بألفٍ غيرُ البيع بألفٍ وخمسمئة، فاختلفَ المشهود به باختلافِ الثمن، فلم يتمَّ النصابُ على واحدٍ منهما. ينظر:«التبيين» (4: 235).
(2)
والجواب عن اعتراض الشارح رضي الله عنه: بأن المال في الصور الأربع وإن كان ثابتاً بالعقد حين العقد وتابعاً له لكن الأمر صار بالعكس حين الدعوى؛ لأن صاحب الحق اعترف بالعقد والعتق والطلاق؛ أي كان المال متبوعاً والعقد تابعاً عند الدعوى يعني المال مقصود تبعاً للقصد حين العقد ومقصود أصالة حين الدعوى، فالعقد مقصود تبعاً للمال. ينظر:«درر الحكام» (2: 286)، و «الشرنبلالية» (2: 386)، و «حاشية الخادمي» (ص 434)، وغيرهم.
والإجارةُ كالبيعِ في أوَّلِ المدَّة، وكالدَّينِ بعدها، وصحَّ النِّكاحُ بألفٍ استحساناً، وقالا: ردَّتْ فيه أيضاً.
[فصل في الشهادة على الإرث]
ولَزِمَ الجرُّ لشاهدِ الإرثِ بقولِهِ ماتَ وتركَهُ ميراثاً له، أو ماتَ وذا في ملكِه، أو في يده
(والإجارةُ كالبيعِ في أوَّلِ المدَّة، وكالدَّينِ بعدها)، إذ في أوَّلِ المدَّةِ المقصودُ هو العقد، فلا يقبلُ الشَّهادة، وبعد المدَّة يكونُ الدَّعوى من الأجير، وهو يدّعي الأجرةَ فيكونُ كدعوى الدَّين، فيقبَلُ كما تقبلُ في دعوى الدَّين
(1)
.
(وصحَّ النِّكاحُ بألفٍ استحساناً، وقالا: ردَّتْ فيه أيضاً)، هذا هو القياسُ؛ لأنَّ المقصودَ هو العقدُ من الجانبين، فصارَ كالبيعِ، وجه الاستحسانِ: أن المالَ في النِّكاحِ تَبَعٌ، ولا اختلافَ فيما هو الأصلُ، وهو العقدُ فيثبت، ثُمَّ وقعَ الاختلافُ في التَّبع فيقضى بالأقلّ، ويستوي دعوى أقلِّ المالين، أو أكثرهما في الصَّحيحِ
(2)
، وقد قيل: إن الاختلافَ في دعوى الزَّوجة، وأمَّا في دعوى الزَّوج فلا تقبل اتّفاقاً؛ إذ المقصودُ هو العقدُ دون المال، وفي جانبِ الزَّوجةِ يمكنُ أن يكونَ المقصودُ هو المال، لكن الصَّحيحَ أن الاختلافَ في الفصلين.
[فصل في الشهادة على الإرث]
(ولَزِمَ الجرُّ لشاهدِ الإرثِ بقولِهِ ماتَ وتركَهُ ميراثاً له، أو ماتَ وذا في
(3)
ملكِه، أو في يده): أي
(4)
إذا قال الشُّهُود: كان هذا المورِّثُ هذا المدَّعي لا يُقْضَى
(1)
يعني إذا كانت الدَّعوى في الإجارة في أوَّل المدَّةِ قبل استيفاءِ المعقود عليه، واختلفَ الشاهدان لا تقبل كما لا تقبلُ عند الاختلافِ في البيع؛ للحاجة إلى إثبات العقد، سواء ادَّعى المؤجِّرُ أو المستأجِّر، وسواء كانت الدَّعوى بأقلّ المالين أو أكثرهما. وكالدَّين بعدها: أي بعد المدَّة، فثبتَ ما اتَّفق عليه الشاهدان، وهو الأقلّ، أمّا إذا كان المدَّعي هو الآجرُ، فإنّه لا حاجةَ إلى إثبات العقد، وأمّا إن كان المستأجِّر؛ فلأنَّ ذلك منه اعترافٌ بمالِ الإجارة، فيجب عليه ما اعترفَ به من غير حاجةٍ إلى اتّفاق الشاهدين أو اختلافهما، وهذا إن ادّعى الأكثر، وإن ادَّعى الأقلّ فلا تقبل شهادة مَن شهدَ بالأكثر؛ لأنَّ المدَّعي يكذِّبه. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 209).
(2)
احترازٌ عمَّا قال بعضُهم: إنّه لمَّا كان كالدَّينِ وجبَ أن يكون الدَّعوى بأكثرِ المالين، وإليه ذهبَ شمسُ الأئمّة رضي الله عنه. ينظر:«العناية» (6: 516).
(3)
زيادة من ب و م.
(4)
زيادة ب و م.
فإن قال: كان لأبيه إعارة، أو أودعَهُ أو آجاره مَن في يدِهِ جازَ بلا جرٍّ، ولو شهدا بيدِ حيٍّ منذ كذا ردُّت، وإن أقرَّ المدَّعي عليه بذلك، أو شهدا بأنَّه أقرَّ بيدِ المدَّعي صحَّ.
[فصل في الشهادة على الشهادة]
وتقبل الشَّهادةُ على الشَّهادةِ إلاَّ في حدٍّ وقَوَد، وشُرِطَ لها تعذُّرُ حضورِ الأصلِ
للوارث حتَّى يجروا الميراثَ إلى المدَّعي بقولهم: ماتَ وتركَهُ ميراثاً له
…
إلى آخره
(1)
، خلافاً لأبي يوسفَ رضي الله عنه فإنَّهُ لا يشترطُ عنده الجرّ.
(فإن قال: كان لأبيه إعارة، أو أودعَهُ (أو آجاره)
(2)
مَن في يدِهِ جازَ بلا جرٍّ)؛ لأنَّ يدَ المستعير، والمودع، والمستأجّر قائمةٌ مقامَ يدِه فلا حاجةَ إلى الجرّ
(3)
.
(ولو شهدا بيدِ حيٍّ منذ كذا ردُّت): أي شهدا أنَّه كان في يدِ المدَّعي منذ شهر، والحالُ أنَّهُ ليس في يدِ المدَّعي عند الدَّعوى لا تقبل؛ لأنَّ اليدَ متنوعةٌ إلى يدِ ملكٍ ويدِ أمانةٍ، ويد
(4)
ضمان، فتعذَّرَ القضاءُ بإعادةِ المجهول، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه تقبل.
(وإن أقرَّ المدَّعي عليه بذلك، أو شهدا بأنَّه أقرَّ بيدِ المدَّعي صحَّ)
(5)
؛ لأن جهالةَ المقرِّ به لا تمنعُ صحَّةَ الإقرار.
[فصل في الشهادة على الشهادة]
(وتقبل الشَّهادةُ على الشَّهادةِ إلاَّ في حدٍّ وقَوَد، وشُرِطَ لها تعذُّرُ حضورِ الأصلِ
(1)
يعني إذا ادَّعى الوارثُ شيئاً في يدِ إنسانٍ أنّه ميراث أبيه مثلاً، وشهدَ الشاهدان أنَّ هذا كان لأبيه لا يقضي له حتى يجرّ الميراث حقيقة، بأن يقول الشاهد: ماتَ وتركه ميراثاً للمدَّعي، أو حكماً بأن يقول: ماتَ وهذا ملكه، أو في يده، أو في تصرُّفه، أمَّا إذا قال: كان لأبيه، لا تقبل شهادتُه؛ لعدمِ الجرِّ حقيقةً وحكماً. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 209).
(2)
زيادة من أ و ب و م.
(3)
يعني إذا مات رجل فأقام وارثه بينة على دار أنها كانت لأبيه وأعارها أو أودعها الذي هي في يده فإنه يأخذها ولا يكلف البينة أنه مات وتركها ميراثاً له بالاتفاق. ينظر: «درر الحكام» (2: 388).
(4)
زيادة من أ و م.
(5)
يعني إن أقرَّ المدَّعى عليه باليدِ للمدَّعي، أو شهد شاهدان بأنّه أقرَّ باليدِ للمدَّعي منذ شهرٍ مثلاً صحّ، ودفعَ ذلك إلى المدّعي؛ لأنَّ الإقرارَ معلومٌ، فتصحُّ الشهادةُ به؛ وجهالةُ المقرِّ به لا تمنعُ صحَّةَ الإقرار، ألا ترى أنّه لو قال: لفلانٍ عليَّ شيءٌ صحّ، وذهبَ عليه البيان، ولا تصحُّ الشهادةُ به. ينظر:«الزبدة» (3: 168).
بموت، أو مرض، أو سفر، وشهادةُ عددٍ عن كلِّ أصلٍ لا تغايرُ فرعي هذا وذاك، ويقولُ الأصلُ: اشهدْ على شهادتي أنّي أشهد بكذا، والفرعُ [يقولُ: أشهدَ أن فلاناً أشهدني على شهادتِه بكذا، وقال: لي اشهدْ على شهادتي بذلك
بموت، أو مرض، أو سفر): وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يكفي مسافة إن غدا لا يبيتُ إلى أهلِه
(1)
.
(وشهادةُ عددٍ عن كلِّ أصلٍ لا تغايرُ فرعي هذا وذاك
(2)
)، خلافاً للشَّافِعِيِّ
(3)
رضي الله عنه إذ عنده لا بُدَّ من أربعةِ شهداء
(4)
، يشهدُ اثنانِ عن هذا وآخران عن ذلك، وعندنا يكفي اثنان يشهدانِ عن هذا، ويشهدان عن ذلك.
(ويقولُ الأصلُ: اشهدْ على شهادتي أنّي أشهد بكذا، والفرعُ يقولُ
(5)
: أشهدَ أن فلاناً أشهدني على شهادتِه بكذا، وقال: لي اشهدْ على شهادتي بذلك)، بعضُ المشايخ رضي الله عنهم طوَّلوا وقالوا: يقولُ الأصلُ: أشهدُ بكذا، وأنا أُشهدُكَ على شهادتي، فاشهدْ على شهادتي وفيه خمس شينات، ويقول الفرع أشهد أن فلاناً شهد عندي بكذا، فأشهدني على شهادتِهِ بكذا، وأمرني أن أشهدَ على شهادتِهِ بذلك
(6)
، وأنا أشهد على شهادته بذلك، وفيه ثماني شينات، والأحسنُ الأقصر قول أبي جعفر رضي الله عنه أن يقولَ الأصلُ: اشهدْ على شهادتي بكذا، أو يقولَ الفرعُ: أشهدُ على شهادةِ فلانٍ بكذا من غيرِ احتياجٍ إلى ذِكْرِ زيادة، وعليه فتوى
(7)
الإمام السَّرَخْسِيِّ رضي الله عنه.
(1)
اختلفتوا في الفتوى بين هذا وظاهر الرواية. وزيادة التفصيل في «مجمع الأنهر» (2: 212)، «رد المحتار» (4: 393).
(2)
أي لا يشترطُ تغاير فرعيها، بأن يكون لكلٍّ شاهدٍ شاهدان متغايران، بل يكفي شاهدان على كلِّ أصل، ولو قال: لا تغايرَ فرعيها كان أحسن، كما في «الزبدة» (3: 169)، وهي كعبارة «الملتقى» (ص 136)، وعبارة «التنوير» (ص 154) مثل عبارة المصنف.
(3)
لكن المعتمد عند الشافعية على خلاف ذلك، فلا يشترط تغاير فرعي الأصلين، ينظر:«التنبيه» (ص 163)، و «مغني المحتاج» (4: 455)، و «حاشية نهاية المحتاج» (10: 276)، وغيرها.
(4)
زيادة في أ و ب و م. وفي في: شهود.
(5)
زيادة من أ و ب و م.
(6)
زيادة من ب و م.
(7)
وهو رواية محمد بن الحسن رضي الله عنه في «السير الكبير» ، واختاره أبو الليث السمرقندي رضي الله عنه وصاحب «التبيين» (4: 240)، و «البحر» (7: 121)، وغيرهم، والمتون على قال المصنِّف رضي الله عنه.
فإن عدَّلَ الفرعُ أصلَهُ صحَّ كأحدِ الشَّاهدينِ الآخر، وإن سكتَ عنه نظرَ في حالِه، وان أنكرَ الأصلُ شهادتَهُ بطلَ شهادةُ فرعِه، ولو شهدا عن اثنين على عزةَ بنتِ عزِّ المضري، وقالا: أخبرانا بمعرفتِها، وجاءَ المدَّعي بامرأة لم يدريا بأنَّها هي أم لا. قيل له: هات شاهدينِ أنّها عزَّة، وكذا الكتابُ الحكميّ، فإن قالا فيهما: المضرية لم يجز حتى ينسباها إلى فخذها
(فإن عدَّلَ الفرعُ
(1)
أصلَهُ صحَّ كأحدِ الشَّاهدينِ الآخر، وإن سكتَ عنه نظرَ في حالِه): أي ينظر القاضي في حالِ الأصلِ، فإن ثبتَ عدالتُهُ تقبلُ شهادةُ فرعِهِ هذا عند أبي يوسف رضي الله عنه، وعند محمَّد رضي الله عنه: لا تقبلُ إذ لا شهادةَ إلاَّ بالعدالةِ، فإذا لم يَعْرِفِ الفرعُ عدالةَ الأصل، لم تقبلْ شهادتُهُ فلا يقبل شهادةُ الفرع، قلنا: لا يشترطُ معرفةُ الفرعِ عدالةَ الأصل، بل يشترطُ أن يثبتَ ذلك عند القاضي، فإن ثبتَ عنده يقبلُهُ وإلاَّ لا.
(وان أنكرَ الأصلُ شهادتَهُ بطلَ شهادةُ فرعِه، ولو شهدا عن اثنين على عزةَ بنتِ عزِّ المضري، وقالا: أخبرانا بمعرفتِها، وجاءَ المدَّعي بامرأة لم يدريا بأنَّها هي أم لا. قيل له
(2)
: هات شاهدينِ أنّها عزَّة)، اعلم أن الغرضَ من هذه المسألةِ أنَّه لا يشترطُ أن يعرفَ الفرعُ المشهودَ عليه، بل يقال للمدَّعي: هاتِ شاهدين يشهدان أن الذي أحضرتَهُ هو المشهودُ عليه، وليس الغرضُ أنَّه إذا شهدا على فلانةِ بنتِ فلانٍ المضري يكونُ النسبةُ تامّة، ويكونُ الشَّهادةُ مقبولة؛ لأنَّهُ إذا لم يذكرِ الجدَّ فلا بُدَّ أن ينسبَ إلى السِّكّةِ الصَّغيرةِ، أو إلى الفَخِذِ: أي القبيلةِ الخاصّةِ ليتمَّ النسبةُ، ويقبلُ الشَّهادةُ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّد رضي الله عنه خلافاً لأبي يوسف رضي الله عنه، فإنَّ ذِكْرَ الجدِّ لا يشترطُ عنده، فلا يشترطُ ما يقومُ مقامَه من ذِكْرِ السِّكَّةِ أو الفخذ.
(وكذا الكتابُ الحكميّ): أي إذا جاء كتابُ القاضي إلى القاضي، ولا يعرف الشُّهود المشهودَ عليه، قيل للمدَّعي: هات شاهدين أن هذا هو المشهودُ عليه.
(فإن قالا فيهما: المضرية لم يجز حتى ينسباها إلى فخذها): أي قالا في الشهادة
(1)
المرادُ أنَّ الفروعَ يعرفونَ بالعدالةِ عند القاضي فعدلَّوا الأصول، وإن لم يعرفهم بها فلا بُدَّ من تعديلهم، وتعديلُ أصولهم. ينظر:«المنح» (ق 137/ب).
(2)
أي قال القاضي للمدعي
…
؛ لأن التعريف بالنسبة قد تحقق بشهادتهما، والمدعي يدعي أن تلك النسبة للحاضرة، وهي منكرة فلا بد من إثبات أنها لها. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 214).
[فصل في شهادة الزور]
ومَن أقرَّ أنَّ هشَهِدَ زوراً شُهِّرَ ولم يعزَّرْ.
فصل [الرجوع في الشهادة]
لا رجوعَ عنها إلاَّ عند قاضٍ، فإن رَجَعا عنها قبل الحكمِ بها سَقَطَتْ، ولم
على الشهادة والكتاب الحكمي: المضرية، لم يجز (حتى ينسباها إلى فخذها)
(1)
؛ لأنَّ هذه النسبةَ عامّة
(2)
، ثُمَّ اعلم أن هذا في العرب، أمَّا في العجمِ فلا يشترطُ ذِكْرُ الفخذ؛ لأنَّهم ضيَّعوا أنسابَهم، بل ذِكْرُ الصِّناعةِ يقومُ مُقَامَ ذِكْرِ الجدِّ.
[فصل في شهادة الزور]
(ومَن أقرَّ أنَّهشَهِدَ زوراً شُهِّرَ ولم يعزَّرْ)، فإن شريحاً
(3)
كان يُشَهِّرُ ولا يعزِّر، فيبعثُهُ إلى سوقِهِ إن كان سوقياً، وإلى قومِهِ إن لم يكن سوقياً عند اجتماعِهِم، فيقول: إنا أخذناه شاهدَ زورٍ فاحذروه، وحذِّروه النَّاسَ، وقالا: يوجعُهُ ضرباً ويحبسُه، وهو قولُ الشَّافِعِيّ
(4)
رضي الله عنه، فإن عمرَ رضي الله عنه ضَرَبَ شاهدَ الزُّورَ أربعينَ سوطاً، وسَخَّمَ وَجْهَه، قد قيل: إنَّما وضعُ المسألةِ في الإقرار؛ لأنَّ شهادةَ الزُّورِ لا يعلمُ إلاَّ بالإقرارِ؛ ولا يعلمُ بالبيِّنة.
أقولُ: قد يعلَمُ بدون الإقرارِ كما إذا شَهِدَ بموت زيد، أو بأن فلاناً قتلَه، ثُمَّ ظَهَرَ زيدٌ حيّاً، وكذا إذا شَهِدَ برؤيةِ الهلالِ فمضى ثلاثونَ يوماً، وليس في السَّماءِ علَّةٌ، ولم يُرَ الهلالُ، ومثل هذا كثير.
فصل [الرجوع في الشهادة]
(لا رجوعَ عنها إلاَّ عند قاضٍ، فإن رَجَعا عنها قبل الحكمِ بها سَقَطَتْ، ولم
(1)
زيادة من أ.
(2)
لأن التعريف يتمّ بذكر الجد و الفخذ، أو بنسبة خاصة، والنسبة إلى المصر أو إلى المحلة الكبيرة عامة، وإلى السِّكَّة الصغيرة خاصة، والمقصود: الإعلام. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 214).
(3)
وهو شُريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكِنْدِي، ثور بن مُرَتع هو كِنْدَة، كان من كبار التابعين، وأدرك الجاهلية، استقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الكوفة، فأقام قاضياً خمساً وسبعين سنة. ينظر:«العبر» (1: 89). «طبقات الشيرازي» (ص 80 - 81)). «وفيات» (2: 460 - 463).
(4)
ينظر: «الأم» (7: 57)، و «أسنى المطالب» (4: 384)، و «المحلي» (4: 333)، وغيرهم.
يَضْمَنا، وبعدَهُ لم يفسخْ، وضمَنا ما أتلفاه بها إذا قَبَضَ مدَّعاه ديناً كان أو عيناً، فإن رَجَعَ أحدُهما ضَمِنَ نصفاً، والعبرةُ للباقي لا للرَّاجع، فإن رَجَعَ أحدُ ثلاثةٍ شَهِدوا لم يضمن، وإن رجعَ آخر ضمنا نصفاً، وإن رجعتْ امرأةٌ من رجلٍ وامرأتينِ ضمنتْ ربعاً، وإن رجعَتا ضمنتا نصفاً. وإن رجعَتْ ثمانٍ من رجلٍ وعشرِ نسوة، فلا غُرْم، وإن رجعتْ أخرى ضمنتْ التِّسعُ ربعاً، وإنْ رجعَ الكُلُّ فعلى الرَّجلِ سدسٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ونصفٌ عندهما، وما بَقِيَ عليهنَّ على القولين، وإن رجعنَ فقط فنصفُ إجماعاً
يَضْمَنا، وبعدَهُ لم يفسخْ): أي إذا رَجَعا عن الشَّهادة بعد حُكْمِ القاضي لم يُفْسَخِ الحكم، (وضمَنا ما أتلفاه بها إذا قَبَضَ مدَّعاه ديناً كان أو عيناً)، حتَّى إذا قضى القاضي، ولم يَقْبِضِ المدَّعي مدَّعاهُ لا يجبُ الضَّمان، بل يتوقَّفُ الضَّمانُ على القبض، فلمَّا قَبَضَ يضمنُ الشُّهود، وعند الشَّافِعِيّ
(1)
رضي الله عنه لا ضمانَ على الشُّهودِ إذا رجعوا؛ إذ لا اعتبارَ للتسبيب عند وجودِ المباشرة، وهو حكمُ القاضي، قلنا: إذا تعذَّرَ تضمينُ المباشر، وهو القاضي؛ لأنَّهُ ملجأٌ في القضاء، يعتبرُ التَّسبيب.
(فإن رَجَعَ أحدُهما ضَمِنَ نصفاً، والعبرةُ للباقي لا للرَّاجع، فإن رَجَعَ أحدُ ثلاثةٍ شَهِدوا لم يضمن)؛ لبقاءِ نصابِ الشَّهادة، (وإن رجعَ آخر ضمنا نصفاً)؛ لأنَّ نصفَ نصابِ الشَّهادةِ باقٍ.
(وإن رجعتْ امرأةٌ من رجلٍ وامرأتينِ ضمنتْ ربعاً، وإن رجعَتا ضمنتا نصفاً.
وإن رجعَتْ ثمانٍ من رجلٍ وعشرِ نسوة، فلا غُرْم، وإن رجعتْ أخرى ضمنتْ التِّسعُ ربعاً)؛ لبقاءِ ثلاثةِ أرباع النِّصاب، (وإنْ رجعَ الكُلُّ فعلى الرَّجلِ سدسٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ونصفٌ عندهما، وما بَقِيَ عليهنَّ على القولين)، لهما: أنَّ الرَّجلَ الواحدَ نصفُ النِّصاب، والنساء وإن كثرنَ يَقُمْنَ مقامَ رجلٍ واحدٍ، ولأبي حنيفةَ رضي الله عنه أن كلَّ امرأتينِ مع الرَّجلِ تقوم مقامَ رجلٍ واحد
(2)
، (وإن رجعنَ فقط فنصفُ إجماعاً)؛ لبقاء نصفِ النِّصاب، وهو الرَّجل.
(1)
لكن الأظهر عند الشافعية أنه لو رجع الشهود غرِّموا. ينظر: «المنهاج» (4: 459)، و «المحلي» (4: 335)، و «مغني المحتاج» (4: 459)، وغيرهم.
(2)
أي كلُّ امرأتين مع الرجل تقومان مقامَ رجلٍ واحد، فصار كما إذا شهدَ بذلك ستَّة رجالٍ ثمَّ رجعوا، فيكون الضمانُ عليهم أسداساً، وعدمُ الاعتدادِ بكثرتهنّ عند انفرادهنّ لا يلزم منه عدمُ الاعتدادِ بكثرتهنّ عند الاجتماعِ مع الرجال، ألا ترى أنَّ كلَّ اثنتين منهنَّ في الميراثِ تقومانِ مقامَ ابنٍ واحد، وعند انفرادهنّ لهنّ الثلثان، فلا يزدادُ نصيبهنّ وإن اختلطنَ بابنٍ يزيد، فيعتدّ بكثرتهنّ، فكذا هنا. ينظر:«التبيين» (4: 246).
وغرمَ رجلانِ شهدا مع امرأة، ثُمَّ رجعوا لا هي، ولا يضمنُ راجعٌ في نكاحٍ بمهرٍ مسمَّى شهدا عليها، أو عليه إلاَّ بما زادَ على مهرِ مثلِها، وفي بيعٍ إلا ما نقص عن قيمةِ مبيعِه
(وغرمَ رجلانِ شهدا مع امرأة، ثُمَّ رجعوا لا هي)؛ لأنَّه لم يثبتْ بشهادةِ المرأةِ الواحدةِ شيء.
(ولا يضمنُ راجعٌ في نكاحٍ بمهرٍ مسمَّى شهدا عليها، أو عليه إلاَّ بما زادَ على مهرِ مثلِها): أي إن شهدا بالنِّكاحِ بمهرِ مسمَّى مساوٍ لمهرِ المثل، ثُمَّ رجعا، فلا ضمانَ سواءٌ شهدا على المرأة، أو على الرَّجل؛ لأنَّهما لم يتلفا شيئاً. وكذا إن كان المسمَّى أقلَّ من مهرِ المثلِ؛ لأنَّ منافعَ البضعِ غيرُ متقوَّمةٍ عند الإتلاف. أمَّا إذا كان المسمَّى أكثرَ من مهرِ المثلِ ضَمِناً ما زادَ على مهرِ المثل.
(وفي بيعٍ إلا ما نقص عن قيمةِ مبيعِه): أي لا يَضْمَنُ الرَّاجعُ في بيعٍ إلاَّ ما نَقَصَ عن قيمةِ المبيعِ. صورةُ المسألة: إذا ادَّعى المشتري أنَّه اشترى العبدَ بألفٍ، وهو يساوي ألفين، فشَهِدَ شاهدان، ثم رجعا، ضَمِناً الألفَ. وإنِّما قلنا: ادَّعى المشتري حتَّى إذا ادَّعى البائعُ الثَّمنَ
(1)
لم يَضْمَنا؛ لأنَّ البائعَ رضي بالنُّقصان.
وإن كانَ الثَّمَنُ مساوياً للقيمة، فلا ضمانَ لعدمِ الإتلاف.
وإن كان الثَّمنُ أكثرَ، فإن كان الدَّعوى من المشتري فلا ضَمان؛ لأنَّ المشتري رضي بالزِّيادةِ على القيمة، وإن كان الدَّعوى من البائعِ ضَمِناً للمشتري ما زادَ على القيمة.
وهذه المسألةُ غيرُ مذكورةٍ في «المتن» ؛ لأنَّ وضعَ مسألةِ «المتن» فيما إذا كان الدَّعوى من المشتري، فإن عبارة «الهداية» هكذا: وإن شهدا ببيع
(2)
.
فإن هذا الكلامَ إنِّما يقالُ: إذا ادَّعى المشتري أنّ البائعَ باعَ فأنكر البائعُ البيعَ، فشهدَ الشُّهودُ على البائع بالبيع، وإن كان الدَّعوى من البائع، فالبائعُ يدَّعي أن المشتري اشترى منِّي هذا العبدَ بكذا، وعليه الثَّمنُ، فأنكرَ المشتري شراءه، فشهدَ الشهودُ أنَّه
(1)
زيادة من أ.
(2)
انتهى من «الهداية» (3: 134).
وفي طلاقٍ إلاَّ نصفَ مهرِها قبل الوطء، وضَمِنَ في العتقِ القيمةَ، وفي القصاصِ الدِّيةَ فحسب، وضَمِنَ الفرعُ بالرجوع. لا أصلُهُ بقوله: ما أشهدتُهُ على شهادتي و أشهدته وغلطت، ولو رَجَعَ الأصلُ والفرعُ غُرِّمَ الفرعُ، وقولُ الفرعِ: كذبَ أصلي أو غَلِطَ فيها ليس بشيء
اشترى العبدَ بكذا، (وعليه الثَّمن)
(1)
، فالعبارة الصَّحيحةُ حينئذٍ أن يقال: شهدا على الشِّراء، فَعُلِمَ أن صورةَ مسألةِ «الهداية» في دعوى المشترى، وهذا دقيقٌ تفرَّدَ به خاطري
(2)
.
(وفي طلاقٍ إلاَّ نصفَ مهرِها قبل الوطء): أي إذا شهدا بالطَّلاقِ قبل الوطء، ثُمَّ رَجَعا ضَمِنا نصفَ المهر، أمَّا بعد الدُّخولِ فلا؛ لأنَّ المهرَ تأكَّدَ بالدُّخولِ فلا إتلاف.
(وضَمِنَ في العتقِ القيمةَ، وفي القصاصِ الدِّيةَ فحسب): أي إذا شهدا أن زيداً قتلَ عمراً، فاقتص زيدٌ، ثُمَّ رَجَعا يجب الدِّيةُ عندنا، وعند الشافعي
(3)
رضي الله عنه يُقْتَصُّ.
(وضَمِنَ الفرعُ بالرجوع.
لا أصلُهُ بقوله: ما أشهدتُهُ على شهادتي و أشهدته وغلطت): قولُهُ: لا أصلُهُ؛ مسألةٌ مبتدأة لا تعلُّقَ لها برجوعِ الفرع، فإذا قال الأصل: ما أشهدتُ الفرعَ على شهادتي لا يلتفتُ إلى قوله، ولا يضمنُ، وإن قالَ: أشهدتُهُ وغلطت، فلا ضَمان عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه، ويَضْمَنُ عند محمَّدٍ رضي الله عنه.
(ولو رَجَعَ الأصلُ والفرعُ غُرِّمَ الفرعُ)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسف رضي الله عنه؛ لأنَّ القضاءَ وقعَ بشهادةِ الفرعِ في علَّةٍ قريبة، فيضافُ الحكمُ إليه، وعند محمَّد رضي الله عنه إن شاءَ ضُمِّنَ الأصلُ وإن شاءَ ضُمِّنَ الفرع
(4)
.
(وقولُ الفرعِ: كذبَ أصلي أو غَلِطَ فيها ليس بشيء)
(5)
؛ لأنَّ كذبَ الأصلِ لا
(1)
زيادة من أ.
(2)
ظاهرُهُ أنَّ العبارةَ المذكورةَ في «الهداية» (3: 134) لا يمكنُ تأويلها، وليس كذلك، فإنَّ البيع من الأضداد لغةً واصطلاحاً، فيمكنُ أن يرادَ بالبيعِ الشراء، فلو قال: الشارح رضي الله عنه: فالأولى أن يقال، أو فالعبارةُ الحسنةُ حينئذٍ أن يقال
…
الخ، لكان أولى وأحسن. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 174).
(3)
ينظر: «المنهاج» (4: 457)، و «نهاية المحتاج» (8: 328)، و «حاشيتا قليوبي وعميرة» (4: 333).
(4)
رجَّح في «الملتقى» (ص 137) قول محمد رضي الله عنه، وجزم في «التنوير» (ص 155) بقولهما، ونصره الحصفكي في «الدر المنتقى» (2: 220).
(5)
يعني بعد الحكم بشهادتهم؛ لأن ما أمضى من القضاء لا ينقض بقولهم ولا يجب الضمان عليهم؛ لأنهم ما رجعوا عن شهادتهم إنما شهدوا على غيرهم بالرجوع. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 220).
وضَمِنَ المزكِّي بالرُّجوع، لا شاهدَ الإحصان، كما ضَمِنَ شاهدُ اليمينِ لا الشَّرطِ إذا رجعوا
يثبتُ بقولِ الفرع، والفرعُ لم يرجعْ عن شهادتِه، فلا يلتفتُ إلى قوله.
(وضَمِنَ المزكِّي بالرُّجوع): (عن التزكية)
(1)
هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه خلافاً لهما؛ لأنَّ التَّزكيةَ جعلتِ الشَّهادةَ شهادةً.
(لا شاهدَ الإحصان): أي إذا شهدوا على الزِّنا، وشَهِدَ الشُّهودُ على إحصانِ الزَّاني، فَرُجِم، ثُمَّ رجعَ شهودُ الإحصان لم يضمنوا؛ لأن الإحصانَ شرطٌ محضٌ لا يضافُ الحكم إليه بخلافِ التَّزكية، وهما قاسا المزكِّي على شاهدِ الإحصان.
(كما ضَمِنَ شاهدُ اليمينِ لا الشَّرطِ إذا رجعوا): أي إذا شَهِدَ شاهدانِ أنُّه عَلَّقَ عتقَ عبدِه بشرطٍ، وشَهَدَ آخران على وجودِ الشَّرط، فحُكِمَ بالعتق، ثمَّ رجعَ الكلُّ ضَمِنَ شاهدا اليمين؛ لأنَّهما صاحبا العلَّة. (والله أعلم بالصواب)
(2)
.
* * *
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
زيادة من ج و ص و ق.
كتاب الوكالة
جازَ التَّوكيل: وهو تفويضُ التَّصرُّفِ إلى غيرِه، وشرطُهُ أن يملكَهُ الموكِّلُ، ويعقلَهُ الوكيلُ ويقصدَه، فصحَّ توكيلُ الحرِّ البالغِ أو المأذونِ مثلَهما، وصبيّاً يعقلُ، وعبداً محجورينِ في التصرُّف، ويرجعُ حقوق العقد إلى موكِّلهما دونَهما
كتاب الوكالة
(جازَ التَّوكيل: وهو تفويضُ التَّصرُّفِ إلى غيرِه، وشرطُهُ أن يملكَهُ الموكِّلُ)، الضَّميرُ المنصوبُ يرجعُ إلى التَّصرُّف، والظَّاهرُ أنَّ المرادَ مطلقُ التَّصرُّف، فإن عبارةَ «الهداية» هكذا: ومن شرطِ الوكالةِ أن يكونَ الموكِّلُ ممَّن يملِكُ التَّصْرُّفَ بأن يكونَ حُرّاً بالغاً، أو مأذوناً
(1)
. وإن أُريد بالتَّصرُّف التَّصرُّفُ الذي وُكِّلَ به لا مطلقُ التَّصرُّف يكونُ قولُهما لا قول أبي حنيفةَ رضي الله عنه، فإنَّ المسلمَ إذا وَكَّلَ الذَّمي ببيعِ الخمرِ، يجوزُ عنده لا عندهما، (ويعقلَهُ الوكيلُ ويقصدَه): أي يعقلُ أن البيعَ سالبٌ للملك، والشَّراءَ جالبٌ له، ويعرفُ الغُبْنَ اليسيرَ من الفاحش، ويقصدُ
(2)
العقدَ حتَّى لو تصرَّف هازلاً، لا يقع عن الأمرِ.
(فصحَّ توكيلُ الحرِّ البالغِ أو المأذونِ مثلَهما)، ولو قال كلاً منهما، لكان أشمل لتناولِهِ توكيلَ الحرِّ البالغِ مثله والمأذون، وتوكيلُ المأذونِ مثلَهُ والحرَّ البالغِ، والمرادُ بالمأذونِ الصَّبي العاقلُ الذي أذنَهُ الوليُّ، والعبدُ الذي أذنَهُ المولى، (وصبيّاً يعقلُ، وعبداً محجورينِ (في التصرُّف)
(3)
، ويرجعُ حقوق العقد إلى موكِّلهما دونَهما): أي إذا وَكَّلَ الحرُّ البالغُ، أو المأذونُ صبيّاً محجوراً، أو عبداً محجوراً يرجعُ حقوقُ العقدِ إلى مؤكِّلهما، ولا يرجع إليهما
(4)
.
(1)
انتهت عبارة «الهداية» (3: 137) بتصرف.
(2)
قال في «المنح» (ق 2: 142/ب): وأما تفسيرُهم بالقصد؛ للاحترازِ عن بيعِ الهازلِ والمكره، فخارج عن المقصود؛ لأنَّ الكلامَ الآن في صحَّةِ الوكالة، لا في صحَّةِ بيعِ الوكيل؛ ولذا تركَه في «الكَنْز» (ص 132)، وتركناه في «المختصر» (ص 156) أيضاً. انتهى.
(3)
زيادة من أ.
(4)
لأنها لمّا تعذَّر رجوعها إليهما لإضرار الصبَيّ المبعد من المضارّ وإضرار سيد العبد رجعت إلى أقرب الناس إلى هذا التصرّف، وهو المؤكِّل، إلا أنّ الحقوق تلزم العبد المحجور بعد العتق؛ لأن المانع حقّ المولى وقد زال بالعتق ولا يلزم الصبي بعد البلوغ؛ لأن المانع حقُّه، وحق الصبي لا يبطل بالبلوغ. ينظر:«كمال الدراية» (ق 507).
بكلِّ ما يعقدُهُ بنفسِه وبالخصمومةِ في كلِّ حقٍّ، ولا يلزمُ بلا رضا خصمِه، إلاَّ بموكِّلِ مريضٍ لا يُمْكِنُهُ حضورَ مجلسِ الحاكم، أو غائبٍ مسيرةَ سفر، أو مريدٍ للسَّفر، أو مخدرةٍ لا تعتادُ الخروجَ. وبإيفائِه، واستيفائِهِ إلاَّ في استيفاءِ حدٍّ وقَوَدٍ بغيبةِ مؤكِّلِه، وحقوقُ عقدٍ يضيفهُ الوكيلُ إلى نفسِه كبيع، وإجارة
(بكلِّ ما يعقدُهُ بنفسِه)، يتعلَّق بقولِهِ فصحَّ توكيلُ الحرِّ إلى آخره، (وبالخصمومةِ
(1)
في كلِّ حقٍّ، ولا يلزمُ بلا رضا خصمِه): قال بعضُ المشايخ رضي الله عنهم: التَّوكيلُ بالخصومةِ بلا رضا الخصمِ باطلٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، صحيحٌ عندهما، وقال البعضُ: الاختلافُ في اللزوم لا في الصِّحَّة، وفي «الهداية»
(2)
اختار هذا، (إلاَّ بموكِّلِ مريضٍ لا يُمْكِنُهُ حضورَ مجلسِ الحاكم، أو غائبٍ مسيرةَ سفر، أو مريدٍ للسَّفر)، وهو أن يكونَ مشتغلاً بإعدادِ عُدَّةِ السَّفر
(3)
، (أو مخدرةٍ
(4)
لا تعتادُ الخروجَ.
وبإيفائِه، واستيفائِهِ إلاَّ في استيفاءِ حدٍّ وقَوَدٍ بغيبةِ مؤكِّلِه): أي صحَّ التَّوكيلُ بإعطاءِ كلِّ حقّ، وكذا بقبض كلِّ حقٍّ إلا أنَّه لا يصحُّ في استيفاءِ حدٍّ وَقَوَد بغيبة الموكِّلِ لشبهةِ العفو في القصاص، وشبهةِ أن يصدَّقَ القاذفُ في حدِّ القذف، وشبهةُ أن يدَّعي المالَ ولا يدَّعي السَّرقة.
(وحقوقُ
(5)
عقدٍ يضيفهُ الوكيلُ إلى نفسِه): أي لا يحتاجُ فيه إلى ذِكْرِ الموكِّل، فإنَّ في البيعِ والشَّراءِ عن الموكِّلِ يكفي أن يقولَ الوكيلُ: بعت، أو اشتريت، (كبيع، وإجارة،
(1)
الخصومة: الدَّعوى الصحيحة أو الجواب الصريح. ينظر: «الجوهرة» (1: 298).
(2)
الهداية» (3: 136).
(3)
إرادةُ السفرِ أمرٌ باطنيّ، فلا بُدَّ من دليلها، وهو إمّا تصديقُ الخصمِ بها أو القرينةُ الظاهرة، ولا يقبل قوله: إنّي أريدُ السفر، لكن ينظرُ القاضي في حالِهِ وفي عدّته، فإنّه لا يخفى عدَّة مَن يسافر. ينظر:«البحر» (7: 145).
(4)
المخدّرة من الخَدر بفتح الخاء: إلزامُ البنتِ الخِدر بكسر الخاء، وهو ستر يمدُّ للجارية في ناحية البيت. ويطلقُ الخِدر على البيتِ إن كان فيه امرأةٌ، وإلاَّ لا. فالحاصلُ: إنَّ المخدَّرةَ هي التي لا تخرج عن بيتها إلى الأسواقِ غالباً، ولم تخالطْ مع الرجال، فإنَّ الخروجَ للحاجةِ لا يقدحُ في تخديرها ما لم يكثر، بأن تخرجَ لغيرِ حاجة، ولو حضرت مجلس القضاء لا يمكنها أن تنطقَ بحقّها لحيائها، فيلزمُ توكيلها، وهذا شيءٌ استحسنه المتأخّرون. وعليه الفتوى. ينظر:«الهداية» (3: 137)، «الكفاية» (6: 562)، «الفتح» (6: 561)، «حاشية الطحطاويّ» (3: 266)، «المصباح» (ص 165).
(5)
حقوق مبتدأ خبره قوله الآتي: يتعلق به. ينظر: «الدرر» (2: 283).
وصلحٍ عن إقرارٍ يتعلَّق به فيسلِّمُ المبيعَ ويقبضَهُ وثمنَ مبيعِه. ويطالبُ بثمنِ مشريّه، ويخاصمُ في عيبِه، وشفعةِ ما باع، وهو في يدِه، فإن سلَّمَهُ إلى آمرِهِ فلا يُرَدُّ بالعيبِ، إلاَّ بإذنِه، ويرجعُ بثمنِ مشريهِ مستحقَّاً، ويثبتُ الملكُ للموكِّلِ ابتداءً، فلا يُعْتَقُ قريبُ وكيلٍ شراه
وصلحٍ عن إقرارٍ يتعلَّق به فيسلِّمُ المبيعَ): أي في الوكالةِ بالبيعِ، (ويقبضَهُ): أي في الوكالةِ بالشَّراء، (وثمنَ مبيعِه. ويطالبُ بثمنِ مشريّه، ويخاصمُ في عيبِه، وشفعةِ ما باع، وهو في يدِه، فإن سلَّمَهُ إلى آمرِهِ فلا يُرَدُّ بالعيبِ، إلاَّ بإذنِه، ويرجعُ بثمنِ مشريهِ مستحقَّاً): هذا كلُّهُ عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ
(1)
رضي الله عنه يرجعُ الحقوقُ إلى الموكِّل، لكن يَجِبُ أن يعلمَ أن الحقوقَ نوعان:
حقٌّ يكونُ للوكيل.
وحقٌّ يكونُ على الوكيلِ.
فالأَوَّلُ: كقبضِ المبيع، والمطالبةِ بثمنِ المشتري، والمخاصمةِ في العيب، والرُّجوعِ بثمنِ المستحقّ، ففي هذا النَّوعِ للوكيلِ ولايةُ هذه الأمورِ، لكن لا يَجِبُ عليه، فإن امتنعَ لا يُجْبِرُهُ الموكِّلُ على هذه الأفعال؛ لأنَّه متبرِّعٌ في العمل، بل يوكِّلُ الموكِّلُ لهذه الأفعال، وسيأتي في «كتاب المضاربة»
(2)
بعض هذا، وهو قولُهُ: وكذا سائرُ الوكلاء. وإن ماتَ الوكيلُ فولايةُ هذه الأفعالِ لورثتِه، فإن امتنعوا، وَكَّلُوا موكِّلَ مورِّثِهم، وعند الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه للموكِّل ولايةُ هذه الأفعالَ بلا توكيل من الوكيل، أو وارثِه.
وفي النَّوعِ الآخرِ: الوكيلُ مدَّعىً عليه، فللمدَّعي أن يُجْبِرَ الوكيلَ على تسليمِ المبيع، وتسليمِ الثَّمن وأخواتِهما.
(ويثبتُ الملكُ للموكِّلِ ابتداءً، فلا يُعْتَقُ قريبُ وكيلٍ شراه): أي إذا اشترى الوكيل، فالأصحُّ
(3)
أن يثبتَ الملكُ للموكِّلِ ابتداءً، وعند بعضِ المشايخِ رضي الله عنه يَثْبُتُ الملكُ
(1)
ينظر: «التنبيه» (ص 76).
(2)
3: 250).
(3)
أي قول أبي طاهرٍ الدَّباس- رضي الله عنه إذ قال: يثبتُ الملك ابتداءً للموكِّل، لأنَّ المشتري إذا كان منكوحةَ الوكيل أو قريبه لا يفسدُ النكاح، ولا يعتقُ عليه، ولو ملك المشتري فلا بدَّ من أن يعتقَ عليه، ويفسد النكاح، ولم يقل به أحد، وقال الكَرْخيّ رضي الله عنه: يثبتُ الملكُ للوكيلِ لتحقُّقِ السببِ من جهته، ثم ينتقل إلى الموكِّل بسبب عقدٍ يجري بينهما، وإن لم يكن ملفوظاً بل مقتضى التوكيل السابق، وهاهنا مسلكٌ آخر، وهو ما قال أبو زيدٍ رضي الله عنه من أنَّ الوكيلَ نائبٌ في حقِّ الحكم، أصيلٌ في الحقوق، فوافقَ الكرخيّ رضي الله عنه في الحقوق، وأبا طاهر في الحكم، ينظر:«الزبدة» (3: 180).
وحقوقُ عقدٍ يضيفُهُ إلى موكِّلِه: كنكاح، وخلع، وصلحٍ عن إنكار، أو دَمِّ عَمْد، وعتقٍ على مال، وكتابة، وهبة، وتصدّق، وإعارة، وإيداع، ورهن، وإقراض يتعلّقُ بالموكِّل لا به، فلا يطالبُ وكيلُ زوج بالمهر، ولا وكيلُ عرسٍ بتسليمها، وببدل الخلع. وللمشتري منعُ الثَّمنِ من موكِّلِ بائعِه، فإذا دفعَ إليه صحَّ، ولم يطالبْهُ بائعُهُ ثانياً
أوَّلاً للوكيلِ، ثم يَنْتَقِلُ منه إلى موكِّلِه بسببِ عقدٍ يجري بينهما، وإن لم يكن ملفوظاً، بل مقتضي للتَّوكيلِ السَّابق، فعلى التَّخريجِ الأوَّلِ: إذا وَكَّلَ أحداً أن يشتري قريبَهُ من مالكِه، فاشتراه لا يعتقُ على الوكيل؛ لأنَّه لا يملكهُ، وعلى التَّخريجِ الثَّاني: لا يعتقُ أيضاً؛ لأنَّهُ يَثْبُتُ للوكيلِ ملكٌ غيرُ متقرِّرِ فلا يعتق.
(وحقوقُ عقدٍ يضيفُهُ إلى موكِّلِه
(1)
: كنكاح، وخلع، وصلحٍ عن إنكار، أو دَمِّ عَمْد، وعتقٍ على مال، وكتابة، وهبة، وتصدّق، وإعارة، وإيداع، ورهن، وإقراض يتعلّقُ بالموكِّل لا به
(2)
، فلا يطالبُ وكيلُ زوج بالمهر، ولا وكيلُ عرسٍ بتسليمها، وببدل الخلع.
وللمشتري منعُ الثَّمنِ من موكِّلِ بائعِه
(3)
، فإذا دفعَ إليه صحَّ، ولم يطالبْهُ بائعُهُ ثانياً).
اعلم أنّ في بعض هذه الأمثلة نظراً في أنَّها تضافُ إلى الوكيل أو الموكِّل.
أمَّا البيعُ والإجارةُ فلا شَكَّ أنَّهما مستغنيانِ عن ذِكْرِ الموكِّل، فهما من القسمِ الأَوَّل، والنِّكاحُ والخلعُ لا يستغنيانِ عنه، فهما من القسمِ الثَّاني.
وأمَّا الصَّلحُ فلا فَرْقَ فيه بين أن يكونَ عن إقرار أو إنكار في الإضافة، فإنَّ زيداً إذا ادَّعى داراً على عمرو، فوكَّلَ عمروٌ وكيلاً على أن يصالحَ بالمئة، فيقولُ زيدٌ: صالحتُ عن دعوى الدَّار على عمرو بالمئة، ويقبلُ الوكيلُ هذا الصَّلْح، يَتِمُّ الصُّلْحُ سواء كان عن إقرار أو عن إنكار، إلاَّ أنَّه إذا كان عن إقرارٍ يكونُ كالبيع، فيرجعُ
(1)
يعني لا يستغني عن الإضافة فيه إلى موكِّله حتى لو أضافه إلى موكَّلِهِ لا يصحّ. ينظر: «البحر» (7: 151 - 152).
(2)
لأنَّ الوكيلَ في هذه العقودِ سفيرٌ محض، والسفيرُ مَن يكون حاكياً قولَ الغير، والحاكي لا يلزمُهُ أحكامُ قولِ الغير. ينظر:«التبيين» (4: 257).
(3)
يعني إذا وكَّلَ رجلاً بيعَ شيءٍ فباعَه، ثمَّ إنّ الموكِّلَ طلبَ من المشتري الثمنَ له منعُه؛ لأنَّ الموكِّلَ أجنبيٌّ عن العقد، والوكيلُ أصلٌ في الحقوق. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 226).
باب الوكالة بالبيع والشراء
[فصل في الشراء]
الأمرُ بشراءِ الطَّعامِ على البُرِّ في دراهمَ كثيرة، وعلى الخبزِ في قليلة، وعلى الدَّقيقِ في متوسِّطة، وفي متخذِّ الوليمةِ على الخبزِ بكلِّ حال، ولا يصحُّ بشراءِ شيءٍ فَحُشَ جَهْلُ جنسه كالرَّقيقِ، والثَّوب، والدَّابّةَ، وإن بيَّن ثمنَه
الحقوقَ إلى الوكيل كما في البيع، فتسليمُ بدل الصُّلحِ على الوكيلِ، وإذا كان عن إنكار، فهو فداءُ يمينٍ في حقٍّ المدَّعى عليه، فالوكيلُ سفيرٌ محضٌ فلا يرجعُ إليه الحقوق.
باب الوكالة بالبيع والشراء
[فصل في الشراء]
(الأمرُ بشراءِ الطَّعامِ على البُرِّ في دراهمَ كثيرة، وعلى الخبزِ في قليلة، وعلى الدَّقيقِ في متوسِّطة، وفي متخذِّ الوليمةِ على الخبزِ بكلِّ حال)، هذه الوكالةُ ينبغي أن تكونَ باطلةً؛ لأنَّ الطَّعامَ يقعُ على كلِّ ما يُطْعَم، فيكونُ جهالةُ جنسِهِ فاحشةً، لكن المتعارفَ في قوله: اشتر لي طعاماً: أن يرادَ به الحنطة، أو الدَّقيق، أو الخبز
(1)
.
(ولا يصحُّ بشراءِ شيءٍ فَحُشَ جَهْلُ
(2)
جنسه كالرَّقيقِ، والثَّوب، والدَّابّةَ، وإن بيَّن ثمنَه)، اعلم أن كلَّ شيئينِ يتحدُّ حقيقتُهما ومقاصدُهما، فهما من جنسٍ
(1)
ما رجَّحه المصنِّف في هذه المسألة وتبعه على الشارح رضي الله عنه راجع إلى العرف، وقد اختلف الترجيح على مقصود كلّ بلد وأهل عصر من الطعام، فكلٌّ رجّح عرف بلده وعصره، والله أعلم. ينظر:«الدر المختار» (4: 403)، و «مجمع الأنهر» (2: 228)، وغيرها.
(2)
تفصيل الكلام في الجهالة أنها على ثلاثة أضرب:
الأولى: جهالةٌ فاحشةٌ، وهي الجهالةُ في الجنس، فتمنعُ صحَّة الوكالة، سواءً بيَّنَ الثمنَ أو لا، كما إذا وكّله بشراء ثوب أو دابّة أو نحو ذلك.
والثانية: جهالةٌ يسيرةٌ، وهي ما كانت في النوعِ المحض، كما إذا وكّله بشراء فرسٍ أو حمارٍ أو ثوبٍ هرويّ، أو نحو ذلك، فإنّه يجوز الوكالةُ به، وإن لم يبيِّن الثمن؛ لأنَّ جهالةَ النوعِ لا تخلّ بالمقصود، ويمكن رفعُها بصرف التوكيلِ إلى ما يليقُ بحالِ الموكِّل، حتى إذا وكّل عاميٌّ رجلاً بشراءِ فرس فاشترى فرساً يصلحُ للملوكِ لا يلزمُه.
والثالثة: جهالةٌ متوسِّطةٌ؛ وهي ما يكون بين الجنسِ والنوع، كما إذا وكَّلَه بشراءِ عبدٍ أو جاريةٍ إن بيَّنَ الثمنَ أو الصفة، بأن قال: تركيّاً أو هنديّاً أو روميّاً صحَّت الوكالة، وإن لم يبّين الثمن أو الصِّفة لا يصحّ؛ لأنَّ اختلافَ العبدِ والجواري أكثرُ من اختلافِ سائرِ الأنواع، وعادةُ الناسِ في ذلك مختلفة، فكانت بين الجنسِ والنوع، وكذا الدارُ الملحقة بالجنسِ من كلِّ وجه؛ لأنّها تختلفُ بقلَّة المرافقِ وكثرتها، فإن بيَّن الثمنَ ألحقتْ بجهالةِ النوع، وإن لم يبيّن ألحقت بجهالةِ الجنس. ينظر:«فتح القدير» (8: 29).
إلاَّ إذا ذَكَرَ نوعَ الدَّابّةِ كالحمارِ، أو ثمنُ الدَّارِ والمحلّة، وصحَّ بشراءٍ عُلِمَ جنسُهُ لا صفتُهُ كالشَّاةِ والبقر، وتصحُّ بشراءِ شيءٍ جُهِلَ جِنْسُهُ من وجهٍ كالعبد، وذُكِرَ نوعُهُ كالتُّركي، أو ثَمَنٌ عيّنَ نوعاً
واحد، وإن اختلفتِ الحقيقةُ أو المقاصدُ فهما من جنسين، فإن فَحُشَ جهالةُ الجنسِ بأن قد ذَكَرَ جنساً تحتَهُ أجناس كالرَّقيق فإنَّهُ ينقسمُ إلى ذكرٍ وأُنثى، وهما في بني آدم جنسان؛ لاختلاف المقاصد، ثُمَّ كلٌّ منهما قد يقصدُ منه الجمالِ كما في التُّرْكِي، وقد يقصدُ منه الخدمةُ كما في الهندي، وكذا الثَّوب والدَّابةِ فلا يصحُّ الوكالةُ بشراءِ هذه الأشياءِ وإن بيَّنَ الثَّمن.
(إلاَّ إذا ذَكَرَ نوعَ الدَّابّةِ كالحمارِ): المراد بالنَّوع هاهنا الجنسُ الأسفلُ في اصطلاح الفقهاء: أطلقَ عليه النَّوع؛ لأنَّه نوعٌ بالنِّسبةِ إلى الأعلى، ويسمَّى في المنطق نوعاً إضافياً، (أو ثمنُ الدَّارِ والمحلّة)
(1)
، الدارُ ممَّا فحشَ جهالةُ جنسِهِ فلا بُدَّ من أن يبيِّن ثمنَها ومحلَّتَها.
(وصحَّ بشراءٍ عُلِمَ جنسُهُ لا صفتُهُ كالشَّاةِ والبقر)، فإنِّهما جنسٌ واحدٌ لاتّحادِ المقصودِ والمنفعة، فلا احتياجِ إلى بيانِ الصَّفةِ كالسُّمْنِ والهزال، (وتصحُّ بشراءِ شيءٍ جُهِلَ جِنْسُهُ من وجهٍ كالعبد، وذُكِرَ نوعُهُ كالتُّركي، أو ثَمَنٌ عيّنَ نوعاً)، العبدُ
(1)
اختلف في تصنيف الدار في أي نوع من الجهالة:
فجعلها صاحب «الكَنْز» (ص 124)، و «التبيين» (4: 259) من الجهالة المتوسطة بين الجنس والنوع، فهي ليست بفاحشة ولا يسيرة، فإذا بيَّنَ ثمنَه عُلِمَ من أي نوعٍ مقصوده. والمتأخِّرون قالوا: لا تجوز إلا ببيان المحلّة؛ لأنها تختلف باختلافها، وهو اختيار المصنِّف وصاحب «المبسوط» (17: 42).
وجعلها صاحب «الهداية» (3: 139) من الجهالة الفاحشة كالثوب؛ لأنّها تختلفُ اختلافاً فاحشاً، باختلافِ الأغراضِ والجيران، والمرافق، والمحال، والبلدان، فيتعذَّر الامتثال، وإن سمّي ثمن الدار ووصف جنس الدَّار جاز. انتهى. وذكر صاحب «البحر» (7: 153) التوفيق بين ما في «الهداية» وغيرها: بأن يحمل ما في «الهداية» على ما إذا كانت تختلفُ في تلك الدِّيارِ اختلافاً فاحشاً، وكلامُ غيرِه على ما كانت لا تتفاحش.
وبشراءِ عينٍ بدينٍ له على وكيلِه، وفي غير عينٍ إن هلكَ في يدِ الوكيلِ هلكَ عليه، فإن قبضَهُ آمرُهُ فهو له، وبشراءِ نفسِ المأمورِ من سيِّدِهِ إن قال: بعني نفسي لفلان، فباع يقع عن الآمر، فإن لم يقل: لفلان عُتِقَ على المولى
معلومُ الجنسِ من وجهٍ لكن من حيث المنفعةِ والجمال، كأنَّه أجناسٌ مختلفة، فإن بيَّنَ نوعَهُ كالتُّركي تصحُّ الوكالةُ، وكذا إذ بيَّن ثمناً، ويكونُ الثَّمنُ بحيث يعلمُ منه النَّوع.
(وبشراءِ عينٍ بدينٍ له على وكيلِه)
(1)
، المرادُ بالعينِ الشَّيءُ المعيَّن، (وفي غير عينٍ إن هلكَ في يدِ الوكيلِ هلكَ عليه، فإن قبضَهُ آمرُهُ فهو له): أي أمرَه أن يشتري بالألفِ الذي له على المأمور عبداً، ولم يعيِّنِ العبدَ، فاشتراهُ فماتَ في يدِ المأمورِ فهلاكُهُ عليه، ولا يصيرُ للآمر إلاَّ أن يقبضَه، وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه بناءً على أن الوكالةَ لم تصحَّ؛ لأنَّ الدَّراهمَ والدَّنانيرَ تتعيَّنُ في الوكالات، فيكونُ الشِّراءُ مقيَّداً بذلك الدين، فيصيرُ تمليكُ الدَّينِ من غيرِ مَن عليه الدَّين بلا توكيلِ ذلك الغير، وهذا لا يصحُّ بخلاف ما إذا كان العبدُ متعيِّناً، فإنَّ البائعَ يصير حينئذٍ وكيلاً بقبضِ الدَّينِ فيصحُّ تمليكُ الدَّين.
وعندهما: إذا قَبَضَ المأمورُ يصيرُ ملكاً للآمر؛ لأنَّ الدَّراهمَ والدَّنانيرَ لم تتعيَّن فلم يتقيَّدِ التوكيلُ بالدَّين، فصحَّتْ الوكالةُ، فيكون للآمر.
وجوابُهُ: ما مرَّ أنّها تتعيَّن في الوكالات، فإنَّه إذا قيَّدَ الوكالةَ بها عيناً كانت أو ديناً، فهلكت أو سقطَ الدَّينُ تبطلُ الوكالة.
(وبشراءِ نفسِ المأمورِ من سيِّدِهِ إن قال: بعني نفسي لفلان، فباع (يقع عن الآمر)
(2)
، فإن لم يقل: لفلان (عُتِقَ على المولى)
(3)
): أي إذا قال رجلٌ لعبدٍ: اشترِ لي نفسَك من مولاك، فالعبد إن قال: بعني نفسي لفلان، فباعَ يقعُ عن الآمر، وإن لم يقل:
(1)
أي وتصحُّ الوكالةُ بشراءٍ شيءٍ معيَّن بدين للموكِّل على وكيله، وصورته: إنَّ ربَّ الدين قال للمديون: اشترِ لي هذا العبد بألفٍ لي عليك، فاشتراه يكون ملكاً للآمر، حتى لو هلكَ في يدِ الوكيلِ يهلك على مالِ الآمر، لا على الوكيل؛ لأنَّ في تعيين المبيع تعيين البائع، وفي تعيين البائع توكيله بقبض دينه من المديون أوَّلاً لأجله، ثم بقبضه لنفسه، فلا يوجد تمليك الدين من غير من عليه الدين. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 229).
(2)
زيادة من أ.
(3)
ساقطة من ص و ف و ق.
وفي شراءِ نفس الآمر من سيِّدِهِ بألفٍ دَفَعَ إن قال لسيِّده: اشتريتُهُ لنفسِه، فباعَهُ عُتِقَ عليه، فإن لم يَقُلْ لنفسِهِ كان لوكيلِه، وعليه ثمنُه، والألفُ لسيِّده، فإن قال: اشتريتُ عبداً للآمرِ، فمات، وقال الآمر: بل لنفسك صُدِّقَ الوكيلُ إن كان دَفَعَ الآمرُ الثَّمن، وإلاَّ فالآمر
لفلان عُتِقَ على المولى
(1)
.
فإن قيل: الوكيلُ بشراءِ شيءٍ معيَّنٍ إذا اشتراهُ من غيرِ أن يضيفَ إلى الآمرِ يَقَعُ عن الآمر.
قلنا: الوكيلُ قد أتى بتصرُّفٍ من جنسٍ آخر، وهو العتقُ على مال، وفي مثل هذا يقعُ عن الوكيل
(2)
.
(وفي شراءِ نفس الآمر من سيِّدِهِ بألفٍ دَفَعَ إن قال لسيِّده: اشتريتُهُ لنفسِه، فباعَهُ عُتِقَ عليه، فإن لم يَقُلْ لنفسِهِ كان لوكيلِه، وعليه ثمنُه، والألفُ لسيِّده): أي قال عبدٌ لرجلٍ اشترِ لي نفسي من مولاي بألف، ودَفَعَها إليه، فقال: الوكيلُ اشتريتُهُ لنفسِه، فباعَه، يكونُ إعتاقاً على مال
(3)
، وإن لم يقلْ لنفسِهِ كان الشِّراءُ واقعاً من الوكيل، فيكونُ الثَّمنُ على المشتري، وهذا الألفُ للمولى؛ لأنَّه كسبُ عبده.
(إن قال: اشتريتُ عبداً للآمرِ، فمات، وقال الآمر: بل لنفسك صُدِّقَ الوكيلُ إن كان دَفَعَ الآمرُ الثَّمن، إلاَّ فالآمر
(4)
)
(5)
: أي أمرَ رجلاً بشراءِ عبدٍ بألف، فقال
(1)
لأن العبد يصلحُ وكيلاً عن غيره في شراء نفسه؛ لأنه أجنبيٌّ عن ماليّته والبيع يرد عليه من حيث إنه مال إلا أن ماليته في يده حتى لا يملك البائع الحبس بعد البيع، فإذا أضافه إلى الآمر صلح فعله امتثالاً فيقع العقد للآمر، وإن عقد لنفسه، فهو حرٌّ؛ لأنه إعتاق وقد رضي به المولى دون المعاوضة. ينظر:«البحر» (7: 166).
(2)
أي الوكيل أتى بجنسٍ آخر من التصرُّف؛ لأنَّ بيع العبدِ من نفسه إعتاقٌ على مال، وشراؤه قبول العتق، فيكون مخالفاً، فينفذُ عليه؛ لأنَّ الوكيلَ بشراءِ شيءٍ معيَّنٍ ينفذُ عليه عند المخالفة. ينظر:«التبيين» (4: 269).
(3)
أي لأن بيع نفس العبد منه إعتاق وشراء العبد نفسه بمال قبول الإعتاق ببدل، والوكيل سفير عنه، فصار كأنه اشترى بنفسه فلزم، والولاء للمولى. ينظر:«درر الحكام» (2: 286).
(4)
في م و ف و ق و س: فاللآمر.
(5)
ذكر المصنِّف رضي الله عنه المسألة بإجمال، وحقٌّ لها أن تفصّل؛ لأن فيها ثمانية وجوه والحكم مختلف فيها:
فإنَّ الوكيل: إمّا أن يكون مأموراً بشراءِ عبدٍ بعينِه، أو بغيرِ عينه.
وعلى الوجهين: إمّا أن يكون الثمن منقوداً، أو غير منقود.
وعلى كلِّ وجهٍ: إما أن يكون العبدُ حيَّاً حين أخبرَ الوكيل بالشراء، أو ميِّتاً.
والحاصل إنَّ الثمنَ إن كان منقوداً فالقول للمأمورِ مطلقاً، وإن كان غيرَ منقودٍ فإن كان الوكيلُ لا يملك الإنشاءَ بأن يكون العبدُ ميِّتاً فالقول للآمر، وإن كان يملك الإنشاء، فإن كان في غير موضع التهمةِ فالقول للمأمورِ اتّفاقاً، وإن كان في موضعِ التُّهمةِ فالقولُ أيضاً للمأمورِ عندهما، وعنده للآمر، وتفصيله في «التبيين» (4: 265 - 266)، و «الرمز» (2: 123)، وغيرهما.
وله الرُّجوعُ بالثَّمنِ على الآمرِ دَفَعَهُ إلى بائعِهِ أو لا،
الوكيل: قد فعلت، وماتَ العبدُ عندي، وقال الآمر: اشتريتَ لنفسك، فإن دَفَعَ الآمرُ الثَّمَنَ فالقولُ للوكيل، وإن لم يدفعْ، فالقولُ للآمر، وعللَّ في «الهداية» فيما إذا لم يدفعِ الآمرُ الثَّمنَ: بأن الوكيلَ أَخبرَ بأمرٍ لا يملك استئنافَه، وفيما إذا دفعَ الثَّمن بأن الوكيلَ أمينٌ يريدُ الخروجَ عن عهدةِ الأمانة
(1)
.
أقولُ: كلُّ واحد من التَّعليلينِ شاملٌ للصورتين
(2)
، فلا يتمُّ به الفرق، بل لا بُدَّ من انضمامِ أمرٍ آخر، وهو أن (يكون الوكيل)
(3)
فيما إذا لم يدفعِ الثَّمنَ يدَّعي الثَّمنَ على الآمر، وهو ينكره، فالقولُ للمنكر، وفيما إذا دَفَعَ الثَّمَنَ يدَّعي الآمرُ الثَّمَنَ على المأمورِ وهو يُنْكِرُه، فالقولُ للمنكر.
(وله الرُّجوعُ بالثَّمنِ على الآمرِ دَفَعَهُ إلى بائعِهِ أو لا): أي للوكيلِ بالشَّراءِ الرُّجوعُ بالثَّمنِ على الآمرِ إذا فعلَ ما أمره به سواءٌ دفعَ الوكيلُ الثَّمنَ إلى بائعِه، أو لم يدفعْهُ، جعلوا هذه المسألةَ مبنيَّةٌ على أنه يجري بين الوكيلِ والموكِّلِ مبادلةٌ حكميّة، فيصيرُ الوكيلُ بائعاً من موكِّلِه، فله مطالبةُ الثَّمن، وإن لم يَدْفَعْ إلى بائعِه.
(1)
انتهت عبارة «الهداية» (3: 142) باختصار. وعبارتها: ومَن أمرَ رجلاً بشراء عبدٍ بألفٍ فقال: قد فعلتُ ومات عندي، وقال الآمر: اشتريته لنفسك، فالقولُ قولُ الآمر، فإن وقع إليه الألف، فالقولُ قولُ المأمور؛ لأنَّ في الوجه الأوّل أخبرَ عمَّا لا يملك استئنافه، وهو الرجوعُ بالثمن على الآمر، وهو ينكر، والقول للمنكر، وفي الوجه الثاني هو أمينٌ يريد الخروجَ عن عهدة الأمانة، فيقبل قوله.
(2)
لا يخفى أنَّ التعليلَ الثاني لا يشملُ صورةَ عدمِ دفعِ الثمن؛ لأنّه لا ثمنَ في يد الوكيلِ حتى يكون أميناً. ينظر: «الزبدة» (3: 185).
(3)
زيادة من ب و م.
وله حبسُ المبيعِ من آمرِهِ لقبض ثمنِه، وإن لم يدفعْ فإن هَلَكَ في يدِهِ قبلَ حبسِهِ منه هَلَكَ على الآمر ولم يسقطْ ثمنُه، وبعد حَبْسِهِ منه سَقَط، وليس للوكيلِ بشراءِ عينٍ شراؤُهُ لنفسِه، فلو شَرَى بخلافِ جنسِ ثَمَنٍ سُمِّي، أو بغيرِ النُّقُود، أو غيرِهِ بأمرِهِ بغيبتِهِ وقعَ له، وبحضرتِهِ لآمره
وله حبسُ المبيعِ من آمرِهِ لقبض ثمنِه، وإن لم يدفعْ): بناءً على ما ذَكَرْنا من المبادلةِ الحكميّة، (فإن هَلَكَ في يدِهِ قبلَ حبسِهِ منه هَلَكَ على الآمر ولم يسقطْ ثمنُه، وبعد حَبْسِهِ منه
(1)
سَقَط)، فإنَّهُ إذا حبسَهُ عن الآمرِ لقبضِ الثَّمن، فهلكَ في يدِ الوكيلِ يكونُ مضموناً على الوكيل، ثم اختلف فيه
(2)
: فعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يَضْمَنُ ضمانَ الرَّهن، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه وهو قولُ أبي حنيفةَ رضي الله عنه يَضْمَنُ ضمانَ المبيع، فما ذُكِرَ في «المتن» من سقوطِ الثَّمنِ إشارةٌ إلى هذا المذهب، وعند زُفَرَ رضي الله عنه يَضْمَنُ ضمانَ الغصبِ إذ عنده ليس له حقُّ الحبس.
فإن كان الثَّمنُ مساوياً للقيمة فلا اختلاف، وإن كان الثَّمنُ عشرة، والقيمةُ خمسةَ عشر، فعند زُفَرَ رضي الله عنه يَضْمَنُ خمسةَ عشر، وعند الباقينَ يَضْمَنُ عشرة، وإن كان بالعكسِ فعند زُفَرَ رضي الله عنه يَضْمَنُ عشرة، فيطالبُ الخمسة من الموكِّل، وكذا عند أبي يوسف رضي الله عنه؛ لأنَّ الرَّهنَ يُضْمَنُ بأقلِّ من قيمتِهِ ومن الدَّين، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه يكونُ مضموناً بالثَّمن، وهو خمسةَ عشر.
(وليس للوكيلِ بشراءِ عينٍ شراؤُهُ لنفسِه، فلو شَرَى بخلافِ جنسِ ثَمَنٍ سُمِّي، أو بغيرِ النُّقُود، أو غيرِهِ بأمرِهِ بغيبتِهِ وقعَ له، وبحضرتِهِ لآمره)
(3)
: أي إن وُكِّلَ بشراءِ شيءٍ معيِّن، فالوكيلُ إن لم يخالفْ أمرَ الموكِّل، فالمشترى للموكِّل وإن خالفَ فللوكيل، فالموكِّلُ إن سمَّى الثَّمن، فالوكيلُ إن اشترى بخلافِ ذلك الجنس كان مخالفةً، وإن لم يسمِّ الثَّمن، فإن اشترى بغيرِ النُّقود، كان مخالفةً؛ لأنَّ المتعارفَ
(1)
زيادة ب و م.
(2)
زيادة من أ.
(3)
والوجه فيه: إنَّ في شرائهِ لنفسه عزلُ نفسه عن الوكالة، وهو لا يملكُ عزل نفسه حين غيبوبة الموكّل، فلو كان الموكِّلُ حاضراً وصرَّحَ بأنّه يشتريه لنفسه، كان المشترى له؛ لأنَّ له أن يعزلَ نفسَه بحضرةِ الموكِّل، وليس له أن يعزلَ نفسه من غير علمِه؛ لأنَّ فيه تعزيراً له. ينظر:«الرمز» (2: 123).
وفي غيرِ عين هو للوكيل، إلاَّ إذا أضافَ العقدَ إلى مالِ آمرِه، أو أطلقَ ونوى له، ويبطلُ الصَّرْفُ والسَّلَمُ بمفارقةِ الوكيلِ دون آمرِه، فإن قال: بعني هذا لزيد، فباعَه، ثُمَّ أنكرَ الأمرَ أخذَهُ زيدٌ، فإن صَدَّقَهُ لا يأخذُهُ جبراً، ومَن وُكِّلَ بشراءِ مَنِّ لحمٍ بدرهم، فشرى مَنَوين بدرهمٍ ممَّا يُباعُ مَنٌّ بدرهمٍ لَزِمَ موكِّلُهُ مَنٌّ بنصف دِرْهَم
هو
(1)
الشِّراءُ بالنُّقود، والمعروفُ عرفاً كالمشروطِ شرطاً، وإن اشترى غيرُ الوكيلِ بأمرِه، لكن بغيبتِهِ يكونُ مخالفةً، وإن كان بحضرتِهِ لا يكونُ مخالفةً؛ لأنَّهُ حضر رأيه.
(وفي غيرِ عين هو للوكيل، إلاَّ إذا أضافَ العقدَ إلى مالِ آمرِه، أو أطلقَ ونوى له): أي قال الوكيلُ: اشتريتُ بهذا الألف، والألفُ ملكُ الموكِّل، أو أطلق: أي قال: اشترى بألفٍ مطلقٍ من غيرِ أن يقيِّدَ بألف هو ملك الموكِّلِ لكن نَوَى الشَّراء للآمر يكونُ للآمر.
(ويبطلُ الصَّرْفُ والسَّلَمُ بمفارقةِ الوكيلِ دون آمرِه)، صورةُ السَّلَم: أن يوكِّلَ رجلاً بأن يشتري له كُرَّ بُرٍّ بعقدِ السَّلَم، وليس المرادُ التَّوكيلَ ببيعِ الكُرِّ بعقدِ السَّلَم؛ لأنَّ هذا لا يجوزُ إذ الوكيلُ يبيعُ طعاماً في ذمّتِهِ على أن يكونَ الثَّمَنُ لغيرِه، ولا نظيرَ له في الشَّرع، وإنِّما يعتبرُ مفارقةُ الوكيل؛ لأنَّ العاقدَ هو الوكيل
(2)
.
(فإن قال: بعني هذا لزيد، فباعَه، ثُمَّ أنكرَ الأمرَ): أي أنكرَ المشتري أن زيداً أمره بالشِّراء، (أخذَهُ زيدٌ)؛ لأنَّ قولَهُ: بعني لزيد إقرارٌ بتوكيلِه؛ لأنَّ هذا البيعَ إنِّما يكونُ لزيدٍ إذا أمر زيدٌ به، فلا يُصَدَّقُ في إنكاره أمرَه، (فإن صَدَّقَهُ لا يأخذُهُ جبراً): أي إن صَدَّقَ زيدٌ المشترى أنَّه لم يأمرْهُ لا يأخذُهُ جبراً؛ لأنَّ إقرارَ المشتري ارتدَّ بردِّه، وإنِّما قال جبراً؛ لأن المشتري إن سلَّمَهُ إلى زيدٍ يكون بيعاً بالتَّعاطي، فالتَّسليمُ على وجهِ البيعِ يكفي للتَّعاطي، وإن لم يوجدْ نقداً لثمن.
(ومَن وُكِّلَ بشراءِ مَنِّ لحمٍ بدرهم، فشرى مَنَوين بدرهمٍ ممَّا يُباعُ مَنٌّ بدرهمٍ لَزِمَ موكِّلُهُ مَنٌّ بنصف دِرْهَم)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: يلزمُهُ مَنَوان بدرهم؛ لأنَّ الموكِّلَ أمرَهُ بصرفِ الدِّرهمِ إلى اللحم، فصرفَ وزادَه خيراً، وله: أنّه
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
وزيادة التوضيح للمسألة ينظر: «درر الحكام» (2: 288).
فإن أمرَه بشراءِ عبدينِ عُيّنَيْنِ بلا ذِكْرِ ثَمَن، فشرى أحدَهما، أو بشرائهما بألفٍ وقيمتُهُما سواء، فشرى أحدَهما بنصفِه، أو بأقلَّ صحَّ وبالأكثرِ لا، إلاَّ إذا شرى الآخرَ بباقي الثَّمن قبل الخصومةِ، فإن قال: اشتريتُه بألفٍ، وقال آمره بنصفِه، فإن كان ألف الآمر صُدِّقَ الآخرُ إن ساواه وإلاَّ فالآمر، وإن لم يكنْ ألفُهُ وساوى نصفَهُ صُدِّقَ الآمر، وإن ساواه تحالفا
أمرَهُ بشراءِ مَنٍّ لا بشراءِ الزِّيادة
(1)
، وإنِّما قال: ممِّا يباعُ مَنَّ بدرهم؛ حتَّى لو اشترى لحماً لا يباعُ مَنٌّ بدرهم، بل بأقلَّ يكونُ الشِّراءُ واقعاً للوكيل؛ لأنَّ الآمرَ أمرَهُ بشراءِ لحمٍ يساوي مَنَّ منه بدرهمٍ لا بأقلّ.
(فإن أمرَه بشراءِ عبدينِ عُيّنَيْنِ بلا ذِكْرِ ثَمَن، فشرى أحدَهما، أو بشرائهما بألفٍ وقيمتُهُما سواء، فشرى أحدَهما بنصفِه، أو بأقلَّ صحَّ وبالأكثرِ لا، إلاَّ إذا شرى الآخرَ بباقي الثَّمن قبل الخصومةِ): أي إذا أُمِرَ بشراء عبدينِ معيَّنينِ فإن لم يذكرِ الثَّمنَ فشرى أحدَهما يَقَعُ عن الآمر؛ لأنَّ التَّوكيلَ مطلقٌ، وقد لا يتَّفِقُ الجمعُ بينهما، وإن سمَّى ثمنَهما بأن قال: اشترِ لي عبدينِ بألف، وقيمتُهما سواء، فشرى أحدَهما بالنِّصف أو بأقلَّ صحَّ عن الآمرِ، وإن اشترى بأكثر من النِّصفِ لا يقعُ عن الآمرِ، بل يقعُ عن الوكيل، إلاَّ إذا اشترى الآخرُ باقي الثَّمنَ قبل الخصومة؛ لأنَّ المقصودَ حصولُ العبدينِ بألف، وعندهما: إن اشترى أحدَهما بأكثر من النِّصفِ ممِّا يتغابنُ النَّاسُ فيه، وقد بقيَ من الثَّمن ما يشتري به الباقي يصحُّ عن الآمر.
(فإن قال: اشتريتُه بألفٍ، وقال آمره بنصفِه، فإن كان ألف الآمر صُدِّقَ الآخرُ إن ساواه وإلاَّ فالآمر): أي إن أعطاهُ الآمرُ الألفَ، وقال: اشترِ به لي جاريةً فشرى، وقال اشتريتُها بألف، وقال الآمرُ: اشتريتُها بخمسمئةٍ صُدِّقَ الوكيلُ إن ساوى المبيعُ الألف، وإن لم يساوه صُدِّقَ الآمرُ؛ لأنَّه أمره بشراءِ جاريةٍ بألف، والوكيلُ لا يملكُ الشَّراءَ بالغبن الفاحش، فلا يَقَعُ عن الآمر، بل يقعُ عن الوكيل.
(وإن لم يكنْ ألفُهُ وساوى نصفَهُ صُدِّقَ الآمر، وإن ساواه تحالفا): أي قال: اشتر
(1)
أي إنَّ الموكِّلَ أمرَ الوكيلَ بشراءٍ مَنّ، وهو قدرٌ مسمَّى، ولم يأمرْه بشراءِ أكثر منه، فينفذُ شراءُ الزيادةِ على الوكيل؛ للمخالفة، وشراءُ مَنٍّ على الموكِّل؛ لأنّه أتى بالمأمورِ بخلاف ما استشهد به. ينظر:«العناية» (8: 44).
وكذا في معيَّنٍ لم يسمِّ له ثمناً، فشراه واختلفا في ثمنِه، وإن صَدَّقَ البائعُ المأمورَ في الأظهرِ تحالفا.
فصل [في البيع]
لا يَصِحُّ بيعُ الوكيلِ وشراؤُهُ ممَّن تردُّ شهادته له
لي جاريةً بألف، ولم يعطْهِ الألف، وقال: المأمورُ اشتريتُها بالألف، وقال الآمر: بل بنصفِهِ، فإن كانت قيمتُها خمسمئةٍ صُدِّقَ الآمر، وكذا إن كانت أكثرُ من خمسمئة، وأقلُّ من ألف؛ لظهور المخالفة؛ لأن الآمرَ وقعَ بشراءِ جاريةٍ تساوي ألفا بألف، وإن كانت قيمتُها ألفاً تحالفا؛ لأنَّ الوكيلَ والموكِّلَ بمنْزلةِ البائعِ والمشتري، فإن تحالفا ينفسخُ البيعُ بينهما، وبقي المبيعُ للوكيل
(1)
. واعلم أن المراد بقوله: صُدِّقَ في جميع ما ذَكَرَ التَّصديقُ بغيرِ الحلف
(2)
.
(وكذا في معيَّنٍ لم يسمِّ له ثمناً، فشراه واختلفا في ثمنِه، وإن صَدَّقَ البائعُ المأمورَ في الأظهرِ تحالفا
(3)
): أي إن
(4)
أمرَ أن يشتري له هذا العبد، ولم يسمِّ له ثَمَناً فاشتراه، فقال اشتريته: بألف، وقال الآمر: بل بنصفه تحالفا وإن صَدَّقَ البائعُ المأمور، وإنِّما قال هذا: لأنَّ في صورةِ تصديقِ البائعِ المأمور قد قيل: لا تحالف، بل القولُ للمأمورِ مع اليمين؛ لأنَّ الخلافَ يَرْتَفِعُ بتصديقِ البائعِ، فلا يجري التَّحالف، لكن الأظهرَ أن يتحالفا، وهذا قول أبي منصور رضي الله عنه؛ لأنَّ البائعَ بعد استيفاءِ الثَّمَنِ أجنبيٌّ عنهما، وأيضاً هو أجنبيٌّ عن الموكِّلِ فلا يصدَّقُ عليه.
فصل [في البيع]
(لا يَصِحُّ بيعُ الوكيلِ وشراؤُهُ ممَّن تردُّ شهادته له)، هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه،
(1)
يعني إنَّ الوكيل والموكِّل في هذا الباب ينْزلان منْزلة البائع والمشتري؛ للمبادلة الحكميّة، وقد وقع الاختلافُ في الثمن، وموجبُهُ التحالف، فإن تحالفا ينفسخُ البيعُ التقديريّ الذي جرى بينهما، وبقيَ المبيعُ للوكيل، فيلزمُ الجاريةَ المأمور. ينظر:«النتائج» (8: 64).
(2)
ما ذكره الشارح رضي الله عنه تبعه عليه صاحب «الدرر» (2: 288)، و «الايضاح» (ق 116/أ)، و «الدر المنتقى» (2: 234)، و «مجمع الأنهر» (2: 234)، وغيرهم، ولكن اعترض ابن عابدين في «منحة الخالق» (7: 164)، وذكر كلاماً طويلاً في اشتراط اليمين، ونصوص الثقات في ذلك.
(3)
زيادة من أ و م. اختلف التصحيح، فقد صحح قاضي خان تبعاً لأبي جعفر عدم التحالف، وصحح صاحب «الهداية» ، و «الكافي» ، وأصحاب المتون التحالف. ينظر:«البحر» (2: 164).
(4)
زيادة من أ و م.
وصحَّ بيعُ الوكيلِ بما قلّ أو كَثُر، والعرض، والنَّسيئة، وبيعُ نصفِ ما وُكِّلَ ببيعِه، وأخذه رهناً، أو كفيلاً بالثَّمن، فلا يضمنُ إن ضاعَ في يدِه، أو تَوَى ما على الكفيل، ويقيَّدُ شراءُ الوكيلِ به بمثل القيمة، وبزيادةٍ يتغابنُ النَّاس فيها: وهي ما يقومُ به مقوَّم، وتَوَقَّفَ شراءُ نصفُ ما وُكِّلَ بشرائِهِ على شراءِ الباقي، ولو رُدَّ مبيعٌ على وكيل بعيبٍ يَحْدُثُ مثلُهُ أو لا يحدثُ مثلُه ببيِّنة، أو
وعندهما: يجوزُ إن كان بمثل القيمةِ إلا من عبدِه أو مكاتبِه.
(وصحَّ بيعُ الوكيلِ بما قلّ أو كَثُر، والعرض، والنَّسيئة)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: لا يصحُّ إلاَّ بما يتغابنُ النَّاسُ فيه، فلا يصحُّ إلاَّ بالدَّراهمِ والدَّنانير؛ لأنَّ المطلقَ ينصرف إلى المتعارف، والمرادُ بالنسيئة: البيعُ بالثَّمنِ المؤجَّل، وعندهما يتقيَّدُ بأجل متعارف.
(وبيعُ نصفِ ما وُكِّلَ ببيعِه)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: لا يجوزُ إلا أن يبيعَ الباقي قبل أن يختصما؛ لئلا يلزمَ ضرَّرُ الشِّركة.
(وأخذه رهناً، أو كفيلاً بالثَّمن، فلا يضمنُ إن ضاعَ في يدِه، أو تَوَى ما على الكفيل): الضَّميرُ في ضاعَ يرجعُ إلى الرَّهن. وصورةُ التَّوَى: أن يَرْفَعَ الحادثةَ إلى قاضٍ يرى براءةَ الأصيلِ بنفس الكفالة كما هو مذهب مالك رضي الله عنه، فحكمَ ببراءةِ الأصيل بنفسه
(1)
، ثُمَّ مات الكفيل مفلساً.
(ويقيَّدُ شراءُ الوكيلِ به
(2)
بمثل القيمة، وبزيادةٍ يتغابنُ النَّاس
(3)
فيها: وهي ما يقومُ به مقوَّم، وتَوَقَّفَ شراءُ نصفُ ما وُكِّلَ بشرائِهِ على شراءِ الباقي)، هذا بالاتفاق، والفرقُ لأبي حنيفةَ رضي الله عنه بينِ البيعِ والشِّراءِ أن في الشراء تهمة، وهي أنَّه اشترى لنفسِه، ثُمَّ نَدِمَ فيلقيهِ على الموكِّل، ولا تهمةَ في البيع فيجوز؛ لأنَّ الأمرَ ببيعِ الكُلِّ يتضمنُ بيعَ النِّصف؛ لأنَّه ربَّما لا يتيسَّرُ بيعُ الكلِّ دفعة.
(ولو رُدَّ مبيعٌ على وكيل بعيبٍ يَحْدُثُ مثلُهُ أو لا يحدثُ
(4)
مثلُه
(5)
ببيِّنة، أو
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
زيادة من ق.
(3)
ساقطة ج و ص و ف و ق.
(4)
زيادة من أ و ب و م.
(5)
زيادة من أ.
نكول، أو إقرار رَدَّه على آمره إلاَّ وكيلٌ أقرَّ بعيبٍ يحدثُ مثلُه، ولزمه ذلك، فإن باعَ نساءً؛ فقال آمرُه: أمرتُكَ بنقد، وقال الوكيل: أطلقت، صُدِّقَ الآمر، وفي المضاربةِ المضارب، ولا يصحُّ تصرُّفُ أحدِ الوكيلين وحدَهُ فيما وُكِّلا به، إلاَّ في خصومةِ وردِّ وديعة، وقضاءِ دين، وطلاقٍ وعتق لم يعوَّضا، ولا توكيلَ الوكيلِ إلاَّ بإذن آمرِهِ أو بقولِهِ له: اعملْ برأيك، فإن وكَّلَ بإذنِهِ
نكول، أو إقرار رَدَّه على آمره إلاَّ وكيلٌ أقرَّ بعيبٍ يحدثُ مثلُه، ولزمه ذلك): أي باعَ الوكيلُ بالبيع، ثمَّ رُدَّ عليه بالعيب؛ فإن كانَ العيبُ ممَّا لا يحدثُ مثلُه؛ كالإصبعِ الزَّائدةِ، أو لا يحدثُ مثلُهُ في هذهِ المدَّةِ يردُّ على الآمرِ سواءٌ كانَ الردُّ على الوكيلِ بالبيِّنةِ أو بالنُّكولِ أو بالإقرارِ، وإن كانَ العيبُ ممَّا يحدثُ مثلُه؛ فإن كانَ الردُّ عليه بالبيِّنةِ أو النُّكولِ ردَّهُ على الآمرِ، وإن كانَ بالإقرارِ لا يردُّهُ على الآمر.
وتأويلُ اشتراطِ البيِّنةِ أو النُّكولِ أو الإقرارِ في العيبِ الذي لا يحدثُ مثلُه، أنَّ القاضي رُبَّما يعلمُ أنَّ هذا العيبَ لا يحدثُ مثلُهُ في مدَّةِ شهر، لكن يشتبه عليه تاريخُ البيعِ فيحتاجُ إلى إحدى هذه الحجج، أو كانَ العيبُ لا يعرفُهُ إلا النِّساءُ أو الأطبَّاء، وقولُ المرأةِ والطَّبيبِ حجَّةٌ في توجُّهِ الخصومةِ لا في الرَّد؛ فيفتقرُ إلى هذه الحججِ للردِّ، حتى لو عاينَ القاضي البيعَ والعيبَ ظاهراً لا يحتاجُ إلى شيءٍ منها.
(فإن باعَ نساءً؛ فقال آمرُه: أمرتُكَ بنقد، وقال الوكيل: أطلقت، صُدِّقَ الآمر، وفي المضاربةِ المضارب)؛ لأنَّ الأمرَ يستفادُ من الآمر، فالقولُ له، أمَّا المضاربةُ فالظَّاهر فيها الإطلاق، فالقولُ للمضارب.
(ولا يصحُّ تصرُّفُ أحدِ الوكيلين وحدَهُ فيما وُكِّلا به، إلاَّ في خصومةِ وردِّ وديعة، وقضاءِ دين، وطلاقٍ وعتق لم يعوَّضا
(1)
)، أمَّا في الخصومة؛ فلأنَّ الاجتماعَ فيها يفضي إلى الشَّغب
(2)
، وفي الأمورِ الأخرِ لا يحتاجُ إلى الرَّأي.
«ولا توكيلَ الوكيلِ إلاَّ بإذن آمرِهِ أو بقولِهِ له: اعملْ برأيك، فإن وكَّلَ بإذنِهِ
(1)
فلأحدهما أن يطلّقَ وحدَه زوجتَه أو يعتق وحدَه عبده؛ لأنّه لا حاجة فيهما إلى الرأي، بل هو تعبيرٌ محضٌ، وعبارةُ المثنّى والواحد سواء، وقيد: بـ: لم يعوضا؛ لأنّه إذا كان التوكيل للاثنين في الطلاق ببدل، أو العتاق ببدل، لا يجوز انفرادُ أحدهما؛ لأنّه يحتاج فيه إلى الرأي. ينظر:«المنح» (ق 2: 149/ب).
(2)
شَغَبت القومُ وعليهم وبهم شَغْباً من باب نَفَعَ هَيَّجْتَ الشَرَّ بينهم. ينظر: «المصباح» (ص 316).
كان الثَّاني وكيلَ الموكِّلِ الأوَّلِ لا الثَّاني، فلا ينعزلُ بعزلِهِ أو بموتِه، وينعزلانِ بموتِ الأوَّل، وإن وكَّل بلا إذنِهِ فعقدُ الثَّاني عندَ الأوَّل، أو بغيبتِهِ وأجازَ هو، أو كانَ قدَّرَ الثَّمن. ولا يصحُّ بيعُ عبدٍ أو مكاتبٍ أو ذميِّ في مالَ صغيرِهِ المسلمِ وشراؤه.
باب الوكالة بالخصومة والقبض
للوكيلِ بالخصومةِ القبضُ عندَ الثَّلاثةِ: كالوكيلِ بالتَّقاضي في ظاهرِ الرواية ويفتى بعدمِ قبضهما الآن، وللوكيلِ بقبضِ الدَّينِ الخصومةُ
كان الثَّاني وكيلَ الموكِّلِ الأوَّلِ لا الثَّاني، فلا ينعزلُ بعزلِهِ أو بموتِه، وينعزلانِ بموتِ الأوَّل، وإن وكَّل بلا إذنِهِ فعقدُ الثَّاني عندَ الأوَّل، أو بغيبتِهِ وأجازَ هو، أو كانَ قدَّرَ الثَّمن)
(1)
(2)
.
ولا يصحُّ بيعُ عبدٍ أو مكاتبٍ أو ذميِّ في
(3)
مالَ صغيرِهِ المسلمِ وشراؤه): أي الشِّراءُ بمالِه، فالحاصلُ أنَّ العبدَ والمكاتبَ لا ولايةَ لهما في مالِ ولدِهِ الصَّغير، والكافرَ لا ولايةَ لهُ في مالِ صغيرِهِ المسلم. (والله أعلم بالصواب)
(4)
.
باب الوكالة بالخصومة والقبض
(للوكيلِ بالخصومةِ القبضُ عندَ الثَّلاثةِ): أي عندَ أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمَّد رضي الله عنهم، خلافاً لزفرَ رضي الله عنه، (كالوكيلِ بالتَّقاضي في ظاهرِ الرواية ويفتى بعدمِ قبضهما الآن)، فإنَّ الوكيلَ بالتَّقاضي يملكُ القبضَ في ظاهرِ المذهب، لكنَّ الفتوى في هذا الزَّمانِ على أنَّ الوكيلَ بالخصومة والوكيلَ بالتَّقاضي لا يملكانِ القبض؛ لظهورِ الخيانةِ في الوكلاء.
(وللوكيلِ بقبضِ الدَّينِ الخصومةُ)، هذا عندَ أبي حنيفة رضي الله عنه، وأمَّا
(5)
عندهما: لا
(1)
أي صح؛ أما الأولان فلأن المقصود وهو حضور رأيه قد حصل في الصورتين، وأما الثالث؛ فلأن الاحتياج فيه إلى الرأي لتقدير الثمن ظاهراً وقد حصل. ينظر:«درر الحكام» (2: 290).
(2)
زيادة من ف.
(3)
زيادة من م.
(4)
أما: زيادة من ب و م.
(5)
زيادة من أ.
لا للذي يقبضُ العين، فلو قامَ حجَّةُ ذي اليدِ على الوكيل بقبضِ عبدٍ أنَّ موكِّلَهُ باعَهُ منه، يُقْصَرُ يده، ولا يثبتُ البيع، فتقامُ ثانياً على البيعِ إذا حضرَ الغائب، كما يقصرُ يدُ الوكيلِ بنقلِ المرأةِ والعبدِ بلا طلاقٍ وعتق، لو قامتْ حجَّتُهما عليه حتى يحضرَ الغائب، وصحَّ إقرارُ الوكيلِ بالخصومة عند القاضي، وعند غيرِه لا
يملكُ الخصومة، (لا للذي يقبضُ العين
(1)
، فلو قامَ حجَّةُ ذي اليدِ على الوكيل
(2)
بقبضِ عبدٍ أنَّ موكِّلَهُ باعَهُ منه، يُقْصَرُ يده، ولا يثبتُ البيع، فتقامُ ثانياً على البيعِ إذا حضرَ الغائب)، أدخلَ فاءَ التَّعقيبِ في قولِه: فلو قام؛ لأنَّ هذهِ المسألةَ من فروعِ أنَّ الوكيلَ بقبضِ العينِ هل هو وكيلٌ بالخصومةِ أم لا؟ ففي هذهِ المسألةِ قياسٌ واستحسان؛ فالقياس: إنَّ العبدَ يدفعُ إلى الوكيِل، ولا يقبلُ ببيِّنةِ أنَّ الموكِّلَ باعَ من صاحبِ اليد؛ لأنَّ البيِّنةَ قامتْ على غيرِ خصم، وفي الاستحسان: يقصرُ يدُ الوكيلِ من غيرِ أن يثبتَ البيعَ في حقِّ الموكِّل؛ لأنَّهُ خصمٌ في قصرِ اليد، وإن لم يكنْ خصماً في إثباتِ البيعِ على الموكِّل.
(كما يقصرُ يدُ الوكيلِ بنقلِ المرأةِ والعبدِ بلا طلاقٍ وعتق، لو قامتْ حجَّتُهما عليه حتى يحضرَ الغائب): أي إذا جاءَ رجلٌ وقال: أنا وكيلُ زيدٍ الغائب، بنقلِ امرأتِهِ وعبدِهِ إلى موضعِ كذا، فأقامتْ المرأةُ البيِّنةَ على أنَّ موكِّلَهُ طلَّقها، والعبدُ على أنَّهُ أعتقَه، يقصرُ يدُ الوكيلِ من غيرِ أن يثبتَ الطَّلاقُ والعتق، بل إذا حضرَ الغائبُ يجبُ إعادةُ إقامةِ البيِّنة، فقولُهُ: حتى يحضرَ الغائب، يتعلَّقُ بقولِهِ بلا طلاقٍ وعتقٍ: أي لا يقعُ الطَّلاقُ والعتقُ حتى يحضرَ الغائب؛ فإنَّهُ إذا حضرَ يقعُ إن أعيدتْ البيِّنة، فإعادةُ البيِّنةِ قد سبقتْ في المسألةِ الأولى، وقد جعلَ حكمُ هذه المسألةِ كالحكمِ (في المسألةِ)
(3)
الأوَّلى فيفهمُ إعادةُ البيِّنة.
(وصحَّ إقرارُ الوكيلِ بالخصومة
(4)
عند القاضي، وعند غيرِه لا)، هذا عند أبي
(1)
الأصلُ فيه: إنَّ التوكيلَ إذا وقعَ باستيفاءِ عينِ حقِّه لم يكن وكيلاً بالخصومة؛ لأنَّ التوكيلَ وقع بالقبض لا غير، وإذا وقعَ التوكيل بالتملُّك كان وكيلاً بالخصومة؛ لأنَّ التملُّكَ إنشاءُ تصرُّف، وحقوقُ العقد تتعلَّق بالعاقد، فكان خصماً فيها. ينظر:«الكفاية» (7: 101 - 102)
(2)
في النسخ: وكيل، والمثبت من أ.
(3)
زيادة من ب.
(4)
قيَّد بالخصومة؛ لأنَّ الوكيلَ بغيرها لا يصحُّ إقراره مطلقاً، وأطلقها وهي مقيِّدةٌ بغير الحدود والقَوَد، فلا يصحُّ إقرارُ الوكيل على موكِّله بهما للشبهة. كذا في «المنح» (ق 152/ب)؛ ولذا قيَّدها به في «التنوير» (ص 160)، و «مجمع الأنهر» (2: 243).
كتوكيلِ ربِّ المالِ كفيلَهُ بقبضِ ماله عن المكفولِ عنه، ومصدَّقٌ الوكيلَ بقبضِ دينِهِ إن كان غريماً أُمِرَ بدفعِ دينِهِ إلى الوكيل، ثمَّ إن كذَّبَهُ الغائبُ دفعَ الغريمُ إليه ثانياً، ورجعَ به على الوكيلِ فيما بقي، وفيما ضاعَ لا
حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّدٍ رضي الله عنه، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يجوز وإن كانَ عند غيرِ القاضي، وعند زفرَ رضي الله عنه وهكذا عندَ الشَّافعيِّ
(1)
رضي الله عنه لا يجوزُ أصلاً؛ لأنَّهُ مأمورٌ بالخصومة، لا بالإقرار، ولنا: أنّ الخصومةَ يرادُ بها الجوابُ، فيتضمَّنُ الإقرار
(2)
.
(كتوكيلِ ربِّ المالِ كفيلَهُ بقبضِ ماله عن المكفولِ عنه): أي كما لا يصحُّ توكيلُ ربِّ المالِ الكفيلَ بقبضِ المكفولِ به، عن المكفولِ عنه؛ لأنَّ الوكيلَ مَن يعملُ لغيرِهِ وهنا يعملُ لنفسِه
(3)
.
(ومصدَّقٌ الوكيلَ بقبضِ دينِهِ إن كان غريماً أُمِرَ بدفعِ دينِهِ إلى الوكيل): أي ادَّعى رجلٌ أنَّه وكيلُ الغائبِ بقبضِ دينِهِ من الغريم؛ فصدَّقَهُ الغريم، أُمِرَ بتسليمِ الدَّينِ إلى الوكيل، (ثمَّ إن كذَّبَهُ الغائبُ دفعَ الغريمُ إليه ثانياً، ورجعَ به على الوكيلِ فيما بقي، وفيما ضاعَ لا)؛ لأنَّ غرضَهُ من دفعِهِ براءةُ ذمَّتِه، فإذا لم يحصلْ غرضُهُ؛ ينقضُ الدَّفع، أمَّا إذا ضاعَ لا يضمنُه؛ لأنَّهُ اعترفَ أنَّهُ محقٌّ في القبض، والاستردادُ أسهلُ من التَّضمين، فلهُ ولايةُ ذلك، لا ولايةُ هذا.
(1)
ينظر: «البهجة المرضية» وشرحها «الغرر البهية» (3: 189)، وغيرهما.
(2)
أي إنَّ التوكلَ يتناولُ ما يملكُهُ الموكِّلُ وهو الجواب، إذ الخصومةُ يرادُ بها مطلقُ الجوابِ عرفاً مجازاً، والجوابُ يكون بما يسمَّى خصومة حقيقة، وهو الإنكار، وبما يسمَّى خصومة مجازاً، وهو الإقرارُ في مجلسِ القضاء، فإنّه يسمَّى خصومة؛ لأنّه خرجَ في مقابلةِ الخصومةِ كما في تسميةِ جزاءِ السيّئة سيئة، أو لأنَّ الخصومةَ سببٌ له، فيكونُ من إطلاقِ اسمِ السبب على المسبِّب، أو لأنَّ مجلسَ القضاء مجلس الخصومة فيما يجري فيه يسمّى خصومة، والخصومةُ تتناولُ الإقرار، والإنكارُ من عموم المجاز، لا من استعمالِ اللفظِ في حقيقته ومجازه، فيملكُ الوكيل الإقرارَ من حيث إنّه جوابٌ لا من حيث إنّه إقرارٌ، والجوابُ يستحقُّ عند القاضي. ينظر:«التبيين» (4: 280).
(3)
أي إذا كان لرجلٍ على رجلٍ دين، وكَفِلَ به رجل، فوكَّلَ الطالبُ الكفيلَ بقبضِ ذلك الدَّين من الذي عليه فلم يصحَّ هذا التوكيل؛ لأنَّ الوكيلَ هو الذي يعمل لغيره، ولو صحَّحنا هذه الوكالةَ صار عاملاً لنفسه، ساعياً في براءة ذمَّته، فانعدمَ ركنُ الوكالة، وهو العمل للغير، فبطل عقد الوكالة. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 196).
إلاَّ إذا كان ضَمِنَهُ عند دفعِه، أو دفعَ إليه على ادِّعائهِ غيرَ مصدِّقٍ وكالَتَه، وإن كان مودِعاً لم يؤمرْ بدفعِها إليه، ولو قال: تركها المودعُ ميراثاً لي، وصدَّقه المودع، أُمِرَ بالدَّفعِ إليه، ولو ادَّعى الشِّراءَ منه لم يؤمر، ومَن وُكِّلَ بقبضِ مال، وادَّعى الغريمُ قبضَ دائنِه، دفعَ إليه، واستحلفَ دائنَهُ على قبضِهِ لا الوكيلَ على العلمِ بقبضِ الموكِّلِ الدَّين
(إلاَّ إذا كان ضَمِنَهُ
(1)
عند دفعِه، أو دفعَ إليه على ادِّعائهِ غيرَ مصدِّقٍ وكالَتَه)، بأن قال الوكيل: إذا حضرَ الغائب، وأنكرَ التَّوكيلَ، فإنِّي ضامنٌ لهذا المالِ أو الغريمِ دفعَهُ بناءً على دعوى الوكيلِ من غيرِ أن يصدِّقَ وكالتَهُ، ففي هاتيْن الصُّورتينِ إن أنكرَ الغائبُ فالغريمُ يضمنُ الوكيلَ إن ضاعَ المال.
(وإن كان مودِعاً لم يؤمرْ بدفعِها إليه): أي إن كان مصدِّقُ الوكيل مودعاً لم يؤمرْ بدفعِ الوديعةِ إلى مدَّعي الوكالة؛ لأنَّ تصديقَهُ إقرارٌ على الغير، بخلافِ الدَّينِ فإنَّ الدُّيونَ تقضى بأمثالها، والمثلُ ملكُ المديون.
(ولو قال: تركها المودعُ ميراثاً لي، وصدَّقه المودع
(2)
، أُمِرَ بالدَّفعِ إليه
(3)
): أي إن
(4)
ادَّعى أنَّ المودعَ مات، وتركَ الوديعةَ ميراثاً لي
(5)
وصدَّقَهُ المودع، أُمِرَ بالدَّفعِ إليه.
(ولو ادَّعى الشِّراءَ منه لم يؤمر): أي ادَّعى أنَّهُ اشترى من المودعِ، وصدَّقهُ المودع، لم يؤمرْ بدفعِ الوديعةِ إلى المدِّعي؛ لأنَّ المدِّعي أقرَّ بملكِ الغير، والغيرُ أهلٌ للملكِ؛ لأنَّهُ حيٌّ فلا يصدَّقُ في دعوى البيعِ على ذلك الحيِّ، بخلافِ مسألةِ الإرث؛ لأنَّهما اتَّفقا على موتِ المودع، فكانَ هذا اتِّفاقاً على أنَّهُ ملكُ الوارث.
(ومَن وُكِّلَ بقبضِ مال، وادَّعى الغريمُ قبضَ دائنِه، دفعَ إليه، واستحلفَ دائنَهُ على قبضِهِ لا الوكيلَ على العلمِ بقبضِ الموكِّلِ الدَّين
(6)
)
(7)
: أي جاءَ الوكيلُ بقبضِ
(1)
ظاهرَ المتنِ أنّه لا رجوعَ على الوكيلِ حالة الهلاك، إلاَّ إذا ضَمِن، وليس كذلك، بل الحكمُ كذلك إذا قال: قبضتُ منك على أنِّي أبرأتك من الدَّين. ينظر: «التنوير» (ص 160)، و «المنح» (ق 2: 153/ب)
(2)
زيادة من أ و ب و ص و م.
(3)
لأنَّ ملكَه قد زالَ بموتِه، واتَّفقا أنّه مال الوارث، فيدفعُه إليه. ينظر:«التبيين» (4: 284)، و «البحر» (7: 184).
(4)
زيادة من ب و م.
(5)
زيادة من أ و ب.
(6)
زيادة من ف و ب.
(7)
إذ لا تجري النيابة في اليمين. ينظر: «درر الحكام» (2: 293).
ولا يردُّ الوكيلُ بعيبٍ قبلَ حلفِ المشتري، لو قال البائعُ: رضيَ هو به، ومن دفعَ إلى آخرَ عشرةَ ينفقَها على أهلِه، فأنفقَ عليهم عشرةً له، فهيَ بها
الدَّينِ من المديون، فادَّعى المديونُ أنَّ الدَّائنَ قد قبضَ دينَه، ولا بيِّنةَ له، يؤمرُ بالدَّفعِ إلى الوكيل، فإذا حضرَ الدَّائن، وأنكرَ القبضَ يستحلفُ، ولا يستحلفُ الوكيلُ بأنَّكَ لا تعلمُ أنَّ الموكِّل قد قبضَ الدِّين؛ لأنَّ الوكيلَ نائبٌ له.
أقول: إن ادَّعى المديونُ أنَّكَ تعلمُ أنَّ الموكِّلَ قد قبضَ الدَّين، وأنكرَ الوكيلُ العلمَ ينبغي أن يستحلفَ لأنَّهُ ادَّعى أمراً لو أقرَّ بهِ الوكيلُ يلزمُهُ، ولم يبقَ لهُ طلبُ الدَّين، فإذا أنكرَهُ يستحلف.
(ولا يردُّ الوكيلُ بعيبٍ قبلَ حلفِ المشتري، لو قال البائعُ: رضيَ هو به)، وكَّلَ المشتري رجلاً بردِّ المبيعِ بالعيبِ، وغابَ المشتري، فأرادَ الوكيلُ الرَّدّ، فقال البائع: رضيَ المشتري بالعيب، فالوكيلُ لا يردُّ بالعيبِ حتى يحلفَ المشتري أنَّه لم يرضَ بالعيب.
والفرقُ بين هذه المسألة ومسألةِ الدَّين: أنّ التَّداركَ ممكنٌ في مسألةِ الدَّينِ باستردادِ ما قبضَهُ الوكيلُ إذا ظهرَ الخطأُ عند نكولِ ربِّ الدَّين، وهاهنا غيرُ ممكن؛ لأنَّ القضاءَ بفسخِ البيعِ يصحُّ وإن ظهرَ الخطأ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأن القضاءَ ينفذُ ظاهراً وباطناً عنده، فلا يستحلفُ المشتري بعد ذلك، وأمَّا عندهما: فقد قالوا: يجبُ أن يردَّ بالعيبِ كما في مسألةِ الدَّين؛ لأنَّ التَّداركَ ممكنٌ عندهما لبطلانِ القضاءِ، وقيل: الأصحُّ
(1)
عند أبي يوسفَ رضي الله عنه أن يؤخِّرَ الرَّدَّ في الفصلين إلى أن يستحلف.
(ومن دفعَ إلى آخرَ عشرةَ ينفقَها على أهلِه، فأنفقَ عليهم عشرةً له، فهيَ بها)، قيل: هذا استحسان، وفي القياسِ يصيرُ متبرِّعاً بإنفاق ما هو ملكُه، وجهُ الاستحسان: أنَّ الوكيلَ بالإنفاق، وكيلٌ بالشِّراء
(2)
، والحكمُ فيه ما ذكرنا.
(1)
فإنَّ من مذهبِهِ أنَّ القاضي لا يردُّ المبيعَ على البائع إذا كان المشتري حاضراً وأرادَ الردَّ ما لم يستحلفه: بالله ما رضيتَ بهذا العيب، وإن لم يدَّع البائع، فإذا كان المشتري غائباً لا يردُّ عليه القاضي أيضاً حتى يستحلف؛ صيانةً للقضاءِ عن البطلان، ونظراً للبائع والمديون، فصار عنه روايتان، روايةٌ مثل قول محمّد رضي الله عنه، وفي رواية: يؤخِّر فيهما. ينظر: «الكفاية» (7: 126).
(2)
والوكيل بالشراء يملك العقد من مال نفسه ثم يرجع به على الآمر. ينظر: «درر الحكام» (2: 293).
باب عزل الوكيل
للموكِّلِ عزلُ وكيلِه، ووُقِفَ على علمِه. وتبطلُ الوكالةُ بموتِ أحدِهما، وجنونِهِ مطبقاً، ولحاقُهُ بدارِ الحربِ مرتدَّاً، وكذا بعجزِ موكِّلِهِ مكاتباً، وحجرِهِ مأذوناً، وافتراقِ الشَّريكين، وإن لم يعلمْ به وكيلُهُم، وبتصرُّفِ موكِّلِ فيما وكِّلَ بهِ.
باب عزل الوكيل
(للموكِّلِ عزلُ وكيلِه، ووُقِفَ على علمِه
(1)
.
وتبطلُ الوكالةُ بموتِ أحدِهما، وجنونِهِ مطبقاً)؛ الجنونُ المطبقُ شهرٌ عند أبي يوسفَ رضي الله عنه، وعنه: إنَّه أكثرُ من يومٍ وليلةٍ، وعندَ محمَّدٍ رضي الله عنه حول، فقدَّرَ به احتياطاً
(2)
، (ولحاقُهُ بدارِ الحربِ مرتدَّاً، وكذا بعجزِ موكِّلِهِ مكاتباً، وحجرِهِ مأذوناً، وافتراقِ الشَّريكين): أي أحدُ الشَّريكين وكَّلَ ثالثاً بالتَّصرُّفِ في مال الشَّركةِ فافترقا، يبطلُ الوكالة، (وإن لم يعلمْ به وكيلُهُم)
(3)
: أي وكيلُ المكاتبِ والمأذونِ وأحدُ الشَّريكين.
(وبتصرُّفِ موكِّلِ فيما وكِّلَ بهِ): أي
(4)
سواءٌ لم يبق محلاًّ للتَّصرُّف، كما إذا وكِّلَه بالإعتاقِ فأعتقه أو بقيَ محلاً، كما لو وكَّلَهُ بنكاحِ امرأةٍ، فنكحَها الموكِّلُ ثمَّ أبانَها لم يكنْ للوكيلِ أن يزوِّجَها للموكِّل.
* * *
(1)
أي توقَّف انعزالُ الوكيلِ على علمه، لإنَّ في عزلِهِ بدون علمِه إضرارٌ به؛ لأنّه رُبَّما يتصرَّفٌ بناءً على أنّه وكيلٌ، وينقدُ الثمنَ من مالِ الموكِّل، أو يُسَلِّم المبيعَ فيضمنُه. وتمامه في «كمال الدراية» (ق 516).
(2)
وهو الصحيح؛ لأن استمراره حولاً مع اختلاف فصوله آية استحكامه؛ ينظر: «فتح باب العناية» (2: 524).
(3)
لأنه عزل حكمي، والعلم شرط للعزل الحقيقي. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 238).
(4)
زيادة من ب و م.
كتاب الدعوى
هي إخبارٌ بحقٍّ له على غيرِه، والمدَّعي: مَن لا يُجْبَرُ على الخصومة، والمدَّعى عليه: مَن يجبر، وهي إنَّما تصحُّ بذكرِ شيءٍ عُلِمَ جنسُهُ وقدرُه، وإنَّهُ في يدِ المدَّعى عليه، وفي المنقولِ يزيدُ بغيرِ حقٍّ
كتاب الدعوى
(هي إخبارٌ بحقٍّ له على غيرِه، والمدَّعي: مَن لا يُجْبَرُ على الخصومة، والمدَّعى عليه: مَن يجبر)، لَمَّا فسَّرَ الدَّعوى، كان (المدَّعي على هذا التَّفسير هو المخبرُ بحقٍّ له على غيرِه)
(1)
.
فقولُهُ: المدَّعي مَن لا يجبرُ على الخصومة؛ تفسيرٌ آخرُ ذكرَهُ بعضُ المشايخِ رضي الله عنهم، وقد قيل: المدَّعي: مَن يلتمسُ خلافَ الظَّاهر، وهو الأمرُ الحادث، والمدَّعى عليه: مَن يتمسَّكُ بالظَّاهر، كالعدمِ الأصليّ، لكنَّ الاعتبارَ في هذا للمعنى حتى أنَّ المودَعَ إذا ادَّعى ردَّ الوديعة، فهو مدَّعٍ في الظَّاهر، لكنَّهُ في المعنى منكرٌ للضَّمان
(2)
.
(وهي إنَّما تصحُّ بذكرِ شيءٍ عُلِمَ جنسُهُ وقدرُه)، هذا في دعوى الدَّينِ لا في دعوى العين؛ فإنَّ العينَ إن كانت حاضرةً تكفي الإشارةُ بأنَّ هذا ملكٌ لي، وإن كانت غائبةً يجبُ أن يصفَها ويذكرَ قيمتَها، (وإنَّهُ في يدِ المدَّعى عليه)، هذا يختصُ بدعوى الأعيانِ، (وفي المنقولِ يزيدُ بغيرِ حقٍّ)، فإنَّ الشَّيءَ قد يكونُ في يدِ غيرِ المالكِ بحقٍّ كالرَّهنِ في يدِ المُرْتَهِن، والمبيعِ في يدِ البائع لأجلِ الثِّمن.
(1)
في النسخ قدمت على: والمدعي من، والمثبت من أ و م.
(2)
بيانه: أن المراد بالأمر الحادث كونه محتاجاً إلى الدليل في ظهوره ووجوده، وبالعدم الأصلي عدم كونه محتاجاً إليه أصلاً، فلا يعرض على من له اليد حقّ المدَّعي بمجرد دعواه، كما لا يعرضُ الوجودُ على العدم الأصلي، فلم يلزم عليه، فالمودَعُ الذي يدعي ردَّ الوديعةِ إلى المودِع لا يكون مدَّعياً حقيقةً، وكذا لا يكون المودِع بإنكاره الرد منكراً حقيقةً؛ لأنه بإنكاره يدَّعي شغل ذمَّة المودِع معنىً، وكذا المودَع بادعائه الرد ينكر الشغل معنىً؛ ليفرغ ذمَّته عن الضمان، فيجبر على الخصومة فيما أنكرَه معنى من الضمان؛ لكونه مدَّعى عليه فيصدق قوله مع اليمين إذ الاعتبار للمعاني دون الصور. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 250 - 251).
وفي العقارِ لا تثبتُ اليدُ إلاَّ بحجَّةٍ أو علمِ القاضي
أقول: هذه العلَّةُ تشتملُ العقارَ أيضاً، فلا أدري ما وجهُ تخصيصِ المنقول بهذا الحكم
(1)
.
(وفي العقارِ لا تثبتُ اليدُ إلاَّ بحجَّةٍ أو علمِ القاضي)، قالَ في «الهداية»: إنَّهُ لا تثبتُ
(2)
اليدُ في العقارِ إلاَّ بالبيِّنة أو علم القاضي، هو الصَّحيحُ؛ نفياً لتهمةِ المواضعة، إذ العقارُ عساهُ في يدِ غيرِهِما، بخلافِ المنقول؛ فإنَّ اليدَ فيه مشاهدة
(3)
.
فتهمةُ المواضعة: أنَّ المدَّعي والمدَّعى عليه تواضعا على أن يقولَ المدَّعى عليه: إنَّ الدَّارَ في يدي، والحالُ أنَّها في يدِ ثالث، فيقيمُ المدَّعي بيِّنة، ويحكمُ القاضي بأنَّها ملكُ المدَّعي.
وإنَّما قال في «الهداية» : هو الصَّحيح؛ لأنَّ عندَ بعضِ المشايخ رضي الله عنهم يكفي تصديقُ المدَّعى عليه أنَّها في يدِه، ولا يحتاجُ إلى إقامةِ البيِّنة.
فإنَّهُ إن كان في يدِه، وأقرَّ بذلك، فالمدَّعي يأخذها منه إن ثبتَ ملكيتُهُ بالبيِّنة أو بإقرار ذي اليد أو نكوله، وإن لم يكنْ في يدِه وأقرَّ بذلك لا يكون للمدَّعي ولايةُ الأخذِ من ذي اليد، وإن أقامَ المدَّعي البيِّنة؛ لأنَّ البيِّنةَ قامتْ على غيرِ خصم، فعُلِمَ أنَّهُ إذا أقرَّ ذو اليدِ باليد؛ فإنَّ الضَّررَ لا يلحقُ إلاَّ بذي اليد، ولا يلحقُ إلى غيرِهِ فتهمةُ المواضعةِ مدفوعةٌ، على أنَّ تهمةَ المواضعةِ إن كانت ثابتةً هاهنا ففي صورةِ إقامةِ البيِّنةِ ثابتةٌ أيضاً، فإنَّ الدَّارَ إذا كانت في يدِ رجلٍ أمانةً فتواضعَ المدَّعي وذو اليدِ على أنَّ ذا اليدِ لا يقولُ أنَّها أمانةٌ في يدِه، حتى يقيمَ المدَّعي بيِّنَةً على أنَّها في يدِ ذي اليد، ثمَّ يقيمُ بيِّنةً على أنَّها ملكُ المدَّعي، فيقضي القاضي ويأخذُ المدَّعي الدَّار.
(1)
ردَّ ما قاله الشارح رضي الله عنه ملا خسرو رضي الله عنه في «الدرر» (2: 330) بكلام طويل، وأجاب عن ردِّه الشرنبلالي رضي الله عنه في «حاشيته» (2: 330) عليه، وأثبت ما قال صدر الشريعة، إذ قال في نهاية كلامه: فتصريحهم بأنه يجب في المنقول أن يقول فيده بغير حق لا ينفي الحكم عمَّا عداه وقد وجد في تصويرهم الدعوى في العقار التصريح به. وقال القاري رضي الله عنه في «فتح باب العناية» (3: 163) عمّا قاله الصدر رضي الله عنه: ووجهه بعض الفضلاء بوجوهٍ وردها غيرهم.
(2)
وقع في النسخ: تثبت، والمثبت من «الهداية» (3: 156).
(3)
انتهى من «الهداية» (3: 156).
والمطالبةُ به وإحضارُهُ إن أمكن، وذكرُ قيمتِهِ إن تعذَّر، والحدودِ الأربعة أو الثَّلاثةِ في العقار، وأسماءِ أصحابها ونسبتِهم إلى الجد، وإذا صحَّتْ سألَ القاضي الخصمَ عنها، فإن أقرَّ بها حكمَ أو أنكر، وسألَ
فالحاصل: إنَّهُ إذا ظهرَ أنَّهُ في يدِ ثالث، وذو اليدِ أقرَّ أنَّهُ في يدِه، لا يصيرُ الثَّالثُ محكوماً عليه، وكذا إذا ظهرَ أنَّ يدَ ذي اليدِ يدُ أمانةٍ لا يدُ خصومة
(1)
.
(والمطالبةُ به): عطفٌ على قوله: وإنَّهُ في يدِ المدَّعى عليه، (وإحضارُهُ إن أمكن)؛ ليشيرَ إليه المدَّعي والشَّاهدُ والحالف.
(وذكرُ قيمتِهِ إن تعذَّر، والحدودِ الأربعة أو الثَّلاثةِ في العقار، وأسماءِ أصحابها ونسبتِهم إلى الجد): ذكرُ الحدودِ يشترطُ في دعوى الدَّارِ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وإن كانتْ مشهورة، وعندهما: لا يشترطُ إذا كانتْ مشهورة، ثمَّ ذكرُ الحدودِ الثَّلاثةِ كافٍ عندنا خلافاً لزفرَ رضي الله عنه؛ فإنَّهُ إذا ذكرَ ثلاثةَ حدودٍ كما في هذهِ الصُّورةِ فالحدُّ الرَّابعُ خطٌّ مستقيمٌ آخر
(2)
، والنِّسبةُ إلى الجدِّ قولُ أبي حنيفةَ رضي الله عنه وإن كان رجلاً مشهوراً يكتفى بذكرِه، هذا في دعوى الأعيان.
أمَّا في دعوى الدَّينِ فلا بُدَّ من ذكرِ الجنسِ والقدر، كما مرّ، وذكرَ في «الذخيرة»: إنَّهُ إذا كان وزنيَّاً كالذَّهبِ والفضّةِ لا بُدَّ أن يذكرَ الصفةَ بأنَّهُ جيِّدٌ أو رديء، وأن يذكرَ نوعَهُ نحو بُخاريَّ
(3)
الضَّربِ أو نيسابوريِّ الضَّرب.
(وإذا صحَّتْ سألَ القاضي الخصمَ عنها، فإن أقرَّ بها
(4)
حكمَ
(5)
أو أنكر، وسألَ
(1)
الظاهر أنه الشارح رضي الله عنه ينصر مذهب المشايخ بخلاف تصحيح صاحب «الهداية» ، وذلك بنفية تهمة المواضعة التي ادّعاها صاحب «الهداية» ، ويؤيد ذلك ما قاله القاري في «فتح باب العناية» (3: 163) بعد ذكر معنى تهمة المواضعة: وهي إن العلة مشتركةٌ والمعاينةً ممنوعةٌ، فلا يظهر وجه الفرق هناك. انتهى. أي بين المنقول والعقار. والله أعلم.
(2)
قال الخصَّاف رضي الله عنه: إذا قضيتَ بثلاثِ حدودٍ اجعلْ الحدَّ الرَّابعَ يمضي بإزاءِ الحدِّ الثّالث، حتى يحاذي الحدّ الأوّل، يعني على الاستقامة. ينظر:«البحر» (7: 199).
(3)
نسبة إلى بخار
(4)
زيادة من أ.
(5)
زيادة من أ و ف.
المدَّعي البيِّنة فأقامَ قضى عليه، وإن لم يقمْ حلَّفَهُ إن طلبَهُ خصمُهُ فإن نَكَلَ مرَّةً، أو سكتَ بلا آفة، وقضى بالنُّكولِ صحّ، وعرضَ اليمينَ ثلاثاً، ثمَّ القضاءُ أحوط. ولا يردُّ اليمينُ على مدَّعٍ وإن نكلَ خصمُه، ولا يحلفُ في نكاحٍ ورجعةٍ وفيء في إيلاءٍ واستيلادٍ ورقٍّ ونسبٍ وولاءٍ
المدَّعي البيِّنة فأقامَ قضى عليه، وإن لم يقمْ حلَّفَهُ إن طلبَهُ خصمُهُ فإن نَكَلَ
(1)
مرَّةً): أي قال: لا أحلف، (أو سكتَ بلا آفة، وقضى بالنُّكولِ صحّ، وعرضَ اليمينَ ثلاثاً، ثمَّ القضاءُ أحوط
(2)
.
ولا يردُّ اليمينُ على مدَّعٍ وإن نكلَ خصمُه)، فيه خلافُ الشَّافعيِّ
(3)
رضي الله عنه فإنَّ عندهُ إذا نكلَ الخصمُ يُرَدُّ اليمينُ على المدَّعي، هذا بدعة، وأوَّلُ مَن قضى به عندنا معاويةُ
(4)
رضي الله عنه، وهو مخالفٌ للحديثِ المشهور
(5)
.
(ولا يحلفُ في نكاحٍ
(6)
ورجعةٍ وفيء في إيلاءٍ واستيلادٍ ورقٍّ ونسبٍ وولاءٍ)، اعلم أنَّ في هذه الصُّورِ لا يستحلفُ عندَ أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: يستحلف، وصورتُها:
(1)
نَكَلَ عن اليمين: امتنعَ منها. ينظر: «المصباح» (ص 625).
(2)
وعن أبي يوسفَ رضي الله عنه ومحمَّدٍ رضي الله عنه إنَّ التكرارَ حَتْمٌ حتى لو قضى القاضي بالنكولِ مرَّة لا ينفذ، والصحيحُ أنّه ينفذ، والعرضُ ثلاثاً مستحبّ. ينظر:«التبيين» (4: 296).
(3)
ينظر: «أسنى المطالب» (4: 104)، و «فتوحات الوهاب» (5: 393)، و «حاشية البجيرمي» (4: 403).
(4)
وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي، أبو عبد الرحمن، وأمُّه هند بن عتبة، وهو وأبوه من مسلمةِ الفتح، وقيل: إنه أسلم زمن الحُدَيبية، ولاَّه عمر رضي الله عنه الشام بعد أخيه يزيد بن ابي سفيان، ثم أقرَّه عثمان، وولي الخلافة عشرين سنة، دعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:«اللهمَّ عَلِّم معاويةَ الحسابَ والكتاب، وقهِ العذاب» كما في «صحيح ابن خزيمة» (3: 214)، و «صحيح ابن حبان» (16: 192)، و «التاريخ الكبير» (7: 326)، توفِّي عن ثمان وسبعين سنة بدمشق، سنة (60 هـ). ينظر:«تهذيب الكمال» (28: 176 - 179)، و «العبر» (1: 64)، و «التقريب» (ص 470).
(5)
وهو حديث: «البيِّنةُ على المدَّعي واليمين على من أنكر» ، وقد سبق تخريجه.
(6)
أي ولا تحليفَ في نكاحٍ مجرَّدٍ عن المالِ عند الإمامِ رضي الله عنه بأن ادّعى رجلٌ على امرأةٍ أو هي عليه نكاحاً، والآخرُ ينكر، أمّا إذا ادَّعتِ المرأةُ تزوُّجَها على كذا، وادَّعتِ النفقة، وأنكرَ الزوجُ يستحلفُ اتّفاقاً. ينظر:«حاشية الطحطاوي على الدر المختار» (3: 296).
....................................................................................................................
ادَّعى الرَّجلُ النِّكاح، وأنكرتْ المرأةُ أو بالعكس، أو ادَّعى الرَّجلُ بعدَ الطَّلاقِ وانقضاء العدَّةَ الرَّجعةُ في العدَّة، وأنكرتْ المرأةُ أو بالعكس، أو ادَّعى الرَّجلُ بعدَ انقضاءِ مُدَّةِ الإيلاءِ الفيءَ في المدَّة، وأنكرتْ المرأةُ أو بالعكس، وادَّعى الرَّجلُ على مجهولِ النَّسبِ أنَّهُ عبدُهُ أو ابنُه، وأنكرَ المجهولُ أو بالعكس. واختصما في ولاءِ العتاق، أو ولاءِ الموالاةِ على هذا الوجه، أو ادَّعتْ الأمةُ على مولاها أنَّها ولدتْ منهُ ولداً، أو ادَّعاهُ وقد ماتَ الولد، ولا يجري في هذه المسألةِ العكس؛ لأنَّ المولى إذا ادَّعى ذلكَ تصير أمَّ ولد بإقراره لا اعتبار لإنكارِ الأمَّة.
وإنِّما يُسْتَحْلَفُ عندهما؛ لأنَّ النُّكولَ إقرارٌ؛ لأنَّ الحلفَ واجبٌ عليه على تقديرِ صدقِهِ في إنكارِه، فإذا امتنعَ عُلِمَ أنَّه غيرُ صادقٍ في الإنكار، إذ لو كان صادقاً لأقدم على أداء الواجب، وهو الحلف، وإذا كان النُّكول إقراراً والإقرارُ يجري في هذه الأمور، فيحلفُ حتَّى إذا نَكَلَ مرَّة
(1)
يُقْضَى بالنّكول.
ولأبي حنيفةَ رضي الله عنه: إنَّ المرءَ كثيراً ما يحترز عن اليمينِ الصَّادقة، فيبذلُ
(2)
شيئاً ولا يحلف، وإذا أمكن حملُه على البذل لا يثبتُ الإقرارُ بالشَّكِّ فيحملُ على البذل، والبذلُ لا يجري في هذه الأشياء، ويمكن أن يقال: لمَّا لم يجزِ البذلُ في هذه الأشياء، لا يجعلُ النكولُ بذلاً، فيحمل على الإقرار، وفي «فتاوى قاضي خان»
(3)
رضي الله عنه أن الفتوى على قولهما في النكاح
(4)
.
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
معنى البذل: تركُ المنع، وتركُ المنعِ جائزٌ في المال؛ لأنَّ أمرَ المالِ هيِّن، بخلافِ هذه الأشياءِ السبعة، وإنّما وجبَ على القاضي أن يقضيَ بالنكولِ بحكمِ الشرعِ لِمَا أنَّ المدَّعي كان له الشيءُ المدَّعى ظاهراً، وأبطلَهُ المنكرُ بالنِّزاع، والشرعُ أبطلَ نزاعَهُ إلى اليمين، فإذا امتنعَ اليمينُ عادَ الأصلُ بحكمِ الشرع، وإنّما صحَّ إيجابُهُ بالذمَّةِ ابتداءً بناءً على زعمِ المدَّعي أنّه مُحِقٌّ، وأنَّ معنى البذلِ تركُ المنع، ولئن كان بذلاً حقيقةً، فالمالُ يجبُ فيه في الذمَّةِ ابتداءً كالكفالةِ والحوالة. ينظر:«التبيين» (4: 298).
(3)
فتاوى قاضي خان» (2: 429)، وعبارته: والفتوى على قولهما فيه لعموم البلوى.
(4)
وفي «تنوير الأبصار» (ص 163): والفتوى على أنه يحلف في الأشياء السبعة، وقال الحصكفي في «الدر المختار» (4: 425): والحاصل إن المفتى به التحليف في الكل إلا في الحدود.
وحدٍّ ولعانٍ، وحلفَ السَّارقُ، وضَمِنَ إن نكَل، ولم يقطع، وكذا الزَّوج إذا ادعت المرأة طلاقاً قبل الدخول، وكذا في النِّكاح إذا ادَّعت هي مهرها، وكذا في النَّسبِ إذا ادَّعى حقَّاً كإرثٍ ونفقة وغيرهما، وكذا منكرُ القَوَد، فإن نكلَ في النَّفس حُبِسَ حتَّى يُقِرَّ أو يحلف، وفيما دونَها يقتصّ
(وحدٍّ ولعانٍ): أي كما إذا ادَّعى رجلٌ على آخرَ أنَّك قذفتَني بالزِّنا، وعليك الحدُّ لا يستحلفُ بالإجماع، وكذا إذا ادعت المرأةُ على الزَّوجِ أنَّك قذفتني بالزِّنا وعليك اللِّعان.
(وحلفَ السَّارقُ، وضَمِنَ إن نكَل، ولم يقطع)؛ لأنَّ المالَ يلزمُ بالنكول لا القطع، (وكذا الزَّوج إذا ادعت المرأة
(1)
طلاقاً قبل الدخول)
(2)
؛ لأنَّه يَحْلِفُ في الطلاق إجماعاً، فإن نكلَ ضمنَ نصف مهرها.
(وكذا في النِّكاح إذا ادَّعت هي مهرها): أي إذا ادَّعت المرأةُ النِّكاح، وطلبتْ المالَ كالمهرِ أو النفقة، فأنكرَ الزوجُ يحلف، فإن نكلَ يلزمُ المال، ولا يثبتُ الحلُّ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ المالَ يثبتُ بالبذل لا الحِلّ.
(وكذا
(3)
في النَّسبِ إذا ادَّعى حقَّاً كإرثٍ ونفقة): أي يحلفُ في دعوى النَّسبِ إذا ادَّعى المدَّعي مالاً، فيثبتُ بالنّكول المالَ لا النَّسبَ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، (وغيرهما): كالحَجْرِ في اللقيط، وامتناع الرُّجوع في الهبة
(4)
.
(وكذا منكرُ القَوَد): أي يحلفُ إجماعاً، (فإن نكلَ في النَّفس حُبِسَ حتَّى يُقِرَّ أو يحلف، وفيما دونَها يقتصّ)، فإن الأطرافَ بمَنْزلةِ الأموال، فيجري فيها البذل بخلاف
(1)
زيادة من م.
(2)
إنّما وضعَ المسألةَ في الطلاقِ قبلَ الدُّخول؛ لأنّه لو أطلقَ ينصرفُ إلى الطلاقِ الذي يلزمُ منه المهرُ تامّاً، ويبقى أمرُ الطَّلاقِ الذي يلزمُ منه نصفُ المهرِ مستوراً، فكشفُهُ أولى مع أنَّ لزومَ الحلفِ في الطلاقِ بعد الدُّخول بالطريقِ الأولى، فإنّه إذا استحلفَهُ قبل تأكُّدِ المهر، فبعدَه أولى. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 256)، و «النتائج» (7: 176).
(3)
كذا: زيادة من أ.
(4)
أي بأن كان الصبي في يد رجل التقطه، وهو لا يعبر عن نفسه فادعت امرأةٌ حرَّةُ الأصل أنه أخوها تريد قصر يد الملتقط لمالها من حق الحضانة، وأرادت استحلافه فنكل ثبت لها حقّ نقل الصبي إلى حجرها، ولا يثبت النسب. وكذا إذا أراد الواهب الرجوع في الهبة، فقال الموهوب له: أنا أخوك، فإن المدعى عليه يستحلف على ما يدعي بالإجماع. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 257).
فإن قال: لي بيِّنةٌ حاضرةٌ، وطلبَ حلفَ الخصمِ لا يحلفُ ويكفلُ بنفسِهِ ثلاثةَ أيَّام، فإن أبى لازمَه، والغريبُ قَدْرَ مجلسِ الحكمِ، ولا يكفلُ إلاَّ إلى آخر المجلس.
[فصل في كيفية اليمين والاستحلاف]
والحلفُ باللهِ لا بالطَّلاق والعتاق، فإنَّ ألح الخصمُ، قيل: صحَّ بهما في زماننا
النَّفس
(1)
هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وأمّا
(2)
عندهما: يلزمُ الأرشُ في النَّفس وما دونها، فإن النّكولَ إقرارٌ فيه شبهةٌ، فلا يثبتُ به القصاص، بل يلزمُ المال.
(فإن قال: لي بيِّنةٌ حاضرةٌ)
(3)
: أي في المصر، حتَّى لو قال: لا بيِّنةَ لي، أو شهودي غُيَّبٌ، يحلفُ ولا يكفل، (وطلبَ حلفَ الخصمِ لا يحلفُ ويكفلُ بنفسِهِ ثلاثةَ أيَّام، فإن أبى لازمَه): أي إن أبى الخصمُ عن إعطاء الكفيلِ لازمه المدَّعي ثلاثةَ أيَّام، ثُمَّ عطفَ على الضَّميرِ المنصوب في لازمَه قولُه:(والغريبُ قَدْرَ مجلسِ الحكمِ): أي لازمَ المدَّعي الغريبَ مقدارَ ما يكونُ القاضي جالساً في المحكمة
(4)
، (ولا يكفلُ إلاَّ إلى آخر المجلس): أي إن أخذَ منه الكفيلَ لا يؤخذُ إلاَّ إلى آخرِ مجلسِ الحكم، فإن أتى بالبيِّنة فيها، وإلاَّ يُحَلِّفَهُ إن شاء أو يدعَه.
[فصل في كيفية اليمين والاستحلاف]
(والحلفُ باللهِ لا بالطَّلاق والعتاق، فإنَّ ألح الخصمُ، قيل: صحَّ بهما في زماننا)
(5)
:
(1)
بيانه: إنَّ الأطرافَ خُلِقَتْ وقايةً للنَّفسِ كالأموال، فلذا يسلكُ بها مسلكَ الأموالِ حتى أبيحَ قطعُها للحاجة، ولا يجبُ على القاطعِ الضمان إذا قطعَها بأمرِهِ بخلافِ النَّفس، فإنّه لو قتلَهُ بأمرِهِ يجبُ عليه القصاصُ في رواية، والديةُ في أخرى، وإذا سلكَ بها مسلكَ الأموالِ يجري فيها البذلُ كالأموال إلاَّ أنّه لا يجوزُ قطعُها بلا فائدة، وهذا البذلُ مفيدٌ لدفعِ الخصومة. ينظر:«التبيين» (4: 300).
(2)
أما: زيادة من أ.
(3)
هذا إذا كانت البينة حاضرة في المصر غائبة عن مجلس الحكم حتى لو كانت غائبة عن المصر يحلف، أو كانت في مجلس الحكم لا يحلف. ينظر:«فتح باب العناية» (3: 167).
(4)
لأن هذا القدر يحصلُ به النظر للمدَّعي، فأمّا في إمساكه على باب القاضي يوماً أو أكثر؛ ليحضر المدَّعي بيّنة ضرر على المطلوب، فإذا جاء أوان قيام القاضي عن المجلس ولم يحضر المدّعي بينة، فإن القاضي يحلِّفَه ويخلِّي سبيل المطلوب ليذهب حيث شاء. ينظر:«الزبدة» (3: 209).
(5)
إنما أتى بصيغة التمريض؛ لأن أكثر مشايخنا لم يجوِّزوه، وفي «البحر»: الفتوى على عدم التحليف بالطلاق والعتاق، وهو ظاهر الرواية، وفي «الخانية»: ومنهم من جوَّزه في زماننا، والصحيح ما في ظاهر الرواية، وفي «التتارخانية»: والفتوى على جواز الحلف بالطلاق والعتاق. ينظر: «مجمع الأنهر» (259)، و «الدر المختار» (4: 427).
ويُغَلِّظُ بصفاتِه، لا بالزَّمان والمكان، وحلفَ اليهوديُّ باللهِ الذي أنزلَ التَّوراة على موسى صلى الله عليه وسلم، والنَّصْرانِيُّ بالله الذي أنزلَ الأنجيلَ على عيسى صلى الله عليه وسلم، والمجوسيُّ بالله الذي خَلَقَ النار، والوثنيُّ بالله تعالى، ولا يَحْلِفونَ في معابدِهم. ويَحْلِفُ على الحاصل في البيع والنِّكاحِ: بالله ما بينكما بيعٌ قائم، أو نكاحٌ قائمٌ في الحال، وفي الطلاق: ما هي بائن منك الآن، وفي الغصب: ما يجبُ عليك ردُّه، لا على السَّببِ باللهِ ما بعتُهُ، ونحوه
أي جازَ للقاضي أن يُحَلِّفَهُ بالطَّلاق والعتاق، (ويُغَلِّظُ بصفاتِه)، نحو: بالله الطالبِ الغالب، المدرك المهلك، الحيّ الذي لا يموت أبداً
(1)
، ونحو ذلك، (لا بالزَّمان والمكان)، هذا عندنا، وعند الشَّافِعِيّ
(2)
رضي الله عنه يُغَلِّظ بالزَّمانِ كبعد صلاةِ العصرِ يوم الجُمُعة، وبالمكان كالمسجدِ الجامع عند المنبر.
(وحلفَ اليهوديُّ باللهِ الذي أنزلَ التَّوراة على موسى صلى الله عليه وسلم، والنَّصْرانِيُّ بالله الذي أنزلَ الأنجيلَ على عيسى صلى الله عليه وسلم، والمجوسيُّ بالله الذي خَلَقَ النار، والوثنيُّ
(3)
بالله تعالى، ولا يَحْلِفونَ في معابدِهم
(4)
.
ويَحْلِفُ على الحاصل
(5)
في البيع والنِّكاحِ: بالله ما بينكما بيعٌ قائم، أو نكاحٌ قائمٌ في الحال، وفي الطلاق: ما هي بائن منك الآن، وفي الغصب: ما يجبُ عليك ردُّه، لا على السَّببِ باللهِ ما بعتُهُ، ونحوه)، مثل: بالله ما نكحتُها، وبالله ما طلقتُها، وبالله ما غصبت؛ لأنَّ هذه الأسبابَ ترتفعُ بأن باعَ شيئاً، ثم تقايلا، فإن حلفَ على السَّببِ يتضرَّرُ المدَّعى عليه، هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه ومحمَّد رضي الله عنه.
(1)
زيادة من ب.
(2)
ينظر: «التنبيه» (ص 161)، غيره.
(3)
الوثني: من يتديَّن بعبادته على الوثن، وهو الصنمُ سواء كان من خشبٍ أو حجرٍ أو غيره. ينظر:«المصباح» (ص 648 - 649).
(4)
لكراهة دخولِها لقاضٍ وغيره من حيث أنها مجمع الشياطين لا من حيث أنه ليس له حقُّ الدخول، والظاهرُ أنها تحريمية؛ لأنها المرادةُ عند إطلاقهم، قال في «البحر» (7: 214): وقد افتيت بتعزير مسلمٍ لازم الكنسيةَ مع اليهود.
(5)
الضابط في الحلفِ على الحاصل والسبب: إن السبب إمّا أن يرتفعَ برافع أو لا، فإنّ كان الثاني، فالتحليفُ على السبب بالإجماع، وإن كان الأول فإن تضرَّر المدّعي بالتحليف على الحاصل؛ فلذلك، وإن لم يتضرَّر يحلفُ على الحاصل عند الإمام ومحمّد رضي الله عنهم، وعند أبي يوسف رضي الله عنه: يحلَّفُ على السبب. ينظر: «الزبدة» (3: 211).
إلاَّ إذا لزم ترك النَّظرَ للمدَّعي، فيحلفُ على السَّببِ كدعوى شفعةٍ بالجوار، ونفقةِ المبتوتة، والخصم لا يراهما
وعند أبي يوسف رضي الله عنه: يحلفُ على السَّببِ في جميع ذلك إلاَّ عند تعريضِ المدَّعى عليه بأن يقول: أيُّها القاضي لا تُحَلِّفْنِي على السَّبب، فإن الإنسانَ قد يبيع، ثُمَّ يقيل، أو يُطلِّقُ ثُمَّ يتزوجُ.
وقيل
(1)
: ينظرُ إلى إنكارِ المدَّعى عليه، فإن أنكرَ السببَ يَحْلِفُ عليه، وإن أنكرَ الحكمَ يحلفُ على الحاصل كدعوى الشفعة، هذا ما قالوا.
ولقائل أن يقول
(2)
: ينبغي أن يحلفَ على السَّببِ دائماً، وإن عَرَضَ المدَّعى عليه، فلا اعتبار لذلك التَّعريض؛ لأنَّ غايةَ ما في الباب أنَّه وَقَعَ البيع، ثم وَقَعَ الإقالة، ففي دعوى الإقالةِ يصيرُ المدَّعى عليه مدَّعياً، فعليه البيِّنةُ على الإقالة، فإن عجزَ فعلى المدَّعي اليمين.
(إلاَّ إذا لزم ترك النَّظرَ للمدَّعي، فيحلفُ على السَّببِ كدعوى شفعةٍ بالجوار، ونفقةِ المبتوتة، والخصم لا يراهما): أي يحلفُ على الحاصلِ إلاَّ أن يلزمَ من الحلفِ على الحاصلِ تركُ النَّظرِ للمدعي، فحينئذٍ يحلفُ على السببِ كدعوى الشفعة بالجوار، فإنَّه يمكنُ أن يحلفَ على الحاصل أن لا يجب الشُّفعة بناءً على مذهبِ الشَّافِعِيِّ
(3)
رضي الله عنه، فإنَّ الشَّفعةَ لا تثبت بالجوار عنده، فيحلفُ المشتري: بالله ما اشتريتُ هذه الدار، وكذا إذا ادعت المرأة
(4)
النفقة بالطلاق البائنِ كالخلعِ مثلاً، فإنَّه لا يَجِبُ
(1)
قائله شمسُ الأئمّة الحَلْوَانِيُّ رضي الله عنه، وفي «الذخيرة»: وهو حسن، وعليه عملُ أكثر القضاة. وقال فخر الإسلام رضي الله عنه: يفوَّضُ إلى رأي القاضي. ينظر: «التبيين» (4: 303)، و «البناية» (7: 430).
(2)
حاصلُه: إنَّ المناسبَ أن يعمَّ الحلف على السبب، ويجري في جميع الصور، ولا فائدةَ في استثناءِ صورةِ التعريض؛ لأنَّ في صورةِ التعريض إن وقعَ البيعُ ثمّ الإقالة، فالمدّعى عليه إذا ادَّعى الإقالةَ صار مُدَّعياً، فعليه أن يقيمَ البيِّنةَ على الإقالة، فإن أقامَها فبها، وإن عجزَ عنها فاليمين على المدَّعي؛ لأنّه صار حينئذٍ المدَّعى عليه، وهاهنا كلامٌ نفيس، وهو أنّه يحتملُ أن يقعَ الإقالةُ بلا شهود، والخصمُ يكون ممَّن يقدمُ على اليمينِ الكاذبةِ ففيه تَوَى حقُّ المسلم، وفي صورةِ الطلاقِ إن حلفَ على السببِ يتضرَّر به المدَّعى عليه؛ لأنّه قد يعجزُ عن إقامةِ البيِّنةِ على النكاح، ولا حلف فيه عنده، فتَوَى حقَّه. ينظر:«زبدة النهاية» (3: 211).
(3)
ينظر: «التنبيه» (ص 80)، وغيره.
(4)
زيادة من أ و ص.
وكذا في سببٍ لا يرتفعُ كعبدٍ مسلمٍ يدَّعي عتقَه، وفي الأمةِ والعبدِ الكافر على الحاصل، ويحلفُ على العلمِ من وَرِثَ شيئاً فادَّعاه آخر وعلى البتاتِ إن وُهِبَ له أو اشتراه، وصحَّ فداءُ الحلفِ والصلحِ منه، ولا يحلفُ بعده
النَّفقةُ عند الشَّافِعِيِّ
(1)
رضي الله عنه. ويجبُ عندنا، فإن حلفَ بالله ما يَجِبُ عليك النفقة، فربَّما يحلفُ على مذهب الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، فيحلفُ على السَّببِ بالله ما طلقتُها طلاقاً بائناً.
(وكذا في سببٍ لا يرتفعُ كعبدٍ مسلمٍ يدَّعي عتقَه)، فإنَّ المولى يحلفُ باللهِ ما أعتقتُه، فإنَّه لا ضرورةَ إلى الحلفِ على الحاصل؛ لأنَّ السَّببَ لا يمكن ارتفاعُه، فإن العبدَ المسلمَ إذا أعتقَ لا يُسْتَرَّق، (وفي الأمةِ والعبدِ الكافر على الحاصل)؛ لأنَّ السَّببَ قد يرتفع فيهما، أمَّا في الأمة فالبردَّةِ واللَّحاقِ إلى دارِ الحرب، ثُمَّ السَّبي، وأمَّا في العبدِ الكافرِ فبنقضُ العهدِ واللَّحاق، ثُمَّ السَّبي.
(ويحلفُ على العلمِ من وَرِثَ شيئاً فادَّعاه آخر وعلى البتاتِ إن وُهِبَ له أو اشتراه)
(2)
، البتات: القطع، فالموهوبُ له والمشتري يحلفان بالله ليس هذا ملكاً لك، فعدمُ الملك مقطوعٌ به بخلافِ الوارث، فإنه يحلف بالله لا أعلم أنَّه ملك لك، فإنَّه ينفي العلم بالملك، وعدمِ الملكِ ليس مقطوعاً به في كلامِه.
(وصحَّ فداءُ الحلفِ والصلحِ منه، ولا يحلفُ بعده): أي إذا توجَّه الحلفُ، فقال: أعطيتُ هذه العشرة فداءً عن الحلف على كذا، وقبل الآخر، أو قال المدَّعي: صالحتُ عن دعوى الحلفِ على كذا، وقبلَ الآخرُ صحَّ، وسقطَ حقُّ الحلفِ.
(1)
ينظر: «التنبيه» (ص 129)، وغيره.
(2)
والأصلُ في ذلك أنَّ اليمينَ إن كانت على فعل الغيرِ فهي على العلم، وإن كانت على فعلِ النفس فهي على البتات، وقال الحَلْوَانِيُّ: هذا الأصلِ مستقيمٌ في المسائلِ كلِّها إلاَّ في الردِّ بالعيب، فإنّه إذا ادَّعى المشتري أنَّ العبدَ أبق ونحو ذلك، فأرادَ المشتري تحليفُ البائعِ فإنّه يحلِّفه على البتات، مع أنّه فعلُ غيره وإنّما كان كذلك؛ لأنَّ البائعَ ضمنَ تسليمَ المبيعِ سالماً عن العيوب، فالتحليفُ يرجعُ إلى ما ضَمِنَ بنفسِهِ فيحلفُ على البتات. ينظر:«التبيين» (4: 303)، و «الرمز» (2: 139).
باب التحالف
ولو اختلفا في قَدْرِ الثَّمن، أو المبيع حُكِمَ لِمَن بَرْهَنَ، وإن بَرْهَنا حُكِمَ لمثبتِ الزِّيادة، وإن اختلفا فيهما، فحجَّةُ البائعِ في الثَّمن، وحجَّةُ المشتري في المبيعِ أولى، وإن عَجَزَا رضي كلٌّ بزيادةٍ يدعيه الآخر، وإلاَّ تحالفا، وحلفَ المشتري أوَّلاً
باب التحالف
(ولو اختلفا في قَدْرِ الثَّمن
(1)
، أو المبيع حُكِمَ لِمَن بَرْهَنَ، وإن بَرْهَنا حُكِمَ لمثبتِ الزِّيادة)، وهو البائعُ إن كان الاختلافُ في قدرِ الثَّمن، والمشتري إن كان الاختلافُ في قدرِ المبيع.
(وإن اختلفا فيهما)، كما إذا قال البائعُ: بعتُ هذا
(2)
العبد الواحد
(3)
بألفين، وقال المشتري: لا؛ بل بعتَ العبدين بألف، (فحجَّةُ البائعِ في الثَّمن، وحجَّةُ المشتري في المبيعِ أولى، وإن عَجَزَا رضي كلٌّ بزيادةٍ يدعيه الآخر، وإلاَّ تحالفا).
فقولُهُ: وإن عَجَزَا؛ يَرْجِعُ إلى الصُّورِ الثَّلاث: أي ما إذا كان الاختلافُ في الثَّمن، أو المبيع، أو فيهما، فإن كان الإختلافُ في الثَّمن، فيقال للمشتري: إمّا أن تَرْضَى بالثَّمنِ الذي ادَّعاهُ البائع، وإلاَّ فَسَخْنا البيع، وإن كان الاختلافُ في المبيعِ فيقال للبائع: إما أن تُسَلِّمَ ما ادَّعاهُ المشتري وإلاَّ فَسَخْنا البيع، وإن كان الاختلافُ في كلِّ منهما يقالُ ما ذُكِرَ لكليهما، فإن رَضِي كلٌّ بقولِ الآخرِ، فظاهرٌ، وإلاَّ تحالفا.
(وحلفَ المشتري أوَّلاً): في الصورِ الثَّلاث؛ لأنَّه يطالَبُ أَوَّلاً بالثَّمن، فإنكارُه أسبق، وأيضاً: يتعجَّلُ فائدةُ النُّكول، وهو وجوبُ الثَّمن، وفي بيعِ السِّلعةِ بالسَّلعةِ، وفي الصَّرفِ يبدأُ القاضي بأيِّهما شاءَ، ويَحْلِفُ كلُّ على نفي ما يدَّعيه الآخر،
(1)
قيَّدَ الاختلافَ بقدرِ الثمن، وقدرِ المبيع؛ لأنّه لو كان الاختلاف في جنس الثمن، بأن قال البائع: بعتك هذه الجارية بعبدك هذا، وقال المشتري: إنّما اشتريتها منكَ بمئةِ دينار، وأقامَ البيِّنةَ لزم المشتري البيعَ بالعبد، ويقبلُ بيّنة البائعَ دون المشتري؛ لأنَّ حق المشتري في الجاريةِ ثابتٌ باتّفاقهما، وإنّما الاختلافُ في حقِّ البائع، وبيّنته تثبتُ الحقَّ لنفسِه في العبد، وبيّنةُ المشتري تنفي ذلك، والبيِّنةُ للإثبات دون النفي. ينظر:«كمال الدراية» (ق 596).
(2)
زيادة من أ و ب و م.
(3)
ساقطة من ب و م.
وفسخَ القاضي البيعَ، ومَن نكلَ لَزِمَهُ دعوى الآخر،
ولا احتياجَ إلى إثباتِ ما يدَّعيه، هو الصَّحيح
(1)
.
(وفسخَ القاضي البيعَ): أي بعد التَّحالف، (ومَن نكلَ لَزِمَهُ دعوى الآخر): أي
(2)
إذا عرضَ اليمينُ أَوَّلاً على المشتري، فإن نكلَ لَزِمَهُ دعوى البائع، فإن حَلَفَ يعرضُ اليمينَ على البائع، فإن حَلَفَ يفسخُ البيع، وإن نكلَ لزمَهُ دعوى المشتري.
ثُمَّ اعلم أنّ الاختلافَ إذا كان في الثَّمن فالتحالفُ قبل قبضِ المبيع موافقٌ للقياس؛ لأنَّ البائعَ يدَّعي زيادةَ الثَّمن والمشتري يُنْكِرُها، والمشتري يدَّعي وجوبَ تسليمُ المبيعِ بأقلِّ الثَّمنينِ، والبائعُ يُنْكِرُه، فكلٌّ منهما مدَّعٍ ومُنْكِرٌ فيتحالفان، أمَّا بعد قبضِ المبيعِ فمخالفٌ للقياس، فإن المشتري لا يدَّعي شيئاً؛ لأنَّ المبيعَ قد سُلِّم له، والبائعُ يدَّعي زيادةَ الثَّمنِ والمشتري يُنْكِرُه، لكن التَّحالف هاهنا ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا اختلفَ المتبايعانِ والسِّلْعَةُ قائمةٌ تحالفا وترادَّا»
(3)
.
(1)
وفي «الدر المنتقى» (2: 263)، و «الدر المختار» (4: 430): في الأصح؛ لما في «الزيادات» : يحلف: بالله ما باعه بألف، ولقد باعَه بألفين، ويحلف المشتري: بالله ما اشتراهُ بألفين، ولقد اشتراهُ بألف، يضمُّ الإثباتَ إلى النفي تأكيداً. وينظر:«الهداية» (3: 162).
(2)
زيادة من ب و م.
(3)
من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد ورد بألفاظ مختلفة: منها: (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمةٌ فالقول قول البائع أو يترادان)، في «سنن الدارمي» (2: 325)، و «سنن ابن ماجه» (2: 737)، و «سنن الدارقطني» (3: 20)، و «مسند الشاشي» (1: 328)، و «المعجم الكبير» (18: 174) واللفظ له، وفي «الموطأ» (2: 671) بلاغاً، وقد صححه الحاكم، وحسَّنَه البيهقي، وقال ابن عبد البر: هو منقطع إلا أنه مشهور الأصل عند جماعة العلماء تلقوه بالقبول وبنوا عليه كثيراً من فروعه، وقال صاحب «التنقيح» والذي يظهر أنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه بمجموع طرقه له أصل، بل هو حديث حسن يحتج به لكن في لفظه اختلاف والله أعلم، وأيَّدَه الزيلعي في «نصب الراية» (4: 105)، وقال صاحب «معتصر المختصر» (2: 134): إنه من الأحاديث التي استغنى عن طلب الإسناد فيها لصحتها عند العلماء، وينظر:«تلخيص الحبير» (3: 31)، و «التحقيق» (2: 184)، و «الخلاصة» (2: 76)، وغيرها.
ولا تحالف في الأجلِ، وشرطِ الخيار، وقبضِ بعضِ الثَّمن، وحلفَ المنكر، ولا بعدها هلاكِ المبيع، وحلفَ المشتري، ولا بعد هلاكِ بعضِهِ إلاَّ أن يرضى البائعُ بترك حصَّةِ الهالك
(ولا تحالف في الأجلِ، وشرطِ الخيار، وقبضِ بعضِ الثَّمن، وحلفَ المنكر)، سواءٌ اختلفا في أصلِ الأجل، أو في قَدْرِه، فقال المشتري: الثَّمنُ مؤجَّل، وأنكرَ البائع، أو قال المشتري: الثَّمنُ مؤجَّل إلى سنة، وقال البائع: بل نصفِ سنة، حلفَ منكرُ الزِّيادة، أو قال أحدُهما: البيعُ بشرطِ الخيار، وأنكرَ الآخر، وقال أحدُهما: لي الخيار إلى ثلاثة أيَّام، وقال الآخرُ: بل إلى يومين، أو قال المشتري: أديتُ بعضَ الثَّمن، وأنكرَ البائع.
(ولا بعدها هلاكِ المبيع
(1)
، وحلفَ المشتري): أي إن هلكَ المبيع، ثُمَّ اختلفا في قَدْرِ الثَّمَن، فلا تحالفَ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه، والقولُ للمشتري، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه يتحالفان، وينفسخُ البيعُ على قيمةِ الهالك؛ لأنَّ كلاً منهما يدَّعي عقداً ويُنْكِرُهُ الآخر، فيتحالفان، ولهما: أنَّ التَّحالفَ بعد قبضِ البيعِ على خلافِ القياس؛ فلا يَتَعَدَّى إلى حال هلاكِ السِّلعة.
(ولا بعد هلاكِ بعضِهِ إلاَّ أن يرضى البائعُ بترك حصَّةِ الهالك): أي لا يأخذَ من ثمنِ الهالكِ شيئاً أصلاً، ويجعلَ الهالكَ كأن لم يكنْ وكأنَّ العقدَ لم يكن إلاَّ على القائم فيتحالفان، هذا تخريجُ بعض المشايخ رضي الله عنهم، وينصرفُ الاستثناءُ عندهم إلى التَّحالف، وقالوا: إن المرادَ بقوله في «الجامع الصغير» : يأخذ الحيَّ ولا شيءَ له
(2)
: أي لا يأخذَ من ثمنِ الهالك شيئاً أصلاً.
وقال بعضُ المشايخ رضي الله عنهم: يأخذُ من ثمنِ الهالكِ بقدرِ ما أقرَّ به المشتري، ولا يأخذ الزِّيادة، فالاستثناءُ يَنْصَرِفُ إلى يمينِ المشتري لا إلى التَّحالف، يعني أنَّهما لا يتحالفان، ويكون القولُ قولَ المشتري مع يمينِهِ إلاَّ أن يرضى البائعُ أن يأخذَ الحيّ، ولا يخاصمُهُ في
(1)
يعني لا تحالف لو اختلفا في قدرِ الثمنِ بعد هلاك المبيعِ في يد المشتري، وقيَّدنا هلاكَ المبيع بقولنا: في يد المشتري؛ لأنّه إذا هلكَ عند البائع قبلَ قبضِهِ انفسخَ البيع. ينظر: «حاشية الطحطاوي» (3: 304).
(2)
انتهى من «الجامع الصغير» (ص 340). والمسألة فيه: رجل اشترى عبدين وقبضهما فمات أحدُهما فاختلفا في الثمن، فالقولُ قولُ المشتري إلاَّ أن يشاء البائع أن يأخذ الحيَّ ولا شيءَ له.
ولا في بدلِ الكتابة، ولا في رأسِ المالِ بعد إقالتِه، وصُدِّقَ المسلَّمُ إليه إن حَلَفَ، ولا يعودُ السَّلم، ولو اختلفا في قدر الثَّمنِ بعد إقالةِ البيعِ تحالفا، وعادَ البيع، ولو اختلفا في بدلِ الإجارة، أو المنفعة قبل قبضِها تحالفا وترادَّا، وحلفَ المستأجِرُ أوَّلاً إن اختلفا في الأجرة، والمؤجِّرُ إن اختلفا في المنفعة، وأيٌّ نكلَ ثَبَتَ قولُ صاحبه، وأيٌّ بَرْهَنَ قُبِل، وإن بَرْهَنا فحجَّةُ المؤجِّر أَوْلى إن اختلفا في الأجرة، وحجَّةُ المستأجرِ إن اختلفا في المنفعة
الهالك، فحينئذٍ لا يحلفُ المشتري؛ لأنَّه إنَّما يحلفُ إذا كان منكراً ما يدَّعيه البائع، فإذا أخذَ البائعُ الحيَّ صُلْحاً عن جميعِ ما ادَّعاهُ على المشتري، فلا حاجةَ إلى تحليف المشتري.
(ولا في بدلِ الكتابة
(1)
، ولا في رأسِ المالِ بعد إقالتِه
(2)
، وصُدِّقَ المسلَّمُ إليه إن حَلَفَ، ولا يعودُ السَّلم): أي أقالا عقد السَّلَم، فوقعَ الاختلاف في رأسِ المال، فالقولُ قولُ المسلَّم إليه، ولا تحالف؛ لأنَّه إن تحالفا ينفسخُ الإقالةَ ويعودُ السَّلَم، وذا لا يجوز؛ لأنَّ إقالةَ السَّلمِ إسقاطُ الدَّين، والسَّاقطُ لا يعود.
(ولو اختلفا في قدر الثَّمنِ بعد إقالةِ البيعِ تحالفا، وعادَ البيع)، فإنَّهما إذا تحالفا تنفسخُ الإقالة، ويعودُ البيع، وذا غير ممتنع.
(ولو اختلفا في بدلِ الإجارة، أو المنفعة قبل قبضِها تحالفا وترادَّا، وحلفَ المستأجِرُ أوَّلاً إن اختلفا في الأجرة، والمؤجِّرُ إن اختلفا في المنفعة، وأيٌّ نكلَ ثَبَتَ قولُ صاحبه، وأيٌّ بَرْهَنَ قُبِل، وإن بَرْهَنا فحجَّةُ المؤجِّر أَوْلى إن اختلفا في الأجرة، وحجَّةُ المستأجرِ إن اختلفا في المنفعة)؛ لأنَّ حجَّةَ المؤجِّرِ تُثْبِتُ زيادةَ الأجرة، وحجُّةُ المستأجِرِ تُثْبِتُ المنفعة، والحجَجُ للإثبات.
(1)
والفرق بين البيع والكتابة: أنَّ البيع لازمٌ من الجانبين، فالمصيرُ إلى التَّحالفِ فيه مفيد، حتى إذا نكَل أحدُهما لزمَه دعوى الآخر، ولا يتحقَّق ذلك في الكتابة؛ لأنَّ المكاتبَ إذا نكَلَ لا يلزمُهُ شيءٌ لتمكُّنِهِ من الفسخ بالعجز، والدين فيه غيرُ لازم، حتى لا يجوزَ الكفالةُ به، لا أنّها معاوضةٌ مطلقاً فغيرُ مُسَلَّم؛ لأنَّ الكلَّ للمولى من وجهٍ، فلا يكون في معنى البيع، وإذا انعدمَ التحالفُ أوجبَ اعتبارَ الدعوى والإنكار، فيكون القولُ للمنكر، وهو العبد، وإن أقامَ أحدُهما بيّنةً تقبل، ويعملُ بها؛ لأنّه نوَّرَ دعواه، وإن أقاما البيِّنة فكانت بيّنةُ المولى أولى؛ لأنّها تثبتُ الزيادة إلاَّ أنّه إذا أدَّى قدرَ ما أقامَ البيِّنةَ عليه يعتق؛ لأنّه أثبتَ الحريَّةَ لنفسِهِ عند أداءِ هذا القدر، فوجبَ قبولُ بيّنتِهِ على ذلك. ينظر:«التبيين» (3: 310).
(2)
قيّد به؛ لأنّهما لو اختلافا قبلها في قدره تحالفا؛ كالإختلافِ في جنسِهِ ونوعِهِ وصفتِهِ. ينظر: «البحر» (7: 223).
وحجَّةُ كلٍّ في فضلٍ يدَّعيه أَوْلى إن اختلفا فيهما، ولا تَحالُفَ إن اختلفا بعد قبضِ المنفعة، والقولُ للمستأجِر، وبعد قبضِ بعضِها تحالفا، وفُسِخَتْ فيما بقي، والقولُ للمستأجِرِ فيما مَضَى، وإن اختلفَ الزَّوجان في متاعِ البيت، فلَها ما صلحَ لها، وله ما صلحَ له أو لهما
(وحجَّةُ كلٍّ في فضلٍ يدَّعيه أَوْلى
(1)
إن اختلفا فيهما)، كما إذا قال المؤجِّرُ: أجَّرتُ إلى سنةٍ بمئتين، وقال المستأجِرُ: لا بل أجَّرتَ إلى سنتين بمئة، وأقاما البيِّنة تَثْبُتُ في سنتينِ بمِئتين.
(ولا تَحالُفَ إن اختلفا بعد قبضِ المنفعة، والقولُ للمستأجِر): أي إن
(2)
اختلفا في قَدْرِ الأجرةِ بعد قبضِ المنفعة، فلا تَحالُفَ عليهما، والقولُ للمستأجِّر؛ لأنَّهُ منكرٌ للزِّيادة، وهذا ظاهرٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه؛ لأنَّ التَّحالُفَ بعد قبضِ المبيعِ على خلافِ القياس؛ فلا يقاسُ الإجارةُ على البيع، فإنّ التَّحالفَ في الإجارةِ يثبت قياساً على البيع، وأمَّا عند محمَّدٍ رضي الله عنه فإن البيعَ ينفسخُ بقيمةِ الهالك، وهاهنا ليس للمنَافعِ قيمة.
(وبعد قبضِ بعضِها تحالفا، وفُسِخَتْ فيما بقي، والقولُ للمستأجِرِ فيما مَضَى)، فإن الإجارةَ تَنْعَقِدُ ساعةً فساعة، فكأنَّها تنعقدُ بعقودٍ مختلفة، ففيما بقي يتحالفان قياساً على البيع، وفيما مَضَى لا، بل القولُ فيه للمنكر، وهو المستأجِر
(3)
.
(وإن اختلفَ الزَّوجان في متاعِ البيت، فلَها ما صلحَ لها، وله ما صلحَ له أو لهما): أي إن اختلفا ولا بيِّنةً لأحدِهما، فما صلحَ للنِّساء يكون للمرأة مع يمينِها، وما صلحَ للرِّجال أو للرِّجالِ والنِّساءِ يكونُ للرَّجل مع يمينِه.
(1)
زيادة من أ و ب و م.
(2)
زيادة من أ و ف.
(3)
بيانه: لو اختلفا بعد استيفاءِ بعضِ المنفعة تحالفا فيما بقيَ اعتباراً للبعضِ بالكلّ، وتفسخُ الإجارةِ فيما بقيَ من المنافع، لإمكانِ الفسخ، وهذا لا ينافي ما مرَّ أنَّ هلاكَ بعض المعقودِ عليه يمنعُ التحالفَ عند الإمام؛ لأنَّ الإجارةَ تنعقدُ ساعةً فساعة، على حدوثِ المنفعة، فكان كلُّ جزءٍ من المنفعةِ بمنْزلة معقودٍ عليه فيما بقيَ من المنفعة، كمعقودٍ عليه غيرِ مقبوض، فتحالفا في حقِّه، بخلاف ما إذا هلكَ بعضُ المبيع؛ لأنّه بجميعِ أجزائه معقودٌ بعقدٍ واحد، فإذا تعذَّرَ الفسخُ في بعضِهِ بالهلاك، تعذَّر في كلِّه ضرورةً. والقولُ للمستأجِرِ مع اليمين فيما مضى؛ لأنّه منكرٌ بما يدَّعيه المؤجِّرُ من زيادة الأجرة. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 267 - 268).
وإن ماتَ أحدُهما، فالمشكلُ للحيّ، وإن كان أحدُهما عبداً، فالكلُّ للحرّ في الحياة، وللحيِّ بعد الموت.
فصل [فيمن لا يكون خصماً]
ولو قال ذو اليد: هذا الشَّيء أودعنيه، أو أعارنيه، أو آجرنيه، أو رهنيه زيد، أو غصبتُهُ منه، وبرهنَ عليه، سقطت خصومةُ المدَّعي، وإن قال: اشتريتُهُ من الغائب، وقال المدَّعي: غصبتُه، أو سرقتُه، أو سُرِقَ منِّي لا، وإن بَرْهَنَ ذو اليد على إيداع زيد
(وإن ماتَ أحدُهما، فالمشكلُ للحيّ)، المرادُ بالمشكلِ ما يصلحُ للرِّجالِ والنِّساء، فهو للحيِّ مع يمينِه هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وقال أبو يوسف رضي الله عنه: يدفعُ إلى المرأةِ ما يُجَهَّزُ به مثلُها، والباقي للزَّوج مع يمينِه، والحياةُ والموتُ سواءٌ لقيامِ الورثة مقامَ المورِّث، وعند محمَّدٍ رضي الله عنه: إن كانا حيَّيْنِ فكما قال أبو حنيفةَ رضي الله عنه، وبعد الموتِ ما يصلحُ لهما لورثةِ الزَّوج.
(وإن كان أحدُهما عبداً، فالكلُّ للحرّ في الحياة، وللحيِّ بعد الموت)، وعندهما: العبدُ المأذونُ والمكاتَبُ كالحرّ.
فصل [فيمن لا يكون خصماً]
(ولو قال ذو اليد: هذا الشَّيء
(1)
أودعنيه، أو أعارنيه، أو آجرنيه، أو رهنيه زيد، أو غصبتُهُ منه، وبرهنَ عليه، سقطت خصومةُ المدَّعي)؛ لأَنَّ يدَ هؤلاء ليستْ يدَ خصومة.
(وإن قال: اشتريتُهُ من الغائب، وقال المدَّعي: غصبتُه، أو سرقتُه، أو سُرِقَ منِّي لا، وإن بَرْهَنَ ذو اليد على إيداع زيد)؛ لأنَّ ذا اليدِ إذا قال: اشتريتُهُ من الغائب، فقد أقرَّ أن يدَهُ يدَ خصومة، فلا يسقطُ عنه الخصومة، كذا إذا ادَّعى المدَّعي الفعل على ذي اليد كما إذا قال: غصبتُهُ منِّي، أو سرقتُهُ منِّي لا يسقطُ عنه الخصومة، وكذا إذا قال: سَرَقَ منِّي، وقال ذو اليد: أودعنيه فلانٌ لا يسقط عنه
(2)
الخصومةُ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه، وعند محمَّد رضي الله عنه يسقطُ.
(1)
ظاهر قوله: هذا الشيء؛ أنّه قائم؛ لأنَّ الإشارةَ الحسيَّة لا تكون إلاَّ إلى موجود في الخارجِ فمفهومِه أنّه لا تندفعُ لو كان المدَّعي هالكاً. ينظر: «العناية» (7: 226).
(2)
زيادة من ب و م.
كما لو قال الشُّهودُ: أودعَهُ مَن لا نعرفه بخلافِ قولهم نعرفُهُ بوجهِهِ لا باسمِهِ ونسبِه، ولو قال: ابتعته من زيدٍ، وقال ذو اليد: أودعنيه هو، سقطت بلا حجَّةٍ إلا إذا بَرْهَنَ المدَّعي أن زيداً وكَّلَهُ بقبضه
(كما لو قال الشُّهودُ: أودعَهُ مَن لا نعرفه)، فإنَّه لا تندفعُ الخصومةُ؛ لاحتمال أن يكونَ المدَّعي هو الذي أودعَه عنده، (بخلافِ قولهم نعرفُهُ بوجهِهِ لا باسمِهِ ونسبِه)، تسقط الخصومةُ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، فإنَّ الشَّهودَ عالمونَ بأنَّ المودعَ ليس هو الذي
(1)
يدَّعي، وعند محمَّد رضي الله عنه: لا يسقطُ الخصومة حيث لم يذكروا شخصاً معيَّناً أودعه عنده.
(ولو قال: ابتعته من زيدٍ): أي قال المدَّعي: اشتريتُهُ من زيد، (وقال ذو اليد: أودعنيه هو، سقطت بلا حجَّةٍ إلا إذا بَرْهَنَ المدَّعي أن زيداً وكَّلَهُ بقبضه)، فإن المدَّعي إذا قال: إنَّه اشتراهُ من زيد، فقد أقرَّ أنَّه وَصَلَ إلى ذي اليد من جهتِه، فلا يكون يدُهُ خصومة، إلاَّ إذا أثبت الوكالةَ بقبضِه.
هذه المسائلُ تسمَّى مخمسةُ كتاب الدَّعوى؛ لأنَّها خمسُ صور، فهي: الإيداع، والإعارة، والإجارة، والرَّهن، والغصب، وأيضاً فيها خمسةُ أقوال:
فعند ابن شُبْرُمة
(2)
: لا تندفعُ الخصومة
(3)
.
وعند ابن أبي ليلى: يندفع بلا بيِّنة
(4)
.
وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه: إن كان ذو اليد رجلاً صالحاً يندفع الخصومة لا إن كان معروفاً بالحيل؛ لإمكان أن يدفعَ ما في يده إلى مَن يغيبُ عن البلد، ويقولُ له: أودعْهُ عندي بحضرة الشهود كيلا يمكنَ لأحدٍ الدَّعوى عليَّ.
(1)
زيادة من أ.
(2)
وهو عبد الله بن شُبْرُمة بن الطُّفيل بن حسّان الضبي الكوفي، التابعي، أبو شُبْرُمة، كان قاضياً لأبي جعفر المنصور على سواد العراق، قال حماد بن زيد: ما رأيت كوفياً أفقه من ابن شُبْرُمة. وقال الثوري: كان ابن شبرمة عفيفاً، حزماً عاقلاً، فقيهاً، يشبه النساك، ثقة في الحديث، شاعراً، حسن الخلق، جواداً. (92 - 144 هـ). ينظر:«تهذيب الأسماء» (1: 272). «طبقات الشيرازي» (ص 85). «التقريب» (ص 249).
(3)
أي لا يخرج عن الخصومة بإقامة البينة؛ لأنه خصم بيده، فصار مناقضاً في دفع الخصومة عن نفسه. ينظر:«الدرر» (2: 342).
(4)
أي يخرج منها بمجرد قوله بغير بينة إذ لا تهمة فيما يقرّ به على نفسه. ينظر: «درر الحكام» (2: 343).
باب دعوى الرجلين
حجَّةُ الخارجِ في الملكِ المطلقِ أحقُّ من حجَّة ذي اليد، وإن وقَّتَ أحدُهما فقط، ولو بَرْهَنَ خارجان على شيءٍ قُضِي به لهما، فإن بَرْهَنا في نكاحٍ سقط
وعند محمَّد رضي الله عنه: لا يندفعُ إذا قالوا: نعرفُهُ بوجهِه لا باسمِهِ ونسبِه.
وعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه يندفعُ الخصومةُ بالبيِّنة كما ذَكَرْنا.
باب دعوى الرجلين
(حجَّةُ الخارجِ في الملكِ المطلقِ أحقُّ من حجَّة ذي اليد، وإن وقَّتَ أحدُهما فقط
(1)
)، اعلم أن حجَّةَ الخارجِ عندنا أحقُّ من حجَّة ذي اليد، وعند الشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه حجَّةُ ذي اليدِ أحقّ، ثُمَّ إن وقَّت أحدُهما فقط، فعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّد رضي الله عنه الخارجُ أحقُّ، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه صاحبُ الوقتِ أحقّ
(3)
.
(ولو بَرْهَنَ خارجان على شيءٍ قُضِي به لهما)، هذا عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ
(4)
رضي الله عنه تهاترت
(5)
البيِّنتان.
(فإن بَرْهَنا في نكاحٍ سقط)؛ لامتناعِ الجمعِ بينهما بخلاف الملك، فإن الشَّركةَ فيه ممكن.
(1)
أي سواءً لم يوقِّتا أو وقَّتا وقتاً مستوياً، أو وقَّت أحدُهما فقط، أمّا لو وقَّتا وأحدُهما أسبق فيقدَّم. وقال البِرْجَنْدِيُّ: والأظهرُ أن يقال: وإن وقَّتَ ذو اليد. انتهى. فتدبَّر فيه. ينظر: «حاشية الطحطاويُّ (3: 310).
(2)
ينظر: «التنبيه» (ص 158)، و «المحلي» (4: 345)، و «تحفة المحتاج» (10: 327)، و «نهاية المحتاج» (8: 362)، وغيرها.
(3)
في «جامع الفتاوى» : وينبغي أن يفتى بقول أبي يوسفَ رضي الله عنه؛ لأنّه أرفق وأظهر. ينظر: «المنح» (ق 2: 170/ب)، و «رد المحتار» (5: 571).
(4)
ينظر: «التنبيه» (ص 158)، و «روض الطالب» وشرحه «أسنى المطالب» (4: 394) وغيرها.
(5)
تهاترت؛ الهِتر بالكسر، السقطُ من الكلام والخطأ منه، ومنه قيل: تَهَاتَرَ الرَّجلان إذا ادّعى كلٌ واحدٍ على الآخر باطلاً، ثم قيل: تَهَاتَرَت البيِّنات إذا تساقطت وبطلت. ينظر: «المصباح» (ص 633).
هي لمن صدّقتُهُ وإن أرَّخا فالسَّابقُ أحقّ، فإن أقرَّت لمَن لا حجَّةَ له فهي له، فإن بَرْهَنَ الآخرُ قُضِي له، ولو بَرْهَنَ أحدُهما وقُضِي له، ثُمَّ بَرْهَنَ الآخرُ لم يقضَ له إلا إذا ثَبَتَ سبقُه، كما لم يقضْ بحجَّةِ الخارجِ على ذي يدِ ظَهَرَ نكاحُهُ إلاَّ إذا أثبتَ سبقَه، فإن بَرْهَنا على شراءِ شيءٍ من ذي يد، فلكلٍّ نصفُهُ بنصفِ الثَّمنِ، أو تَرْكُه، وبترك أحدِهما بعدما قَضَى لهما لم يأخذ الآخرُ كلَّه. وهو للسابق إن أرَّخا، ولذي يدٍ إن لم يؤرِّخا، أو أرَّخ أحدُهما، ولذى وقت إن وقَّتَ أحدُهما فقط ولا يدَ لهما
(وهي
(1)
لمن صدّقتُهُ وإن أرَّخا فالسَّابقُ أحقّ، فإن أقرَّت لمَن لا حجَّةَ له فهي له، فإن بَرْهَنَ الآخرُ قُضِي له، ولو بَرْهَنَ أحدُهما وقُضِي له، ثُمَّ بَرْهَنَ الآخرُ لم يقضَ له إلا إذا ثَبَتَ سبقُه، كما لم يقضْ بحجَّةِ الخارجِ على ذي يدِ ظَهَرَ نكاحُهُ إلاَّ إذا أثبتَ سبقَه): أي إذا كانت امرأةٌ في يدِ رجلٍ ونكاحُهُ ظاهر، وادَّعى الخارجُ أنَّها زوجتُه، وأقامَ البيِّنةَ لم يقضَ له إلاَّ إذا أثبتَ أن نكاحَهُ سابق.
(فإن بَرْهَنا على شراءِ شيءٍ من ذي يد، فلكلٍّ نصفُهُ بنصفِ الثَّمنِ، أو تَرْكُه)
(2)
: أي لكلٍّ واحدٍ منهما الخيار إن شاء أخذَ نصفَ ذلك الشَّيء بنصفِ الثَّمن، وإن شاءَ تَرَك، (وبترك أحدِهما بعدما قَضَى لهما لم يأخذ الآخرُ كلَّه.
وهو للسابق إن أرَّخا): أي ذَكَرا للشَّراءِ من ذي اليدِ تاريخاً، (ولذي يدٍ إن لم يؤرِّخا، أو أرَّخ أحدُهما
(3)
، ولذى وقت إن وقَّتَ أحدُهما فقط ولا يدَ لهما): أي إن أرَّخا فالسَّابقُ أحقُّ، وإن لم يؤرِّخا، أو أرَّخ أحدُهما، فإن كان في يدِ أحدِهما فذو اليدِ
(1)
أي المرأةُ لمَن صدَّقته؛ لأنَّ النكاح ممَّا يحكمُ به بتصادق الزوجين، وهذا إذا لم تكن المرأةُ المتنازعُ فيها في يدِ مَن كذَّبته، ولم يكن دخلَ بها مَن كذَّبته، وأمّا إذا كان في يد الآخر، أو دخلَ بها فلا اعتبارَ بالتصديق؛ لأنّه دليلٌ على سبقِ عقده. ينظر:«المنح» (ق 2: 170/ب-171/أ).
(2)
لأنّه صار في النصفِ مقضيّاً عليه، فانفسخَ البيعُ فيه، وإنّما قلنا ذلك؛ لأنّه ببيِّنته استحقَّ جميعَه، وكان يُسَلَّم له لولا بيِّنةُ صاحبه، ولمّا قضى القاضي بينهما صارَ مستحقّاً عليه، وانفسخَ البيع في النصف، فلا يكون له أن يأخذَه بعد الانفساخ، بخلاف ما لو تركَ أحدُهما قبل القضاء به بينهما حيث يكون للآخر أن يأخذَ جميعَه؛ لأنّه أثّبت ببيّنةٍ أنّه اشترى الكلّ، وإنّما يرجعُ إلى النصفِ بالمزاحمةِ ضرورةَ القضاءِ به بينهما ولم يوجد. ينظر:«التبيين» (4: 317).
(3)
لأنّ تمكُّنَه من قبضهِ دليلٌ على سبقِ شرائه؛ لأنّهما استويا في الإثبات، فلا تنتقض اليدُ الثابتة بالشكّ. ينظر:«البحر» (7: 239)
والشِّراءُ أحقُّ من هبةٍ وصدقةٍ مع قبض، والشِّراءُ والمهرُ سواء، ورهنٌ مع قبضٍ أحقُّ من هبةٍ معه. فإن بَرْهَنَ خارجان على ملكٍ مؤرَّخ، أو شراءٍ مؤرَّخ من واحد، أو خارجٌ على ملك مؤرَّخ، وذو يدٍ على ملكٍ أقدم، فالسَّابق أحقّ. وإن بَرْهَنا على شراءِ شيء متَّفقٌ تاريخهما من آخر، أو وقَّتَ أحدُهما فقط استويا، فإن بَرْهَنَ خارجٌ على الملك، وذو اليدِ على الشَّراءِ منه، أو برهَنا على سببِ ملك لا يتكرَّر كالنتاج، وحلبِ لبن، واتخاذِ جُبْن، أو لِبْد أو جزِّ صوف
أوَّلى، وإن لم يكنْ في يدِ أحدِهما، فإن وقَّتَ أحدُهما، فهو أحقّ، وإن لم يوقِّتْ أحدُهما فقد مرَّ أن لكلٍّ نصفَهُ بنصفِ الثَّمن، أو تركَه.
(والشِّراءُ أحقُّ من هبةٍ وصدقةٍ مع قبض): أي قال أحدُهما: اشتريتُهُ من زيد، وقال الآخر: وهبَ لي زيدٌ وقبضتُه، أو تصدَّقَ عليَّ زيد، وقبضتُه، فبرهنا، فمدَّعي الشِّراءُ أحقّ.
(والشِّراءُ والمهرُ سواء، ورهنٌ مع قبضٍ أحقُّ من هبةٍ معه.
فإن بَرْهَنَ خارجان على ملكٍ مؤرَّخ
(1)
، أو شراءٍ مؤرَّخ من واحد
(2)
، أو خارجٌ على ملك مؤرَّخ، وذو يدٍ على ملكٍ أقدم، فالسَّابق أحقّ.
وإن بَرْهَنا على شراءِ شيء
(3)
متَّفقٌ تاريخهما من آخر): أي قال أحدُهما: اشتريتُهُ من زيد، وقال الآخرُ: اشتريتُهُ من عمرو، وذكرا تاريخاً، (أو وقَّتَ أحدُهما فقط استويا)، فالحاصلُ: أنَّه إذا وقّتَ أحدُهما فقط، وتلقَّيا من واحد، فصاحبُ الوقتِ أحقّ، وإن تلقيا من اثنتين فهما سواء.
(فإن بَرْهَنَ خارجٌ على الملك، وذو اليدِ على الشَّراءِ منه، أو برهَنا على سببِ ملك لا يتكرَّر كالنتاج، وحلبِ لبن، واتخاذِ جُبْن، أو لِبْد
(4)
أو جزِّ صوف،
(1)
يعني إذا ادّعيا ملكاً في آخر وأقاما البيّنة وأرّخا فصاحب الأسبق أولى، ينظر:«شرح ابن ملك» (ق 118/ب).
(2)
يعني إذا ادّعيا الشراء من واحد غير ذي اليد وأقاما البيّنة على التاريخين، فالأول أولى، وقيدنا بقولنا: غير ذي اليد؛ لئلا يلزم التكرار؛ لأنه قال فيما سبق وإن برهنا على شراء شيء من ذي اليد. ينظر: «شرح ابن ملك» (ق 118/ب).
(3)
زيادة من م.
(4)
لِبْد: ما يَتَلَبَّدُ من شعر أو صوف. ينظر: «المصباح» (ص 548).
فذو اليد أحقّ. ولو بَرْهَنَ كلٌّ على الشِّراءِ من الآخرِ بلا وقتٍ سقطا، وتُرِكَ المالُ في يدِ مَن معه
فذو اليد أحقّ
(1)
.
ولو بَرْهَنَ كلٌّ على الشِّراءِ من الآخرِ بلا وقتٍ سقطا، وتُرِكَ المالُ في يدِ مَن معه): أي بَرْهَنَ كلُّ واحدٍ من ذي اليد، والخارج على الشَّراء من صاحبه، ولم يذكرا تاريخاً، سقطت البيِّنتان، وتُرِكَ المالُ في يدِ صاحبِ اليد، وعند محمَّد رضي الله عنه يقضى للخارج كان ذا اليدِ اشتراه أوَّلاً، ثُمَّ باعَهُ من الخارج، ولا يعكس؛ لأنَّ البيعَ قبلَ القبضِ لا يجوز، وإن كانَ في العقارِ عند محمَّد رضي الله عنه، وإنِّما قال: بلا وقتٍ حتَّى لو أرَّخا، ففيه تفصيلٌ مذكورٌ في «الهداية»
(2)
فطالعها إن شئت.
واعلم أنَّ صاحبَ «الهداية»
(3)
ذَكَرَ هذه المسائل من غير ضبط، وإنِّي جمعتُها من «الذَّخيرة» مضبوطةً موجزة، فأقول:
إن بَرْهَنَ المدَّعيان، فإن كان تاريخُ أحدِهما سابقاً، فهو أحقّ، وإن لم يكن، فإن كان كلُّ منهما ذا يد، فهما متساويان، وكذا إن كان كلّ منهما خارجاً في الملكِ المطلق، وهذا إذا لم يؤرِّخا، أو أرَّخَ أحدُهما، أو أرَّخا ولم يكن أحدُهما سابقاً حتِّى إن كان، فقد مرَّ أن السَّابق أحقُّ، وكذا في الملك بسببٍ إلاَّ إذا تلقَّيا من واحد وأرَّخَ أحدُهما فقط، فإنَّه أحقّ.
وإن كان أحدُهما ذا يدٍ والآخر خارجاً، فالخارجُ أحقُّ في الملكِ المطلقِ شاملاً للصُّورِ المذكورة
(4)
، إلا إذا ادَّعيا مع الملكِ المطلق فعلاً كما إذا قال: هو عبدي أعتقتُه، أو دبَّرتُهُ، فذو اليد أحقّ، بخلاف ما إذا قال: كلُّ واحدٍ هو عبدي كاتبته، فهما سواءٌ لأنَّهما خارجان إذ لا يد على المكاتب، ولو قال أحدُهما: هو عبدي كاتبتُه، وقال الآخر: دبَّرتُه، أو اعتقتُه، فهذا أولى.
(1)
أي إذا برهنا كلّ واحد منهماٍ على أنّ هذه الدّابةَ نتجت وولدت عنده، أو على أنّ اللَّبن له وملكه، حلبَ في يده من شاته، أو على أنَّ هذا الجبن له صنعَه في ملكه، أو على أنّ هذا اللِّبْدَ له صنعه في ملكه، أو على أنّه قطعَ هذا الجزّ من غنمه، فصاحبُ اليد أولى، سواء أقامَ صاحبُ اليدِ بيِّنةً على دعواه قبل القضاء بها للخارج أو بعده، أمّا قبله فظاهر. ينظر:«البحر» (7: 243).
(2)
الهداية» (3: 171).
(3)
الهداية» (3: 171).
(4)
وهي ما إذا لم يؤرِّخا أو أرَّخَ أحدُهما أو أرَّخا ولم يكن أحدُهما سابقاً.
ولا يرجَّحُ بكثرةِ الشُّهود، ولو ادِّعى أحدُ خارجينِ نصفَ دار، والآخرُ كلَّها، فالرُّبعُ للأَوَّل، وقالا: الثُّلُث، والباقي للثَّاني، وإن كانت معهما، فهي للثَّاني نصفٌ بقضاء، ونصفٌ لا به
فالضابط أنَّ كلَّ بيِّنةٍ تكونَ أكثرَ إثباتاً، فهي أحقّ، هذا في الخارج وذي اليد في الملكِ المطلق، وأمَّا في الملكِ بسبب، فإن ذَكَرَا سبباً واحداً، فإن تلقَّيا من واحدٍ، فذو اليدِ أحقّ، وإن تلقَّيا من اثنين فالخارجُ أحقّ شاملاً للصُّور المذكورة، وإن ذَكَرَا سببينِ كالشَّراء، والهبة، وغير ذلك، يُنْظَرُ إلى قوّةِ السَّببِ كما في «المتن»
(1)
.
(ولا يرجَّحُ بكثرةِ الشُّهود): فإنِّ التَّرجيحَ عندنا بقوّةِ الدَّليل لا بكثرتِه.
(ولو ادِّعى أحدُ خارجينِ نصفَ دار، والآخرُ كلَّها، فالرُّبعُ للأَوَّل، وقالا: الثُّلُث، والباقي للثَّاني)، اعلم أن أبا حنيفةَ رضي الله عنه اعتبرَ في هذه المسألة طريقَ المنازعة، وهو أن النَّصفَ سالمٌ لمدَّعي الكلِّ بلا منازعة، بقي النِّصفُ الآخر، وفيه منازعتُهما على السَّواء، فينصَّف، فلصاحبُ الكلِّ ثلاثةُ أرباع، و لصاحب النِّصف الرُّبع.
وهما: اعتبرا طريقَ العَول
(2)
والمضاربة
(3)
، وإنِّما سمِّي بهذا؛ لأن في المسألةِ كلاً، ونصفاً، فالمسألةُ من اثنين، وتعول إلى ثلاثة، فلصاحبِ الكلِّ سهمان، ولصاحبِ النِّصف سهم، هذا هو العول، وأمَّا المضاربةُ فإن كلَّ واحدٍ يضربُ
(4)
بقدرِ حقِّه، فصاحبُ الكُلِّ له الثُلُثان من الثَّلاثة، فيضربُ الثُلُثين في الدَّار، فيحصل له ثلثاً الدَّار، وصاحبُ النِّصفِ له ثُلُثٌ من الثَّلاثة، فيضربُ الثُلُثَ في الدَّار، فيحصلُ له ثُلُثُ الدَّار؛ لأنَّ ضربَ الكسورِ بطريقِ الإضافة، فإنَّه إذا ضَرَبَ الثُلُثَ في السِتَّة، معناه ثُلُثُ السِتَّة، وهو اثنان.
(وإن كانت معهما، فهي للثَّاني نصفٌ بقضاء، ونصفٌ لا به)، فإنَّ الدارَ إذا
(1)
ومثله في «إيضاح الإصلاح» (ق 121/ب).
(2)
العَول: وهو أن ترتفعَ السهامُ وتزيدُ فيدخل النقصانُ على أهلِها، كأنّها عالت عليهم فنقصتُهم. ينظر:«المغرب» (ص 332).
(3)
يعني إنّ لكلِّ واحدٍ من المدعيين حقّاً في العين على معنى أنَّ حقَّ كلٍّ منهما شائعٌ فيها، فما من جزءٍ إلا وصاحبُ القليلِ يزاحم فيه صاحب الكثير بنصيبه؛ فلهذا كانت القسمةُ فيه بطريق العول، فيضرب كلٌّ منهما بجميعِ دعواه، فاحتجنا إلى عددٍ له نصفٌ صحيح، وأقلُّه اثنان، فيضرب بذلك صاحبُ الجميع، ويضرب مدَّعي النصف بسهم، فيكون بينهما أثلاثاً. ينظر:«العناية» (8: 277).
(4)
قال الفقهاء: فلانٌ يضربُ فيه بالثُلُث: أي يأخذ منه شيئاً بحكم ما له من الثُلُث. ينظر: «المغرب» (ص 281).
وإن بَرْهَنَ خارجان على نتاجِ دابة، وأرَّخا، قَضَى لمن وافقَ تاريخُهُ ووقته سنَّها، وإن أشكلَ فلهما، فإن بَرْهَنَ أحدُ الخارجينِ على غَصْبِ شيءٍ، والآخرُ على وديعتِهِ استويا.
[فصل في التنازع بالأيدي]
واللابسُ أحقُّ من آخذِ الكمّ، والرَّاكبُ من آخذ اللِّجام، ومَن في السَّرجِ من رديفِه، وذو حملها ممَّن علَّق كوزَه منها
كانت في يدهما يكون النِّصفُ في يدِّ كلٍّ منهما، فالنِّصفُ الذي في يدِ مدَّعي الكلِّ لا يدَّعيه أحد، فيتركُ في يدِه، والنِّصفُ الذي في يدِ مدَّعي النِّصفِ يدَّعيه كلُّ (واحد)
(1)
منهما، فمدَّعي الكلِّ خارج، وبيِّنةُ الخارجِ أَولى.
(وإن بَرْهَنَ خارجان على نتاجِ دابة، وأرَّخا، قَضَى لمن وافقَ تاريخُهُ ووقته سنَّها، وإن أشكلَ فلهما)، أمَّا إذا خالفَ سنَّها التَّاريخين، بطل البيِّنتان، وتركَ الدَّابةَ مع ذي اليد.
(فإن بَرْهَنَ أحدُ الخارجينِ على غَصْبِ شيءٍ، والآخرُ على وديعتِهِ استويا)، ادَّعى أحدُ الخارجين على ذي اليدِ أنَّك غصبتَ هذا الشَّيء منِّي، والآخرُ ادَّعى أنّي أودعتُ هذا الشَّيء عندك، وبَرْهَنا، يُنَصَّفُ بينهما لاستوائهما، فإن المودعَ إذا جحدَ الوديعةَ صارَ غاصباً.
[فصل في التنازع بالأيدي]
(واللابسُ أحقُّ من آخذِ الكمّ، والرَّاكبُ من آخذ اللِّجام، ومَن في السَّرجِ من رديفِه، وذو حملها ممَّن علَّق كوزَه منها)
(2)
: أي صاحبُ اليدِ في هذه الصُّور، هو الأَوَّل.
(1)
زيادة من أ.
(2)
يعني إذا تنازعا في قميصٍ أحدهما لابسُه، والآخر آخذٌ بكمِّه، فاللاّبسُ أولى من الآخذ، وكذا إذا تنازعا في دابّةٍ أحدُهما راكبُها والآخر آخذٌ لجامها، فالراكبُ أولى من الآخذ؛ لأنَّ تصرّف اللابسِ والراكبِ أظهر، فإنّه يختصُّ بالملك، فكانا صاحبا يد، والمتعلِّقُ خارج، فكانا أولى، بخلاف ما إذا أقاما البيّنة حيث تكون بيّنةُ الخارجِ أولى؛ لأنّها حجّةٌ مطلقاً، وبيِّنة الخارجِ أكثرُ إثباتاً، وأمّا التعلِّقُ والأخذُ ليس بحجّة، وكذا التصرُّف، لكنّه يستدلُّ بالتمكُّن من التصرُّف على أنّه كان في يده، واليدُ دليلُ الملك، حتى جازت الشهادةُ له بالملك، فيتركُ في يده حتى تقومَ الحجج والتراجيح. وكذا لو كان أحدُهما راكباً على السرج، والآخرُ رديفاً له كان الرّاكب أولى؛ لأنَّ تمكُّنه من ذلك الموضعِ دليلٌ على تقدُّم يده، بخلافِ ما إذا كانا راكبين على السرج، حيث يكون بينهما؛ لاستوائهما في التصرُّف. ينظر:«التبيين» (4: 325).
وجالسِ البساطِ والمتعلِّقِ به سواء كمَن معه ثوبٌ وطرفُهُ مع آخر. والقولُ لصبيٍّ يُعَبِّرُ في أنا حرّ، وإن قال: أنا عبدُ فلانٍ قُضِي لمَن معه كمَن لا يُعَبِّر، والحائطُ لمَن جذوعُهُ عليه، أو متَّصلٌ ببنائِهِ اتّصالَ تربيعٍ لا لمن له عليه هَرَادِيّ، بل هو بين الجارين
(وجالسِ البساطِ والمتعلِّقِ به سواء كمَن معه ثوبٌ وطرفُهُ مع آخر
(1)
.
والقولُ لصبيٍّ يُعَبِّرُ في أنا حرّ، وإن قال: أنا عبدُ فلانٍ قُضِي لمَن معه كمَن لا يُعَبِّر)، المرادُ بالتَّعبيرِ أن يتكلَّم، ويعقلَ ما يقول، وإن كان معبِّراً ويقولُ: أنا حرّ، فالقولُ قولُه؛ لأنَّهُ في يدِ نفسِه، ولو قال: أنا عبدُ زيدٍ وهو في يدِ عمرو كان عبداً لعمرو؛ لأنَّه لَمَّا أقرَّ أنَّه عبدٌ أقرَّ أنَّه ليس في يدِ نفسِه، فيكونُ عبداً لصَّاحب اليد، وإن لم يكن معبِّراً، ويقول: أنا حرّ، لا يكونُ في يدِ نفسِه، فيكونُ عبداً لصاحبِ اليد.
أقول: اليدُ على الإنسانِ ليس دليلاً ظاهراً على الملك، فإن مَن رأى إنساناً في يدِ آخر، يتصرَّفُ فيه تصرُّفَ المُلاّك، لا يجوزُ أن يشهدَ
(2)
أنَّه ملكه، فإنَّ الأصلَ في الإنسانِ الحريّة
(3)
، فكون الصَّبيِّ الذي لا يُعَبِّرُ عبداً لصاحبِ اليدِ مشكل.
(والحائطُ لمَن جذوعُهُ
(4)
عليه، أو متَّصلٌ ببنائِهِ اتّصالَ تربيعٍ)، اتصالُ التربيع: اتصالُ جدارٍ بجدارٍ بحيث يتداخلُ لَبِناتُ هذا الجدارُ في لَبِناتِ ذلك، وإنِّما سمَّى اتّصالَ التَّربيع؛ لأنَّهما إنِّما يُبْنَيان ليحيطا مع جدارين آخرين بمكان مُرَبَّع، (لا لمن له عليه هَرَادِيّ)، المراد بالهَرَاديّ
(5)
: الخشباتُ التي توضعُ على الجذوع، (بل هو
(6)
بين الجارين
(1)
أي يكون بينهما نصفين لا طريق القضاء؛ ففي البساط الجلوس عليه ليس بيد فاستويا في عدم اليد، وفي الثوب وإن كان في يد أحدهم أكثر؛ لأن الزيادة ليست من جنس الحجة، فلا يوجب الرجحان. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 282).
(2)
فيه نظر؛ لأنّه قد صرَّح في (كتاب الشهادة) في هذا الكتاب، وفي جميع الكتبِ بأنَّ الرجلَ إذا رأى صبيّاً لا يعبّر عن نفسِهِ جازَ له أن يشهدَ أنّه له، على أنّه لا بدَّ له على نفسِه بحسبِ الشرع، فيكون لصاحبِ اليد، فتأمّل فيه. ينظر:«الزبدة» (3: 231).
(3)
الأصل في الإنسان الحرية يبطلُ إذا اعترضَ عليه ما يدلُّ على خلافه، وثبوتُ اليد دليلٌ على خلافِ ذلك الأصل؛ لأنّه دليلُ الملك، فيبطل به ذلك الأصل. ينظر:«الإيضاح» (ق 122/أ).
(4)
الجذوع: جمع جذع، وهو بالكسر: ساق النخلة، ويسمى سهم السقف جذعاً. ينظر:«المصباح المنير» (1: 148).
(5)
هَرَاديّ: هو أطراف القصب التي توضع على الحائط في البناء. ينظر: «طلبة الطلبة» (ص 120).
(6)
زيادة من ب و م.
لو تنازعا، وذو بيتٍ من دار كذي بيوت منها في حقِّ ساحتِها، أرضٌ ادَّعى رجلٌ أنَّها في يدِه، وآخر كذلك، وبَرْهَنا، قضى بيدهما، فإن بَرْهَنَ أحدُهما أو كان لبن فيها، أو بَنَى، أو حَفَر، قضى بيده.
باب دعوى النسب
مبيعةٌ وَلَدَتْ لأقلَّ من نصفِ حولٍ منذ بيعت، فادَّعى البائعُ الولدَ يثبت نسبُه منه وأُمِّيَتُها، ويفسخُ البيع، ويردُّ الثَّمنُ، وإن ادَّعاه المشتري مع دعوتِه، أو بعدها
لو تنازعا): أي إذا كان لأحدِهما عليه هَراديّ، ولا شيءَ للآخر عليه، فهو بينهما.
(وذو بيتٍ من دار كذي بيوت منها في حقِّ ساحتِها)
(1)
، بناءً على أن لا يرجِّح بكثرةِ العلَّة.
(أرضٌ ادَّعى رجلٌ أنَّها في يدِه، وآخر كذلك، وبَرْهَنا، قضى بيدهما، فإن بَرْهَنَ أحدُهما
(2)
أو كان لبن فيها، أو بَنَى، أو حَفَر، قضى بيده): فإنَّ الاستعمالَ دليلُ اليد.
باب دعوى النسب
(مبيعةٌ وَلَدَتْ لأقلَّ من نصفِ حولٍ منذ بيعت، فادَّعى البائعُ الولدَ يثبت نسبُه منه وأُمِّيَتُها، ويفسخُ البيع، ويردُّ الثَّمنُ، وإن ادَّعاه المشتري مع دعوتِه، أو بعدها)، هذا عندنا، وعند زُفَرَ رضي الله عنه والشَّافِعِيِّ رضي الله عنه دعوتُهُ باطلة؛ لأنَّ البيع اعترافٌ منه بأنَّها أمّة، فبالدَّعوة يصيرُ مناقضاً.
ولنا: إنَّ العلوقَ أمرٌ خفيٌّ فيُعْفَى فيه التَّناقض، وكونُ العلوقِ في يدِ البائعِ دليلٌ على أنَّه منه، وإنِّما قال: وإن ادَّعاهُ المشترى مع دعوتِه، أو بعدَها، حتَّى لو ادَّعى المشتري قبل دعوةِ البائعِ يثبتُ من المشتري، ويحملُ على أن المشتري نكحَها، واستولدها، ثُمَّ اشتراها.
(1)
أي تكون الساحة بينهم نصفين؛ لاستوائهما في استعمالها، وهو المرور فيها، والتوضّؤ، وكسر الحطب، ووضع الأمتعة، ونحو ذلك، فصارت نظير الطريق. ينظر:«الدرر» (2: 350).
(2)
وإن طلبَ كلُّ واحدٍ يمينَ صاحبه ما هي في يده حلف كلُّ واحدٍ منهما ما هي في يدِ صاحبِهِ على البتات، فإن حلفا لم يقضِ باليدِ لهما، وبرئ كلُّ واحدٍ منهما عن دعوى صاحبه، وتوقفُ الدَّارُ إلى أن يظهرَ حقيقةُ الحال، وإن نكلا قضى لكل واحداً منهما بالنصفِ الذي في يدِ صاحبه، وإن نكلَ أحدُهما قضى عليه بكلّها للحالفِ. ينظر:«الكفاية» (7: 273).
وكذا لو ادَّعاهُ بعدِ موتِ الأُمِّ بخلافِ موتِ الولدِ، ولو ادَّعاهُ بعد عتقِها يثبت نسبُهُ ويَرُدُّ حصَّتَهُ من الثَّمن، وبعد عتقِهِ رُدَّتْ دعواهُ، كما ولدَتْ لأكثرَ من نصفِ حول، وأقلَّ من سنتين، أو وَلَدَتْ لأكثرَ من سنتين، إلا إذا صدَّقَهُ المشتري، وإذا صدَّق، فَحُكْمُ القسمِ الثَّاني كالأَوَّل، وفي الثَّالثِ لم يبطلْ بيعُهُ
(وكذا لو ادَّعاهُ بعدِ موتِ الأُمِّ بخلافِ موتِ الولدِ): يعني إن ماتت الأمةُ والولدُ حيٌّ فادَّعاهُ البائع، وقد جاءت به لأقلِّ من ستَّةِ أشهرٍ يثبتُ النَّسبُ منه
(1)
، وإن ماتَ الولدُ لا؛ لأنَّ الولدَ أصلٌ في ثبوتِ النَّسب، قال صلى الله عليه وسلم:«أعتقها ولدها»
(2)
.
وإذا صحَّت الدَّعوةُ بعد موتِ الأمِّ فعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه يردُّ كُلَّ الثَّمن، وعندهما يردُّ حصَّةَ الولدِ لا حصَّةَ الأمّ.
(ولو ادَّعاهُ بعد عتقِها يثبت نسبُهُ ويَرُدُّ حصَّتَهُ من الثَّمن)
(3)
: أي لو ادَّعى البائعُ الولدَ أنَّه ولدُهُ بعدما أعتقَ المشتري الأمّ، وقد جاءت به لأقلَّ من نصفِ حولٍ يثبت نسبُ الولد، ويَرُدُّ البائعُ حصّةَ الولدِ من الثَّمن، بأن يقسِّمَ الثمنَ على قيمةِ الأُمِّ وقيمةِ الولد، فما أصابَ الولدَ يَرُدُّهُ البائعُ إلى المشتري، وما أصابَ الأمَّ لا يَرُدُّه.
(وبعد عتقِهِ رُدَّتْ دعواهُ): أي إذا ادَّعى البائعُ الولدَ بعدما أعتقَهُ المشتري رُدَّتْ دعوة البائع، (كما ولدَتْ لأكثرَ من نصفِ حول، وأقلَّ من سنتين، أو وَلَدَتْ لأكثرَ من سنتين): أي رُدَّتْ دعوةُ البائعِ إذا كانت المدَّةُ من وقتِ البيعِ إلى وقتِ الولادةِ أكثرَ من نصفِ حول، (إلا إذا صدَّقَهُ المشتري، وإذا صدَّق، فَحُكْمُ القسمِ الثَّاني كالأَوَّل، وفي الثَّالثِ لم يبطلْ بيعُهُ).
(1)
زيادة من أ.
(2)
تخريجه (2: 46).
(3)
صحح صاحب «الهداية» (3: 177): أنه يردُّ كل الثمن، والمصنّف رضي الله عنه اختارَ ما في «المبسوط» حيث قال: يردُّ حصَّته من الثمن لا حصّتها بالاتّفاق، وذكر الإتقانيُّ: إنَّ محمّد رضي الله عنه نصَّ عن الإمامِ في «الجامع الصغير» (ص 413): في الأصل إنَّ الولدَ يردُّ بالحصّة من الثمن، وكذا الكَرْخِيُّ والطحاويُّ كلّ منهما في «مختصره» (ص 355)، وكذا شمسُ الأئمّة البَيْهَقِيُّ في «الشامل» و «الكفاية» ، وأبو اللَّيثِ في «شرح الجامع الصغير» فظهرَ أنّ ما جرى عليه في «الهداية» (3: 177) مرجوح، وإن صحّحه، وكيف يستردُّ كلُّ الثمنِ والبيعُ لم يبطلْ في الجارية، حيث لم يبطلْ إعتاقه، بل يردُّ حصَّةَ الولد فقط، وأيَّدَهم عزمي زاده في «النتائج» (7: 282)، والزَّيْلَعِيّ في «التبيين» (4: 330 - 331).
وهي أُمُّ وَلَدِهِ نكاحاً، ولو باعَ من وُلِدَ عندَه، ثُمَّ ادَّعاهُ بعد بيعِ مشتريه صحَّ نسبُه، وَرُدَّ بيعُه، وكذا لو كاتبَ الولدَ أو الأُمّ، أو رَهَن، أو أجَّر، أو زوَّجَها، ثُمَّ ادَّعاه صحَّتْ الدِّعوةُ في حقِّ الأمِّ والولدِ جميعاً، وينقضُ هذه التَّصرّفات، ويردُّ الجاريةَ على البائع
القسمُ الأَوَّلُ: ما إذا ولدتْ لأقلَّ من نصفِ حولٍ من زمانِ البيع.
والثَّاني: ما إذا وَلَدَتْ لأكثرَ من نصفِ حولٍ وأقلَّ من سنتين.
والثَّالثُ: ما إذا وَلَدَتْ لأكثرَ من سنتين
(1)
.
ففي القسمِ الثَّاني: يثبتُ نسبُهُ وأُمِّيَّتُها، ويفسخُ البيعُ، ويردُّ الثَّمنَ كما في القسم الأَوَّل، (وهي أُمُّ وَلَدِهِ نكاحاً): أي أُمُّ الولدِ نكاحاً: هي أمةٌ وَلَدَتْ من زوجِها فملَكَها الزَّوج، أو أمةٌ ملَكُها زوجها فولَدَتْ فادَّعى الولدَ، وهاهنا يُحْمَلُ على هذا.
(ولو باعَ من وُلِدَ عندَه، ثُمَّ ادَّعاهُ بعد بيعِ مشتريه صحَّ نسبُه، وَرُدَّ بيعُه، وكذا لو كاتبَ الولدَ أو الأُمّ، أو رَهَن، أو أجَّر، أو زوَّجَها، ثُمَّ ادَّعاه صحَّتْ الدِّعوةُ في حقِّ الأمِّ والولدِ جميعاً، وينقضُ هذه التَّصرّفات
(2)
، ويردُّ الجاريةَ على البائع
(3)
).
اعلم أنَّ عبارةَ «الهداية» كذلك: ومَن باعَ عبداً وُلِدَ عنده، وباعَهُ المشتري من آخر، ثُمَّ ادَّعاه البائعُ الأَوَّل، فهو ابنُه، وبطلَ البيع؛ لأنَّ البيعَ يحتملُ النقضَ، وماله من حقِّ الدِّعوة لا يحتملُه، فينتقضُ البيعُ لأجلِه، وكذلك إذا كاتبَ الولدَ، أو رَهَنَه، أو أَجَّرَه، أو كاتبَ الأمّ، أو رَهَنَها، أو زَوَّجَها، ثُمَّ كانتَ الدِّعوة؛ لأنَّ هذه العوارضَ تحتملُ النَّقضَ، فينتقض ذلك كلُّه وتصحُّ الدَّعوةُ بخلافِ الاعتاقِ والتَّدبير على ما مرَّ
(4)
.
(1)
أي إن جاءت بولدٍ لأكثرَ من سنتين لا تصحُّ دعوةُ البائع إلا بتصديقِ المشتري، فإن صدّقه المشتري يثبتُ منه النسب، ولا ينتقضُ البيع، ولا تصير الجاريةُ أمّ ولد له، ويبقى الولدُ ملكاً للمشتري، وإن ادّعاه المشتري وحده، صحَّت دعوتُه، وكانت دعوتُه دعوةَ استيلاد، وإن ادّعياه معاً أو متعاقبان تصحّ دعوة المشتري. ينظر:«الفتاوي الهندية» (4: 115).
(2)
أي من الكتابةِ والرهن والإجارة والتزويج، والسرّ فيه: أنّ هذا التعويض يحتمل النقض فينتقض ذلك كلّه، وتصحُّ الدعوةُ من البائعِ بخلاف الإعتاقِ والتدبير، فإنّهما لا يحتملان النقض، وبخلاف ما إذا ادّعاه المشتري أوَّلاً ثمَّ ادّعاه البائع حيث لا يثبتُ النسبُ من البائع؛ لأنَّ النَّسبَ الثابتَ من المشتري لا يحتملُ النقض، فصار كإعتاقِه حيث يرجّح على حقّ البائع. ينظر:«الزبدة» (3: 234).
(3)
زيادة من أ و م.
(4)
انتهى من «الهداية» (3: 177).
ولو باعَ أحدَ توأمين وُلِدَا عنده، وأعتقَهُ مشتريه، ثُمَّ ادَّعى البائعُ الآخرَ ثَبَتَ نسبُهما منه، وبطلَ عتقُ المشتري، ولو قال لصبيٍّ معه: هو ابنُ زيد، ثُمَّ قال: هو ابني، لم يكنْ ابنُه، وإن جَحَدَ زيدٌ بنوّتَه
أقولُ: ضميرُ الفاعلِ في: كاتَب؛ إن كان راجعاً إلى المشتري، وكذا في قوله: أو كاتبَ الأُمَّ يصيرُ تقديرُ الكلام: ومَن باعَ عبداً وُلِدَ عنده، أو
(1)
كاتبَ المشتري الأُمّ، وهذا غيرُ صحيح؛ لأنَّ المعطوفَ عليه بيعُ الولدِ لا بيعُ الأُمّ، فكيف يصحُّ قولُه، أو كاتب المشتري الأُمّ، وإن كان راجعاً إلى مَن في قوله: ومَن باعَ عبداً؛ فالمسألةُ أن رجلاً كاتبَ مَن وُلِدَ عنده، أو رَهَنَه، أو أَجرَه، ثُمَّ كانت الدِّعوة، وحينئذٍ لا يحسن قولُهُ بخلافِ الإعتاق؛ لأنَّ مسألةَ الإعتاقَ التي مرَّت ما إذا أعتقَ المشتري الولد؛ لأنَّ الفرقَ الصَّحيح أن يكونَ بين إعتاق المشتري وكتابته، لا بين إعتاقِ المشتري وكتابة البائع.
إذا عرفتَ هذا فمرجعُ الضَّميرِ في كاتب الولدَ هو المشتري، وفي كاتبَ الأُمِّ من في قوله
(2)
: من باع
(3)
.
(ولو باعَ أحدَ توأمين وُلِدَا عنده، وأعتقَهُ مشتريه، ثُمَّ ادَّعى البائعُ الآخرَ ثَبَتَ نسبُهما منه، وبطلَ عتقُ المشتري)؛ لأنَّ من ضرورةِ ثبوتِ نسبِ أحدِهما ثُبُوتُ نسبِ الآخر، والتوأمانِ: ولدان بين ولادتِهما أقلُّ من ستَّةِ أشهر.
(ولو قال لصبيٍّ معه
(4)
: هو ابنُ زيد، ثُمَّ قال: هو ابني، لم يكنْ ابنُه، وإن جَحَدَ زيدٌ بنوّتَه): هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما: إن جَحَدَ زيدٌ بنوتَهُ يصيرُ ابناً
(1)
في ب و ص و ف: و.
(2)
زيادة من ف.
(3)
لكن يمكن توجيه عبارة صاحب «الهداية» : وهو أنّه يحتملُ أن يكون قوله: أو كاتبُ الأمّ؛ إشارة إلى مسألة أخرى، صدَّرها بمحذوف لانفهامه من السياق، وهو أنّه باعَ أمَّ مَن وُلِدَ عنده، وكاتَبَ المشتري فلم يتّجه الإيرادُ باختيارِ الشق الأوّل. وكذلك أن يقال: إنَّ المرجعَ فيهما المشتري، وقوله: لأنَّ المعطوف عليه بيعُ الولدِ لا بيعُ الأمّ، مدفوعٌ بأنَّ المتبادرَ بيعه مع أمِّه بقرينةِ سوق الكلام، ودليلُ كراهةِ التفريق بحديثِ سيّد الأنام عليه وعلى آله التحيّة والسلام، نعم؛ كان مقتضى ظاهرُ عبارةِ «الوقاية» أن يقال: بالنظر إلى قوله: بعد بيع مشتريه، وكذا بعد كتابةِ الولدِ ورهنه
…
الخ، لكنّه سهو، ينظر:«رد المحتار» (4: 445).
(4)
لا يشترطُ لهذا الحكم أن يكونَ الصبيُّ في يده، واشتراطُه في «الكتاب» وقعَ اتّفاقاً. ينظر:«التبيين» (4: 333).
ولو كان مع مسلمٍ وكافر، فقال المسلمُ: هو عبدي، وقال الكافر: هو ابني، فهو حرٌّ ابن للكافر، ولو قال زوجُ امرأةٍ لصبيٍّ معهما: هو ابني من غيرِها، وقالت: هو ابني من غيرِه، فهو ابنهما. ولو وَلَدَتْ أَمَةٌ مشرية، وادَّعى المشتري الولد، واسْتُحِقَّتْ غُرِّمَ الأبُ قيمةَ الولدِ يومَ يخاصم، وهو حرٌّ
للذي في يدِهِ الصَّبيّ؛ لأنَّ الإقرارَ في النَّسبِ يرتَّدُ بالرَّد
(1)
، وله: إنَّ النسبَ ممَّا لا يحتملُ النقض، والإقرارُ بمثله لا يرتدُ بالرَّدِّ
(2)
.
(ولو كان مع مسلمٍ وكافر، فقال المسلمُ: هو عبدي، وقال الكافر: هو ابني، فهو حرٌّ ابن للكافر)؛ لأنَّه ينالُ الحرّيةَ في الحال، والإسلام في المآل، إذ دلائلُ الوحدانية ظاهرة
(3)
، وفي عكسِهِ يثبتُ الإسلام بتبعيته، ويحرمُ عن الحرية، وليس في وسعه اكتسابها.
(ولو قال زوجُ امرأةٍ لصبيٍّ معهما: هو ابني من غيرِها، وقالت: هو ابني من غيرِه، فهو ابنهما
(4)
.
ولو وَلَدَتْ أَمَةٌ مشرية، (وادَّعى المشتري الولد)
(5)
، واسْتُحِقَّتْ غُرِّمَ الأبُ قيمةَ الولدِ يومَ يخاصم، وهو حرٌّ): أي ولدتْ أمة مشرية، وادَّعى المشتري الولدَ، ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ الأُمّ، فالولدُ حُرّ، ويضمنُ الأب، وهو المشتري قيمةَ الولدِ للمستحقّ؛ لأنَّ
(1)
أي أن الإقرار ارتدّ بردّ زيد فصار كأن لم يكن، والإقرار بالنسب يرتدّ بالردّ وإن لم يحتمل النقض. ينظر:«الدرر» (3: 353).
(2)
أي إن النسب ممَّا لا يحتملُ النقض بعد ثبوته، وهذا بالإتّفاق، والإقرارُ بما لا يحتملُ النقضَ لا يرتدُّ بالردّ، فيبقى في حقِّ نفسه؛ لأن إقرارَه حجّةٌ في حقِّ نفسه، كمن أقرّ بحرّية عبد الغير فكذّبه المولى، فإنه يبقى في حقِّ المقرّ، فلا يرتدُّ بإقرارِه حتى لو ملكه يوماً عتق عليه لإقراره بذلك. ينظر:«التبيين» (4: 334).
(3)
ورد عليه مخالفته لقوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221]، ودلائلُ التوحيد وإن كانت ظاهرةً لكن الألفةَ مع الكفار مانع قويّ، ألا ترى أنّ آباءه كفروا مع ظهور أدلّة التوحيد. وأجيب بأنَّ قوله تعالى:{ادْعُوهُم لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، يوجبُ دعوةَ الأولادِ لآبائهم، ومدّعي النسب أب؛ لأنَّ دعوتَه لا تحتملُ النقض، فتعارضَت الآيتان، وكفرُ الآباءِ جحود، والأصلُ عدمه، ألا ترى إلى انتشارِ الإسلامِ بعد الكفر في الآفاق. ينظر:«العناية» (7: 289)، و «المنح» (ق 2: 175/ب).
(4)
وفي المسألة تفصيل لطيف ذكره ابن عابدين في «حاشيته على الدر المختار» (4: 446 - 447).
(5)
زيادة من أ و ب و م.
فإن ماتَ الولدُ فلا شيءَ على أبيه، وترْكَتُهُ له، فإن قتلَهُ أبوه أو غيرُهُ غُرِّمَ الأبُ قيمتَه، ورجَعَ بها كثمنِها على بائعِهِ لا بالعقر.
ولدَ المغرورِ حُرٌّ بالقيمة، والمرادُ بالمغرورِ رجلٌ وطأَ امرأةً معتمداً على ملك يمين، أو نكاح فولدت، ثُمَّ اسْتُحِقَّت، وإنِّما سمِّي مغروراً؛ لأنَّ البائعَ غَرَّهُ وباعَ منه جاريةً لم يكن ملكاً له، وتعتبر قيمةُ الولدِ يوم الخصومة
(1)
.
(فإن ماتَ الولدُ فلا شيءَ على أبيه)؛ لعدم المنعِ منه، (وترْكَتُهُ له)
(2)
؛ لأنَّه حُرُّ الأصل، (فإن قتلَهُ أبوه أو غيرُهُ غُرِّمَ الأبُ قيمتَه، ورجَعَ بها كثمنِها على بائعِهِ لا بالعقر)، إن قتلَهُ الأبُ يضمنُ قيمتَهُ للمستحقّ، وكذا إن قتلَهُ غيرُه، فأخذ الأبُ ديتَه، فإن الدِّيةَ بدلٌ له، فسلامةُ البدلِ للأبِ كسلامةِ الولد، ثُمَّ مَنْعُ البدلِ من المستحقِّ كمنعِ الولد، وفيه القيمة، ويرجعُ بقيمتِهِ على البائعِ كما يرجعُ بثمنِها، ولا يرجعُ بالعقرِ الذي أَخَذَ منه المستحقّ؛ لأنَّه بدلُ استيفاءِ منفعةِ البضع. (والله أعلم بالصواب)
(3)
.
* * *
(1)
لأنّه يوم المنعِ والتحوّلِ من العين إلى القيمة؛ لأنّه لما علق رقيقاً في حقّ المولى كان حقّه في عين الولد، وإنّما يتحوّل إلى القيمةِ بالقضاء، فتعتبرُ قيمته وقت التحوّل. ينظر:«الزبدة» (3: 237).
(2)
ولا يغرم شيئاً؛ لأن الأرث ليس بعوض عن الولد فلا يقوم مقامه، فلا تجعل سلامة الإرث كسلامته. ينظر:«رد المحتار» (4: 447).
(3)
زيادة من ف.
كتاب الإقرار
هو إخبارٌ بحقٍّ لآخرَ عليه، وحكمُهُ ظهور المُقَرّ به لا إنشاؤه، فصحَّ الإقرارُ بالخمرِ للمسلم، لا بطلاق، أو عتق مكرهاً، ولو أقرَّ حرٌّ مُكَلَّفٌ بحقٍّ معلوم أو مجهولٍ صحّ، ولزمَهُ بيانُ ما جُهِلَ بما له قيمة، وصُدِّقَ المقرُّ مع حلفِهِ إن ادَّعى المقرُّ له أكثرَ منه، ولا يُصَدَّقُ في أقلَّ من درهم
كتاب الإقرار
(هو إخبارٌ بحقٍّ لآخرَ عليه، وحكمُهُ ظهور المُقَرّ به
(1)
لا إنشاؤه
(2)
، فصحَّ الإقرارُ بالخمرِ للمسلم
(3)
، لا بطلاق، أو عتق مكرهاً)، لمَّا كان حكمُ الإقرارِ الظُّهورِ لا الإنشاء، صحَّ الإقرارُ بالخمرِ للمسلم، ولا يصحُّ تمليكُ الخمر إيَّاه، ولا يصحُّ الإقرارُ بالطَّلاق والعتق مكرهاً، ولو كان إنشاءً يصحّ؛ لأنَّ طلاقَ المكره واعتاقُهُ واقعان عندنا
(4)
.
(ولو أقرَّ حرٌّ مُكَلَّفٌ بحقٍّ معلوم أو مجهولٍ صحّ، ولزمَهُ بيانُ ما جُهِلَ بما له قيمة)
(5)
، صحَّةُ الإقرارِ بالمجهولِ مبنيَّةٌ على أنَّه إخبارٌ لا إنشاءُ تمليك.
(وصُدِّقَ المقرُّ مع حلفِهِ إن ادَّعى المقرُّ له أكثرَ منه، ولا يُصَدَّقُ في أقلَّ من درهم
(1)
أي لزم على المقِرّ ما أقرَّ به؛ لوقوعه دليلاً على صدق المخبرِ به. ينظر: «فتح باب العناية» (3: 152).
(2)
جمع صاحب «البحر» ، و «التنوير» بين الطريقتين وكأن وجهتهم ثبوت ما استدل به الفريقان، فعرَّفه في «التنوير» (ص 168): إخبار بحق علي من وجه، إنشاء من وجه
…
ينظر: «رد المحتار» (4: 448).
(3)
إذ كان الإقرارُ إنشاء لما صحَّ الإقرارُ بالخمر للمسلم، لأنّ المسلمَ لا يصحُّ له تمليكُ الخمر، فلو أقرَّ بخمرٍ للمسلم يصحّ ويؤمرُ بتسليمها إذا طلب استردادها، ولو أقرَّ بخمرٍ مستهلك لمسلم لا يصحّ؛ لأنّه لا يجبُ للمسلم بدل الخمر. ينظر:«كمال الدراية» (ق 586).
(4)
وإنما خص الطلاق والعتاق بالذكر مع أن كلّ إقرار مع الإكراه غير صحيح؛ لأنه أراد أن يبيِّن أن الإقرار ليس بإنشاء. ينظر: «فتح باب العناية» (3: 152).
(5)
حتى لو امتنعَ عنِ البيان أجبره القاضي بما له قيمة؛ لأنّه أخبرَ عن الواجب في ذمّته، وما لا قيمة له لا يجب فيها كحبَّةٍ من الحنطة، فلا يقبل قوله، بل يحمل على الرجوع عن إقراره. ينظر:«كمال الدراية» (ق 587).
في: عليَّ مال، ومن النِّصاب في: عليّ مالٌ عظيمٌ من الذَّهب، أو من الفضة، ومن خمس وعشرين في الإبل، ومن قَدْرِ النِّصابِ قيمةً في غيرِ مالِ الزَّكاة، ومن ثلاثةِ نصب في أموالٍ عظام، ودراهم ثلاثة، ودراهم كثيرة: عشرة، وكذا درهماً: درهمٌ، وكذا كذا: أحدَ عشرَ، وكذا وكذا: أحد وعشرين، ولو ثَلَّثَ بلا واوٍ فأحدَ عشرَ، ومع واوٍ فمئةٌ واحدَ وعشرون، وإن رَبَّعَ زِيدَ ألفٌ
في: عليَّ مال، ومن النِّصاب
(1)
في: عليّ
(2)
مالٌ عظيمٌ من الذَّهب، أو من الفضة، ومن خمس وعشرين في الإبل، ومن قَدْرِ النِّصابِ قيمةً في غيرِ مالِ الزَّكاة، ومن ثلاثةِ نصب في أموالٍ عظام
(3)
، ودراهم ثلاثة
(4)
، ودراهم كثيرة: عشرة)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأن جمعَ الكثرة أقلُّه عشرة
(5)
، وعندهما لا يُصَدَّقُ في أقلِّ من النِّصاب.
(وكذا درهماً: درهمٌ
(6)
، وكذا كذا: أحدَ عشرَ، وكذا وكذا: أحد وعشرين): لأنَّ كذا كذا كنايةً عن العددين، وأقلُّ عددين يذكران بغير واوٍ أحدَ عشر، وأقلُّ عددينِ يذكران بالواو أحدَ وعشرون، (ولو ثَلَّثَ بلا واوٍ فأحدَ عشرَ)؛ لأنَّه لا نظيرَ للثَّلاثة بلا واو، فالأقربُ منه اثنانِ بلا واوٍ يعني أحدَ عشر، (ومع واوٍ فمئةٌ واحدَ وعشرون، وإن رَبَّعَ زِيدَ ألفٌ)
(7)
، يعني إن ربَّعَ لفظَ كذا مع الواو، فيكونُ ألفٌ ومئةٌ وأحدَ وعشرون.
(1)
قال شمسُ الأئمّة السَّرَخْسِيُّ رضي الله عنه: والأصحُّ على قولِ أبي حنيفةَ رضي الله عنه أنّه يبنى على حالِ المقرِّ في الفقر والغناء، فإنَّ القليلَ عند الفقيرِ عظيم، وأضعاف ذلك عند الغنيّ حقير. ينظر:«النتائج» (7: 306)
(2)
زيادة من أ و ب و م.
(3)
وينبغي على قياسِ ما رويَ عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن يعتبر فيه حال المقرّ. ينظر: «المنح» (ق 2: 178/أ).
(4)
يعني لو قال: له عليّ دارهم، فيلزمه ثلاثةُ دراهم؛ لأنّها أقلّ الجمع الصحيح، فصارت متيقَّنة، والزائدُ عليها مشكوك، إلاَّ أن يُبَيِّن أكثر منها؛ لأنَّ اللَّفظَ يحتمله، وينصرفُ إلى الوزن المعتادَ. ينظر:«الهداية» (2: 181).
(5)
جمع الكثرة: هو الذي يطلق على العشرة وما فوقها بغير قرينة، وما دونها بقرينة. وجمع القلة عكسه. ينظر:«الكليات» (ص 334).
(6)
يعني لو قال: له عليَّ كذا درهماً، يجب درهم؛ لأنَّ كذا مبهم ودرهماً تفسيره. ينظر:«الزبدة» (3: 240).
(7)
لأنّه أقلّ ما يعبَّرُ عنه بأربع أعدادٍ مع الواو، فيحملُ على الأقلِّ المتيقّنِ دون الأكثر، إذا الأصل في الذمم البراءة، ولو خمَّس يزاد عشرة آلاف، وكلَّما زاد عدداً معطوفاً بالواو، وزيد عليه ما جرت العادة به إلى ما لا يتناهى. ينظر:«البحر» (7: 251)
وعليَّ وقِبلي إقرارٌ بدين، وصُدِّقَ إن وَصَلَ به، هو وديعة، وإن فصلَ لا، وعندي، أو معي، أو في بيتي، أو في كيسي، أو في صندوقي أمانة. وقولُهُ لمدَّعي الألفَ: اتَّزنها، أو انتقدها، أو أجِّلني بها، أو قضيتكها، أو أبراتني منها، أو تصدَّقت بها عليّ، أو وهبتَها لي، أو أحلتُك بها على زيد إقرارٌ، وبلا ضميرٍ لا
(وعليَّ وقِبلي إقرارٌ بدين، وصُدِّقَ إن وَصَلَ به، هو وديعة، وإن فصلَ لا): لأنَّ ظاهرَهُ الإقرارُ بالدَّين، فقولُهُ: هو وديعة؛ يكونُ بيانُ تغييرٍ بتأويلِ أن عليه حفظَ الوديعة
(1)
، وهو يصحُّ موصولاً لا مفصولاً كالاستثناء والتَّخصيص.
(وعندي، أو معي، أو في بيتي، أو في كيسي، أو في صندوقي أمانة
(2)
.
وقولُهُ لمدَّعي الألفَ: اتَّزنها، أو انتقدها، أو أجِّلني بها، أو قضيتكها، أو أبراتني منها، أو تصدَّقت بها عليّ، أو وهبتَها لي، أو أحلتُك بها على زيد إقرارٌ، وبلا ضميرٍ لا)؛ لأنَّه إن لم يذكرْ الضَّميرَ يُحتملُ أن يرادَ: زن كلامَك بميزان العقل، أو انتقد كلامك، ولا تقل قولاً زيفاً.
وأجِّلني: يرادُ به أمهلني في الجواب.
وقضيتُ: يراد به حكمتُ بأنَّك كاذب.
وأبرأتني من أن لا تدَّعي عليّ.
وتصدَّقتَ عليَّ كثيراً، فما بالك تدَّعي عليَّ بلا حقّ.
ووهبتني كثيراً كما في تصدَّقت.
(1)
لأنّهما ينبئان عن الوجوب، والحفظ واجب على المودع، والمالُ محلُّ الحفظ، فجاز إرادة الحال عند ذكر المحلّ، كما في قولهم: نهر جارٍ، لكنَّه تغيير عن أصل الوضع، فيصدَّقُ إذا وَصَلَ به، لا إن فَصَلَ عنه؛ لأنّه صار بيانُ تغيير، وهو يقبل إذا كان موصولاً دون مفصول، كما في الاستثناء والتخصيص وغيرهما من المغيِّرات. ينظر:«المنح» (ق 2: 178/ب).
(2)
لإنَّ هذه المواضع محلّ للعينِ لا الدَّين، إذ محلّه الذمة، والعين يحتملُ أن تكونَ مضمونة أمانة، والأمانة أولى فيحملُ عليها؛ وهذا لأنَّ كلمة عند للظرف، ومع للقران، وما عداهما لمكان معيّن، فيكون من خصائص العين، ولا يحتملُ الدَّين لاستحالةِ كونه في هذه الأماكن، فإذا كانت من خصائصِ العينِ تعيّنتِ الأمانة لما ذكرنا؛ ولأنَّ هذه الكلمات في العرف والعادات تستعمل في الأمانات، ومطلقُ الكلام يحمل على العرف. ينظر:«المنح» (ق 2: 178/ب).
وإن أقرَّ بدينٍ مؤجَّلٍ صُدِّقَ المقرُّ له إن قال: هو حالّ وحلفَ به، وفي مئةٍ ودرهم كلُّها دراهم، وفي مئةٍ وثوب، ومئةٍ وثوبان تفسَّرُ المئة، ومئة وثلاثةُ أثواب كلُّها ثياب
وأحلت لك مالاً على زيد، فما صنعتَ به
(1)
.
(وإن أقرَّ بدينٍ مؤجَّلٍ صُدِّقَ المقرُّ له إن قال: هو حالّ وحلفَ به
(2)
): أي حلفَ المقرُّ له على أنَّه ليس بمؤجَّل، فيجبُ له الدَّينُ حالاً
(3)
.
(وفي
(4)
مئةٍ ودرهم كلُّها دراهم، وفي مئةٍ وثوب، ومئةٍ وثوبان تفسَّرُ المئة، ومئة وثلاثةُ أثواب كلُّها ثياب)، اعلم أن في قوله: لفلانٍ عليَّ مئة ودرهمٌ عند الشَّافِعِيِّ
(5)
رضي الله عنه تفسَّرُ المئةُ كما في عليَّ مئةٌ وثوب، وهو القياس، وعندنا: إذا ذَكَرَ بعد لفظِ العددِ ما هو من المقدَّرات كما إذا قال: مئةٌ ودرهم، ومئةٌ وقفيزُ حنطة تكونُ المئةُ من جنسِ ذلك المقدَّر قياساً على ما إذا ذَكَرَ بعد لفظ العدد عدداً آخر، نحو: مئةٍ وثلاثة أثواب، وإن لم يكنْ من المقدَّرات كالثَّوب مثلاً فحينئذٍ يفسِّرُ المئة
(6)
.
(1)
والأصلُ فيه: أنّ الجوابَ ينتظمُ إعادة الخطاب؛ ليفيدَ الكلام، فكلُّ ما يصلحُ جواباً ولا يصلح ابتداءً يجعلُ، وما يصلح للابتداء لا للبناء أو يصلح لهما فإنه يجعل ابتداء؛ لوقوعِ الشكِّ في كونه جواباً، فلا يجعل جواباً؛ لئلا يلزمُهُ المالُ بالشكّ، فإنّ ذكرَ الضمير يصلحُ جواباً لا ابتداءً، وإن لم يذكرْه لا يصلح جواباً أو يصلح ابتداءً وجواباً فلا يكون إقراراً بالشكّ. وتمامه في «التبيين» (5: 8).
(2)
زيادة من ف.
(3)
لأنه أقرَّ بحقِّ على نفسه وادَّعى حقّاً على المقرّ له فإقراره في حقّه حجّة ولا تقبل دعواه بغير حجة. ينظر: «الرمز» (2: 156).
(4)
في: زيادة من ق، وفي م: وله.
(5)
ينظر: «التنبيه» (ص 165)، وغيره.
(6)
وبيانه: إنَّ عطف الموزون والمكيل على عددٍ مبهم يكون بياناً للمبهم عادة؛ لأنَّ الناسَ استثقلوا تكرارَ التفسيرِ عند كثرةِ الاستعمال، وذلك فيما يجري فيه التعامل، وهو ما يثبتُ في الذمّة، وهو المكيل والموزون، واكتفوا بذكرِهِ مرَّة؛ لكثرةِ أسبابِهِ ودورانِه في الكلامِ بخلافِ الثيابِ وغيرها ممَّا ليس من المقدّرات؛ لأنّها لا يكثرُ التعاملُ بها لعدمِ ثبوتها في الذمَّة في جميع المعاملات، فلم يستثقلوا ذكرها؛ لقلَّة دورانها في الكلام، والاكتفاءُ بالثاني للكثرة، ولم توجد، فبقي على القياس بخلاف قوله: مئة وثلاثة أثواب، حيث يكونُ الأثوابُ تفسيراً للمئة أيضاً، ويستوي فيه المقدَّرات وغيرها؛ لأنّه ذكرَ عددين مبهمين، فأعقبهما بتفسير، فينصرفُ إليهما، فيكون ثياباً لهما، وهذا بالإجماع؛ لأنَّ عادتهم جرت بذلك. ينظر:«التبيين» (5: 8 - 9).
والإقرارُ بدابةٍ في اصطبل يلزمها فقط، وخاتمٍ يلزم حلقتُهُ وفَصُّه، وسيفٍ جفنُه وحمائلُه ونصلُه، وحَجلة العيدان والكسوة، وتمرٍ في قوصرة إيَّاهما كثوبٍ في منديل أو ثوب، وثوب في عشرةِ أثوابٍ واحد، وخمسةٍ في خمسةٍ بنيَّةِ الضَّربِ خمسة، وبنيَّةٍ مع عشرة
(والإقرارُ بدابةٍ في اصطبل يلزمها فقط، وخاتمٍ يلزم حلقتُهُ وفَصُّه
(1)
): أي الإقرارُ بخاتمٍ يلزمُهُ حلقتُهُ وفصُّه، فهذا من بابِ العطفِ على معمولي عاملينِ مختلفين، والمجرورُ مقدَّمٌ نحو في الدارِ زيد، والحجرةِ عمرو، وكذا في قولِه: (وسيفٍ جفنُه وحمائلُه ونصلُه
(2)
، وحَجلة العيدان والكسوة
(3)
): الحَجَلةُ: البيتُ المُزيَّنُ بالثَّيابِ والسُّرُر
(4)
.
(وتمرٍ في قوصرة
(5)
إيَّاهما
(6)
كثوبٍ في منديل
(7)
أو ثوب، وثوب في عشرةِ أثوابٍ واحد)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه، فإنَّ عشرةَ أثوابٍ لا تكونُ تابعةً لثوبٍ واحد، وعند محمَّد رضي الله عنه يلزمُهُ أحدَ عشرَ ثوباً؛ لأنَّ النَّفيسَ يُلَفُّ في ثيابٍ كثيرة
(8)
.
(وخمسةٍ في خمسةٍ بنيَّةِ الضَّربِ خمسة، وبنيَّةٍ مع عشرة)، وعند الحسن بن زياد رضي الله عنه يلزمُهُ خمسةٌ وعشرون، وقد ذُكِرَ في «كتاب الطَّلاق»
(9)
.
(1)
فَصُّ الخاتم: ما يركبُ فيه من غيره. ينظر: «المصباح» (ص 474)، «القاموس» (2: 323).
(2)
جفن السيف: غلافه. والحمائل: وهي علاقة السيف، والنصل: حديدةُ السيف. ينظر: «الصحاح» (1: 301)، و «الزبدة» (3: 243).
(3)
العيدان: أصله عودان، قلبت الواو ياءً لمجانسة كسرةِ ما قبلها، جمع العود، وهو الخشب، وجمعه أعواد أيضاً. والكسوةُ: اللِّباسُ. ينظر: «المصباح» (ص 436،534).
(4)
ومثله في «الصحاح» (1: 238).
(5)
القوصرَّةُ بالتخفيف والتثقيل: وعاءُ التمرِ يتَّخذُ من قصب، وإنّما تسمَّى بذلك ما دام فيها التمر وإلاَّ فهي زِنْبِيلٌ مبنيٌّ على عُرفِهم. ينظر:«المصباح» (ص 504)، و «المغرب» (ص 385).
(6)
أي لزماه كل من التمر والقوصرة؛ لأن القوصرة وعاء له وظرف له. ينظر: «شرح ابن ملك» (ق 144/أ).
(7)
المِنديل: معروف، قال ابن فارس: مأخوذٌ من النَّدْلِ، وهو النَّقْل، وقال غيره: هو مأخوذٌ من النَّدْلِ وهو الوسخ؛ لأنه يُنْدَلُ به. ينظر: «معجم مقاييس اللغة» (5: 410)، و «شرح صحيح مسلم» للنووي (3: 232)، و «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (2: 74،192)، ولتفصيل الكلام في أحكامه ينظر:«الكلام الجليل فيما يتعلق بالمنديل» .
(8)
لأنّ العشرةَ لا تكونُ ظرفاً لثوب واحد عادة، والممتنعً عادة كالممتنعِ حقيقة. وتمامه في «التبيين» (5: 10) و «مجمع الأنهر» (2: 294)، وغيرهما.
(9)
2: 60).
وفي من درهمٍ إلى عشرة، وما بين درهمٍ إلى عشرة، عليه تسعة، وفي له من داري ما بينَ هذا الحائطِ إلى هذا الحائط له ما بينهما، ولو أقرَّ بالحملِ صحَّ، وحُمِلَ على الوصيّةِ من غيره، وكذا له إن بيَّن المُقِرُّ سبباً صالحاً كالإرثِ والوصيّة
(وفي من درهمٍ إلى عشرة، وما بين درهمٍ إلى عشرة، عليه تسعة)، هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنَّ الغايةَ الأُولَى تدخلُ ضرورةً، والأخيرةُ لا تدخلُ
(1)
، وعندهما تدخلُ الغايتان، فتجبُ عشرة، وعند زُفَر رضي الله عنه لا يدخل شيءٌ منهما، فيجب ثمانية.
(وفي له من داري ما بينَ هذا الحائطِ إلى هذا الحائط له ما بينهما)، والفرقُ لأبي حنيفةَ رضي الله عنه أن في قوله: ما بينَ الواحدِ إلى العشرةِ؛ لا وجودَ لِمَا بينَهما إلاَّ بانضمام الأَوَّل، كما يقال سنِّي ما بين خمسينَ إلى ستّين: أي مع انضمام الآحاد التي دون الخمسين بخلاف ما بين الحائطين.
(ولو أقرَّ بالحملِ صحَّ، وحُمِلَ على الوصيّةِ من غيره)
(2)
: أي يُحْمَلُ هذا الإقرار أن رجلاً أوصى بالحملِ لرجل وماتَ الموصي، فالآن يقرُّ وارثُهُ بأنه للموصَى له.
(وكذا له إن بيَّن المُقِرُّ سبباً صالحاً كالإرثِ والوصيّة): أي ويصحُّ الإقرارُ للحملِ إن بيَّنَ المقرُّ سبباً صالحاً كالإرثِ والوصيّة، فإنّ الوصيّةَ للحمل تصحُّ، والحملُ يَرِث، وإن لم يبيِّنَ سبباً صالحاً: كما لو بيَّنَ الهبة، أو قال: اشتريتُ له لا يصحّ
(3)
، وإنِّما لا يحتاجُ إلى ذِكْرِ السَّببِ الصَّالح في الإقرارِ بالحمل؛ لأنَّ الوصيةَ متعيِّنةٌ هناك بخلافِ الإقرارِ للحمل، فإنّ الأسبابَ متعارضةٌ كالإرثِ والوصية.
(1)
حاصله: إنّ الغايةَ لا تدخل في المغيا؛ لأنَّ الحدَّ يغايرُ المحدود، فهذا هو الأصل، ولكن هاهنا لا بُدَّ من إدخال الغايةِ الأولى ضرورة؛ لأنَّ الدرهمَ الثاني والثالث لا يتحقَّق بدون الأوّل، فدخلت الغايةُ الأولى ضرورةً، ولا ضرورةَ في إدخال الغاية الثانية، فأخذنا فيها بالقياس، فلا يدخل؛ لأنَّ العددَ يقتضي ابتداء، فإذا أخرجنا الأوَّل من أن يكون ابتداءً صار الثاني هو الأول، فيخرجُ هو أيضاً من أن يكون ابتداءً كالأوَّل، وكذا الثالثُ والرابع، فيؤدِّي إلى خروجِ الكلِّ من أن يكون واجباً فكان باطلاً. ينظر:«التبيين» (5: 11).
(2)
يعني لو أقرَّ الرجلُ بالحملِ بأن قال: حمل جاريتي هذه لفلان، أو حمل شاتي هذه لفلان، فإنّه يصحّ؛ لأنَّ في تصحيحِهِ وجهاً وهو الوصيّة من جهةِ غيره، بأن يكون أوصى به رجل ومات، وأقرّوا بأن هذا الحمل لفلان فيحمل عليه، وإن لم يبيّن السبب. وتمامه في في «كمال الدراية» (ق 589)، و «الرمز» (2: 157)، و «فتح باب العناية» (3: 156).
(3)
لأنه بين مستحيلاً. ينظر: «الهداية» (3: 183).
فإن وَلَدَتْ حيَّاً لأقلَّ من نصفِ حول، فله ما أقرّ، وإن وَلَدَتْ حيَّينِ فلهما، وإنْ وَلَدَتْ ميِّتاً فللموصي والمُوَرِّث، وإن فَسَّرَ ببيع، أو إقراض، أو أبهم الإقرار لغا، وإن أقرَّ بشرطِ الخيار، صحَّ وبطلَ شرطُه
(فإن وَلَدَتْ حيَّاً لأقلَّ من نصفِ حول): أي من وقتِ الإقرار، (فله ما أقرّ، وإن وَلَدَتْ حيَّينِ فلهما، وإنْ وَلَدَتْ ميِّتاً فللموصي والمُوَرِّث)؛ لأنَّهُ إذا بيَّنَ السَّبب، وقال: إنّ فلاناً أوصى بهذا للحمل، أو إنّ فلاناً ماتَ وتركَهُ ميراثاً له، فيكونَ هذا إقراراً بملكِ الموصي، أو المورِّث، فيقسمُ بين ورثتِهما
(1)
.
(وإن فَسَّرَ ببيع، أو إقراض، أو أبهم الإقرار لغا)
(2)
، هذا عند أبي يوسفَ رضي الله عنه، وعند محمَّد
(3)
رضي الله عنه يصحُّ الإقرار، ويحملُ على السَّبب الصَّالح.
(وإن أقرَّ بشرطِ الخيار)، (بأن قال: لفلان عليَّ ألفٌ درهمٍ على أنّي بالخَيار فيه ثلاثةَ أياَّم)
(4)
، (صحَّ وبطلَ شرطُه)؛ لأنَّ الخيار للفسخ، والإقرارُ لا يحتملُه.
ومن المسائلِ الكثيرةِ الوقوع: أنَّه إذا
(5)
أقرَّ، ثُمَّ ادَّعى أنَّه كاذبٌ في الإقرار، فعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّد رضي الله عنه: لا يلتفتُ إلى قولِه لكن يُفْتَى على قولِ أبي يوسف رضي الله عنه: إنَّ المُقَرَّ له يَحْلِفُ أنَّ المُقِرَّ لم يكن كاذباً.
وكذا لو ادَّعى وارثُ المُقِرِّ فعند البعضِ لا يلتفتُ إلى قوله؛ لأنَّ حقَّ الورثةَ لم يكن ثابتاً في زمان الإقرار، والأصحُّ التحليف، لأنَّ الورثةَ ادَّعوا أمراً لو أقرَّ به المُقَرّ له يلزمُه، فإذا أنكرَ يُسْتَحْلَف، وإن كان الدعوى على ورثةِ المُقَرِّ له فاليمينُ عليهم بالعلمِ أنا لا نعلمُ أنَّه كان كاذباً
(6)
. (والله أعلم)
(7)
.
(1)
أي يردّ المال إلى ورثة الموصي والمورث؛ لأن هذا الإقرار في الحقيقة لهما، وإنما ينتقل إلى الجنين بعد ولادته، ولم ينتقل فيكون لورثتهما. ينظر:«درر الحكام» (2: 362).
(2)
أي إن فسّر المقرّ الإقرار بسبب غير صالح؛ لا يلزمه شيء؛ إذ لا يتصور شيء منه من الجنين، وكذا إذا أبهم المقر الإقرار بلا بيان سبب أصلاً، بأن قال: عليّ حمل فلانة كذا يكون لغواً فلا يلزمه شيء. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 295).
(3)
في «الدر المختار» (4: 455): وحمل محمد المبهم على السبب الصالح.
(4)
زيادة من أ و ب و م.
(5)
زيادة من أ. وفي ب و م: لو.
(6)
ينظر: «التنوير» وشرحه «الدر المختار» (4: 457 - 458).
(7)
زيادة من ق.
باب الاستثناء
ومَن استثنى بعضَ ما أقرَّ به متصلاً لزمَهُ باقيه، وإن استثنى كلَّه فكلُّه، فإن استثنى كيليّاً أو وزنيّاً من دراهم صحَّ قيمته، وإن استثنى غيرَهما منها لم يصحّ، ومَن أقرَّ ووَصَلَ إن شاء الله بَطَلَ إقرارُه. لو استثنى بناءَ دارٍ أقرَّ بها، كانا للمُقَّرِ له، وإن قال: بناؤُها لي، وعرصتُها
باب الاستثناء
(ومَن استثنى بعضَ ما أقرَّ به متصلاً لزمَهُ باقيه، وإن استثنى كلَّه فكلُّه): أي لزمَهُ كلَّه؛ لأنَّ استثناءَ الكلِّ لا يصحّ
(1)
.
(فإن استثنى كيليّاً أو وزنيّاً من دراهم صحَّ قيمته، وإن استثنى غيرَهما منها لم يصحّ)، إن قال له: عليَّ مئةُ درهم إلاَّ ديناراً، وإلاَّ قفيزَ حنطةٍ صحَّ الاستثناء، وإن قال: إلاَّ ثوباً لم يصحّ، هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه؛ لوجودِ المجانسةِ من وجهٍ إذا كان مكيلاً أو موزوناً، وعند محمَّد رضي الله عنه: لا يصحُّ في الكلِّ لعدمِ المجانسة، وعند الشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه: يصحُّ في الكلِّ للمجانسةِ من حيث المالية.
(ومَن أقرَّ ووَصَلَ إن شاء الله بَطَلَ إقرارُه
(3)
.
ولو استثنى بناءَ دارٍ أقرَّ بها، كانا للمُقَّرِ له)؛ لأنَّ الأستثناءَ لا يصحّ؛ لأن البناءَ إنما يدخلُ بالتَّبعيَّة، وما هو كذلك لا يصحُّ استثناؤه، (وإن قال: بناؤُها لي، وعرصتُها
(4)
(1)
أمّا إذا كان بخلافِ لفظ المستثنى منه، بأن يقول: عبيدي أحرارٌ إلا هؤلاء، وليس له عبيدٌ غير المستثنى منه، صحَّ الاستثناءُ فلا يعتقُ واحدٌ منهم؛ لأنّه إذا اختلفَ اللَّفظُ يتوهَّمُ بقاءُ شيءٍ من المستثنى منه، إذ اللَّفظ صالحٌ له؛ وذلك يكفي لصحَّةِ الاستثناء. ينظر:«التبيين» (5: 14).
(2)
ينظر: «أسنى المطالب» (2: 316)، و «حاشية الجمل» (4: 447)، و «نهاية المحتاج» (5: 106)، وغيرها.
(3)
وكذا كلُّ إقرارٍ عُلِّقَ بالشرط، مثل أن يقول: إن دخلت الدار أو مطرت السماء، أو هبَّت الريح، أو إن قضى الله تعالى، أو أراده، أو رضيه، أو أحبّه، أو قدَّره، أو يسَّرَه، فهذا كلّه وما شاكله مبطلاً للإقرار إذا كان موصولاً. ينظر:«التبيين» (5: 16).
(4)
عرصةُ الدار: ساحتُها، وهي البقعةُ الواسعة التي ليس فيها بناء، وسُمِّيت ساحةُ الدَّارِ عرصةً؛ لأنَّ الصبيانَ يعترصونَ فيها؛ أي يلعبون ويمرحون. ينظر:«المصباح المنير» (ص 402).
لك، فكما قال، وفصُّ الخاتم، ونخلةُ البستانِ كبنائِها، فإن قال: له عليَّ ألفٌ من ثَمَنِ عبدٍ ما قبضتُه، وعيَّنَه، فإن سَلَّمَهُ المُقَرُّ له لَزِمَهُ الألفُ وإلاَّ لا، (وإن لم يعيِّن لَزِمَه، وما قَبْضْتُهُ لغو: كقولِهِ: من ثَمَنِ خمر، وفي: من ثَمَنِ متاع، أو قرض، وهي زيوف، أو نَبَهْرَجَة، أو سَتُّوقة، أو رصاص لَزِمَهُ الجيد
لك، فكما قال، وفصُّ الخاتم، ونخلةُ البستانِ كبنائِها)، إن قال: هذا الخاتم لفلان إلاَّ فصّه، أو هذا البستان له إلاَّ نخلةً لا يصحُّ الاستثناء، ولو قال: إن الحَلْقةَ له، والفصَّ لي، أو الأرضَ له، والنَّخلَ لي يصحّ.
(فإن قال: له عليَّ ألفٌ من ثَمَنِ عبدٍ ما قبضتُه، وعيَّنَه، فإن سَلَّمَهُ المُقَرُّ له لَزِمَهُ الألفُ وإلاَّ لا)، قولُه: ما قبضتُه: صفةُ العبد، وقولُهُ: وعيَّنَه: أي عيَّن العبد، وهو في يدِ المُقَرِّ له، فإنّ سلَّمَ المُقَرُّ له ذلك إلى المُقِرِّ لَزِمَهُ الألفُ وإلاَّ لا.
(وإن لم يعيِّن لَزِمَه، وما قَبْضْتُهُ لغو): أي قولُه: وما قبضتُهُ لغوٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه سواء وصل أو فصل؛ لأنَّ إنكارَ القبضِ في غيرِ المعيَّنِ ينافي الوجوب
(1)
؛ لأنَّ جهالةَ المبيعِ كهلاكه، فلا يجبُ الثَّمن، فيكون هذا رجوعاً، وعندهما: إن وَصَلَ صُدِّق؛ لأنَّه بيانُ تغيير عندهما، (كقولِهِ: من ثَمَنِ خمر)
(2)
: أي يكونُ لغواً عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وَصَلَ أم فَصَل، وعندهما: إن وَصَلَ صحَّ، وإن فَصَلَ لا.
(وفي: من ثَمَنِ متاع، أو قرض، وهي زيوف، أو نَبَهْرَجَة، أو سَتُّوقة، أو رصاص لَزِمَهُ
(3)
الجيد)، هذا
(4)
عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وَصَلَ أم فَصَل، وعندهما: إن
(1)
لأنَّ ثمنَ عبدٍ غير معين لا يكون واجباً على المشتري إلاَّ بعد القبض؛ لأنَّ ما لا يكون بعينه فهو في حكمِ المستهلك؛ لأنّه لا طريقَ للوصولِ إليه، فإنّه ما من عبدٍ يحضرُهُ إلا وللمشتري أن يقول المبيعُ غير هذا، وتسليم الثمن لا يجبُ إلا بإحضارِ المبيع، فعُلِمَ أنّه في حكم المستهلك، فكأنّه أقرَّ بالقبضِ ثم رجع. ينظر:«الزبدة» (3: 248).
(2)
أي إذا قال: لفلان عليّ ألف درهم من ثمن خمر أو خنْزير لزمه الألف ولم يقبل تفسيره عند أبي حنيفة رضي الله عنه وصل أم فصل؛ لأنه رجوع؛ لأن ثمن الخمر والخنْزير لا يكون واجباً، وأول كلامه للوجوب، وقالا: إذا وصل لا يلزمه شيء؛ لأنه بين بآخر كلامه أنه ما أراد به الإيجاب. ينظر: «الهداية» (3: 186).
(3)
في أ: يلزمه.
(4)
زيادة من ب و م.
وفي: من غَصَب، أو وديعة إن ادَّعى أحدَ هذه صُدِّقَ إلاَّ فَصْلاً في الأخيرين، وصُدِّق في: غَصَبْتُ ثوباً، وجاء بمعيب، وفي له عليّ ألفُ درهم إلاَّ أنَّه ينقصُ كذا متّصلاً، وإن فَصَلَ لا، ولو قال: أخذتُ منك ألفاً وديعةً فهلكت، وقال الآخر: بل غصباً، ضَمِنَ، وفي: أعطيتَنيه وديعةً، وقال الآخرُ: غصبتنيه لا
وَصَلَ صُدِّق؛ لأنَّه رجوعٌ عنده
(1)
، وبيانُ تغييرٍ عندهما.
(وفي: من غَصَب، أو وديعة إن ادَّعى أحدَ هذه صُدِّقَ إلاَّ فَصْلاً في الأخيرين): أي إن قال: له عليَّ ألفٌّ من غصب، أو وديعة إلاَّ أنها زيوف، أو نَبَهْرَجةٌ صُدِّقَ وَصَلَ أم فَصَل، وإن قال: سَتُّوقة، أو رصاص، فإن وَصَلَ صُدِّق، وإن فَصَلَ لا، والفرقُ بين البيعِ والقرض وبين الغصبِ والوديعةِ: أن الأولينِ يقعانِ على الجياد، فإن فَسَّرَ الدَّراهم بغيرِ الجياد يكونُ رجوعاً، والغصبُ والوديعةُ يقعانِ على كلِّ ذلك، والسَتُّوقةُ والرَّصاصُ ليسا من جنسِ الدَّراهم، وإنِّما يسمَّيانِ دراهمَ مجازاً، فيكونُ بيانُ تغيير إن وَصَلَ صُدِّق، وإن فَصَلَ لا.
(وصُدِّق في: غَصَبْتُ ثوباً، وجاء بمعيب، وفي له عليّ ألفُ [درهم]
(2)
إلاَّ أنَّه ينقصُ كذا متّصلاً، وإن فَصَلَ لا)
(3)
: لأنَّ الاستثناءَ يصحُّ متصلاً لا منفصلاً.
(ولو قال: أخذتُ منك ألفاً وديعةً فهلكت، وقال الآخر: بل غصباً، ضَمِنَ
(4)
، وفي: أعطيتَنيه وديعةً، وقال الآخرُ: غصبتنيه لا): والفرقُ أن في الأَوَّلِ أقرَّ بوجوب الضَّمان، وهو الأخذُ، وفي الثَّاني: لم يُقِرَّ بذلك، بل الآخرُ يدَّعي عليه الغصب، وهو ينكرُه، فالقولُ له.
(1)
هذا دليلٌ على مذهبِ الإمام، تقريره: أنّ قولَ المُقِرِّ: هي زيوفٌ، رجوعٌ عن الإقرار، فإنَّ مطلقَ العقدِ يقتضي وصفَ السلامةِ عن العيب، والزيافةُ عيبٌ، ودعوى العيبِ رجوعٌ عن مقتضى ما أقرَّ به، فلا يصحّ. ينظر:«التبيين» (5: 19).
(2)
زيادة من أ و ب و ص و م.
(3)
يعني ولو قال: له عليَّ ألفُ درهم إلاَّ أنّه ينقصُ مئة درهمٍ مثلاً صُدِّق إن وصل، وإلاَّ لزم الألف، فإنَّ الاستثناءَ يجوز متَّصلاً لا منفصلاً، ولو كان الانفصالُ بسببِ انقطاعِ النفسِ أو بسببِ دفع السعالِ فعن أبى يوسفَ رضي الله عنه إنّه يصحّ إذا وصلَه به، وعليه الفتوى. ينظر:«التبيين» (5: 20).
(4)
ضَمِنَ المقِرُّ ما أقرَّ بأخذه له؛ لأنّه أقرَّ بسبب الضمانِ وهو الأخذ، ثمّ إنّه ادّعى ما يوجبُ البراءةَ وهو الإذنُ بالأخذ، والآخرُ ينكر، فالقول قولُه مع يمينه. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 300).
وفي: هذا كان وديعةً لي عندك، فأخذته، فقال: هو لي أَخَذَه، وصُدِّقَ مَن قال: أجَّرتُ فرسي، أو ثوبي هذا، فركبَه، أو لبسَه وردَّه عليّ، أو خاطَ ثوبي هذا بكذا فقبضتُه.
باب إقرار المريض
دينُ صحَّتِه مطلقاً ودينُ مرضِه بسببٍ معلوم فيه وعُلِمَ بلا إقرارٍ: كبدلِ ما مَلَكَه، أو أتلفَه، أو مهرِ عرسِه سواء، وقُدِّما على ما أقرَّ به في مرضِ موته
(وفي: هذا كان وديعةً لي عندك، فأخذته، فقال: هو لي أَخَذَه): أي المُقَرُّ له؛ لأَنَّه أقرَّ بيده، ثُمَّ ادَّعى أنَّه كان لي فأخذتُه، فيسلِّمه إلى المُقَرِّ له، ويقيمُ البيِّنة.
(وصُدِّقَ مَن قال: أجَّرتُ فرسي، أو ثوبي هذا، فركبَه، أو لبسَه وردَّه عليّ
(1)
، أو خاطَ ثوبي هذا بكذا فقبضتُه)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: يجب أن يُسَلِّمَ إلى المُقَرِّ له، ثُمَّ يدَّعيه كما في مسألةِ الوديعة، وهو القياس، ووجْهُ الاستحسانِ: إن في الإجارةِ لم يُقِرَّ بيد الآخر مطلقاً، بل يدُهُ ضروريةٌ؛ لأجل الانتفاع، فبقي فيما وراءَ الضَّرورةِ في حكمِ يدِ المؤجِّرِ بخلاف الوديعة. (والله أعلم)
(2)
.
باب إقرار المريض
(3)
(4)
(دينُ صحَّتِه مطلقاً): أي سواءٌ عُلِمَ بسببه أو عُلِمَ بالإقرار، (ودينُ مرضِه)، المرادُ مرضُ الموت، (بسببٍ معلوم
(5)
فيه وعُلِمَ بلا إقرارٍ: كبدلِ ما مَلَكَه، أو أتلفَه، أو مهرِ عرسِه سواء، وقُدِّما على ما أقرَّ به في مرضِ موته)
(6)
، هذا عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ
(7)
رضي الله عنه هذا يساوي الأولين؛ لاستواء السَّبب، وهو الإقرار. ولنا: أن إقرارَ
(1)
زيادة من ص.
(2)
زيادة من أ و ج و ف.
(3)
المريض مرض الموت من لا يخرج لحوائجه خارج البيت، وهو الأصح. ينظر: «رد المحتار 9) (4: 461).
(4)
في ج و ص و ف و ق: باب من الإقرار.
(5)
زيادة من أ.
(6)
يعني إنَّ دينَ الصحِّةِ ودين المرض لسببٍ معروفٍ حصل في ذلك المرض وعلم بلا إقرارٍ يقدَّمان على دينٍ أقرَّ به في مرضه، ولو كان المقَرُّ به وديعةً. ينظر:«البحر» (7: 254).
(7)
ينظر: «المحلي» (3: 54)، و «نهاية المحتاج» (5: 70)، و «فتوحات الوهاب» (3: 432)، وغيرها.
والكلُّ على الإرث وإن شَمِلَ ماله، ولا يصحُّ أن يخصَّ، غريماً بقضاءِ دينِهِ ولا إقراره لوارثِهِ إلاَّ أن يُصَدِّقَهُ البقيَّة، وإن أقرّ بشيء لرجلٍ ثُمَّ ببنُوتِهِ ثَبَتَ نسبُه، وبطلَ ما أقرّ، وصحَّ ما أقرَّ لأجنبيَّة، ثُمَّ نَكَحَها، ولو أقرَّ ببنوّة غلامٍ جُهِلَ نسبُه، ويُولَدُ مثلُهُ لمثلِه وصَدَّقَهُ الغلامُ ثَبَتَ نسبُه ولو في مرض، وشاركَ الورثة
المريض وَقَعَ بما تعلَّقَ به من حقِّ الغير.
(والكلُّ على الإرث وإن شَمِلَ ماله): أي الدّيون الثَّلاثة، وهي: دينُ الصِّحَّة، ودينُ المرضِ بسبب معلوم، ودينُ المرضِ الذي عُلِمَ بمجرَّدِ الإقرارِ مقدَّمٌ على الإرث، وإن شَمَلَ جميع المال.
(ولا يصحُّ أن يخصَّ): أي المريضُ في مرضِ الموت، (غريماً بقضاءِ دينِهِ ولا إقراره لوارثِهِ إلاَّ أن يُصَدِّقَهُ البقيَّة): أي بقيَّةُ الغرماءِ في الدَّين، وبقيَّةُ الورثةِ في الإقرارِ لوارث
(1)
.
(وإن أقرّ): أي المريض، (بشيء لرجلٍ ثُمَّ ببنُوتِهِ ثَبَتَ نسبُه، وبطلَ ما أقرّ
(2)
، وصحَّ ما أقرَّ لأجنبيَّة، ثُمَّ نَكَحَها)
(3)
؛ لأنَّ في الأَوَّل إقرارَ المريضِ لابنِه، وفي الثَّاني لأجنبيّة.
(ولو أقرَّ ببنوّة غلامٍ جُهِلَ نسبُه، ويُولَدُ مثلُهُ لمثلِه
(4)
): أي هما في السِّنِّ بحيث يولَدُ مثلُهُ لمثلِه، (وصَدَّقَهُ الغلامُ ثَبَتَ نسبُه ولو في مرض، وشاركَ الورثة)، تصديقُ
(1)
تبع ملا خسرو رضي الله عنه في «الدرر» (2: 366) الشارحَ رضي الله عنه في شمول الاستثناء للغرماء والورثة، ونصَّ على خصَّه بالورثة صاحب «الملتقى» (ص 150)، و «التنوير» (ص 172)، وقد ذكرَ في «الهداية» (3: 190)، و «المنح» (ق 2: 187/أ-ب): أنّه لا يجوزُ للمريضِ أن يقضيَ دين بعض الغرماء دون البعض إلا إذا قضى ما استقرضَ في مرضه أو نقدَ ثمنَ ما اشترى في مرضِهِ وقد عُلِمَ بالبيّنة، فإنّه يجوز؛ لأنّه ليس فيه إبطالُ حقِّ الغرماء.
(2)
يعني إن أقرَّ المريضُ بشيءٍ لرجلٍ أجنبيٍّ ثمَّ أقرَّ أنّه ابنُهُ ثبتَ نسبُهُ منه؛ لأنَّ النسبَ من الحوائجِ الأصليّة، ولا تهمةَ فيه، وبطل إقرارُه؛ لأنَّ دعوةَ النسبِ تستندُ إلى زمانِ العلوق، فظهر أنّ البنّوةَ ثابتةٌ زمان الإقرار فبطل. ينظر:«الرمز» (2: 161)، و «كمال الدراية» (ق 590).
(3)
الأصلُ في هذا الباب أنَّ العبرةَ لكونه وارثاً وقتَ الموت لا وقت الإقرار، إلاَّ إذا صارَ وارثاً بسببٍ جديدٍ كالتزويج وعقد المولاة. ينظر:«البحر» 7: 254).
(4)
أي يكون سنُّه أقلَّ من سنِّ المقرِّ باثني عشر سنةٍ، وهي أدنى مدَّةٍ يحتمل فيها الغلام، ذكره البِرْجَنْدِيُّ. ينظر:«الزبدة» (3: 252)
وصحَّ إقرارُ الرَّجلِ والمرأةِ بالوالدين، والولد، والزَّوج، والمولى، وشُرِطَ تصديقُ هؤلاء كما شُرِطَ تصديقُ الزَّوج، أو شهادةُ القابلةِ في إقرارها بالولد، وصحَّ التَّصديقُ بعد موتِ المُقِرِّ إلا من الزَّوج بعد موتِها مُقِرَّةً، ولو أقرَّ بنسبٍ من غيرِ ولاد كأخٍ وعمٍّ لا يَصِحّ، ويرثُ إلا مع وارث آخر وإن بَعُدَ، ومَن أقرَّ بأخ وأبوه مَيْتٌ شاركه في الإرث بلا نسبٍ
الغلامِ إنِّما يشترطُ إذا كان ممِّن يُعبِّر، وإن لم يُعبِّر، ومات المُقِرُّ ثَبَتَ نسبُه، وشاركَ الورثةَ بلا تصديق.
(وصحَّ إقرارُ الرَّجلِ والمرأةِ بالوالدين، والولد، والزَّوج، والمولى، وشُرِطَ تصديقُ هؤلاء
(1)
كما شُرِطَ تصديقُ الزَّوج، أو شهادةُ القابلةِ في إقرارها بالولد)، يكفي شهادةُ امرأةٍ واحدة، وذِكْرُ القابلةِ في إقرارِها خَرَجَ مَخْرَجَ العادة.
(وصحَّ التَّصديقُ بعد موتِ المُقِرِّ إلا من الزَّوج بعد موتِها مُقِرَّةً)
(2)
، هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنَّ حُكْمَ النِّكاحِ ينقطعُ بالموت، فلا يصحُّ تصديقُ الزَّوج بعد انقطاعِها بخلافِ تصديقِ الزَّوجة؛ لأنَّ حكمَ النِّكاحِ باقٍ بعد الموتِ لوجوبِ العدَّة، وعندهما: يصحُّ باعتبار أن حُكْمَ النِّكاح، وهو الإرث باقٍ بعد الموتِ. وله: أن التَّصديقَ يستندُ إلى الإقرار، والإرثُ حينئذ معدوم.
(ولو أقرَّ بنسبٍ من غيرِ ولاد كأخٍ وعمٍّ لا يَصِحّ)؛ لأنَّه تحميلُ النَّسبِ على الغير، (ويرثُ إلا مع وارث آخر وإن بَعُدَ
(3)
، ومَن أقرَّ بأخ وأبوه مَيْتٌ شاركه في الإرث بلا نسبٍ) لأنَّ الميراثَ حقُّه فيقبلُ فيه إقراره، وأمَّا النَّسبُ ففيه تحميلٌ على الغير.
(1)
لأنَّ إقرارَ غيرِهم لا يلزمُهم؛ لأنَّ كلاً منهم في يدِ نفسه إلاَّ إذا كان المقرُّ له صغيراً في يدِ المقرّ، وهو لا يعبِّرُ عن نفسه أو عبداً له، فيثبتُ نسبُهُ بمجرَّد الإقرار، ولو كان عبداً لغيره يشترطُ تصديق مولاه؛ لأنّه الحق له. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 305)، و «تبيين الحقائق» (5: 27).
(2)
يعني صحّ التصديق في النسب بعد موت المقرّ؛ لبقاء النسب بعد الموت، وإن أقرّ بنكاحها ومات فصدّقته بعد موته يصح حتى يكون لها المهر والإرث؛ لبقاء حكم النكاح وهو العدة، وإن أقرت بنكاح رجل وماتت فصدقها الزوج لم يصح تصديقه عند أبي حنيفة؛ لأنها لما ماتت زال النكاح بعلائقه حتى يجوز له أن يتزوَّج أختها وأربعاً سواها، ولا يحلّ له أن يغسلها فبطل إقرارها فلا يصح التصديق بعد بطلان الإقرار. ينظر:«الدرر» (2: 368 - 369).
(3)
يعني إن كان للمقرِّ وارثٌ لا يرثُ ذلك المقرُّ له؛ لأنَّ النسبَ لم يثبتْ بإقراره، فلا يستحقُّ الميراثَ مع وارثٍ معروف، سواء كان ذلك الوارث قريباً كذوي الأرحام، أو بعيداً كذوي الموالاة، وإن لم يكن له وارثٌ غيرُه ورثه؛ لأنَّ إقراره حجَّةٌ في حقِّ نفسِهِ فيقبلُ عند عدمِ الإضرار بغيره. ينظر:«الزبدة» (3: 253).
ولو أقرَّ أحدُ ابني ميْت له على آخر دين بقبضِ أبيه نصفَه، فلا شيء له، والنِّصفُ للآخر.
(ولو أقرَّ أحدُ ابني ميْت له على آخر دين بقبضِ أبيه نصفَه، فلا شيء له، والنِّصفُ للآخر)، إذا كان لزيدٍ على عمروٍ مئةُ درهم، فأقرَّ أحدُ ابني زيدٍ أن زيداً قَبَضَ خمسين، فلا شيء للمُقِرّ، والباقي لأخيه؛ لأنَّ إقرارَ المُقِرِّ ينصرِفُ إلى نصيبه.
* * *
كتاب الصلح
هو عقدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ صحَّ مع إقرارٍ وسكوتٍ وإنكار، فالأَوَّلُ كبيعٍ إن وَقَعَ عن مالٍ بمال، فيجري فيه الشُّفْعَة، والرَّدُّ بعيب، وخيارُ رؤية، وشَرْط، ويفسدُهُ جَهالةُ البَدَل، وما اسْتُحِقَّ من المدَّعى يَرُدُّ المدَّعي حصَّتَهُ من العوض، وما اسْتُحِقَّ من البدل رجعَ بحصَّتِهِ من المدَّعي، وكإجارة إن وَقَعَ عن مالٍ بمنفعة، فَشُرِطَ التَّوقيتُ فيه، ويبطلُ بموتِ أحدِهما في المدَّة
كتاب الصلح
(هو عقدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ صحَّ مع إقرارٍ وسكوتٍ وإنكار): أي مع إقرارِ المدَّعى عليه، أو سكوتِه، أو إنكاره، وعند الشَّافِعِيِّ
(1)
رضي الله عنه لا يصحُّ إلا في صورةِ الإقرار.
(فالأَوَّلُ كبيعٍ إن وَقَعَ عن مالٍ بمال، فيجري فيه الشُّفْعَة، والرَّدُّ بعيب، وخيارُ رؤية، وشَرْط)، سواءٌ صُولِحَ عن دار، أو على دار، فللشفيعِ الشُّفعة، ويثبتُ الرَّدُّ بالخيارات الثَّلاثةِ لكلِّ واحدٍ من المدَّعي والمدَّعى عليه في بدلِ الصُّلْح والمصالح عنه.
(ويفسدُهُ جَهالةُ البَدَل، وما اسْتُحِقَّ من المدَّعى يَرُدُّ المدَّعي حصَّتَهُ من العوض، وما اسْتُحِقَّ من البدل رجعَ بحصَّتِهِ من المدَّعي
(2)
، وكإجارة إن وَقَعَ عن مالٍ بمنفعة، فَشُرِطَ التَّوقيتُ فيه): أي إن كان البدلُ منفعةً يُعْلَمُ بالتَّوقيتِ كالخدمة، وسكنى الدَّار، بخلاف ما إذا وقع الصُّلحُ عن المالِ على نقلِ هذا الشيء من هنا إلى ثمَّة، (ويبطلُ بموتِ أحدِهما
(3)
في المدَّة.
(1)
ينظر: «أسنى المطالب» ، و «حواشيه» للرملي (2: 215).
(2)
يعني إنّ المدَّعى وهو المصالحُ عنه في الصلح مع الإقرار إن كان مستحقّاً سواءً كان كلاً أو بعضاً رجعَ المدَّعى عليه على المدَّعي بكلِّ اليد إن كان المستحقُّ كلّه أو بعضه إن كان المستحقُّ بعضَه، وإن استحقَّ بعضَ البدل أو كلَّه رجعَ المدَّعي على المدَّعى عليه بكلِّ المصالح عنه أو بعضه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما عوضٌ عن الآخر، فأيُّهما أُخِذَ منه بالاستحقاق رجعَ بما دفع إن كلاً فبالكلِّ، وإن بعضاً فالبعض. ينظر:«الزبدة» (3: 255).
(3)
أي أحد المصالحين في مدَّةٍ تعيَّنت، فيرجع المدَّعي في دعواه بقدر ما لم يستوفِ من المنفعة؛ لأنّهما كالمؤجِّر والمستأجر، وكذا يبطلُ ذلك الصلحُ بفوات المنفعةِ قبل الاستيفاء، فيعود إلى الدعوى، ولو كان ذلك بعد استيفاء بعض المنفعة بطلَ بقدر ما بقي فيرجعُ في دعواه بقدره، وهذا كلُّه قول محمد رضي الله عنه، وتمامه في «التبيين» (5: 33).
والآخران معاوضةٌ في حقِّ المدَّعي، وفداءُ يمين وقطعُ نِزاعٍ في حقِّ الآخر، فلا شفعة في صُلْحٍ عن دار مع أحدِهما، وتجبُ في الصلح على دار، وما اسْتُحِقَّ من المدَّعى ردَّ المدَّعي حصَّتَه من العوض، ورجعَ بالخصومةِ فيه، وما استحقَّ من البدلِ من يدِ المدَّعي رجع إلى الدَّعوى في كلِّه، أو بعضِه
والآخران): أي الصُّلْح مع سكوت، أو انكار، (معاوضةٌ في حقِّ المدَّعي، وفداءُ يمين وقطعُ نِزاعٍ في حقِّ الآخر، فلا شفعة في صُلْحٍ عن دار مع أحدِهما)
(1)
: أي مع السُّكوت، أو الإنكار، (وتجبُ في الصلح على دار): لأنَّه إذا صولحَ عن دارٍ، ففي زَعْمِ المدَّعى عليه أنه
(2)
لم يتجددْ له ملك، وزَعْمُ المدَّعي ليس بحجَّةٍ على المدَّعى عليه، فلا تَجِبُ الشفعة، وإذا صُولِحَ على دار، ففي زَعْمِ المُدَّعي أنَّه أخذَها عن حقِّه، فيؤاخذُ بزعمِه، فتجبُ الشُّفْعة.
(وما اسْتُحِقَّ من المدَّعى ردَّ المدَّعي حصَّتَه من العوض، ورجعَ بالخصومةِ فيه): أي يخاصمُ المُسْتَحِقُّ فيما استحقَّه، (وما استحقَّ من البدلِ (من يدِ المدَّعي)
(3)
رجع إلى الدَّعوى في كلِّه، أو بعضِه): أي إن استحقَّ بعض البدلِ من يدِ المدَّعي رَجَعَ إلى دعوى حصَّةِ ما استحقَّ من المصالحِ عنه، وإن استحقَّ كلَّه رَجَعَ إلى دعوى الكلّ، وفي الصُّلحِ مع الإقرارِ إذا استحقَّ البدلَ رَجَعَ إلى المُبْدَل؛ لوجودِ إقرارِ المدَّعى عليه،
(1)
يعني إذا كان الصلحُ مع سكوت أو إنكار معاوضةً فلا تجبُ الشفعة إذا صالحا عن دارٍ مع السكوتِ أو الإنكار، وصورة المسألة: أن زيداً مثلاً ادَّعى على بكرٍ داراً، فأنكرَ أو سكت، ثمَّ صالح عنها بدفع شيءٍ آخر لا تجبُ في دارِهِ الشفعة؛ لأنّه يدّعي أنّها داره وأنّه يستبقيها على ما كانت له، وإنَّ الذي دفعه إلى المدَّعي ليس بعوضٍ عنها وإنّما هو لافتداء اليمينِ وقطع المنازعة. ينظر:«التبيين» (3: 33).
(2)
زيادة من ب و ص و م.
(3)
زيادة من أ.
ولو صالحَ على بعضِ دارٍ يدَّعيها لم يصحّ، وحيلتُهُ أن يزيدَ في البدلِ شيئاً، أو يُبْرأَ عن دعوى الباقي.
[فصل في أقسام الصلح]
وصحَّ الصُّلحُ عن دعوى المالِ والمنفعة
وفي السُّكوتِ والإنكارِ رَجَعَ إلى دعوى المُبْدَل
(1)
.
(ولو صالحَ على بعضِ دارٍ يدَّعيها لم يصحّ، وحيلتُهُ أن يزيدَ في البدلِ شيئاً، أو يُبْرأَ عن دعوى الباقي)
(2)
: أي
(3)
إنِّما لم يصحّ؛ لأنَّ بعضَ الدَّار لا يصحُّ عوضاً عن الكلّ، فإذا زادَ في البدلِ شيئاً كدرهم، أو ثوب، يكون ذلك عوضاً عمَّا بقي في يدِ المدَّعى عليه، وإن أَبْرأَهُ المدَّعي عن دعوى الباقي يصحُّ أيضاً؛ لأنَّ هذه براءةٌ عن دعوى الأعيان، وهي صحيحة، وإن لم يكنْ البراءةُ عن الأعيانِ صحيحةً، والفرقُ بينهما يَظْهَرُ فيما إذا كان الدَّارُ في يدِ المدَّعى عليه، فيبرأُ المدَّعي عن دعواها يصحّ، وإن لم تكن في يدِّ المدَّعى عليه كما إذا ماتَ واحد، وتركَ ميراثاً، فبرئ واحدٌ عن نصيبِه لا يصح؛ لأنَّه هذه براءةٌ عن الأعيان.
[فصل في أقسام الصلح]
(وصحَّ الصُّلحُ عن دعوى المالِ
(4)
والمنفعة).
(1)
لأنّ المدَّعي لم يتركِ الدّعوى إلا ليسلَّم له البدل، فإذا لم يسلَّم له رجعَ بالمبدل وهو الدعوى، بخلاف ما إذا وقعَ الصلحُ بلفظِ البيع، بأن قال أحدُهما: بعتكُ هذا الشيء بهذا، وقال الآخر: اشتريت، حيث يرجعُ المدَّعي عند الاستحقاق على المدعى عليه بالمدَّعى نفسه لا بالدَّعوى؛ لأنَّ إقدامَ المدّعى عليه على المبايعة إقرارٌ منه بأنَّ المدعى ملك المدَّعي فلا يعتبرُ إنكاره بخلافِ الصلح؛ لأنّه لم يوجدْ منه ما يدلُّ على أنه أقرّ بالملك له، إذ الصلحُ قد يقع لدفعِ الخصومة. ينظر:«التبيين» (5: 34).
(2)
ما ذكر في «المتن» روايةُ ابن سماعة رضي الله عنه، وظاهر الرواية: الصحَّةُ مطلقاً؛ أي ولو من غير هذه الحيلة، فلا تصحّ الدَّعوى بعده، وإن برهنَ، ومشى عليه في «الاختيار» (3: 10)، كما في «الدر المختار» و «حاشيته للطحطاوي» (3: 352).
(3)
زيادة من أ.
(4)
لأنه في معنى البيع فما جاز بيعه جاز صلحه. وعن دعوى المنفعة: كأن يدعي في دار سكنى سنة وصية من صاحبها فجحد الوارث أو أقر فصالحه على مال أو منفعة جاز؛ لأن أخذ العوض عنها بالإجارة جائز فكذا الصلح لكن إنما يجوز الصلح عن المنفعة على المنفعة إذا كانتا مختلفتي الجنس بأن يصالح عن السكنى على خدمة العبد مثلا وأما إذا اتحد جنسهما كما إذا صالح عن السكنى على السكنى مثلا فلا يجوز. ينظر: «درر الحكام» (2: 398). «المحيط» (ص 247).
والجنايةِ في النَّفسِ وما دونها عمداً أو خطأً، والرِّقِّ، ودعوى الزَّوجِ النِّكاح، وكان عتقاً بمال وخلعاً، ولم يجزْ عن دعواها النِّكاحُ
قيل
(1)
: صورةُ الصُّلحِ عن دعوى المنفعة: أن يدَّعي على الورثة أنّ الميْتَ كان أوصى بخدمةِ هذا العبد، وأنكرَ الورثة، وإنِّما يحتاجُ إلى ذلك؛ لأنَّ الروايةَ محفوظةٌ
(2)
: أنَّه لو ادَّعى على استئجار عين، والمالك يُنْكِرُه، ثُمَّ صالحا لا يجوزُ.
(والجنايةِ في النَّفسِ وما دونها عمداً أو خطأً، والرِّقِّ، ودعوى الزَّوجِ النِّكاح، وكان عتقاً بمال وخلعاً): أي إن كان الصُّلحُ على مال عن دعوى الرِّقِّ كان
(3)
عتقاً بمال، فإن كان الصُّلحُ مع الإقرارِ كان عتقاً بمالٍ في حقِّهما حتَّى يثبتَ الولاء، وإن لم يكنْ مع الإقرار، فهو عتقٌ بمالٍ في زعم المدَّعي، لا في زعمِ المدَّعى عليه، بل قطعُ نزاعٍ في زعمِه، فلا يثبتُ الولاءُ
(4)
إلا أن يقيمَ البيِّنة، فكان الصُّلح خلعاً في دعوى الزَّوج النِّكاح، ففي الإقرارِ يكونُ خلعاً مُطلقاً، وفي الآخرين في زعم الزَّوجِ لا في زعمِها حتَّى لا تَجِبَ عليها العدَّة، وإن تزوَّجَتْ زوجاً آخر جازَ في القضاء، أمَّا فيما بينها وبين الله تعالى، فإن عَلِمَتْ أنَّها كانت زوجةً للأَوَّلِ لا يحلُّ لها التَّزوُّجُ في عدَّتِه، وإن علمَتْ أنَّها لم تكنْ حلَّ.
(ولم يجزْ عن دعواها النِّكاحُ): ذَكَرَ في في «الهداية» أنَّ في بعض نسخ «مختصر القُدُورِيّ» : جواز الصُّلْحِ بأن يَجْعَلَ بدلَ الصُّلْحِ زيادةً في المهر، وفي بعض النسخ: عدمَ الجواز
(5)
.
(1)
هكذا ذكرَه في «السراجِ الوهَّاج» نقلاً عن «المستصفى» ، لكن ذكر في «البحر» (7: 256 - 257): إنَّ الصلحَ عن دعوى المالِ مطلقاً والمنفعةِ جائز، كصلحِ المستأجرِ مع المؤجِّر عند إنكارِهِ الإجارة أو المدَّة المدّعى بها مقداراً والأجرة، وكذا الورثة إذا صالحوا الموصي له بالخدمة على مالٍ مطلقاً، والمنافعُ إن اختلفَ جنسها، فإنّه يجوز، لا إن اتّحد. انتهى. وينظر:«الشرنبلالية» (2: 398).
(2)
يعني إنّا تتبعنا جميع الروايات في هذه المسألة وحفظناها ولم نجد فيها تجويز الصلح عن دعوى استئجار العين. ينظر: «ذخيرة العقبى» (ص 483).
(3)
زيادة من أ.
(4)
لأنّه ينكر العتق ويدّعي أنّه حرّ الأصل إلاَّ أن يقيمَ البيّنة بعد ذلك، فتقبل بيِّنته في حقِّ ثبوت الولاء عليه؛ لأنّه صالحَه على مال بعد كونه عبداً له، فيكون صلحُهُ بمنْزلة الإعتاقِ على مال، فثبتت الولاء له لا غير، حتى لا يكون رقيقاً؛ لأنّه جعل معتقاً بالصلح فلا يعود رقيقاً. ينظر:«الزبدة» (3: 257).
(5)
انتهى من «الهداية» (3: 195) بتصرف.
ولا عن دعوى حدٍّ، ولا إذا قتلَ مأذونٌ آخر عمداً، وصالحَ عن نفسِه، وصحَّ صلحُهُ عن نفسِ عبدٍ له قتلَ رجلاً عمداً، والصُّلحُ عن مغصوبٍ تَلِفَ بأكثرَ من قيمتِه، أو عرض، وفي موسرٍ أعتقَ نصفاً له، وصالحَ عن باقيه بأكثرَ من نصفِ قيمتِهِ بطلَ الفضل
ففي «الوقاية» اختارَ هذا؛ لأنَّ الصُّلْحَ إن جُعِلَ منه فُرْقة، فالعوضُ لم يُشرعْ إلاَّ من جانبِها، وإن لم يجعلْ، فالبدلُ لا يقعُ في مقابلةِ شيء.
(ولا عن دعوى حدٍّ): لأنَّه حقُّ الله تعالى، (ولا إذا قتلَ مأذونٌ آخر عمداً، وصالحَ عن نفسِه)؛ لأنَّ رقبتَهُ ليست من تجارتِه، فلا يجوزُ له التَّصرُّف فيها.
(وصحَّ صلحُهُ عن نفسِ عبدٍ له قتلَ رجلاً عمداً)؛ لأنَّ عبدَهُ من كسبِهِ فيصحُّ تصرُّفُه فيه واستخلاصُه.
(والصُّلحُ عن مغصوبٍ تَلِفَ بأكثرَ من قيمتِه، أو عرض)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: لا يصحُّ بأكثر من قيمتِه إلا أن يكون زيادةً يتغابنُ النَّاسُ فيها؛ لأنَّ حقَّهُ في القيمة، فالزَّائدُ ربا. وله: أنَّ حقَّه في الهالكِ باق، فاعتياضُهُ بأكثر لا يكونُ ربا، فإن الزَّائد على المالية في مقابلة الصورة
(1)
.
(وفي موسرٍ أعتقَ نصفاً له، وصالحَ عن باقيه بأكثرَ من نصفِ قيمتِهِ بطلَ الفضل) هذا بالاتّفاق، أمَّا عندهما فظاهر، وأمَّا عنده
(2)
؛ فلأن القيمةَ منصوصٌ عليها هاهنا فلا يجوزُ الزِّيادةُ عليها، وثمَّة غيرُ منصوص عليها، (ولو صالحَ بعَرَضٍ صَحَّ): وإن كان قيمتُهُ أكثرَ من قيمةِ نصفِ العبد.
(1)
أي إن حقه في الهالك باق ما لم يحكم القاضي بالضمان حتى إذا ترك التضمين بقي العبد هالكاً على ملكه حتى يكون الكفن عليه، فاعتياضه بأكثر من قيمته لا يكون ربا؛ إذ الزائد على المالية يكون في مقابلة الصورة الباقية حكماً لا القيمة حتى لو قضى القاضي بالقيمة ثم تصالحا على الأكثر لم يجز؛ لأن الحقَّ قد انتقل بالقضاء إلى القيمة، وكذا الصلح بعرض صح وإن كان قيمته أكثر من قيمة مغصوب تلف لعدم الربا. ينظر:«الدرر» (2: 399).
(2)
يعني وأمّا عند الإمام رضي الله عنه فوجه بطلانِ ذلك الفضل أنّ قيمةَ العتقِ منصوصٌ عليها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن أعتق شقصاً من عبد مشترك بينه وبين شريكه، قوّم عليه نصيب شريكه» [في البخاري (2: 882) بلفظ قريب منه]، وتقريرُ الشرعِ ليس أدنى من تقريرِ القاضي، فلا يجوزُ الزيادةُ عليه بخلاف المسألةِ المتقدّمة، فإنَّ القيمةَ ثمة غيرُ منصوص عليها، فلم يعتبرْ فيه دلالةُ التقدير. ينظر:«الزبدة» (259).
[باب التبرع بالصلح والتوكيل به]
وبدلُ صُلْحٍ عن دمٍ عمد، أو على بعضِ دينٍ يدَّعيه يلزمُ الموكِّلُ لا وكيله إلا أن يضْمَنَه، وفيما هو كبيعٍ لزم وكيله، وإن صالحَ فضوليٌّ، وضَمِنَ البدل، أو أضافَ إلى ماله، أو أشارَ إلى نقد أو عَرَضٍ بلا نسبةٍ إلى نفسِه، أو أطلقَ ونقدَ صحّ، وإن لم ينقدْ إن أجازَهُ المدَّعى عليه لَزِمَهُ البدلُ وإلا رُدّ
[باب التبرع بالصلح والتوكيل به]
(وبدلُ صُلْحٍ عن دمٍ عمد، أو على بعضِ دينٍ يدَّعيه يلزمُ الموكِّلُ لا وكيله)؛ لأنَّ الصُّلحَ في هاتين الصُّورتين ليس بمَنْزلةِ البيع، أمَّا في الأوَّلِ فظاهر، وأمَّا في الثَّاني؛ فلأنّه أخذَ البعض، وحَطَّ الباقي، فيرجعُ الحقوقُ إلى الموكِّل
(1)
(إلا أن يضْمَنَه): أي الوكيل، فحينئذٍ يكونُ البدلُ عليه لأجلِّ الكفالة.
(وفيما هو كبيعٍ لزم وكيله): أي فيما يكون الصلحُ عن مالٍ على مال من غير جنس المصالح عنه، ويكون مع الإقرار.
(وإن صالحَ فضوليٌّ، وضَمِنَ البدل، أو أضافَ إلى ماله، أو أشارَ إلى نقد أو عَرَضٍ بلا نسبةٍ إلى نفسِه، أو أطلقَ ونقدَ صحّ، وإن لم ينقدْ إن أجازَهُ المدَّعى عليه لَزِمَهُ البدلُ وإلا رُدّ): أي صالحَ الفضولىُّ عن جانبِ المدَّعى عليه مع المدَّعي، وضَمِنَ بدلَ الصُّلْح، أو قال: صالحتُك على ألف درهم من مالي، أو ألفي هذا، أو على عبدي هذا، أو قال: صالحتُك على هذا الألف، أو على هذا العبد من غير أن ينسبَهما إلى نفسِهِ أو أطلقه، وقال: صالحتُك على ألفِ درهمٍ ونقدَه، ففي هذه الصُّور صحَّ الصُلح
(2)
، وإن لم ينقدِ الألفَ إن أجازَ المدَّعى عليه لَزِمَهُ وإلاَّ فلا.
(1)
لأنه هذا الصلح إسقاط محض، فكان الوكيل فيه سفيراً ومعبِّراً، فلا يكون البدل عليه كالوكيل بالنكاح. ينظر:«فتح باب العناية» (3: 190).
(2)
أمّا إذا أضافَه إلى ماله؛ فلأنّ الإضافةَ إلى نفسِهِ إلتزامٌ منه للتسليمِ إلى المدَّعي، وهو قادرٌ على ذلك، فيجب عليه تسليمه، فيصحُّ لتمام رضاه به، وأمّا إذا أشارَ إلى نقدٍ أو عرضٍ بلا نسيئةٍ إلى نفسه؛ فلأنَّ المعرَّفَ المشارَ إليه كالمضافِ إلى نفسه؛ لأنّه تعيَّن للتسليم إليه بشرطه، فيتمُّ به الصلح، وأمّا إذا أطلقَ ونقدَ فلأنَّ التسليمَ إلى المدّعي يوجبُ سلامةَ العوضِ له، فيتمُّ عقدُ الصلح؛ لحصول مقصوده، وهو سلامةُ العوضِ للمدّعي. ينظر:«التبيين» (5: 40 - 41).
[باب الصلح في الدين]
وصلحُه على بعضِ جنسِ ما له عليه أخذٌ لبعضِ حقِّه، وحَطٌّ لباقيه لا معاوضة، فصحَّ عن ألفٍ حالٍّ على مئةٍ حالَّة، أو على ألفٍ مؤجَّل، أو عن ألفٍ جيادٍ على مئةٍ زيوف، ولم يصحَّ عن دراهمَ على دنانيرَ مؤجَّلة، أو عن ألف مؤجَّلٍ على نصفه حالاً، أو عن ألف سودٍ على نصفِهِ بيضٍ، ومَن أمرَ بأداء نصفِ دينٍ عليه غداً على أنَّه بريءٌ ممَّا زادَ إن قَبِلَ ووفَّى
[باب الصلح في الدين]
(وصلحُه على بعضِ جنسِ ما له عليه أخذٌ لبعضِ حقِّه، وحَطٌّ لباقيه لا معاوضة)؛ لأنَّ بعضَ الشَّيء لا يصلحُ عوضاً للكلّ، (فصحَّ عن ألفٍ حالٍّ على مئةٍ حالَّة، أو على ألفٍ مؤجَّل)، ففي الأَوَّلِ يكونُ إسقاطاً لما فوقَ المئة، وفي الثَّاني يكونُ إسقاطاً لوصف الحلول، (أو عن ألفٍ جيادٍ على مئةٍ زيوف)؛ لأنَّه يكونُ إسقاطاً لما فوق المِئةِ إسقاطاً لوصفِ الجودة في المئة، ففي هذه الصُّور يصحُّ الصُّلح، ولا يشترطُ قبضُ بدلِ الصُّلح.
(ولم يصحَّ عن دراهمَ على دنانيرَ مؤجَّلة)؛ لأنَّ هذا الصُّلحَ معاوضةٌ فيكونُ صرفاً، فيشترطُ قبضُ الدَّنانير قبل الافتراق
(1)
، (أو عن ألف مؤجَّلٍ على نصفه حالاً)؛ لأنَّ وصفَ الحلولِ في مقابلةِ خمسمئة، وذلك الوصفُ ليس بمال، (أو عن ألف سودٍ
(2)
على نصفِهِ بيضٍ): لأنَّه يكونُ معاوضةَ ألفٍ سودٍ بخمسمئة، وزيادة وصف (4 (وهو البياضُ)
(3)
فلا يجوز
(4)
.
(ومَن أمرَ بأداء نصفِ دينٍ عليه غداً على أنَّه بريءٌ ممَّا زادَ إن قَبِلَ ووفَّى
(5)
(1)
أي لا وجه لصحة ذلك سوى المعاوضة، وبيع الدراهم بالدنانير نساءً لا يجوز، لا يمكن حمله على التأخير؛ لأن الدنانير غير مستحقة بعقد المداينة. ينظر:«فتح باب العناية» (3: 191).
(2)
المرادُ بالدراهم السوداء ما كانت الفضَّةُ فيها أكثر من الغشّ. ينظر: «الزبدة» (3: 261).
(3)
زيادة من ب.
(4)
زيادة من ف.
(5)
زيادة من أ و ب و م.
برئ، وإن لم يفِ عاد دينه، وإن لم يؤقِّتْ لم يعد، وكذا لو صالحَهُ من دينِهِ على نصفٍ يدفعه إليه غداً، فهو بريء ممَّا فَضَل، على
برئ، وإن لم يفِ عاد دينه): أي إن
(1)
قالَ: أدِّ إليَّ خمسمئة غداً على أنَّك بريٌ من الباقي فقبل، وأدَّى برئَ، فإن لم يؤدِّ خمسمئةِ في الغدِ عادَ دينُه، وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّد رضي الله عنه، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه لا يعودُ دينُه؛ لأنَّ البراءةَ مطلقة؛ لأنَّ كلمةَ: على؛ للعوض، وأداءُ النِّصفُ لا يصلحُ عوضاً للبراءة، فبقي البراءةُ مطلقة
(2)
.
ولهما: أن: على؛ للشَّرط، فيكون البراءةُ مقيَّدةً بالشَّرط، فيفوتُ بفواتِه، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ كلمةَ: على؛ دخلتْ على البراءة، فهذا التَّعليلُ إنِّما يصحُّ لو قال: أبرأتُكَ عن خمسمئة على أن تؤدِّي الخمسمئةٍ الأخرى
(3)
.
ويمكنُ أن يجابَ عنه: بأنَّه وإن كان في اللفظِ هكذا، لكن في المعنى كلُّ واحدٍ مقيِّدٌ بالأخر؛ لأنَّه ما رضي بالبراءةِ مطلقاً، بل بالبراءةِ على تقديرِ أداءِ الخمسمئة، فصارت البراءةُ مشروطةً بالأداء، فإذا لم يودِّ عادَ حقُّه. هذا
(4)
من إملاء المصنِّف رضي الله عنه.
(وإن لم يؤقِّتْ لم يعد): أي إن لم يؤقِّتِ الأداء، بل قال: أدِّ إليَّ خمسمئة (بأنك بريء من الباقي)
(5)
، ولم يقلْ غداً، ففي هذه الصُّورةِ إن لم يؤدِّ الدَّينَ لم يَعُدْ دينُهُ؛ لأنَّه إبراءٌ مطلق.
(وكذا لو صالحَهُ من دينِهِ على نصفٍ يدفعه إليه غداً، فهو بريء ممَّا فَضَل، على
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
أي إنّه جعلَ أداءَ الخمسمئة عوضاً؛ لأنّ كلمةً: على؛ للمعاوضة، والأداءُ لا يصلح عوضاً؛ لأنّه واجبٌ عليه قبل الصلح، وهو لم يذكر للإبراء عوضاً سواه، والعوضُ هو المستفادُ بالعقد، ولم يستفد شيئاً، فصار وجوده كعدمِه، فبقيَ الإبراءُ مطلقاً، فلا يعود عليه الألف، كما إذا بدأ بالإبراء، بأن قال: أبرأتُك عن خمسمئة من ألف على أن تؤدّيَ إليَّ نقداً خمسمئة. ينظر: «التبيين» (5: 43).
(3)
حاصلُ النظر: أنّ كونَ البراءة مقيَّدةٌ بشرط الأداءِ ممنوع، فإنَّ كلمةَ: على؛ هاهنا دخلت على البراءةِ دون الأداء، فكيف يكون الأداءُ شرطاً للبراءة؛ فإنَّ ما دخلَ عليه كلمة: على؛ هو الشرط، فهذا التعليل لا يجري فيما نحن بصدده، بل فيما إذا قال: أبرأتك عن خمسمئة على أن تؤدّيَ الخمسمئة الأخرى، وهذه مسألة أخرى. ينظر:«الزبدة» (3: 261).
(4)
زيادة من أ.
(5)
زيادة من ب.
أنَّه إن لم يدفعْهُ غداً، فالكلُّ عليه، فإن أبرأهُ عن نصفِهِ على أن يعطيَه ما بقيَ غداً، فهو بريءٌ أدَّى الباقي أو لا
أنَّه إن لم يدفعْهُ غداً، فالكلُّ عليه)، ففي هذه الصُّورةِ إن قَبِلَ بَرِئ عن الباقي، فإن لم يؤدِّ في الغد، فالكلُّ عليه كما في المسألة الأولى، وهذا بالإجماع
(1)
.
(فإن أبرأهُ عن نصفِهِ على أن يعطيَه ما بقيَ غداً، فهو بريءٌ أدَّى الباقي أو لا)
(2)
، وقد علَّلَ في هذه الصُّورةِ ما علَّلَ أبو يوسفَ رضي الله عنه في المسألةِ الأولى
(3)
، وهذا عجيب، بل التَّعليلُ الذي ذُكِرَ من جانبِ أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّد رضي الله عنه إنِّما يصحُّ في هذه
(1)
لأنه أتى بصريح التقييد فإذا لم يوجد بطل. ينظر: «شرح ابن ملك» (ق 229/ب).
(2)
لأنه أطلق الإبراء، وأداء خمسمئة غداً لا يصلح عوضاً، ويصلح شرطاً مع الشكّ في تقييده بالشرط، فلا يتقيد بالشكّ بخلاف ما إذا بدأ بأداء خمسمئة؛ لأن الإبراء حصل مقروناً به، فمن حيث أنه لا يصلح عوضاً يقع مطلقاً، ومن حيث أنه يصلح شرطاً لا يقع مطلقاً، فلا يثبت بالشكّ فافترقا. ينظر:«الدرر» (2: 401).
(3)
المقصود صاحب «الهداية» (3: 198) إذ استدلَّ على ما ذهبَ إليه أبو يوسفَ رضي الله عنه في المسألة الأولى بقوله: لأنّه إبراء مطلق، ألا ترى أنّه جعلَ أداء الخمسمئة عوضاً حيث ذكره بكلمة: على؛ وهي للمعاوضة، والأداءُ لا يصلحُ عوضاً؛ لكونه مستحقّاً عليه، فجرى وجوده مجرى عدمه، فبقيَ الإبراءُ مطلقاً، فلا يعود كما إذا بدأ بالإبراء. انتهى.
واستدلَّ في هذه المسألةِ التي نحن فيها بقوله: لأنّه أطلقَ الإبراء أوّلاً، وأداء الخمسمئة لا يصلحُ عوضاً مطلقاً، ولكنّه يصلحُ شرطاً، فوقعَ الشكُّ في تقييده بالشرط، فلا يتقيَّدُ به، بخلاف ما إذا بدأ بأداءِ خمسمئة؛ لأنَّ الإبراءَ حصل مقروناً به، فمن حيث أنّه لا يصلحُ عوضاً تقعُ مطلقاً، ومن حيث أنّه يصلحُ شرطاً لا يقع مطلقاً، فلا يثبتُ الإطلاقُ بالشكِّ فافترقا. انتهى.
فظنَّ أنَّ التعليلَ في هذه المسألة بما علَّله أبو يوسفَ رضي الله عنه في المسألة الأولى بقرينةِ إطلاق الإبراء، وكون الأداء غيرَ صالحٍ للعوض، ويؤيِّدُ ذلكَ قولُ صاحب «الهداية» (3: 198) في الاستدلال الأوّل: فبقيَ الإبراءُ مطلقاً، فلا يعود كما إذا بدأ بالإبراء. فهذه التعليل عجيب، وكان المناسب أن يذكرَ هنا ما استدلَّ به على ما ذهبَ إليه أبو حنيفةَ رضي الله عنه ومحمد رضي الله عنه في المسألةِ الأولى من أنّ هذا إبراءٌ مقيّدٌ بالشرطِ فيفوتُ بفواته، فإنَّ كون الإبراءِ مقيداً بالشرط موجودٌ هنا، لا في المسألةِ الأولى، فانقلبَ الأمر.
وأنتَ تعلم أنّ استعجاب الشارح رضي الله عنه ليس بشئ بالنظرِ إلى وجه الفرق بين المسألتين، كما بيَّنَه صاحبُ «الهداية» (3: 198) بقدر الكفاية، ونبَّه عليه بقوله: فافترقا، وأمّا الجوابُ بأنّ هذا إنّما جاء من لفظ غداً؛ لأنَّ الإبراءَ في الحالِ لا يمكنُ أن يكون مقيّداً بإعطاءِ الخمسمئة غداً مذكور في المسألة الأولى أيضاً، وقالوا في تقييد الإبراءِ بالشرط: يحصل الإبراءُ في الحال بشرط وجود ما قيَّدَ به، حتى أنّه لو لم يوجد المقيَّد يعودُ الدّين فيمكن الإبراءُ في الحال مقيِّداً بإعطاءِ الخمسمئة غداً كما لا يخفى، فتأمَّل فيه، فإنّه بالتأمُّل حقيق. ينظر:«الزبدة» (3: 262).
ولو علَّقَ صريحاً كإن أدّيتَ إليَّ كذا، أو إذا، أو متى لا يصحّ، لا يصحُّ، وإن قال للآخر سرّاً: لا أقرَّ لك حتَّى تؤخِّرَه عنِّي، أو تحطَّهُ ففعل، صحَّ عليه، ولو أعلن أخذَ للحال.
[فصل في الدين المشترك]
ولو صالحَ أحدُ ربَّي دينٍ عن نصفِهِ على ثوبٍ اتَّبعَ شريكُهُ غريمَهُ بنصفِه، أو أخذَ نصفَ الثَّوبِ من شريكِه إلاَّ أن يَضْمَنَ ربعَ الدَّين
المسألة؛ لأنَّ الإبراء مقيِّدٌ بالشرطِ هاهنا لا في المسألة الأولى، ويمكنُ أن يجابَ عنه: بأن هذا إنِّما جاءَ من لفظ: غداً؛ لأنَّ الإبراءَ في الحالِ لا يمكنُ أن يكونَ مقيِّداً بإعطاء الخمسمئة غداً. من إملاء المصنِّف إليَّ
(1)
رضي الله عنه.
(ولو علَّقَ صريحاً كإن أدّيتَ إليَّ كذا، أو إذا، أو متى لا يصحّ): أي إن
(2)
قال: إن أدَّيتَ إليَّ كذا، فأنتَ بريءٌ من الباقي، (لا يصحُّ)؛ لأنَّ الأبراءَ المعلَّقَ تعليقاً صريحاً لا يصحّ، فإنَّ الإبراءَ فيه معنى التَّمليك، ومعنى الإسقاط، فالإسقاطُ لا يُنافي تعليقُهُ بالشَّرط، والتَّمليكُ يُنافيه، فراعينا المعنيين، وقلنا: إن كان التَّعليقُ صريحاً لا يصحُّ، إن لم يكنْ صريحاً كما في الصُّورةِ المذكورة يصحَّ.
(وإن قال للآخر سرّاً: لا أقرَّ لك حتَّى تؤخِّرَه عنِّي، أو تحطَّهُ ففعل، صحَّ عليه، ولو أعلن أخذَ للحال
(3)
.
[فصل في الدين المشترك]
ولو صالحَ أحدُ ربَّي دينٍ عن نصفِهِ على ثوبٍ اتَّبعَ شريكُهُ غريمَهُ بنصفِه، أو أخذَ نصفَ الثَّوبِ من شريكِه إلاَّ أن يَضْمَنَ ربعَ الدَّين)
(4)
، فإنّ الشَّريكَ إن ضَمِنَ
(1)
زيادة من ب.
(2)
زيادة من أ و م.
(3)
أي ولو أعلنَ ما قاله سرّاً أخذَ المال من المقرِّ بلا تأخيرٍ وحطٍّ، والمراد بالإعلانِ هو التكلّم به أوَّلاً بين الناس، وليس المرادُ به أنّه بعدما اتَّفقا على الحطِّ والتأخير، فإنّه لا ينقض الصلّح. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 317).
(4)
يعني إذا كان الدَّين مشتركاً بين الشريكين، وصالح أحدُهما عن نصفِه وهو نصيبُه على ثوبٍ، فلشريكهِ الخيارُ إن شاءَ أن يتّبع المديون بنصفِ الدَّين لبقاء حصَّته في ذمَّته أو يأخذ نصفَ الثوب من شريكه؛ لأنّ له حقّ المشاركة فيه؛ لأنه عوضٌ عن دينه، إلاَّ أن يضمنَ المصالحُ للشريك ربعَ الدّين، فإنَّ حقّه في الدَّينِ لا في الثوب، والسرُّ في الخيار: أن أحد الشريكين لا يختصُّ بالمقبوضِ من الدَّين، إذ لا يجوزُ قسمتُهُ قبل القبض، والمقبوضُ خيرٌ من الدَّين، فقضيَّتُهُ أن يضمِّنَه ربعَ الدين، ولا يكون له سبيل على الثوب؛ لأنّه أخذ عوضه، لكنَّ الصلحَ مبنيّ على الحطّ، فلو ألزمنا ربعَ الدَّينِ لتضرَّر المصالح؛ لأنّه قد لا يبلغ قيمة الثوب كلّه ربعَ الدّين، فأثبتنا له الخيار بين أن يرجعَ على المدين بنصيبه، وبين أن يأخذَ نصفَ ما وقعَ عليه الصلحُ أو ربعُ الدَّين؛ دفعاً للضررِ عنهما بقدر الإمكان. ينظر:«التبيين» (5: 46).
ولو قبضَ أحدٌ شيئاً من الدَّين شاركَهُ شريكُهُ فيه، ورجعا على الغريمِ بما بقي، ولو اشترى بنصفِهِ شيئاً ضمَّنَهُ شريكه ربعَ الدَّين أو اتَّبع غريمه، وفي الإبراءِ عن حظِّه والمقاصَّة بدينٍ سبقَ لم يرجع الشَّريك
له ربعَ الدَّين فلا حقَّ له في الثَّوب، هذا إذا كان الدَّينُ مُشْتَركاً بينهما، بأن يكونَ واجباً بسببٍ متّحدٍ كثمنِ المبيع صفقةً واحدة، وثمنَ المالِ المشترك، أو الموروث بينهما، وقيمة المستملك المشترك، فإنّ كلَّ ما أخذَهُ أحدُ الشَّريكينِ فللآخرِ إتِّباعُه.
(ولو قبضَ أحدٌ
(1)
شيئاً من الدَّين شاركَهُ شريكُهُ فيه، ورجعا على الغريمِ بما بقي): أي لا يكونُ للغريم أن يقولَ للذي أعطاهُ نصفَ الدَّين: إنِّي قد أعطيتُك حقَّك، فليس لك عليَّ شيء، فإنَّ ما أعطاهُ إيَّاه مشتركٌ بينه وبين شريكه.
(ولو اشترى بنصفِهِ شيئاً ضمَّنَهُ شريكه ربعَ الدَّين أو اتَّبع غريمه): أي اشترى أحدُ الشَّريكين بنصفِهِ من الغريم شيئاً فللشريكِ الآخرِ أن يضمِّنَهُ ربعَ الدَّين؛ لأنَّه صارَ قابضاً نصفَ الدَّينِ بالمقاصّة، فيضمِّنَه شريكُهُ الرُّبع بخلافِ مسألةِ الصُّلْح، فإنَّه إذا أخذَ الثَّوبَ بطريقِ الصُّلحِ عن النِّصف، ومبنى الصُّلحِ على الحطّ، فالظَّاهرُ أن قيمةَ الثَّوبِ أقلُّ من نصفِ الدَّين، فلو ضمَّنَه ربعَ الدَّينِ يتضرَّر آخذُ الثَّوب، فلآخذ الثَّوبَ أن يقولَ: إنِّي ما أخذتُ إلا الثَّوب، فإن شئتَ خذ نصفَهُ بخلاف مسألةِ الشِّراءِ إذ مبناهُ على المماكسة، فلا يتضرَّر المشتري بضمانِ رُبْعِ الدَّين.
(وفي الإبراءِ عن حظِّه والمقاصَّة بدينٍ سبقَ لم يرجع الشَّريك): أي إذا أبرأَ أحدُ الشَّريكين الغريمَ عن نصيبِه لا يرجعُ الشَّريكُ الآخر على ذلك الشَّريك؛ لأنَّ الأبراءَ إتلافٌ لا قبض، وكذا إن وقعتِ المقاصَّة بدينِهِ السَّابق، صورتُهُ: لزيدٍ على عمرو
(1)
زيادة من ب و م.
ولو أبرأَ أحدُهما عن البعضِ قُسِّمَ الباقي على سهامِهِ، وبطلَ صُلحُ أحدُ ربَّي سَلَم من نصفِهِ على ما دَفَعَ.
[فصل في التخارج]
فإن أُخْرِجَ أحدُ الورثةِ عن عرض أو عقارٍ بمال، أو عن ذهبٍ بفضّة، أو
خمسونَ درهماً، فباعَ عمرو وبكر عبداً مشتركاً بينهما من زيدٍ بمئة درهم حتَّى وَجَبَ لكلٍّ منهما على زيدٍ خمسونَ درهماً، وقعت المقاصّة بين الخمسينَ التي وجبتْ لعمرو على زيد، وبين الخمسينَ التي كانت لزيدٍ على عمرو، فليس لبكرٍ أن يقولَ لعمروٍ: إنَّكَ قبضتَ الخمسينَ التي وجبتَ لك على زيدٍ حيث وقعتِ المقاصَّةُ بينهما، وبين الخمسينَ التي كانت لزيدٍ عليك، فأدِّ إليَّ نصفَها، وإنِّما لا يكونُ له ذلك؛ لأنَّ عمراً قاصَّ دينَهُ بالمقاصَّة لا قابضَ شيئاً.
(ولو أبرأَ أحدُهما عن البعضِ قُسِّمَ الباقي على سهامِهِ): أي إذا كان الدَّين بين الشَّريكينِ نصفين، فأبرأ أحدُهما عن نصفِ نصيبه، وهو الرُّبع، قُسِّمَ الباقي أثلاثاً؛ لأنَّه بقي له رُبع، وللآخر نصف.
(وبطلَ صُلحُ أحدُ ربَّي سَلَم من نصفِهِ على ما دَفَعَ): أي إذا أسلمَ رجلان في كُرّ، ورأسُ مالِهما مئة، وسَلَّم كُلُّ واحدٍ خمسين درهماً، ثُمَّ صالحَ أحدُهما عن نصفِ كُرِهِ بالخمسينَ التي دَفَعَها إلى المُسَلَّم إليه، وأخذَ الخمسين، فهذا الصلحُ لا يجوزُ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّدٍ رضي الله عنه، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يجوز كما إذا اشتريا عبداً فأقال أحدُهما في نصيبِه، لهما: أنّه لو صحَّ في نصيبه خاصَّةً لَزِمَهُ قسمةُ الدَّينِ في الذمّة، ولو جازَ في نصيبِهما لا بُدَّ من إجازةِ الآخر، ولم توجد
(1)
.
[فصل في التخارج]
(فإن أُخْرِجَ أحدُ الورثةِ عن عرض أو عقارٍ بمال، أو عن ذهبٍ بفضّة، أو
(1)
أي إنّ هذا الصلحَ على تقديرِ صحَّتِه لا يخلو: إمَّا أن يصحّ في نصيبه خاصَّة، أو في نصيبهما جميعاً، وعلى الشقِّ الأوّل لزمَه قسمةُ الدَّينِ في الذمّةِ قبل القبض، وهذا غير جائز، ووجه اللُّزوم: إنّ خصوصيَّة نصيبه لا تظهرُ إلاَّ بالتمييز، وهو لا يحصلُ إلا بالقسمة، وعلى الشقِّ الثاني فلا بُدَّ من إجازة الآخر، وهي غير موجودة. ينظر:«العناية» (8: 438).
عكسِه، أو نقدين بهما صحّ، قلَّ بدلُهُ أو لا، وفي نقدينِ وغيرِهما بأحدِ النَّقدين لا إلاَّ أن يكونَ المُعطى أكثر من قسطِهِ من ذلك الجنس، وبطلَ الصُّلحُ إن شرطَ فيه لهم الدَّين من التركة، فإن شرطوا براءةَ الغرماءِ منه، أو قضوا نصيبَ المصالح منه تبرُّعاً، أو أقرضوه قَدْرَ قسطِهِ منه، وصالحوا عن غيره، وأحالهم بالقرضِ على الغرماءِ صحَّ
عكسِه، أو نقدين بهما صحّ، قلَّ بدلُهُ أو لا)، إنِّما يصحُّ عن النَّقدين: أي الدَّراهم والدَّنانير بهما سواء قلَّ البدلُ أو كثر؛ لأنُّه يصرفُ الجنسَ إلى خلافِ الجنسِ على ما عُرِفَ في «كتاب الصَّرف» .
(وفي نقدينِ وغيرِهما بأحدِ النَّقدين لا إلاَّ أن يكونَ المُعطى أكثر من قسطِهِ من ذلك الجنس): أي إذا كان المعطي مئه درهم، يجبُ أن يكونَ المئةُ أكثرَ من حصّتِهِ من الدَّراهم؛ ليكون ما يساوي حصّتَهُ في مقابلتِها، وما فَضُلَ في مقابلةِ غيرِ الدَّراهم؛ وذلك لأنَّ الصُّلحَ لا يجوزُ بطريقِ الإبراء؛ لأنَّ التَّركةَ أعيان، والبراءُ عن الأعيانِ لا يجوز.
(وبطلَ الصُّلحُ إن شرطَ فيه لهم الدَّين من التركة): يعني إن أخرجَ أحدُ الورثة، وفي التركةِ ديون، فشرط أن يكونَ الدُّيون لبقيّة الورثة، بطلَ الصُّلحُ؛ لأنُّه تمليكُ الدَّين من غيرِ مَن عليه الدَّين، فَذَكَرَ لصحّة الصلح حيلاً، فقال:(فإن شرطوا براءةَ الغرماءِ منه، أو قضوا نصيبَ المصالح منه تبرُّعاً، أو أقرضوه قَدْرَ قسطِهِ منه، وصالحوا عن غيره، وأحالهم بالقرضِ على الغرماءِ صحَّ).
الحيلة الأولى: أن يشترطوا أن يُبْرِئَ المصالح الغرماء عن حصّتِهِ من الدَّين، ويصالح عن أعيانِ التَّركةِ بمال، وفي هذا الوجهِ فائدةٌ لبقيّةِ الورثة؛ لأن المصالحَ لا يبقى له على الغرماء حقٌّ لا أن حصّتَهُ من الدَّينِ تصيرُ لهم.
والثَّانيةُ: إن بقيّةَ الورثةِ يؤدُّون إلى المصالحِ نصيبَه نقداً، ويحيلُ لهم حصّتَه من الدَّينِ على الغرماء، وفي هذا الوجهِ يتضرَّرُ بقيَّةُ الورثة؛ لأنَّ النقدَ خيرٌ من الدين.
والثَّالثةُ: وهي أحسنُ الطُّرق، وهي الإقراض، فلنفرض أن حصّةَ المُصالح من الدَّين مئةُ درهم ومن العين مئة أيضاً، وهم يصالحونَ على الدَّراهم فلا بُدَّ أن يكونَ بدلُ الصُّلحِ أكثرَ من مئة، وهو مئةٌ وعشرةُ دراهم، فيقرضونَهُ مئة، وهو يحيلُهم بالمئة على الغرماء، وهم يقبلونَ الحوالةَ، ثُمَّ يصالحونَ عن غير الدَّينِ على عشرة، فإن كان غير الدَّين بحيث يجوزُ الصُّلْح عنه بعشرة فظاهر، وإن لم يكن يزادُ على العشرةِ شيءٌ آخر، كسكينٍ مثلاً؛ ليكون العشرةُ في مقابلِ العشرة، والباقي في مقابلة السكين.
وفي صحَّةِ الصُّلْحِ عن تركةٍ جُهِلَت على مكيل أو موزون اختلافٌ، ولو جُهِلَتْ وهي غيرُ المكيلِ والموزونِ في يدِ البقيَّةِ صحَّ في الأصح، (وبطلَ الصُّلحُ والقسمةُ مع دينٍ محيطٍ للتَّركة. ولا يصالحُ قبل القضاءِ في غيرِ محيط، ولو فعلَ قالوا صحَّ، ووُقِفَ قَدْرُ الدَّين، وقُسِّمَ الباقي استحساناً، ووَقْفُ الكلِّ قياساً
(وفي صحَّةِ الصُّلْحِ عن تركةٍ جُهِلَت على مكيل أو موزون اختلافٌ)، فعند بعضِ المشايخ
(1)
رضي الله عنهم: لا يجوزُ لشبهةِ الرِّبا، وعند البعضِ
(2)
: يجوز؛ لأنَّ هاهنا شُبْهةَ شُبْهة الربا، ولا اعتبار لها؛ لأنّه يحتملُ أن يكونَ في التَّركةِ من جنسِ بدلِ الصُّلح، وعلى تقديرِ أن يكونَ (من جنسِهِ)
(3)
يَحتملُ أن يكونَ زائداً على بدلِ الصُّلح، واحتمال الاحتمال يكون شُبهة الشُّبْهة.
(ولو جُهِلَتْ وهي غيرُ المكيلِ والموزونِ في يدِ البقيَّةِ صحَّ في الأصح)، وجهُ عدم الصِّحّة: أن هذا الصُّلْحَ بيعٌ لا إبراء؛ لأنَّ البراءةَ عن الأعيانِ لا يجوز، وإذا كان بيعاً، فأحدُ البدلين مجهول، فلا يصحُّ. وجهُ الصَّحةِ: أن التَّركةَ إذا كانت في يدِ بقيَّةِ الورثة، فالجهالةُ لا تُفْضِي إلى المنازعة فيجوز.
(وبطلَ الصُّلحُ والقسمةُ مع دينٍ محيطٍ للتَّركة
(4)
(5)
.
ولا يصالحُ قبل القضاءِ في غيرِ محيط، ولو فعلَ قالوا صحَّ): أي لا ينبغي أن لا يصالحَ قبل قضاءِ الدَّينِ في دينٍ غير محيط، ولو صولح، فالمشايخ رضي الله عنهم قالوا: صحَّ؛ لأنَّ التَّركةَ لا يخلو عن قليلِ دين، والدائنُ قد يكون غائباً، فلو جُعِلَتِ التَّركةُ موقوفةً يتضرَّرُ الورثة، والدَّائنُ لا يتضرَّر؛ لأنَّ على الورثةِ قضاءَ دينِه، (ووُقِفَ قَدْرُ الدَّين، وقُسِّمَ الباقي استحساناً، ووَقْفُ الكلِّ قياساً)، وجهُ القياسِ: أن الدَّينَ يتعلَّقُ بكلِّ جزءٍ من التَّركةِ، ووجهُ الاستحسانِ لزومُ ضرَّر الورثة.
(1)
وهو قول الإمام ظهير الدين المَرْغِينانِيّ. ينظر: «الكفاية» (7: 412).
(2)
وهو قولُ الفقيه أبى جعفر الهِنْدُوانِيُّ رضي الله عنه، وهو الصحيح. ينظر:«التبيين» (5: 52)، و «الشرنبلالية» (2: 403).
(3)
زيادة من أ.
(4)
زيادة من ب و م. ولكنها في ب: والتركة.
(5)
لأن التركة لم يتملكها الوارث إلا أن يضمن الوارث الدين بشرط أن لا يرجع في التركة أو يضمن أجنبي بشرط براءة الميْت. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 320).
...................................................................................................................
ومن المسائل المهمة: أنّه هل يشترطُ لصحَّة الصُّلحِ
(1)
صحَّة الدَّعوى أم لا؟
فبعضُ النَّاسِ يقولون: يشترط، لكن هذا غيرُ صحيح؛ لأنَّه إذا ادَّعى حقَّاً مجهولاً في دار فصولح على شيءٍ يصحُّ الصُّلحُ على ما مرَّ في باب الحقوق والاستحقاق، ولا شكَّ أنَّ دعوى الحقِّ المجهولِ دعوى غيرُ صحيحة، وفي «الذَّخيرة» مسائلُ تؤيِّدُ ما قلنا.
* * *
(1)
ذكر في «التنوير» (ص 175)، وغيره: إنّ الصلحَ عن الدعوى الفاسدة يصحّ، وعن الدعوى الباطلةِ لا يصحّ، والدعوى الفاسدة ما يمكن تصحيحها، كالدعوى التي وقعَ فيها التناقض، فيمكن تصحيحُها بالتوفيقِ في التناقض، والدعوى الباطلة لا يمكنُ تصحيحها، كما إذا ادّعى أنّها أمته فقالت: أنّا حرّة الأصل، فصالحها عنه، فهو جائز، وإن أقامت بيّنة على أنّها حرّة الأصل فالصلح باطل، إذ لا يمكنُ تصحيحُ هذه الدَّعوى بعد ظهور حريَّة الأصل، ومن الباطلة الصلحُ عن دعوى حدّ، وعن دعوى أجرة نائحةٍ أو مغنيّة أو تصويرٍ محرّم. وتمامه في «الزبدة» (3: 269).
كتاب المضاربة
هي عقدُ شركةٍ في الرِّبحِ بمالٍ من رجل وعملٍ من آخر. وهي إيداعٌ أَوَّلاً، وتوكيلٌ عند عملِه، وشركةٌ إن ربح، وغَصْبٌ إن خالف، وبضاعةٌ إن شرطَ كلّ الرِّبح للمالك، وقرضٌ إن شرطَ للمضارب، وإجارةٌ فاسدةٌ إن فَسَدَتْ فلا ربحَ له عنده
كتاب المضاربة
(هي عقدُ شركةٍ في الرِّبحِ بمالٍ من رجل وعملٍ من آخر.
[حكمها:]
وهي إيداعٌ أَوَّلاً
(1)
، وتوكيلٌ عند عملِه، وشركةٌ إن ربح، وغَصْبٌ إن خالف، وبضاعةٌ
(2)
إن شرطَ كلّ الرِّبح للمالك
(3)
، وقرضٌ إن شرطَ للمضارب).
اعلم أنَّ في هذه العبارةِ تساهلاً
(4)
، وهو أن المضاربةَ إذا كانت عقدَ شركةٍ في الرَّبح، فكيف تكون بضاعة أو قرضاً، وإنِّما قال ذلك بطريقِ التَّغليب، والحقُّ أن يقول: إن المضاربةَ إيداع، وتوكيل، وشركة، وغصب، ودفعُ المال إلى آخر ليعملَ فيه بشرطِ أن يكونَ الرِّبحُ للمالك بضاعة، وبشرطِ أن يكونَ للعاملِ قرض، فنظم الدَّفع المذكورِ في سِلْكِ المضاربةِ تغليباً.
(وإجارةٌ فاسدةٌ إن فَسَدَتْ فلا ربحَ له عنده): أي لا ربحَ للمضاربِ عند
(1)
يعني إنَّ المضاربةَ إيداعٌ حكماً في أوَّل أوقاتِها، وهو زمانُ بعد القبض وقبل العمل، فالمضاربُ يكون أميناً حينئذٍ. ينظر:«كمال الدراية» (ق 523).
(2)
الإبضاع: وضع السلعة عند آخر ليبعها دون أن يأخذ على ذلك أجراً. ينظر: «معجم الفقهاء» (ص 39).
(3)
لأن المضارب لمَّا لم يطلب لعمله بدلاً وعمله لا يتقوَّم إلا بالتسمية كان وكيلاً متبرعاً، وهذا معنى البضاعة، فكأنه نصّ عليها. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 538).
(4)
ويمكن أن يقال: المرادُ إنّه إذا شرطَ بعد عقدِ الشركةِ على وجه المضاربةِ أن يكونَ كلُّ الربحِ للمالكِ يبطلُ المضاربة، ويصير إبضاعاً، وإذا شرطَ كلَّ الرَّبح للمضاربِ يصير إقراضاً. ينظر:«الزبدة» (3: 249).
بل أجرُ عملِهِ رَبِحَ أَو لا، ولا يزادُ على ما شرطَ خِلافاً لمحمَّد رضي الله عنه، ولا يضمنُ المالَ فيها، ولا تصحُّ إلاَّ بمالٍ تصحُّ فيه الشَّركة. وبتسليمه إلى المضارب. وشيوعِ الرِّبحِ بينهما، فتفسدُ إن شُرِطَ لأحدِهما زيادةُ عشرة
الفساد، (بل أجرُ عملِهِ رَبِحَ أَو لا، ولا يزادُ
(1)
على ما شرطَ خِلافاً لمحمَّد رضي الله عنه، ولا يضمنُ المالَ فيها): أي في المضاربةِ الفاسدةِ كما في الصَّحيحة.
[شروطها]:
(ولا تصحُّ إلاَّ بمالٍ تصحُّ فيه الشَّركة.
وبتسليمه إلى المضارب.
وشيوعِ الرِّبحِ بينهما، فتفسدُ إن شُرِطَ لأحدِهما زيادةُ عشرة
(2)
)
(3)
، اعلم أنَّ كلَّ شرطٍ يقطعُ الشَّركةَ في الرِّبح، أو يوجبُ جهالة الرِّبحِ يفسدُها، وما عداه من الشُّروطِ الفاسدةِ التي تفسدُ البيعَ لا تفسدُ المضاربة، بل يبطلُ ذلك الشَّرط، وكذا شرطُ الوضيعةِ
(4)
على المضارب.
(1)
أي لا يزادُ أجرُ مثلِ عملِه على قدرِ ما شرطَ له من الربح، وهذا عند أبي يوسفَ رضي الله عنه؛ لأنّه رضيَ به خلافاً لمحمّد رضي الله عنه، فإنَّ عنده له أجرُ المثلِ بالغاً ما بلغ، والأصلُ فيه: أنّ الإجارةَ إذا قصدت يجبُ أجرُ المثل، فإنّه إن كان معلوماً لا يزادُ عليه، وإن كان مجهولاً كدابّةٍ أو ثوبٍ يجبُ بالغاً ما بلغ، وإن كان معلوماً من وجهٍ دون وجه، كالجزءِ الشائع مثل النصفِ والربع، فعند محمّد رضي الله عنه: يجبُ بالغاً ما بلغ؛ لأنّه مجهول، إذ يكثرُ بكثرةِ ما يحصل، وينقصُ بقلّته، وعندهما: لا يزادُ على المسمَّى؛ لأنّه معلومٌ من جملةِ ما يحصل بعمله. ينظر: «كمال الدراية» (ق 524).
(2)
لأنَّ اشتراطَ ذلك ممّا يقطعُ الشركةَ بينهما؛ لأنّه ربّما لا يربحُ إلا هذا النقد، فيقطعُ الشركةَ في الربح، وإذا فسدت بقيت منافعه مستوفاةً بحكمِ العقد، فيجبُ أجرُ المثل. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 323).
(3)
وأوصلها ملا خسرو في «الغرر» (2: 311) إلى ستة شروط، فأضاف:
كون رأس المال عيناً لا ديناً؛ لأن المضارب أمين ابتداءً ولا يتصوّر كونه أميناً فيما عليه من الدين.
كون رأس المال معلوماً تسمية أو إشارة.
كون نصيب المضارب من الربح معلوماً عند العقد؛ لأن الربح هو المعقود عليه وجهالته توجب فساد العقد.
(4)
أي الخسران؛ لأنه جزء هالك من المال فلا يجوز أن يلزم غير رب المال، فهو شرط زائد
…
ينظر: «الدرر» (2: 312).
وللمضاربِ في مطلقِها أن يبيعَ بنقدٍ ونسيئةٍ إلا بأجلٍ لم يُعْهَدْ، وأن يشتري ويوكِّلَ بهما، ويسافرَ، ويبضعُ ولو ربَّ المالِ ولا تفسدُ هي به، ويودع، ويَرْهَن، ويَرْتَهِن، ويُؤَجِّر، ويَستأجِّر، ويحتالُ بالثَّمن على الأيسرِ والأعسر، وليس له أن يضاربَ إلاَّ بأذنِ المالك، أو باعمل برأيِّك، ولا أن يقرض، أو يستدين، وإن قيل له ذلك، ما لم ينصَّ عليهما، فلو شَرَى بالمالِ بَزَّاً وقَصَر، أو حملَ بمالِه، وقيل له ذلك
(وللمضاربِ في مطلقِها أن يبيعَ بنقدٍ ونسيئةٍ إلا بأجلٍ لم يُعْهَدْ)، المرادُ بالمطلق ما لم يُقَيَّدْ بزمان، أو مكان، أو نوع من التِّجارة، (وأن يشتري
(1)
ويوكِّلَ بهما): أي بالبيعِ والشِّراء، (ويسافرَ)
(2)
، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه: ليس له أن يُسافرَ، وعن
(3)
أبي حنيفة رضي الله عنه: أن دفع في بلده ليس له أن يسافر، وإن دفعَ في غيرِ بلدِهِ له أن يسافرَ إلى بلدِه.
(ويبضعُ
(4)
ولو ربَّ المالِ ولا تفسدُ هي به): أي لا تفسدُ المضاربةُ بأن يُبْضِعَ رَبُّ المالِ خلافاً لزُفَرَ رضي الله عنه، (ويودع، ويَرْهَن، ويَرْتَهِن، ويُؤَجِّر، ويَستأجِّر، ويحتالُ بالثَّمن على الأيسرِ والأعسر): أي يقبلُ الحوالة.
(وليس له أن يضاربَ إلاَّ بأذنِ المالك، أو باعمل برأيِّك)، الضَّابطُ أنَّ الشَّيءَ لا يَتَضَمَّنُ مثلَه بل يَتَضَمَّنُ دونَه كالإيداع، ونحوه، (ولا أن يقرض، أو يستدين، وإن قيل له ذلك): أي اعمل برأيِّك، (ما لم ينصَّ عليهما): أي على الاستدانة والإقراض، وإنِّما يصحُّ المضاربةُ باعمل برأيْك دون الإقراض؛ لأنَّ المضاربةَ من صنيعِ التُّجّار، وهي مجلبةٌ للرَّبح بخلافِ الإقراضِ إذ لا فائدةَ فيه.
(فلو شَرَى بالمالِ بَزَّاً
(5)
وقَصَر
(6)
، أو حملَ بمالِه، وقيل له ذلك): أي اعمل
(1)
يعني وجازَ للمضاربِ في المضاربةِ المطلقةِ أن يشتريَ ما هو المتعارفُ عند التجّار. ينظر: «جامع الرموز» (2: 141).
(2)
يعني جازَ للمضاربِ في المضاربةِ المطلقةِ أن يسافرَ بمال المضاربة، وهو ظاهرُ الرواية. ينظر:«الهداية» (3: 203).
(3)
في أ: عند، وفي ص: وعنه عن.
(4)
المراد بالإبضاع هنا مجرّد الاستعانة لا ما هو المتعارف من أن يكون المال للمبضع والعمل من الآخر، ولمَّا صحّ استعانة المضارب بالأجنبي فلأن يصحّ استعانته برب، وهو أشفق عليه كان أولى. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 540).
(5)
بَزاً: قيل: نوع من الثياب، وقيل: الثيابُ خاصَّةً من أمتعةِ البيت، وقيل: أمتعةُ التاجرِ من الثياب. ينظر: «المصباح» (1: 77).
(6)
قصر: مخفَّفاً ومشدَّداً، وقصرت الثوبَ قصراً: بيَّضته: أي غسله بأجر من ماله. ينظر: «المصباح» (2: 777). «مجمع الأنهر» (2: 324).
فقد تطوّع، وإن صبغَهُ أحمرَ فهو شريكٌ بما زادَ، ودخل تحت اعمل برأيك كالخُلْطة، فلا يضمنُ المضارب، وله حصّةُ صبغِهِ إن بيع، وحصّةُ الثَّوبِ في المضاربة، ولا أن يجاوزَ بلداً أو سلعةً أو وقتاً أو شخصاً عيَّنَه ربُّ المال، فإن جاوزَ عنه ضَمِنَ وله ربحُه، ولا أن يزوِّجَ عبداً، أو أمةً من مالها، ولا أن يشتري مَن يُعْتَقُ على ربِّ المال، فلو شَرَى كان له لا لها
برأيْكَ، (فقد تطوّع)؛ لأنَّهُ لا يملكُ الاستدانة.
(وإن صبغَهُ أحمرَ فهو شريكٌ بما زادَ، ودخل تحت اعمل برأيك كالخُلْطة
(1)
): أي إذا قال: اعمل برأيكَ فصبغَهُ أحمرَ يكونُ شريكاً بما زاد، ويدخلُ الصَّبْغُ تحت اعمل برأيك، وكذا الخلطة بمالِه بخلافِ القِصارة؛ لأنَّه لا يختلطُ به شيءٌ من ماله، وإنَّما قال
(2)
: فصبغَهُ أحمر، حتى لو صبغَهُ أسود، فإنَّه لا يدخلُ تحت اعملْ برأيكَ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ السَّوادِ نقصانٌ عنده، وأمَّا سائرُ الألوانِ غيرَ السَّوادِ فكالحمرة، (فلا يضمنُ المضارب
(3)
): أي بصبغِهِ أحمر، وبالخلط بماله إذا قال: اعمل برأيك، (وله حصّةُ صبغِهِ إن بيع، وحصّةُ الثَّوبِ في المضاربة): أي في مالِ المضاربة.
(ولا أن يجاوزَ بلداً أو سلعةً أو وقتاً أو شخصاً عيَّنَه ربُّ المال، فإن جاوزَ عنه ضَمِنَ وله ربحُه
(4)
، ولا أن يزوِّجَ عبداً، أو أمةً من مالها): أي من مال المضاربة، (ولا أن يشتري مَن يُعْتَقُ على ربِّ المال)، سواء كان قريبَه، أو قال ربُّ المال: إن اشتريتَ فلاناً فهو حرّ، (فلو شَرَى كان له لا لها): أي كان للمضاربِ لا للمضاربة.
(1)
أي خلط المضارب بمال نفسه. ينظر: «الدرر» (2: 312).
(2)
أي إنّما قيَّدَ قوله: صبغه بقوله: أحمر؛ لأنّه لو صبغَه أسود لا يدخلُ تحت قوله: اعمل برأيك عند أبى حنيفةَ رضي الله عنه؛ لكونِ السوادِ نقصاناً عنده خلافاً لصاحبيه، والتحقيقُ: أنَّ هذا اختلافُ زمان، وفي زماننا: لا يعدُّ نقصاً فهو كالحمرة، فيدخلُ في: اعمل برأيك، سائرُ الألوانِ كالحمرة. ينظر:«الزبدة» (3: 273).
(3)
زيادة من أ و ب و م.
(4)
أي ضمن المضارب؛ لأنّه تصرَّف بغير أمره، فصار غاصباً، وكان المشترى له، وله ربحُه الذي حصلَ منه، وعليه خسرانُه، وإن لم يتصرَّف فيه حتى ردَّه إلى البلد الذي عيَّنه برئ من الضَّمان؛ لأنّه أمين خالفَ ثم عاد إلى الوفاق، ورجع المالُ مضاربة على حاله؛ لأنَّ المالَ باقٍ في يدِه بالعقد السابق، وهذا إذا صدرَ من ربِّ المال عند عقد المضاربة. ينظر:«المنح» (ق 2: 201/أ-ب).
ولا مَن يعتقَ عليه إن كان ربح، ولو فعل ضَمِن، وإن لم يكنْ ربح صَحّ، فإن زادتْ قيمتُهُ عتقَ حصّتُه، ولم يَضْمَنْ شيئاً، وسعى العبدُ في قيمةِ حصّتِهِ منه، مضاربٌ بالنِّصفِ شَرَى بألفها أمةً، فولدَتْ وَلَداً مساوياً ألفاً، فادَّعاه فصارت قيمتُهُ ألفاً ونصفُه، سعى لربِّ المال في ألف وربعه، أو أعتقَه، ولربِّ المالِ بعد قبضِ ألفِهِ تضمينُ المدَّعي نصفُ قيمتِها
(ولا مَن يعتقَ عليه إن كان ربح، ولو فعل ضَمِن
(1)
، وإن لم يكنْ ربح صَحّ، فإن زادتْ قيمتُهُ عتقَ حصّتُه، ولم يَضْمَنْ شيئاً)؛ لأنَّه لا صنعَ له في زيادةِ القيمة، (وسعى العبدُ في قيمةِ حصّتِهِ منه): أي في قيمةِ حصّةِ ربِّ المالِ من العبد.
(مضاربٌ بالنِّصفِ شَرَى بألفها أمةً، فولدَتْ وَلَداً
(2)
مساوياً ألفاً، فادَّعاه فصارت قيمتُهُ ألفاً ونصفُه، سعى لربِّ المال في ألف وربعه، أو أعتقَه، ولربِّ المالِ بعد قبضِ ألفِهِ تضمينُ المدَّعي نصفُ قيمتِها)، وجهُ ذلك: أنّ الدعوةَ صحيحةٌ في الظَّاهر
(3)
حملاً على فراشِ النِّكاح لكن لم تَنْفُذْ لعدم الملك؛ لأنَّ مالَ المضاربةِ إذا صارَ أعياناً
(4)
كلَّ
(1)
لأنّه يعتق نصيبه ويفسدُ بسببهِ نصيبُ ربِّ المال؛ لانتفاءِ جوازِ بيعِه؛ لكونهِ مستسعى لا يجوز بيعه، والمرادُ من الربح: أن يكون قيمةُ العبدِ المشترى أكثرَ من رأسِ المال، سواء كان في جملةِ رأسِ المالِ ربح أو لا؛ لأنّه إذا كان قيمةُ العينِ مثلُ رأسِ المالِ أو أقلّ لا يظهرُ ملكُ المضاربِ فيه، بل يجعلُ مشغولاً برأسِ المال. ينظر:«التبيين» (5: 61).
(2)
زيادة من أ و ب و م.
(3)
أي يمكن حملُها على أنه ولدُه من النكاح بأن زوَّجَها منه البائع ثمّ باعَها منه فوطئها فعلقت منه؛ حملاً لأمره على الصلاح، لكنّها لا تنفذ، فإن شرطَ العتق وهو الملك مفقود، ولعدم ظهور الربح إذ كلُّ واحدٍ من الجارية وولدها مشغول برأس المال فلا يظهرُ الربح. والعتق ثبتَ بالملكِ والنسب فصارت العلةُ ذات وجهين، والملك آخرهما وجوداً فيضافُ الحكمُ وهو العتق إليه؛ لأنَّ الحكمَ يضافَ إلى الوصفِ الأخير، ولا صنعَ للمضاربِ في الملك، فلا يجبُ عليه الضَّمان؛ لعدمِ التعدِّي، إذ لا يجبُ ضمانُ العتقِ إلا بالتعدِّي، فكان ربُّ المالِ بالخيار، إن شاء أعتقَ نصيبَه من الولد، وإن شاءَ استسعاه، فإذا اختارَ الاستسعاءَ استسعاه في ألفٍ ومئتين وخمسين؛ لأنَّ الألفَ مستحقٌّ له برأسِ المال، ومائتين وخمسينَ نصيبُه من الربح، فإذا قبضَ منه ألف درهمٍ صارَ مستوفياً لرأسِ مالِهِ فظهرَ أنّ الأمةَ كلّها ربح؛ لفراغها عن رأسِ المال، فكان بينهما نصفين، وينفذ فيها دعوة المضارب، وصارت كلّها أم ولد له، ويجبُ نصف قيمتها لربَّ المال ينظر:«التبيين» (5: 62 - 63).
(4)
أي أجناساً مختلفة حقيقةً أو حكماً، حتى لو كان أعياناً من جنسٍ واحدٍ كلُّ عينٍ يساوي رأس المال. ينظر:«الكفاية» (7: 427).
باب المضارب الذي يضارب
ولا يَضمَنُ المضاربُ بدفعِهِ مضاربةً بلا إذنٍ إلى أن يعملَ الثَّاني في ظاهرِ الرِّواية، وهو قولُهما، وإلى أن يربحَ في روايةِ الحَسَن رضي الله عنه عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه، فلو أذنَ بالدَّفعِ فدفعَ بالثُّلُث، وقيل له: ما رَزَقَ اللهُ تعالى بيننا نصفان، فنصفُ
واحدٍ يساوي رأسَ المال لا يظهرُ الرِّبح، بل كلُّ واحدٍ يصلحُ أن يكونَ رأسَ المال؛ لأنَّه يمكنُ أن يهلَكَ ما سواه، ويبقى واحدٌ فقط، فلا رجحانَ لأحدٍ لكونِهِ رأسَ المال، أو ربحاً.
ثُمَّ إذا زادت القيمةُ بعد الدَّعوةِ حتى صارَ قيمةُ الولدِ ألفاً وخمسمئة ظَهَرَ الربح، فنفذتِ الدَّعوة السابقة، ويثبت النَّسب، وعتقَ الولد لقيام ملكِهِ في البعض، ولا يضمنُ لربِّ المال شيئاً؛ لأنَّ عتقَه بالدَّعوة وبالملك، والملكُ مؤخَّرٌ فيضافُ إليه، ولا صنع له فيه؛ لأنُّه ضمان إعتاق، فلا بُدَّ له من صنع، فله الاستعساءُ في رأسِ المال ونصفُ الرِّبح أو الاعتاقِ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، فإذا قَبَضَ الألفَ فله أن يُضَمِّنَ المضاربَ الذي ادَّعى الولدَ نصفَ قيمةِ الأمّ؛ لأنَّ الألفَ المأخوذَ صارَ رأسَ المال؛ لتقدُّمِهِ استيفاءً، فالجاريةُ كلُّها ربحٌ لكن نَفَذَتِ الدَّعوةُ السَّابقة، وصارتْ أمَّ وَلِد له
(1)
، فيضمنُ نصفَ قيمتِها؛ لأنَّه ضمانُ تَمَلُّكٍ فلا يشترطُ له صنع.
باب [المضارب الذي يضارب]
(2)
(ولا يَضمَنُ المضاربُ بدفعِهِ مضاربةً بلا إذنٍ إلى أن يعملَ الثَّاني في ظاهرِ الرِّواية
(3)
، وهو قولُهما، وإلى أن يربحَ في روايةِ الحَسَن رضي الله عنه عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه)، وجه الأوَّلِ: أنَّ الدَّفعَ (قبل العمل)
(4)
إيداع، وهو يملكُه، فإذا عملَ تبيَّنَ أنَّه مضاربة، فيضمن، وجه الثَّاني: أنَّ الدَّفعَ قبل العملِ إيداع، وبعده إبضاع، وهو يملكُهما، فإذا رَبِحَ ثبتَ الشَّركة، فحينئذٍ يضمن، كما لو خُلِطَ بغيرِه، وعند زفرَ رضي الله عنه: يَضْمَنُ بمجرَّدِ الدَّفع.
(فلو أذنَ بالدَّفعِ فدفعَ بالثُّلُث، وقيل له: ما رَزَقَ اللهُ تعالى بيننا نصفان، فنصفُ
(1)
زيادة من ب و م.
(2)
زيادة من أ و م.
(3)
وبه يفتى لو الثانية صحيحة. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 328).
(4)
زيادة من أ.
ربحِهِ للمالكِ، وسدسُهُ للأَوَّل، وثُلُثُهُ للثَّاني، وإن قيل له: ما رزقك الله تعالى، فلكلٍّ ثُلُث، ولو قيل: ما ربحتَ فهو بيننا نصفان، ودفع بالنِّصف، فللثَّاني نصف، ولهما نصف، ولو قيل: ما رزقَ الله تعالى فلي نصف، أو ما فضلَ فنصفان، وقد دَفَعَ بالنِّصف، فنصفه للمالك ونصفه للثَّاني، ولا شيءَ للأَوَّل، ولو شرطَ الأَوَّل للثَّاني ثُلُثَيْه فللمالك والثَّاني شرطُهما، وعلى الأَوَّلِ السُّدُس، وصحَّ شرطُهُ للمالك ثُلُثاً، ولعبده ثُلُثاً ليعملَ معه، ولنفسِهِ ثُلُثاً.
ربحِهِ للمالكِ، وسدسُهُ للأَوَّل، وثُلُثُهُ للثَّاني، وإن قيل له: ما رزقك الله تعالى، فلكلٍّ ثُلُث)؛ لأنَّ المالكَ قد أذنَ بالدَّفعِ مضاربة، فللمضاربِ الثَّاني ما شَرَطَ له المضاربُ الأَوَّل، فما رزقَ اللهُ المضاربَ الأَوَّل، وهو الثُلُثَان يكونُ نصفينِ بينه وبين ربِّ المال.
(ولو قيل: ما ربحتَ (فهو بيننا نصفان)
(1)
، ودفع بالنِّصف، فللثَّاني نصف، ولهما نصف)؛ لأنَّ ربحَ المضاربِ الأوَّل النصف، وهو مشتركٌ بينه وبين ربِّ المال.
(ولو قيل: ما رزقَ الله تعالى فلي نصف، أو ما فضلَ فنصفان، وقد دَفَعَ بالنِّصف، فنصفه للمالك ونصفه للثَّاني، ولا شيءَ للأَوَّل، ولو شرطَ الأَوَّل
(2)
للثَّاني ثُلُثَيْه فللمالك والثَّاني شرطُهما، وعلى الأَوَّلِ السُّدُس)؛ لأنَّ للمالكِ النِّصْفَ، وللمضارب الثَّاني ثلثين، فيضمنُ المضاربُ الأَوَّل السُّدُس.
(وصحَّ شرطُهُ للمالك ثُلُثاً، ولعبده ثُلُثاً ليعملَ معه)
(3)
: أي مع المضارب، (ولنفسِهِ ثُلُثاً.
(1)
زيادة من أ و ب و م.
(2)
زيادة من أ.
(3)
يعني لو شرطَ المضاربُ لربِّ المالِ ثلثَ الربح، ولعبدِ ربِّ المالِ ثلثَ الربح على أن يعملَ ذلك العبدُ مع المضارب، ولنفسِهِ ثلثَ الربح، فهو جائزٌ سواءً كان على العبدِ دينٌ أو لا؛ لأنّ اشتراطَه للعبد يكون اشتراطاً للمولى، فكأنّه شرط للمولى ثلثي الربح، واشتراطُ عمل العبدِ غير مفسد؛ لأنّ العبدَ أهلٌ أن يضاربَ في مالِ مولاه، وللعبد يدٌ حقيقة، ولو كان محجوراً حتى يمنعَ السيدُ عن أخذ ما أودعه عبده المحجور، والعبدُ هاهنا صار مأذوناً باشتراطِ العمل عليه، فلا بدَّ لمولاه بعد تسليمِ المالِ إليه فصحَّت المضاربةُ لزوالِ يدِ المولى عن المال، بخلافِ اشتراطِ العمل على ربِّ المال، فإنّه يفسد؛ لأنّ ذلك الاشتراط مانعٌ من التسليم. ينظر:«الهداية» (3: 208).
[فصل في العزل والقسمة]
وتبطلُ بموتِ أحدِهما، ولحاق المالكِ بدار الحرب مرتدّاً، ولا ينعزلُ حتى يعلمَ بعزله، فلو علم فله بيعُ عرضِها، ثُمَّ لا يتصرَّفُ في ثمنِه، ولا في نقدٍ نضَّ من جنسِ رأسِ ماله، ويُبَدِّلُ خلافُهُ به إستحساناً، ولو افترقا وفي المال دينٌ لزمَهُ اقتضاء دينه إن كان رَبِح، وإلا لا، ويوكِّلُ المالك به، وكذا سائرُ الوكلاء، والبياعُ والسِّمْسَارُ يجبران عليه
[فصل في العزل والقسمة]
وتبطلُ بموتِ أحدِهما، ولحاق المالكِ (بدار الحرب)
(1)
مرتدّاً)، بخلافِ لحاقِ المضاربِ بدارِ الحربِ مرتدّاً، حيث لا يبطلُ المضاربة؛ لأَنَّ له عبارةً صحيحةً.
(ولا ينعزلُ حتى يعلمَ بعزله): أي إن عزلَ ربُّ المالِ المضاربَ لا ينعزلُ حتى يعلمَ بعزلِه، (فلو علم فله بيعُ عرضِها، ثُمَّ لا يتصرَّفُ في ثمنِه، ولا في نقدٍ نضَّ من جنسِ رأسِ ماله): نضَّ: بالضَّادِ المعجمة: أي صارَ نقداً، (ويُبَدِّلُ خلافُهُ به إستحساناً): أي يُبَدِّلَ نقداً نَضّ، لكنَّه خلافُ جنسِ رأسِ المالِ بأن كان رأسُ المالِ دراهم، والنَّقْدُ دنانير، أو بالعكس، وفي القياس: لا يُبَدِّلَهُ لوجودِ العزل، ولا ضرورة بخلافِ العروض، وجهُ الإستحسان: أنَّ الرَّبحَ لا يظهرُ إلا عند اتِّحادِ الجنس، فتحقَّقت الضَّرورة.
(ولو افترقا وفي المال دينٌ لزمَهُ اقتضاء دينه إن كان رَبِح، وإلا لا)؛ لأنَّه إن كان ربحَ فهو يعملُ بالأجرة
(2)
، وإن لم يكن ربح، فهو متبرِّعٌ في العمل، (ويوكِّلُ المالك به): أي إن لم يكنْ ربح فالمضاربُ بعد الافتراق يوكِّلُ المالك بالاقتضاء، فإن المشتري لا يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلى ربِّ المال؛ لأنَّ الحقوقَ ترجعُ إلى الوكيل، فلا بُدَّ من توكيلِ المضاربِ المالك، (وكذا سائرُ الوكلاء): أي إن امتنعَ سائرُ الوكلاءِ عن الاقتضاء يوكِّلونَ الملاك.
(والبياعُ والسِّمْسَارُ يجبران عليه)، المراد بالبيَّاع: الدَّلال، فإنَّه يعملُ بالأجرة، والسِّمْسَار: هو الذي يُجْلَبُ إليه الحنطةُ ونحوها لبيعها، فهو يعمل بالأجرة أيضاً، فيجبران
(1)
زيادة من ب.
(2)
لأنّه كالأجير، والربحُ كالأجرة له؛ لأنّه استحقَّ الربح بأن عملَه، وقد سلَّم له بدلَ عمله وهو الربح، فيجبرُ على إتمامِ عملِه، ومن إتمامِهِ استيفاءُ ما وجبَ من الدِّيونِ على الناس. ينظر:«البناية» (7: 698).
وما هَلَكَ صُرِفَ إلى الرِّبح أوَّلاً، فإن زادَ على الرِّبحِ لم يضمنْهُ المضارب، فإن قُسِمَ الرِّبْح، وفُسِخَ عقدُها، ثُمَّ عقدت عقداً فَهَلَكَ المالُ كلُّه، أو بعضُه، لم يترادَّا الرِّبح، وإن لم يفسخ، ثُمَّ هَلَكَ تَرادَّا، وأخذَ المالكُ مالَهُ وما فضلَ قُسِم، وما نَقَصَ لم يضمنْهُ المضارب.
[فصل فيما يفعله المضارب]
ونفقةُ مضاربٍ عملَ في مصرِهِ في مالِهِ كدوائِه، وفي سفرِهِ طعامُه، وشرابُه، وكسوتُه، وأجرةُ خادمِه، وغَسلُ ثيابِه، والدِّهنُ في موضعٍ يحتاجُ إليه، وركوبُه كراءً وشراءً، وعلفُه في مالِها بالمعروف
على تقاضي الثَّمن
(1)
.
(وما هَلَكَ صُرِفَ إلى الرِّبح أوَّلاً، فإن زادَ على الرِّبحِ لم يضمنْهُ المضارب
(2)
)؛ لأنَّهُ أمين، (فإن قُسِمَ الرِّبْح، وفُسِخَ عقدُها، ثُمَّ عقدت عقداً فَهَلَكَ المالُ كلُّه، أو بعضُه، لم يترادَّا الرِّبح): أي فُسِخَ العقدُ والمالُ في يدِ المضارب، ثُمَّ عقدا، فهلَك المال، (وإن لم يفسخ، ثُمَّ هَلَكَ تَرادَّا، وأخذَ المالكُ مالَهُ وما فضلَ قُسِم، وما نَقَصَ لم يضمنْهُ المضارب.
[فصل فيما يفعله المضارب]
ونفقةُ مضاربٍ عملَ في مصرِهِ في مالِهِ كدوائِه)، نفقةُ المضارب: مبتدأ، وفي ماله: خبرُه، وإن مرضَ المضاربُ سواءٌ كان في المصر، أو في السَّفر، فإنَّ
(3)
الدَّواءَ في ماله، وعن أبي حنيفةَ رضي الله عنه الدَّواءُ بمنْزلةِ النَّفقة.
(وفي سفرِهِ طعامُه، وشرابُه، وكسوتُه، وأجرةُ خادمِه، وغَسلُ ثيابِه، والدِّهنُ في موضعٍ يحتاجُ إليه): كالحجاز
(4)
، (وركوبُه
(5)
كراءً وشراءً، وعلفُه في مالِها بالمعروف،
(1)
لأنّهما يعملان بأمره عادة، فكان ذلك بمنْزلةِ الإجارةِ الصحيحةِ بحكمِ العادة، فيجب عليهما التقاضي والاستيفاء. ينظر:«الرمز» (2: 176).
(2)
أي سواء كان من عمله أو لا، ويقبلُ قوله في هلاكه، وإن لم يعلمْ ذلك كما قيل في الوديعة، وسواء كانت المضاربة صحيحةً أو فاسدة، فهي أمانةٌ عند الإمام، وعندهما: إن كانت فاسدةً فالمالُ مضمون. ينظر: «المنح» (ق 2: 204/أ).
(3)
إن: زيادة من ف.
(4)
لأنَّ أرضَ الحجازِ حارّة يحتاج أهلها إلى ترطيبِ أبدانهم بالدهن. ينظر: «البناية» (7: 714).
(5)
أي ومركوبه، وكراء وشراء تمييزان لنسبة الركوب إليه. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 542).
وضَمِنَ الفضل، وردُّ ما بقي في يدِه بعد قدومِ مصرِهِ إلى مالِها، وما دون سفرٍ يغدو إليه، ولا يبيتُ بأهلِه كالسَّفر، وإن باتَ كسوقِ مصرِه، فإن رَبِحَ أخذَ ربُّ المالِ ما أنفقَ المضاربُ من رأسِ ماله، فإن رابحَ متاعُها حسبَ نفقتَهُ لا نفقةَ نفسه، مضاربٌ بالنِّصْفِ شَرَى بألفِها بُزَّاً، وباعَه بألفين، وشَرَى بهما عبداً فضاعا في يدِه، غرمَ المضاربُ ربعهما، والمالكُ الباقي، وربعُ العبدِ للمضارب، وباقيه لها، ورأسُ المالِ ألفانِ وخمسمئة، ورابحَ على ألفين فقط
وضَمِنَ الفضل): أي إن أنفق زائداً على المعروف ضَمِنَ الفضل، (وردُّ ما بقي في يدِه بعد قدومِ مصرِهِ إلى مالِها): أي ما بقي من الطَّعام ونحوِه.
(وما دون سفرٍ يغدو إليه، ولا يبيتُ بأهلِه كالسَّفر، وإن باتَ كسوقِ مصرِه
(1)
، فإن رَبِحَ أخذَ ربُّ المالِ ما أنفقَ المضاربُ
(2)
من رأسِ ماله): أي أخذَ من الرِّبحِ ما أنفقَ المضاربُ من رأس المال، حتَّى يتمَّ رأسُ المال، فإن فَضَلَ شيءٌ قُسِم.
(فإن رابحَ متاعُها حسبَ نفقتَهُ لا نفقةَ نفسه): أي إن رابح، وقال: قامَ عليَّ بكذا يُحْسَبُ فيه ما أنفقَ على المتاعِ من كراءِ حملِه ونحو ذلك، ولا يُحْسَبُ نفقةُ المضارب.
(مضاربٌ بالنِّصْفِ شَرَى بألفِها بُزَّاً
(3)
، وباعَه بألفين، وشَرَى بهما عبداً فضاعا في يدِه، غرمَ المضاربُ ربعهما، والمالكُ الباقي، وربعُ العبدِ للمضارب، وباقيه لها، ورأسُ المالِ ألفانِ وخمسمئة، ورابحَ على ألفين فقط): أي اشترى بالألفِ ثوباً، وباعَهُ بألفين، وشرى بألفين عبداً، ولم يدفَعْهما إلى البائع، حتى ضاعَ الألفان في يدِ المضارب، غرمَ المضاربُ ربعَ الألفين؛ لأنَّه ملكُ المضارب، والمالكُ ثلاثةُ الأرباع، فإذا دفعَها يصيرُ رأسُ المالِ ألفين وخمسِمئة، لأنَّ ربَّ المالِ دَفَعَ أوَّلاً ألفاً، ثُمَّ دَفَعَ ألفاً وخمسمئة، فإن باعَهُ مرابحةً، يقولُ قامَ عليّ بألفين.
وقولُهُ: فقط؛ أي لا يقولُ: قامَ عليَّ بألفينِ وخمسمئة؛ لأنَّ الشِّراءَ وَقَعَ بألفين، فلا
(1)
ووجه الفرق أن النفقة تجب بإزاء الاحتباس كنفقة القاضي ونفقة المرأة، والمضارب في المصر ساكن بالسكنى الأصلية، وإذا سافر صار محبوساً بالمضاربة فيستحق النفقة فيه، وهذا بخلاف الأجير لأنه يستحق البدل لا محالة فلا يتضرر بالإنفاق من ماله، وتمامه في «الهداية» (3: 211).
(2)
زيادة من أ.
(3)
قال محمّد في «السير الكبير» : البزُّ عند أهلِ الكوفة: ثياب الكتانِ والقطن، لا ثيابُ الصوفُ والخزّ. ينظر:«البناية» (7: 718).
فلو بيعِ بضعْفِهما فحصَّتُها ثلاثةُ آلاف، والرِّبحُ منها نصفُ ألفٍ بينهما، ولو شَرَى من ربِّ المالِ بألفٍ عبداً شراهُ بنصفِهِ رابحَ بنصفِه، ولو شَرَى بألفِها عبداً يعدلُ ضعفَه، فقتلَ رجلاً خطأً، فربعُ الفداءِ عليه، وباقيه على المالك، وإذا فديا خرجَ عنها، فيخدمُ المضاربَ يوماً، والمالكُ ثلاثةَ أيَّام، ولو شرى عبداً بألفِها، وهلكَ الألفُ قبل نقدِه، دفعَ ربُّ المالِ ثمنَه، ثُمَّ وثُمّ، وجميعُ ما دُفِعَ رأسُ ماله.
يضمُّ الوضيعةَ التي وَقَعَتْ بسببِ الهلاكِ في يدِ المضارب.
(فلو بيعِ بضعْفِهما فحصَّتُها ثلاثةُ آلاف، والرِّبحُ منها نصفُ ألفٍ بينهما): أي إن بيعَ بأربعةِ آلافٍ، فثلاثةُ آلافٍ حصّةُ المضاربة، والألفُ ملكُ المضاربِ خاصّة، ثُمَّ ثلاثةُ آلالف يدفعُ منها رأسَ المال، وهو ألفانِ وخمسمئة، فبقي الرِّبْحُ خمسمئة نصفُها لربِّ المال، ونصفُها للمضارب.
(ولو شَرَى من ربِّ المالِ بألفٍ عبداً شراهُ بنصفِهِ رابحَ بنصفِه)، فقولُهُ: شراهُ بنصفِهِ صفةُ العبد، وضميرُ الفاعلِ في شراهُ يرجعُ إلى ربِّ المال، فالمضاربُ إن باعَهُ مرابحةً يقولُ: قامَ عليَّ بنصفِ الألف؛ لأنَّ شراءَ المضاربِ من ربِّ المال وإن كانَ جائزاً ففيه شُبْهةُ العدم، ومبنى المرابحةِ على الأمانة، فيعتبرُ أقلُّ الثَّمنين
(1)
.
(ولو شَرَى بألفِها عبداً يعدلُ ضعفَه، فقتلَ رجلاً خطأً، فربعُ الفداءِ عليه، وباقيه على المالك): أي إذا امتنعا عن الدَّفع، واختارا الفداء يعني أَرْشَ الجناية، يفديان بقدر الملك، والعبدُ رُبعُهُ للمضارب؛ لأنَّ رأسَ المال ألف، والعبدُ يساوي ألفين، (وإذا فديا خرجَ عنها، فيخدمُ المضاربَ يوماً، والمالكُ ثلاثةَ أيَّام)، إنِّما يخرجُ العبدُ عن المضاربة؛ لأنَّ قضاءَ القاضي بانقسام الفداءِ يتضمَّنُ انقسام العبد، والمضاربةُ تنتهي بالقسمة.
(ولو شرى عبداً بألفِها، وهلكَ الألفُ قبل نقدِه، دفعَ ربُّ المالِ ثمنَه، ثُمَّ وثُمّ): أي إذا دَفَعَ رَبُّ المالِ ثمنِه، وهَلَكَ في يدِ المضاربِ قبل أن يؤدِّيه إلى البائعِ يَدْفَعُ رَبُّ المالِ إلى المضاربِ ثمنَه مرَّةً أخرى، وهكذا إن هَلَكَ في يدِه، (وجميعُ ما دُفِعَ رأسُ ماله.
(1)
وهو خمسمئةٍ لثبوتِهِ من كلِّ وجه، والأكثرُ ثابتٌ من وجهٍ دون وجه، بالنظر إلى أنّه بيعُ مالهِ بماله. ينظر:«العناية» (7: 446).
[فصل في الاختلاف]
وصُدِّقَ مضاربٌ قال: معي ألفٌ دفعتَهُ إليّ، وألفٌ ربحت، لا مالكٌ قال: الكلُّ دَفَعْت، ولو قالَ مَن معه ألفٌ: هو مضاربةُ زيد، وقد ربحَ صُدِّقَ زيدٌ إن قال: بضاعة، كما لو قال: قرض، وقال زيد: بضاعة، أو وديعة، ولو قال المالكُ: عيَّنتُ نوعاً صُدِّقَ المضاربُ إن جَحَد، ولو ادَّعى كلٌّ نوعاً صُدِّقَ المالك
[فصل في الاختلاف]
وصُدِّقَ مضاربٌ قال: معي ألفٌ دفعتَهُ إليّ، وألفٌ ربحت، لا مالكٌ قال: الكلُّ دَفَعْت)، وعند زُفَرَ رضي الله عنه وهو القولُ الأوَّل لأبي حنيفة رضي الله عنه القول لربِّ المال؛ لأنَّهُ يُنْكِرُ دعوى المضارب الرِّبح، ولنا: أن الاختلاف في مقدارِ المقبوض، فالقولُ للقابضِ مع اليمين.
(ولو قالَ مَن معه ألفٌ: هو مضاربةُ زيد، وقد ربحَ صُدِّقَ زيدٌ إن قال: بضاعة): أي صُدِّقَ زيدٌ مع اليمين؛ لأنَّه ينكرُ دعوى الرِّبح، أو دعوى تقويمِ عملِ المضارب، (كما لو قال: قرض، وقال زيد: بضاعة، أو وديعة): أي صُدِّقَ زيدٌ مع اليمين؛ لأنَّه ينكرُ دعوى التَّمليك والتَّمَلُّك
(1)
.
(ولو قال المالكُ: عيَّنتُ نوعاً صُدِّقَ المضاربُ إن جَحَد): أي مع اليمين؛ لأنَّ الأصلَ في المضاربةِ العموم، بخلاف الوكالة؛ لأنَّ الأصلَ فيها الخصوص.
(ولو ادَّعى كلٌّ نوعاً صُدِّقَ المالك): أي مع اليمين؛ لأنَّ الإذنَ يستفادُ من جهتِه
(2)
.
* * *
(1)
زيادة من م.
(2)
يعني لو ادَّعى كلُّ واحدٍ من المالكِ والمضاربِ نوعاً مغايراً لما يدَّعيه الآخر، بأن قال ربُّ المال: في البز، وقال المضارب: في الطعام، فالقولُ يكونُ للمالكِ مع يمينه؛ لأنّهما اتَّفقا على التخصيص، والإذنُ يستفادُ من جهته، فيكون القولُ له، ولو أقّاما البيِّنةَ فيكون البيِّنةُ بيِّنةُ المضارب؛ لاحتياجه إلى إثباتِ الإذنِ في نوعٍ يدَّعي الإذنَ فيه، حتى ينتفيَ الضمانُ عنه، وعدمُ حاجةِ الآخر، أعني ربَّ المال إلى البيّنة؛ لأنَّ ما يدَّعيه ثبتَ بقولِه، إذ هو التمسُّكُ بالأصل. ينظر:«التبيين» (5: 76).
كتاب الوديعة
هي أمانةٌ تركتْ للحفظ، فلا يضمنُها المودَعُ إن هَلَكَتْ، وله حفظُها بنفسِهِ وعيالهِ، والسُّفور بها عند عدم النَّهي والخوف، ولو حُفِظَ بغيرهم ضَمِنَ إلاَّ إذا خافَ الحرقَ أو الغرقَ فوضَعَها عند جارِه، أو في فُلْكٍ آخر. فإن حبسَها بعد طلبِ ربِّها قادراً على التَّسليم، أو جحدَها معه، ثُمَّ أقرَّ بها أو لا
كتاب الوديعة
(هي أمانةٌ تركتْ للحفظ، فلا يضمنُها المودَعُ إن هَلَكَتْ): أي بلا تعدٍّ منه.
(وله حفظُها بنفسِهِ وعيالهِ
(1)
، والسُّفور بها عند عدم النَّهي والخوف): السُّفُور: الخروجُ للسَّفر، فالسُّفورُ
(2)
مصدر، والسَّفرُ الحاصلُ بالمصدر، فاختارَ المصدرَ، وإن نُهِي عن السَّفر، أو كان الطَّريق مَخُوفاً، فسافرَ فهَلَكَ المالُ ضَمِن، (ولو حُفِظَ بغيرهم ضَمِنَ إلاَّ إذا خافَ الحرقَ أو الغرقَ فوضَعَها عند جارِه، أو في فُلْكٍ
(3)
آخر
(4)
.
فإن حبسَها بعد طلبِ ربِّها قادراً على التَّسليم، أو جحدَها معه، ثُمَّ أقرَّ بها أو لا): أي جحدَها مع طلب ربِّ الوديعةِ يَضْمَنُ سواء أقرَّ بها بعد الجُحودِ أو لا، وإنِّما قال: مع ربِّ الوديعة؛ لأنَّه إن جحدَها مع غير المالك لا يضمن؛ لأنَّ هذا من بابِ الحفظ، وإن جَهَّلَ المودَعُ الوديعةَ عند الموتِ يصيرُ غاصباً
(5)
.
(1)
العيالُ: أهل البيت، ومن يمونه الإنسانُ الواحد، والمراد بالعيالِ هاهنا زوجةُ المودع وولده ووالداه وأجيره؛ لأنَّ الواجبَ عليه أن يحفظَها حفظَ مال نفسه، وهو يحفظ بعياله؛ ولأنَّ المودعَ لا يمكنه ملازمةُ بيتِهِ لحفظِ الوديعة، ولا استصحابها في خروجه، فلم يكن له بدٌّ من حفظها بمن في عياله. ينظر:«المصباح» (ص 438). و «كمال الدراية» (ق 572).
(2)
سَفَرْتُ أَسْفُرُ سُفُوراً خرجتُ إلى السَّفر، فأنا سافِرٌ وقومٌ سَفْرٌ. ينظر:«اللسان» (3: 2024).
(3)
الفُلْكُ: السفينة. ينظر: «المصباح» (ص 481).
(4)
ولا يصدّق على ذلك إلاَّ ببيّنة؛ لأنّه يدَّعي ضرورةَ مسقطة للضَّمان بعد تحقّق السبب، فصار كما إذا ادّعى الإذن في الإيداع. ينظر:«الهداية» (3: 215).
(5)
يعني إنَّ المودَعَ لو جهلَ الوديعةَ عند موته بحيث لا تعرفُ حالُها بأن ماتَ ولم يبيِّن حالَها، فالمودَعُ يصيرُ غاصباً ويضمن، وتصيرُ تلك الوديعة ديناً في تركته، نعم إذا علمَ المودَعُ أنَّ وارثه يعلمُها ولم يبيِّنها فلا ضمانَ عليه. ينظر:«الزبدة» (3: 287).
أو خلطَ بمالِه حتى لا يتميَّز، أو تعدَّى المودَعُ فلَبِسَ ثوبَها، أو رَكِبَ دابَّتَها، أو أنفقَ بعضَها ثُمَّ خَلَطَ مثلَهُ بما بقي، أو حفظَ في دارٍ أمر المودَعَ به في غيرِها ضَمِن، وإن اختلطَتْ بلا فعلِهِ اشتركَها، ولو أزالَ التَّعدِّي زالَ ضمانُه
(أو خلطَ بمالِه حتى لا يتميَّز)
(1)
، فإنِّه إن خَلَطَ بخلافِ الجنسِ ينقطعُ حقُّ المالكِ ويجبُ الضَّمانُ اتِّفاقاً، وكذا إن خلطَهُ بجنسِهِ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وكذا عند أبي يوسفَ رضي الله عنه إلاَّ إذا خَلَطَهُ بما هو أكثرُ منه، (يجعل الأقلُّ تابعاً للأكثر)
(2)
لا بما هو أقلُّ منه، فإنَّه لا ينقطعُ حقُّ المالك، بل يُثْبِتُ الشركة، وعند محمَّد رضي الله عنه لا ينقطعُ حقُّ المالك، بل يثبتُ الشَّركة سواءٌ كان أقلّ أو أكثر.
(أو تعدَّى المودَعُ فلَبِسَ ثوبَها، أو رَكِبَ دابَّتَها، أو أنفقَ بعضَها ثُمَّ خَلَطَ مثلَهُ بما بقي
(3)
، أو حفظَ في دارٍ أمر المودَعَ
(4)
به في غيرِها ضَمِن): أي حفظَ في دارٍ أمرَ المودَعُ بالحفظِ في غيرِها، فقولُهُ ضَمِنَ جزاءُ الشَّرط، وهو قولُهُ: فإن حبسَها
…
الخ.
(وإن اختلطَتْ بلا فعلِهِ اشتركَها، ولو أزالَ التَّعدِّي زالَ ضمانُه)، كما إذا وضعَها في دارٍ أخرى، ثُمَّ ردَّها إلى دارٍ أَمَرَ المالكُ بالحفظِ فيها زالَ الضَّمان: أي إن كانت الوديعةُ بحيث لو هَلَكَتْ لكانت مضمونة، فزالَ هذا المعنى، وإنِّما قلنا هذا؛ لأنَّ زوالَ الضَّمانِ حقيقةً غيرُ ممكن؛ لأنَّ حقيقةَ زوالِ الضَّمان بعد الهلاك، وبعدَ الهلاكِ لا يمكنُ إزالةُ التَّعدِّي، وعند الشَّافِعِيِّ
(5)
رضي الله عنه: إن زالَ التَّعدَّي لا يزولُ الضَّمان.
(1)
يعني إنَّ المودَعَ إن خلطَ الوديعةَ بغير جنسها كما إذا خلطَ البرَّ بالشعير، والشعيرَ بالبرّ، والزيت بالشّيرج، والشيرج بالزيت ينقطعُ حقُّ المالك، ويجبُ الضمانَ على المودَع؛ لأنَّ هذا استهلاكٌ حقيقة، فيوجب الضمان بالإجماع، وإن خلطَها بجنسِها؛ كما إذا خلطَ البرّ بالبرّ في غير المائع، واللَّبن باللَّبن في المائعِ ضَمِنَ المودَع؛ لأنّه صار مستهلكاً لها، وإذا ضمنَها ملكَها وانقطعَ حقُّ المالكِ من تلك الوديعة في المائع وغيره. وتمامه في «الكفاية» (7: 455)، و «كمال الدراية» (ق 473).
(2)
زيادة من ب و م.
(3)
أي إن المودع إذا أنفق بعضها ضمن ما أنفق منها ولم يضمن كلها، فإن جاء بمثل ما أنفق فخلط بالباقي صار ضمناً بجميعها؛ لأنه صار مستهلكاً للكل بالخلط. ينظر:«الدرر» (ق 2: 246).
(4)
زيادة من ق.
(5)
ينظر: «النكت في المسائل المختلف فيها» للشيرازي (ص 585)،
ولا يدفعُ إلى أحدِ المودعين قسطَهُ بغيبةِ الآخر، ولأحدِ المودعين دفعُها إلى الآخرِ فيما لا يُقْسَم، ودفعُ نصفِها فقط فيما يُقْسَم، وضَمِنَ دافعُ الكلِّ لا قابضه، فلو نُهِيَ عن الدَّفعِ إلى عيالِه، فدفعَ إلى مَن له منه بُدٌّ ضَمِن، وإلى مَن لا بُدَّ له منه كدفع الدَّابة إلى عبدِه، وشيء تحفظُهُ النِّساءِ إلى عرسِه، لا كما لو أُمِرَ بحفظِها في بيتٍ معيَّنٍ من دار، فحفظَ في آخر منها، فإن كانَ له خللٌ ظاهرٌ ضَمِن، ولو أودعَ المودَعُ فهلكَت ضَمِنَ الأوَّل فقط
(ولا يدفعُ إلى أحدِ المودعين قسطَهُ بغيبةِ الآخر)، أمّا إذا كانت الوديعةُ غيرَ المكيلِ والموزون فبالإتفاق، وإن كانت من المكيلِ والموزونِ فكذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه خلافاً لهما؛ لأنَّه ليس للمودعِ ولايةُ القسمة.
(ولأحدِ المودعين دفعُها إلى الآخرِ فيما لا يُقْسَم، ودفعُ نصفِها فقط فيما يُقْسَم): أي إذا كانت الوديعةُ عند رجلين، وهي ممَّا لا يُقْسَم، يحفظُها أحدُهما بإذن الآخر، فإن كانت ممَّا يُقْسَم لا يجوزُ لأحدِهما أن يدفعَها إلى الآخر للحفظ، بل يَقْسِمان فيحفظُ كلُّ واحدٍ نصفَه، وهذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما يجوزُ الدَّفعُ إلى الآخر فيما يُقْسَم، (وضَمِنَ دافعُ الكلِّ لا قابضه): أي إذا دَفَعَ الكلَّ إلى الآخر فيما يُقْسَم يضمنُ الدَّافعُ النِّصف، ولا يضمنُ القابض؛ لأنَّ مودَعَ المودعِ لا يضمنُ عنده.
(فلو نُهِيَ عن الدَّفعِ إلى عيالِه، فدفعَ إلى مَن له منه بُدٌّ ضَمِن
(1)
، وإلى مَن لا بُدَّ له منه كدفع الدَّابة إلى عبدِه، وشيء تحفظُهُ النِّساءِ إلى عرسِه، لا كما لو أُمِرَ بحفظِها في بيتٍ معيَّنٍ من دار، فحفظَ في آخر منها): لأنَّ بيوتَ دارٍ واحدةٍ لا تتفاوت، ولا فائدةَ في التَّعيين بخلافِ الدَّار؛ لأنَّ الدَّارين يتفاوتان، (فإن كانَ له خللٌ ظاهرٌ ضَمِن): أي إذا كانت للبيتِ الذي حفظَها فيه خللٌّ ظاهر، وقد عيَّن بيتاً آخر من هذه الدَّار ضَمِن.
(ولو أودعَ المودَعُ فهلكَت ضَمِنَ الأوَّل فقط)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وقالا: يُضَمِّنُ أيُّهما شاء، فإن ضَمِنَ (الأوَّل لم يَرْجِعْ على الثَّاني، وإن ضَمِن الثَّاني)
(2)
رجعَ على الأَوَّل.
(1)
كأن قال: لا تدفعها إلى امرأتك أو أحد من عيالك، فإن هذا الشرط مفيدٌ، إذ قد يأمن الإنسان الرجل على ماله ولا يأتمن عليه عياله، إلا أنه إنما يلزم مراعاته بحسب الإمكان، فإذا لم يكن الحفظ بدونه صار النهي عن الدفع إليه كالنهي عن حفظه، فكان مناقضاً لأصله فيبطل، فلا يضمن إذا هلكت. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 460).
(2)
زيادة من ف، وفي أ و ب و ص و م: الآخر.
ولو أودعَ الغاصبُ ضَمَّن أيُّهما شاء، ولو ادَّعى كلٌّ من رجلينِ ألفاً مع ثالثٍ أنَّه له أودعَه إيَّاه، فنَكَلَ لهما، فهذا وألف آخر عليه لهما
(ولو أودعَ الغاصبُ ضَمَّن أيُّهما شاء)، هذا بالاتفاق فهما قاسا مُودَعَ المودَعِ على مُودَعِ الغاصب، فإنّ المودَعَ إذا دَفَعَ إلى الأجنبي صارَ غاصباً، وفَرَّقَ
(1)
أبو حنيفةَ بأن المودَعَ إذا دَفَعَ إلى الغيرِ لا يضمنُ ما لم يفارقْه، فإذا فارقَ تركَ الحفظ فيضمنُ، ولا يضمنُ الآخر؛ لأنَّه صارَ مودَعاً حيث غابَ الآخر ولا صنعَ له في ذلك، كثوبٍ ألقتْهُ الرَّيحُ في حجرِ إنسان.
(ولو ادَّعى كلٌّ من رجلينِ ألفاً مع ثالثٍ أنَّه له أودعَه إيَّاه، فنَكَلَ لهما، فهذا وألف آخر عليه لهما): ادَّعى زيدٌ على عمروٍ أنَّ هذا الألفَ الذي في يدِك أودعتُهُ إيَّاك، وادَّعى بكرٌ على عمرو كذلك، ولا بيِّنةَ لأحد، وعمروٌ منكر، فالقاضي يُحَلِّفَهُ لكلِّ واحدٍ على الإنفراد، ويبدأُ بأيِّهما شاء، فإن تشاحّا أقرع بينهما، وإن نَكَلَ لأحدِهما يُحَلِّفُهُ للآخر، فأن نَكَلَ له أيضاً، فهذا الألفُ مع ألف آخر عليه يكون لهما؛ لأنَّه أوجبَ الحقَّ لكلِّ واحدٍ منهما سواءٌ بالبَذْل، أو بالإقرار، وذلك حجَّةٌ في حقِّه، ويصرفُ الألفُ إليهما، وصارَ قاضياً نصف حقِّ كلٍّ منهما بنصف حقِّ الآخر فيغرمه.
واعلم أنَّ النُّكولَ هنا يفارقُ الإقرار، فإنَّه إذا أقرّ لأحدِهما يقضى له، ولا يحلفُ للآخر؛ لأنَّ الإقرارَ حجَّةٌ بنفسِه، والنُّكولُ إنِّما يصيرُ حجَّةً بقضاءِ القاضي، فجازَ تأخير القضاء ليحلفَ للثَّاني حتى إذا نَكَلَ لأحدِهما، وقضى القاضي به، فعلى روايةِ فخرِ الإسلام البَزْدَوِيِّ رضي الله عنه يَحْلِفُ للثَّاني، فإن نَكَلَ يقضي بينهما؛ لأنَّ القضاءَ للأوَّلِ لا يبطلُ حقَّ الثَّاني، وعلى روايةِ الخَصَّاف رضي الله عنه لا يحلفُ للثَّاني؛ لأنَّ القضاءَ وَقَعَ في مجتهدٍ فيه؛ لأنَّ بعضَ العلماءِ قال: إذا نَكَلَ لأحدِهما يقضى له، ولا يؤخَّر ليحلفَ للثَّاني؛ لأنَّ النُّكول كالإقرار، وفي الإقرار لا يؤخَّر
(2)
. (والله أعلم)
(3)
.
(1)
حاصلُه: إنَّ الفرقَ لأبي حنيفة حيث لم يضمنْ الثاني في مودَعِ المودَع، وضَمِنَ في مودعِ الغاصب: أنَّ المال وصلَ إلى مودَعِ المودَع من أمين، فلم يكن متعدّياً بوضعِ يده عليه، ووصل إلى مودعِ الغاصب من متعدٍّ، وكان متعدِّياً بوضعِ يده عليه. ينظر:«كمال الدراية» (ق 475).
(2)
يعني إذا قضى القاضي للأوَّل حين نكوله للثاني فعلى ما ذكره فخرُ الإسلام البَزْدَوِيّ في «شرح الجامع الصغير» : يحلفُ للثاني، فإذا نكل للثاني يقضى بالألف، ويغرم ألفاً آخرَ بينهما، فإنَّ القضاءَ للأوّل لا يبطلُ حقّ الثاني؛ لأنّ القاضي يقدّمُ الأوّل على الثاني، إمّا باختياره أو بالقرعة، وعلى كلِّ حالٍ لا يبطلُ حقُّ الثاني، وعلى ما ذكرَه الخصّافُ نفذَ قضاءُ القاضي للأوّل، ويكون الألفُ له، ولا يكون بينهما، فلا يحلف للثاني؛ لأنَّ قضاءَ القاضي إنّما وقعَ في أمرٍ مجتهدٍ فيه؛ لأنَّ بعض العلماء قائلٌ بأنّه يقضى للأوَّلِ بالنكول، ولا يؤخّر القضاء للتحليفِ للثاني؛ لأنَّ النكولَ إقرارُ دلالة، ولا يؤخّر القضاءَ في الإقرار. ينظر:«العناية» (7: 463).
(3)
زيادة من ب و ف.
كتاب العارية
هي تمليكُ منفعةٍ بلا بدل، وتصحُّ بأعرتُك، ومنحتُك، وأطعمتُك أرضي وحملتُك على دابَّتي، وأخدمتُك عبدي، وداري لك سكن، وعمري سكنى
كتاب العارية
(هي تمليكُ منفعةٍ بلا بدل)، فإنَّ اللفظَ يُنْبِئُ عن التَّمليك، فإنَّ العريةَ: العطية
(1)
، والمنافعُ قابلةٌ للتَّمليك، كالوصيةِ بخدمةِ العبد، وعند البعض
(2)
: هي إباحةُ الانتفاعِ بملكِ الغير.
اعلم أنَّ التَّمليكات أربعةُ أنواع:
فتمليكُ العينِ بالعوضِ بيعٌ.
وبلا عوضٍ هبة.
وتمليكُ المنفعةِ بعوضٍ إجارة.
و بلا عوضٍ عارية.
(وتصحُّ بأعرتُك ومنحتُك)، أصلُ المنحِ أن يعطي ناقةً أو شاةً ليشرب لبنَها، ثُمَّ تُرَدّ، فَرُوعِي فيه أصلُ الوضع، فحملَ على العارية، (وأطعمتُك
(3)
أرضي وحملتُك على دابَّتي، وأخدمتُك عبدي، وداري لك سكنى): أي داري لك بطريقِ السُّكنى، فداري: مبتدأٌ، ولك: خبره، وسكنى: تمييز عن النسبة إلى المخاطب، (وعمري سكنى): أي داري لك عمرى سكنى، فعمرى: مفعولٌ مطلقٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ أعمرتُها لك عمري، والعمري جعلُ الدارِ لأحدٍ مدَّة عمره، وسكنى تمييز.
(1)
أي فإنَّ العاريةَ مأخوذةٌ من العرية، وهي بمعنى العطية، قال في «البناية» (7: 769) فيه مناقشة؛ لأنَّ العارية أجوف واوي؛ ولهذا ذكرَه أهل اللغةِ في باب عور، والعريةُ ناقص، وحرفُ العلّة في لامه، فكذلك ذكره أهلُ اللغة في باب عرو. وينظر:«المغرب» (ص 331). و «مجمع الأنهر» (2: 345 - 346).
(2)
المقصود هو الكرخي رضي الله عنه. ينظر: «التبيين» (5: 83).
(3)
الطعامُ إذا أضيفَ إلى ما يطعمُ عينُهُ يرادُ به تمليك عينه، وإذا أضيفَ إلى ما لا يطعمُ عينه كالأرضِ يراد به أكلُ غلّتها: إطلاقٌ لاسم المحلِّ على الحال. ينظر: «البناية» (7: 772).
ويرجعُ المعيرُ فيها متى شاء، ولا يُضَمِّنُ بلا تعدٍّ إن هَلَكَت، ولا تؤجَّر، فإن أجَّرَها فعَطِبَت ضمَّنَه المعيرُ قيمته، ولا يرجعُ على أحد، أو المستأجِرَ، ويرجعُ على مؤجِّره إن لم يعلمْ أنَّه عاريةً معه، ويعارُ ما اختلفَ استعمالُهُ أو لا إن لم يعيِّنْ منتفعاً، وما لا يختلفُ إن عيَّن، وكذا المؤجِّر
(ويرجعُ المعيرُ فيها متى شاء، ولا يُضَمِّنُ بلا تعدٍّ إن هَلَكَت)
(1)
، هذا عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ
(2)
رضي الله عنه العاريةُ مضمونة.
(ولا تؤجَّر): لأنَّ الشَّيءَ لا يستتبعُ ما فوقَه، (فإن أجَّرَها فعَطِبَت ضمَّنَه المعيرُ قيمته
(3)
، ولا يرجعُ على أحد، أو المستأجِرَ)، بالنَّصبِ عطفٌ على الضَّميرِ المنصوبِ في ضمَّنَه، (ويرجعُ على مؤجِّره إن لم يعلمْ أنَّه عاريةً معه)، إن لم يعلمْ المستأجِرُ أنَّه عاريةٌ مع مؤجِّره، وإنِّما يرجعُ عليه للغرور بخلافِ ما إذا عَلِمَ إذ لا غرورَ من المؤجِّر.
(ويعارُ ما اختلفَ استعمالُهُ أو لا
(4)
إن لم يعيِّنْ منتفعاً، وما لا يختلفُ إن عيَّن): أي إن أعارَ شيئاً ولم يعيِّنْ مَن ينتفعُ به، فللمستعيرِ أن يعيرَهُ سواءٌ اختلفَ استعمالُهُ كركوبِ الدَّابة، أو لم يختلفْ كالحملِ على الدَّابة، وإن عيَّنَ مَن ينتفعُ به، فإن لم يختلفْ استعمالُهُ يعيرُه، وإن اختلفَ لا.
(وكذا المؤجِّر): أي إذا أجَّر شيئاً، فإن لم يُعَيِّن مَن ينتفعُ به فللمستأجِّر أن يعيرَهُ سواءٌ اختلف استعمالُهُ أو لا، وإن عيَّن يُعِيرُ ما لا يختلف استعمالُه لا ما اختلف، وعند الشَّافِعِيِّ
(5)
رضي الله عنه ليس للمستعيرِ الإعارة؛ لأنَّ العاريةَ عنده إباحةُ الانتفاع، والمباحُ له لا يملكُ الإباحة، وعندنا: هي تمليكُ المنافع، فالمستعيرُ لَمَّا مَلَكَ المنافعَ كان له أن يملِّكَها
(1)
لأنّه إذا تعدّى ضمنَ إجماعاً، كما لو استعارها ليركبها فحبسَها، وكذا لو استعارَ ثوراً ليحرث أرضه فقرنه بثورٍ أعلى منه ولم تجرِ العادة بذلك فهلك، ولو تركَه يرعى في المرجِ فضاع، إن كانت العادةُ هكذا لا ضمان، وإن لم يعلم، أو كانت العادةُ مشتركة ضمن. ينظر:«البحر» (7: 281).
(2)
ينظر: «النكت» (ص 573)، وغيرها.
(3)
زيادة من أ.
(4)
أي لم يختلف استعمال. ينظر: «فتح باب العناية» (2: 451)،
(5)
ينظر: «النكت» (ص 577)، وغيرها.
فمَن استعارَ دابّة، أو استأجَر مطلقاً يحملُ ويعيرُ له، ويَرْكَبُ ويُرْكِب، وأيَّاً فعلَ تعيَّن، وضَمِنَ بغيره. وإن أطلقَ الانتفاعَ في الوقتِ والنوعِ انتفعَ به ما شاء أي وقتٍ شاء، وإن قيَّدَ انتفاعه بوقت أو نوع أو بهما ضمن بالخلاف إلى شرّ فقط، وكذا تقييدُ الإجارةِ بنوع أو قدر، وردَّها إلى اصطبلِ مالكِها، أو مع عبده، أو أجيرِه مسانهة، أو مشاهرة، أو مع أجيرِ ربِّها، أو عبدِهِ يقومُ على دابَّتِهِ أو لا تسليمٌ
غيره، (فمَن استعارَ دابّة، أو استأجَر مطلقاً يحملُ ويعيرُ له): أي للحمل، (ويَرْكَبُ ويُرْكِب، وأيَّاً فعلَ
(1)
تعيَّن، وضَمِنَ بغيره.
وإن أطلقَ الانتفاعَ في الوقتِ والنوعِ انتفعَ به
(2)
ما شاء أي وقتٍ شاء، وإن قيَّدَ انتفاعه بوقت أو نوع أو بهما ضمن بالخلاف إلى شرّ فقط)، التقييدُ إمِّا أن يكونَ في الوقتِ دون النَّوع، أو في النَّوع دون الوقت، أو فيهما، فإن عَمِلَ على موافقةِ القيدِ فظاهر وإن خالف، فإن كان الخلافُ إلى مثل، أو إلى خيرٍ لا يضمنُ، وإلى شرٍّ يضمن، (وكذا تقييدُ الإجارةِ بنوع أو قدر): أى إن وافق، أو خالفَ إلى مثل، أو خيرٍ لا يضمن، وإلى شرٍّ يضمن.
(وردَّها إلى اصطبلِ مالكِها، أو مع عبده، أو أجيرِه مسانهة، أو مشاهرة، أو مع أجيرِ ربِّها، أو عبدِهِ يقومُ على دابَّتِهِ أو لا تسليمٌ): أي ردَّ الدابّةِ إلى اصطبلِ مالكها، فهَلَكَتْ قبل الوصولِ إلى المالك لا يضمنُ؛ لأنَّ هذا تسليم، وكذا إن أرسلَها المستعيرُ مع عبدِهِ إلى المالك، فهلكَتْ قبل الوصولِ إليه، وكذا إن أرسلَها مع أجيرِه مسانهة، أو مشاهرة بخلاف أجيرِه مياومة؛ إذ ليس في عياله، فيضمنُ بالتَّسليم إليه، وكذا إن سلَّمَها إلى أجيرِ المالك، أو عبدِهِ سواءٌ يقومُ على الدَّواب أو لا، فهلكت قبل الوصولِ إلى المالك لا يضمن، وهو الأصحّ، وقيل: يضمنُ بالتَّسليم إلى عبدِه الذي لا يقومُ على الدَّواب، فدلَّتْ المسألةُ على أنَّ المستعيرَ لا يَمْلِكُ الايداع.
(1)
أي المستعير أو المستأجِرُ من الحملِ أو الركوب أو الإركاب حتى لو ركبَ بنفسه ليس له أن يُركبَ غيرَه؛ لأنّه تعيَّنَ ركوبَه، ولو أركبَ غيرَه ليس له أن يركبَه بنفسه، حتى لو فعلَه ضَمِن؛ لأنّه تعيَّن الإركاب؛ لأنَّ ما وقعَ أوّلاً تعيّن مراداً بالعقد، وصار كأنّه منصوصٌ عليه. ينظر:«الهداية» (3: 222).
(2)
زيادة من ب و م.
كردِّ مستعارٍ غير نفيسٍ إلى دار مالكِه بخلاف ردِّ الوديعةِ والمغصوبِ إلى دارِ مالكِهما، وعاريةُ النَّقدين، والمكيل، والموزون، والمعدود قرض، وصحَّ إعارةِ الأرضِ للبناءِ والغرسِ، وله أن يرجعَ عنها ويكلِّفَ قلعَهما ولا يضمن إن أطلق، وضَمِنَ ما نَقَصَ بالقلعِ إن وقَّت، وكُرِهَ الرجوعُ قبلَه، ولو أعارَ للزَّرع لا يُؤخَذُ حتى يُحْصَد وَقَّتَ أو لا
(كردِّ مستعارٍ غير نفيسٍ إلى دار مالكِه)، فإنّ هذا تسليمٌ بخلافِ المستعارِ النَّفيسِ كالجواهرِ حيث لا يردُّ إلا إلى المعير، (بخلاف ردِّ الوديعةِ والمغصوبِ إلى دارِ مالكِهما)، فإنّ هذا لا يكونُ تسليماً، بل لا بُدَّ من الرَّدِّ إلى المالك.
(وعاريةُ النَّقدين، والمكيل، والموزون، والمعدود قرض)؛ لأنَّهُ لا ينتفعُ بهذه الأشياءِ إلا بالاستهلاكِ إلاَّ إذا عيَّنَ الانتفاعَ كاستعارةِ الدَّراهم ليعيِّرَ بها الميزان، أو يُزيِّنَ الدُّكان
(1)
، وفائدةُ كونِها قرضاً أنَّها لو هَلَكَتْ في يدِ المستعيرِ قبل الانتفاعِ تكونُ مضمونة.
(وصحَّ إعارةِ الأرضِ للبناءِ والغرسِ، وله أن يرجعَ عنها ويكلِّفَ
(2)
قلعَهما ولا يضمن إن أطلق): أي لا يَضْمَنُ المعيرُ ما نَقَصَ من البناءِ والغرسِ بالقلع، إن كانت الإعارةُ مطلقةً: أي غيرُ مؤقَّتة.
(وضَمِنَ ما نَقَصَ بالقلعِ إن وقَّت): أي وقَّتَ الإعارة، ورجعَ عنها قبل ذلك الوقت، وإنِّما يضمنُ للغرور، وفي صورةِ الإطلاق ما غرَّه، بل اغترَّ المستعير، واعتمد على الإطلاق، (وكُرِهَ الرجوعُ قبلَه): أي قبل الوقت؛ لأنَّ فيه خلفَ الوَعْد.
(ولو أعارَ للزَّرع لا يُؤخَذُ حتى يُحْصَد
(3)
وَقَّتَ أو لا)؛ لأنَّ للزَّرْعِ نهايةً معلومة، ففي التَّركِ مراعاةُ الحقَّيْن بخلافِ الغرسِ إذ ليس لهم نهايةٌ معلومة.
(1)
بأن استعارَ دراهم كثيرةً فوضعها على الدكّان حتى يظنَّ الناسَ غناه فيعاملوا معه. ينظر: «الزبدة» (3: 296).
(2)
أي ويكلِّفُ المعيرُ المستعيرَ بقلعِ البناء والغرس؛ لأنّه شغل أرض المعير بهما، فيؤمرُ بالتفريغ إلا إذا شاء أن يأخذَهما بقيمتهما، فيما إذا كانت الأرضُ تستضرّ بالقلع، بخلاف ما إذا كانت لا تستضرّ بالقلع، حيث لا يجوزُ الترك إلا باتّفاقهما. ينظر:«الرمز» (2: 183)، «التبيين» (5: 88).
(3)
بل يترك في يده بطريق الإجارة بأجر المثل كيلا تفوت منفعة أرضه مجاناً. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 350).
وأجرةُ ردِّ المستعار والمستأجَر والمغصوب على المستعيرِ والمؤجِّرِ والغاصب، ويكتبُ المعارُ قد أطعمتني أرضك لا أعرتني إذا أعيرت للزِّراعة
(وأجرةُ ردِّ المستعار والمستأجَر والمغصوب على المستعيرِ والمؤجِّرِ والغاصب)؛ لأنَّ الرَّدَّ واجبٌ على المستعيرِ والغاصبِ عند طلبِ المالك، وأمَّا على المستأجِرِ التَّمكينُ والتَّخليةُ دون الرَّدّ، فإنَّ منفعةَ القبضِ للمؤجِّر، فتكونُ مؤنةُ الرَّدِّ عليه لا على المستأجِر.
(ويكتبُ المعارُ قد أطعمتني أرضك لا أعرتني إذا أعيرت للزِّراعة)، إذا أعيرت الأرضُ للزِّراعة، فأرادَ المستعيرُ أن يكتبَ كتاباً فعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه يُكْتَبُ لفظُ الإطعام؛ لأنَّه أدَلُّ على الزِّراعة، فإنّ إعارةَ الأرض، قد يكونُ للبناء والغرس، وعندهما يكتبُ لفظة الإعارة.
* * *
كتاب الهبة
هي تمليكُ عينٍ بلا عوض، وتصحُّ بوهبت، ونحلت، وأعطيتُك، وأطعمتُك هذا الطعام، وجعلتُ هذا لك، وأعمرتكه، وجعلتُهُ لك عمرى، وحملتُك على هذه الدَّابّة بنيَّتها، وكسوتُك هذا الثَّوب، وداري لك هبةً تسكنُها
كتاب الهبة
(هي تمليكُ عينٍ بلا عوض، وتصحُّ بوهبت، ونحلت، وأعطيتُك، وأطعمتُك هذا الطعام)، فإنَّ الإطعامَ إذا نُسِبَ إلى الطَّعام كان هبة، وإذا نُسِبَ إلى الأرضِ كان عارية
(1)
، (وجعلتُ هذا لك، وأعمرتكه
(2)
، وجعلتُهُ لك عمرى)، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «من أعمر عمرى، فهي للمعمر له (حال حياته)
(3)
، ولورثتِه من بعده
(4)
»
(5)
، بخلاف ما إذا قال: داري لك عمرى سكنى، فإنَّ قولَهُ سُكْنى يجعلُهُ عارية، (وحملتُك على هذه الدَّابّة بنيَّتها، وكسوتُك هذا الثَّوب، وداري لك هبةً تسكنُها)، فإنَّ قوله: تسكنُها ليس تميزاً، بل هو مشْوَرة
(6)
(1)
وإن أمكنَ أن يرادَ بالإطعامِ المضافَ إلى مثلِ الأرضِ تمليك العين مجازاً، لكنَّ هذا التجوّز ليس بمتعارف، وإنّما المتعارفُ أن يرادَ إطعامُ الغلّة على طريقِ ذكر المحلّ وإرادةِ الحال، وكلامُ العاقلِ إنّما يجبُ حملُهُ على المتعارفِ لا على كلّ ما ا حتمله اللفظ. ينظر:«النتائج» (7: 485). «المحيط» (ص 62).
(2)
في النسخ: أعمرتك، والمثبت من أ و ص.
(3)
زيادة ب و م.
(4)
أي لورثة المعمرِ له من بعدِ المعمر له: يعني يثبتُ به الهبة ويبطلُ ما اقتضاهُ من شرطِ الرجوع. كذا في «الكفاية» (7: 486).
(5)
من حديث جابر ومعاوية والزبير رضي الله عنهم في «صحيح مسلم» (3: 1245)، و «جامع الترمذي» (3: 632)، و «سنن أبي داود» (3: 294)، و «سنن النسائي» (5: 133)، واللفظ له، و «شرح معاني الآثار» (4: 91،93)، و «الموطأ» (2: 756)، وغيرهم.
(6)
أي بمعنى الشورى، وهذا لا ينافي الهبة، بل تنبيه على المقصود بمنْزلة قوله: هذا الطعام لك تأكله وهذا الثوب لك تلبسه. ينظر: «الدرر» (2: 217).
وفي هبة سُكْنَى، أو سُكْنى هبة، أو نحلي سكنى، أو سُكْنى صدقةً، أو صدقةً عارية، أو عارية هبة عاريةٌ، وتتمُّ بالقبضِ الكامل، فتصحُّ إن قبضَ في مجلسِها بلا إذن، أو بعدَهُ بإذن
(وفي هبة سُكْنَى): أي داري لك هبةً سُكْنَى، فقولُهُ: سكنى تمييزٌ فيكونُ تفسيراً لِمَّا قبلَه، فيكونُ عاريةً
(1)
، (أو سُكْنى هبة): أي داري لك بطريقِ السُّكْنى حالَ كون السُّكْنى هبة: أي موهوبة
(2)
، (أو نحلي سكنى): النّحلى اسم من النَّحلة: أي الإعطاء، تقديرُه نحلتُها نحلة، ثُمَّ قولُهم: سُكْنى؛ تمييزاً، (أو سُكْنى صدقةً): أي داري لك بطريق السُّكنى حال كون السُّكْنى صدقة، (أو صدقةً عارية): أي داري لك صدقة حال كونها بطريق العارية، فعاريةٌ تمييز فُهِمَ منه المنفعة، (أو عارية هبة عاريةٌ): أي داري لك بطريقِ العاريةِ حالَ كونِها هبة، فلمَّا قال: عاريةً فُهِمَ منها المنفعة، فمعناهُ حالَ كون المنافعِ موهوبةً لك.
(وتتمُّ بالقبضِ الكامل): أي تَتمُّ الهبةُ بالقبضِ الكاملِ الممكن في الموهوبِ للموهوب له، فالقبضُ الكاملُ في المنقولِ ما يناسبُه، وفي العقارِ ما يُناسبُه، فقبضُ مفتاحِ الدَّار قبضٌ لها، والقبضُ الكاملُ فيما يحتملُ القسمةَ بالقسمةِ حتَّى يقعَ القبضُ على الموهوبِ بطريقِ الأصالةِ من غيرِ أن يكونَ القبضُ بتبعيَّةِ قبضِ الكلّ
(3)
، وفيما لا يحتملُ القسمةَ بتبعيَّةِ الكلّ.
(فتصحُّ إن قبضَ في مجلسِها بلا إذن، أو بعدَهُ بإذن)
(4)
: أي إذا قبضَ في مجلسِ الهبةِ بلا إذنٍ كان قبضاً؛ لأنَّ الهبةَ دليلُ الإذن، وبعد إنقضاءِ مجلس الإذن لا بُدَّ أن يأذنَ
(1)
ولأنها محكمة في العاريّة، والهبة تحتملها، وتحتمل تمليك العين، فيحمل المحتمل على المحكم. ينظر:«الشرنبلالية» (2: 217).
(2)
فتكون عارية لا هبة. ينظر: «الدرر» (2: 217).
(3)
يعني أن قبض بعض ما يقسم في ضمن الكلّ لا يفيد الملك حتى لو وهب نصف دار غير مقسوم ودفع الدار إليه فباع الموهوبُ له ما وهب له لا يجوز بيعه، بمنْزلة من باع هبة لم يقبضها. ينظر:«الشرنبلالية» (2: 218).
(4)
بيانها: إنّه إذا أذنَ بالقبضِ صريحاً يصحُّ قبضُهُ في المجلس وبعده، ويملكه قياساً واستحساناً، ولو نهى عن القبضِ بعد الهبةِ لا يصحُّ القبضُ لا في المجلس ولا بعده، ولا يملكُهُ قياساً، ولو لم يأذن له بالقبض، ولم ينهَ عنه إن قبضَ في المجلسِ صحَّ القبضُ استحساناً لا قياساً، وإن قبضَ بعد المجلسِ لا يصحُّ القبضُ قياساً واستحساناً، ولو كان الموهوبُ غائباً فذهبَ وقبض، فإن كان القبضُ بإذنِ الواهبِ جازَ استحساناً لا قياساً، وإن كان بغيرِ إذنه لا يجوز. ينظر:«جامع الرموز» (2: 60).
كمشاعٍ لا يُقْسَمُ، لا فيما يُقْسَم، فإن قُسِمَ وسُلِّمَ صحّ، فإن وَهَبَ دقيقاً في بُرّ، أو دُهْناً في سمسم لا، وإن طَحَن، أو أخرجَ وسَلَّم، وكذا السَّمْنُ في اللَّبْن، وهبةُ لَبَنٍ في ضرع، وصوفٍ على ظهر غَنَم، وزَرْعٍ ونخلٍ في أرض، وتمرٍ في نخيلٍ كالمشاع، وتَمَّ هبةُ ما مع الموهوبِ له بلا قبضٍ جديد، وما وهبَ لطفلِهِ بالعقد، وما وهبَ
الواهبُ صريحاً، (كمشاعٍ لا يُقْسَمُ)
(1)
: متعلِّقٌ بقولِهِ فتصح، والمرادُ به أنَّه
(2)
إذا قُسِمَ لا يبقى منفعة، كالرَّحى، والحمَّام، والبيتِ الصَّغير، (لا فيما يُقْسَم): أي لا تصحُّ الهبةُ في مشاعٍ لو قُسِمَ يبقى منفعتُه عندنا، خلافاً للشَّافِعِيّ
(3)
رضي الله عنه.
وهذا الخلافُ مبنيٌّ على اشتراطِ القبض، هو يقول المشاعُ محلٌّ للقبض كما في البيعِ ونحوه، ونحن نقول: القبضُ منصوصٌ عليه هاهنا فلا بُدَّ من كمالِه.
ولا فرقَ عندنا بين أن يُهَبَ من الشَّريك أو من الأجنبيّ، والمفسدُ هو الشُّيُوع المقارن، لا الشُّيُوع الطَّارئ، كما إذا وَهَب، ثُمَّ رَجَعَ في البعضِ الشَّائع أو استحقَّ البعضَ الشَّائع
(4)
، بخلافِ الرَّهن، فإنَّ الشُّيُوعَ الطَّارئ مفسد.
(فإن قُسِمَ وسُلِّمَ صحّ): أي إذا وَهَبَ النِّصفَ المشاع، ثُمَّ قُسِمَ وسُلِّمَ صحّ؛ لأنَّ تمامَها بالقبضِ عندنا، وعند القبضِ لا شيوع، (فإن وَهَبَ دقيقاً في بُرّ، أو دُهْناً في سمسم لا، وإن طَحَن، أو أخرجَ وسَلَّم، وكذا السَّمْنُ في اللَّبْن)، إنِّما لا يجوزُ لأنَّ الموهوبَ معدومٌ وقتَ الهبة بخلافِ المشاع، (وهبةُ لَبَنٍ في ضرع، وصوفٍ على ظهر غَنَم، وزَرْعٍ ونخلٍ في أرض، وتمرٍ في نخيلٍ كالمشاع): أي لا يجوزُ هذه الهبات، لكن إن فُصِلَتْ هذه الأشياءُ عن ملكِ الواهب، وقبضَ تصحّ.
(وتَمَّ هبةُ ما مع الموهوبِ له بلا قبضٍ جديد، وما وهبَ لطفلِهِ بالعقد، وما وهبَ
(1)
أي ليس من شأنه أن يقسم بمعنى لا يبقى منتفعاً به بعد القسمة أصلاً كعبد ودابة، ولا يبقى منتفعاً به بعد القسمة من جنس الانتفاع الذي كان قبل القسمة كالبيت والحمام. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 356).
(2)
ساقطة من ص و ف. وفي ب و م: ما.
(3)
ينظر: «النكت» (ص 671)، وغيرها.
(4)
والعبرة في الشيوع وقت القبض لا وقت العقد، حتى لو وهب مشاعاً وسلَّم مقسوماً يجوز، وكذا لو وهب نصف الدار ولم يُسَلِّم ثم وهب النصف الآخر وسلَّمه جازت الهبة، أو وهب تمراً في نخل أو زرعاً في أرض ثم سَلَّم بعد ذلك مفرزاً يجوز. ينظر:«البناية» (7: 808).
أجنبيّ له بقبضِهِ عاقلاً، أو قبضِ أبيه، أو جدِه، أو وصيِّ أحدِهما، أو أمٍّ هو معها، أو أجنبي يُرَبيه وهو معه، أو زَوْجِها لها بعد الزَّفاف، وصحَّ هبةُ اثنين دارَ الواحد، وعكسُهُ لا، كتصدقٍ عشرة على غنيين وصحَّ على فقيرين
أجنبيّ له بقبضِهِ عاقلاً، أو قبضِ أبيه، أو جدِه، أو وصيِّ أحدِهما، أو أمٍّ هو معها، أو أجنبي يُرَبيه وهو معه، أو زَوْجِها لها بعد الزَّفاف): أي زوجِ الطِّفل الموهوب لها لأجلِها لكن بعد الزَّفاف
(1)
.
(وصحَّ هبةُ اثنين دارَ الواحد)؛ لأنَّ الكلَّ يقعُ في يدِه بلا شيوع، (وعكسُهُ لا): أي هبةُ واحدٍ لاثنين داراً لا تصحُّ عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما تصحّ؛ لأنَّ التَّمليكَ واحدٌ فلا شيوع، كما إذا رَهَنَ من رجلين، وله: أن هذه هبةُ النِّصفِ من كلِّ واحدٍ، فيثبتُ الشُّيُوع
(2)
، بخلافِ الرَّهن؛ لأنَّهُ محبوسٌ بدينٍ كلِّ واحدٍ بكماله.
(كتصدقٍ عشرة على غنيين وصحَّ على فقيرين): أي إذا تَصدَّقَ بعشرةٍ على غنيينِ لا يصحُّ عند أبي حنيفة
(3)
رضي الله عنه، وكذا إن وهب لهما للشيوع، وعندهما: تصحُّ الهبة؛ لأنَّه لا شيوعَ عندهما، كما في هبة واحدٍ داراً من اثنين، وكذا تصحُّ الصَّدقة؛ لأنَّ الصَّدقةَ على الغنيينِ يرادُ بهما الهبةُ مجازاً، والهبة جائزة، ولو تصدَّقَ بعشرةٍ على فقيرين أو وَهَبَ العشرة لهما جازَ بالاتّفاق؛ لأنَّ الصَّدقةَ يرادُ بها وجهُ الله تعالى، قال
(1)
يعني أو تتمّ هبةُ ما وهبه للطفلةِ بقبضِ زوجها، ولو مع حضرة الأبِ بعدما زُفَّت الطفلةُ إليه في الصحيح؛ لأنَّ الأبَ أقامه مقامَ نفسِه في حفظها، وقبض الهبة منه، ولو قبضَه الأبُ أيضاً صحّ؛ لأنَّ الولايةَ له، واشتراطُ الزفافِ لثبوت ولاية الزوج؛ لأنّها إنّما يملكه باعتبارِ أنّه يعولها، وذلك بعد الزفاف، فلا يصحّ قبض الزوجِ قبل الزفاف؛ لأنّه لا يعولها قبله، ولا يشترطُ أن يكون ممّا يجامع مثلها في الصحيح. ينظر:«التبيين» (5: 96).
(2)
وبيانه: إن تمليك الكل منهما تمليك البعض الشائع من كل منهما؛ لأنه لا وجه له سوى هذا، وهذا باطل. ينظر:«الرمز» (2: 186).
(3)
هذه رواية «الجامع الصغير» جعل كل واحد منهما مجازاً عن الآخر حيث جعل الهبة للفقيرين صدقة، والصدقة على الغنيين هبة، وفرَّق بين الهبة والصدقة في الحكم حيث أجاز الصدقة على اثنين ولم يجز الهبة، والجامع بينهما أن كلاً منهما تمليك بلا عوض فجازت الاستعارة، والفرق أن الصدقة يبتغى بها وجه الله وهو واحد، والفقير نائب عنه ولا كذلك الهبة فيكون تمليكاً من اثنين. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 359).
باب الرجوع عنها
ومَن وَهَبَ فرجعَ صحّ
- صلى الله عليه وسلم: «الصَّدَقةُ تقعُ في كفِّ الرَّحمنِ قبل أن تقعَ في كفِّ الفقير»
(1)
، فلا شيوع، وأمَّا الهبةُ على الفقيرِ فهي صدقة، والصَّدقةُ جائزة، فكذا الهبة.
باب الرجوع عنها
(ومَن وَهَبَ فرجعَ صحّ)
(2)
: هذا عندنا؛ لقولهِ صلى الله عليه وسلم: «الواهبُ أحقُّ بهبته ما لم يثبت»
(3)
: أي ما لم يعوض، وعند الشَّافِعِيِّ
(4)
رضي الله عنه لا تصحُّ إلا في هبةِ الوالدِ لولدِه؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يرجعُ الواهبُ في هبةٍ إلاَّ الوالدَ فيما يهبُ لولده»
(5)
، ونحنُ نقولُ به: أي لا ينبغي أن يرجعَ (في هبةٍ)
(6)
إلا الوالد، فإنَّه يتملَّكُ للحاجة
(7)
.
(1)
ورد بألفاظ قريبة منه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، منها:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله» في «صحيح مسلم» (2: 702) واللفظ له، و «سنن الترمذي» (3: 49)، و «سنن النسائي» (2: 31)، وغيرها.
(2)
ولو أسقط حقّه من الرجوع في الهبة ما الموهوب باقياً. ينظر: «فتاوى ابن نجيم» (ص 158).
(3)
من حديث عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وغيرهم، في «المستدرك» (2: 60)، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين، و «سنن الدارقطني» (3: 43)، و «سنن ابن ماجه» (2: 798)، و «سنن البيهقي الكبير» (6: 181) وهذا اللفظ مذكور فيه.
(4)
ينظر: «النكت» (ص 675)، وغيرها.
(5)
من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم في «جامع الترمذي» (4: 442)، وقال: حسن صحيح، ولفظه عنده:«لا يحلّ للرجل أن يعطي عطية، ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يعطي العطية، ثمّ يرجعُ فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه» ، وفي «صحيح ابن حبان» (11: 524)، و «مستدرك الحاكم» (2: 53) وصححه، و «سنن النسائي» (4: 121)، وغيرهم، وينظر:«نصب الراية» (4: 124)، وغيره.
(6)
زيادة من أ.
(7)
أي لا ينفرد أحدٌ بالرجوع في هبته من غير قاض ولا تراضٍ إلا الوالد إذ احتاج إلى ذلك، فإنه ينفرد بالأخذ لحاجته. وتمامه في «فتح باب العناية» (2: 414).
ومنعَهُ الزِّيادةُ المتصلة: كبناء، وغرس، وسمن، لا المنفصلة، وموتُ أحدِ العاقدين، وعوضٌ أضيفَ إليها ولو من أجنبي بنحو: خذْهُ عوضَ هبتِك فَقَبَضَ، فلو وهب ولم يضفْ رجعَ كلٌّ بهبتِه، وخروجُها عن ملك الموهوبِ لهم، والزُّوجيةُ وقتَ الهبة، فلو وَهَبَ لها فنكحَها رجعَ، ولو وَهَبَ فأبانَ
(ومنعَهُ
(1)
الزِّيادةُ المتصلة: كبناء
(2)
، وغرس، وسمن، لا المنفصلة)، وهي مثل الولد، (وموتُ أحدِ العاقدين
(3)
، وعوضٌ أضيفَ إليها
(4)
ولو من أجنبي بنحو: خذْهُ عوضَ هبتِك فَقَبَضَ، فلو وهب ولم يضفْ رجعَ كلٌّ بهبتِه، وخروجُها عن ملك الموهوبِ لهم، والزُّوجيةُ
(5)
وقتَ الهبة، فلو وَهَبَ لها فنكحَها رجعَ، ولو وَهَبَ فأبانَ
(1)
موانع الرجوع في الهبة عشرة، وهي:
إذا مات الواهب.
إذا مات الموهوب له.
إذا زاد الموهوب له فيها.
إذا زادت الهبة في نفسها.
إذا وهب لرجل جارية أو غلام فعلّمه الموهوب له القرآن أو الكتابة المشط أو القصارة أو الخبر ونحو ذلك.
إذا عوضه عن الهبة عوضاً قليلاً كان أو كثيراً.
إذا هلكت الهبة بوجه من الوجوه.
إذا استهلكها الموهوب له.
إذا أخرجها من ملكه ببيع أو هبة أو صدقة
هبة المرأة لزوجها وهبة الزوج لامرأته. ينظر: «النتف» (1: 515 - 516).
(2)
أي إذا كان يوجبُ زيادةً فيها، وإن كان لا يوجبُ لا يمنع الرجوع، وإن كان يوجبُ في قطعةٍ منها بأن كانت الأرضُ كبيرة بحيث لا يعدّ مثله زيادةً فيها كلّها امتنعَ في تلك القطعة دون غيرها. ينظر:«الرمز» (2: 187)، و «التبيين» (5: 98).
(3)
في أ: المتعاقدين. لأنَّ بموتِ الواهبِ يبطلُ خياره؛ لأنّه وصفٌ له، وهو لا يورثُ كخيار الرؤية والشرط، وبموتِ الموهوبِ انتقلَ الملكُ إلى ورثته، وهم لم يستفيدوه من جهة الواهب، فلا يرجعُ الواهبُ عليهم، كما إذا انتقلَ إليهم في حالِ حياته، ولأنَّ تبدّل الملك كتبدّل العين. ينظر:«المنح» (ق 2: 223/أ).
(4)
ولا بد أن يذكر لفظاً يعلم الواهب منه أن ذلك عوض هبته، كأن يقول: هذا عوض هبتك، أو جزاؤها، أو بدلها، أو في مقابلتها. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 415).
(5)
لأنَّ الزوجيَّة نظيرُ القرابة، حتى يجري التوارثُ بينهما بلا حاجب، ففي هبةِ كلِّ واحدٍ منهما لا يكون المقصود إلا الصلة دون العوض كما في القرابة المحرمية، وهو قد حصل، فبعد حصول المقصود لا يرجع، بخلاف ما إذا وهبَ لأجنبيّ، فإنَّ المقصودَ فيها هو العوض. ينظر:«الزبدة» (3: 305).
لا، وقرابةُ المحرميَّة، وهلاكُ الموهوب وضابطُها حروف دمع خزقه، ورجعَ في استحقاقِ نصفِ الهبةِ بنصفِ عوضِها، لا في استحقاقِ نصفِ العوضِ حتى يَرُدَّ ما بقي، ولو عَوَّضَ نصفَها رجعَ بما لم يعوِّض، فلو باعَ نصفَها أو لم يبعْ شيئاً، رجعَ في النِّصف
لا، وقرابةُ المحرميَّة، وهلاكُ الموهوب وضابطُها حروف دمع خزقه): قد قيل
(1)
:
ومانعُ عن الرُّجُوع في الهبةِ
يا صاحبي حروف دمع خزقه
فالدَّالُ: الزِّيادة، والميمُ: الموت، والعينُ: العوض، والخاءُ: الخروج، والزَّاء: الزَّوجية، والقافُ: القرابة، والهاء: الهلاك.
(ورجعَ في استحقاقِ نصفِ الهبةِ بنصفِ عوضِها، لا في استحقاقِ نصفِ العوضِ حتى يَرُدَّ ما بقي
(2)
)، هذا عندنا
(3)
، وعند زُفَرَ رضي الله عنه يرجعُ بالنِّصف اعتباراً بالعوضِ الآخر، ولنا: أنّه ظَهَرَ بالاستحقاقِ أنَّ العوضَ هو الباقي فقط، فما لم يردَّه لا يرجعُ بالهبة، وإنِّما يكونُ له حقُّ الرَّدّ؛ لأنَّه لم يُسقطْ حقَّ الرُّجُوع إلاَّ أن يسلِّمَ له كلَّ العوض، ولم يسلِّم
(4)
.
(ولو عَوَّضَ نصفَها رجعَ بما لم يعوِّض، فلو باعَ نصفَها أو لم يبعْ شيئاً، رجعَ في النِّصف)، يعني إن باعَ الموهوبُ له نصفَ الهبة، فللواهبِ أن يرجع في النِّصفِ الباقي،
(1)
قيل: هو من نظمِ الإمام النَّسَفِيّ رضي الله عنه، وقيل: لغيره، وقد نظمَ شيخُ الإسلام محيي الدين رضي الله عنه والد العلامةِ الزحيلي رضي الله عنه بقوله:
منع الرجوع من المواهب سبعة
فزيادة موصولة موت عرض
وخروجها عن ملك موهوب له
زوجية قرب هلاك قد عرض
ينظر: «الزبدة» (3: 306).
(2)
أي إذا استحق نصف العوض لا يرجع بشيء حتى يردّ ما بقي من العوض. ينظر: «التبيين» (5: 100).
(3)
وفي ص: عند أبي حنيفة رحمه الله.
(4)
أي إنَّ الباقي من العوضِ يصلحُ عوضاً للكلِّ في الابتداء، وما يصلحُ عوضاً عن الكلِّ في الابتداءِ يصحُّ أن يكون عوضاً عنه في البقاء؛ لأنَّ البقاء أسهلُ من الابتداء، وباستحقاقِ نصفِ العوضِ ظهرَ أنَّ العوضَ هو الباقي فقط، إلا أنّه يتخيّر بين أن يردَّ ما بقيَ من العوضِ ويرجعَ في الهبة، وبين أن يمسكَه ولا يرجع بشيء؛ لأنَّ الواهبَ لم يسقطْ حقَّه في الرجوعِ إلا ليسلّم له كلّ العوض، ولم يسلّم له، فله أن يردَّ ما بقي من العوض. ينظر:«الزبدة» (3: 306).
ولا يصحُّ إلا بتراضٍ أو بحكم قاض، فلو أعتقَ الموهوبُ له بعد الرُّجوعِ قبل القضاءِ صحَّ، ولو منعَه، فهَلَكَ لم يضمن، وهو مع أحدِهما، فسخٌ من الأصلِ لا هبةٌ للواهب، فلم يشترطْ قبضُه، وصحَّ في المشاع. فإن تَلِفَ الموهوبُ، فاستحقَّ فضمِنَ الموهوبُ له لم يرجعْ على واهبِه، وهي بشرطِ العوضِ هبةٌ ابتداءً، فشرط قبضِهما في العوضين، وتبطلُ بالشُّيُوع، بيعٌ انتهاءً، فيردُّ بالعيب، وخيار الرُّؤية، وتثبت الشُّفعة
وكذا إذا لم يبعْ شيئاً، فللواهبِ حقُّ الرُّجُوع؛ لأنَّ له الرُّجوعَ في الكلّ، ففي النِّصفِ أولى.
(ولا يصحُّ إلا بتراضٍ أو بحكم قاض، فلو أعتقَ الموهوبُ له بعد الرُّجوعِ قبل القضاءِ صحَّ): أي أعتقَ الموهوبُ له الموهوبَ، (ولو منعَه، فهَلَكَ لم يضمن): أي منعَ الموهوبُ له الموهوب عن الواهبِ بعدما رجع لكن لم يقضِ القاضي فهلكَ الموهوبُ في يدِ الموهوب له لا يضمن، وكذا إن هَلَكَ في يدِه بعد قضاء القاضي؛ لأنَّ يدَه غيرُ مضمونة؛ إلاَّ إذا طلبَه فمنعَه مع القدرة على التَّسليم.
(وهو مع أحدِهما): أي الرُّجوعُ مع التَّراضي، أو قضاءِ القاضي، (فسخٌ من الأصلِ لا هبةٌ للواهب، فلم يشترطْ قبضُه، وصحَّ في المشاع.
فإن تَلِفَ الموهوبُ): أي في يدِ الموهوبِ له، (فاستحقَّ فضمِنَ الموهوبُ له لم يرجعْ على واهبِه)؛ لأنَّ الهبةَ عقدُ تَبَرُّع، فلا يستحقُّ فيها السَّلامة.
(وهي بشرطِ العوضِ هبةٌ ابتداءً
(1)
، فشرط قبضِهما في العوضين، وتبطلُ بالشُّيُوع): أي يجوزُ أنّ يكون: قبضهما؛ من باب إضافةِ المصدرِ إلى الفاعل، والمفعولُ محذوفٌ للدَّلالة، ويجوزُ أن يكونَ على العكس، (بيعٌ انتهاءً
(2)
، فيردُّ بالعيب، وخيار الرُّؤية، وتثبت الشُّفعة)، هذا عندنا، وعند زُفَرَ رضي الله عنه والشَّافِعِيِّ
(3)
رضي الله عنه هي بيعُ ابتداءً وانتهاء؛ لأنَّ الاعتبارَ للمعاني، قلنا: يشتمل على المعنيين، فيجمعُ بينهما ما أمكن.
(1)
هذا إذا ذكره بكلمة: على؛ بأن يقول وهبت هذا العبد لك على أن تعوضني هذا الثوب، وأما إذا ذكره بحرف الباء بأن يقول وهبت لك هذا الثوب بعبدك هذا أو بألف درهم، وقبله الآخرُ يكون تبعاً ابتداءً وانتهاءً. ينظر:«درر الحكام» (2: 244).
(2)
أي في انتهاء العقد بعد التقابض. ينظر: «الدر المنتقى» (2: 364).
(3)
ينظر: «التنبيه» (ص 94)، و «النكت» (ص 677)، وغيرهما.
فصل
ومَن وهبَ أمةً إلاَّ حملَها، أو على أن يردَّها عليه، أو يعتقَها، أو يستولدَها، أو وَهَبَ داراً، أو تصدَّقَ بها على أن يردَّ عليه شيئاً منها، أو يعوضَه شيئاً منها
(1)
، صحَّتْ وبطلَ استثناؤه وشرطُه
فإن قلتَ: الهبةُ تمليكُ العينِ بلا عوض، والبيعُ تمليكٌ بعوض، فكيف يجمعُ بينهما، وأيضاً التَّمليكُ لا يجري فيه الشَّرط، فقولُهُ: وهبتُ لك هذا على أن تَهَبَ لي ذلك، صارَ بمعنى ملكتُكَ هذا بذلك.
قلت: يحملُ على معنيين في حالين: كالابتداء والبقاء، والتمليكُ لا يجري فيه شرطٌ يصيرُ به قماراً، فأمّا الشَّرط الذي يصيرُ به في المالِ عوضاً صحيحاً، فالتَّمليكُ لا ينافيه، فيكون شرطاً ابتداءً اعتباراً للعبارة حتَّى لا يصيرَ كالبيع لازماً قبل القبض، لكنَّهُ شُرِطَ بمعنى العوضِ اعتباراً لما يؤول إليه حتَّى يتوفَّرَ عليه أحكامُ البيع حالة البقاء لا في الابتداء
(2)
.
فصل
(ومَن وهبَ أمةً إلاَّ حملَها، أو على أن يردَّها عليه، أو يعتقَها، أو يستولدَها، أو وَهَبَ داراً، أو تصدَّقَ بها على أن يردَّ عليه شيئاً منها، أو يعوضَه شيئاً منها
(3)
، صحَّتْ وبطلَ استثناؤه وشرطُه)، رأيت في بعضِ الحواشي أن قولَهُ: أو يعوضَه شيئاً منها؛ يرجعُ إلى التَّصدُّق، فإنَّه إذا تصدَّقَ بشرطِ العوضِ بطلَ الشَّرط، وإذا وهبَ بشرطِ العوض، فالشَّرطُ صحيح.
(1)
أي أن يردَّ بعض الدارِ الموهوبةِ على الواهبِ بطريق العوض من كلِّ الدّار. كذا في «النتائج» (7: 215 - 213).
(2)
حاصله: إن معنى كونها تمليكاً بلا عوض كونها تمليكاً بلا شرط عوض لا بشرط عدم العوض، فلا ينافي كونه بيعاً، وأيضاً: إن الشرط المنافي للتمليك شرط فيه معنى الربا أو القمار لا مطلق الشرط، حتى لو قال: بعت هذا منك على أن يكون ملكاً لك صحَّ البيع، فيكون ما نحن فيه شرطاً ابتداءً نظراً إلى العبارة حتى لا يصير كالبيع لازماً قبل القبض وشرطاً بمعنى العوض نظراً إلى ما يؤول إليه حتى توفر أحكام البيع حالة البقاء. ينظر:«الدرر» (3: 224).
(3)
أي أن يردَّ بعض الدارِ الموهوبةِ على الواهبِ بطريق العوض من كلِّ الدّار. كذا في «النتائج» (7: 215 - 213).
ولو أعتقَ الحمل، ثُمَّ وهبَها صحَّتْ، ولو دبَّرَه، ثُمَّ وهبَها لا، ومَن قال لغريمه: إذا جاءَ غدٌ فهو لك، أو أنت منه بريء، فهو باطل، وجازَ العُمرى للمعمر له حالَ حياتِه، ولورثتِه بعده، وهي جعلُ دارِه له مدَّةَ عُمُره، فإذا ماتَ تُردُّ عليه، وبطلَ الرُّقْبي وهي إن متَّ قبلَك فهو لك
أقولُ: إذا وهبَ بشرطِ أن يعوضَ شيئاً، فالشَّرطُ باطل، وشرطُ العوضِ إنِّما يصحُّ إذا كان معلوماً، فَعُلِمَ أنَّ قولَهُ: أو يعوضَهُ يرجعُ إلى الهبةِ والصَّدقة.
(ولو أعتقَ الحمل، ثُمَّ وهبَها صحَّتْ): أي الهبة؛ لأنَّ الحملَ لم يبقَ ملكاً، فإذا وهبَ الأمَّ صارَ كأنَّه وهبَها، واستثنى الحمل، فالهبةُ جائزة.
(ولو دبَّرَه، ثُمَّ وهبَها لا)؛ لأنَّ الحملَ بقيَ على ملكِه، فلم يكنْ كالاستثناء، ولا ينفذُ الهبةُ في الحمل، فبقي هبةَ شيءٍ مشغولٍ بملكِ الواهب، أو هبةَ المشاع.
(ومَن قال لغريمه: إذا جاءَ غدٌ فهو لك، أو أنت منه بريء، فهو باطل)؛ لِمَا مرَّ أنَّ التَّعليقَ الصَّريحَ في الإبراءِ لا يصحّ
(1)
.
(وجازَ العُمرى للمعمر له حالَ حياتِه، ولورثتِه بعده، وهي جعلُ دارِه له مدَّةَ عُمُره، فإذا ماتَ تُردُّ عليه): أي العمرى: جعلُ الدَّارِ له مدَّةَ عُمُرِهِ مع شرطِ أن المعمرَ له إذا ماتَ تردُّ على الواهب، فهذا الشَّرط باطل كما جاء به الحديث.
(وبطلَ الرُّقْبي وهي إن متَّ قبلَك فهو لك)؛ الرُّقْبي اسم من الرُّقُوب، وهو الانتظار، فكأنَّه ينتظرُ أن يموتَ المالك، وهي باطلةٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه ومحمَّد رضي الله عنه؛ لأنَّه تعليقُ التَّمليك بخطرٍ، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه يصحّ، لأنَّ قولَهُ: داري لك رُقْبى، أي إن داري لك، وأنا انتظرُ موتَك لتعود إليَّ فتصحُّ ويبطلُ الشَّرطُ كالعُمرى، فالاختلافُ
(2)
مبنيٌّ على تفسيرِها.
(1)
لأنّ الإبراءِ تمليكٌ من وجهٍ لارتدادِه بالردّ، واسقاطٌ من وجه؛ لعدم توقّفه على القبول، والتعليقُ بالشرطِ يختصّ بالإسقاطاتِ المحضة التي يحلفُ بها كالطلاق والعتاق، وهذا تمليك من وجهٍ فلم يجز تعليقه بالشرط فبطل. ينظر:«الرمز» (2: 190).
(2)
أي إنَّ الاختلافَ راجعٌ إلى تفسير الرُّقبى مع اتّفاقهم على أنّها من المراقبة، فحمل أبو يوسفَ رضي الله عنه هذا اللَّفظ على أنّه تمليكٌ للحال مع انتظارِ الواهب في الرجوع، فالتمليكُ جائز، وانتظارُ الرجوعِ باطل، كما في العمرى، وقالا: المراقبةُ في نفسِ التمليك؛ لأنَّ معنى الرُّقبى هذه الدار لآخرنا موتاً، كأنّه يقول: أراقب موتَك وتراقبُ موتي، فإن متُّ قبلكَ فهي لك، وإن متَّ قبلي فهي لي، فكان هذا تعليقُ التمليكِ ابتداءً بالخطر، وهو موت المالك قبله، وهذا باطل. ينظر:«النتائج» (7: 515).
وصدقةٌ كهبةٍ لا تصحُّ إلا بقبضِهِ، ولا في شائعٍ يقسَّم، ولا عودَ فيها.
(وصدقةٌ كهبةٍ لا تصحُّ إلا بقبضِهِ، ولا في شائعٍ يقسَّم): أي إذا تصدَّقَ بنصفِ الدَّارِ لا يصحُّ بخلافِ ما إذا تصدَّقَ بشيءٍ على فقيرينِ كما مَرّ، (ولا عودَ فيها)، والفرقُ بينهما أن الرُّجوعَ لا يصحُّ في الصَّدقة؛ لأنَّه وَصَلَ إليه العوض، وهو الثَّواب.
* * *
كتاب الإجارة
كتاب الإجارة
قال بعضُ أهلِ العربيّة: الإجارةُ فِعالةٌ من المفاعلة، وآجر على وزن فاعَل لا أفعل؛ لأنَّ الإيجارَ لم يجيء، فالمضارعُ يؤاجر، واسم الفاعل، المؤاجِر، وفي «عين الخليل
(1)
»: آجَرتُ زيداً مملوكي، أوجِّرُهُ إيجاراً
(2)
، وفي «الأساس»
(3)
: آجر: وهو مُؤْجِر، ولم يُقَلْ مُؤَاجِر، فإنَّه غَلَط، ومستعمل في موضعٍ قبيحٍ
(4)
(5)
، وهو اسمٌ للأجرة: كالجَعالة (اسم
(1)
وهو الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفَراهيدي الأزديّ اليَحْمَديّ، وأكثر العلماء يقولون إن كتاب العين ليس من تصنيفه وإنما كان قد شرع فيه ورتب أوائله وسمّاه بالعين فأكمله تلامذته النضر بن ضميل ومن في طبقته فما جاء عملهم مناسباً لما وضعه الخليل رضي الله عنه وعملوا الأول أيضاً فلذا وقع فيه خلل كثير يبعد وقوع مثله عن الخليل. من مؤلفاته:«العروض» ، و «الشواهد» ، و «النقط والشكل» ، و «النغم» ، (ت 170 هـ). ينظر:«مرآة الجنان» (1: 362 - 367). «وفيات» (2: 244 - 248)، «دفع الغواية» (1: 22).
(2)
انتهى من «العين» (6: 173)، وعبارته: الإجارة ما أعطيت من أجر في عمل، وآجَرْتُ مملوكي إيجاراً فهو مُؤجَر.
(3)
الأساس في البلاغة» لمحمود بن عمر بن محمد الخورازمي الزَّمَخْشَرِيّ الحنفي، أبي القاسم، جار الله، نسبةً إلى زَمَخْشَر، بلدة من قرى خوارزم، قال ابن خلكان: كان إمام عصره بلا مدافع، وهمام دهره بلا ممانع، من مؤلفاته:«الكشاف عن حقائق غوامض التنْزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل» ، و «الفائق في تفسير الحديث» ، و «المفصل» ، و «المستقصى في أمثال العرب» ، و «شقائق النعمان في حقائق النعمان» ، (467 - 538 هـ). ينظر:«طبقات المفسرين» (2: 314 - 316). «كتائب أعلام الأخيار» (ق 178/ب- 180/ب). «الأنساب» (1: 163). «بغية الوعاة» (2: 280). «العبر» (4: 106). «الكامل» (9: 8). «روض المناظر» (ص 209).
(4)
وتحرير الغلط فيه أن الفاعل من أفعل لا يأتي إلا على وزن مفعل كأكرم على وزن مكرم، وكذلك آجر بالمدّ على وزن أفعل، واسم الفاعل منه مؤجر، وأصله مأجر بضم الميم وسكون الهمزة، فقيل مؤجر للتخفيف، ومؤاجر اسم فاعل من واجر كواعد على مواعد، وهذا بناء لغة العامة، فإنهم يقولون: وأجرته موضع آجرته إذا أكريتها، فعلى هذا الخطأ في إبدالهم الواو من الهمزة التي في أول الكلمة لا في قولهم مؤاجر؛ لأنه مبني على القاعدة؛ لأن اسم الفاعل من فاعل يأتي على مفاعل. ينظر:«البناية» (7: 867 - 868).
(5)
انتهى من «الأساس في البلاغة» (ص 6) بتصرف.
وهي بيعُ نفعٍ معلومٍ بعوض كذلك دين أو عين. ويُعْلَمُ النَّفعُ: بذِكْرِ المدَّةِ كسُكْنَى الدَّار، وزراعةِ الأرضِ مدَّة، كذا طالتْ أو قصرت، لكن في الوقف لا تصحُّ فوق ثلاثَ سنينٍ في المُخْتار، وبذكرِ العملِ كصبغِ ثوبٍ وخياطتهِ، وحملِ قدرٍ
للجَعل)
(1)
، وآجَرَهُ يَأجُرُهُ من باب طَلَبَ: أي أعطاهُ الأجرة، فهو آجر، فوضَحَ الفرقُ بين المُؤْجَرِ وبين الآجر، والإجارة فِعَالةٌ من آجر يُؤجِرُ بمعنى الأجرة
(2)
، لكن في الشَّرع نقل الى العقد، فقال:
(وهي بيعُ نفعٍ معلومٍ بعوض كذلك
(3)
دين أو عين.
ويُعْلَمُ النَّفعُ: بذِكْرِ المدَّةِ كسُكْنَى الدَّار، وزراعةِ الأرضِ مدَّة، كذا طالتْ أو قصرت، لكن في الوقف لا تصحُّ فوق ثلاثَ سنينٍ في المُخْتار)؛ كيلا يدَّعى المستأجِرُ أنَّهُ ملكَه، فَعِلَّةُ عدمِ الجوازِ إذا كانت هذا المعنى لا يصحُّ الإجارةُ الطَّويلةُ بعقودٍ مختلفة، كما جوَّزَها
(4)
البعضُ تجاوزَ اللهُ عنهم (وبذكرِ العملِ كصبغِ ثوبٍ وخياطته، وحملِ قدرٍ
(1)
زيادة من أ و ب، وفي أ: للجعل.
(2)
اختلف في قولهم: أجرت الدار أو الدابة، بمعنى أكريتها، هل هو أفعل، أو فاعل، والحق أنه بهذا المعنى مشترك بينهما؛ لأنه جاء فيه لغتان: إحداهما: فاعل، ومضارعه يؤاجر، والأخرى أفعل ومضارعه يؤجر، وجاء له مصدران، فالمؤاجرة مصدر فاعل، والإيجار مصدر أفعل، والمفهوم من «الأساس» وغيره اختصاص آجرت الدابة بباب أفعل، واختصاص: آجرت الأجير بباب أفعل، واسم الفاعل من الأول مؤِجر، ومن الثاني: مؤاجِر، وقال المبرد: أجرت داري ومملوكي غير ممدود، وآجرت فلاناً بكذا: أي أثبته فهو ممدود، وقيل: أجرته بالقصر يقال إذا اعتبر فعل أحدهما، وآجرته بالمد، يقال إذا اعتبر فعلاهما، وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد. ينظر:«الكليات» (ص 48).
(3)
أي معلوم دين كالنقود والمكيل والموزون، أو عين كالثياب والدواب. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 421).
(4)
في «شرح حيل الخصَّاف» : الحيلةُ بجوازِ الإجارةِ على الأوقافِ أن يعقدَ عقوداً متفرّقةً على الأوقاف كلَّ عقدٍ على سنة، فيكتب: استأجر فلان بن فلان كذا، بثلاثين عقوداً، كلَّ عقدٍ على سنة، فيكون العقدُ الأوّل لازماً والثاني غيرَ لازم؛ لأنّه مضاف، فلمتولي الوقفَ أن يفسخَ الإجارةَ في العقودِ الغيرِ اللازمةِ إذا خافَ بطلان الوقف لدعوى الملك بمرور الزمان، فعلى هذا اندفعَ اعتراضُ الشارح رضي الله عنه، وذكر صدر الإسلام رضي الله عنه: أنّ الحيلةَ فيه أن يرفعَ إلى الحاكم حتى يجيزَه، والصدر الشهيد كان يفتي بالجواز في ثلاث سنين في الضياع، إلا إذا كانت المصلحةُ في المنع، وفي غير الضياع بعدمِ الجواز فيما زاد على سنةٍ واحدة، إلاَّ إذا كانت المصلحةُ في الجواز. ينظر:«التبيين» (5: 106)، و «الكفاية» (8: 8)، و «الزبدة» (3: 312)، وغيرها.
معلومٍ على دابَّةٍ مسافةً علمت، وبالإشارةِ كنقلِ هذا إلى ثمَّة.
[باب الأجر متى يستحق]
ولا تجبُ الأجرةُ بالعقد، بل بتعجيلها، أو بشرطِه، أو باستيفاءِ النَّفعِ أو التَّمكُّنِ منه، فتجبُ لدارٍ قبضتْ ولم يسكنْها، وتسقطُ بالغصبِ بقدرِ فوتِ تمكُّنِه. وللمؤجِّرِ طلبُ الأجرةِ للدَّارِ والأرضِ لكلِّ يوم، وللدَّابَّةِ لكلِّ مرحلة، وللقصارةِ والخياطةِ إذا تمَّت وإن عملَ في بيتِ المستأجر
معلومٍ على دابَّةٍ مسافةً علمت، وبالإشارةِ كنقلِ هذا إلى ثمَّة.
[باب الأجر متى يستحق]
ولا تجبُ الأجرةُ بالعقد)، خلافاً للشَّافعي
(1)
رضي الله عنه، فإنَّ الأجرةَ عنده تجبُ بنفسِ العقد، (بل بتعجيلها)، فإنَّ المستأجرَ إذا عجَّلَ الأجرة، فالمُعَجَّلُ هو الأجرةُ الواجبة، بمعنى أنَّه لا يكونُ له حقُّ الاسترداد، (أو بشرطِه)، فإنَّهُ إذا شرطَ تعجيلَ الأجرةِ تجبُ معجَّلَة، (أو باستيفاءِ النَّفعِ أو التَّمكُّنِ منه، فتجبُ لدارٍ قبضتْ ولم يسكنْها، وتسقطُ بالغصبِ بقدرِ فوتِ تمكُّنِه
(2)
.
وللمؤجِّرِ طلبُ الأجرةِ للدَّارِ والأرضِ لكلِّ يوم، وللدَّابَّةِ لكلِّ مرحلة، وللقصارةِ والخياطةِ إذا تمَّت وإن عملَ في بيتِ المستأجر)، إنَّما قال هذا؛ لأنَّ الخيَّاطَ إذا عملَ في بيتِ المستأجرِ فخاطَ بعضَ الثَّوب ثمَّ سُرِقَ الثَّوبُ فلهُ الأجرةُ بقدرِ ما خاطَه، فهذا دليلٌ على أنَّ الأجرةَ تجبُ بقدرِ العمل، لكن نقول: بفعلِ السَّرقةِ انتهى عملُهُ على البعضِ وهو معلومٌ بالنِّسبةِ إلى الكلِّ فيجبُ أجر ما عملَ بخلافِ ما إذا لم ينتِهِ العملُ على البعض، فإنَّهُ لا يمكنُ أن يطلبَ الأجرةَ بكلِّ عملٍ قليل، ولا تقديرَ للأبعاضِ فيتوقَّفُ الطَّلبُ على كلِّ العمل.
(1)
ينظر: «النكت» (ص 537)، وغيرها.
(2)
يعني إذا غصب الدار المستأجرة غاصبٌ من يد المستأجر في جميع المدة سقطت الأجر وإن غصب في بعضها سقطت بقدر ذلك، ومراده من الغثب هاهنا الحيلولة بين المستأجر والعين لا حقيقته إذ الغصب لا يجري في العقار عندنا. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 371).
وللخبزِ بعد إخراجه من التَّنور، فإن احترقَ بعدما أخرجَهُ فله الأجرة وقبلَهُ لا، ولا غرمَ فيهما، وللطَّبخِ بعدَ الغرف ولضربِ اللَّبِنِ بعدَ إقامتِه، ومَن لعملِهِ أثرٌ في العين، كصبَّاغٍ وقصَّارِ يقصرُ بالنَّشا والبيض له حبسُها للأجر، فإن حبسَ فضاعَ فلا غرمَ ولا أجر، ومَن لا أثرَ لعملِه: كالحمَّالِ والملاَّحِ وغاسلِ الثَّوب لا حبسَ له، بخلافِ رادِّ الآبق
(وللخبزِ بعد إخراجه من التَّنور، فإن احترقَ بعدما أخرجَهُ فله الأجرة
(1)
وقبلَهُ لا، ولا غرمَ فيهما)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، لأنَّهُ أمانةٌ عنده، وعندهما يضمنُ مثل دقيقِهِ ولا أجر، وإن شاءَ ضمَّنَهُ الخبز، وأعطاهُ الأجرة.
(وللطَّبخِ بعدَ الغرف ولضربِ اللَّبِنِ بعدَ إقامتِه)، هذا عندَ أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وقالا
(2)
: لا يستحقُّ حتى يشرجَهُ
(3)
؛ لأنَّ التَّشريجَ من تمامِ العمل، وعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه هو زائدٌ كالنَّقل.
(ومَن لعملِهِ أثرٌ في العين): أي شيءٌ من ماله قائمٌ بتلكَ العين، كالصَّبغِ مثلاً، (كصبَّاغٍ وقصَّارِ يقصرُ بالنَّشا والبيض
(4)
له حبسُها للأجر، فإن حبسَ فضاعَ فلا غرمَ ولا أجر)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: العينُ كانت مضمونةً قبلَ الحبس، فكذا بعده، ثمَّ هو بالخيارِ عندهما، إن شاءَ ضمَّنَهُ قيمتَه غيرَ معمول، ولا أجرَ له
(5)
، وإن شاءَ ضمَّنَهُ معمولاً وله الأجر.
(ومَن لا أثرَ لعملِه): أي ليسَ شيءٌّ من مالِهِ قائماً بتلكَ العين، (كالحمَّالِ والملاَّحِ
(6)
وغاسلِ الثَّوب
(7)
لا حبسَ له، بخلافِ رادِّ الآبق)، فإنَّ الآبقَ كان علىَ
(1)
هذا إذا كان يخبزُ في بيت المستأجر؛ لأنّه صار مسلماً إليه بمجرّد الإخراجِ فيستحقُّ الأجر، وإن كان في منْزل الخبّاز لم يكن مسلماً إليه بمجرَّد الإخراجِ من التنور. ينظر:«التبيين» (5: 110).
(2)
قال ابن كمال باشا في «الإيضاح» (ق 133/ب): وبقولهما يفتى معزياً للـ «عيون» ، وأقرّه صاحب «الدر المختار» (5: 11).
(3)
أي ينضدها بضم بعضها إلى بعض. ينظر: «البناية» (7: 891).
(4)
قيد بهما لكون لعمله أثر، واحترز به عن غاسل الثوب. ينظر:«درر الحكام» (2: 227).
(5)
زيادة من أ.
(6)
الملاَّح: صاحب السفينة. ينظر: «مختار» (ص 633).
(7)
أي لتطهيره لا لتحسينه. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 374).
ولمن أُطلقَ له العملُ أن يستعملَ غيرَه، فإن قيَّدَ بيدِه فلا، ولأجيرٍ المجيءُ بعيالهِ إن ماتَ بعضُهم، وجاءَ بمَن بقيَ أجرةً بحسابه، وحاملُ قطٍّ أو زادٍ إلى زيدٍ بأجرٍ إن ردَّهُ لموتِهِ لا شيءَ له.
[باب ما يجوز من الإجارة وما لا يجوز]
وصحَّ استئجارُ دارٍ أو دُكَّانٍ بلا ذكرِ ما يعملُ فيه، وله كلُّ عملٍ سوى موهنِ البناء كالقِصارة. ولو استأجرَ أرضاً لبناءٍ أو غرسٍ صحّ، فإذا انقضتِ المدَّةُ سلَّمَها فارغة، إلا أن يغرمَ المؤجِّرُ قيمتَهُ مقلوعاً، ويتملَّكَهُ بلا رضا المستأجر إن نقصَ القلعُ الأرض، وإلا فبرضاه، أو يرضى بتركِه، فيكونُ البناءُ والغرسُ لهذا، والأرضُ لهذا
شرفِ الهلاك، فكأنَّهُ أحياه، وباعَ منه بالجعل، وعند زفرَ رضي الله عنه ليسَ له حقُّ الحبسِ سواءٌ كان
(1)
لعملِهِ أثرٌ في العينِ أو لا.
(ولمن أُطلقَ له العملُ أن يستعملَ غيرَه، فإن قيَّدَ بيدِه فلا)، كما إذا أمرَهُ أن يخيطَهُ بيدِه.
(ولأجيرٍ المجيءُ بعيالهِ إن ماتَ بعضُهم، وجاءَ بمَن بقيَ أجرةً بحسابه
(2)
، وحاملُ قطٍّ أو زادٍ إلى زيدٍ بأجرٍ إن ردَّهُ لموتِهِ لا شيءَ له)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وأبي يوسفَ رضي الله عنه، وعند محمَّدٍ له أجرُ الذَّهابِ في القطِّ: أي الكتاب، وفي الزَّاد لا شيءَ له اتِّفاقاً حيثُ نقضَ عملُهُ بالرَّدّ.
[باب ما يجوز من الإجارة وما لا يجوز]
(وصحَّ استئجارُ دارٍ أو دُكَّانٍ بلا ذكرِ ما يعملُ فيه)، فإنَّ العملَ المتعارفَ فيها السُّكنى، فينصرفُ إليه، (وله كلُّ عملٍ سوى موهنِ البناء كالقِصارة.
ولو استأجرَ أرضاً لبناءٍ أو غرسٍ صحّ، فإذا انقضتِ المدَّةُ سلَّمَها فارغة، إلا أن يغرمَ المؤجِّرُ قيمتَهُ مقلوعاً، ويتملَّكَهُ بلا رضا المستأجر إن نقصَ القلعُ الأرض، وإلا فبرضاه، أو يرضى بتركِه، فيكونُ البناءُ والغرسُ لهذا، والأرضُ لهذا)، قولُه:
(1)
زيادة من أ و ب و م.
(2)
يعني مَن استأجر رجلاً ليذهب إلى الأجرة مثلاً فيجيء بعياله، فوجد بعضهم ميِّتاً، فأتى بمَن بقي من العيالِ فللأجير أجره بحسابه؛ لأنّه أوفى بعض المعقود عليه، فيستحقُّ العوض بقدر ما أوفى، وبطل بقدر ما لم يوفِ. ينظر:«الرمز» (2: 193).
والرَّطبةُ كالشَّجر، وضَمِنَ بإرداف رجلٍ معه وقد ذكرَ ركوبَه نصفَ قيمتها بلا اعتبارِ الثِّقل، وبالزِّيادةِ على حِمْلٍ ذكرَ ما زادَ الثِّقلُ إن أطاقَ حملَه، وإلاَّ كلَّ قيمتها: كعطبها بضربه وكبحِه اللِّجام
ويتملَّكَهُ بالنَّصب عطفٌ على أن يغرم. وإلاَّ: أي وإن لم ينقص القلعُ الأرض. قوله: أو يرضى عطفٌ على يغرم.
فالحاصلُ أنَّهُ يجبُ على المستأجرِ أن يسلِّمها فارغةً إلا أن يوجدُ أحدُ الأمرين:
الأول: أن يعطيَ المؤجِّرُ قيمةَ البناءِ أو الغرسِ مقلوعاً ويتملَّكه، وهذا الإعطاءُ والتَّملُّكَ يكونُ جبراً على تقديرِ أن ينقصَ القلعُ الأرض، ويكونُ برضاءِ المستأجرِ على تقديرِ أن لا ينقصَ القلعُ الأرض.
والأمرُ الثَّاني: أن يرضى المؤجِّرُ بتركِ البناءِ أو الغرسِ في أرضِه. هذا الذي ذكرَه في وجوبِ القلعِ وعدمِ وجوبِه، وفهمَ منهُ ولايةُ القلعِ للمستأجرِ وعدمِها؛ فإنَّهُ قد ذكرَ أنَّه إن نقصَ القلعُ الأرضَ يتملُّكه بلا رضا المستأجر، فحينئذٍ لا يكونُ للمستأجرِ القلع، وفي غيرِ هذه الصُّورةِ يكون.
(والرَّطبةُ
(1)
كالشَّجر
…
(2)
)، فإنَّ لها بقاءً في الأرضِ بخلافِ الزَّرع، فإنّه فإذا انقضتِ المدَّةُ لا يجبرُ على القلعِ قبل أوانِ الحصاد.
(وضَمِنَ بإرداف رجلٍ معه وقد ذكرَ ركوبَه): أي ركوبُ المستأجرِ من غيرِ ذكرِ الرَّديف، (نصفَ قيمتها بلا اعتبارِ الثِّقل)، فإنَّ الخفيفَ الجاهلَ بالفروسيَّة قد يكونُ أضرَّ من الثَّقيلِ العالمِ بها.
(وبالزِّيادةِ على حِمْلٍ ذكرَ ما زادَ الثِّقلُ إن أطاقَ حملَه، وإلاَّ كلَّ قيمتها): أي ضمنَ بالزِّيادةِ على حملٍ ذكرَ ما زاد إن كان الحملُ بحيثُ تطيقُهُ هذه الدَّابَّة، وإن لم يكن الحملُ كذلكَ يضمنُ كلَّ قيمتِها، (كعطبها بضربه وكبحِه اللِّجام
(3)
)، العطبُ: الهلاك، وكبحُ اللَّجامِ: جذبُهُ إلى نفسِهِ عنفاً، يعني ضمنَ بهلاكِ الدَّابَّةِ بسبب الضَّربِ
(1)
المراد بالرطبة ما يبقى يبقى أصله في الأرض أبداً، وإنما يقطف ورقه ويباع أو زهره، فلو له نهاية كفجل وجزر فزرع. ينظر:«الدر المنتقى» (2: 377).
(2)
في ف و ق زيادة: فلو شرطَ سُكنى واحد، له أن يُسْكِنَ غيرَه، وإن سمَّى نوعاً، وقَدْرَ حملِ الدَّابَّةِ نحوَ كُرٍّ بُرّ، فلهُ حملُ مثلِهِ ضرراً، أو أقلَّ كالشَّعيرِ لا آخرَ كالملح.
(3)
زيادة من ف.
وجوازِهِ بها عمَّا استؤجرت إليه، ولو ذاهباً وجائياً، وردِّها إليه، ونزعِ سرجِ حمارٍ مكترى، وإيكافِهِ مطلقاً، وإسراجِهِ بما لا يسرجُ بمثلِهِ دونَ ما يسرجُ بمثلِه
أو كبحِ اللَّجامِ كلَّ قيمتها عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما لا، إلاَّ أن يكونَ ضرباً أو كبحاً غيرَ متعارف.
(وجوازِهِ بها عمَّا استؤجرت إليه، ولو ذاهباً وجائياً، وردِّها إليه)، قولُه: وردِّها إليه بالجرِّ عطفٌ على جوازِها: أي يضمنُ بجوازِ الدَّابَّةِ عن موضعٍ استؤجرتْ إليه، ثمَّ ردّها إلى ذلك الموضع، وإن كان الاستئجارُ ذاهباً وجائياً؛ وإنَّما قال هذا نفياً لما قيلَ إنَّه إنَّما يضمنُ إذا استأجرها ذاهباً فقط؛ لأنَّ الإجارةَ قد انتهت بالوصولِ إلى ذلكَ الموضع، فيضمنُ بالجوازِ عنه، أمَّا إذا أستأجرها ذاهباً وجائياً فجاوز عن ذلك الموضع، ثمَّ ردَّها إليه لا يضمنُ كالمودعِ إذا خالفَ ثمَّ عاد إلى الوفاق
(1)
، لكنَّ الصَّحيحَ الضَّمان.
أقول: إن هلكتِ الدَّابَّةُ في ذلك الموضعِ بسببٍ يتيقَّنُ بأنَّه لا مدخل لجوازها عن ذلكَ الموضعِ في تحقُّقَ ذلكَ السَّببِ يفتى بعدمِ الضَّمان، وإن هلكتْ بسبب لا يتيقَّنُ بذلك، بل يمكنُ أن يكونَ له مدخلٌ يفتى بالضَّمان.
(ونزعِ سرجِ حمارٍ مكترى، وإيكافِهِ
(2)
مطلقاً، وإسراجِهِ بما لا يسرجُ بمثلِهِ دونَ ما يسرجُ بمثلِه): أي إن اكترى حماراً مسرجاً فَنَزَعَ السَّرج، وأوكفَهُ وحملَ عليهِ فهلك ضمنَ سواءٌ كان الإيكافُ ممَّا يوكفُ هذا الحمارُ بمثلِهِ أو لا، وإن نزعَ السَّرجَ وأسرجَهُ بسرجٍ آخر، فإن كان هذا السَّرجُ ممَّا لا يسرجُ هذا الحمارُ بمثلِهِ يضمن، وإن كان يسرجُ بمثلِهِ لا يضمنُ إلاَّ إذا كان في الوزنِ زائداً على الأوَّل فيضمنُ بحسابِه، وهذا عندَ أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما: إن أوكفَهُ بإيكافٍ يؤكفُ بمثلِهِ لا يضمنُ إلاَّ إذا كان زائداً في الوزنِ على السَّرجِ الذي نزعَهُ فيضمنُ بقدرِ الزَّيادة
(3)
.
(1)
والفرقُ أنَّ المودعَ مأمورٌ بالحفظِ مقصوداً، فبقيَ الأمرُ بالحفظِ بعد العودِ إلى الوفاق، فحصل الردُّ إلى يد نائبِ المالك، وفي الإجارة والعارية يصيرُ الحفظُ مأموراً به، تبعاً للاستعمال لا مقصوداً، فإذا انقطعَ الاستعمالُ لم يبقَ هو نائباً، فلا يبرأ بالعود. ينظر:«الهداية» (3: 237).
(2)
الإيكاف والأكاف من الراكب شبه الرِّحال والأقتاب. ينظر: «اللسان» (1: 100).
(3)
ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنَّ الجنسَ مختلفٌ معنىً وصورة، أمّا معنىً فلأنَّ الإكافَ إنّما وضع للحمل، والسرجُ إنمّا وضع للركوب، وأمّا صورةً؛ فلأنّ الإكاف ينبسطُ على ظهر الدابّة ما لا ينبسط عليه الآخر، فصار كما إذا حملَ الحديد، وقد شرط له الحنطة، فيضمنُ بوجودِ المخالفة صورةً ومعنى، فكذا هذا. ينظر:«الزبدة» (3: 319).
وسلوكِ الحمّالِ طريقاً غيرَ ما عيَّنَهُ المالك وتفاوتا أو لا يسلكُهُ النَّاسُ، وحملُهُ في البحر، ولهُ الأجرُ إن بلغ، (ومَن استأجرَ أرضاً لزرعِ برٍّ فزرعَ رَطبةً، ضَمِنَ ما نقصتْ بلا أجر، ومَن دفعَ ثوباً ليخيطَهُ قميصاً، فخاطَهُ قباءً ضمَّنَهُ قيمةَ ثوبِه، أو أخذَ القباءَ بأجرِ مثلِه، ولم يزدْ على ما سمِّي.
باب الإجارة الفاسدة
الشَّرطُ يفسدها، وفيها أجرُ المثلِ لا يزادُ على المسمَّى
(وسلوكِ الحمّالِ طريقاً غيرَ ما عيَّنَهُ المالك وتفاوتا أو لا يسلكُهُ النَّاسُ، وحملُهُ في البحر، ولهُ الأجرُ إن بلغ): أي للحمَّالِ الأجرُ في جميعِ ما ذكرَ إن بلغَ المَنْزلَ لحصولِ المقصود.
(ومَن استأجرَ أرضاً لزرعِ برٍّ فزرعَ رَطبةً، ضَمِنَ ما نقصتْ
(1)
بلا أجر)؛ لأنَّهُ صارَ غاصباً، وحكمُ الغصبِ هذا.
(ومَن دفعَ ثوباً ليخيطَهُ قميصاً، فخاطَهُ قباءً
(2)
ضمَّنَهُ قيمةَ ثوبِه، أو أخذَ القباءَ بأجرِ مثلِه، ولم يزدْ على ما سمِّي)؛ لأنَّهُ لا يزادُ على المسمَّى عندنا في الإجارةِ الفاسدة.
باب الإجارة الفاسدة
(الشَّرطُ يفسدها)، والمرادُ شرطٌ يفسدُ البيع، (وفيها أجرُ المثلِ لا يزادُ على المسمَّى)
(3)
، هذا عندنا، وعند زُفر رضي الله عنه والشَّافعيِّ
(4)
رضي الله عنه يجبُ بالغاً ما بلغ، كما في البيعِ
(1)
ولكن إن زرعَ فيها ما هو أقلُّ ضرراً من البرّ لا يجب عليه الضمان، ويجب عليه الأجر؛ لأنّه خلاف إلى خير فلا يصير به غاصباً. ينظر:«الرمز» (2: 196).
(2)
القَباء: ثوبٌ يلبس فوق الثياب ويتمنطق عليه: أي يوضع له نطاق: أي حزام. ينظر: «معجم الفقهاء» (ص 355).
(3)
يعني إنَّ الواجبَ في الإجارةِ الفاسدةِ هو أجرُ المثل لا يجاوزُ به المسمّى، وهذا إذا لم يكن الفسادُ لجهالةِ المسمّى أو لعدمِ التسمية، فإن كان لجهالةِ المسمَّى أو لعدمِ التسمية يجبُ أجرُ مثلِهِ بالغاً ما بلغ، وكذا إذا كان بعضُه معلوماً وبعضُه غيرَ معلوم، مثل أن يستأجرَ الدّار على أجرةٍ معلومةٍ بشرط أن يرمّمها، وقالوا: إذا استأجر داراً على أن لا يسكنها المستأجر فسدت الإجارة، ويجب عليه إن سكنَها أجرُ المثلِ بالغاً ما بلغ. ينظر:«الرمز» (2: 197).
(4)
ينظر: «النكت» (ص 566)، وغيرها.
وصحَّ إجارةُ دارٍ كلَّ شهرٍ بكذا في واحدٍ فقط، وفي كلِّ شهرٍ سكنَ ساعةً في أوَّلِه، وفي كلِّ شهر إن عُلِمَ مدَّتُه، وإجارتُها سنةً بكذا وإن لم يسمِّ قسطَ كلِّ شهر، وأوَّلُ المدَّةِ ما سمَّي، وإلا فوقتَ العقد، فإن كان حين يهلُّ اعتبرَ الأهلَّة، وإلا فالأيّام كالعدَّة
الفاسدِ تجبُ قيمةُ العينِ بالغةً ما بلغت، ولنا: أنّ المنافعَ غيرُ متقوَّمةٍ بنفسها بل بالعقد، وقد أسقطا الزِّيادة فيه.
(وصحَّ إجارةُ دارٍ كلَّ شهرٍ بكذا في واحدٍ فقط، وفي كلِّ شهرٍ سكنَ ساعةً في أوَّلِه)، هذا عند بعضِ المشايخ رضي الله عنهم، فإنَّهُ حينَ يهلُّ الهلالُ يكونُ لكلِّ واحدٍ حقُّ الفسخ، فإذا مضى أدنى زمانٍ لزمَ العقدُ في هذا الشَّهر، وفي ظاهرِ الرِّوايةِ لكلٍّ منهما حقُّ الفسخِ في اللَّيلةِ الأولى مع اليومِ الأوَّلِ من الشَّهرِ إذ في اعتبارِ أنَّ رؤيةَ الهلالِ حرج
(1)
، (وفي كلِّ (شهر إن)
(2)
عُلِمَ مدَّتُه)، بأن قيل: آجرتُ ستَّةَ أشهرٍ كلَّ شهرٍ بكذا.
(وإجارتُها سنةً بكذا وإن لم يسمِّ قسطَ كلِّ شهر، وأوَّلُ المدَّةِ ما سمَّي، وإلا فوقتَ العقد، فإن كان حين يهلُّ اعتبرَ الأهلَّة، وإلا فالأيّام كالعدَّة): أي إن كان عقدُ الإجارةِ عند الإهلالِ تعتبرُ الأهلَّة، وإن كان في أثناءِ الشَّهرِ فعندَ أبي حنيفةَ رضي الله عنه يعتبرُ الكلَّ بالأيّام، كلُّ شهرٍ ثلاثون، وعندهما يعتبرُ الأوَّلُ بالأيامِ والباقي بالأهلَّة، فإن أجَّرَ في عاشرِ ذي الحجَّةِ سنةً، فعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه يقعُ على ثلاثمئة وستِّين يوماً
(3)
.
وعندهما الشَّهرُ الأوَّلُ يعتبرُ بالأيّام، وهو ثلاثونَ يوماً، فذو الحجَّةِ إن تمَّ على ثلاثينَ يوماً فالسَّنةُ تتمُّ على عاشرِ ذي الحجّة، وإن تمَّ على تسعةٍ وعشرين، فالسَّنةُ تتمُّ على حاديَ عشر من ذي الحجَّة، فالحقُّ أن تتمَّ السَّنةُ على عاشرِ ذي الحجّةِ على كلِّ حال إذ لو تمَّ على الحادي عشرَ لدخلَ العاشرُ في تمامِ السَّنةِ، فلزمَ تكرار عيدُ الأضحى في سنة واحدة، أحدهما في أوَّلِ المدَّة، والثَّاني في آخرها وهل سمعتَ أنَّ عيدَ الأضحى يتكرَّرُ في سنةٍ واحدة.
(1)
وبه يفتى. كما في «تبيين الحقائق» (5: 123)، و «مجمع الأنهر» (2: 382)، و «الدر المنتقى» (2: 382)، وغيرها.
(2)
زيادة من أ.
(3)
وتسمَّى شمساً عددياً، ورأي الإمام هو المختار. ينظر:«جامع الرموز» (2: 73)، و «الدر المنتقى» (2: 383).
وإجارةُ الحمَّامِ والحجَّامِ والظئرِ بأجرٍ معيَّنٍ وبطعامِها وكسوتِها، وللزوجِ وطؤها إلاَّ في بيتِ المستأجر، وله في نكاحٍ ظاهرٍ فسخُها إن لم يأذنْ لها فإن أقرَّت بنكاحه لا، ولأهلِ الصَّبيِّ فسخُها إن مرضَتْ، أو حَبِلَتْ، وعليها غسلُ الصَّبيّ، وغسلُ ثيابِه، وإصلاحُ طعامِه ودهنُه، لا ثمنُ شيءٍ منها، وهو وأجرُه واجبٌ على أبيه، فإن أرضعته بلبنِ شاة، أو غذَّته بطعام، ومضَتْ المدَّة فلا أجرَ لها. ولم تصحَّ للأذان، والإمامة، والحجّ، وتعليمِ القرآن، والفقه، والغناء، والنَّوح
(وإجارةُ الحمَّامِ والحجَّامِ والظئرِ بأجرٍ معيَّنٍ وبطعامِها وكسوتِها)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما لا يجوزُ للجهالة، وهو القياس، وله: أنَّ الجهالةَ لا تفضى إلى المنازعة؛ لأنَّ العادةَ التَّوسعةَ على الأظئار شفقةً على الأولاد
(1)
، وهو الاستحسان، (وللزوجِ وطؤها إلاَّ في بيتِ المستأجر)، فأنَّ البيتَ ملكَه فيمنعُه فيه، (وله في نكاحٍ ظاهرٍ فسخُها إن لم يأذنْ لها فإن أقرَّت بنكاحه لا): أي إن كان النِّكاحُ ظاهراً بين النَّاس، أو يكونُ عليه شهود، فللزَّوج فسخُ الإجارةِ صيانةً لحقِّه، أمَّا إن عَلِمَ النِّكاحَ بإقرارِها لا، (ولأهلِ الصَّبيِّ فسخُها إن مرضَتْ، أو حَبِلَتْ)؛ لأنَّ لبنَها يضرُّ بالولد.
(وعليها غسلُ الصَّبيّ، وغسلُ
(2)
ثيابِه، وإصلاحُ طعامِه ودهنُه، لا ثمنُ شيءٍ منها، وهو وأجرُه واجبٌ
(3)
على أبيه
(4)
، فإن أرضعته بلبنِ شاة، أو غذَّته بطعام، ومضَتْ المدَّة فلا أجرَ لها
(5)
.
ولم تصحَّ للأذان، والإمامة، والحجّ، وتعليمِ القرآن، والفقه، والغناء، والنَّوح،
(1)
أي لأن الجهالةَ لا تفسدُ العقد لذاتها، بل لأنّها تفضي إلى المنازعة، وهذه الجهالة لا تفضي إليها؛ لأنَّ العادةَ التوسعةُ على الأظائرِ شفقةً على الأولاد، فيعطيها ما طلبت، ويوافقها على مرادها، بخلافِ الخبز والطبخ فإنَّ الجهالةَ فيهما تفضي إلى المنازعة. ينظر:«كمال الدراية» (ق 460 - 461).
(2)
غسل: زيادة من أ.
(3)
زيادة من أ و ب و م.
(4)
الأصلُ أنّ الإجارة إذا وقعت على عملٍ فكلُّ ما كان من توابع ذلك العمل، ولم يشترط ذلك على الأجيرِ في الإجارة، فيرجع فيه إلى العرف، ولمّا كانت خدمةُ الصبيِّ واجبةً عليها، وكلُّ ما ذكرَ من الغسلِ وإصلاحُ الطعامِ ونحوهما كان منه عرفاً، فيجب عليها قطعاً. ينظر:«كمال الدراية» (ق 461).
(5)
زيادة من أ.
والملاهي، وعسب التيس، ويُفْتَى اليوم بصحَّتِها؛ لتعليم القرآن، والفقه، ويجبرُ المستأجِرُ على دفعِ ما قَبِل، ويحبس به، وعلى الحَلْوَةِ المرسومة، ولا إجارةُ المشاعِ الإ من الشَّريك، ولو دفعَ إلى آخرَ غزلاً لينسجَهُ بنصفِه، أو استأجرَ حماراً يحملُ عليه زاداً ببعضِه، أو ثوراً ليطحنَ بُرَّاً له ببعضِ دقيقِه
والملاهي، وعسب
(1)
التيس، ويُفْتَى اليوم بصحَّتِها؛ لتعليم القرآن، والفقه)، والأصل عندنا: أنّه لا يجوزُ الإجارةِ على الطَّاعات والمعاصي، لكن لَمَّا وقعَ الفتورُ في الأمورِ الدِّينية يُفْتَى بصحَّتِها لتعليم القرآن
(2)
والفقه تحرُّزاً عن الاندراس
(3)
.
(ويجبرُ المستأجِرُ على دفعِ ما قَبِل، ويحبس به، وعلى الحَلْوَةِ المرسومة)، الحَلوةِ بفتحِ الحاء الغيرِ المعجمة، هديةٌ يهدى إلى المعلمين على رؤوسِ بعضِ سورِ القرآن، سمَّيتْ بها؛ لأنَّ العادةَ إهداءُ الحلاوى، وهي لغةٌ يستعملها أهلُ ما وراءَ النَّهر.
(ولا إجارةُ المشاعِ الإ من الشَّريك)، هذا عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وقالا: تصحُّ إجارةُ المشاعِ من الشَّريكِ ومن
(4)
غيره.
(ولو دفعَ إلى آخرَ غزلاً لينسجَهُ بنصفِه، أو استأجرَ حماراً يحملُ عليه زاداً ببعضِه، أو ثوراً ليطحنَ بُرَّاً له ببعضِ دقيقِه) هذا يسمَّى قفيزَ الطَّحان، وقد نهى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
عسبَ الفحلُ الناقةَ عسباً: طرقها؛ وسبب النهي أنَّ ثمرتَه المقصودة غير معلومة، فإنّه قد يلقّح وقد لا يلقّح فهو غرر. ينظر:«المصباح المنير» (2: 625).
(2)
فبعض المشايخ استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لظهور التواني في الأمور الدينية، ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن، وعليه الفتوى. وتمامه في «استحسان الاستئجار على تعليم القرآن» (ص 227). وقالو: إنما كره تعليم القرآن بالأجر في الصدر الأول؛ لأن حملة القرآن كانوا قليلاً، فكان التعليم واجباً، حتى لا يذهب القرآن، فأما في زماننا كثر حلمة القرآن، ولم يبق التعليم واجباً فجاز الاستئجار عليه. ينظر:«المحيط» (ص 151).
(3)
اقتصرَ صاحب «الهداية» (3: 240) على استثناءِ تعليمِ القرآن، وزادَ بعضهم الإمامة والأذان، وبعضهم الإقامة والوعظ والتدريس، وقد اتَّفقت كلمتهم على التعليم للضرورة، وعلى التصريحِ بأصلِ المذهب، وهو عدمُ الجواز، فهذا دليلٌ على أنَّ المفتى به ليس هو جواز الاستئجار على كلِّ طاعة، بل على ما ذكروه فقط ممّا فيه ضرورةٌ ظاهرةٌ تبيح الخروج عن أصل المذهب من طرقِ المنع. ينظر:«رد المحتار» (5: 34 - 35).
(4)
من: زيادة من أ.
أو رجلاً ليخبزَ له كذا اليوم بكذا، أو أرضاً بشرطِ أن يثنِّيها
عنه
(1)
؛ لأنَّهُ جعلَ الأجرَ بعضَ ما يخرجُ من عملِه، والصُّورتانِ الأوَّليان في معنى قفيزِ الطَّحان.
(أو رجلاً ليخبزَ له كذا اليوم بكذا): أي استأجرَ رجلاً ليخبزَ لهُ عشرةَ أمناء اليوم بدرهم، فإنَّ هذا فاسدٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، وعندهما يصحّ، والمعقودُ عليه العمل، وذِكْرُ الوقتَ للتَّعجيل. له: أنّه جَمَعَ بينَ العملِ والوقت، والأوَّلُ:(أي العمل)
(2)
يوجبُ كونَ العملِ معقوداً عليه، وفيه نفعٌ للمستأجر، والثَّاني:(أي الوقت)
(3)
يوجبُ كونَ تسليمِ النَّفسِ في هذا اليومِ معقوداً عليه وفيه نفعُ الأجير، فيفضي إلى المنازعة
(4)
، ولو كان المعقودُ عليه كليهما: أي يعملُ هذا العملَ مستغرقاً؛ لهذا اليوم فذلكَ ممَّا لا قدرةَ عليه لأحدٍ عادة، حتى لو قال: ليخبزَ لهُ عشرةَ أمناءٍ في اليوم، فعن أبي حنيفةَ رضي الله عنه أنَّه يصحّ، لأنَّ كلمةَ: في؛ لا تقتضي الإستغراق.
(أو أرضاً بشرطِ أن يثنِّيها): أي يكربها مرَّتين، فإن كان المرادُ أن يردَّها مكروبةً فلا شكَّ في فساده، فإنَّه شرطٌ لا يقتضيهِ العقد، وفيه نفعٌ لأحدِ العاقدين، وهو المؤجِّر، وإن لم يكنْ المرادُ هذا فإن كانت الأرضُ لا يخرج الرَّيْع
(5)
إلا بالكرابِ مرَّتين لا يفسدُ العقد، لأنَّ الشَّرطَ ممَّا يقتضيهِ العقد، وإن كانتْ تخرجُ الرَّيْع
(6)
بدونِه، فإن كان أثرُهُ يبقى بعد انتهاءِ العقدِ يفسد إذ فيه منفعةُ ربِّ الأرض، وإن كانَ أثرُهُ لا يبقى، لا يفسد.
(1)
من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم في «سنن البيهقي 5» (: 339)، و «سنن الدراقطني» (3: 47)، وقال ابن حجر في «الدراية» (2: 190): في إسناده ضعف، وقال البيهقي: له طرق يقوي بعضها بعضاً.
(2)
زيادة من أ.
(3)
زيادة من أ.
(4)
وذلك بأن يقول المستأجِر إذا فرغ الأجير من العمل في أثناء النهار منافعك في بقية المدة حقِّي باعتبار تسمية الوقت، وأنا أستعملك. ويقول الأجير إذا لم يفرغ من العمل عند مضي اليوم قد انتهى العقد بانتهاء المدة، والجهالة المفضية إلى المنازعة مفسدة، وروي عن أبي حنيفة أنه إذا قال: في اليوم؛ تصح الإجارة؛ لأن في للظرف لا للمدة، فكان المعقود عليه العمل، بخلاف اليوم فإنه للمدة. ينظر:«فتح باب العناية» (2: 438).
(5)
الرَّيع: النماء والزيادة. ينظر: «مختار» (ص 226).
(6)
زيادة من أ.
أو يكرى أنهارها، أو يُسَرْقِنَها، أو يزرعها، بزراعةِ أرضٍ أخرى فسدت، بخلافِ استئجارها على أن يكربَها ويزرعَها، أو يسقيها ويزرعَها، فإن لم يذكرْ زراعتها، أو ما يزرعُ فيها لم يصحّ إن لم يعمّه، فإن زرعَها ومضى الأجلُ عاد صحيحاً، ومَن استأجر جملاً إلى مِصْر، ولم يسمِّ حملَه، وحملَ المعتادَ فنفقَ لم يضمن
(أو يكرى أنهارها)، ذكرَ أنَّ المرادَ الأنهارُ العظام
(1)
، فإنَّ منفعةَ كريها تبقى بعدَ انقضاءِ العقدِ بخلافِ الجداول، (أو يُسَرْقِنَها)، فإنَّ منفعتَهُ تبقى بعد انقضاءِ العقد.
(أو يزرعها، بزراعةِ أرضٍ أخرى فسدت): أي استأجرَ أرضاً ليزرعَها، ويكون الأجرةُ أن يزرعَ المؤجِّرُ أرضاً أخرى هي للمستأجر، لا يجوزُ عندنا، وعند الشَّافعيِّ
(2)
رضي الله عنه يجوز، لأنَّ المنافعَ بمَنْزلةِ الأعيانِ عنده، ولنا: أنّ الجنسَ بانفرادِهِ يحرِّمُ النَّسَاء عندنا، كبيعٍ ثوبٍ هرويٍّ بمثلِه، وأحدهما نسيئة. وقوله: فسدتْ جوابُ الشَّرطِ، وهو قوله: ولو دفع
…
إلى آخرِه.
(بخلافِ استئجارها على أن يكربَها ويزرعَها، أو يسقيها
(3)
ويزرعَها)، فإنّه يصحُّ؛ لأنَّ هذا شرطٌ يقتضيه العقد، (فإن لم يذكرْ زراعتها، أو ما يزرعُ فيها لم يصحّ
(4)
إن لم يعمّه)، بأن قال: ازرعْ فيها ما شئت، وهذا بخلافِ الدَّار، فإن استئجارَها يقع على السُّكنى على ما مرّ.
(فإن زرعَها ومضى الأجلُ عاد صحيحاً)، وهو إستحسانٌ ووجهه: أنَّ الجهالةَ قد ارتفعت قبلَ تمامِ العقد، وعندَ محمَّد رضي الله عنه لا يعودُ صحيحاً وهو القياس.
(ومَن استأجر جملاً إلى مِصْر، ولم يسمِّ حملَه، وحملَ المعتادَ فنفقَ لم يضمن)؛
(1)
أي أن يحفر الأنهار العظام. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 388).
(2)
ينظر: «النكت» (ص 544)، وغيرها.
(3)
ساقطة من ص و ق، وفي ب و م: ليسقيها.
(4)
لأنّ استئجار الأرض قد يكون للزراعة وقد يكون لغيرها من البناء، ونصب الخيم ونحوها، وكذا ما يزرعُ فيها مختلف فبعضه أقلّ ضرراً بها من بعض، وهذا إذا لم يعمّم المؤجر، أمّا إذا عمّم بأن يقول: على أن تزرعَ ما شئت، فحينئذٍ يصحّ؛ لوجود الإذن منه. ينظر:«حاشية الطحطاوي» (4: 33)
وإن بلغَ فله المسمَّى، فإن خاصما قبلَ الزَّرعِ أو الحملِ نقضَ عقد الإجارة.
باب من الإجارة
[فصل ضمان الأجير]
الأجيرُ المشتركُ يستحقُّ الأجرَ بالعمل، فله أن يعملَ للعامَّة، كالخيّاطِ ونحوه، ولا يضمنُ ما هلكَ في يدِه، وإن شرطَ عليه الضَّمان،
لأنَّ الإجارةَ فاسدة، فالعينُ أمانةٌ كما في الصَّحيحة
(1)
، (وإن بلغَ فله المسمَّى): أي استحساناً، كما ذكرنا في مسألةِ الزِّراعة
(2)
، (فإن خاصما قبلَ الزَّرعِ أو الحملِ نقضَ (عقد الإجارة)
(3)
): أي إن خاصمَ المتعاقدان قبل الزَّرعِ في مسألةِ إجارةِ الأرضِ بلا ذكرِ الزَّرعِ وقبلَ الحملِ في هذه المسألةِ ينقض القاضي العقد. (والله أعلم)
(4)
.
باب من الإجارة
[فصل ضمان الأجير]
(الأجيرُ المشتركُ يستحقُّ الأجرَ بالعمل، فله أن يعملَ للعامَّة)، إنَّما أدخلَ الفاءَ في قوله
(5)
: فلهُ؛ لأنَّ هذا مبنيٌّ على ما سبق؛ لأنَّ الواجبَ عليه أن يعملَ هذا العملَ من غيرِ أن يصيرَ منافعُ الأجيرِ للمستأجر، فسميَّ بهذا: أي بالأجيرِ المشترك.
(كالخيّاطِ ونحوه، ولا يضمنُ ما هلكَ في يدِه، وإن شرطَ عليه الضَّمان
(6)
،
(1)
لأنّ العين أمانةٌ في يد المستأجر، وإن كانت الإجارةُ فاسدة؛ لأنّ الفسادَ معتبرٌ بالصحيح؛ لكونِهِ مشروعاً من وجه؛ لأنّه مشروعٌ بأصله دون وصفه، فلا يضمن ما لم يتعدّ، فإذا تعدّى ضمنَ ولا أجر عليه. ينظر:«الزبدة» (3: 328).
(2)
أي المارّة قبل أسطر.
(3)
زيادة من ب و م، وفي أ: الإجارة.
(4)
زيادة من ق.
(5)
زيادة من ف و م.
(6)
أي إن شرطَ الضمانَ على الأجيرِ المشتركِ في العقد، فإن شرطَ عليه فيما لا يمكن التحرُّزُ عنه لا يجوز بالإجماع؛ لأنّه شرطٌ لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحدهما ففسدت، وإن شرطَ عليه فيما يمكنُ الاحترازُ عنه، فعلى الخلاف، فعندهما يجوز؛ لأنّه يقتضيه العقد عندهما، وعنده يفسد؛ لأنَّ العقدَ لا يقتضيه، فيكون اشتراطه فيه مفسداً. ينظر:«التبيين» (5: 135).
وبه يفتى، بل ما تلفَ بعملِهِ كدقِّ القصَّارِ ونحوِهِ، ولا يضمنُ به آدمياً غَرِق، أو سقطَ من دابّة، ولاحجَّام، أو بزّاغ، أو فصّادٌ لم يجاوزِ
وبه يفتى
(1)
). اعلمْ أنَّ المتاعَ في يده أمانةٌ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه، ولا يضمنُ إلاَّ بالتَّعدِّي كما في الوديعة، وعندهما يضمنُ إلاَّ إذا هلكَ بسببٍ لا يمكنُ الاحترازُ عنه كالموتِ حتفَ أنفه، والحرقُ الغالب، أمَّا إذا سرق، والحالُ أنَّهُ لم يقصِّرْ في المحافظةِ يضمنُ عندهما، كما في الوديعةِ التي تكون بأجر، فإنَّ الحفظَ مستحقٌّ عليه، وأبو حنيفةَ رضي الله عنه يقول: الأجرةُ في مقابلةِ العملِ دون الحفظ، فصارَ كالوديعةِ بلا أجر، أمَّا إن شرطَ الضَّمانَ فعندَ بعضِ المشايخِ رضي الله عنهم: أنّه يضمنُ عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعند بعضهم: أنّه لا يضمن، وفي «المتن» اختارَ هذا؛ لأنَّ شرطَ الضَّمانِ في الوديعةِ باطلٌ، لكن يمكنُ أن يقال: إذا شرطَ الضَّمانَ هنا صارَ كأنَّ الأجرَ في مقابلةِ العمل والحفظِ جميعاً، ففارقَ الوديعةَ التي لا أجرَ فيها.
(بل ما تلفَ بعملِهِ كدقِّ القصَّارِ ونحوِهِ)، كزلقِ الحمَّال، وشدِّ المكارى
(2)
، ومدِّ الملاَّح، هذا عندنا، وعند زفرَ رضي الله عنه، والشَّافعيِّ
(3)
رضي الله عنه لا يضمن؛ لأنَّه يعملُ بإذنِ المالك، ولنا: أنّ المأمورَ به العملُ الصالح، أقول
(4)
: ينبغي أن يكونَ المرادُ بقوله: ما تلفَ بعملِهِ عملاً جاوزَ فيه القدرَ المعتادَ على ما يأتي في الحجَّام، أو عملاً لا يعتادُ فيه المقدار المعلوم.
(ولا يضمنُ به آدمياً غَرِق، أو سقطَ من دابّة): أي آدمياً غَرِقَ بسببِ مدِّ السَّفينة، أو سقطَ من الدَّابةِ بسببِ شدِّ المكارى؛ لأنَّ الآدميَّ غيرُ مضمونٍ بالعقد، بل بالجناية، وضمانُ العقودِ لا يتحمَّلُهُ العاقلة، (ولاحجَّام، أو بزّاغ
(5)
، أو فصّادٌ لم يجاوزِ
(1)
وبه جزم أصحاب المتون مثل: «الملتقى» (ص 163)، و «التنوير» (ص 189)، و «الغرر» (2: 235)، وغيرها، وفي «الدرر» (2: 235)، و «فتح باب العناية» (2: 440): واختار المتأخرون من أصحابنا الصلح على النصف بكل حال، وأفتوا به عملاً بأقوال الصحابة والفقهاء بقدر الإمكان: أي في كل نصف بقول حيث حطّ النصف وأوجب النصف. ينظر: «رد المحتار» (5: 41).
(2)
أي انقطاعُ الحبلِ الذي يشدّ به المكاري الحمل؛ فإنَّ التلف الحاصلَ به حصلَ من تركه التوثيق في شدِّ الحبل وغرق السفينة من مدّ الملاح إيّاها، فلو غرقت من موج أو ريح أو صدم جبل أو نحوه لا تضمن. ينظر:«جامع الرموز» (2: 77).
(3)
ينظر: «النكت» (ص 560)، وغيرها.
(4)
وقع في «رد المحتار» (5: 42) توفيق بين بحث الشارح رضي الله عنه هذا وبين كلام صاحب «الكافي» ، وغيره في هذا المقام.
(5)
بزَّاغ: أي بيطار، هو خاص بالبهائم. ينظر:«رد المحتار» (5: 43).
المعتاد، فإن انكسرَ دَنٌ في طريقِ الفراتِ ضَمِنَ الحمَّالُ قيمتَهُ في مكانٍ حَمْلِه بلا أجر، أو في موضعٍ كُسِرَ مع حصّة أجره، الأجيرُ الخاصُّ يستحقُّ الأجرَ بتسليم نفسِهِ مدَّتَه، وإن لم يعملْ كالأجير للخدمةِ سنة، أو لرعي الغنم، وسمِّي أجيرَ وحد، ولا يضمنُ ما تلفَ في يدِه أو بعملِه.
[فصل الإجارة على أحد الشرطين]
وصحَّ ترديدُ الأجرِ بالتَّرديد في خياطةِ الثَّوبِ فارسيّاً أو روميّاً، وصبغِهِ بعصفر، أو زعفران، وفي إسكان البيتِ عطّاراً، أو حدَّاداً، وفي حمل الدابّة إلى الكوفة، أو واسط، أو في هذه الدار، أو في هذه، وفي حملِ كُرِّ بُرّ، أو شعيرٍ عليها ويجبُ أجرُ ما وَجَد
المعتاد، فإن انكسرَ دَنٌ في طريقِ الفراتِ ضَمِنَ الحمَّالُ قيمتَهُ في مكانٍ حَمْلِه بلا أجر، أو في موضعٍ كُسِرَ مع حصّة أجره)؛ لأنَّه لمَّا وجبَ الضَّمان فله وجهان:
أحدُهما: أن يجعلَ فعلَه تعدِّياً من الإبتداء، فإنّ الحملَ شيءٌ واحد.
أو يجعلَ الأوَّل بإذنِه، ثُمَّ صارَ تعدِّياً عند الكسر فيختارُ أيَّاً شاء.
(الأجيرُ الخاصُّ يستحقُّ الأجرَ بتسليم نفسِهِ مدَّتَه، وإن لم يعملْ
(1)
كالأجير للخدمةِ سنة، أو لرعي الغنم، وسمِّي أجيرَ وحد
(2)
)؛ لأنَّه لا يعملُ لغيرِهِ، (ولا يضمنُ ما تلفَ في يدِه أو بعملِه.
[فصل الإجارة على أحد الشرطين]
وصحَّ ترديدُ الأجرِ بالتَّرديد في خياطةِ الثَّوبِ فارسيّاً أو روميّاً، وصبغِهِ بعصفر، أو زعفران، وفي إسكان البيتِ عطّاراً، أو حدَّاداً، وفي حمل
(3)
الدابّة إلى الكوفة، أو واسط، أو في هذه الدار، أو في هذه، وفي حملِ كُرِّ بُرّ، أو شعيرٍ عليها ويجبُ أجرُ ما وَجَد): أي قيل: إن خِطته فارسياً فبدرهم، و (إن خِطته)
(4)
روميّاً
(1)
أي إذا سلَّم نفسه ولم يعمل مع التَمكُّن، أمّا إذا امتنعَ من العمل ومضت المدّة أو لم يتمكّن من العملِ لعذر، ومضت المدَّة لم يستحقّ الأجر؛ لأنّه لم يوجد تسليمُ النفس. ينظر:«الكفاية» (8: 68).
(2)
الوحد بمعنى الوحيد، ومعناه أجيرُ المستأجر الواحد، وفي معناه الأجير الخاصّ. ينظر:«حاشية الطحطاوي» (4: 38).
(3)
زيادة من أ و ب و م.
(4)
زيادة من ب و م.
ولو رُدِّدَ في خياطتِهِ اليوم أو غداً، فله ما سمَّى إن خاطَه اليوم، وأجرُ مثلِهِ إن خاطَه غداً، ولا يجاوزُ به المسمَّى
فبدرهمين، وأجرتُك هذه الدَّارَ شهراً بدرهم، أو هذه الدَّار شهراً بدرهمين، وهكذا إذا كان في ثلاثة أشياء، وفي أربعةِ أشياء لا كما في البيعِ غير أنَّه يشترطُ خيار التَّعيين في البيع دون الإجارة، لأنَّ في الإجارةِ الأجرة تجبُ بالعمل، وعند العملِ يتعيَّن بخلافِ البيع، فإنَّ الثَّمنَ يجبُ بنفسِ العقد والمبيعُ مجهولٌ.
وذَكَرَ في «الهداية» في مسألة العطّار، والحدّاد، وكُرِّ البُرّ والشَّعير خلاف أبي يوسف رضي الله عنه، وفي الدَّابة إلى كوفة، أو واسط احتمال الخلاف
(1)
، ومسألة الخياطة، والصَّبْغُ متفق عليهما
(2)
.
(ولو رُدِّدَ في خياطتِهِ اليوم أو غداً): أي قال: إن خطَّته اليوم فبدرهم، وفي غدٍ بنصفِ درهم، (فله ما سمَّى إن خاطَه اليوم، وأجرُ مثلِهِ إن خاطَه غداً): هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما الشَّرطان جائزان، وعند زُفَر رضي الله عنه فاسدان، لأنَّ ذِكْرَ اليوم للتَّعجيل، وذِكْرَ الغد للتَّرفيه فيجتمعُ في كلِّ يوم تسمِّيتان، لهما: أنّ كلَّ واحدٍ مقصود، فصارَ كاختلاف النَّوعين، وله: أن ذكرَ اليوم ليس للتَّوقيت؛ لأنَّ اجتماعَ الوقتِ والعملِ مُفْسِدٌ كما مرَّ ذكرُه
(3)
، بل ذِكْرُهُ اليوم
(4)
للتَّعجيل، وذِكْرُ الغدِ (ليس للترفية بل ذكره)
(5)
للتعليق، فيجتمع في الغد تسميتان
(6)
.
(ولا يجاوزُ به المسمَّى): أي أجرُ المثلِ إن كان زائداً على نصفِ درهمٍ لا يجبُ
(1)
ووجه الاحتمالُ ما ذكره صاحب «العناية» (8: 74) من أنّ هذه المسألة ذكرت في «الجامع الصغير» مطلقاً، فيحتمل أن يكون هذا قول الكلّ، ويحتمل أن يكون قول أبي حنيفة رضي الله عنه خاصّة كما في نظائرها.
(2)
انتهى من «الهداية» (3: 247)، بتصرف.
(3)
زيادة من أ. (3: 286).
(4)
زيادة من ب.
(5)
زيادة من ب.
(6)
وذلك لأن الشرط الثاني عقد آخر فحصلت فيه تسميتان؛ لأن الموجود في اليوم الأول تسمية واحدة؛ لأن الثانية مضافة فصحّت الأولى، فإذا جازت التسمية الثانية اجتمع في الغد تسميتان، والتسميتان في عقد واحد مفسدة فوجب أجر المثل. ينظر:«الرمز» (2: 202).
[فصل إجارة العبد]
ولا يسافرُ بعبدٍ مستأجرٍ للخدمةِ إلا بشرطِه، ولا يستردُّ مستأجرٌ أجرَ ما عملَ عبدٌ محجور
الزِّيادة، وفي «الجامع الصغير»: لا يزاد على درهمٍ، ولا ينقصُ عن نصفِ درهم
(1)
. لكن الصَّحيحَ هو الأوَّل؛ لأنَّ المسمَّى في الغدِ نصفُ درهم، وفي الإجارةِ الفاسدةِ أجرُ المثلِ لا يزادُ على المسمَّى، وإن خاطَه في اليومِ الثَّالث، فأجرُ المثلِ لا يزادُ على نصفِ درهم.
[فصل إجارة العبد]
(ولا يسافرُ بعبدٍ مستأجرٍ للخدمةِ إلا بشرطِه
(2)
، ولا يستردُّ مستأجرٌ أجرَ ما عملَ عبدٌ محجور)، أجّرَ عبدٌ محجورٌ نفسَه، فإن
(3)
أعطاهُ المستأجرُ الأجرَ لا يستردُّه، لأنَّ هذه الإجارةَ بعد الفراغِ صحيحةٌ استحساناً؛ لأنَّ الفسادَ لرعايةِ حقِّ المولى، فبعد الفراغِ رعاية حقِّه في الصحَّة ووجوبُ الأجرة
(4)
.
(1)
انتهى من «الجامع الصغير» (ص 443)، والعبارة فيها تقديم، وتأخير إذ عبارته: لا ينقص من نصف درهم، ولا يزاد على درهم.
(2)
يعني مَن استأجرَ عبداً ليخدمَه فليس له أن يسافرَ به إلاَّ أن يشترطَ ذلك السفر، حتى لو سافرَ به يضمنُ لمولاه؛ لأنّه صار غاصباً، ولو ردّه إلى مولاه سالماً لا أجرَ له. ينظر:«الرمز» (2: 202).
(3)
إن: زيادة من ب و م.
(4)
إنّ التصرّف نافعٌ على اعتبار فراغ العبد عن العمل سالماً، وضارّ على اعتبار هلاك العبد، والنافعُ مأذونٌ فيه فيجوزُ فيخرج الأجرة عن ملكه، فليس له أن يستردَّه.
والسرُّ فيه: إنّ العبدَ محجورٌ عن تصرُّفٍ يضرُّ بالمولى، لا عن تصرُّفٍ ينفعُه، ألا ترى أنّه يجوزُ للعبدِ أن يقبلَ الهبةَ من غير أن يأذنَه المولى؛ لأنّه نافعٌ في حقِّ المولى، فالإجارةُ إذا جازت بعدما سلم من العمل يحصلُ الأجرُ للمولى بغيرِ ضرر، ولو حكمَ بعد جوازها لضاعَ متاع العبد عليه مجّاناً، فتعيَّنَ القولُ بالجواز، وإذا جازت الإجارةُ صحّ قبض العبد الأجرة؛ لأنّه هو العاقد، ومتى صحّ قبضُه لا يكون للمستأجر أن يستردَّه منه، بخلاف ما إذا هلكَ العبدُ في حالةِ الاستعمال، فإنّه يجبُ على المستأجرِ قيمته، وإذا ضمنَ صار مالكاً من وقت الاستعمال فيصيرُ مستوفياً منفعةَ عبد نفسه، فلا يجب عليه الأجر. ينظر:«التبيين» (5: 141).
ولا يضمنُ آكلُ غلَّةِ عبدٍ غصبَهُ فَأجَّرَ هو نفسَه، وصحَّ للعبد قَبْضُها، ويأخذها مولاه قائمةً، ولو عبداً شهرين شهراً بأربعة، وشهراً بخمسةٍ صحَّ والأوَّلُ بأربعة. وحُكِّمَ الحال إن قال مستأجر العبد: مرضَ هو، أو أبق في أوَّل المدَّة، وقال المؤجِّرُ في آخرها.
[فصل الاختلاف في الإجارة]
وصُدِّقَ ربُّ الثَّوبِ في: أمرتُك أن تعملَه قباء، أو تصبغَه أحمرَ لا أجيرٌ قال: أمرتَنِي بما عملت
(ولا يضمنُ آكلُ غلَّةِ عبدٍ غصبَهُ فَأجَّرَ هو نفسَه)، رجلٌ
(1)
غصبَ عبداً، فأجَّرَ العبدُ نفسَه، فأخذ الغاصبُ الأجرَ فأكلَه، فلا ضمانَ عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه؛ لأنَّ العبدَ لا يحرزُ نفسه، فكذا ما في يده، فلا يكون متقوَّماً
(2)
، وقالا: يضمن؛ لأنَّهُ مالُ المولى.
(وصحَّ للعبد قَبْضُها، ويأخذها مولاه قائمةً)، هذا بالاتفاق؛ لأنَّ بعد الفراغِ يعتبرُ مأذوناً كما مرّ.
(ولو عبداً شهرين شهراً بأربعة، وشهراً بخمسةٍ صحَّ والأوَّلُ بأربعة.
وحُكِّمَ الحال إن قال مستأجر العبد: مرضَ هو، أو أبق في أوَّل المدَّة، وقال المؤجِّرُ في آخرها): أصلُ هذه المسألة الطَّاحونة، فإن المالكَ إذا قال: ماءُ الطَّاحونة كان جارياً في المُدَّة، وقال المستأجر: لم يكنْ جارياً يُحْكَّمُ الحال.
[فصل الاختلاف في الإجارة]
(وصُدِّقَ ربُّ الثَّوبِ في: أمرتُك أن تعملَه قباء، أو تصبغَه أحمرَ لا أجيرٌ قال: أمرتَنِي بما عملت)؛ لأنَّ الإذنَ مُسْتَفادٌ من ربِّ الثَّوب، والمرادُ أن يُصَدِّقَ باليمين
(3)
.
(1)
زيادة من أ و ب و م.
(2)
إن الضمانَ لا يجبُ إلاَّ بإتلاف مالٍ محرزٍ متقوَّم، وهذا ليس بمحرز؛ لأنّ الإحرازَ إنّما يثبتُ بيدٍ حافظةٍ كيد المالك، أو بيدِ نائبه، ويدُ المالك لم يثبت عليه، ويد العبد ليست يد المولى؛ لأنّ العبدَ في يدِ الغاصب، وما في يدِه يكون في يدِ الغاصب تبعاً لنفسه، فلا يتصوَّر أن يكونَ محرزاً بحرزه، وتمامه في «التبيين» (5: 141).
(3)
لأنّه أنكرَ شيئاً لو أقرَّ به لزمه ذلك الشيء، فإذا أنكرَه يحلف فإذا حلفَ فالخيّاط ضامن، وصاحبُ الثوب مخيَّر إن شاء ضمّنه قيمة الثوب غير معمول فلا أجرَ له، أو قيمته معمولاً فله أجرُ مثله لا يجاوزُ به المسمّى؛ لأنّه موافقٌ من وجه وهو أصلُ العمل، مخالفٌ من وجه وهو الصفة، فيميلُ إلى أيّهما شاء. ينظر:«التبيين» (5: 143).
وفي عملتَ لي مجَّاناً لا صانعٌ، قال: بل بأجر.
باب فسخ الإجارة
هي تفسخٌ بعيبٍ فوتَ النَّفع: كخرابِ الدَّار، وانقطاعِ ماءِ الأرض، والرَّحى، أو أخلَّ به: كمرضِ العبد، ودَبرِ الدَّابة، فلو انتفعَ بالمعيب، أو أزال المؤجِّرُ العيبَ سقطَ خياره، وبخيارِ الشَّرط، والرُّؤية، وبالعذر، وهو لزومُ ضررٍ لم يُسْتَحَقَّ بالعقد إن بقي كما في سكونِ وَجِعِ ضرس استؤجر لقلعه
(وفي عملتَ لي مجَّاناً لا صانعٌ، قال: بل بأجر)؛ لأنَّ المالكَ ينكرُ تقوَّمَ عملِ الصَّانع
(1)
، وعند أبي يوسفَ رضي الله عنه: إن كان الصَّانعُ معامِلاً له يجبُ الأجر، وعند محمَّد رضي الله عنه إن كان معروفاً بهذه الصنعة بالأجر يجب الأجر (والقول له)
(2)
(3)
، وأبو حنيفةَ رضي الله عنه يقول: الظَّاهرُ لا يصلحُ حجَّةً لاستحقاق الأجر. (والله أعلم)
(4)
.
باب فسخ الإجارة
(هي تفسخٌ بعيبٍ فوتَ النَّفع: كخرابِ الدَّار، وانقطاعِ ماءِ الأرض، والرَّحى، أو أخلَّ به: كمرضِ العبد، ودَبرِ الدَّابة
(5)
)، إنِّما قال: تفسخ؛ لأنَّ العقدَ لا ينفسخ؛ لإمكانِ الانتفاعِ بوجهٍ آخر، لكنْ للمستأجر حقُّ الفسخ، (فلو انتفعَ بالمعيب، أو أزال المؤجِّرُ العيبَ سقطَ خياره): أي خيارُ المستأجر.
(وبخيارِ الشَّرط، والرُّؤية، وبالعذر)، هذا عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لا تفسخُ بخيارِ الشَّرطِ
(6)
ولا بالعذر
(7)
: (وهو لزومُ ضررٍ لم يُسْتَحَقَّ بالعقد إن بقي كما في سكونِ وَجِعِ ضرس استؤجر لقلعه)، فإنَّهُ إن بقيَ العقدُ يقلعُ السِّنّ الصَّحيح، وهو
(1)
ولأنّ العمل يتقوَّم بالعقد، ولا عقد هاهنا حيث ادّعى العمل بغير أجر، ودعوى العمل بغير أجرٍ إعانة، والإعانة تبرُّع. ينظر:«الكفاية» (8: 82).
(2)
زيادة من ف.
(3)
في «التبيين» (5: 143)، و «التنوير» (ص 190)، وغيرهما: الفتوى على قول محمّد رضي الله عنه.
(4)
زيادة من ب و م.
(5)
دَبِر ظهر الدابّة: أي قَرَح. ينظر: «طلبة الطلبة» (ص 161).
(6)
ينظر: «النكت» (ص 544)، وغيرها.
(7)
ينظر: «النكت» (ص 539)، وغيرها.
وموتِ عرسٍ استؤجرَ مَن يطبخُ وليمتَها، ولحوقِ دينٍ لا يقضى إلاَّ بثمن ما أجره،، وسفرِ مستأجرِ عبدٍ للخدمةِ مطلقاً أو في المصر، وإفلاسِ مستأجرٍ دكّانٍ ليتَّجرَ فيه، وخيَّاطٍ استأجرَ عبداً ليخيطَ له فتركَ عملَه، وبَدَاءِ مُكْتَري الدَّابّة من سفرٍ بخلاف بداءِ المكارى
غيرُ مستحقٍّ بالعقد، (وموتِ عرسٍ استؤجرَ مَن يطبخُ وليمتَها)
(1)
، فإنَّه إن بقيَ العقدُ يتضرَّر المستأجرُ بطبخِ غيرِ الوليمة.
(ولحوقِ دينٍ لا يقضى إلاَّ بثمن ما أجره)، فإنّه يلزمُهُ ضرر الحبس، (وسفرِ مستأجرِ عبدٍ للخدمةِ مطلقاً أو في المصر)، فإن الاستئجارَ للخدمةِ مطلقاً يتقيَّدُ بالخدمةِ في المصر، فإن قال مالكُ العبد: لا تسافر وامضِ على الإجارة، فللمستأجر أن يفسخ، وإن أرادَ المستأجرَ أن يخرجَ العبد، فلمالكِهِ الفسخُ، أمَّا إن رَضِيَ المالكُ بخروجِ العبدِ فليس للمستأجرِ حقُّ الفسخ.
(وإفلاسِ مستأجرٍ دكّانٍ ليتَّجرَ فيه، وخيَّاطٍ استأجرَ عبداً ليخيطَ له فتركَ عملَه)، قيل: تأويلُه خياطٌ يعملُ برأسِ مالِهِ فذهبَ رأسُ ماله، أمَّا الذي ليس له مال، ويعملُ بالأجرة، فرأسُ مالِهِ أبرةٌ ومِقْرَاضٌ فلا يتحقَّقُ العذر
(2)
.
(وبَدَاءِ
(3)
مُكْتَري الدَّابّة من سفرٍ بخلاف بداءِ المكارى)، والفرقُ بينهما: أنّ العقدَ من طرفِ المكتري تابعٌ لمصلحةِ السَّفر، فربَّما يبدو له أن لا مصلحةَ في السَّفر، فلا يمكن إلزامُهُ لأجلِ الاكتراء، ومن طرفِ المكارى ليسَ كذلك فبداؤه بداء من هذا العقد قصداً فلا اعتبارَ له
(4)
.
(1)
قال «ردّ المحتار» (5: 50): التقييدُ بسكونِ الضرسِ وموت العرس، أو اختلاعها يفهم منه أنّه بدونه لا يكون له الفسخ، قال الحَمَويّ: وفي «المبسوط» : إذا استأجرَه ليقطعَ يده للأكلةِ أو لهدمِ بناءٍ له ثمَّ بدا له في ذلك كان عذراً، إذ في إبقاءِ العقدِ إتلافُ شيءٍ من بدنه أو ماله، فهذا صريحٌ في أنّه لو لم يسكن الوجع يكون له الفسخ.
(2)
وهو إفلاسه، قيل: ويتحقَّقُ إفلاسه بأن يظهرَ خيانته عند الناس فيمتنعون عن تسليمِ الثيابِ إليه، أو يلحقه ديونٌ كثيرة، ويصيرُ بحيث أنّ الناسَ لا يأتمنون على أمتعتهم. ينظر:«البناية» (7: 1025).
(3)
أي ظهر ورئي. ينظر: «فتح باب العناية» (2: 443).
(4)
أي لو ظهر له ما يوجب المنع من السفر فليس بعذر؛ لأنه لا يلزمه ضرر؛ لأنه يمكنه أن يعقد ويبعث تلميذاً أو أجيراً. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 400).
وتركِ خياطةِ مستأجرِ عبدٍ ليخيطَ له؛ ليعملَ في الصَّرف، وبيعِ ما أجَّرهُ. وينفسخُ بموتِ أحدِ المتعاقدين عقدها لنفسه، فإن عقدَ لغيرِهِ فلا كالوكيلِ والوصيِّ ومتولي الوقف.
مسائل شتى
ومَن أحرقَ حصائدَ أرضٍ مستأجرةٍ أو مستعارة، فاحترقَ شيءٌ في أرض جاره لم يضمن، فإن أقعدَ خيَّاطٌ أو صبَّاغٌ في دكَّانِهِ من يطرحُ عليه العملَ بالنِّصفِ صحّ
(وتركِ خياطةِ مستأجرِ عبدٍ ليخيطَ له
(1)
؛ ليعملَ في الصَّرف)، إذ يمكنُهُ أن يقعدَ الخيّاطُ في ناحيةٍ من الدُّكان، ويعملَ في الصَّرف في ناحية
(2)
، (وبيعِ ما أجَّرهُ
(3)
.
وينفسخُ بموتِ أحدِ المتعاقدين عقدها لنفسه، فإن عقدَ لغيرِهِ فلا كالوكيلِ والوصيِّ ومتولي الوقف).
مسائل شتى
(ومَن أحرقَ حصائدَ
(4)
أرضٍ مستأجرةٍ أو مستعارة، فاحترقَ شيءٌ في أرض جاره لم يضمن)، قيل هذا إذا كانت الرِّياحُ هادئة، أمَّا إذا كانت مضطربةً يضمن.
(فإن أقعدَ خيَّاطٌ أو صبَّاغٌ في دكَّانِهِ من يطرحُ عليه العملَ بالنِّصفِ صحّ): أي يتقبَّلُ أحدُهما العملَ من النَّاسِ بوجاهته، ويعملُ الآخرُ بحذاقتِه، ففي «الهداية»
(5)
(1)
زيادة من أ.
(2)
أي إنّ خيّاطاً استأجرَ غلاماً ليخيطَ معه، فأرادَ الرجلُ ترك الخياطةِ وأن يعملَ في الصرف، فهو ليس بعذرٍ ولا يفسخُ به العقد؛ لأنّه يمكنه أن يقعدَ الغلامَ للخياطةِ في ناحية، وهو يعمل في الصرفُ في ناحية. ينظر:«الزبدة» (3: 338).
(3)
أي وبخلاف بيع المؤجِّر ما أجَّره، فإنّه ليس بعذر، ولا يفسخ به العقد؛ لإمكانِ استيفاءِ المستأجرِ المنافع والعين على ملك المشتري، كما يستوفيها والعين على ملك البائع. ينظر:«كمال الدراية» (ق 467).
(4)
المراد بالحصائد هاهنا: ما يبقى من أصول لقصب المحصود في الأرض، وسبب عدم الضمان أنه تسبب وليس بمباشرة، فلا يكون متعدّ كحافر البئر في ملكه. ينظر:«الدرر» (2: 240).
(5)
في «الهداية» (3: 252).
كاستئجارِ جملٍ يحملُ عليه مَحمِلاً وراكبين، وحَمَلَ مَحمِلاً معتاداً، ولو رآهُ الجمَّالُ فأجود. فإن استأجره لحملِ قدرِ زاد فأكلَ منهُ ردَّ عوضه. ومَن قال لغاصبِ دارٍ: فرِّغها وإلا فأجرتُها كلَّ شهرٍ بكذا، فلم يفرِّغ، فعليهِ المُسمَّى إلا إذا جحدَ الغاصبُ ملكَه، وإن أقامَ عليه بيِّنةً من بعد، أو أقرَّ بالملكِ له لكن قال: لا أريدُ بهذا الأجر
حملَهُ على شركةِ الوجوه، وفيه نظرٌ
(1)
؛ لأنَّه شركةُ الصَّنائعِ والتَّقبُّل، فكأنَّ صاحبَ «الهداية» أطلقَ شركةَ الوجوه؛ لأنَّ أحدَهما يتقبَّلُ العملُ بوجاهتِه، وهذا العقدُ غيرُ جائزٍ قياساً؛ لأنَّ أحدَهما يتقبَّلُ العملَ ويستأجرُ الآخرَ بنصفِ ما يخرجُ من عملِه، وهو مجهول، جائزٌ إستحساناً، ووجههُ: إنَّ تخصيصَ قبولِ العملِ بأحدِهما لا يدلُّ على نفيهِ من الآخر، فإذا عقدتَ شركةُ الصَّنائع، ويتقبّل أحدُهما العمل، ويعمل الآخر يجوز، فكذا هنا، والحاجةُ ماسَّةٌ بمثلِ هذا العقدِ فجوَّزناه.
(كاستئجارِ جملٍ يحملُ عليه مَحمِلاً
(2)
وراكبين، وحَمَلَ مَحمِلاً معتاداً)، هذا عندنا، وعندَ الشَّافعيّ
(3)
لا يجوزُ للجهالة، (ولو رآهُ الجمَّالُ فأجود
(4)
.
فإن استأجره لحملِ قدرِ زاد فأكلَ منهُ ردَّ عوضه
(5)
.
ومَن قال لغاصبِ دارٍ: فرِّغها وإلا فأجرتُها كلَّ شهرٍ بكذا، فلم يفرِّغ، فعليهِ المُسمَّى)؛ لأنَّهُ إذا عيَّنَ الأجرةَ والغاصبُ رضي بها فالعقدُ بينهما عقدُ إجارة؛ (إلا إذا جحدَ الغاصبُ ملكَه، وإن أقامَ عليه بيِّنةً من بعد)، فإنَّهُ إذا جحدَ ملكَهُ لم يكنْ راضياً بالإجارة مع أنَّ المغصوبَ منه أقامَ البيِّنةَ بعدَ جحودِ الغاصب أنَّهُ ملكه، ثمَّ عطفَ على قوله: إلاَّ إذا جحد قوله: (أو أقرَّ بالملكِ له لكن قال: لا أريدُ بهذا الأجر)، فإنَّهُ
(1)
ومثله قال العيني في «الرمز» (2: 205) إذا قال: وفيه نظر؛ لأنَّ شركةَ الوجوه أن يشتركا على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا، وليس في هذهِ بيعٌ ولا شراء، فكيف يتصوّر أن يكون شركةُ الوجوه.
(2)
مَحمِلاً: بفتح الميم الأولى وكسر الثانية، وبالعكس: الهودجُ الكبير الحجّاجيّ. ينظر: «المغرب» 0 ص 128).
(3)
ينظر: «النكت» (ص 563)، وغيرها.
(4)
أي أحسن؛ لأن المشاهدة أنفى للجهالة، وأقرب إلى تحقّق الرضا. ينظر:«الهداية» (3: 252).
(5)
أي عوض ما أكل؛ لأن المستحقّ عليه حمل معلوم في جميع الطريق فله استيفاؤه. ينظر: «مجمع الأنهر» (2: 403).
وصحَّت الإجارةُ وفسخُها، والمزارعةُ والمعاملة، والوكالةُ، والكفالةُ، والمضاربةُ، والقضاءُ، والإمارةُ، والوقفُ، والإيصاءُ، والوصيَّةُ، والطَّلاقُ، والعتاقُ، مضافةً، لا البيعُ وإجازتُه، وفسخُه، والقسمةُ، والشَّركةُ، والهبةُ، والنِّكاحُ، والرَّجعةُ، والصُّلحُ عن مالٍ، وإبراءُ الدَّين.
حينئذٍ لا يكونُ راضياً بالإجارة.
(وصحَّت الإجارةُ وفسخُها، والمزارعةُ والمعاملة): أي المساقاة، (والوكالةُ، والكفالةُ، والمضاربةُ، والقضاءُ، والإمارةُ، والوقفُ
(1)
): أي تفويضهما، (والإيصاءُ): أي جعلُ الغيرِ وصيَّاً، (والوصيَّةُ، والطَّلاقُ، والعتاقُ، مضافةً): أي مضافةً إلى زمانِ المستقبل، كما يقالُ في المُحَرَّم: أجَّرتُ هذه الدَّار من غرَّة رمضانَ إلى سنة.
(لا
(2)
البيعُ وإجازتُه، وفسخُه، والقسمةُ، والشَّركةُ، والهبةُ، والنِّكاحُ، والرَّجعةُ، والصُّلحُ عن مالٍ، وإبراءُ الدَّين).
* * *
(1)
زيادة من ج و ق.
(2)
أي لا يصحّ كل واحد من هذه حال كونه مضافاً إلى زمان في المستقبل؛ لأن هذه الأشياء تمليك، وقد أمكن تنجيرها للحال، فلا حاجة إلى الإضافة. ينظر:«مجمع الأنهر» (2: 405).